تفسير سورة الأنفال

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

أصحابه وهم ثلاث مئة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلّم القبلة، ثم مد يديه - وعليه رداؤه وإزاره - قال: «اللهم أين ما وعدتني، اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم إنّك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد في الأرض أبدا» قال: فما زال يستغيث ربه عز وجل ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ رداءه، فرداه ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك؛ فإنّه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله سبحانه وتعالى ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)﴾. الحديث أخرجه مسلم والترمذي وقال حسن صحيح غريب.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿يَسْئَلُونَكَ﴾؛ أي: يسألك يا محمد أصحابك - منهم سعد بن أبي وقاص - سؤال استفتاء أو سؤال طلب ﴿عَنِ الْأَنْفالِ﴾؛ أي: عن الغنائم يوم بدر لمن هي؟ أللشبان أم للشيوخ أو للمهاجرين هي؟ أم للأنصار أم لهم جميعا؟ وسميت الغنائم أنفالا لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم الغنائم؛ ولأنّها عطية من الله تعالى زائدة على الثواب الأخروي للجهاد، وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وغيرهم ي ﴿سئلونك الأنفال﴾ بدون ﴿عَنِ﴾ ﴿قُلِ﴾ لهم يا محمد ﴿الْأَنْفالِ﴾ والغنائم يوم بدر ﴿لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾؛ أي: الحكم فيها لله سبحانه وتعالى، يحكم فيها بحكمه، وللرسول صلى الله عليه وسلّم، يقسمها بحسب حكم الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد، وقد قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسواء، وقد (١) بين الله سبحانه وتعالى بهذه الجملة أنّ أمرها مفوض إلى الله ورسوله، ثم بين مصارفها، وكيفية قسمتها، في آية الخمس: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ الآية. وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس، وقد روي عن سعد بن وقاص أنّه قال: قتل أخي عمير يوم بدر، فقتلت به سعيد بن العاص، وأخذت سيفه فأعجبني، فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فقلت: إن الله شفى
(١) المراغي.
331
صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال لي عليه الصلاة والسلام: «ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القبض» فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا سعد، سألتني السيف وليس لي، وقد صار لي فخذه». والحديث سبق في أسباب النزول.
وكان سبب نزول الآية (١): اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في يوم بدر كما سبق بيانه، فنزع الله ما غنموه من أيديهم وجعله لله والرسول فقال: ﴿قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾؛ أي: حكمها مختص بهما، يقسمها بينكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم على حسب ما أمره الله سبحانه به، وليس لكم حكم في ذلك.
وقد ذهب (٢) جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم خاصة، ليس لأحد فيها شيء، حتى نزل قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ...﴾ الآية. ثم أمرهم بالتقوى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول بالتسليم لأمرهما، وترك الاختلاف الذي وقع بينهم، فقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى أيها المؤمنون في أخذ الغنائم، واتركوا المنازعة فيها؛ أي: فاجتنبوا ما كنتم فيه من المشاجرة والتنازع والاختلاف الموجب لسخط الله، لما فيه من المضار، ولا سيما في حال الحرب. ﴿وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ﴾؛ أي: وأصلحوا الحال والشأن والمواصلة بينكم، بترك النزاع وتفويض أمر الغنائم إلى الله ورسوله؛ أي: وأصلحوا ما بينكم من الأحوال والشؤون، حتى تكون أحوال ألفة ومودة ومحبة واتفاق، وعبارة «البيضاوي» هنا؛ أي: وأصلحوا الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله تعالى، وتسليم أمره إلى الله والرسول. انتهت. وعبارة «الصاوي» هنا قوله: ﴿وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ﴾؛ أي: الحالة التي بينكم، وهي الوصلة الإسلامية، فالمعنى: اتركوا النزاع والشحناء، والزموا المودة والمحبة بينكم، ليحصل النصر والخير لكم، انتهت. وهذا
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
332
الإصلاح (١) واجب شرعا، وعليه تتوقف قوة الأمة وعزتها، وبه تحفظ وحدتها، روي عن عبادة بن الصامت قال: نزلت هذه الآية فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من بين أيدينا، فجعله لرسوله، فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله، وإصلاح ذات البين.
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَرَسُولَهُ﴾ صلى الله عليه وسلّم أيها المؤمنون في كل ما يأمر به وينهى عنه، ويقضى به ويحكم، فالله تعالى مالك أمركم، والرسول مبلغ عنه، ومبين لوحيه بالقول والفعل والحكم، وعلى هذه الطاعة تتوقف النجاة في الآخرة، والفوز بثوابها، والرسول صلى الله عليه وسلّم يطاع في اجتهاده في أمر الدنيا المتعلق بالمصالح العامة، ولا سيما في الشؤون الحربية؛ لأنّه القائد العام، فمخالفته تخل بالنظام، وتؤدي إلى الفوضى التي لا تقوم للأمة معها قائمة، ولأئمة المسلمين من حق الطاعة في تنفيذ الشرع، وإدارة شؤون الأمة، وقيادة الجند، ما كان له صلى الله عليه وسلّم بشرط عدم معصية الله تعالى، ومشاورة أولي الأمر، ثم قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: امتثلوا لهذه الأوامر الثلاثة إن كنتم مستمرين على الإيمان بالله؛ لأنّ هذه الأمور الثلاثة - التي هي تقوى الله وإصلاح ذات البين وطاعة الله والرسول - لا يكمل الإيمان بدونها، بل لا يثبت أصلا لمن لم يمتثلها؛ فإن من ليس بمتق وليس بمطيع لله ورسوله ليس بمؤمن.
أي: إن كنتم كاملي الإيمان.. فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة، إذ كمال الإيمان يقتضي ذلك الامتثال؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أوجبه، فالمؤمن بالله حقا يكون من نفسه وازع يسوقه إلى الطاعة واتقاء المعاصي، إلا أن يعرض له ما يغلبه عليها أحيانا من ثورة شهوة، أو فورة غضب، ثم لا يلبث أن يفيء إلى أمر الله، ويتوب إليه مما عرض له.
٢ - ثم وصف الله تعالى المؤمنين بخمس صفات تدل على وجوب التقوى،
(١) المراغي.
333
وإصلاح ذات البين، وطاعة الله تعالى ورسوله، فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: إنّما المؤمنون حقا المخلصون في إيمانهم هم الذين اجتمعت فيهم خمس خصال:
الأولى منها: ما ذكره بقوله: ﴿الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ﴾ ورقت وخافت ﴿قُلُوبُهُمْ﴾: من الله تعالى خوف عقاب، وهو خوف العصاة، وخوف الهيبة والعظمة وهو خوف الخواص، ولفظة إِنَّمَا تفيد الحصر، والمعنى: ليس المؤمنون الذين يخالفون الله ورسوله، ﴿إنّما﴾ المؤمنون الصادقون في إيمانهم هم الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم وجلت قلوبهم؛ أي: خضعت وخافت ورقت قلوبهم؛ أي: فزعوا لعظمته وسلطانه، أو لوعده ووعيده، ومحاسبته لخلقه، والآية بمعنى قوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)﴾.
فإن قلت: إنّه سبحانه وتعالى قال في هذه الآية: ﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ بمعنى خافت، وقال في آية أخرى ﴿وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ﴾، فكيف الجمع بينهما؟.
قلت: لا منافاة بين هاتين الحالتين؛ لأن الوجل هو خوف العقاب، والاطمئنان إنما يكون من ثلج اليقين، وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد، وهذا مقام الخوف والرجاء، وقد جمعا في آية واحدة، وهي قوله سبحانه وتعالى: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ والمعنى: تقشعر جلودهم من خوف عقاب الله، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند ذكر الله، ورجاء ثوابه، وهذا حاصل في قلب المؤمنين.
والثانية: ما ذكره بقوله: ﴿وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ﴾؛ أي: وإذا قرأت عليهم آيات القرآن المنزلة على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلّم ﴿زادَتْهُمْ إِيمانًا﴾؛ أي: زادتهم تصديقا ويقينا في الإيمان، وقوة في الاطمئنان، ونشاطا في الأعمال؛ لأنّ تظاهر الأدلة، وتعاضد الحجج يوجد زيادة اليقين، فإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كان مؤمنا بإحياء الله الموتى حين دعا ربه أن يريه كيف يحييها، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ فمقام الطمأنينية في الإيمان يزيد على ما دونه من
334
الإيمان المطلق قوة وكمالا، قيل: والمراد بزيادة الإيمان: هو زيادة انشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وانثلاج الخاطر عند تلاوة الآيات. وقيل: المراد بزيادة الإيمان: زيادة العمل؛ لأنّ الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، والآيات المتكاثرة، والأحاديث المتواترة ترد ذلك وتدفعه، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان». ففي هذا الحديث دليل على أنّ الإيمان فيه أعلى وأدنى، وإذا كان كذلك.. كان قابلا للزيادة والنقص، ويروى أن عليا المرتضى قال: لو كشف عني الحجاب ما ازددت يقينا، والعلم التفصيلي في الإيمان أقوى من العلم الإجمالي، فمن آمن بأن لله علما محيطا بالمعلومات، وحكمة قام بها نظام الأرض والسموات، ورحمة وسعت جميع المخلوقات، ويعلم ذلك علما إجماليا، ولو سألته أنّ يبين لك شواهده في الخلق.. لعجز، لا يوزن إيمانه إيمان صاحب العلم التفصيلي بسنن الله في الكائنات في كل نوع من أنواع المخلوقات، ولا سيما في العصور الحديثة، التي اتسعت فيها معارف البشر بهذه السنن، فعرفوا منها ما لم يكن يخطر عشر معشاره لأحد من العلماء في القرون الخوالي، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: في وصف ﴿الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ في غزوة أحد ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيمانًا وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)﴾، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيمانًا مَعَ إِيمانِهِمْ﴾.
والثالثة: ما ذكره بقوله: ﴿وَعَلى رَبِّهِمْ﴾ ومالك أمرهم لا على غيره ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾؛ أي: يعتمدون بالكلية، وينقطعون بالكلية عما سوى الله تعالى؛ أي: إنّهم يتوكلون على ربهم وحده، لا يفوضون أمرهم إلى غيره، فمن كان موقنا بأن الله هو المدبر لأموره وأمور العالم كله.. لا يمكن منه أن يكل شيئا منها إلى غيره، فلا يعتمد على مال، ولا على عمل، ولا يخاف من غيره.
واعلم: أن هذه الخصال الثلاث - أعني الوجل عند ذكر الله، وزيادة
335
الإيمان عند تلاوة القرآن، والتوكل على الله - من أعمال القلوب، والصفتان الباقيتان من أعمال الجوارح، كما سترى قريبا.
واعلم: أنّه إذا كان الشرع والعقل حاكمين بأن للإنسان كسبا اختياريا كلفه الله العمل به، وأنه يجازى على عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.. وجب على الإنسان أن يسعى في تدبير أمور نفسه بحسب ما وضعه الله تعالى في نظام الأسباب وارتباطها بالمسببات، وأنّ هذا الارتباط لم يكن إلا بتسخير الله تعالى وأما ما يناله باستعمالها فهو فضل من الله تعالى الذي سخرها وجعلها أسبابا، وعلمه ذلك، وأن ما لا يعرف له سبب يطلب به، فالمؤمن يتوكل على الله وحده، وإليه يتوجه فيما يطلبه منه، أما ترك الأسباب وتنكب سنن الله في الخلق.. فهو جهل بالله وجهل بدينه، وجهل بسننه التي لا تتبدل ولا تتحول.
٣ - والرابعة: ما ذكره بقوله: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ وهذا الموصول في محل رفع على أنّه وصف للموصول قبله، أو بدل منه، أو بيان له، أو في محل نصب على المدح، وخص إقامة الصلاة والصدقة لكونهما أصل الخير وأساسه، يعني: يقيمون الصلاة المفروضة بحدودها وأركانها في أوقاتها؛ أي: يؤدونها مقومة كاملة في صورتها وأركانها الظاهرة من قيام، وركوع، وسجود، وقراءة، وذكر، وفي معناها وروحها الباطن من خشوع وخضوع، في مناجاة الرحمن، واتعاظ وتدبر في تلاوة القرآن، وبهذا كله تحصل ثمرة الصلاة من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
والخامسة: ما ذكره بقوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ﴾؛ أي: وينفقون بعض ما رزقناهم في وجوه البر، من الزكاة المفروضة، والحج والجهاد، والنفقات الواجبة والمندوبة للأقربين، والمحتاجين، وفي مصالح الأمة ومرافقها العامة، التي بها يعلو شأنها بين الأمم، ويكون عليه تقدمها وعمرانها.
٤ - ﴿أُولئِكَ﴾ الموصوفون بالصفات الخمس المذكورة ﴿هُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ إيمانا ﴿حَقًّا﴾ لا شك في إيمانهم؛ لأنهم حققوا إيمانهم بضم الأعمال القلبية والقالبية إليه.
336
روى الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، أنّه مر برسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له: «كيف أصبحت يا حارثة؟» قال: أصبحت مؤمنا حقا، قال: «انظر ماذا تقول يا حارثة؟ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال: «يا حارثة عرفت فالزم» ثلاثا.
وروي عن الحسن أنّ رجلا سأله: أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والجنة والنار، والبعث والحساب.. فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ...﴾ الخ فو الله لا أدري أنا منهم أم لا.
وبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أوصافهم، ذكر جزاءهم عند ربهم فقال: ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء الموصوفين بالصفات السابقة ﴿دَرَجاتٌ﴾ من الكرامة والزلفى، ومراتب متفاوتة، بعضها فوق بعض بحسب تفاوتهم في الإيمان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة مئة درجة، ما بين كل درجتين مئة عام» أخرجه الترمذي.
وله أيضا عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ في الجنة مئة درجة، لو أنّ العالمين اجتمعوا في إحداهن.. لوسعتهم مدخرة لهم ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ الذي خلقهم وسواهم، وهو القادر على جزائهم على أعمالهم الصالحة في دار الجزاء والثواب، والله تعالى فضل بعض الناس على بعض، ورفعهم درجة أو درجات في الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)﴾ وقال تعالى في الرسل: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ﴾.
الآية. وقال في درجات الدنيا وحدها: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)﴾.
337
وفي كونها عنده سبحانه وتعالى زيادة تشريف لهم، وتكريم وتعظيم وتفخيم.
﴿وَ﴾ لهم ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ من الله سبحانه وتعالى لذنوبهم التي سبقت وصولهم إلى درجات الكمال ﴿وَ﴾ لهم ﴿رِزْقٌ كَرِيمٌ﴾؛ أي: ثواب حسن في الجنة، مقرون بالإكرام والتعظيم، خال عن كد الاكتساب وخوف الحساب، وهو ما أعد الله سبحانه وتعالى لهم من نعيم الجنة، من لذيذ المآكل والمشارب، وهناء العيش، والكريم تصف به العرب كل شيء حسن، لا قبح فيه ولا شكوى.
٥ - والكاف في قوله: ﴿كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ خبر لمبتدأ محذوف جوازا تقديره: الأمر والشأن كائن كما أخرجك ربك، و ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: قضاء الله وأمره وشأنه كائن كإخراجه إياك من بيتك في المدينة، حال كونك ملتبسا بالحق والوحي ﴿وَ﴾ الحال ﴿إِنَّ فَرِيقًا﴾ وجماعة ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ﴾ ذلك الخروج، لعدم استعدادهم له بالعدد والعدد، وقيل: إن الكاف اسم بمعنى مثل واقعة خبرا لمبتدأ محذوف تقديره: حالهم في كراهة ما رأيت من تنفل جميع الغزاة بالسوية، مثل حالهم في كراهة خروجهم للحرب؛ أي فكراهتهم لقسمة الغنيمة على السوية مثل كراهتهم لقتال قريش.
والحاصل: أنه وقع للمسلمين في وقعة بدر كراهتان:
كراهة قسمة الغنيمة على السوية، وهذه الكراهة من شبابهم فقط، وهي الداعي الطبيعي، ولتأولهم بأنّهم باشروا القتال دون الشيوخ.
والكراهة الثانية: كراهة قتال قريش، وعذرهم فيها أنّهم خرجوا من المدينة ابتداء لقصد الغنيمة، ولم يتهيؤوا للقتال، فكان ذلك سبب كراهتهم للقتال، فشبه إحدى الحالتين بالأخرى في مطلق الكراهة.
وقيل: إن التشبيه واقع بين إخراجين؛ أي: إخراج ربك إياك من بيتك في مكة بالحق والوحي، وأنت كاره للخروج، وكان عاقبة ذلك الإخراج الظفر والنصر، والخير كائن، كإخراجه إياك - وبعض المؤمنين - من بيتك في المدينة بالحق والوحي في أنّه يكون عقب ذلك الخروج الثاني الظفر والنصر والخير، كما
338
كانت عقيب ذلك الخروج الأول، وقيل: المعنى الأنفال ثابتة لله ثبوتا بالحق والوحي، كثبوت إخراجك من بيتك بالمدينة بالحق والوحي، والحال: إنّ فريقا وطائفة من المؤمنين لكارهون ذلك الخروج.
وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام - وفيها تجارة عظيمة ومعه أربعون راكبا، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام - فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا وبلغوا وادي دقران - بوزن سلمان وهو قريب من الصفراء - نزل عليه صلى الله عليه وسلّم جبريل فقال: يا محمد، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريشا، فاستشار النبي أصحابه فقال: «ما تقولون؟ إنّ القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أم النفير؟» - وهو اسم عسكر مجتمع - فقالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم ردد عليهم فقال: «إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل؛ أي: بجمع أهل مكة، ومضى إلى بدر» فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقام عند ذلك أبو بكر وعمر، فأحسنا في القول، ثم قال سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فامض، فو الله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال مقداد بن عمرو: يا رسول الله، امض كما أمرك ربك، فإنا معك حيثما أحببت، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ﴾ ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال: «أشيروا علي أيها الناس» فقال سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أردت، فو الله الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبسطه قول سعد، ثم قال صلى الله عليه وسلّم: «سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم».
وحاصل المعنى: أنّ الأنفال لله يحكم فيها بالحق، ولرسوله يقسمها بين من
339
جعل الله لهم الحق فيها بالسوية، وإن كره ذلك بعض المتنازعين فيها ممن كانوا يرون أنّهم أحق بها، كما يكرهون إخراج ربك إياك من بيتك بالحق للقاء إحدى الطائفتين من المشركين، وقد كان كثير من المؤمنين كارهين لذلك، لعدم استعدادهم للقتال، ولقلة عددهم، وقلة سلاحهم، وكثرة عدوهم وسلاحهم،
٦ - ﴿يُجادِلُونَكَ﴾؛ أي: يجادلك يا محمد المؤمنون وينازعونك ﴿فِي الْحَقِّ﴾؛ أي: في القتال وتلقي النفير لإيثارهم عليه تلقي العير كراهية للقاء المشركين، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم ﴿بَعْدَ ما تَبَيَّنَ﴾؛ أي: بعد أن ظهر لهم الحق الذي هو القتال بإخبارك أنّهم سينصرون أينما توجهوا، وبعد ما أمرت به، ويقولون: ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا وأخبرته أولا لنستعد ونتأهب له، وما كان هذا إلا لكراهتهم للقتال، إذ أنّهم كانوا في حال ضعف، فكان من حكمة الله أو وعدهم أولا إحدى طائفتي قريش تكون لهم على طريق الإبهام لا على طريق التعيين، فتعلقت آمالهم بطائفة العير القادمة من الشام؛ لأنّها كسب عظيم لا مشقة في إحرازه لضعف الحامية، فلما ظهر لهم أنّها فاتتهم ونجت - إذ ذهبت من طريق سيف البحر، طريق الشاطىء - وأن طائفة النفير خرجت من مكة بكل ما لدى قريش من قوة، وأنّها قد قربت منهم، ووجب عليهم قتالها، إذ تبين أنّها هي الطائفة التي وعدهم الله تعالى بالنصر عليها.. صعب على بعضهم لقاؤها على قلتهم وكثرتها، وضعفهم وقوتها، وعدم استعدادهم للقتال كاستعدادها، وطفقوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه وسلّم بأنّهم لم يخرجوا إلا للعير؛ لأنّه لم يذكر لهم قتالا فيستعدوا له.
ولكن الحق تبين بحيث لم يبق للجدل فيه وجه.. فلا ينبغي أن يقال: إنّ طائفة العير هي مراد الله؛ لأنّها نجت، ولا بأن يقال: إننا لم نعد للقتال عدته؛ لأنّه مهما تكن حالها فلا بد من الظفر بها لوعد الله به، فإذا لا وجه للجدل إلا الجبن والخوف من القتال، وقرأ عبد الله ﴿بعد ما بين﴾ بضم الباء من غير تاء، وفي قوله: ﴿بَعْدَ ما تَبَيَّنَ﴾ إنكار عظيم عليهم؛ لأن من جادل في شيء لم يتضح.. كان أخف عتبا، أما من نازع في أمر واضح.. فهو جدير باللوم والإنكار.
﴿كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ﴾؛ أي: يجادلونك في الحق حالة كونهم لشدة ما بهم من جزع ورهب، يساقون بعنف وشدة وقهر إلى موت محقق لا مهرب منه، لوجود أماراته وأسبابه، حتى كأنّهم ينظرون إليه بأعينهم، إذ ما بين حالهم وحال عدوهم، من التفاوت في القوة والعدد، والخيل والزاد، قاض بذلك، ولكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين بالظفر والنصر عليهم ووعده لا يتخلف.
وأما هذه الأسباب العادية فكثيرا ما تتخلف: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الذي بيده كل شيء، وهو القادر على كل شيء، وهكذا أنجز الله وعده لرسوله والمؤمنين، وكان لهم الظفر والفوز على عدوهم، وكان هذا نصرا مؤزرا للمسلمين على المشركين، وبه علا ذكرهم في البلاد العربية، وهابهم قاصيها ودانيها.
٧ - ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ﴾؛ أي: واذكروا أيها المؤمنون قصة إذ وعدكم الله تعالى الظفر بإحدى الطائفتين العير والنفير ﴿أَنَّها لَكُمْ﴾؛ أي: أن تلك الإحدى تكون وتحصل لكم وتتسلطون وتتصرفون فيها ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾؛ أي: والحال أنّكم تتمنون وتحبون كون الطائفة غير صاحب الشوكة والقوة، وحصولها لكم - وهي العير - لضعفها وقلة عددها؛ لأنّه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، وعبر عنها بذلك تعريضا لكراهتهم للقتال، وطمعهم في المال، والمعنى: تمنون أنّ العير التي ليس فيها قتال ولا سلاح ولا شوكة تكون لكم، والشوكة: الشدة والقوة ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى بوعده غير ما أردتم ﴿أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ﴾ الذي أراده ويظهره، وهو نصر المؤمنين وخذلان الكافرين ﴿بِكَلِماتِهِ﴾؛ أي: بآياته المنزلة على رسوله في محاربة ذات الشوكة، أو بما أمر به الملائكة من نزولهم للنصرة، أو بما قضى به من أسر المشركين وقتلهم وطرحهم في قليب - بئر - بدر، أو بأمره إياكم بالقتال، وقيل: بعداته التي سبقت لكم من إظهار الدين وإعزازه، وقيل: كلماته هي ما وعد نبيه في سورة الدخان، فقال: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)﴾ أي من أبي جهل وأصحابه ﴿وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ﴾؛ أي: ويهلك أصل الكافرين من أولهم إلى آخرهم،
ويعدم المعاندين بالجملة، ويذهب أثرهم، ويمحق قوتهم، وقد كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها، إلى أن قطع الله دابر المشركين بفتح مكة، قال صاحب (١) «الكشاف»: يعني أنّكم تريدون الفائدة العاجلة، وسفساف الأمور، وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم، والله عز وجل يريد معالي الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين، ونصرة الحق، وعلو الكلمة، والفوز في الدارين، وشتان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقتلكم، وأعزكم وأذلهم اه.
٨ - وقوله: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ﴾ متعلق بمحذوف تقديره: وعد بما وعد وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة ليحق الحق الذي هو الإسلام؛ أي: ليظهر حقيته ويثبته، ويبطل الباطل الذي هو الشرك؛ أي: ليظهر بطلانه ويزيله ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾؛ أي: المشركون أولو الاعتداء والطغيان إظهار الحق وإحقاقه، وإبطال الباطل وإزالته، ولا يكون ذلك بالاستيلاء على العير، بل بقتل أئمة الكفر من صناديد قريش الذين خرجوا إليكم من مكة ليستأصلوكم.
وفي الآية سؤالان (٢):
الأول: أن قوله: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ﴾ تكرير مع قوله: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ﴾ فما معناه؟
والجواب: أنّه ليس بتكرار؛ لأن المراد بالمذكور أولا تثبيت ما وعد في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء، وبالمذكور ثانيا تقوية الدين، وإظهار الإسلام مدى الأيام؛ لأنّ الذي وقع يوم بدر من نصر المؤمنين مع قلتهم، وقهر الكافرين مع كثرتهم.. كان سببا لإعزاز الدين وقوته، ولهذا السبب قرنه بقوله: ﴿وَيُبْطِلَ الْباطِلَ﴾، وقيل: إنّ الأول للفرق بين الإرادتين، إرادة الله تعالى وإرادتهم، والثاني لبيان الداعي إلى حمله صلى الله عليه وسلّم على اختيار ذات الشوكة ونصره؛ لأنّ الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين كان سببا لإعزاز الدين وقوته مدى الأيام.
(١) الكشاف.
(٢) الخازن مع بعض زيادة.
السؤال الثاني: الحق حق لذاته، والباطل باطل لذاته، فما المراد بتحقيق الحق، وإبطال الباطل؟
والجواب: أنّ المراد من تحقيق الحق: إظهار كون ذلك الحق حقا، والمراد من إبطال الباطل: إظهار كون ذلك الباطل باطلا، وذلك بإظهار دلائل الحق، وتقويته، وقمع رؤساء الباطل وقهرهم.
وقرأ مسلمة بن محارب (١): ﴿يعدكم﴾ بسكون الدال لتوالي الحركات، وابن محيصن ﴿اللَّهُ إِحْدَى﴾: بإسقاط همزة إحدى على غير قياس، وعنه أيضا أحد على التذكير، إذ تأنيث الطائفة مجاز، وأدغم أبو عمرو ﴿الشَّوْكَةِ تَكُونُ﴾ وقرأ مسلم بن محارب ﴿بكلمته﴾ بالإفراد، وحكاها ابن عطية عن شيبة وأبي جعفر ونافع، بخلاف عنهم، وأطلق المفرد مرادا به الجمع للعلم به، أو أريد به كلمة تكوين الأشياء وهو: كن.
٩ - وقوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ ظرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكروا أيها المؤمنون قصة وقت استغاثتكم ربكم؛ أي: وقت طلبكم الغوث والنصر من ربكم قائلين: ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا، والأمر بهذا الذكر لبيان نعمة الله عليهم حين التجائهم إليه، إذ ضاقت عليهم الحيل، وطلبوا مخلصا من تلك الشدة، فاستجاب دعاءهم كما قال: ﴿فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ﴾؛ أي: فأجاب دعاءكم بأني ممدكم ومساعدكم فمعينكم ﴿بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾؛ أي: متتابعين؛ أي يردف بعضهم بعضا، ويتبعه؛ أي: يأتي بعضهم إثر بعض، وهذا (٢) الألف هم وجوههم وأعيانهم، وبهذا يطابق ما جاء في سورة آل عمران ﴿بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ و ﴿بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ وقيل (٣): يجمع بين ما هناك وهنا بأن الملائكة كانت ألفا في ابتداء الأمر، ثم صارت ثلاثة، ثم خمسة؛ أي: ثم صارت بعد الوعد بالألف ووقوع القتال بالفعل ومقاتلة الألف معهم صارت الألف بزيادة الله عليها ألفين ثلاثة آلاف، ثم صارت الثلاثة
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
343
بزيادة ألفين عليها خمسة.
ومعنى بـ ﴿أَنِّي مُمِدُّكُمْ﴾؛ أي: (١) بإمدادي إياكم؛ أي: بوعدي إياكم بالإمداد، وذلك لأنّه وقت الإجابة لم يحصل الامداد بالفعل؛ لأن الدعاء واستجابته كانا قبل وقوع القتال، وفي «الخازن»: ﴿أَنِّي مُمِدُّكُمْ﴾ الأصل بأني ممدكم؛ أي: مرسل إليكم مددا وردءا لكم.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَنِّي﴾ بفتح الهمزة على تقدير حذف الجر؛ أي: بأني، وقرأ عيسى بن عمر ورواها عن أبي عمرو ﴿إني﴾ بكسرها، وفيه مذهبان:
مذهب البصريين: أنه على إضمار القول؛ أي: فقال: إني ممدكم.
ومذهب الكوفيين: أنّها محكية باستجاب، إجراء له مجرى القول؛ لأنّه بمعناه.
وقرأ الجمهور (٣): بألف بالإفراد، وقرأ الضحاك وأبو رجاء: ﴿بآلاف﴾ بهمزة ممدودة و ﴿بِأَلْفٍ﴾ على الجمع، وقرأ أبو العالية وأبو المتوكل: ﴿بألوف﴾ بوزن فلوس، بضم الهمزة واللام، وبواو بعدها، على الجمع، وقرأ تميم بن حذلم الضبي والجحدري: ﴿بألف﴾ بضم الألف واللام من غير واو ولا ألف، وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران: ﴿بيلف﴾: بياء مفتوحة، وسكون اللام من غير واو، ولا ألف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والحسن ومجاهد: ﴿مُرْدِفِينَ﴾ بكسر الدال؛ أي: متتابعين، وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وروي عن قنبل أيضا بفتح الدال، قال الفراء: أراد فعل ذلك بهم؛ أي: إن الله أردف المسلمين بهم، وقرأ معاذ القارىء وأبو المتوكل الناجي وأبو مجلز: ﴿مُرْدِفِينَ﴾ بفتح الراء والدال، مع التشديد، وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران: ﴿مُرْدِفِينَ﴾: بضم الراء وكسر الدال، وقال الزجاج: يقال ردفت الرجل إذا ركبت خلفه، وأردفته إذا أركبته خلفك، فمعنى ﴿مُرْدِفِينَ﴾ يأتون فرقة بعد
(١) الفتوحات.
(٢) البحر المحيط.
(٣) زاد المسير.
344
فرقة، ويجوز في اللغة: مردّفين ومردّفين ومردّفين، فالدال مكسورة مشددة على كل حال، والراء يجوز فيها الفتح والضم والكسر، قال سيبويه: الأصل مرتدفين، فأدغمت التاء في الدال، فصار مردفين؛ لأنّك طرحت حركة التاء على الراء، وإن شئت لم تطرح حركة التاء، وكسرت التاء لالتقاء الساكنين، والذين ضموا الراء جعلوها تابعة لضم الميم
١٠ - ﴿وَما جَعَلَهُ اللَّهُ﴾؛ أي: وما جعل الله إمدادكم بإنزال الملائكة عيانا لعلة من العلل ﴿إِلَّا بُشْرى﴾؛ أي: إلا لأجل البشرى لكم بأنّكم تنصرون ﴿وَ﴾ إلا ﴿لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾؛ أي: وإلا لتسكن بذلك الإمداد قلوبكم من الزلزال الذي عرض لكم، فكان من مجادلتكم للرسول في أمر القتال ما كان، وبذا تلقون أعداءكم ثابتين، موقنين بالنصر، وفي هذا إشعار بأنّ الملائكة لم يقاتلوا، بل أمد الله المسلمين بهم للبشرى لهم، وتطمين قلوبهم وتثبيتها، وحذف ﴿لكم﴾ هنا وأثبته في آل عمران لأن القصة هناك مسهبة، فناسبها الإثبات، وهنا موجزة فناسبها الحذف، وهنا قدم لفظة ﴿بِهِ﴾ وأخر هناك على سبيل التفنن والاتساع في دائرة الكلام، وجاء هنا ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ مراعاة لأواخر الآي، وهناك ليست آخر آية، لتعلق ﴿يَقْطَعَ﴾ بما قبله، فناسب أن يأتي ﴿العزيز الحكيم﴾ على سبيل الصفة، وكلاهما يشعر بالعلية، ذكره أبو حيان.
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ لا من عند غيره؛ أي: إنّ الله ينصركم أيها المؤمنون فثقوا بنصره، ولا تتكلوا على قوتكم، فإمداد الملائكة، وكثرة العدد، والأهب ونحوها وسائط لا تأثير لها، فلا تحسبوا النصر منها، ولا تيأسوا منه بفقدها، وفيه تنبيه على أن الواجب على العبد المسلم أن لا يتوكل إلا على الله تعالى في جميع أحواله، ولا يثق بغيره؛ فإن الله تعالى بيده النصر والإعانة؛ أي: ليس النصر إلا من عند الله تعالى دون غيره من الملائكة أو سواهم من الأسباب، فهو سبحانه الفاعل للنصر، والمسخر له كتسخيره للأسباب الحسية والمعنوية، ولا سيما ما لا كسب للبشر فيه، كتسخير الملائكة لتخالط المؤمنين، فتفيد أرواحهم الثبات والاطمئنان.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: غالب على أمره، قوي منيع لا يقهره شيء، ولا يغلبه غالب، بل هو يقهر كل شيء ويغلب ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبيره
ونصره، ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء من عباده، لا يضع شيئا في غير موضعه.
وظاهر الآية يدل على أن لإنزال الملائكة وإمداد المسلمين بهم فائدة معنوية، فهو يؤثر في القلوب فيزيدها قوة، وإن لم يكونوا محاربين، وهناك روايات تدل على أنّهم قاتلوا فعلا، وفي يوم أحد وعدهم الله وعدا معلقا على الصبر والتقوى، ولكن الشرط الأخير قد انتفى، فانتفى ما علق عليه.
١١ - واذكروا أيها المؤمنون نعمة ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ﴾؛ أي: نعمة إذ يلقي الله سبحانه وتعالى عليكم ﴿النُّعاسَ﴾؛ أي: النوم الخفيف ﴿أَمَنَةً مِنْهُ﴾؛ أي: حالة كون النعاس أمانا من الله لكم؛ أي: سبب أمان وسلامة لكم من عدوكم أن يغلبكم، قال عبد الله بن مسعود (١) النعاس في القتال أمنة من الله؛ أي: طمأنينة منه، وفي الصلاة من الشيطان، والفائدة في كون النعاس أمنة في القتال: أنّ الخائف على نفسه لا يأخذه النوم، فصار حصول النوم وقت الخوف الشديد دليلا على الأمن، وإزالة الخوف، وقيل: إنّهم لما خافوا على أنفسهم لكثرة عدوهم وعددهم، وقلة المسلمين عددا وعددا وعطشوا عطشا شديدا.. ألقى الله عليهم النوم حتى حصلت لهم الراحة، وزال عنهم الكلال والعطش، وتمكنوا من قتال عدوهم، وكان ذلك النوم نعمة في حقهم؛ لأنّه كان خفيفا بحيث لو قصدهم لعرفوا وصوله إليهم، وقدروا على دفعه عنهم، وقيل في كون هذا النوم كان أمنة من الله: أنّه وقع عليهم النعاس دفعة واحدة، فناموا كلهم مع كثرتهم، وحصول النعاس لهذا الجمع العظيم - مع وجود الخوف الشديد - أمر خارج عن العادة، فلهذا السبب قيل: إن ذلك النعاس كان في حكم المعجزة؛ لأنّه أمر خارق للعادة، وهذه (٢) الآية تتضمن ذكر نعمة أنعم الله بها عليهم، وهي أنّهم مع خوفهم من لقاء العدو، والمهابة لجنابه، سكن الله قلوبهم وأمنها حتى ناموا آمنين غير خائفين، وكان هذا النوم في الليلة التي كان القتال في غدها.
قيل: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
346
أحدهما: أنّه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني: أنّه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم.
وقيل: إن النوم غشيهم في حال التقاء الصفين، وقد مضى في يوم أحد نحو من هذا في سورة آل عمران، وروى البيهقي في «الدلائل» عن علي كرم الله وجهه قال:
ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأينا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي تحت شجرة، حتى أصبح. والمتبادر من الآية أنّ النعاس كان في أثناء القتال، وهو يمنع الخوف؛ لأنّه ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر.
وقرأ (١) ابن كثير، وأبو عمرو، ومجاهد، وابن محيصن ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ﴾ بفتح الياء، وسكون الغين، وفتح الشين بعدها ألف مضارع غشي الثلاثي، والنعاس رفع به، وقرأ الأعرج وابن نصاح وأبو حفص ونافع: ﴿يُغَشِّيكُمُ﴾ بضم الياء وسكون الغين وكسر الشين، النعاس بالنصب مضارع أغشى الرباعي، وقرأ عروة بن الزبير، ومجاهد، والحسن وعكرمة، وأبو رجاء، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ﴿يُغَشِّيكُمُ﴾ بضم الياء وفتح الغين مشددة الشين مكسورة، النعاس بالنصب، وقرأ الجمهور ﴿أَمَنَةً﴾ بالتحريك، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن محيصن، ﴿أَمَنَةً مِنْهُ﴾ بسكون الميم على وزان رحمة.
﴿وَ﴾ اذكروا نعمة ﴿إذ ينزل﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾؛ أي: مطرا ﴿لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾؛ أي: بذلك الماء من الأحداث والجنابات، ﴿وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ﴾؛ أي: وسوسته إليكم، بأنكم لو كنتم على الحق ما كنتم عطاشا محدثين، والمشركون على الماء ﴿وَلِيَرْبِطَ﴾ به ﴿عَلى قُلُوبِكُمْ﴾ باليقين والصبر، وقال الواحدي: ويشبه أن تكون لفظة ﴿عَلى﴾ صلة، والمعنى: وليربط قلوبكم بالصبر، وما أوقع فيها من اليقين، وفي «الوسيط»: ﴿عَلى﴾ زائدة، والمعنى: وليربط قلوبكم بما أنزل من الماء، ولا تضطرب بوسوسة الشيطان اه
(١) البحر المحيط وزاد المسير.
347
«زاده» أي: يقويها ويعينها باليقين، فجعلها صابرة قوية ثابتة في مواطن الحرب، ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ﴾؛ أي: بذلك الماء ﴿الْأَقْدامَ﴾ على الرمل فقدروا على المشي عليه، كيف أردوا في مواطن القتال.
روى (١) ابن المنذر من طريق ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه: أنّ المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمىء المسلمون، وصلّوا مجنبين محدثين، وكان بينهم، رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن، وقال أتزعمون أنّ فيكم نبيّا وأنكم أولياء، وتصلون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء، فسال عليهم الوادي ماء، فشرب المسلمون، وتطهّروا، وثبتت أقدامهم؛ أي: على الرمل اللين لتلبده بالمطر، وذهبت وسوسته.
وقال ابن القيم: أنزل الله تعالى تلك الليلة مطرا واحدا، فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهّرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض وصلب الرمل، وثبت الأقدام، ومهّد به المنزل، وربط على قلوبهم فسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء، فنزلوا عليه شطر الليل، وصنعوا الحياض ثم غوروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله وأصحابه أعلى الحياض، وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عريش على تلّ مشرف على المعركة، ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى، فما تعدّى أحد منهم موضع إشارته.
وقال ابن إسحاق (٢): إن الحباب بن المنذر قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الحرب والرأي والمكيدة» قال: يا رسول الله، فإنّ هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم تغور ما وراءه من القلب، - الأبار غير المبنية - ثم نبني عليها حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لقد أشرت بالرأي»
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
348
وفعلوا ذلك، وقد فهم من الآية أنّه كان لهذا المطر أربع فوائد:
١ - تطهيرهم حسّيا بالنظافة التي تنشط الأعضاء وتدخل السرور على النفس، وشرعيّا بالغسل من الجنابة، والوضوء من الحدث الأصغر.
٢ - إذهاب رجس الشيطان ووسوسته.
٣ - الربط على القلوب؛ أي: توطين النفس على الصبر وتثبيتها، كما قال: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها﴾ وهذا لما للمطر من المنافع التي تكون أثناء القتال.
٤ - تثبيت الأقدام به؛ ذاك أنّ هذا المطر لبد الرمل وصيره بحيث لا تغوص فيه أرجلهم، فقدروا على المشي كيف أرادوا، ولولاه لما قدروا على ذلك.
وقرأ طلحة (١): ﴿وَيُنَزِّلُ﴾ بالتشديد، وعبارة النسفي: ﴿وينزل﴾ قرأ مكيّ وبصري بالتخفيف، وقرأ غيرهم بالتشديد. اه.
وقرأ الجمهور: ﴿ماءً﴾ بالمد، وقرأ الشعبي، ﴿ما﴾ بغير همز، والأصحّ أنها بمعنى ماء المدودة، قصر للتخفيف، وقيل: هي ما الموصول، ولا يصح لأنّ لام كي لا تكون صلة الموصول، وقرأ ابن المسيب ﴿ليطهركم﴾ بسكون الطاء، وقرأ عيسى بن عمر ﴿ويذهب﴾ بسكون الباء، وقرأ ابن محيصن ﴿رجز﴾ بضم الراء، وأبو العالية ﴿رجس﴾ بالسين.
١٢ - واذكر يا محمد نعمة ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ﴾؛ أي: نعمة وقت إيحاء ربك إلى الملائكة، الذين أمد بهم المؤمنين يوم بدر، وإعلامه إياهم، فأل فيه للعهد الذّكري ﴿أَنِّي مَعَكُمْ﴾؛ أي: أني مع المؤمنين بالنصر، والمعونة، والتأييد، أو أني معكم يا ملائكتي في إمدادهم وإعانتهم ﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: فثبتوا يا ملائكتي قلوب الذين آمنوا بإلقاء النصر والغلبة في قلوبهم، أو ثبتوهم بقتالكم معهم للمشركين. وقيل: بشّروهم بالنصر والظفر، فكان الملك يمشي في صورة رجل أمام الصف، ويقول: أبشروا فإنّ الله ناصركم عليهم، فالمراد بالمعية في
(١) البحر المحيط.
349
قوله أنّي معكم معية الإعانة والنصر والتأييد في مواطن الجد، ومقاساة شدائد القتال، وهذه منة خفية أظهرها الله تعالى ليشكروه عليها.
وقال الزجاج (١): كان التثبيت لهم بأشياء يلقونها في قلوبهم، تصح بها عزائمهم، ويتأكد جدهم، وللملك قوة إلقاء الخير، ويقال له: إلهام، كما إن للشيطان قوة إلقاء الشر، ويقال لها وسوسة. وقوله: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ والخوف منكم تفسير لقوله: ﴿أَنِّي مَعَكُمْ﴾ كأنه قيل: أني معكم في إعانتكم بإلقاء الرعب في قلوبهم، فلا يكون لهم ثبات، وكان ذلك نعمة من الله تعالى على المؤمنين، حيث ألقى الخوف منهم في قلوب المشركين، وقوله: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ﴾ كالتفسير لقوله: ﴿فَثَبِّتُوا﴾ وهو أمر للمؤمنين، أو للملائكة، وفيه دليل على أنّهم قاتلوا، قال ابن الأنباري: ما كانت الملائكة تعرف كيف تقاتل بني آدم، فعلمهم الله تعالى ذلك بقوله: فاضربوا يا ملائكتي فوق الأعناق ﴿وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ﴾ (٢)؛ أي: فاضربوا رؤوسهم، واضربوا أطراف الأصابع؛ أي: اضربوا أيها المؤمنون، أو يا ملائكتي في جميع أعضاء المشركين من أعاليها إلى أسافلها، كيف شئتم؛ لأن الله تعالى ذكر الأشرف والأخس، فهو إشارة إلى جميع الأعضاء.
ومعنى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ﴾؛ أي: فاضربوا الأعناق وما فوقها، وهي الرؤوس، ومعنى ﴿وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ﴾؛ أي: واضربوا أطراف أصابع اليدين، سميت (٣) بذلك، لأنّ بها صلاح الأشياء التي يمكن الإنسان أن يعملها بيديه، وإنما خصّت بالذكر دون سائر الأطراف، لأجل أن الإنسان بها يقاتل، وبها يمسك السلاح في الحرب، وقيل: إنه سبحانه وتعالى أمرهم بضرب أعلى الجسد وهو الرأس، وهو أشرف الأعضاء وبضرب البنان، وهو أضعف الأعضاء، فيدخل في ذلك كلّ عضو في الجسد، وقيل: أمرهم بضرب الرأس، وفيه إهلاك الإنسان، وبضرب البنان وفيه تعطيل حركة الإنسان عن الحرب؛ لأنه بالبنان يتمكن من مسك
(١) المراغي.
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
350
السلاح وحمله والضرب به، فإذا قطعت بنانه تعطّل عن ذلك كلّه.
روي (١) عن أبي داود المازني، وكان شهد بدرا قال: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري. وعن سهل بن حنيف قال: لقد لقينا يوم بدر، وإنّ أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وقرأ (٢) عيسى بن عمر بخلاف عنه: ﴿إني معكم﴾ بكسر الهمزة على اضمار القول على مذهب البصريين، أو على إجراء ﴿يُوحِي﴾ مجرى يقول على مذهب الكوفيين، وقرأ ابن عامر، والكسائي، والأعرج: ﴿الرُّعْبَ﴾ بضم العين، وقال (٣) الفراء علمهم مواضع الضرب، فقال: اضربوا الرؤوس والأيدي، والأرجل، فكأنه قال: فاضربوا الأعالي إن تمكنتم من الضرب فيها، فإن لم تقدروا، فاضربوهم في أوساطهم، فإن لم تقدروا فاضربوهم في أسافلهم، فإنّ الضرب في الأعالي يسرع بهم إلى الموت، والضرب في الأوساط يسرع بهم إلى عدم الامتناع، والضرب في الأسافل يمنعهم من الكر والفر، فيحصل من ذلك إما إهلاكهم بالكلية، وإما الاستيلاء عليهم. انتهى.
والخلاصة (٤): فاضربوا الهام وافلقوا الرؤوس، واجتزوا الرقاب، وقطّعوها، وقطعوا الأيدي ذات البنان، التي هي أداة التصرف في الضرب وغيره، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يمر بين القتلى ببدر بعد انتهاء المعركة، ويقول: «نفلق هاما» فيتم البيت أبو بكر رضي الله عنه وهو:
نفلّق هاما من رجال أعزّة علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
وفي ذلك دليل على ألمه صلى الله عليه وسلّم من الضرورة التي ألجأته إلى قتل صناديد قومه، فالمشركون هم الذين ظلموه، هو ومن آمن به، حتى أخرجوهم من وطنهم بغيا وعدوانا، ثم تبعوهم إلى دار هجرتهم يقاتلونهم فيها.
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
351
١٣ - ثم بيّن سبب ذلك التأييد والنصر فقال: ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من تأييد الله للمؤمنين بالنصر والمعونة والإمداد، والظفر، والغلبة، وخذلانه للمشركين بالقتل والأسر والهزيمة، ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: كائن بسبب أنّ المشركين ﴿شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ صلى الله عليه وسلّم؛ أي: خالفوهما في الأوامر والنواهي وعادوهما، فكان كل منهما في شقّ، وجانب غير الذي فيه الآخر، فالله هو الحق، والداعي إلى الحق ورسوله، هو المبلغ عنه، والمشركون على الباطل، وما يستلزمه من الشرور والآثام، والخرافات، والكاف في ذلك، لخطاب الرسول، أو لخطاب كل سامع ﴿وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾؛ أي: ومن يخالف الله ورسوله فيما أمرا به، ونهيا عنه. وأجمعوا (١) على الفك في ﴿يُشاقِقِ﴾ اتباعا لخط المصحف، وهي لغة الحجاز، والإدغام لغة تميم، كما جاء في الآية الأخرى ﴿وَمَنْ يُشَاقِّ﴾ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى يعاقبه يوم القيامة على مخالفته، وشركه لأنه سبحانه وتعالى: ﴿شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ له، فالذي نزل بهم في ذلك اليوم قليل بالنسبة إلى ما أعده الله لهم من العقاب يوم القيامة، فلا أجدر بالعقاب من المشاقين له، الذين يؤثرون الشرك وعبادة الطاغوت على توحيده تعالى وعبادته، ويعتدون على أوليائه بمحاولة ردهم عن دينهم بالقوة والقهر، وإخراجهم من ديارهم، ثم اتّباعهم إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه،
١٤ - والخطاب في قوله: ﴿ذلِكُمْ﴾ للمشركين؛ أي: هذا العقاب الذي عجلت لكم أيها المشركون، المشاقون لله ورسوله في الدنيا، من انكسار وهزيمة مع الخزي، والذل أمام فئة قليلة العدد والعدد من المسلمين؛ أي: ذلك العذاب المذكور ﴿فَذُوقُوهُ﴾ عاجلا في الدنيا وباشروه ﴿وَ﴾ اعلموا ﴿أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ﴾؛ أي: إنّ لكم في الآخرة عذاب النار إن أصررتم على كفركم، وهو شر العذابين، وأبقاهما، وأشار بالتعبير بالذوق إلى أنّ عذاب الدنيا يسير بالنسبة لعذاب الآخرة، وقيل: المعنى ذوقوا ما عجل لكم في الدنيا مع ما أجل لكم في الآخرة.
وقرأ الحسن وزيد بن علي وسليمان التيمي (٢): ﴿وَإنَّ لِلْكافِرِينَ﴾ بكسر همزة ﴿إن﴾ على استئناف الإخبار.
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
352
الإعراب
﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)﴾.
﴿يَسْئَلُونَكَ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول ﴿عَنِ الْأَنْفالِ﴾ جار ومجرور متعلق به على كونه مفعولا ثانيا له، والجملة مستأنفة ﴿قُلِ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿الْأَنْفالُ لِلَّهِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكى لـ ﴿قُلِ﴾، وإن شئت قلت: ﴿الْأَنْفالِ﴾ مبتدأ ﴿لِلَّهِ﴾ خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿وَالرَّسُولِ﴾ معطوف على الجلالة ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتفريع ﴿اتقوا الله﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿الْأَنْفالُ لِلَّهِ﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قال﴾ ﴿وَأَصْلِحُوا﴾ فعل وفاعل ﴿ذاتَ بَيْنِكُمْ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ معطوف على الجلالة ﴿إِنْ﴾ حرف شرط وجزم ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِنْ مُؤْمِنِينَ﴾ خبرها وجواب ﴿إِنْ﴾ معلوم مما قبله تقديره: إن كنتم مؤمنين فأطيعوا الله ورسوله، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾.
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيمانًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ مبتدأ ﴿الَّذِينَ﴾ خبر، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حقيقة المؤمنين المذكورين في الآية السابقة، ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿ذُكِرَ اللَّهُ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر بإضافة ﴿إِذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إِذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذا﴾ من فعل شرطها، وجوابها صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، والعائد ضمير ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ ﴿وَإِذا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿تُلِيَتْ﴾ فعل
353
ماض مغير الصيغة ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به ﴿آياتُهُ﴾ نائب فاعل، ومضاف إليه، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ ﴿إِذا﴾. ﴿زادَتْهُمْ﴾ فعل ومفعول أول ﴿إِيمانًا﴾ مفعول ثان، وفاعله ضمير يعود على الآيات، والجملة جواب إِذا وجملة إِذا معطوفة على جملة إِذا السابقة على كونها صلة الموصول، والعائد ضمير ﴿زادَتْهُمْ﴾. ﴿وَعَلى رَبِّهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾، وجملة ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾ معطوفة على جملة إِذا الأولى على كونها صلة الموصول، أو مستأنفة أو في محل النصب حال من مفعول ﴿زادَتْهُمْ﴾.
﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الرفع صفة للموصول الأول ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، به، والجملة صلة الموصول، ﴿وَمِمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُنْفِقُونَ﴾. ﴿رَزَقْناهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: مما رزقناهم إياه، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف ﴿يُنْفِقُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ على كونها صلة ﴿الَّذِينَ﴾.
﴿أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)﴾.
﴿أُولئِكَ﴾ مبتدأ ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ خبر، والجملة مستأنفة مسوقة، لبيان ما للمؤمنين من الأجور ﴿حَقًّا﴾ صفة لمصدر محذوف، تقديره: المؤمنون إيمانا حقا ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم ﴿دَرَجاتٌ﴾ مبتدأ مؤخر ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿دَرَجاتٌ﴾ تقديره: درجات كائنات عند ربهم، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ثان لـ أُولئِكَ. ﴿وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ﴾ معطوفان على ﴿دَرَجاتٌ﴾. ﴿كَرِيمٌ﴾ صفة لـ ﴿رِزْقٌ﴾.
﴿كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥)﴾.
﴿كَما﴾ ﴿الكاف﴾ حرف جر وتشبيه ﴿ما﴾ مصدرية ﴿أَخْرَجَكَ رَبُّكَ﴾ فعل ومفعول وفاعل ﴿مِنْ بَيْتِكَ﴾ متعلق به ﴿بِالْحَقِّ﴾ جار ومجرور متعلق به أيضا، أو حال من مفعول ﴿أَخْرَجَكَ﴾؛ أي: حال كونك ملتبسا بالحق، والجملة الفعلية صلة
354
﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: كإخراج ربك إياك ﴿مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرا لمبتدأ محذوف تقديره الأمر والشأن كائن كإخراج ربك إياك من بيتك بالحق؛ أي: الأمر والشأن الجاري في الأنفال من قسمها بالتسوية بينهم، كائن كإخراج ربك من بيتك في كونه مكروها لهم، وقد ذكروا في متعلق هذه الكاف نحو عشرين وجها أكثرها معترضة، وبعضها صعبة، وفيما ذكرناه كفاية، لأنه أوضح الوجوه، وأسلمها من الاعتراض، ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا﴾ الواو: واو الحال ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿فَرِيقًا﴾ اسمها ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿فَرِيقًا﴾ ﴿لَكارِهُونَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتداء ﴿كارهون﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب حال من مفعول ﴿أَخْرَجَكَ﴾ تقديره: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، حال كون فريق من المؤمنين كارهين خروجك.
﴿يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)﴾.
﴿يُجادِلُونَكَ﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿فِي الْحَقِّ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية مستأنفة إخبارا عن حالهم في المجادلة، أو حال ثانية من مفعول ﴿أَخْرَجَكَ﴾؛ أي: أخرجك في حال مجادلتهم إياك، ويحتمل أن تكون حالا من الضمير في ﴿لَكارِهُونَ﴾؛ أي: لكارهون في حال الجدال. ﴿بَعْدَ ما﴾ ﴿بَعْدَ﴾ منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ﴿يُجادِلُونَكَ﴾ ما مصدرية ﴿تَبَيَّنَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الحق، والجملة صلة ما المصدرية ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرود بإضافة الظرف إليه، تقديره: بعد تبينه ﴿كَأَنَّما﴾ ﴿كأن﴾ حرف نصب وتشبيه ﴿ما﴾ كافة لكفها ﴿كأن﴾ عن العمل فيما بعدها، ولذلك دخلت على الجملة الفعلية ﴿يُساقُونَ﴾ فعل ونائب فاعل ﴿إِلَى الْمَوْتِ﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير في ﴿لَكارِهُونَ﴾؛ أي: حال كونهم مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار إلى القتل، ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ ﴿يَنْظُرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو ﴿يُساقُونَ﴾.
355
﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكروا ﴿إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعل ومفعول ثان، ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ ﴿إِذْ﴾ تقديره: واذكروا نعمة وقت وعد الله سبحانه وتعالى إياكم إحدى الطائفتين؛ ﴿أَنَّها﴾ لَكُمْ أنّ حرف نصب والهاء اسمها ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور خبرها، وجملة ﴿أَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب على البدلية من ﴿إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ﴾ بدل اشتمال تقديره: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين كونها لكم ﴿وَتَوَدُّونَ﴾ الواو: حالية ﴿تَوَدُّونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من كاف ﴿يَعِدُكُمُ اللَّهُ﴾ ﴿أَنَّ﴾ حرف نصب ﴿غَيْرَ﴾ اسمها ﴿ذاتِ الشَّوْكَةِ﴾ مضاف إليه، ﴿تَكُونُ﴾ فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ﴾ وأنث الضمير مراعاة لمعنى ﴿غَيْرَ﴾ وهو الفرقة ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور خبر ﴿تَكُونُ﴾، وجملة ﴿تَكُونُ﴾ في محل رفع خبر ﴿أَنَّ﴾ تقديره كائنة لكم، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: وتودون كون غير ذات الشوكة لكم، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿كاف﴾ ﴿إِذْ يَعِدُكُمُ﴾. ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ﴾ ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿بِكَلِماتِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُحِقَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ويريد الله إحقاق الحق بكلماته، ﴿وَيَقْطَعَ﴾ معطوف على ﴿يُحِقَّ﴾ وفاعله ضمير يعود على الله ﴿دابِرَ الْكافِرِينَ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والتقدير: ويريد الله إحقاق الحق بكلماته، وقطع دابر الكافرين بقدرته وقهره.
﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)﴾.
﴿لِيُحِقَّ﴾ ﴿اللام﴾ لام كي ﴿يحق﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي وفاعله ضمير يعود على الله ﴿الْحَقَّ﴾ مفعول به ﴿وَيُبْطِلَ الْباطِلَ﴾ فعل
356
ومفعول معطوف على ﴿يحقّ الحقّ﴾ وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة ﴿يحقّ﴾ مع ما عطف عليها صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي تقديره: لإحقاقه الحق، وإبطاله الباطل، الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: وعد بما وعد وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة لإحقاقه الحقّ وإبطاله الباطل، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿وَلَوْ﴾ الواو: واو الحال ﴿لَوْ﴾ حرف شرط وغاية لا جواب لها ﴿كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من الحق والباطل، تقديره: وعد بما وعد ليحق الحق، ويبطل الباطل، حالة كون المجرمين كارهين إحقاق الحق، وإبطال الباطل، ﴿ولَوْ﴾ الغائية هي التي لا تطلب جوابا، ويكون ما بعدها حالا. وقال أبو حيان (١): والتحقيق أن الواو فيه للعطف على محذوف، وذلك المحذوف في موضع الحال، والمعطوف على الحال حال، ونظيره قولهم: أعطوا السائل ولو جاء على فرس؛ أي: على كل حال، ولو على هذه الحالة التي تنافي الصدقة على السائل، وإن ﴿وَلَوْ﴾ هذه تأتي لاستقصاء ما بطن، لأنه لا يندرج في عموم ما قبله، لملاقاة التي بين هذه الحال وبين المسند الذي قبلها. انتهى.
﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)﴾.
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره، واذكروا إذ تستغيثون، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ ﴿إِذْ﴾ تقديره، واذكروا أيها المؤمنون نعمة وقت استغاثتكم ربكم ﴿فَاسْتَجابَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿استجاب﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة ﴿تَسْتَغِيثُونَ﴾ ﴿أَنِّي﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر، والياء اسمها ﴿مُمِدُّكُمْ﴾ خبرها، ومضاف إليه بـ ﴿بِأَلْفٍ﴾ متعلق به ﴿مِنَ الْمَلائِكَةِ﴾ صفة
(١) البحر المحيط.
357
لـ ﴿ألف﴾. ﴿مُرْدِفِينَ﴾ حال من ألف لتخصصه بالصفة، أو صفة ثانية لألف، وجملة ﴿أن﴾ المفتوحة في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: بإمدادي إياكم بألف ﴿مِنَ الْمَلائِكَةِ﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿استجاب﴾، وعلى قراءة كسر همزة إن فهو مقول لقول محذوف تقديره: وقال: إني ممدكم بألف من الملائكة.
﴿وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)﴾.
﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ما﴾ نافية ﴿جَعَلَهُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول به، وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ من أعم العلل ﴿بُشْرى﴾ مفعول لأجله ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة و ﴿اللام﴾ لا كي ﴿تطمئن﴾ منصوب بأن مضمرة ﴿بِهِ﴾ جار ومجرور متعلق به ﴿قُلُوبُكُمْ﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولاطمئنان قلوبكم به، وهذا المصدر المؤول معطوف (١) على ﴿بُشْرى﴾ على كونه مفعولا لأجله، ولكن جر باللام لفقد شرط النصب من اتحاد الفاعل كما لا يخفى، فإن فاعل الجعل هو الله تعالى وفاعل الاطمئنان القلوب، وعبارة «السمين» هنا: ﴿إِلَّا بُشْرى﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مفعول لأجله، وهو استثناء مفرغ، إذ التقدير: وما جعله لشيء من الأشياء، إلا للبشرى، وشروط نصبه موجودة، وهي اتحاد الفاعل، والزمان، وكونه مصدرا.
والثاني: أنه مفعول ثان لـ ﴿جعل﴾ على أنه بمعنى صير.
والثالث: أنه بدل من ﴿الهاء﴾ في جَعَلَهُ قاله الحوفي.
﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ما نافية، ﴿النَّصْرُ﴾ مبتدأ ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿إِنَ﴾ حرف نصب ﴿اللَّهُ﴾ اسمها ﴿عَزِيزٌ﴾ خبر أول لها ﴿حَكِيمٌ﴾ خبر ثان
(١) الفتوحات.
358
لها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)﴾.
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: اذكروا إذ يغشّيكم النعاس، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ﴾ فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿أَمَنَةً﴾ إما حال من ﴿النُّعاسَ﴾، و ﴿مِنْهُ﴾ صفة له؛ أي: حالة كونه أمانا منه تعالى لكم، أو مفعول لأجله، أي لأجل تأمينه لكم، وفي المقام أوجه أخر من الإعراب تركناها خوف الإطالة. ﴿وَيُنَزِّلُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ متعلق به أيضا ﴿ماءً﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة ﴿يُغَشِّيكُمُ﴾ على كونها مضافا إليه، لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ ﴿اللام﴾ لام كي ﴿يطهركم﴾ فعل ومفعول به منصوب بأن مضمرة وفاعله ضمير يعود على الله ﴿بِهِ﴾ متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتطهيره إياكم به الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُنَزِّلُ﴾ ﴿وَيُذْهِبَ﴾ معطوف على ﴿يطهر﴾، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿عَنْكُمْ﴾ متعلق به ﴿رِجْزَ الشَّيْطانِ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، ﴿وَلِيَرْبِطَ﴾ الواو: عاطفة ﴿اللام﴾ لام كي ﴿يربط﴾ منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿عَلى قُلُوبِكُمْ﴾ متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولربطه على قلوبكم، الجار والمجرور معطوف على الجار، والمجرور في قوله: ﴿لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ ﴿وَيُثَبِّتَ﴾ معطوف على ﴿يربط﴾ ﴿بِهِ﴾ متعلق به وفاعله ضمير يعود على الله ﴿الْأَقْدامَ﴾ مفعول به.
﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢)﴾.
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر يا محمد إذ ﴿يُوحِي رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل ﴿إِلَى الْمَلائِكَةِ﴾ متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ ﴿إِذْ﴾، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿أَنِّي﴾ أن حرف نصب، والياء
359
اسمها ﴿مَعَكُمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه والظرف متعلق بمحذوف خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ومجرور بحرف جر، محذوف تقديره: بكوني ﴿مَعَكُمْ﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُوحِي﴾. ﴿فَثَبِّتُوا﴾ ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتفريع ﴿ثبتوا﴾. ﴿الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة مفرعة على جملة ﴿أَنِّي مَعَكُمْ﴾. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿سَأُلْقِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، وهذه الجملة كالتفسير لقوله: ﴿أَنِّي مَعَكُمْ﴾. ﴿فِي قُلُوبِ الَّذِينَ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ألقى﴾ ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿الرُّعْبَ﴾ مفعول به منصوب بـ ﴿ألقى﴾. ﴿فَاضْرِبُوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿اضربوا﴾ فعل وفاعل ﴿فَوْقَ الْأَعْناقِ﴾ ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿اضربوا﴾، وعلى هذا المفعول محذوف تقديره فاضربوا رؤوسهم فوق الأعناق، وقيل: ﴿فَوْقَ﴾ مفعول به على التوسع منصوب بالفعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿سَأُلْقِي﴾ وهذه الجملة كالتفسير لقوله: ﴿فَثَبِّتُوا﴾ الخ. ﴿وَاضْرِبُوا﴾ فعل وفاعل ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿اضْرِبُوا﴾ أو حال من ﴿كُلَّ بَنانٍ﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿كُلَّ بَنانٍ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ﴾.
﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)﴾.
﴿ذلِكَ﴾ مبتدأ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ ﴿الباء﴾ حرف جر وسبب ﴿أن﴾ حرف نصب و ﴿الهاء﴾ اسمها ﴿شَاقُّوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿وَرَسُولَهُ﴾ معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ تقديره: ذلك بأنهم مشاقوا الله ورسوله، وجملة ﴿أن﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿الباء﴾ تقديره: ذلك بسبب مشاقتهم الله ورسوله، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائن بسبب مشاقتهم الله ورسوله، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿وَمَنْ﴾ الواو: عاطفة ﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما ﴿يُشاقِقِ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿اللَّهَ﴾ لفظ الجلالة مفعول
360
به، ﴿وَرَسُولَهُ﴾ معطوف عليه ﴿فَإِنَّ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبا أو تعليلية للجواب المحذوف ﴿إن﴾ حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾ اسمها ﴿شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ خبرها، ومضاف إليه، وجملة ﴿إن﴾ في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابا لها، والرابط محذوف تقديره، فإن الله شديد العقاب له، أو الجملة في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية، على كونها معللة للجواب المحذوف، تقديره: ومن يشاقق الله ورسوله يعاقبه الله تعالى؛ لأنّ الله شديد العقاب، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ على كونها مقررة ومكملة لها.
﴿ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)﴾.
﴿ذلِكُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فَذُوقُوهُ﴾ ﴿الفاء﴾: زائدة في الخبر على رأي الأخفش، ﴿ذوقوه﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو ﴿ذلِكُمْ﴾: مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: ذالكم العذاب، والجملة مستأنفة. ﴿فَذُوقُوهُ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، وجملة: ﴿ذوقوه﴾: مستأنفة. ﴿وَأَنَّ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿لِلْكافِرِينَ﴾: خبر مقدم لـ ﴿أَنَّ﴾ ﴿عَذابَ النَّارِ﴾: اسمها مؤخر ومضاف إليه، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم المحذوف تقديره: واعلموا كون عذاب النار للكافرين، وجملة علم المحذوفة معطوفة على جملة قوله: ﴿ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَسْئَلُونَكَ﴾؛ أي (١): سؤال استفتاء، لأنّ هذا أول تشريع الغنيمة، وفاعل السؤال يعود على معلوم، وهو من حضر بدرا، وسأل: تارة يكون لاقتضاء معنى في نفس المسؤول، فيتعدّى بعن كهذه الآية، وقد يكون لاقتضاء مال فيتعدى لاثنين، نحو سألت زيدا مالا، وقد ادعى بعضهم أن السؤال هنا بهذا المعنى، وزعم أن ﴿عَنِ﴾ زائدة، والتقدير: يسألونك الأنفال، وأيد هذا بقراءة سعد بن
(١) الفتوحات.
361
أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وغيرهم ﴿يسئلونك الأنفال﴾ بدون عن، والصحيح أن هذه القراءة على إرادة حرف الجر ﴿عَنِ الْأَنْفالِ﴾ (١) جمع نفل بفتح النون والفاء، كفرس وأفراس، والمراد بها هنا الغنائم، وسميت أنفالا، والنفل هو الزيادة لزيادة هذه الأمة بها على الأمم السابقة، وفي «المصباح» النفل: الغنيمة، والجمع أنفال مثل سبب وأسباب، والنفل: وزان فلس
مثله اه ومنه: صلاة النفل، وقيل: الغنيمة (٢) كل ما حصل مستغنما بتعب أو بغير تعب، وقبل الظفر أو بعده، والنفل ما يحصل للإنسان قبل القسمة من الغنيمة، ومن إطلاقها على الغنيمة قول عنترة:
إنّا إذا احمرّ الوغى نروي القنا ونعفّ عند مقاسم الأنفال
أي الغنائم.
ويطلق (٣) النفل على معان أخر: منها اليمين، والابتغاء، ونبت معروف، والنافلة التطوع لكونها زائدة على الواجب، والنافلة ولد الولد، لأنه زيادة على الولد.
﴿وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ﴾ والبين: يطلق على الاتصال والافتراق، وعلى كل ما بين طرفين، كما قال: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ وذات البين الصلة التي تربط بين شيئين، وإصلاحها بالمودة وترك النزاع.
﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ الوجل: الفزع والخوف وفي «السمين» (٤) يقال: وجل بالكسر في الماضي يوجل بالفتح في المضارع، وفيه لغة أخرى قرىء بها شاذا ﴿وَجِلَتْ﴾: بفتح الجيم في الماضي، وكسرها في المضارع، فتحذف الواو في المضارع، كوعد يعد، ويقال في المشهورة: وجل يوجل بإثبات الواو في المضارع اه.
﴿لَهُمْ دَرَجاتٌ﴾ والدرجات منازل الرفعة، ومراقي الكرامة ﴿إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ﴾
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
(٤) الفتوحات.
362
والطائفتان طائفة العير الآتية من الشام، وطائفة النفير التي جاءت من مكة للنجدة، وغير ذات الشوكة هي العير، والشوكة الحدة، والقوة: وأصلها واحدة الشوك شبهوا بها أسنة الرماح ﴿دابِرَ الْكافِرِينَ﴾ ودابر القوم: آخرهم الذي يأتي في دبرهم، ويكون من روائهم و ﴿يحق الحق﴾؛ أي: يعز الإسلام؛ لأنه الحق ﴿وَيُبْطِلَ الْباطِلَ﴾؛ أي: يزيل الباطل، وهو الشرك ويمحقه.
﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ فالسين والثاء فيه للطلب؛ أي: تطلبون الغوث من ربكم، والاستغاثة طلب الغوث، وهو التخليص من الشدة والنقمة ﴿فَاسْتَجابَ لَكُمْ﴾؛ أي: أجاب لكم، فالسين والتاء فيه زائدتان ﴿مُمِدُّكُمْ﴾؛ أي: ناصركم ومعينكم ﴿بِأَلْفٍ﴾ قرىء بألف، وأصل آلف أألف بوزن أفلس فقلبت الهمزة الثانية ألفا، فصار آلفا ﴿مُرْدِفِينَ﴾ من أردفه إذا أركبه وراءه ﴿إِلَّا بُشْرى﴾ مصدر على وزن فعلى كرجعى بمعنى البشارة، وهو الخبر السار ﴿وتطمئن﴾: تسكن بعد ذلك الزلزال والخوف الذي عرض لكم في جملتكم ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: غالب على أمره ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يضع شيئا في غير موضعه ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ﴾؛ أي: يجعله مغطيا لكم، ومحيطا بكم، وفيه ثلاث قراءات سبعية، يغشاكم كيلقاكم من غشيه، إذا أتاه، وأصابه، وفي «المصباح» غشيته أغشاه من باب تعب أتيته ﴿ويُغَشِّيكُمُ﴾: من أغشاه؛ أي: أنزله بكم، وأوقعه عليكم ﴿ويُغَشِّيكُمُ﴾ من غشاه تغشية غطّاه؛ أي: يغشيكم الله النعاس؛ أي: يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم، والنعاس على الأولى مرفوع على الفاعلية، وعلى الأخيرتين منصوب على المفعولية.
﴿النُّعاسَ﴾ والنعاس: فتور في الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم، فهو يضعف الإدراك، ولا يزيله كله، فإذا أزاله كان نوما، وقال بعض الفقهاء: علامة النعاس: أن تسمع كلام الحاضرين ولا تفهمه، وعلامة النوم: أن لا تسمع كلامهم. ﴿رِجْزَ الشَّيْطانِ﴾ والرجز والرجس والركس الشيء المستقذر حسا، أو معنى، ويراد به هنا وسوسة الشيطان، وفي الكرخي: الرجز في الأصل العذاب الشديد، وأريد به هنا نفس وسوسة الشيطان مجازا لمشقتها على أهل الايمان،
363
كما قيل: كل ما اشتدت مشقته على النفوس فهو رجز. اه.
﴿وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ﴾ والربط على القلوب تثبيتها وتوطينها على الصبر، وفي «زاده» الربط الشد، يقال لكل من صبر على أمر ربط على قلبه، أي قواه وشدده. وعدى بعلى للإيذان بأن قوة قلوبهم بلغت في الكمال إلى أن صارت مستولية على القلوب، حتى صارت كأنها علت عليها، وارتفعت فوقها؛ أي: فتفيد التمكن في القوة ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ والرعب الخوف الذي يملأ القلب ﴿فَوْقَ الْأَعْناقِ﴾؛ أي: الرؤوس ﴿كُلَّ بَنانٍ﴾ والبنان: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، وهي جمع بنانة وفي «المصباح» البنان الأصابع، وقيل: أطرافها، والواحدة بنانة اه وفي «السمين» والبنان قيل: الأصابع، وهو اسم جنس، الواحد: بنانة، وضربها عبارة عن الثبات في الحرب، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء، قال عنترة:
وقد كان في الهيجاء يحمي ذمارها ويضرب عند الكرب كلّ بنان
﴿بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾؛ أي: عادوا وخالفوا، وسميت العداوة مشاقة لأن كلا من المتعاديين يكون في شق غير الذي يكون فيه الآخر.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الأيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الحصر في قوله: ﴿وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ لأن تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر.
ومنها: الإشارة بالبعيد عن القريب في قوله: ﴿أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ إشعارا بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ استعار الدرجات التي هي حقيقة في المحسوسات للمراتب الرفيعة، والمنازل العالية في الجنة بجامع العلو في كل.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ﴾ شبه حالهم وقت قسم الأنفال
364
بالسوية بينهم بحالهم وقت إخراجه من بيته بجامع الكراهة في كل مع كونه خيرا لهم، وفي قوله: ﴿كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ﴾ شبههم بمن يساق إلى الموت؛ أي: القتل، وهو ينظر بعينه أسبابه، بجامع الكراهة في كل.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ﴾ فلما نجت العير علم أن الموعود بها النفير.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ﴾ وقوله: ﴿وَيُبْطِلَ الْباطِلَ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿الْحَقَّ﴾ و ﴿الْباطِلَ﴾.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ﴾ فلذلك عطف عليه: ﴿فَاسْتَجابَ لَكُمْ﴾ بصيغة الماضي على مقتضى الواقع.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿ذاتِ الشَّوْكَةِ﴾ فإنها حقيقة في شوك الشجر فاستعيرت للسلاح بجامع الحدة والطعن في كل.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ﴾: على قراءة رفع النعاس،
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ﴾ لأنه كناية عن استئصالهم بالهلاك.
ومنها: تقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، في قوله: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ﴾: لأن الرجز حقيقة في العذاب، فاستعاره لوسوسة الشيطان بجامع المشقة والضرر في كل، لأن وسوسة الشيطان ضرر ومشقة على أهل الايمان، كما أن العذاب مشقة على أهله.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ﴾ لأن الربط حقيقة في الأجرام، فاستعاره لتقوية القلوب وتثبيتها بجامع القوة في كل.
ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
365
الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ} لأن قوله ﴿سَأُلْقِي﴾ الخ كالتفسير لقوله: ﴿أَنِّي مَعَكُمْ﴾ وقوله: ﴿فَاضْرِبُوا﴾ الخ كالتفسير لقوله ﴿فَثَبِّتُوا...﴾ الخ.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ﴾ للدلالة على أن الكفر سبب العذاب الآجل، أو سبب الجمع بين العاجل والآجل؛ لأنّ أصل الكلام فذوقوه وإن لكم عذاب النار، فوضع ﴿لِلْكافِرِينَ﴾ موضع لكم شهادة عليهم بالكفر وتنبيها على العلة المذكورة.
ومنها: الإضافة لتشريف المضاف إليه في قوله: ﴿كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿شَاقُّوا اللَّهَ﴾ ﴿وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ﴾.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ﴾.
ومنها: التهييج والإلهاب - أي: الإطناب - في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لأنّ الإيمان موجود فيهم مع الصفات السابقة، والمعنى: إن كنتم مستمرين على الإيمان.
ومنها: الدلالة على التشريف والتكريم في قوله: ﴿لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ لأن في كونها عنده سبحانه وتعالى زيادة تشريف لهم وتكريم وتعظيم وتفخيم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
366
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنه تعالى لما أخبر أنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار، وأمر من آمن بضرب فوق أعناقهم، وبنانهم.. حرضهم على الصبر عند مكافحة العدو، ونهاهم عن الانهزام.
(١) البحر المحيط.
367
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه لما نهى الله تعالى عن تولي الأدبار.. توعد من ولى دبره وقت لقاء العدو.
قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى لما هدد المشركين بقوله: ﴿وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا..﴾ أردف ذلك بتأديب المؤمنين، بالأمر بطاعة الرسول، وإجابة دعوته إذا دعا للقتال في سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف في طريق تبليغ دعوته.
قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلّم، وعدم التولي حين الجهاد.. أردفه بالأمر بالاستجابة له إذا دعاهم لهدى الدين وأحكامه عامة؛ لما في ذلك من تكميل الفطرة الإنسانية وسعادتها في الدنيا والآخرة، وكرر النداء بلفظ المؤمنين تنشيطا لهم إلى الإصغاء لما يرد بعده من الأوامر والنواهي، وإيماء إلى أنهم قد حصلوا ما يوجب عليهم الاستجابة، وهو الإيمان.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢)﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٣) أخبر أن هؤلاء المشبه بهم لا يسمعون.. أخبر أن شر الحيوان الذي يدب الصم، أو أن شر البهائم، فجمع بين هؤلاء وبين جمع الدواب، وأخبر أنهم شر الحيوان مطلقا.
قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حذر من الفتنة بالأموال والأولاد.. أردف ذلك بطلب التقوى التي
ثمرتها ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد.
(١) و (٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
368
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ...﴾ الآية، روى أبو داود (ج ٢ ص ٣٤٩): حدثنا محمد بن هشام المصري، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا داود بن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: نزلت في يوم بدر ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ الحديث أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي وابن جرير، وعزاه الحافظ بن كثير (ج ٢/ ص ٣٩٥) إلى النسائي، وابن مردويه مع من ذكرنا، ثم قال: وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر، وإن كان سبب نزول الآية فيهم، كما دل عليه حديث أبي هريرة، من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجمهور والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى...﴾ الآية، في سبب نزولها ثلاثة أقوال (١):
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لعلي: «ناولني كفا من حصباء» فناوله فرمى به في وجوه القوم، بما بقى منهم أحد إلا وقعت في عينه حصاة، رواه الطبراني عن ابن عباس، وفي رواية أخذ قبضة من تراب، فرمى بها، وقال: «شاهت الوجوه» فما بقى مشرك إلا شغل بعينيه بعالج التراب الذي فيها، فنزلت ﴿وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ وذلك يوم بدر، وهذا قول الأكثرين.
والقول الثاني: أن أبيّ بن خلف، أقبل يوم أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يريده، فاعترض له رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخلوا سبيله، وطعنه النبي صلى الله عليه وسلّم بحربته، فسقط أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور، فقالوا: إنما هو خدش، فقال: والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل الحجاز لماتوا أجمعون، فمات قبل أن يقدم مكة، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن أبيه.
والثالث: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم رمى يوم خيبر بسهم فأقبل السهم يهوي حتى
(١) زاد المسير.
369
قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه، فنزلت هذه الآية. ذكره أبو سليمان الدمشقي في آخرين، والحديث مرسل (١)، جيد الإسناد، والمشهور أنها نزلت في رمية يوم بدر بالقبضة من الحصباء.
قوله تعالى: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا...﴾ الآية، روى (٢) الحاكم عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير، قال: كان المستفتح أبا جهل، فإنه قال حين التقى القوم: اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتى بما لا يعرف، فأحنه الغداة، وكان ذلك استفتاحا، فأنزل الله ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية، قال: قال أبو جهل: اللهم انصر أعز الفئتين وأكرم الفرقتين، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ...﴾ الآية، روى (٣) سعيد بن منصور وغيره عن عبد الله بن أبي قتادة، قال: نزلت هذه الآية ﴿لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ في أبي لبابة رفاعة بن عبد المنذر، وذاك أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما حاصر بني قريظة، سألوه أن يصالحهم على ما صالح عليه بني النضير، على أن يسيروا إلى أرض الشام، فأبى أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا، وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مناصحا لهم، لأنّ ولده وأهله كانوا عندهم، فبعثه إليهم، فقالوا: ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، أنه الذبح فلا تفعلوا، فأطاعوه، فكانت تلك خيانته، قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس والأكثرين، وروي أن أبا لبابة ربط نفسه بعد نزول هذه الآية إلى سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت، أو يتوب الله علي، فمكث سبعة أيام كذلك، ثم تاب الله عليه، فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يحلني، فجاء فحله بيده،
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
(٣) زاد المسير.
370
فقال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يجزئك الثلث». وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» وأخرج بعضه الطبري، وابن هشام.
وروى ابن جرير (١) وغيره عن جابر بن عبد الله: أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا، فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان أن محمدا يريدكم، فخذوا حذركم، فأنزل الله هذه الآية: ﴿لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ الآية. غريب جدا، في سنده وسياقه نظر.
وأخرج ابن جرير عن السدي، قال: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلّم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين، فنزلت.
التفسير وأوجه القراءة
١٥ - ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: صدقوا الله ورسوله ﴿إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: قابلتموهم للقتال حالة كونهم ﴿زَحْفًا﴾؛ أي: زاحفين لقتالكم زحفا، إذ الكفار هم الذين زحفوا من مكة إلى المدينة لقتال المؤمنين فقابلوهم ببدر، والمعنى (٢) على التشبيه؛ أي: حالة كونهم مثل الزاحفين والماشين على أدبارهم، وذلك لأن الجيش إذا كثر والتحم بعضهم ببعض يتراءى أن سيره بطيء، وإن كان في نفس الأمر سريعا، فالمقصود من هذه الحال بعد كون المراد التشبيه ما يلزم هذه المشابهة، وهو الكثرة.
﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ﴾؛ أي: فلا تولوهم ظهوركم، وأقفيتكم منهزمين؛ أي: لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم، بل قابلوهم بوجوهكم، وقاتلوهم مع قلتكم،
١٦ - ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ تلقونهم ﴿دُبُرَهُ﴾ بضمتين، وقراءة الحسن ﴿دُبُرَهُ﴾: بسكون الباء كقولهم عنق في عنق، أي ظهره؛ أي: ومن يجعل ظهره
(١) لباب النقول.
(٢) الفتوحات.
371
واليا ومقبلا إليهم شاردا منهزما منهم ﴿إِلَّا مُتَحَرِّفًا﴾؛ أي: إلا رجلا منعطفا مائلا لمكان رآه أحوج إليه ﴿لِقِتالٍ﴾ فيه، أو لضرب من ضروبه رآه أنكى بالعدو كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه على اتباعه، حتى إذا انفرد عن أنصاره، كر عليه فقتله ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا﴾؛ أي: منتقلا منضما ﴿إِلى فِئَةٍ﴾؛ أي: إلى جماعة أخرى من المؤمنين، في جهة غير الجهة التي كان فيها، ليشد أزرهم، وينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم، فصاروا أحوج إليهم ممن كان معهم؛ أي: من فعل ذلك التولي ﴿فَقَدْ باءَ﴾؛ أي: رجع عن قتاله حالة كونه ملتبسا ﴿بِغَضَبٍ﴾ عظيم ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَمَأْواهُ﴾ الذي يأوي إليه في الآخرة أي منزله ومسكنه في الآخرة ﴿جَهَنَّمُ﴾ دار العقاب ﴿وَبِئْسَ﴾؛ أي: قبح ﴿الْمَصِيرُ﴾؛ أي: المرجع هي. وانتصاب ﴿مُتَحَرِّفًا﴾ ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا﴾ على الاستثناء، أو على الحال كما سيأتي، والمعنى: ومن ينهزم ويفر من الزحف فقد رجع بغضب كائن من الله، إلا المتحرف والمتحيز، وهذا مخصوص بما إذا لم يزد الكفار على الضعف، ذاك أن المنهزم أراد أن يأوي إلى مكان يأمن فيه الهلاك، فعوقب بجعل عاقبته دار الهلاك، والعذاب الدائم، وجوزي بضد غرضه.
وفي الآية دلالة على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي، وجاء التصريح بذلك في صحيح الأحاديث، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا «اجتنبوا السبع الموبقات» - المهلكات - قالوا يا رسول الله وما هي؟: قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
وقد خصص بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين، قال الشافعي: إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم، لم أحب لهم أن يولوا، ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة.
372
وروي عن ابن عباس قال: من فر من ثلاثة.. فلم يفر، ومن اثنين.. فقد فر.
١٧ - و ﴿الفاء﴾: في قوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم (١) ما قصه الله عليكم من إمداده لكم بالملائكة، وإيقاع الرعب في قلوبهم.. فأقول لكم: لم تقتلوا أنتم أيها المؤمنون الكفار في الحقيقة، ولكن الله سبحانه وتعالى قتلهم بما يسره لكم من الأسباب الموجبة للنصر، من إلقاء الرعب في قلوبهم، وإمداد الملائكة لكم؛ أي: إن افتخرتم بقتلكم، فأنتم لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم؛ لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر وقوى قلوبكم، وأذهب عنها الفزع والجذع، ذكره أبو حيان.
والمعنى: يا أيها (٢) الذين آمنوا لا تولوا الكفار ظهوركم أبدا، فأنتم أولى منهم بالثبات والصبر، ثم بنصر الله تعالى، انظروا إلى ما أوتيتم من نصركم عليهم على قلة عددكم، وكثرتهم واستعدادهم، ولم يكن ذلك إلا بتأييد من الله تعالى لكم، وربطه على قلوبكم، وتثبيت أقدامكم، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذي أفنى كثيرا منهم بقوتكم وعدتكم، ولكن الله قتلهم بأيديكم بما كان من تثبيت قلوبكم، بمخالطة الملائكة، وملابستها لأرواحكم وبإلقائه الرعب في قلوبهم، وهذا بعينه هو ما جاء في قوله تعالى: ﴿قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤)﴾، والمؤمن أحرى بالصبر الذي هو من أجل عوامل النصر من الكافر، إذ هو أقل حرصا على متاع الدنيا، وأعظم رجاء لله والدار الآخرة، يؤيد هذا قوله تعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ﴾.
ثم انتقل من خطاب المؤمنين الذين قتلوا أولئك الصناديد بسيوفهم، إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وسلّم، وهو قائدهم الأعظم فقال: ﴿وَما رَمَيْتَ﴾ يا محمد أحدا
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
373
من المشركين ﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾؛ أي: في الوقت الذي رميت فيه القبضة من التراب بإلقائها في الهواء، فأصابت وجوههم، فإن ما فعلته لا يكون له من التأثير مثل ما حدث ﴿وَلكِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿رَمى﴾ وجوههم كلهم بذلك التراب، الذي ألقيته في الهواء على قلته أو بعد تكثيره بمحض قدرته.
فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب وقال: «شاهت الوجوه» ثلاثا، فأعقبت رميته هزيمتهم، ومعنى (١) شاهت الوجوه، قبحت يقال: شاه وجهه يشوه شوها وشوهة، ويقال: رجل أشوه وامرأة شوهاء إذا كانا قبيحين.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قال في استغاثته يوم بدر: «يا رب إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدا» قال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها وجوههم، ففعل، فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين.
وقال ثعلب (٢): المعنى ﴿وَما رَمَيْتَ﴾ الفزع والرعب في قلوبهم، ﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾ بالحصباء فانهزموا ﴿وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾؛ أي: أعانك وأظفرك، والعرب تقول: رمى الله لك، أي أعانك وأظفرك وصنع لك، وقد حكى مثل هذا أبو عبيدة في كتاب «المجاز» وقال محمد بن يزيد المبرد: المعنى ﴿وَما رَمَيْتَ﴾ بقوتك ﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾ ولكنك بقوة الله رميت، وقيل: المعنى إن تلك الرمية بالقبضة من التراب التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه، لأنّ أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله عز وجل، فكأن الله فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصلا، هكذا في «الكشاف» فإن قلت: كيف نفى عن المؤمنين قتل الكفار مع أنهم قتلوهم يوم بدر، ونفى عن النبي صلى الله عليه وسلّم رميهم
(١) زاد المسير.
(٢) الشوكاني.
374
مع أنه رماهم يوم بدر بالحصى في وجوهم، قلت: نفى الفعل عنهم وعنه باعتبار الإيجاد إذ الموجد له حقيقة هو الله تعالى، وإثباته لهم باعتبار الكسب والصورة فقوله: ﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾؛ أي: أتيت بصورة الرمي، وقرأ (١) حمزة، والكسائي، وابن عامر: ﴿وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾، ﴿وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ بتخفيف نون ﴿لكِنَّ﴾، ورفع الجلالة، والباقون بالتشديد ونصب الجلالة، وجاءت هنا لكن أحسن مجيء لوقوعها بين نفي وإثبات، ولم يقل: فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم كما قال: ﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾ مبالغة في الجملة الثانية اه من «السمين».

فصل


والفرق (٢) بين قتل المسلمين للكفار، وبين رمي النبي صلى الله عليه وسلّم إياهم بالتراب:
أن الأول فعل من أفعالهم المقدورة لهم، بحسب سنن الله في الأسباب الدنيوية، وأن الثاني لم يكن سببا عاديا لإصابتهم، وهزيمتهم لا مشاهدا كضرب أصحابه، لأعناق المشركين، ولا غير مشاهد، إذ هو لا يكون سببا لشكاية أعينهم، وشوهة وجوههم لقلته، وبعده عن راميه وكونهم غير مستقبلين له، كلهم، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى بيان نقص الأول، وعدم استقلاله بالسببية، وبيان أنه لولا تأييد الله ونصره لما وصل كسبهم المحض إلى هذا الفشل؛ لأنك قد علمت ما كان من خوفهم، وكراهتهم للقتال، وبمجادلة النبي صلى الله عليه وسلّم فهم لو ظلوا على هذه الحال مع قلتهم وضعفهم، لكان مقتضى الأسباب العادية أن يمحقهم المشركون محقا.
والفرق بين فعله تعالى في القتل، وفعله في الرمي: أن الأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل، كما هو الحال في جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل في حصول غاياتها إلا بفعل الله، وتسخيره لهم للأسباب التي لا يصل إليه كسبهم عادة كما بين ذلك سبحانه بقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)﴾ فالإنسان يحرث الأرض ويلقي فيها البذر، ولكنه لا يملك إنزال المطر، ولا إنبات الحب وتغذيته بمختلف عناصر
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
375
التربة، ولا دفع الجوائح عنه.
وأن الثاني من فعله تعالى وحده، بدون كسب عادي للنبي صلى الله عليه وسلّم في تأثيره فالرمي منه كان صوريا لتظهر الآية على يده صلى الله عليه وسلّم، فما مثله في ذلك إلا مثل أخيه موسى عليه السلام، في إلقائه العصا ﴿فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى﴾.
والواو في قوله: ﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا﴾؛ أي: ولينعم على المؤمنين إنعاما جميلا عاطفة (١) لما بعدها على علة مقدرة قبلها؛ أي: ولكن الله رمى ليمحق الكافرين، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا بالنصر والغنيمة، وحسن السمعة ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَمِيعٌ﴾ لدعائهم ﴿عَلِيمٌ﴾ بأحوالهم، والبلاء هنا بمعنى النعمة، والمعنى: فعل الله تعالى ما ذكر لإقامته حجته وتأييد رسوله، وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا، إنه تعالى سميع لما كان من استغاثة الرسول والمؤمنين ربهم، ودعائهم إياه وحده ولكل نداء وكلام، عليم بنياتهم الباعثة عليه، والعواقب التي تترتب عليه.
١٨ - وقوله: ﴿ذلِكُمْ﴾ مبتدأ خبره محذوف، والمصدر المؤول من قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ﴾؛ أي: مضعف مكرهم لرسوله وللمؤمنين، ومحاولتهم القضاء على دعوة التوحيد، والإصلاح قبل أن يقوى أمرها وتشتد، معطوف عليه، والتقدير (٢) ذلكم الإبلاء والإنعام للمؤمنين بالنصر والغنيمة حق، وتوهين كيد الكافرين بالهزيمة حق.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ﴿موهن﴾ بفتح الواو، وتشديد الهاء، والتنوين فـ ﴿كَيْدِ﴾ منصوب على المفعولية من وهن، والتعدية بالتضعيف بما عينه حرف حلق غير الهمزة قليل، نحو ضعفت، ووهنت، وبابه أن يعدى بالهمزة نحو أذهلته، وأوهنته، وألحمته، وقرأ باقي السبعة والحسن، وأبو رجاء، والأعمش، وابن محيصن بسكون الواو وتخفيف الهاء من أوهن، كأكرم منونا، وأضافه حفص إلى كيد.
(١) الشوكاني.
(٢) الصاوي.
وبعد أن ذكر خذلانهم وإضعاف كيدهم: انتقل منه إلى توبيخهم على استنصارهم إياه على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتى بما لا يعرف، فأحنه (١) الغداة، فكان ذلك منه استفتاحا.
١٩ - وقال السدي: كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر، أخذوا بأستار الكعبة، فاستنصروا الله، وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين، فأجابهم الله تعالى بقولهم: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا﴾؛ أي: إن تطلبوا الفتح والنصر لأعلى الجندين، وأهداهما ﴿فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ والنصر لأعلاهما وأهداهما، وهذا من قبيل التهكم بهم، لأنه قد جاءهم الهلاك والذلة.
﴿وَإِنْ تَنْتَهُوا﴾ وتنزجروا عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلّم وقتاله ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ أي: فالانتهاء خير لكم، لأنكم قد ذقتم من الحرب ما ذقتم من قتل وأسر بسبب ذلك العدوان.
﴿وَإِنْ تَعُودُوا﴾ إلى حربه وقتاله ﴿نَعُدْ﴾ إلى مثل ما رأيتم من الفتح له عليكم حتى يجيء الفتح الأعظم، الذي به تدول الدولة للمؤمنين عليكم، وبه يذل شرككم، وتذهب ريحكم ﴿وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ﴾؛ أي: ولن يدفع عنكم رهطكم ﴿شَيْئًا﴾ من بأس الله، وشديد نقمته، ولو كثرت عددا إذ لا تكون الكثرة وسيلة من وسائل النصر أمام القلة، إلا إذا تساوت معها في أمور كثيرة، كالصبر والثبات، والثقة بالله تعالى، فهو الذي بيده النصر والقوة.
قال الحسن ومجاهد والسدي (٢): وهذا خطاب للكفار على سبيل التهكم بهم، والمعنى: إن تستنصروا أيها الكفار لأعلى الجندين فقد جاءكم النصر لأعلاهما، وقد زعمتم أنكم الأعلى، فالتهكم في المجيء، أو: فقد جاءكم الهزيمة، فالتهكم في نفس الفتح، وإن تنتهوا عن قتال الرسول وعداوته وتكذبيه
(١) من حال الرجل إذا هلك وباعه باع، وأحانه الله إذا هلك ا. هـ مختار.
(٢) المراح.
فهو خير لكم في الدين بالخلاص من العقاب والفوز بالثواب، وفي الدنيا بالخلاص من القتل، والأسر والنهب، وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى تسليط المسلمين على قتلكم، ولن تدفع عنكم جماعتكم شيئا من الضرر ولو كثرت.
وقيل: هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى: إن تستنصروا أيها المؤمنون، فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال، وعن طلب الفداء على الأسرى فهو خير لكم، وإن تعودوا إلى تلك المنازعة نعد إلى ترك نصرتكم، ثم لا تنفعكم كثرتكم.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم (١): ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بفتح همزة أن على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: والأمر، والشأن كون الله سبحانه وتعالى مع المؤمنين بمعونته، وتوفيقه، فلا تضرهم قلتهم، ولا كثرة عددكم فهو يؤتي النصر من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، أو على أنه معطوف على علة محذوفة، لمعلول محذوف، تقديره: فعل الله بكم ما فعل من الأسر، والقتل، والهمزيمة، لأن الله سبحانه وتعالى ليس معكم، وأن الله مع المؤمنين، وقرأ باقي السبعة بكسرها على الاستئناف، وقرأ ابن مسعود: ﴿والله مع المؤمنين﴾.
٢٠ - ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في الاجابة إلى الجهاد، وترك المال إذ أمر الله بتركه؛ أي: داوموا على طاعته، وعلى عدم التولي، وعلى ترك المال يدم لكم العز الذي حصل لكم ببدر ﴿وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ﴾؛ أي: عن الرسول؛ أي: ولا تعرضوا عن طاعته، وعن قبول قوله، وعن معونته في الجهاد، فالضمير في ﴿عَنْهُ﴾ عائد على الرسول؛ لأنّ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي من طاعة الله، ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الله، وإلى رسوله، وقل: الضمير راجع إلى الأمر الذي دل عليه ﴿أَطِيعُوا﴾ وأصل تولوا تتولوا بتائين.
﴿وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾؛ أي: والحال أنكم تسمعون كلامه الداعي إلى وجوب طاعته، وموالاته، ونصره في جهاده، ولا شك أن المراد بالسماع هنا: سماع
(١) الفتوحات والبحر المحيط.
الفهم والتصديق بما يسمع كما هو شأن المؤمنين الذين من دأبهم أن يقولوا: ﴿سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ والمعنى: وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج، والبراهين، وتصدقون بها، ولستم كالصم البكم
٢١ - ﴿وَلا تَكُونُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿كَالَّذِينَ قالُوا﴾ بأسلنتهم ﴿سَمِعْنا﴾ دعوتك ﴿وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾؛ أي: لا يتعظون، ولا ينتفعون بما سمعوا من القرآن، والمواعظ؛ أي: قالوا بألسنتهم: إنا قبلنا تكاليف الله تعالى، والحال: أنهم لا يقبلونها بقلوبهم، وهم المشركون، أو المنافقون، أو اليهود، أو الجميع من هؤلاء، فإنهم يسمعون بآذانهم من غير فهم ولا عمل، فهم كالذي لا يسمع أصلا، لأنهم لم ينتفعوا بما سمعوا.
٢٢ - ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ﴾ جمع دابة، وهي كل ما دب على الأرض، وقل أن يستعمل في الإنسان، بل الغالب أن يستعمل في الحشرات، ودواب الركوب، فإذا استعمل في الإنسان كان ذلك في موضع الاحتقار؛ أي: إن شر ما دب على الأرض وأقبحه وأخسه ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي: في حكم الله وقضائه هم ﴿الصُّمُّ﴾ الذين لا يسمعون الحق ﴿الْبُكْمُ﴾ الذين لا ينطقون به، وصفوا بذلك مع كونهم ممن يسمع وينطق لعدم انتفاعهم بالسمع والنطق ﴿الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾ ولا يعرفون ما فيه النفع لهم، فيأتونه، وما فيه الضرر عليهم فيجتنبونه، فهم شر الدواب عند الله تعالى، لأنها تميز بعض تمييز، وتفرق بين ما ينفعها ويضرها، والمعنى: إن شر الدواب في حكم الله وقضائه هم الصم الذين لا يصغون بأسماعهم ليعرفوا الحق، ويعتبروا بالموعظة الحسنة، فهم بفقدهم لمنفعة السمع كانوا كأنهم فقدوا حاسته، البكم الذين لا يقولون الحق ومن ثم كانوا كأنهم فقدوا النطق الذين لا يعقلون الفرق بين الحق والباطل، والخير والشر، إذ هم لو عقلوا لطلبوه واهتدوا إلى ما فيه المنفعة والفائدة لهم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)﴾.
والخلاصة: أنهم حين فقدوا منفعة السمع والنطق والعقل.. كانوا كأنهم فقدوا هذه المشاعر والقوى بأن خلقوا خداجا ناقصي هذه المشاعر، أو طرأت
عليهم آفات أذهبت هذه القوى بل هم شر منهم لأن هذه المشاعر، خلقت لهم، فأفسدوها على أنفسهم، إذ لم يستعملوها فيما خلقت لأجله حين التكليف، وفي الآية غاية الذم لهم بأنهم أشر من الكلب، والخنزير، والحمير.
٢٣ - ﴿وَلَوْ عَلِمَ﴾ اللَّهُ سبحانه وتعالى ﴿فِيهِمْ﴾؛ أي: في هؤلاء الصم البكم ﴿خَيْرًا﴾؛ أي: سعادة ﴿لَأَسْمَعَهُمْ﴾ سماعا ينتفعون به ويتعقلون عنده الحجج والبراهين، والمعنى:
ولو علم الله فيهم خيرا أي استعدادا للايمان، والهداية بنور النبوة، ولم يفسد قبس الفطرة سوء القدوة، وفساد التربية لأسمعهم بتوفيقه الكتاب والحكمة سماع تدبر وتفهم، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم، فهم ممن ختم الله على قلوبهم، وأحاطت بهم خطاياهم.
قال الزجاج: ﴿لَأَسْمَعَهُمْ﴾ جواب كل ما سألوا عنه، وقيل: ﴿لَأَسْمَعَهُمْ﴾ كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم؛ لأنهم طلبوا إحياء قصي بن كلاب، وغيره، ليشهدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى الحجج والبراهين سماع تفهم، وقد علم أنه لا خير فيهم ﴿لَتَوَلَّوْا﴾ عن قبولها وأعرضوا عن إذعانها. ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عنها قبل ذلك؛ أي: لتولوا عن القبول، والإذعان، والحال أنهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به، كراهية وعنادا للداعي إليه، ولأهله، فقد فقدوا الاستعداد لقبول الحق، والخير، فقدا تاما لا فقدا عارضا موقوتا.
واعلم: أن للسماع درجات باعتبار ما يطالب الله به من الاهتداء بكتابه:
١ - أن يتعمد من يتلى عليه أن لا يسمعه مبارزة له بالعدوان بادىء ذي بدء خوفا من سلطانه على القلوب أن يغلبهم.
٢ - أن يستمع، وهو لا ينوي أن يفهم ويتدبر، كالمنافقين الذين قال الله فيهم: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفًا﴾.
٣ - أن يستمع لأجل التماس شبهة للطعن والاعتراض، كما كان يفعل
المعاندون من المشركين وأهل الكتاب، وقت التنزيل وفي كل حين إذا استمعوا إلى القرآن أو نظروا فيه.
٤ - أن يسمع ليفهم ويتدبر ثم يحكم له أو عليه، وهذا هو المنصف، وكم من السامعين أو القارئين آمن من بعد أن نظر، وتأمل، فقد نظر طبيب فرنسي في ترجمة القرآن، فرأى أن كل النظريات الطبية التي فيه كالطهارة والاعتدال في المآكل، والمشارب، وعدم الإسراف فيهما، ونحو ذلك من المسائل التي فيها محافظة على الصحة، توافق أحدث النظريات التي استقر عليها رأي الأطباء، في هذا العصر، فرغب في هذا كله وأسلم.
وكثير من المسلمين يستمعون القراء، ويتلون القرآن، فلا يشعرون بأنهم في حاجة إلى فهمه وتدبر معناه، بل يستمعونه للتلذذ بتجويده، وتوقيع التلاوة على قواعد النغم، أو يقصدون بسماعه التبرك فقط، ومنهم من يحضر الحفاظ عنده في ليالي رمضان، ويجلسهم في حجرة البوابين أو غيرهم من الخدم تشبها بالأكابر والوجهاء.
٢٤ - ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: صدقوا الله ورسوله ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾؛ أي: أجيبوا الله والرسول بحسن الطاعة، والانقياد، فاستجاب هنا بمعنى أجاب، لأن السين والتاء فيه زائدتان، وإن كان استجاب يتعدى باللام، وأجاب بنفسه كما أن قوله: ﴿يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ﴾ وقد يتعدى استجاب بنفسه، كما في قول الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
﴿إِذا دَعاكُمْ﴾ الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم؛ وإنما أفرد الضمير لأن استجابة الرسول استجابة لله تعالى، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، وأخرج البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال صلى الله عليه وسلّم: «ألم يقل الله: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم»، ثم ذكر الحديث.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج على أبيّ بن كعب
381
وهو يصلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا أبي» فالتفت أبي ولم يجبه، وصلى أبي، وخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وعليك السلام، ما منعك يا أبيّ أن تجيبني إذ دعوتك»، فقال:
يا رسول الله، إنّي كنت في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلّم: «أفلم تجد فيما أوحي إليّ ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ﴾» قال: بلى، ولا أعود إن شاء الله تعالى، وذكر الحديث. وقال: حديث حسن صحيح.
قيل (١): هذه الإجابة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلّم، فعلى هذا ليس لأحد أن يقطع صلاته لدعاء أحد آخر، وقيل: لو دعاه أحد لأمر مهم لا يحتمل التأخير.. فله أن يقطع صلاته.
﴿لِما يُحْيِيكُمْ﴾؛ أي: لما فيه حياتكم من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة، كما أن الجهل موت، قال الشاعر:
لا تعجبنّ الجهول حلّته... فذاك ميت وثوبه كفن
قال (٢) السدي: هو الإيمان لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان، وقال قتادة: هو القرآن لأنه حياة القلوب، وفيه النجاة والعصمة في الدارين، وقال مجاهد: هو الحق، وقال محمد بن إسحاق: هو الجهاد لأن الله أعزه به بعد الذل، وقيل: هو الشهادة لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
والمعنى (٣): أن الرسول صلى الله عليه وسلّم إذا دعاكم بأمر ربكم لما فيه حياتكم الروحية من علم بسننه في خلقه، ومن حكمة وفضيلة، ترفع نفس الإنسان وترقى بها إلى مراتب الكمال، حتى تحظى بالقرب من ربها، وتنال رضوانه في الدار الآخرة... فأجيبوا دعوته بقوة وعزم كما قال في آية أخرى: ﴿خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ وطاعته صلى الله عليه وسلّم واجبة في حياته، وبعد مماته، فيما علم أنه دعا إليه دعوة عامة من أمور الدين الذي بعثه الله به، كبيانه لصفة الصلاة، وعددها، قولا أو فعلا
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
382
فقد صلى بأصحابه وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وقال: «خذوا عني مناسككم». وكبيانه لمقادير الزكاة وغيرها من السنن العملية المتواترة، وأقواله كذلك، فكل من ثبت عنده شيء منها ببحثه أو ببحث العلماء الذين يثق بهم..
وجب عليه الاهتداء به، أما الإرشادات النبوية في أمور العادات كاللباس، والطعام، والشراب، والنوم.. فلم يعدها أحد من الأئمة دينا يجب الاقتداء به فيه.
ويستدل (١) بهذا الأمر بالاستجابة على أنه يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله، أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية، أن يبادر إلى العمل به كائنا ما كان، ويدع ما خالفه من الرأي وأقوال الرجال، وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة، وترك التقيد بالمذاهب، وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائنا ما كان.
﴿وَاعْلَمُوا﴾ يا معشر المؤمنين ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾؛ أي: يحول بين المرء وبين ما يريده بقلبه، فإن الأجل يحول دون الأمل، فكأنه (٢) قال تعالى: بادروا إلى الأعمال الصالحة، ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء فإن ذلك غير موثوق به، وقال مجاهد:
المراد بالقلب هنا العقل؛ أي: فإن الله تعالى يحول بين المرء وعقله.
والمعنى: فبادروا إلى الأعمال، وأنتم تعقلون، فإنكم لا تأمنون زوال العقل، والله يحول بين المرء الكافر وطاعته، ويحول بين المرء المطيع ومعصيته، والقلوب بيد الله، يقلبها كيف يشاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ولا يستطيعون المرء أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه تعالى.
والمعنى (٣): أنه تعالى هو المتصرف في جميع الأشياء والقادر على
(١) الشوكاني.
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
383
الحيلولة بين الإنسان وبين ما يشتهيه قلبه، فهو الذي ينبغي أن يستجاب له إذا دعا، إذ بيده تعالى ملكوت كل شيء، وزمامه، وفي ذلك حض على المراقبة، والخوف من الله تعالى والبدار إلى الاستجابة له، وقال مجاهد: يحول بين المرء وعقله، فلا يدري ما يعمل عقوبة على عناده، وقال السدي: يحول بين كل واحد، وقلبه فلا يقدر على إيمان ولا كفر إلا بإذنه، وقيل: غير ذلك، وقرأ ابن أبي إسحاق ﴿بَيْنَ الْمَرْءِ﴾ بكسر الميم اتباعا لحركة الإعراب، إذ في المرء لغتان فتح الميم مطلقا، وإتباعها حركة الاعراب، وقرأ الحسن، والزهري: ﴿بين المرّ﴾ بتشديد الراء من غير همز، ووجهه: أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء، وحذف الهمزة، ثم شدها كما تشدد في الوقف، وأجرى الوصل مجرى الوقف ﴿وَ﴾ اعملوا ﴿أَنَّهُ﴾؛ أي: أن الشأن ﴿إِلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿تُحْشَرُونَ﴾ في الآخرة للجزاء على أعمالكم، فيجازيكم بحسب مراتب أعمالكم، فسارعوا إلى طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم.
٢٥ - ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً﴾ أي بلية؛ أي: واحذروا سبب بلية إن أصابتكم ﴿لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ خطاب للمؤمنين جميعا صلحائهم وغيرهم، والمراد بالفتنة العذاب الدنيوي كالقحط والغلاء وتسليط الظلمة، وغير ذلك؛ أي (١): واحذروا أيها المؤمنون فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالمين خاصة بل تتعدى إليكم جميعا، وتصل إلى الصالح والطالح، واتقاء تلك الفتنة بالنهي عن المنكر، فالواجب على كل من رآه أن يزيله إذا كان قادرا على ذلك، فإذا سكت عليه فكلهم عصاة، هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل الله تعالى الراضي بمنزلة العامل، فانتظم في العقوبة. وعلامة الرضا بالمنكر: عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارها له إلا إذا تألم له تألمه لفقد ولده، أو ماله، فكل من لم يكن بهذه الحالة فهو راض بالمنكر، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار، وعبارة المراغي هنا: وبعد أن أمرنا الله سبحانه بتلك الأوامر، ونهانا عن النواهي التي تخص أعمال الإنسان الاختيارية أمرنا أن نتقي الفتن الاجتماعية، التي لا تخص الظالمين، بل تتعداهم إلى غيرهم، وتصل
(١) المراح.
384
إلى الصالح والطالح فقال: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾؛ أي: اتقوا وقوع الفتن التي لا تختص إصابتها بمن يباشرها وحده بل تعمه وغيره، كالفتن القومية التي تقع بين الأمم في التنازع على المصالح العامة من الملك والسيادة، أو التفرق في الدين والشريعة، والانقسام إلى الأحزاب الدينية، والأحزاب السياسية، ونحو ذلك من ظهور البدع، والتكاسل في الجهاد، وإقرار المنكر الذي يقع بين أظهرهم، والمداهنة في الأمر بالمعروف، ونحو ذلك من الذنوب التي جرت سنة الله تعالى أن تعقاب عليها الأمم في الدنيا قبل الآخرة، وروي عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب. وقال عدي بن عميرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك.. عذب الله الخاصة والعامة» وقال البيضاوي:
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً﴾؛ أي: اتقوا ذنبا يعمكم أثره، كإقرار المنكر بين أظهركم، والمداهنة في الأمر بالمعروف، وافتراق الكلمة، وظهور البدع، والتكاسل في الجهاد انتهى.
وروى البخاري والترمذي «أن الناس إذا رأوا الظالم، ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده» وفي مسلم من حديث زينب بنت جحش، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم إذا كثر الخبث».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به» متفق عليه.
فإن قلت (١): ظاهر قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ يشمل الظالم وغير الظالم، كما تقدم تفسيره، فكيف يليق برحمة الله وكرمه أن يوصل الفتنة إلى من لم يذنب؟
(١) الخازن.
385
قلت: إنه تعالى مالك الملك، وخالق الخلق، وهم عبيده وفي ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، فيحسن ذلك منه على سبيل المالكية، أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على أنواع من أنواع المصلحة، والله أعلم بمراده.
وقرأ ابن (١) مسعود وعلي، وزيد بن ثابت، والباقر، والربيع بن أنس، وأبو العالية ﴿لتصيبن﴾ وفي ذلك وعيد للظالمين فقط، وعلى هذا التوجيه خرج ابن جني قراءة الجماعة ﴿لا تُصِيبَنَّ﴾ وحكى النقاش عن ابن مسعود، أنه قرأ فتن أن تصيب ﴿وَاعْلَمُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿شَدِيدُ الْعِقابِ﴾؛ أي: شديد عقابه للأمم، والأفراد، التي خالفت سننه التي لا تبديل لها ولا تحويل، أو خالفت هدى دينه المزكي، للأنفس المطهر للقلوب، ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشر سببه، والمعنى: الزموا الاستقامة خوفا من عذاب الله تعالى، وهذا العقاب (٢) منه ما هو في الدنيا، وهو مطرد في الأمم وقد أصيبت به الأمة الإسلامية في القرن الأول الذي كان أهله خير القرون بعده، إذ قصروا في درء الفتنة الأولى، فعاقبهم الله عقابا شديدا على ذلك، ثم تسلسل العقاب في كل جيل وقع فيه ذلك، ثم امتزجت الفتن المذهبية بالفتن السياسية على الملك والسلطان، حتى زالت الخلافة التي تنافسوا فيها وتقاتلوا لأجلها.
وقد يقع هذا العقاب للأفراد، لكنهم ربما لا يشعرون به، لأنه يقع تدريجيا، فلا يكاد يحس به، وأما العقاب الأخروي فأمره الله إلى العالم بالسر والنجوى، والذي جعل العقاب آثارا طبيعية للذنوب التي تجترحها الأفراد والأمم.
٢٦ - وقوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾ خطاب للمهاجرين يذكرهم فيه سبحانه بما كان من ضعفهم وقلتهم، وقد يكون الخطاب للمؤمنين عامة في عصر التنزيل، يذكرهم فيه بما كان من ضعف أمتهم العربية في الجزيرة بين الدول القوية من فارس والروم.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
386
أي: واذكروا يا معشر المهاجرين ﴿إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾ في العدد في أول الإسلام ﴿مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: مقهورون في أرض مكة ﴿تَخافُونَ﴾ من مبدأ الإسلام إلى حين الهجرة إذا خرجتم من البلد ﴿أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾؛ أي: أن يأخذكم مشركو العرب من قريش وغيرها، بسرعة لشدة عداوتهم لكم، ولقربهم منكم، والمراد أن ينتزعوكم بسرعة، فيفتكوا بكم كما كان يتخطف بعضهم بعضا في خارج الحرم، وتتخطفهم الأمم من أطراف جزيرتهم، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ ﴿فَآواكُمْ﴾ وضمكم أيها المهاجرون إلى الأنصار ونقلكم إلى المدينة فصرتم آمنين من كفار مكة، ﴿وَأَيَّدَكُمْ﴾ وإياهم؛ أي: قواكم ﴿بِنَصْرِهِ﴾ سبحانه وتعالى إياكم في بدر، وفي سائر غزواتكم، ويؤيدكم على من سواكم من فارس والروم، وغيرهما كما وعدكم بذلك في كتابه الكريم، ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ﴾؛ أي: من الغنائم وغيرها، وكانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ هذه النعم العظيمة؛ أي: رجاء أن تشكروا هذه النعم وغيرها مما يؤتيكم من فضله كما وعد في كتابه ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.
وقد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾ الآية.
قال كان هذا الحي أذل الناس ذلا، وأشقاه عبثا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا وأبينه ضلالة معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم، لا والله ما في بلادهم ما يحسدون عليه من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردي في النار يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلا من حاضر الأرض يومئذ كان أشر منهم منزلا حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من نعم الله عز وجل.
وفي الآية من العبرة التي يجب على المؤمنين أن يتذكروها أنه أورث من اهتدى بهديه سعادة الدنيا وبسطة السلطان، ومكن لأهله في الأرض، وأنالهم ما لم يكونوا يرجونه لولا هدى الدين، وأورثهم في الآخرة فوزا ورضوانا من ربهم وروحا، وريحانا، وجنة نعيم.
387
هذا حين كانوا يعملون بهديه، فلما أعرضوا عنه، ونأوا بجانبهم، عاقبهم الله بما جرت به سننه في الأرض، فأضاعوا ملكهم، وسلط عليهم أعداءهم، فليعتبر المسلمون بما حل بهم، وليرجعوا إلى تاريخ أسلافهم، وليستضيؤوا بنورهم، وليتوبوا إلى رشدهم، لعله يعيد إليهم تراثهم الغابر، وعزهم الماضي ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
٢٧ - ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿لا تَخُونُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى (١) فتعطلوا فرائضه، أو تتعدوا حدوده، وتنتهكوا محارمه التي بينها لكم في كتابه، ﴿وَ﴾ لا تخونوا ﴿الرَّسُولَ﴾ محمدا صلى الله عليه وسلّم فترغبوا عن بيانه لكتابه إلى بيانه بأهوائكم، أو أراء مشايخكم، أو آبائكم، أو أوامر أمرائكم، أو ترك سنته إلى سنة آبائكم وزعمائكم زعما منكم أنهم أعلم بمراد الله ورسوله منكم، ﴿وَ﴾ لا ﴿تَخُونُوا أَماناتِكُمْ﴾ فيما بين بعضكم وبعض آخر منكم من المعاملات المالية، وغيرها حتى الشؤون الأدبية، والاجتماعية، فإفشاء السر خيانة محرمة، ويكفي في العلم بكونه سرا قرينة قولية كقول محدثك: هل يسمعنا أحد، أو فعلية كالالتفات لرؤية من عساه يجيء، وآكد الأمانات السر وأحقها بالحفظ ما يكون بين الزوجين، كذلك لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وبين أولي الأمر من شؤون سياسية أو حربية، فتطلعوا عليها عدوكم، وينتفع بها في الكيد لكم، وقرأ مجاهد ﴿أمانتكم﴾ بالإفراد، والمراد الجمع.
والخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين، قال أنس بن مالك: قلما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا قال: «لا إيمان لمن لا عهد له» رواه الإمام أحمد.
وروى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».
(١) المراغي.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: والحال أنكم تعلمون مفاسد الخيانة، وتحريم الله إياها وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة، وقد يكون المعنى: وأنتم تعلمون أنّ ما فعلتموه خيانة لظهوره، فإن خفي عليكم حكمه، فالجهل له عذر إذا لم يكن مما علم من الدين ضرورة، أو مما يعلم ببداهة العقل، أو باستفتاء القلب، كفعلة أبي لبابة التي كان سببها الحرص على المال والولد، ومن ثم فطن لها قبل أن يبرح مكانه،
٢٨ - ﴿وَاعْلَمُوا﴾؛ أيها المؤمنون ﴿أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ عظيمة مانعة لكم عن أمور الآخرة؛ أي: محنة يظهر بها ما في النفس من اتباع الهوى، أو تجنبه، ولذلك مال أبو لبابة إلى قريظة في إطلاعهم على حكم سعد، لأنّ ماله وولده كان فيهم؛ أي: (١) إن فتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذوي الألباب، إذ أموال الإنسان عليها مدار معيشته، وتحصيل رغائبه، وشهواته، ودفع كثير من المكاره عنه من أجل ذلك يتكلف في كسبها المشاق، ويركب الصعاب ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام، ويرغبه في القصد والاعتدال ويتكلف العناء في حفظها، وتتنازعه الأهواء في انفاقها، ويفرض عليه الشارع فيها حقوقا معينة، وغير معينة كالزكاة، ونفقات الأولاد، والأزواج وغيرها وأما الأولاد فحبهم مما أودع في الفطرة، فهم ثمرات الأفئدة وأفلاذ الأكباد لدى الآباء والأمهات، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهم من مال، وصحة، وراحة، وقد روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم: «الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة».
فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الذنوب والآثام في سبيل تربيتهم، والإنفاق عليهم، وتأثيل الثروة لهم، وكل ذلك قد يؤدي إلى الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق، أو الأمة، أو الدين، وإلى البخل بالزكاة،
(١) المراغي.
والنفقات المفروضة، والحقوق الثابتة، كما يحملهم ذلك على الحزن على من يموت منهم بالسخط على المولى والاعتراض عليه، إلى نحو ذلك من المعاصي كنوح الأمهات، وتمزيق ثيابهن، ولطم وجوههن، وعلى الجملة: ففتنة الأولاد أكثر من فتنة الأموال، الرجل يكسب المال الحرام، ويأكل أموال الناس بالباطل، لأجل الأولاد.
فيجب على المؤمن أن يتقي الفتنتين، فيتقي الأولى بكسب المال من الحلال، وإنفاقه في سبيل البر، والإحسان، ويتّقي خطر الثانية من ناحية ما يتعلق منها بالمال، ونحوه بما يشير إليه الحديث، ومن ناحية ما أوجبه الدين من حسن تربية الأولاد، وتعويدهم الدين والفضائل، وتجنيبهم المعاصي والرذائل.
﴿وَ﴾ اعلموا أيها المؤمنون ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وثواب جسيم، فعليكم أن تؤثروا ما عند ربكم من الأجر العظيم، بمراعاة أحكام دينه، في الأموال والأولاد على ما عساه قد يفوتكم في الدنيا من التمتع بهما، فإنّ سعادة الآخرة، وهو ثواب الله تعالى، خير من سعادة الدنيا، وهو المال والولد؟ لأن سعادة الآخرة لا نهاية لها، ولا انقضاء، وسعادة الدنيا تفنى وتنقضي.
٢٩ - ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: إن تمتثلوا أوامر الله وتجتنبوا نواهيه ﴿يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا﴾؛ أي: نجاة مما تخافون في الدارين، أو يجعل لكم نورا، وتوفيقا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل، وقال مجاهد: يجعل لكم مخرجا في الدنيا والآخرة، وقال مقاتل: مخرجا في الدين من الشبهات، وقال عكرمة: نجاة، أي: يفرق بينكم وبين ما تخافون، وقال محمد بن إسحاق: فصلا بين الحق والباطل، يظهر الله به حقكم، ويطفىء باطل من خالفكم، وقيل: يفرق بينكم وبين الكفار، بأن يظهر دينكم ويعليه، ويبطل الكفر ويوهنه، أو نصرا، لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله، أو بيانا وظهورا في أقطار الأرض {وَيُكَفِّرْ
390
عَنْكُمْ}؛ أي: يمح (١) عنكم ﴿سَيِّئاتِكُمْ﴾؛ أي: الصغائر منها ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾؛ أي: يستر لكم الكبائر منها ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾؛ أي: ذو المن والعطاء الجسيم على عباده بالمغفرة والجنة، أو المعنى: ﴿يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ﴾؛ أي: يسترها في الدنيا ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾؛ أي: يزلها في الآخرة، وفي «الصاوي»: قوله: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ عطف مرادف على ما قبله، انتهى وفي «البحر»: وإنما تغاير الظرفان لئلا يلزم التكرار ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾؛ لأنه هو الذي يفعل ذلك بكم، فله الفضل العظيم عليكم، وعلى غيركم من خلقه، ومن كان كذلك فإنه إذا وعد بشيء وفى به، قيل: إنه يتفضل على الطائعين بقبول الطاعات، ويتفضل على العاصين بغفران السيئات، وقيل: معناه إن بيده الفضل العظيم، فلا يطلب من عند غيره.
وفي قوله: ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ إيماء (٢) وتنبيه إلى أنّ ما وعد به المتقين من المثوبة فضل منه وإحسان، تفضل به علينا بدون واسطة، وبدون التماس عوض.
الإعراب
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥)﴾.
﴿يا أَيُّهَا﴾ يا حرف نداء ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة ﴿ها﴾ حرف تنبيه زائد تعويضا عما فات ﴿أي﴾ من الإضافة، وجملة النداء مستأنفة ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الرفع صفة لـ ﴿أي﴾، ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، إِذا ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿لَقِيتُمُ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر بإضافة ﴿إِذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
391
﴿زَحْفًا﴾ حال من المفعول به وهو الذين فهو مصدر مؤول بمشتق تقديره: حال كونهم زاحفين، ﴿فَلا﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إِذا﴾، وجوبا لكون الجواب جملة طلبية ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ﴾ فعل وفاعل ومفعولان مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة جواب إذ لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا جواب النداء، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلى فِئَةٍ﴾.
﴿وَمَنْ﴾ الواو: استئنافية ﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما ﴿يُوَلِّهِمْ﴾ فعل ومفعول أول مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على من ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ﴿يوم﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿يُوَلِّهِمْ﴾ ﴿يوم﴾ مضاف ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر، مضاف إليه، مبني بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين ﴿دُبُرَهُ﴾ مفعول ثان، ومضاف إليه، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء ﴿مُتَحَرِّفًا﴾ إما منصوب على الاستثناء من ضمير المؤمنين؛ أي: ومن يولهم إلا رجلا منهم ﴿مُتَحَرِّفًا﴾ أو متحيزا أو حال من فاعل ﴿يُوَلِّهِمْ﴾ ﴿لِقِتالٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُتَحَرِّفًا﴾ واللام فيه للتعليل ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا﴾ معطوف عليه ﴿إِلى فِئَةٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُتَحَيِّزًا﴾.
﴿فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.
﴿فَقَدْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبا لكون الجواب مقرونا بـ ﴿قد﴾، ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿باءَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة استئنافا بيانيا، لا محل لها من الإعراب، ﴿بِغَضَبٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿باءَ﴾ أو حال من فاعله، والباء فيه للملابسة؛ أي ملتبسا ومصحوبا بغضب ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلقان بـ ﴿باءَ﴾، ﴿وَمَأْواهُ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه، ﴿جَهَنَّمُ﴾ خبره، ولم ينون للعلمية، والتأنيث المعنوي، والجملة الاسمية في محل الجزم معطوفة على جملة ﴿باءَ﴾ على
392
كونها جوابا لـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية ﴿وَبِئْسَ﴾ الواو: استئنافية ﴿بِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فعل وفاعل، وهو من أفعال الذم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي، وهو مبتدأ، خبره جملة ﴿بِئْسَ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)﴾.
﴿فَلَمْ﴾ ﴿الفاء﴾ (١) فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره، إن افتخرتم بقتلهم، وأردتم بيان حقيقة الأمر فيهم، فأقول لكم: أنتم لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم، لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء لكم النصر والظفر، وقوى قلوبكم، وأذهب عنها الفزع والجزع كما ذكره الزمخشري ﴿لم تقتلوهم﴾ جازم وفعل وفاعل ومفعول والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿وَلكِنَّ﴾ الواو: عاطفة ﴿لكِنَّ﴾ حرف نصب واستدراك، ﴿اللَّهَ﴾ اسمها ﴿قَتَلَهُمْ﴾ فعل ومفعول وفاعله، ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿لكِنَّ﴾ وجملة ﴿لكِنَّ﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لم تقتلوهم﴾ على كونها مقولا لجواب إذا المقدرة، ﴿وَما﴾ الواو: عاطفة ما نافية ﴿رَمَيْتَ﴾ فعل، وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾، وصح العطف عليها؛ لأن (٢) المضارع المنفي بـ ﴿لم﴾ في قوة الماضي المنفي بما، فإنك إذا قلت: لم يقم كان معناه، ما قام ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية ﴿رَمَيْتَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿رَمَيْتَ﴾؛ أي: وما رميت الرعب والهزيمة في قلوبهم، وقت رميك إياهم بالحصى ﴿وَلكِنَّ﴾ الواو: عاطفة ﴿لكِنَّ﴾ حرف استدراك ونصب ﴿اللَّهَ﴾ اسمها ﴿رَمى﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر ﴿لكِنَّ﴾، وجملة ﴿لكِنَّ﴾ معطوفة على جملة {وَما
(١) البحر المحيط.
(٢) الفتوحات.
393
رَمَيْتَ}. ﴿وَلِيُبْلِيَ﴾ الواو: عاطفة ﴿لِيُبْلِيَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل ﴿يبلي﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ مفعول أول، ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿يبلى﴾ ﴿بَلاءً﴾ مفعول ثان ﴿حَسَنًا﴾ صفة له. قال الزمخشري؛ أي: وليعطي المؤمنين من عنده عطاء جميلا، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولإبلائه المؤمنين منه بلاء حسنا، الجار والمجرور معطوف على علة محذوفة تقديره، ولكن الله رمى، وفعل بالكفار ما فعل لمحق الكافرين، ولإبلائه المؤمنين منه بلاء حسنا، كما أشرنا إليه في مبحث التفسير. ﴿إِنَّ﴾ حرف مشبه بالفعل ﴿اللَّهَ﴾ اسمها منصوب ﴿سَمِيعٌ﴾ خبرها مرفوع ﴿وعَلِيمٌ﴾ خبر ثان مرفوع.
﴿ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)﴾.
﴿ذلِكُمْ﴾ مبتدأ وخبره محذوف جوازا تقديره ذلكم الإبلاء، والقتل والرمي حق، والجملة مستأنفة، ﴿وَأَنَّ﴾ الواو: عاطفة ﴿أَنَّ﴾ حرف نصب ومصدر ﴿اللَّهَ﴾ اسمها ﴿مُوهِنُ﴾ خبرها ﴿كَيْدِ﴾ بالجر مضاف إليه، وبالنصب مفعول مُوهِنُ. ﴿الْكافِرِينَ﴾ مضاف إليه وجملة أن في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأ خبره محذوف تقديره: وتوهين الله كيد الكافرين، حق، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿ذلِكُمْ﴾، ويجوز أن تكون جملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم المحذوف تقديره: واعلموا توهين الله كيد الكافرين.
﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)﴾.
﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا﴾ جازم وفعل وفاعل ﴿فَقَدْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب إن الشرطية، وجوبا لكون الجواب مقرونا بـ ﴿قد﴾ ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿جاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة ﴿وَإِنْ تَنْتَهُوا﴾ جازم وفعل وفاعل ﴿فَهُوَ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبا لكون الجواب جملة اسمية ﴿هو خير﴾ مبتدأ وخبر ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾، والجملة الاسمية في محل
394
الجزم جواب إن الشرطية، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إِنْ﴾ الأولى ﴿وَإِنْ تَعُودُوا﴾ جازم وفعل وفاعل ﴿نَعُدْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ إِنْ على كونه جوابا لها، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إِنْ﴾ الأولى، ﴿وَلَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لَنْ﴾ حرف نصب ﴿تُغْنِيَ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿لَنْ﴾ ﴿عَنْكُمْ﴾ متعلق به ﴿فِئَتُكُمْ﴾ فاعل، ومضاف إليه ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة ﴿نَعُدْ﴾ ﴿وَلَوْ﴾ الواو: عاطفة ﴿لَوْ﴾ حرف شرط ﴿كَثُرَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الفئة، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ وجوابها محذوف تقديره: فلن تغنى عنكم، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة محذوفة تقديره، ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا إن وجدت ولو كثرت ﴿وَإِنْ﴾ الواو: استئنافية ﴿إِنْ﴾ حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾ اسمها ﴿مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ خبرها، وجملة ﴿إِنْ﴾ في تأويل مصدر ساد من مفعولي علم المحذوف تقديره: واعلموا كون الله مع المؤمنين بالنصر والإمداد، والجملة مستأنفة.
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾.
﴿يا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء ﴿أي﴾ منادي نكرة مقصودة ﴿ها﴾ حرف تنبيه ﴿الَّذِينَ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾ وجملة النداء مستأنفة ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل، ومفعول ﴿وَرَسُولَهُ﴾ معطوف على الجلالة والجملة جواب النداء ﴿وَلا تَوَلَّوْا﴾ جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَطِيعُوا﴾ ﴿عَنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿تَوَلَّوْا﴾ ﴿وَأَنْتُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿تَسْمَعُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿تَوَلَّوْا﴾. ﴿وَلا تَكُونُوا﴾ جازم وفعل ناقص واسمه ﴿كَالَّذِينَ﴾ خبره، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَلا تَوَلَّوْا﴾ ﴿قالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿سَمِعْنا﴾ مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾ وان شئت قلت: ﴿سَمِعْنا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾ ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ وجملة ﴿لا يَسْمَعُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل
395
النصب حال من واو: ﴿قالُوا﴾.
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿شَرَّ الدَّوَابِّ﴾ اسم ﴿إِنَّ﴾ ومضاف إليه، ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿شَرَّ﴾، ﴿الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ﴾ كل من الثلاثة خبر المبتدأ كقولهم: الرمان حلو حامض، وجملة ﴿لا يَعْقِلُونَ﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿إِنَّ﴾ من اسمها وخبرها مستأنفة. ﴿وَلَوْ﴾ الواو: استئنافية ﴿لَوْ﴾ حرف شرط ﴿عَلِمَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿فِيهِمْ﴾ متعلق بـ عَلِمَ ﴿خَيْرًا﴾ مفعول به ﴿لَأَسْمَعَهُمْ﴾ ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية ﴿أسمعهم﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ﴾ حرف شرط وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَتَوَلَّوْا﴾ ﴿اللام﴾ رابطة لجواب لو الشرطية ﴿تولوا﴾ فعل وفاعل والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿لَوْ﴾ الأولى ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿تولوا﴾.
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)﴾.
﴿يا أَيُّهَا﴾ منادى نكرة مقصودة ﴿الَّذِينَ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾ وجملة النداء مستأنفة ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿اسْتَجِيبُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب، ﴿لِلَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿اسْتَجِيبُوا﴾ ﴿وَلِلرَّسُولِ﴾ معطوف على الجار، والمجرور قبله ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿دَعاكُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الرسول﴾ وجملة ﴿دعا﴾ في محل الخفض بإضافة ﴿إِذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب المحذوف، تقديره: إذا دعاكم لما يحييكم.. استجيبوا لله وللرسول ﴿لِما﴾ جار
396
ومجرور متعلق بـ ﴿دعا﴾ ﴿يُحْيِيكُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾ والجملة الفعلية صلة ﴿لِما﴾ أو صفة لها ﴿وَاعْلَمُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿اسْتَجِيبُوا﴾ ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿يَحُولُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿بَيْنَ الْمَرْءِ﴾ ظرف ومضاف إليه، ﴿وَقَلْبِهِ﴾ معطوف على ﴿الْمَرْءِ﴾ والظرف متعلق بـ ﴿يَحُولُ﴾، وجملة ﴿يَحُولُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾ وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: واعلموا حيلولة الله بين المرء وقلبه، ﴿وَأَنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُحْشَرُونَ﴾ وجملة ﴿تُحْشَرُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ معطوفة على جملة ﴿أَنَّ﴾ الأولى على كونها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: وحشركم إليه تعالى.
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ﴾.
﴿وَاتَّقُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿اسْتَجِيبُوا﴾ على كونها جواب النداء ﴿فِتْنَةً﴾ مفعول به ﴿لا﴾ نافية ﴿تُصِيبَنَّ﴾ فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على فتنة ﴿الَّذِينَ﴾ مفعوله، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿فِتْنَةً﴾ ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل والجملة صلة الموصول ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور حال من واو ﴿ظَلَمُوا﴾ ﴿خَاصَّةً﴾ منصوب على الحال من الفاعل المستتر في قوله ﴿لا تُصِيبَنَّ﴾ وأصلها أن تكون صفة لمصدر محذوف تقديره إصابة خاصة كما في «السمين» ﴿وَاعْلَمُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْتَجِيبُوا﴾ ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ خبر ﴿أَنَّ﴾ ومضاف إليه، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره، واعلموا شدّة عذاب الله تعالى.
﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)﴾.
397
﴿وَاذْكُرُوا﴾ فعل وفاعل والجملة معطوفة على جملة ﴿اسْتَجِيبُوا﴾ ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ ﴿اذْكُرُوا﴾ ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ ﴿قَلِيلٌ﴾ خبر والجملة الاسمية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿مُسْتَضْعَفُونَ﴾ صفة أولى لـ ﴿قَلِيلٌ﴾ ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به، ﴿تَخافُونَ﴾ فعل وفاعل، والجلمة في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿قَلِيلٌ﴾، ﴿أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾ ناصب وفعل ومفعول، وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿تَخافُونَ﴾ تقديره: تخافون تخطف الناس إياكم، ﴿فَآواكُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتفريع ﴿أواكم﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة مفرعة على الجملة الاسمية، في قوله: ﴿إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾ على كونها مضافا إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿وَأَيَّدَكُمْ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿أواكم﴾ ﴿بِنَصْرِهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أَيَّدَكُمْ﴾ ﴿وَرَزَقَكُمْ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿أواكم﴾ ﴿مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿رزق﴾ ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿تَشْكُرُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧)﴾.
﴿يا أَيُّهَا﴾ منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء مستأنفة ﴿الَّذِينَ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾ ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول ﴿لا تَخُونُوا اللَّهَ﴾ جازم وفعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء، ﴿وَالرَّسُولَ﴾ معطوف على الجلالة ﴿وَتَخُونُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على تخونوا الأول ﴿أَماناتِكُمْ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، ﴿وَأَنْتُمْ﴾ مبتدأ وجملة ﴿تَعْلَمُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو ﴿تَخُونُوا﴾ ومفعول ﴿تَعْلَمُونَ﴾ محذوف تقديره: وأنتم تعلمون أن ما وقع منكم خيانة.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
﴿وَاعْلَمُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿تَخُونُوا﴾ على كونه جواب النداء، ﴿أَنَّما﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب و ﴿ما﴾ كافة لكفها ما قبلها عن العمل، فيما بعدها
398
﴿أَمْوالُكُمْ﴾ مبتدأ ﴿وَأَوْلادُكُمْ﴾ معطوف عليه ﴿فِتْنَةٌ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: واعلموا كون أموالكم وأولادكم فتنة ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿عِنْدَهُ﴾ ظرف ومضاف إليه خبر مقدم ﴿أَجْرٌ﴾ مبتدأ مؤخر ﴿عَظِيمٌ﴾ صفة لأجر، وجملة المبتدأ والخبر، في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿أَنَّما﴾ على كونها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿علم﴾ تقديره وكون أجر عظيم عند الله تعالى.
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)﴾.
﴿يا أَيُّهَا﴾ منادى نكرة مقصودة، والجملة مستأنفة ﴿الَّذِينَ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾ ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ﴾ جازم وفعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿يَجْعَلْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه جواب الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به ﴿فُرْقانًا﴾ مفعول به، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية من فعل شرطها وجوابها جواب النداء لا محل لها من الإعراب، ﴿وَيُكَفِّرْ﴾ معطوف على ﴿يَجْعَلْ﴾ وفاعله ضمير يعود على الله ﴿عَنْكُمْ﴾ متعلق به ﴿سَيِّئاتِكُمْ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، ﴿وَيَغْفِرْ﴾ معطوف على يجعل وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿ذُو الْفَضْلِ﴾ خبر ومضاف إليه، ﴿الْعَظِيمِ﴾ صفة لـ ﴿الْفَضْلِ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿زَحْفًا﴾ من زحف (١) إذا مشى على بطنه كالحية، أو دبّ على مقعده، كالصبي، أو على ركبتيه، أو مشى بثقل في الحركة واتصال وتقارب في الخطو كزحف صغار الجراد، والعسكر المتوجه إلى العدوّ لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه
(١) المراغي.
399
يزحف، إذ الكل يرى كجسم واحد متصل، فتحس حركته بطيئة، وإن كانت في الواقع سريعة، وفي «المصباح» زحف القوم زحفا من باب نفع وزحوفا، ويطلق على الجيش الكثير، زحف تسمية بالمصدر، والجمع زحوف مثل فلس وفلوس، والصبي يزحف على الأرض قبل أن يمشي، وزحف البعير إذا أعيا فجر فرسنه، وأزحف بالألف، ومنه قيل: زحف الماشي، وأزحف أيضا إذا أعيا. انتهى.
﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ﴾ ﴿الْأَدْبارَ﴾: جمع دبر، وهو الخلف، ومقابله القبل، ومن ثم يكنى بهما عن السؤتين، وتولية الدبر والأدبار، يراد بهما الهزيمة، لأن المنهزم يجعل خصمه متوجها إلى دبره ومؤخره، وفي «الجمل» (١): يطلق الدبر على مقابل القبل، ويطلق على الظهر، وهو المراد هنا، والمقصود ملزوم تولية الظهر، وهو الانهزام، فهذا اللفظ استعمل في ملزوم معناه. انتهى.
﴿إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ﴾؛ أي: لأجل التمكن من القتال، والمتحرف للقتال أو غيره: هو المنحرف عن جانب إلى آخر من الحرف، وهو الطرف ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا﴾ والمتحيز (٢) المنضم إلى جانب، وقال أبو عبيدة: التحيز، والتحوز، التنحي والتحوز الانضمام، وقال الليث: ما لك متحوزا إذا لم تستقر على الأرض، وأصله: من الحوز وهو الجمع، يقال: حزته في الطرس، فانحاز، وتحيز انضم، واجتمع، وتحوزت الحية انطوت واجتمعت، وسمي التنحي تحيزا؛ لأنّ المتنحي عن جانب ينضم عنه، ويجتمع إلى غيره، وتحيز تفيعل أصله تحيوز اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء، وتحوز تفعل ضعفت عينه، ووزن (٣) متحيز متفيعل، والأصل: متحيوز فاجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء ﴿إِلى فِئَةٍ﴾ والفئة: الطائفة من الناس ﴿وَمَأْواهُ﴾ والمأوى: الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان، ﴿وَما رَمَيْتَ﴾ والرمي معروف، ويكون بالسهم، والحجر والتراب ﴿بَلاءً﴾ هو اسم مصدر لأبلى يبلي إبلاء وبلاء، والمراد به هنا: المبلو به، أي:
(١) الفتوحات.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الفتوحات.
400
المعطى ﴿مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ﴾ والموهن: المضعف من أوهنه إذا أضعفه، والكيد: التدبير الذي يقصد به غير ظاهره، فتسوء عاقبة من يقصد به ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا﴾ والاستفتاح: طلب الفتح، والفصل في الأمر كالنصر في الحرب.
﴿لا تَخُونُوا اللَّهَ﴾ الخيانة (١): لغة تدل على الإخلاف والخيبة بنقص ما كان يرجى ويؤمل من الخائن، فقالوا: خانه سيفه إذا نبا عن الضربة، وخانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي، ومنه قوله: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾؛ أي: تنقصونها بعص ما أحل لها من اللذات، ثمّ استعمل في ضد الأمانة والوفاء؛ لأن الرجل إذا خان الرجل فقد أدخل عليه النقصان، ﴿أَمِنْتُكُمْ﴾ جمع أمانة، والأمانة كل حقّ مادي أو معنوي يجب عليك أداؤه إلى أهله، قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾.
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً﴾ والفتنة: الاختبار والامتحان بما يشق على النفس فعله أو تركه، أو قبوله أو إنكاره، فهي تكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال، والأشياء، فيمتحن الله المؤمنين والكافرين، والصادقين والمنافقين، ويجازيهم بما يترتب على فتنتهم من اتباع الحق، أو الباطل، وعمل الخير أو الشر ﴿أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾ وفي «المصباح» خطفه يخطفه من باب تعب استلبه بسرعة وخطفه خطفا من باب ضرب لغة، واختطف وتخطف مثله، والخطفة مثل تمرة المرّة يقال لما اختطفه الذئب ونحوه من حيوان، هي خطفة تسمية بذلك اه.
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ﴾ التقوى: ترك الذنوب، والآثام، وفعل ما يستطاع من الطاعات، والواجبات الدينية، وبعبارة أخرى: هي اتقاء ما يضر الإنسان في نفسه، وفي جنسه، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة، والغايات الحسنة.
﴿يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا﴾ والفرقان أصله الفرق، والفصل بين الشيئين أو الأشياء، ويراد به هنا نور البصيرة الذي به يفرق بين الحق والباطل والضار والنافع،
(١) المراغي.
401
وبعبارة ثانية: هو العلم الصحيح والحكم الرجيح، وقد أطلق هذا اللفظ على التوراة والإنجيل، والقرآن، وغلب على الأخير قال تعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا (١)﴾ من قبل أن كلامه تعالى يفرق في العلم والاعتقاد بين الإيمان والكفر، والحق والباطل، والعدل والجور، والخير والشر، والفرقان (١) في الأصل: مصدر فرق بين الشيئين؛ أي: حال بينهما. وقال ابن عباس وجماعة: ﴿فُرْقانًا﴾؛ أي: مخرجا في الدين من الضلال، وقال مزرد بن ضرار:
بادر الأفق أن يغيب فلمّا أظلم اللّيل لم يجد فرقانا
وقال الآخر:
ما لك من طول الأسى فرقان بعد قطين رحلوا وبانوا
وقال الآخر:
وكيف أرجو الخلد والموت طالبي وما لي من كأس المنيّة فرقان
أو مخرجا من الشبهات، وتوفيقا وشرحا للصدور؛ أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان وفضلا ومزية في الدنيا والآخرة، ولفظ ﴿فُرْقانًا﴾ مطلق، فيصلح لما يقع به فرق بين المؤمنين والكافرين في أمور الدنيا والآخرة.
والتقوى هنا: إن كانت من اتقاء الكبائر، كانت السيئات الصغائر، ليتغاير الشرط والجزاء، وتكفيرها في الدنيا ومغفرتها إزالتها في القيامة، وتغاير الظرفان لئلا يلزم التكرار كما مرّ في بحث التفسير.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا وضروبا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التشبيه البليغ في قوله ﴿زَحْفًا﴾ لأن المعنى (٢) على التشبيه بالزاحفين
(١) البحر المحيط.
(٢) الفتوحات.
402
على أدبارهم في بطء السير، وذلك لأنّ الجيش إذا كثر والتحم بعضه ببعض يتراءى أن سيره بطيء، وإن كان في نفسه سريعا، فالمراد من هذه الحال بعد كون المراد التشبيه ما يلزم هذه المشابهة، وهو: الكثرة.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ﴾ لما فيه من إطلاق اللازم، وهو تولية الظهر، وإرادة الملزوم، وهو الانهزام، فكأنه قال: فلا تنهزموا.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ حيث عدل عن ذكر الظهر إلى الدبر تعريضا (١) بسوء حالهم، وقبح فعالهم، وخساسة منزلتهم، بذكر ما يستهجن ذكره، وهو الدبر، وبعض البيانيين يسمي هذا بالإيماء، وبعضهم بالكناية، وهذا ليس بشيء فإن الكناية أن تصرّح باللفظ الجميل على المعنى القبيح. ذكره في التحرير.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ﴾ وفي قوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ وفي قوله: ﴿وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ﴾ وفي قوله: ﴿سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ والجناس المغاير في قوله: ﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا﴾ وفي قوله: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ وفي وقوله: ﴿لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ﴾.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ لأن الأصح أن يكون الخطاب للمشركين على سبيل التهكم، كقوله: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)﴾ لأنهم هم الذين وقع بهم الهلاك، والفتح وقع لغيرهم.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ لأنه كناية (٢) عن كونه أقرب للشخص من قلبه لذاته، بل هو تعالى
(١) البحر المحيط.
(٢) الصاوي.
403
أقرب من السمع للأذن، ومن البصر للعين، ومن اللمس للجسد، ومن الشم للأنف، ومن الذوق للسان، فشبه القرب بالحيلولة، واستعير اسم المشبه به، وهو الحيلولة للمشبه وهو القرب، واشتق من الحيلولة ﴿يَحُولُ﴾ بمعنى يقرب على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ لما فيه من إطلاق المسبب الذي هو المصائب والفتن، وإرادة السبب الذي هو الذنوب والمعاصي.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
404
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الآية، مناسبة (١) هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر المؤمنين عامة بنعمه عليهم بقوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ﴾.. ذكر هنا نعمه على رسوله خاصة، بدفع كيد المشركين، ومكر الماكرين بنصره عليهم، وخيبة مسعاهم في إيقاع الأذى به بعد أن تآمروا عليه، وقطعوا برأي معين فيه.
قوله تعالى: ﴿وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً...﴾
(١) المراغي.
405
مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله (١) سبحانه وتعالى لما نفى عنهم أن يكونوا ولاة البيت.. ذكر من فعلهم القبيح، ما يؤكد ذلك، وأن من كانت صلاته ما ذكر لا يستأهل أن يكونوا أوياءه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أن الله سبحانه وتعالى لما بيّن أحوال هؤلاء المشركين في الطاعات البدنية بقوله: ﴿وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً﴾.. أردف ذلك بذكر أحوالهم في الطاعات المالية.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما ذكر (٣) الله سبحانه وتعالى ما يحل بهم من حشرهم إلى النار، وجعلهم فيها وخسرهم.. تلطف بهم، وأنهم إذا انتهوا عن الكفر، وآمنوا غفرت لهم ذنوبهم السالفة، وليس ثم ما يترتب على الانتهاء عنه غفران الذنوب سوى الكفر، فلذلك كان المعنى أن ينتهوا عن الكفر.
وعبارة «المراغي» هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما بين حال من يصرّ على الكفر، والصد عن سبيل الله، وقتال رسوله والمؤمنين، وعاقبة أعمالهم في الدنيا والآخرة.. أردف ذلك ببيان من يرجعون عنه، ويدخلون في الإسلام، لأن الأنفس في حاجة إلى هذا البيان.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الآية، أجمع المفسرون على أن سبب نزول هذه الآية: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما بويع (٤) رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة العقبة، وأمر أصحابه أن يلحقوا بالمدينة، أشفقت قريش أن يعلو أمره، وقالوا: والله لكأنكم به قد كر عليكم بالرجال، فاجتمع جماعة من
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) زاد المسير.
406
أشرافهم ليدخلوا دار الندوة فيتشاوروا في أمره، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ كبير، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا شيخ من أهل نجد، سمعت ما اجتمعم له، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا من رأيي نصحا، فقالوا: ادخل، فدخل معهم، فقالوا: انظروا في أمر هذا الرجل، فقال بعضهم: احبسوه في وثاق، وتربصوا به ريب المنون، فقال إبليس: ما هذا برأي يوشك أن يغضب له قومه، فيأخذوه من أيديكم، فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم، فتستريحوا من إيذائه لكم، فقال إبليس لا مصلحة لكم فيه، لأنه قد يجمع طائفة على نفسه، ويقاتلكم بهم، فقال أبو جهل: الرأي أن نجمع من كل قبيلة غلاما، ثم نعطي كل غلام سيفا فيضربوه به ضربة رجل واحد، فيفرق دمه في القبائل، فلا تقدر بنو هاشم على محاربة قريش كلها، فيرضون بأخذ الدية، فقال إبليس: هذا هو الرأي الصواب، فتفرقوا عن ذلك، وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت في مضجعه تلك الليلة، وأمر عليا فبات في مكانه، وبات المشركون يحرسونه، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم أذن الله له في الخروج إلى المدينة، وجاء المشركون لما أصبحوا، فرأوا عليّا فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره حتى بلغوا الجبل، فمروا بالغار، فرأوا نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخله لم يكن عليه نسج العنكبوت، فأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة، يذكره نعمته عليه ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الآية. ذكره ابن هشام في «سيرته» (١/ ٤٨٠ - ٤٨٣) قال فيه، قال ابن إسحاق: حدثني به من لا أتهم من أصحابنا، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، وغيره ممن لا أتهم عن عبد الله بن عباس، ورواه أحمد في «مسنده» رقم (٣٢٥١) مختصرا.
قوله تعالى: ﴿وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن جرير عن سعيد بن جبير، قال: قتل النبي صلى الله عليه وسلّم يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وكان المقداد
(١) لباب النقول.
407
أسر النضر، فلما أمر بقتله، قال المقداد: يا رسول الله: أسيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول، قال: وفيه أنزلت هذه الآية ﴿وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا...﴾» الآية.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير، قال: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث.
وروى البخاري عن أنس قال: قال أبو جهل بن هشام: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ...﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المشركون يطوفون بالبيت، ويقولون: غفرانك، غفرانك، فأنزل الله ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ...﴾ الآية.
ولا مانع من أن الآية نزلت في هذا وهذا، وأنهما معا كانا سببا لنزول الآية. والله أعلم.
وأخرج (١) ابن جرير عن ابن أبزى، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكة فأنزل الله: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ فخرج إلى المدينة، فأنزل الله ﴿وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، وكان أولئك البقية من المسلمين، الذين بقوا فيها يستغفرون، فلما خرجوا أنزل الله: ﴿وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ...﴾ الآية، فأذن في فتح مكة، فهو العذاب الذي وعدهم.
قوله تعالى: ﴿وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ...﴾ الآية (٢)، سبب نزولها: أن قريشا كانوا يطوفون بالبيت، ويصفقون، ويصفرون، ويضعون خدودهم بالأرض، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر.
وأخرج ابن جرير عن سعيد، قال: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلّم في
(١) لباب النقول.
(٢) زاد المسير.
408
الطواف يستهزؤون به، ويصفرون، ويصفقون، فنزلت: ﴿وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الآية، قال (١) ابن إسحاق: حدثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمير بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن، قالوا: لما أصيب قريش يوم بدر، ورجعوا إلى مكة، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وآبناؤهم فكلموا أبا سفيان ومن كان له من قريش في ذلك العير تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا أن ندرك منه ثأرا، ففعلوا، ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿يُحْشَرُونَ﴾.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن عتيبة، قال: نزلت في أبي سفيان أنفق على المشركين أربعين أوقية من ذهب. الأوقية اثنان وأربعون مثقالا.
وأخرج (٢) ابن جرير عن ابن أبزى، وسعيد بن جبير، قالا: نزلت في أبي سفيان، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش - أي من أخلاط القبائل - ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
التفسير وأوجه القراءة
٣٠ - أي: ﴿وَ﴾ اذكر يا محمد لأمتك قصة ﴿إِذْ يَمْكُرُ﴾ ويحتال في إيقاع الضرر والهلاك ﴿بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قومك، وهذا تذكار لما مكرت قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله تعالى في خلاصه من مكرهم، واستيلائه عليهم؛ أي: واذكر نعمته تعالى عليك في ذلك الزمن القريب، الذي يمكر بك فيه قومك الذين كفروا بما يدبرون في السر من وسائل إيقاع الهلاك بك، فإن في ذلك القصص على
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
409
المؤمنين والكافرين في عهدك، ومن بعدك، لأكبر الحجج على صدق دعوتك، ووعد ربك بنصرتك؛ أي: واذكر لهم قصة إذ يمكرون بك، ﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾ في مكان، ويمنعوك من الحركة بالوثاق (١)، أو الحبس أو الإثخان بالجرح من قولهم: ضربه حتى أثبته لا حراك به، ولا براح، وقال ابن عباس ومجاهد: ليقيدوك وقيل: المعنى ليحبسوك، وقرأ النخعي ليبيتوك من البيات، وقرىء ﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾ بالتشديد أَوْ لـ ﴿يَقْتُلُوكَ﴾ بسيوفهم ﴿أَوْ﴾ لـ ﴿يُخْرِجُوكَ﴾ من وطنك مكة، وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم، فزعوا، فاجتمعوا في دار الندوة، متشاورين في أمره كما سبق في أسباب النزول.
وحديث ذلك المكر الذي ترتبت عليه الهجرة إلى المدينة، وبها ظهر الإسلام، وخذل الشرك، روي من طرق عدة أقربها رواية ابن إسحاق وابن هشام في سيرتهما كما ذكرناها سابقا، وهذه الآية مدنية كسائر السورة، وهو الصواب.
والخلاصة: أن كلمتهم قد اتفقت على إيقاع الأذى بك بإحدى ثلاث خصال: إما بالحبس الذي يمنعك من لقاء الناس، ودعوتهم إلى الإسلام، وإما بالقتل، بطريق لا يكون ضررها عظيما عليهم، كما مر، وإما بالإخراج والنفي من الوطن ﴿وَيَمْكُرُونَ﴾ بك، وبمن معك من المؤمنين؛ أي: يريدون إهلاككم من حيث لا تحتسبون؛ أي: إن دأبهم معك، ومع من اتبعك من المؤمنين، تدبير الأذى لكم دائما، والله محيط بما دبروا لكم، فقد أخرجك من بينهم إلى دار الهجرة، ووطن السلطان، والقوة وكرر (٢) قوله: ﴿وَيَمْكُرُونَ﴾ إخبارا باستمرار مكرهم، وكثرته ﴿وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾ بهم؛ أي: ويرد الله سبحانه وتعالى عليهم مكرهم في نحورهم، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر، وقلل المسلمين حتى حملوا عليهم، فلقوا ما لقوا، والمكر (٣) هو التدبير، وهو من الله تعالى التدبير بالحق، والمعنى:
(١) البيضاوي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
410
إنهم احتالوا في إبطال أمر محمد صلى الله عليه وسلّم والله سبحانه وتعالى أظهره وقواه ونصره، فضاع فعلهم وتدبيرهم، وظهر فعل الله وتدبيره، وسمي (١) ما وقع منه تعالى من التدبير مكرا مشاكلة بما وقع منهم من المكر ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾؛ أي: أفضل المجازين لمكر الماكرين بمثل فعلهم، فهو تعالى يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون، فيكون ذلك أشد ضررا عليهم، وأعظم بلاء من مكرهم، لأن مكره تعالى نصر للحق، وإعزاز لأهله، وخذلان للباطل وحزبه، وفي الآية: إيماء إلى أن هذه حالهم الدائمة في معاملته صلى الله عليه وسلّم ومن تبعه من المؤمنين.
٣١ - ولما قص الله سبحانه وتعالى مكرهم في ذات محمد صلى الله عليه وسلّم.. قص علينا مكرهم في دين محمد صلى الله عليه وسلّم فقال: ﴿وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: وإذا قرأت على هؤلاء الذين كفروا ﴿آياتُنا﴾ القرآنية الواضحة، لمن شرح الله صدره لفهمها ﴿قالُوا﴾ جهلا منهم، وعنادا للحق، وهم يعلمون أنهم كاذبون ﴿قَدْ سَمِعْنا﴾ ما قال محمد صلى الله عليه وسلّم من الآيات، أو قد سمعنا مثل ما قال محمد من التوراة والإنجيل، وقد تنازع هذا العامل مع قوله: ﴿لَقُلْنا﴾ في قوله: مثل هذا ﴿لَوْ نَشاءُ﴾ القول ﴿لَقُلْنا مِثْلَ هذا﴾ الذي تلي علينا محمد صلى الله عليه وسلّم ﴿إِنْ هذا﴾؛ أي: ما هذا القرآن الذي تلاه محمد صلى الله عليه وسلّم علينا ﴿إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: إلا أكاذيب الأولين، وأخبار الماضين، من القرون الخالية أي ما سطروه وكتبوه من القصص والأخبار.
والمعنى: ما هذا القرآن إلا ما كتب الأولون من القصص؛ أي: إنّ أخبار القرآن عن الرسل، وأقوامهم تشبه قصص أولئك الأمم، فهم يستطيعون أن يأتوا بمثلها، فما هي من خبر الغيب الدال على أنه وحي من الله، وقد كان النضر بن الحارث أول من قال هذه الكلمة، فقلده فيها غيره، لأنه كان يأتي الحيرة - بكسر الحاء بلدة بقرب الكوفة - يتجر، فيشتري كتب أخبار الأعاجم، ويحدث بها أهل مكة، ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلقة، وأن محمدا هو الذي
(١) الشوكاني.
افتراها، إذ لم يكونوا يتهمونه بالكذب، كما قال تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ لأنهم يعلمون أنه أمي لم يتعلم شيئا، بل قالوا ذلك ليصدوا العرب عن القرآن، وقد كان زعماء قريش كالنضر بن الحارث، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، يتواصون بالإعراض عن سماع القرآن، ويمنعون الناس عنه خوفا من استمالة الناس إليه، لما رأوا من شدة تأثيره وسلطانه على القلوب، حتى قال الوليد بن المغيرة: كلمته المشهورة: إنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه يحطم ما تحته.
٣٢ - ﴿وَ﴾ اذكر يا محمد قصة ﴿إِذْ قالُوا﴾؛ أي: قصة إذ قال هؤلاء الذين كفروا من قومك دعاء على أنفسهم ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كانَ﴾ هذا القرآن وما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلّم من التوحيد ﴿هُوَ الْحَقَّ﴾ والصدق حالة كونه منزلا ﴿مِنْ عِنْدِكَ﴾ ليدين به عبادك كما يدعي محمد صلى الله عليه وسلّم ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنا﴾؛ أي: فأنزل علينا ﴿حِجارَةً مِنَ السَّماءِ﴾ عقوبة على إنكارنا، قالوا هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار ﴿أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي: وجيع غير الحجارة، قاله النضر بن الحارث استهزاء، وقد أسره المقداد يوم بدر، فقتله النبي صلى الله عليه وسلّم، أو قاله أبو جهل وقد ذبحه ابن مسعود يوم بدر، وقرأ الجمهور: ﴿هُوَ الْحَقَّ﴾ بالنصب جعلوا ﴿هُوَ﴾ فصلا، وقرأ الأعمش، وزيد بن علي بالرفع، وهي جائزة في العربية، وفي هذا (١) إيماء إلى أنهم لا يتبعونه، وإن كان هو الحق المنزل من عند الله، بل يفضلون الهلاك بحجارة يرجمون بها من السماء، أو بعذاب أليم سوى ذلك كما أن فيه تهكما وإظهارا للحزم واليقين، بأنه ليس من عند الله، وحاشاه، ومنه يعلم أيضا أن دعاءهم كفر وعناد، لا لأن ما يدعوهم إليه قبيح وضار.
روي أن معاوية قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! فقال: أجهل من قومي قومك حين قالوا: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ﴾ ولم يقولوا: فاهدنا له.
(١) المراغي.
٣٣ - ثم قال: سبحانه وتعالى: بيانا للموجب لإمهالهم، والتوقف في إجابة دعائهم ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾؛ أي: وما كان من سنة الله تعالى، ولا من مقتضى رحمته وحكمته أن يعذبهم وأنت الرسول موجود مقيم فيهم؛ لأنه إنما أرسلك رحمة ونعمة، لا عذابا ونقمة، فإنك ما دمت فيهم، فهم في مهملة من العذاب الذي هو الاستئصال مع أنه قد جرت سنته أيضا أن لا يعذب أمثالهم من مكذبي الرسل وهم بين أظهرهم، بل كان يخرج الرسل أولا، كما حدث لهود، وصالح، ولوط، وقرأ أبو السمال: ﴿وما كان ليعذبهم﴾ بفتح اللام، وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن.
﴿وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ﴾ هذا الاستئصال ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾؛ أي: وفيهم من يستغفر من المسلمين الذين بقوا فيهم بعد الهجرة؛ أي: وما كان الله ليعذبهم هذا العذاب الذي عذب بمثله الأمم قبلهم، فاستأصلهم وفيهم من يستغفر من المسلمين الذين بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المستضعفين، فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده.
روى ابن جرير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكة فأنزل الله ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ ثم خرج إلى المدينة فأنزل الله: ﴿وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ وكان من بقي في مكة من المؤمنين يستغفرون فلما خرجوا أنزل الله ﴿وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾ الآية، فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم به، وقيل: المعنى وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله تعالى، وقيل: المعنى وهم يستغفرون في الطواف بقولهم: غفرانك.
قال أهل المعاني (١): دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب.
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله أنزل عليّ
(١) الخازن.
أمانين لأمتي، ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ ﴿وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» أخرجه الترمذي.
٣٤ - ولما بين الله سبحانه وتعالى أن المانع من تعذيبهم، هو الأمران المتقدمان، وجود رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين أظهرهم، ووقوع الاستغفار.. ذكر بعد ذلك أنّ هؤلاء الكفار، أعني كفار مكة، مستحقون لعذاب الله لما ارتكبوا من القبائح، فقال: ﴿وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: وأي شيء لهم يمنع من تعذيب الله إياهم ﴿وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾؛ أي: والحال أنهم يصدون النّاس ويمنعونهم عن الوصول إلى المسجد الحرام لزيارته، كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه من البيت، وفي «السمين»: وما اسم استفهام إنكاري، مبتدأ و ﴿لَهُمْ﴾ خبره، وقوله: ﴿أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ على تقدير الجار المتعلق بما تعلق به الظرف الواقع خبرا، والمعنى: وأي شيء ثبت واستقر لهم في أن لا يعذبهم الله؛ أي: في عدم تعذيبه؛ أي: أي مانع منه؛ أي: لا مانع منه بعد زوال هذين المانعين، وهما كون النبي صلى الله عليه وسلّم فيهم، وكون الضعفاء يستغفرون، وهم مستضعفون فيما بينهم، فلما زال هذان المنعان وجب عليهم العذاب، ولم يبق له مانع ا. هـ؛ أي: وأي شيء يمنع تعذيبهم، بما دون عذاب الاستئصال، عند زوال المانع منه، وكيف لا يعذبون وهم يمنعون المسلمين من دخول المسجد الحرام ولو لأداء النسك، فما كان مسلم يقدر أن يدخل المسجد الحرام، فإن دخل مكة.. عذبوه، إذا لم يكن فيها من يجيره، والمراد بالعذاب هنا: عذاب بدر، إذ قتل صناديدهم ورؤساء الكفر، كأبي جهل، والنضر بن الحارث، وأسر سراتهم.
وجملة قوله: ﴿وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ﴾ في محل نصب على أنها حال من فاعل ﴿يَصُدُّونَ﴾؛ أي: والحال أنهم ما كانوا أولياء المسجد الحرام، وما كانوا مستحقين للولاية عليه لشركهم وعمل المفاسد فيه، كطوافهم فيه عراة، رجالا ونساء، وهذا رد لقولهم نحن ولاة الحرم والبيت، فنصد من نشاء، وندخل من نشاء ﴿إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾؛ أي: ما يلي أمره إلا من كان برا تقيا، لا من كان كافرا عابدا للصنم؛ أي: ما أولياء المسجد إلا الذين يتحرزون عن
المنكرات، كما كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية، ومن كانت هذه حاله لا يكون وليا للمسجد الحرام، بل هم أهل لأن يقتلوا بالسيف، ويحاربوا ﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ أنه لا ولاية لهم عليه؛ أي: لا يعلمون أنهم ليسوا أولياء الله، ولا أن أولياءه ليسوا إلا المتقين، فهم الآمنون من عذابه بمقتضى عدله في خلقه، والجديرون بولاية بيته.
وقد نسب هذا الجهل إلى الأكثر، إذ كان فيهم من لا يجهل حالهم في جاهليتهم، وضلالهم في شركهم، وكون الله لا يرضى عنهم كما كان فيهم من يكتم إيمانه خوفا من الفتنة، ومنهم المستعدون له بسلامة الفطرة، وقد جرت سنة القرآن أن يدقق في الحكم، ولا يقول إلا الحق، ولا يقول كما يقول الناس: إنّ القليل لا حكم له.
٣٥ - ثم بين سبحانه سوء حالهم في أفضل ما بني البيت لأجله، وهي الصلاة، فقد كانوا يطوفون عراة فقال: ﴿وَما كانَ صَلاتُهُمْ﴾؛ أي: عبادتهم ﴿عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً﴾؛ أي: صفيرا فكان الواحد منهم يشبك أصابع إحدى كفيه بأصابع الأخرى، ويضمها، وينفخ فيهما فيظهر من ذلك صوت ﴿وَتَصْدِيَةً﴾؛ أي: تصفيقا أي ضربا لإحدى الكفين على الأخرى أي: ما كان شيء مما يعدونه عبادة وصلاة إلا هذين الفعلين، وهما المكاء والتصدية؛ أي إذا كان لهم صلاة، فلم تكن إلا هذين، قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة، مشتبكين بين أصابعهم، يصفرون ويصفقون بإحدى اليدين على الأخرى، وروي عن سعيد بن جبير، قال: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلّم في الطواف يستهزؤون ويصفرون، يفعلون ذلك إذا قرأ الرسول صلى الله عليه وسلّم يخلطون عليه في صلاته، فنزلت ﴿وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً﴾.
وبالجملة (١): فقد كانت صلاتهم وطوافهم من قبيل اللهو واللعب، سواء عارضوا الرسول صلى الله عليه وسلّم في طوافه وخشوع صلاته وحسن تلاوته، أم لا؟ {فَذُوقُوا
(١) المراغي.
الْعَذابَ}؛ أي: فذوقوا أيها المشركون في الدنيا عذاب القتل لبعض كبرائكم، والأسر للآخرين منهم، وانهزام الباقين، مدحورين مكسورين يوم بدر، ﴿بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلّم.
والخلاصة: فذوقوا العذاب الذي طلبتموه، وما كان لكم أن تستعجلوه إذ قلتم: ﴿أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ﴾.
وقرأ أبان بن تغلب، وعاصم، والأعمش بخلاف عنهما (١) ﴿صلاتهم﴾ بالنصب ﴿إلا مكاء وتصدية﴾ بالرفع، وخطأ قوم منهم أبو علي الفارسي هذه القراءة لجعل المعرفة خبرا والنكرة اسما، قالوا: ولا يجوز ذلك إلا في ضرورة كقوله:
يكون مزاجها عسل وماء
وخرّجها أبو الفتح على أن المكاء والتصدية اسم جنس، واسم الجنس تعريفه وتنكيره واحد، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه ﴿إلا مكا﴾ بالقصر منونا فمن مد فكالثغاء، والرغاء، ومن قصر فكالبكاء في لغة من قصر.
٣٦ - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى عبادة الكفار البدنية، وهي المكاء والتصدية.. ذكر عقبها عبادتهم المالية التي لا جدوى لها في الآخرة، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلّم يعني كفار قريش وخبر إن جملة قوله: ﴿يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ﴾ ويصرفونها في محاربة النبي صلى الله عليه وسلّم ﴿لِيَصُدُّوا﴾ الناس ويمنعوهم ﴿عَنْ﴾ الدخول في ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تعالى ودينه واتباع رسوله؛ أي: إن مقصدهم بالانفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك.
قال مقاتل والكلبي (٢): نزلت هذه الآية في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش، أبي جهل وأصحابه، يطعم كل واحد منهم كل يوم
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
416
عشر جزور، وقال سعيد بن جبير، ومجاهد: نزلت في أبي سفيان، وكان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق فيهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالا كما مر، وأخرج ابن إسحاق عن مشايخه أنها نزلت في أبي سفيان ومن كان له في العير من قريش تجارة كما مر ذلك في أسباب النزول.
والمعنى (١): أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم، هو الصد عن سبيل الحق، بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجمع الجيوش لذلك، وإنفاق أموالهم عليها، وذلك كما وقع من كفار قريش يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، فإن الرؤساء كانوا ينفقون أموالهم على الجيش، ثم أخبر الله سبحانه عن الغيب على وجه الإعجاز، فقال: ﴿فَسَيُنْفِقُونَها﴾؛ أي: فينفقون أموالهم في المستقبل في الصد عن سبيل الله، أو المعنى فسيعلمون عاقبة إنفاقها من الخيبة، وعدم الظفر بالمقصود، فحصلت المغايرة، ذكره في «الفتوحات» ﴿ثُمَّ تَكُونُ﴾ نفقاتهم في ذلك ﴿عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾؛ أي: ندامة لفواتها وفوات قصدهم من نصرتهم على محمد صلى الله عليه وسلّم ﴿ثُمَّ﴾ في آخر أمرهم ﴿يُغْلَبُونَ﴾ كما وعد الله تعالى به في مثل قوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾.
أي: إنه سيقع هذا الانفاق، وتكون عاقبته الحسرة؛ لأنه سيذهب المال، ولا يصلون إلى المقصود، بل يغلبون كما وعد الله به نبيه، وسينكسرون المرة بعد المرة.
ومعنى (٢) ﴿ثُمَّ﴾ في الموضعين: إما التراخي في الزمان لما بين الانفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة بين بذل المال، وعدم حصول المقصود من المبيانة، ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: استمروا على الكفر، كأبي جهل وأصحابه، وإنما فسرنا كذلك؛ لأن من هؤلاء
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
417
الكفار المذكورين سابقا من أسلم، وحسن إسلامه، كالعباس بن عبد المطلب ﴿إِلى جَهَنَّمَ﴾ لا إلى غيرها ﴿يُحْشَرُونَ﴾؛ أي: يساقون يوم القيامة فيكون لهم شقاء الدارين وعذابهما.
وقد كان (١) للمسلمين في هذه الآية عبرة وعظة فلينفقوا أموالهم في سبيل الله كما أنفق أسلافهم فيها، لأن لهم بها سعادة الدارين، والكفار في هذا العصر ينفقون الكثير من الأموال للصد عن الإسلام، وفتنة الضعفاء من العامة بالدعوة إلى دينهم، وتعليم أولاد المسلمين في مدارسهم، ومعالجة رجالهم ونسائهم في مستشفياتهم إلى نحو ذلك من الوسائل الناجعة في نشر دينهم، وفتنة المسلمين عن دينهم، وهم لا يبالون ماذا يفعلون، ألا ساء ما يعملون.
٣٧ - ثم بين سبحانه العلة التي لأجلها كانت الحسرة عليهم والحشر إلى جهنم، فقال: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ﴾ وقرأ حمزة (٢) والكسائي، ويعقوب، ليميز بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء الثانية المكسورة من التمييز، وهو أبلغ من الميز، وقرأ الباقون بالتخفيف من ماز يميز كباع يبيع، واللام متعلقة بـ ﴿يُحْشَرُونَ﴾ أو بـ ﴿يُغْلَبُونَ﴾؛ أي: يحشرون إلى جهنم ليميز الله سبحانه وتعالى،
ويفصل الفريق الخبيث من الكفار ﴿مِنَ﴾ الفريق ﴿الطَّيِّبِ﴾ من المؤمنين ﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ﴾؛ أي: ويجعل الفريق الخبيث ﴿بَعْضَهُ﴾ منضما متراكبا ﴿عَلى بَعْضٍ﴾ آخر ﴿فَيَرْكُمَهُ﴾؛ أي: فيجمعه ﴿جَمِيعًا﴾ ويضم بعضه إلى بعض، حتى يتراكم ويركب بعضه بعضا، لفرط ازدحامهم، يقال: ركم الشيء يركمه إذا جمعه، وألقى بعضه على بعض، ﴿فَيَجْعَلَهُ﴾ أي: يطرحه ﴿فِي جَهَنَّمَ﴾؛ وقيل: المعنى يضم الله تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض، فيلقيها في جهنم، ويعذبهم بها ﴿أُولئِكَ﴾ الفريق الذين كفروا، وخبثوا اعتقادا وأعمالا ﴿هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ في الدنيا والآخرة، لأنهم اشتروا بأعمالهم عقاب الآخرة.
(١) المراغي.
(٢) المراح.
وقيل: اللام في قوله: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ متعلقة بمحذوف تقديره؛ أي: إن (١) الله سبحانه وتعالى كتب النصر والغلب لعباده المتقين، والخذلان والحسرة لمن يعاديهم ويقاتلهم من الكفار، للصد عن سبيل الله، ليميز الكفر من الإيمان، والحق والعدل من الجور والطغيان، وهذا التمييز بين الأمرين في سنن الاجتماع هو بقاء أمثل الأمرين وأصلحهما ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ وسنن الله في الدنيا والآخرة واحدة، فالخبيث في الدنيا خبيث في الآخرة، ومن ثم قال: ﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ الآية؛ أي: ويجعل الله الخبيث بعضه منضما متراكبا على بعض بحسب سنته تعالى في اجتماع المتشاكلات، واختلاف المتناكرات، كما جاء في الحديث: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» ثم يجعل أصحابه في جهنم إلى يوم القيامة، وبئس المصير لمن خسر نفسه وماله.
٣٨ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: لهؤلاء الكفار الذين آذوك وصدوا عن سبيل الله من كفار مكة، كأبي سفيان وأصحابه، وغيرهم من سائر الكفار، وفي «الكشاف»: قل لأجلهم هذا القول وهو: ﴿إِنْ يَنْتَهُوا﴾ وينزجروا ويرجعوا عما هم عليه من عداوتك وعنادك بالصد عن سبيل الله ﴿يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ﴾؛ أي: يغفر الله سبحانه وتعالى لهم ما سلف، وسبق منهم من عداوتك، وصدهم عن سبيل الله، وغير ذلك من سائر الذنوب، فلا يعاقبهم على شيء من ذلك في الآخرة، ويغفر لهم الرسول والمؤمنون، فلا يطالبون قاتلا منهم بدم، ولا سالبا أو غانما بسلب ولا غنم.
وفي مصحف ابن مسعود (٢): ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا﴾ بالتاء المثناة من فوق ﴿يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ﴾ خطابا لهم، وقرىء ﴿يغفر﴾ مبنيا للفاعل والضمير لله تعالى.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
روى مسلم من حديث عمرو بن العاص، قال: فلما جعل الله الإيمان في قلبي، أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فقلت: أبسط يدك أبايعك فبسط يده، فقبضت يدي قال: «مالك؟» قلت: أردت أن أشترط، قال: «ماذا تشترط؟» قلت: أن يغفر لي، قال: «أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟».
﴿وَإِنْ يَعُودُوا﴾ ويرجعوا إلى الكفر، ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلّم وإلى الصد عن سبيل الله؛ أي: وإن يرتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، ويرجعوا للكفر، وقتال النبي صلى الله عليه وسلّم ويكون العود بمعنى الاستمرار، ننتقم منهم بالعذاب ﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: لأنه قد سبقت سيرة الأولين، الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتدمير، كما جرى على أهل بدر؛ أي: قد سبقت سنة الله فيهم بالاستئصال والتدمير فلهم ما لهم.
والمعنى: أي وإن يعودوا إلى العداء، والصد، والقتال تجر عليهم سننه المطردة في أمثال لهم من الأولين الذين عادوا الرسل، وقاتلوهم من نصر المؤمنين، وخذلانهم، وهلاكهم كما حدث لهم يوم بدر كما قال: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١)﴾.
ولا يخفى ما في قوله: ﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾ من (١) التهديد، والوعيد، الشديد، والتمثيل لهم بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله؛ أي: قد مضت سنة الله فيمن فعل مثل ما فعل هؤلاء من الأولين من الأمم، أن يصيبه بعذاب، فليتوقعوا مثل ذلك، وترسم ﴿سُنَّتُ﴾ هذه بالتاء المجرورة، وكذا الثلاثة التي في فاطر، وكذا التي في آخر غافر، ثم بين ما سلف من قوله: ﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾
٣٩ - ورغب المؤمنين في قتالهم فقال: ﴿وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾؛ أي: حتى لا توجد فتنة في الدين؛ أي: وقاتل الذين كفروا أنت يا محمد ومن معك من المؤمنين حتى تزول الفتنة في الدين بالتعذيب
(١) الشوكاني.
420
وضروب الإيذاء لأجل تركه كما فعلوا ذلك حين كانت لهم القوة والبطش في مكة، إذ أخرجوكم منها لأجل دينكم ثم أتوا لقتالكم في دار الهجرة ﴿وَ﴾ حتى ﴿يَكُونَ الدِّينُ﴾؛ أي: العبادة ﴿كُلُّهُ لِلَّهِ﴾: فلا يستطيع أحد أن يفتن أحدا عن دينه ويكرهه على ترك إلى دين المكره تقية وخوفا منه.
وخلاصة ذلك (١): قاتلوهم حتى يكون الناس أحرارا في عقائدهم، لا يكره أحد أحدا على ترك عقيدته إكراها، ولا يؤذي ويعذب لأجلها كما قال تعالى: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ والمسلمون إنما يقاتلون لحرية دينهم، ولا يكرهون عليه أحدا من دونهم.
وروي عن ابن عباس تفسير الفتنة بالشرك، والمعنى عليه: قاتلوهم حتى لا يبقى شرك في مكة وغيرها، وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام.
وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة؛ وهنا زيادة ﴿كُلُّهُ﴾ توكيدا للدين، وقرأ الأعمش ويكون برفع النون، والجمهور بنصبها.
﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عن الكفر، وعن قتالكم، وعن سائر المعاصي بالتوبة والإيمان ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾؛ أي: عليم لأنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ونياتهم، فيجازيهم على أعمالهم الحسنة من الإيمان وغيره ويثيبهم عليها بحسب علمه.
وقرأ الحسن ويعقوب من العشرة وسلام بن سليمان (٢): ﴿بما تعملون﴾ بالتاء على الخطاب، لمن أمروا بالمقاتلة على معنى: فإن الله بما تعملون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام، والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الايمان بصير يجازيكم، فيكون (٣) تعليقه بانتهائهم دلالة على أنه كما يستدعي إثابتهم للمباشرة، يستدعي إثابة مقاتليهم للتسبب، وبالباء التحتية على الغيبة باتفاق السبعة.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البيضاوي.
421
٤٠ - ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾؛ أي: وإن أعرض أولئك الكفار عن التوبة، والإيمان، وعن سماع تبليغكم، ولم ينتهوا عن كفرهم، وفتنتهم وقتالهم لكم ﴿فَاعْلَمُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَوْلاكُمْ﴾؛ أي: مواليكم، ومعينكم عليهم، وهذا وعد صريح بالظفر والنصر؛ أي: فأيقنوا أيها المؤمنون بنصر الله تعالى ومعونته لكم، وهو متولي أموركم، فلا تبالوا بهم، ولا تخشوا بطشهم، وجواب ﴿إِنْ﴾ محذوف، وجملة قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ علة للجواب المحذوف، والمعنى: وإن تولوا عن الإيمان، فلا تخشوا بأسهم، لأن الله مولاكم، وهو سبحانه وتعالى ﴿نِعْمَ الْمَوْلى﴾؛ أي: نعم الولي بالحفظ، فلا يضع من تولاه ﴿وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾؛ أي: نعم الناصر على الأعداء، فلا يغلب من نصره، وكل من كان في حماية الله تعالى كان آمنا من الآفات، مصونا عن المخلوقات، وهذا ثناء من الله تعالى على نفسه، فهو حمد قديم لقديم، وما غلب المسلمون في العصور الأخيرة وذهب أكثر ملكهم إلا لأنهم تركوا الاهتداء بهدي دينهم، وتركوا الاستعداد المادي والحربي الذي طلبه الله بقوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ واتكلوا على خوارق العادات، وقراءة الأحاديث، والدعوات، وذلك مما لم يشرعه الله، ولم يعمل به رسوله، إلى أنهم تركوا العدل والفضائل، وسنن الله في الاجتماع التي انتصر بها السلف الصالح، وأنفقوا أموال الأمة والدولة فيما حرم الله عليهم من الإسراف في شهواتهم.
وعلى العكس من ذلك، اتبع الإفرنج تعاليم الإسلام، فاستعدوا للحرب، واتبعوا سنن الله في العمران، فرجحت كفتهم، ولله الأمر.
وما مكن الله لسلف المسلمين من فتح بلاد كسرى، وقيصر، وغيرهما من البلاد إلا لما أصاب أهلها من الشرك وفساد العقائد في الآداب، ومساوي الأخلاق، والعادات، والانغماس في الشهوات، واتباع سلطان البدع، والخرافات فجاء الإسلام، وأزال كل هذا، واستبدل التوحيد والفضائل بها، ومن ثم نصر الله أهله على الأمم كلها.
ولما أضاع جمهرة المسلمين هذه الفضائل، واتبعوا سنن من قبلهم في اتباع
422
البدع والرذائل، وقد حذرهم الإسلام من ذلك، ثم قصروا في الاستعداد المادي والحربي للنصر في الحرب، عاد الغلب عليهم لغيرهم، ومكن لسواهم في الأرض ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)﴾؛ أي: الصالحون لاستعمارها والانتفاع بما أودع فيها من كنوز وخيرات. وفق الله المسلمين إلى الهدى والرشاد، وجعلهم يعيدون سيرتهم الأولى، ويهتدون بهدي دينهم، ويستمسكون بآدابه، ويتبعون سيرة السلف الصالح، فيكتب لهم العز في الدنيا، والسعادة في الآخرة بمنه وكرمه، وفضله وجوده آمين.
الإعراب
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد قصة إذ يمكر بك ﴿يَمْكُرُ﴾: فعل مضارع ﴿بِكَ﴾ متعلق به ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول فاعل ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول وجملة ﴿يَمْكُرُ﴾: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾ اللام: حرف جر وتعليل ﴿يثبتوك﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإثباتهم إياك الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَمْكُرُ﴾. ﴿أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يثبتوك﴾ وكذا قوله: ﴿أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ معطوف على ﴿يثبتوك﴾ أيضا، والتقدير: أو لقتلهم إياك أو لإخراجهم إياك ﴿وَيَمْكُرُونَ﴾: فعل وفاعل مستأنف كرره للتأكيد، ﴿وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَمْكُرُونَ﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾ خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة.
﴿وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)﴾.
﴿وَإِذا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية أو عاطفة ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان
423
﴿تُتْلى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به ﴿آياتُنا﴾: نائب فاعل، ومضاف إليه والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذا﴾ والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب إِذا لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذا﴾: مستأنفة، ومعطوفة على قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ﴾ ﴿قَدْ سَمِعْنا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق ﴿سَمِعْنا﴾: فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: مثل هذا القرآن، وهو التوراة والإنجيل، وقد تنازع هذا العامل مع قوله: ﴿لَقُلْنا﴾ في قوله: ﴿مِثْلَ﴾ هذا كما يستفاد من الخازن، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾؛ ﴿لَوْ﴾ شرطية ﴿نَشاءُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المشركين ومفعوله محذوف تقديره: لو نشاء القول، والجملة فعل شرط لـ لو ﴿لَقُلْنا﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية ﴿قلنا﴾: فعل وفاعل ﴿مِثْلَ﴾ هذا مفعول به، ومضاف إليه، لأن ﴿قلنا﴾: بمعنى ذكرنا، والجملة الفعلية جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية، وجملة لو الشرطية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾ ﴿إِنْ﴾: نافية مهملة لانتقاض نفيها بـ ﴿إِلَّا﴾ هذا: مبتدأ ﴿إِلَّا﴾: إداة استثناء مفرغ ﴿أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾.
﴿وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾: والظرف متعلق بمحذوف تقديره: واذكر إذ قالوا، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ﴾: ﴿اللَّهُمَّ﴾: إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿اللَّهُمَّ﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾، ﴿إِنْ﴾: حرف شرط ﴿كانَ﴾: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾: الشرطية على كونه فعل شرط لها، هذا: اسمها ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل ﴿الْحَقَّ﴾: خبر ﴿كانَ﴾. ﴿مِنْ عِنْدِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿الْحَقَّ﴾ ﴿فَأَمْطِرْ﴾
424
﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبا ﴿أمطر﴾: فعل دعاء في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه جوابا لها، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿عَلَيْنا﴾ متعلق به ﴿حِجارَةً﴾: مفعول به ﴿مِنَ السَّماءِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿حِجارَةً﴾ وفائدة (١) توصيف الحجارة بقوله: ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ الدلالة على أن المراد بالحجارة السجيل وهو حجارة مسومة، أي: معلمة معدة لتعذيب قوم من العصاة. وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول قالوا: على كونها جواب النداء ﴿أَوِ ائْتِنا﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿أمطر﴾، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿بِعَذابٍ﴾ متعلق بـ ﴿ائْتِنا﴾ ﴿أَلِيمٍ﴾ صفة لـ ﴿عذاب﴾.
﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)﴾.
﴿وَما﴾ الواو: استئنافية ﴿ما﴾: نافية ﴿كانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وجحود ﴿يعذبهم﴾: فعل ومفعول منصوب بـ ﴿أن﴾: مضمرة بعد لام الجحود، وجوبا، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة ﴿يعذب﴾: صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ما كان الله لتعذيبهم الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرا لكان تقديره: ما كان الله مريدا لتعذيبهم، وجملة ﴿كانَ﴾ مستأنفة، ومن أراد البسط في مبحث لام الجحود، فليراجع كتابنا «الدرر البهية في إعراب أمثلة الآجرومية» ﴿وَأَنْتَ﴾: مبتدأ ﴿فِيهِمْ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من مفعول ﴿يعذبهم﴾: ﴿وَما كانَ اللَّهُ﴾: ناف وفعل ناقص واسمه ﴿مُعَذِّبَهُمْ﴾ خبره، وجملة ﴿كانَ﴾ معطوفة على جملة ﴿كانَ﴾ الأولى ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ وجملة ﴿يَسْتَغْفِرُونَ﴾: خبر المبتدأ والجملة الاسمية في محل النصب حال من هاء ﴿مُعَذِّبَهُمْ﴾.
{وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا
(١) الفتوحات.
425
أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤)}.
﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ما: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ ﴿أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعل، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر مقدر متعلق بما تعلق به الظرف الواقع خبرا، تقديره: وأي شيء ثبت، واستقر لهم في أن لا يعذبهم الله؛ أي: في عدم تعذيب الله إياهم، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَصُدُّونَ﴾ خبره ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾ متعلق به، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول ﴿يُعَذِّبَهُمُ﴾. ﴿وَما﴾ الواو: حالية ﴿ما﴾: نافية ﴿كانُوا﴾: فعل ماض ناقص، واسمه ﴿أَوْلِياؤُهُ﴾ خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾ في محل النصب حال من واو ﴿يَصُدُّونَ﴾. ﴿إِنْ﴾: نافية ﴿أَوْلِياؤُهُ﴾: مبتدأ ومضاف إليه ﴿أَلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿الْمُتَّقُونَ﴾: خبر المبتدأ والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لكِنَّ﴾، وجملة ﴿لكِنَّ﴾ معطوفة على جملة قوله ﴿إِنْ أَوْلِياؤُهُ﴾.
﴿وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)﴾.
﴿وَما كانَ صَلاتُهُمْ﴾: ناف وفعل ناقص واسمه ﴿عِنْدَ الْبَيْتِ﴾: ظرف ومضاف إليه حال من ﴿صَلاتُهُمْ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿مُكاءً﴾: خبر ﴿كانَ﴾. ﴿وَتَصْدِيَةً﴾ معطوف عليه والجملة مستأنفة ﴿فَذُوقُوا الْعَذابَ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن صلاتهم هذا اللعب واللهو وأردت بيان ما يقال لهم في الجزاء، فأقول لك: يقال لهم: ذوقوا العذاب ﴿ذوقوا العذاب﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿بِما﴾ الباء حرف جر ﴿ما﴾ مصدرية ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة: ﴿تَكْفُرُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل
426
مصدر مجرور بـ ﴿الباء﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿ذوقوا﴾، والتقدير، فذوقوا العذاب بكفركم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول ﴿يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة ﴿لِيَصُدُّوا﴾ ﴿اللام﴾: لام كي ﴿يصدوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لصدهم عن سبيل الله، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُنْفِقُونَ﴾. ﴿فَسَيُنْفِقُونَها﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب ﴿سينفقونها﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يُنْفِقُونَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب ﴿تَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص واسمها ضمير مستتر فيها يعود على نفقاتهم ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور حال من ﴿حَسْرَةً﴾: لأنه صفة نكرة قدمت عليها، أو متعلق بـ ﴿تَكُونُ﴾ ﴿حَسْرَةً﴾: خبر تكون، وجملة ﴿تَكُونُ﴾ معطوفة على جملة ﴿سينفقونها﴾ ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف: ﴿يُغْلَبُونَ﴾ فعل مغير ونائب فاعل والجملة معطوفة على جملة ﴿تَكُونُ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول إِلى ﴿جَهَنَّمَ﴾ متعلق بـ ﴿يُحْشَرُونَ﴾ وجملة ﴿يُحْشَرُونَ﴾ من الفعل المغير ونائب فاعله في محل الرفع خبر المبتدأ والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)﴾.
﴿لِيَمِيزَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل ﴿يميز الله الخبيث﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿مِنَ الطَّيِّبِ﴾ متعلق بـ ﴿يميز﴾، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره لميز الله الخبيث من الطيب الجار
427
والمجرور متعلق بـ ﴿يُحْشَرُونَ﴾. ﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿يميز﴾ وفاعله ضمير يعود على الله ﴿بَعْضَهُ﴾ بدل من ﴿الْخَبِيثَ﴾ بدل بعض من كل ﴿عَلى بَعْضٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَجْعَلَ﴾. ﴿فَيَرْكُمَهُ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿يركمه﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿يَجْعَلَ﴾ وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿جَمِيعًا﴾: حال من ضمير ﴿يركمه﴾ أو توكيد له، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَجْعَلَ﴾ ﴿فَيَجْعَلَهُ﴾: فعل ومفعول، معطوف على ﴿يركمه﴾ وفاعله ضمير يعود على الله ﴿فِي جَهَنَّمَ﴾ متعلق به ﴿أُولئِكَ﴾: مبتدأ ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل ﴿الْخاسِرُونَ﴾: خبره، والجملة مستأنفة.
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول ﴿إِنْ يَنْتَهُوا﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنْ﴾: حرف شرط ﴿يَنْتَهُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿يُغْفَرْ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بإن على كونه جواب الشرط ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به، ما موصولة أو موصوفة، في محل الرفع نائب فاعل، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول القول ﴿قَدْ سَلَفَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ما والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، ﴿وَإِنْ﴾ الواو: عاطفة ﴿إِنْ﴾: حرف شرط ﴿يَعُودُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وجواب (١) الشرط محذوف تقديره: ننتقم منهم بالعقاب والعذاب، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنْ﴾ الأولى ﴿فَقَدْ﴾ ﴿الفاء﴾: تعليلة ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾: فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول على كونها، معللة للجواب المحذوف.
(١) الفتوحات.
428
﴿وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩)﴾.
﴿وَقاتِلُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة (١) معطوفة على جملة قوله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لكنّ لما كان الغرض من الأول التلطف بهم، وهو وظيفة النبي وحده، بالإفراد، ولما كان الغرض من الثاني تحريض المؤمنين على القتال، جاء بالجمع، فخوطبوا جميعا ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية بمعنى إلى ﴿لا تَكُونَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، وهو تام ﴿فِتْنَةٌ﴾ فاعله والجملة الفعلية، في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى تقديره: إلى عدم كون فتنة، وشرك الجار والمجرور متعلق بـ ﴿قاتلوا﴾ و ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ﴾: فعل مضارع ناقص واسمه معطوف على تكون ﴿كُلُّهُ﴾ تأكيد للدين ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور خبر ﴿يَكُونَ﴾: ﴿فَإِنِ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر: تقديره: إذا عرفتم ما أمرتكم به من قتالهم، وأردتم بيان حكم ما إذا انتهوا أو تولوا فأقول لكم: ﴿إن انتهوا﴾ ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿انْتَهَوْا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب الشرط وجوبا ﴿إن﴾: حرف نصب ولفظ الجلالة اسمها ﴿بِما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾ الآتي ﴿يَعْمَلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما يعملونه ﴿بَصِيرٌ﴾: خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ الواو: عاطفة ﴿إِنْ﴾ حرف شرط ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم، بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿فَاعْلَمُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة
(١) الفتوحات.
429
لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبا لكون الجواب جملة طلبية ﴿اعلموا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم على كونه جوابا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى ﴿أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ﴾ ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿أنْ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿اعلموا﴾ تقديره: فاعلموا، وأيقنوا كون الله تعالى مولاكم، وناصركم ﴿نِعْمَ الْمَوْلى﴾: فعل وفاعل وهو من أفعال المدح، والمخصوص بالمدح، محذوف وجوبا تقديره: هو، وهو في محل رفع على الابتداء، وجملة ﴿نِعْمَ﴾ في محل الرفع خبر له، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾: فعل وفاعل والجملة في محل الرفع، خبر للمخصوص بالمدح المحذوف وجوبا المرفوع على كونه مبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿نِعْمَ الْمَوْلى﴾ على كونها إنشائية لا محل لها من الإعراب.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾؛ أي: ليشدوك بالوثاق ويرهقوك بالقيد والحبس حتى لا تقدر على الحركة؛ لأن كل من شد شيئا وأوثقه فقد أثبته لأنه لا يقدر على الحركة، وهذا إشارة لرأي أبي البختري، بفتح الباء وسكون الخاء المعجمة، وقوله: ﴿أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾؛ أي: كلهم قتلة رجل واحد، وهذا إشارة لرأي أبي جهل، الذي صوبه صديقه إبليس لعنهما الله تعالى، وقوله: ﴿أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾؛ أي: من مكة منفيا، وهذا إشارة لرأي هشام بن عمرو اه من «شرح المواهب اللدنية».
﴿وَيَمْكُرُونَ﴾ بك؛ أي: ويحتالون ويتدبرون في أمرك وشأنك، والمكر (١) هو: التدبير الخفي، لإيصال المكروه إلى الممكور به من حيث لا يحتسب، والغالب أن يكون فيما يسوء ويذم من الكذب والحيل، وإذا نسب إلى الله.. كان من المشاكلة في الكلام بتسمية خيبة المسعى في مكرهم، أو مجازاتهم عليه باسمه.
(١) المراغي.
430
﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾ إن قلت: كيف (١) قال: والله خير الماكرين؟ ولا خير في مكرهم؟
قلت: يحتمل أن يكون المراد: والله أقوى الماكرين، فوضع خير موضع أقوى، وفيه التنبيه على أن كل مكر يبطل بفعل الله. وقيل: يحتمل أن يكون المراد أن مكرهم فيه خير بزعمهم، فقال تعالى: في مقابلته؛ ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾ وقيل: ليس المراد التفضيل بل إن فعل الله خير مطلقا اه. «خازن».
﴿أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ والأساطير جمع أسطورة، كأراجيح جمع أرجوحة، وأحاديث جمع أحدوثة، وهي الأقاصيص والأخبار التي سطرت وكتبت في الكتب السالفة، بدون تمحيص ولا تثبت في صحتها، وفي «القاموس»: الأساطير الأحاديث لا نظام لها، واحدها: إسطار وإسطير، وأسطور وبالهاء في الكل، وأصل السطر الصف من الشيء، كالكتاب والشجر اه.
﴿وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً﴾ و ﴿المكاء﴾ (٢) مصدر مكا يمكو مكوا من باب عدا و ﴿مُكاءً﴾ أيضا إذا صفر، أي شبك أصابع إحدى كفيه بأصابع الأخرى، ويضمها وينفخ فيها، فيظهر من ذلك صوت، والمكاء بالضم كالبكاء والصراخ. وهمزة (٣) ﴿المكاء﴾ مبدلة من واو؛ لقولهم مكا يمكو كغزا يغزو، ﴿والتصدية﴾ فيها قولان:
أحدهما: أنه من الصدى: وهو ما يسمع من رجع الصوت في الأمكنة الخالية الصلبة، يقال: منه: صدى يصدى تصدية، والمراد بها هنا ما يسمع من صوت التصفيق، والضرب بإحدى الكفين على الأخرى، وفي التفاسير: أن المشركين كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي ويتلو القرآن صفقوا بأيديهم، وصفروا بأفواههم، ليشغلوا عنه من يسمعه ويخلو عليه قراءته، وهذا مناسب لقوله: ﴿لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾، وقيل: مأخوذ من التصدد والضجيج
(١) الخازن.
(٢) الفتوحات.
(٣) العكبري.
431
والصياح والتصفيق، فأبدلت إحدى الدالين ياء تخفيفا، ويدل عليه قراءة ﴿إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ بالكسر؛ أي يضجون ويلغطون.
والثاني: أنها من الصدّ وهو المنع، والأصل تصددة بدالين أيضا فأبدلت ثانيتهما ياء، ويؤيد هذا قراءة ﴿يَصُدُّونَ﴾ بالضم؛ أي: يمنعون.
﴿تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾؛ أي: ندامة يقال: حسر يحسر كطرب يطرب بمعنى ندم ندامة، ويقال: حسر كمه عن ذراعه، من باب ضرب يضرب، ويقال: حسر بصره إذا كل، وتعب من باب جلس فالأول والأخير لازمان، والأوسط متعد، هذا ما في «المختار»، وفي «المصباح»: حسر عن ذراعه حسرا من بابي ضرب وقتل، وحسرت المرأة ذراعها وخمارها، من باب ضرب كشفته فهي حاسر بغيرها، وحسر
البصر حسورا من باب: قعد كل لطول المدى، وحسرت على الشيء حسرا من باب تعب، والحسرة اسم منه اه.
﴿يُحْشَرُونَ﴾ من بابي ضرب ونصر، كما في «المصباح» ﴿فَيَرْكُمَهُ﴾ يقال: ركمه إذا جمعه، وضم بعضه إلى بعض، وفي «المختار» ركم الشيء إذا جمعه وألقى بعضه على بعض، وبابه: نصر، وارتكم الشيء وتراكم اجتمع، والركام الرمل المتراكم، والسحاب، ونحوه اه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾، وفي قوله: ﴿وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾، وفي قوله: ﴿يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ﴾ ﴿فَسَيُنْفِقُونَها﴾، وفي قوله: ﴿نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾ ﴿والْماكِرِينَ﴾ وبين ﴿يعذبهم﴾ ﴿ومُعَذِّبَهُمْ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾ لأن المكر
432
حقيقة في الاحتيال في إيصال الضرر إلى الغير بطريق خفي، والمراد بمكر الله: رد مكرهم بطريق لا يعرفون، فإذا يقال في تقرير الاستعارة: شبه المكر بمعنى رد الحيلة بالمكر بمعنى الاحتيال في ترتب أثره عليه، فاستعير اسم المشبه به الذي هو المكر بمعنى الحيلة للمشبه الذي هو المكر بمعنى ردها فاشتق من المكر بمعنى الرد، يمكر بمعنى يرد، على طريقه الاستعارة التصريحية التبعية.
ويصح أن يكون مجازا مرسلا إذا قلنا: المراد بمكر الله مجازاتهم على مكرهم بجنسه، من إطلاق اسم السبب على المسبب، والعلاقة السببية، والمشاكلة تزيده حسنا على حسن. وتصح الاستعارة في هذا المعنى أيضا بأن يقال: شبه المكر بمعنى المجازاة بالمكر بمعنى الاحتيال، بجامع إيصال الضرر في كل، فاستعير اسم المشبه به الذي هو المكر بمعنى الاحتيال للمشبه الذي هو المكر بمعنى المجازاة، فاشتق من المكر بمعنى المجازاة، يمكر بمعنى يجازي، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ويصح أن يكون استعارة تمثيلية بتشبيه حالة تقليل المسلمين في أعينهم الحامل لهم على هلاكهم، بمعاملة الماكر المحتال بإظهار خلاف ما يبطن.
ويصح أن يكون مشاكلة صرفة، فالوجوه أربعة اه «شهاب» بتصرف وزيادة.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ﴾ لأن الإمطار حقيقة في إنزال الغيث، ويصح أن يكون مجازا مرسلا علاقته المشابهة في الصب بكثرة.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾.
ومنها: القصر في قوله: ﴿إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾، وفي قوله: ﴿وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً﴾.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿إِنْ يَنْتَهُوا﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ يَعُودُوا﴾، وفي قوله: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾.
433
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونسأل الله الإعانة، وكمال التيسير، والتوفيق لنا لأصوب التفسير، وأن يكرمنا بإكماله كما وفقنا بابتدائه بمنه وكرمه وجوده وإفضاله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين آمين (١).
(١) قال المؤلف: وكان الفراغ من تسويد هذا المجلد العاشر من الشرح على الجزء التاسع من القرآن منتصف ليلة الجمعة، الليلة السابعة من شهر الله المبارك رجب الفرد، من شهور السنة العاشرة بعد الألف وأربع مئة ٧/ ٧/ ١٤١٠ هـ من هجرة من أرسله الله تعالى ليكون للعالمين نذيرا، سيدنا ومولانا محمد من جعله الله لدينه سراجا منيرا، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
تم تصحيح هذه النسخة في الليلة السادسة والعشرين، أوائلها من شوال بيد مؤلفه في تاريخ ٢٦/ ١٠/ ١٤١١ هـ فلله سبحانه الحمد والشكر على هذا التوفيق، ونسأله تعالى الإخلاص في جميع الأعمال، ليكون موجبا لنا الخلاص من عهدتها في يوم العرض والقصاص.
434
شعر
435
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الحادي عشر»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[١١]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله على كماله، والشكر له على نواله، والصلاة والسلام على نبيه وآله، سيدنا محمَّد - ﷺ - وجميع صحبه وحزبه.
أما بعد: فإني لمَّا فرغتُ من تفسير الجزء التاسع من القرآن.. قصدت البداية في تفسير الجزء العاشر منه، وبالله أعتضد، ومن فيضه أستمد، وأقول وقولي هذا:
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)﴾.
5
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا (١) أمر بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم، وكان ذلك مستتبعًا لأخذ الغنائم منهم.. ناسب أن يذكر ما يرضيه سبحانه وتعالى في قسمة الغنائم على الوجه الذي شرعه.
والجمهور على أنّ هذه الآية نزلت في غزوة بدر، وعلى أنّ ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها.
وقال أبو حيان (٢): مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لمَّا أمر بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة.. اقتضى ذلك وقائع وحروبًا، فذكر بعض أحكام الغنائم، وكان في ذلك تبشيرٌ للمؤمنين بغلبتهم للكفار وقسم ما يحصل منهم من الغنائم. انتهى.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى (٣) لما ذكر نعمه على رسوله، وعلى المؤمنين يوم بدر.. أردف ذلك بذكر أدبين عظيمين إذا التقوا بعدوِّهم:
١ - الثبات وتوطين النفس على اللِّقاء، مع عدم التواني والتكاسل.
٢ - ذكر الله كثيرًا، وهو ذكره بألسنتهم وقلوبهم؛ تنبيهًا على أنَّ الإنسان يجب أن لا يخلو قلبه من ذكره في أشد الأوقات حرجًا، وقد طلب إلينا الثبات والطاعة لله ورسوله حتى لا نفشل وتدول علينا الدولة.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) لباب النقول.
6
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ...﴾ مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما أمر عباده المؤمنين بما أمر به من جلائل الصفات، ومحاسن الآداب التي تكون سبب الظفر في القتال، ونهاهم عن التنازع.. قفى على ذلك بنهيهم عما كان عليه مشركو قريش حين خرجوا لحماية العير، من البطر والكبرياء، والصد عن سبيل الله تعالى.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن جرير عن محمَّد بن كعب القرظي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر.. خرجوا بالقيان - جمع قينة: المرأة المغنية - والدفوف فأنزل الله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ..﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" بسندٍ ضعيف عن أبي هريرة قال: لما أنزل الله على نبيه - ﷺ - بمكة: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)﴾.. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، أيُّ جمع؟ وذلك قبل بدر، فلما كان يوم بدر وانهزمت قريشٌ.. نظرت إلى رسول الله - ﷺ - في آثارهم مصلتًا بالسيف يقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)﴾ فكانت ليوم بدر، فأنزل فيهم ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ﴾ الآية، وأنزل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا﴾، ورماهم رسول الله - ﷺ - فوسعتهم الرمية، وملأت أعينهم وأفواهم، حتى إن الرجل ليقتل وهو يقذي عينه وفاه، فأنزل الله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾، وأنزل في إبليس: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾، وقال عتبة بن ربيعة وناس معه من المشركين يوم بدر: غَرَّ هؤلاء دينهم، فأنزل الله: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾.
(١) المراغي.
(٢) لباب النقول.
7
التفسير وأوجه القراءة
٤١ - ﴿وَاعْلَمُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: أنَّ كلَّ ما غنمتموه من الأموال، وأخذتموه من الكفار المحاربين قهرًا، حالة كونه كائنًا من شيء، أي: قليلًا كان أو كثيرًا، حقيرًا كان أو جليلًا، ولكن خصَّص الإجماع من عموم الشيء الأسارى؛ فإن الخيرة فيهم إلى الإِمام بلا خلاف، وكذلك سلب المقتول إذا نادى به الإِمام ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾؛ أي: فإن خمس ما غنمتموه لله؛ أي: مفوض أمره إلى الله تعالى، يصرف في المواضع التي أمر الصرف إليها، وهي الخمسة المذكورة بعد لفظ الجلالة، والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم والتبرك؛ لأن الدنيا والآخرة كليهما لله تعالى؛ كقوله: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾، وأنَّ المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين عليه، وأما أربعة أخماسها الباقية.. فللغانمين، للفارس منهم ثلاثة أسهم، وللراجل سهمٌ.
والمعنى: واعلموا أيها المؤمنون أن ما غنمتموه من الكفار المحاربين قهرًا، حالة كونه من شيء يتمول، ولو قليلًا.. فأربعة أخماسه حقٌّ لكم، وأن خمسه الباقي مصروفٌ لمن جعله الله مستحقًا له، وهم المذكورون بقوله: ﴿وَلِلرَّسُولِ...﴾ إلخ؛ أي: يصرف خمس ذلك الخمس؛ أي: يخمس ذلك الخمس، فيصرف خمسه للرسول - ﷺ - في حال حياته، يصنع فيه ما شاء، أما (١) بعد وفاته - ﷺ -: يصرف خمس الخمس الذي كان له إِلى مصالح المسلمين العامَّة، من سد الثغور، وشراء السلاح، وبناء المساجد والمدارس والقناطر، وطريق الدعوة إلى الله تعالى، وهذا مذهب الشافعي. وقال مالك: الرأي فيه إلى الإِمام. وقال أبو حنيفة: سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته - ﷺ -، وصار الكل مصروفًا إلى الثلاثة الباقية اهـ. "بيضاوي".
وخرج بقولنا: قهرًا.. ما أخذ منهم من غير قتال، فهو فيء، كالجزية، وعشر التجارة، وتركة المرتد والكافر المعصوم الذي لا وارث له، وحكمه معلوم
(١) البيضاوي.
8
من كتب الفروع.
وظاهر الآية: أن خمس الغنيمة يقسم ستة أقسام، وبه قال أبو العالية وطائفة. ومعنى الآية على هذا القول، أي: واعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين... فاجعلوا أولًا خمسه لله تعالى، ينفق فيما يرضيه تعالى من مصالح الدين العامة؛ كالدعوة للإسلام، وإقامة شعائره، وعمارة الكعبة وكسوتها، ثم أعطوا للرسول من كفايته لنفسه ونسائه مدة سنة، ثم أعطوا منه ذوي القربى الخ. ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾؛ أي: ويصرف خمسٌ لأصحاب قرابة النبي - ﷺ -، من أهله وعشيرته - نسبًا وولاءً - المسلمين، وقد خصَّ النبي - ﷺ - ذلك النبي - ﷺ - هاشم وبني أخيه المطلب، دون بني عبد شمس ونوفل، سواءٌ فيه أغنيائهم وفقرائهم، يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، روى البخاري عن مطعم بن جبير - من بني نوفل - قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان - من بني عبد شمس - إلى رسول الله - ﷺ -، فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة؟ فقال رسول الله - ﷺ -: إنما بنوا المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحدٌ" وسر هذا: أنَّ قريشًا لما كتبت الصحيفة وأخرجت بني هاشم من مكة وحصرتهم في الشعب لحمايتهم له - ﷺ -.. دخل معهم فيه بنو المطلب، ولم يدخل بنو عبد شمس، ولا بنو نوفل، مع ما كان من عداوة بني أمية بن عبد شمس لبني هاشم في الجاهلية والإِسلام، فقد ظلَّ أبو سفيان يقاتل النبي - ﷺ -، ويؤلِّبُ عليه المشركين وأهل الكتاب إلى أن أظفر الله رسوله؛ ودانت له العرب بفتح مكة، وكذلك بعد الإِسلام خرج معاوية على علي وقاتله.
﴿و﴾ خمس يصرف إلى ﴿اليتامى﴾ الفقراء من سائر المسلمين، غير يتامى بني هاشم وبني المطلب، وهم: أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم ﴿و﴾ خمسٌ يصرف لـ ﴿المساكين﴾؛ أي: ذوي الحاجة من المسلمين، من غير بني هاشم وبني المطلب ﴿و﴾ خمس يصرف لـ ﴿ابن السبيل﴾؛ أي: المنقطع في سفره - المحتاج، ولا معصية بسفره - من المسلمين.
والحكمة في تقسيم الخمس على هذا النحو: أن الدولة التي تدير سياسة
9
الأمة لا بدَّ لها من المال؛ لتستعين به على القيام بالمصالح العامة، كشعائر الدين، والدفاع عن الأمة، وهو ما جعل لله في هذه الآية، ثم نفقة رئيس حكومتها، وهو سهم الرسول فيها، ثم ما كان لأقوى عصبته وأخلصهم له وأظهرهم تمثيلًا لشرفه وكرامته، وهو سهم ذوي القربى، ثم ما يكون لذوي الحاجات من ضعفاء الأمة، وهم الباقون.
ولا يزال هذا الاعتبار مراعى معمولًا به في كثير من الدول مع اختلاف شؤون الاجتماع والمصالح العامة، فالمال الذي يرصد للمصالح العامة يدخل في موازين الوزارات المختلفة، ما بين جهرية وسرية، ولا سيما الأمور الحربية، وكذلك راتب بمثل الدولة من ملك، أو رئيس جمهورية، منه ما هو خاصٌّ بشخصه، ومنه لأسرته وعياله، ومن موازين الدولة: ما يبذل لإعانة الجماعات الخيرية والعلمية ونحوهما.
وكذلك اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، لا تجعل لهم الدول في هذا العصر حقًّا في أموال الدولة، وإن كان بعض الدول يعطيهم أموالًا من الأوقاف الخيرية التي تتولى أمر استغلالها وإنفاق ريعها على المستحقين له، وبعضها يخصص إعانات للعمال المتعطلين في وقت الحاجة فحسب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ مفتاح كلام؛ أي: إنه ذكر على سبيل التبرك، وانما أضافه سبحانه إلى نفسه؛ لأنه هو الحاكم فيه، فيقسمه كيف شاء، وليس المراد منه أنَّ لله سهمًا مفردًا؛ لأن ما في السموات والأرض.. فهو لله، وبهذا قال الحسن، وقتادة، وعطاء، وإبراهيم النخعي، فقالوا: سهم الله وسهم رسوله واحدٌ، وذكر الله للتعظيم، وهذا هو القول الذي عليه الجمهور، وهو الراجح كما مرَّ، وكأنَّ التركيب حينئذٍ: واعلموا أنَّ ما غنمتم من شيء فأن لله وللرسول خمسًا واحدًا من أخماس خمسه، ولذي القربى خمسًا واحدًا منها ولليتامى خمسًا واحدًا منها وللمساكين خمسًا واحدًا منها، ولابن السبيل خمسًا واحدًا منها.
10

فصل


واختلف العلماء (١): هل الغنيمة والفيء اسمان لمسمَّى واحد أم يختلفان في التسمية؟.
فقال عطاء بن السائب: الغنيمة: ما ظهر المسلمون عليه من أموال المشركين فأخذوه عنوةً، وأما الأرض فهي فيءٌ. وقال سفيان الثوري: الغنيمة: ما أصاب المسلمون من مال الكفار عنوةً بقتال، وفيه الخمس، وأربعة أخماسه لمن شهد الوقعة، والفيء: ما صولحوا عليه بغير قتال، وليس فيه خمس، فهو لمن سمَّى الله. وقيل: الغنيمة: ما أخذ من أموال الكفار عنوةً عن قهر وغلبة، والفيء: ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركابٍ؛ كالعشور، والجزية، وأموال الصلح، والمهادنة، وقيل: إن الفيء والغنيمة معناهما واحدٌ، وهما اسمان لشيء واحد.
والصحيح: أنهما يختلفان، فالفيء: ما أخذ من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب، والغنيمة: ما أخذ من أموالهم على سبيل القهر والغلبة بإيجاف خيل عليه أو ركاب. فذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية حكم الغنيمة، فقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾، يعني: من أي شيء كان، حتى الخيط والمخيط، فإنَّ لله وللرسول خمسه، وقد ذكر أكثر المفسرين والفقهاء أن قوله: ﴿لله﴾ افتتاح كلام على سبيل التبرك، وإنّما أضافه لنفسه تعالى لأنّه هو الحاكم فيه، فيقسمه كيف شاء، وليس المراد منه أنَّ سهمًا منه لله مفردًا؛ لأنَّ الدنيا والآخرة كلها لله تعالى كما مرَّ.
وروى الجعفي عن هارون عن أبي عمرو (٢): ﴿فإنّ لله﴾ بكسر الهمزة، وحكاها ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، ويقوِّي هذه القراءة قراءة النخعي: ﴿فلِلَّهِ خُمُسُه﴾. وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو: ﴿خُمْسَه﴾
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
11
بسكون الميم، وقرأ النخعي: ﴿خِمْسَه﴾ بكسر الخاء على الإتباع، يعني: إتباع حركة الخاء لحركة ما قبلها، كقراءة من قرأ: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ بكسر الحاء إتباعًا لحركة التاء، ولم يعتد بالساكن؛ لأنّه حاجز غير حصين.
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿إن كنتم﴾ أيها المؤمنون ﴿ءَامَنتُم بالله﴾ وصدّقتم وحدانيته، شرطٌ جوابه محذوف، وقوله: ﴿وما أنزلنا﴾ معطوف على الجلالة؛ أي: وآمنتم بالمنزل ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾ محمدٍ - ﷺ -، وهذه إضافة تشريف وتعظيم للنبي - ﷺ -، والذي أنزله على عبده محمَّد - ﷺ -: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ...﴾ الآية، وقيل: المراد ما أنزله عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ، قوله: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ متعلقٌ بـ ﴿أنزلنا﴾ والمراد بيوم الفرقان: يوم بدر، سمي به؛ لأن الله سبحانه وتعالى فرَّق فيه بين الحق بنصره والباطل بخذلانه؛ لأنه حكم فيه بالنصرة والغنيمة للنبي - ﷺ - وأصحابه، والقتل والهزيمة لأبي جهل وأصحابه. وقوله: ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ بدل من يوم الفرقان؛ أي: يوم التقى وتقاتل فيه والتحم جمع المؤمنين وجمع الكافرين، وهو يوم بدر، وهو (١) أول مشهد شهده رسولُ الله - ﷺ - وكان رئيس المشركين عتبة بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة، أو لسبع عشرة خلت من رمضان، في السنة الثانية من الهجرة، وأصحاب رسول الله - ﷺ - يومئذ ثلاث مئة وبضعة عشر رجلًا، والمشركون ما بين الألف والتسع مئة، فهَزم المشركين، وقَتل منهم زيادةً على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك.
والمعنى: إن كنتم أيها المؤمنون أمنتم باللهِ، وبما أنزل على عبده محمَّد - ﷺ - في يوم بدر، الذي هو يومٌ فرَّق الله فيه بين الحق والباطل، ويوم التقى واقتتل فيه جمع المسلمين وجمع الكافرين؛ أي: إن كنتم آمنتم بما ذكر إيمان إذعان وقبول.. فاعلموا أن خمس الغنيمة مصروفٌ إلى هذه المصارف الخمسة، واقطعوا أطماعكم عنه، واقنعوا بالأخماس الأربعة.
﴿والله﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءه ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: قادر، لا
(١) الخازن.
12
يعجزه شيء، ومن قدرته: أن نصركم على قلتكم، وجوعكم، وضعفكم، وبلوغ عدوكم ثلاثة أضعاف عددكم أو أكثر، وأيَّد رسوله وأنجز وعده له.
وقرأ زيد بن عليّ (١): ﴿عَلَى عُبُدِنَا﴾ بضمتين، كقراءة من قرأ: ﴿وَعُبُدَ الطَّاغُوتَ﴾ بضمتين، و ﴿عَبْدنا﴾ على قراءة الجمهور هو الرسول - ﷺ -، كما مرَّ بيانه، و ﴿عُبُدِنا﴾ على هذه القراءة هو الرسول ومن معه من المؤمنين.
٤٢ - و ﴿إذ﴾ في قوله: ﴿إذ أَنتُم﴾: بدل من يوم الفرقان؛ أي: إن كنتم آمنتم بما أنزلنا على عبدنا ذلك اليوم، في الوقت الذي أنتم كائنون مستقرون ﴿بالعدوة الدنيا﴾؛ أي: بالجانب القريب إلى المدينة من ذلك الوادي، يعني: وادي بدر ﴿وَهُم﴾؛ أي: أعداؤكم المشركون نازلون ﴿بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾؛ أي: بالجانب البعيد من المدينة من ذلك الوادي.
والعدوة - مثلثة العين - جانب الوادي. والدنيا: - مؤنث الأدنى - وهو الأقرب. والقصوى: - مؤنث الأقصى - وهو الأبعد، كما سيأتي في مبحث التصريف.
والمعنى (٢): إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا في ذلك اليوم، في الوقت الذي كنتم مرابطين فيه بأقرب الجانبين من الوادي إلى المدينة، وفيه نزل المطر لا في غيره، والأعداء في الجانب الأبعد عنها، ولا ماء فيه، وأرضه رخوة تسوخ فيها الأقدام، ويجوز أن يكون العامل في ﴿إذ﴾ محذوفًا، تقديره: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم، إذ أنتم نازلون بشفير الوادي الأدنى من المدينة، وهم - أي المشركون - نازلون بشفير الوادي الأقصى من المدينة مما يلي مكة.
﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾؛ أي: والحال أن العير التي خرج المسلمون للقائها التي يقودها أبو سفيان وأصحابه قادمًا بها من الشام بطعام.. كائنون
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
13
بمكانٍ أسفل منكم على ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر. ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ﴾ أنتم وأهل مكة على القتال ﴿اخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾؛ أي: لخالف بعضكم بعضًا في الميعاد؛ هيبةً منهم؛ لكثرتهم وقلتكم؛ أي: ولو أعلم كل منكم الآخر بالخروج للقتال.. لاختلفتم في الميعاد؛ أي: لتخلفتم عن الميعاد؛ أي: المواعدة؛ أي: التواعد، بمعنى: أنكم لم توفوا بما أعلمتم به، بل تتخلفون عن الخروج.
والمعنى (١): أي ولو تواعدتم أنتم وهم على القتال، وعلمتم ما لهم وما لكم.. لاختلفتم في الميعاد؛ كراهةً للحرب لقلَّتكم، وعدم إعداد العُدَّة لها، وانحصار همكم في العير، ويأسًا من الظفر بها، ولأن غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال؛ لأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله - ﷺ -، ولا يأمنون نصر الله له؛ لأن كفر الكثيرين منهم به كان استكبارًا وعنادًا، لا اعتقادًا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بكسر العين في (٢): ﴿العِدْوة﴾ في الموضعين، وباقي السبعة بالضم. وقرأ الحسن وقتادة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد بالفتح، وأنكر أبو عمرو الضم، وقال الأخفش: لم يسمع من العرب إلا الكسر. وقال أبو عبيد: الضم أكثرهما. وقال اليزيدي: الكسر لغة الحجاز. انتهى. وقرىء: ﴿بالعِدْية﴾ بقلب الواو ياء؛ لكسرة العين، ولم يعتدوا بالساكن؛ لأنه حاجز غير حصين. وقرأ زيد بن علي: ﴿القصيا﴾ وقد ذكرنا أنه القياس، وذلك لغة تميم.
وقرأ زيد بن علي: ﴿أسفل﴾ بالرفع، اتسع في الظرف فجعله نفس المبتدأ مجازًا.
فائدة لطيفة: قال الزمخشري: فإن قلتَ (٣): ما فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم؟
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الكشاف.
14
قلتُ: الفائدة فيه: الإخبار عن الحالة الدالة على قوة شأن العدو وشوكته، وتكامل عدته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين وشتات أمرهم، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعًا من الله تعالى، ودليلٌ على أنَّ ذلك أمر لم يتيسَّر إلا بحوله سبحانه وتعالى وقُوَّته، وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضًا لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي غبار تسوخ فيها الأرجل، ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم، وكانت الحماة دونها تضاعف حميتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم؛ ليبعثهم الذب عن الحرم والغيرة على الحرم على بذل تجهيداتهم في القتال، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالإنحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم، ويضبط هممهم، ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم، ولا يخلوا مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم، وقصارى شدتهم، وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر. انتهى، وهو كلام حسن.
﴿وَلَكِنْ﴾ جمع الله تعالى بينكم وبينهم على هذه الحال بغير ميعاد؛ ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾؛ أي: ليمضي الله سبحانه وتعالى ويوجد أمرًا وشأنًا كان مفعولًا في سابق علمه، وهو النصرة والغنيمة للنبيِّ وأصحابه، والهزيمة والقتل لأبي جهل وأصحابه، ويكون استيلاء المؤمنين على المشركين معجزةً دالةً على صدق الرسول - ﷺ -.
أي (١): ولكن تلاقيتم واقتتلتم على غير موعد ولا رغبةٍ في القتال؛ ليقضي الله سبحانه ويظهر لكم أمرًا وشيئًا كان وسبق في علمه وحكمته أنه واقع لا محالة، وهو القتال المفضي إلى خزيهم، ونصركم عليهم، وصدق وعده لرسوله، وإظهار دينه على الدين كله، ولو كره المشركون، فأخرج المسلمين لأخذ العير وغنيمتها عند أنفسهم، وأخرج الكافرين للمدافعة عنها، ولم يكن في ظن
(١) المراغي.
15
الطائفتين أن يقع هذا الاتفاق على هذه الصفة.
واللام في ﴿لِيَقْضِيَ﴾ متعلقة بمحذوف، كما قدَّرنا آنفًا بقولنا: ولكن جمعهم ليقضي. وجملة قوله: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾: بدلٌ من الجملة التي قبلها، أعني: ليقضي؛ أي: جمع الله بينكم؛ ليموت من مات عن بينةٍ رآها، وعبرةٍ عاينها، وحجةٍ قامت عليه، ويعيش من عاش عن بينة رآها، وعبرة شاهدها، وحجة عليه؛ لئلا يكون له حجةٌ ومعذرةٌ. وقيل: الهلاك والحياة مستعاران للكفر والإسلام؛ أي: ليصدر إسلام من أسلم عن وضوح ويقين بأنه دين الحق، ويصدر كفر من كفر عن وضوح وبينة، لا عن مخالجة شبهةٍ، وقال قتادة: ليضل من ضلَّ عن بينة، ويهتدي من اهتدى على بينة، وفي "الفتوحات": ﴿لِيَهْلِكَ﴾ (١)؛ أي: يدوم على الهلاك؛ أي: الكفر ﴿وَيَحْيَى﴾؛ أي: يدوم على الحياة، أي: الإيمان. انتهى.
والخلاصة: فعل ذلك بكم؛ ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من الكفار من هلك عن حجةٍ بينةٍ، واضحةٍ، مشاهدةٍ بالبصر على حقية الإِسلام، بإنجاز وعده لرسوله ومن معه من المؤمنين، بحيث تنتفي الشبهة، ولا يكون هناك مجالٌ للاعتذار عند الله عن إجابة الدعوة، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها وعاينها، فيزداد يقينًا بالإيمان، ونشاطًا في الأعمال.
وقرأ الأعمش، وعصمة عن أبي بكر عن عاصم (٢): ﴿لِيَهْلِك﴾ بفتح اللام.
وقرأ نافع وخلف وسهل ويعقوب والبزيّ وأبو بكر: ﴿مَنْ حَيّ﴾ بيائين على الأصل. وقرأ الباقون بياء واحدة على الإدغام، وهو اختيار أبي عبيد؛ لأنها كذلك وقعت في المصحف، والفك والإدغام لغتان مشهورتان.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَسَمِيعٌ﴾ بكفر الكافرين، وإيمان المؤمنين ﴿عَلِيمٌ﴾ بكفرهم وإيمانهم، لا يخفى عليه شيء من أقوال الكافرين والمؤمنين، ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو يسمع ما يقول كل فريق منهم من الأقوال
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
16
الصادرة عن عقيدة، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره في أعماله، ويعلم ما يكنُّه من ذلك ومن غيره، ويجازي كلًّا بحسب ما يسمع ويعلم.
والخلاصة: (١) أنَّ غزوة بدر قامت بها الحجة البالغة للمؤمنين بنصرهم - كما بشرهم النبي - ﷺ - وحجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم - كما أنذرهم الرسول - ﷺ - ولا مجال في ذلك للمكابرة والتأويل.
وختم بهاتين الصفتين؛ لأنَّ الكفر والإيمان يستلزمان النطق باللسان، والاعتقاد بالجَنَانِ، فهو سميع لأقوالكم، عليم بنياتكم.
٤٣ - ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: واذكر يا محمَّد نعمة الله عليك؛ إذ يريك المشركين ﴿فِي مَنَامِكَ﴾؛ أي: في نومك قبل يوم بدر ﴿قَلِيلًا﴾ عددهم مع كثرتهم، وقال أبو حيان: والمراد بالقلة هنا قلة القدر واليأس والنجدة، وأنهم مهزومون مصروعون، ولا يحمل على قلة العدد؛ لأنه - ﷺ - رؤياه حق، وقد كان علم أنهم ما بين تسع مئة إلى ألف، فلا يمكن حمل ذلك على قلة العدد. انتهى.
قال مجاهد (٢): أراهم الله في منامه قليلًا، فأخبر النبي - ﷺ - أصحابه بذلك، وكان ذلك تثبيتًا. وقال محمَّد بن إسحاق: فكان ما أراه الله من ذلك نعمةً من نعمه عليهم، يشجعهم بها على عدوهم، فكف عنهم بها ما تخوف عليهم من ضعفهم لعلمه بما فيهم.
وقيل: لما أُري النبي - ﷺ - كفارَ قريش في منامه قليلًا، فأخبر بذلك أصحابه.. قالوا: رؤيا النبي - ﷺ - حق، فصار ذلك سببًا لجرائتهم على عدوهم، وقوةً لقلوبهم. وقال الحسن: إن هذه الإراءة كانت في اليقظة، والمراد من المنام: العين؛ لأنها موضع النوم. قال الزجاج: هذا مذهب حسن، ولكن الأول أسوغ في العربية؛ لقوله: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ...﴾ إلخ، فدل بهذا على أنَّ هذه رؤية الالتقاءة واليقظة، وأن تلك رؤية النوم.
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
17
وقيل: الظرف في ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ﴾: متعلق بـ ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ المذكورين قبله، والمعنى (١): حينئذٍ: إنَّ الله سبحانه وتعالى سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك الله عدد عدوك وعدوهم قليلًا في الرؤيا المنامية، فتخبر بها المؤمنين، وتطمئن قلوبهم، وتقوي آمالهم بالنصر. ، فيجترئون عليهم.
﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ﴾؛ أي: ولو أراك يا محمَّد المشركين في منامك ﴿كَثِيرًا﴾ عددهم، وذكرت ذلك لأصحابك.. ﴿لَفَشِلْتُمْ﴾، أي: لجبنتم، ولتأخرتم عن حربهم وقتالهم؛ أي: لو أراكهم كثيرًا.. لذكرته لأصحابك، ولو سمعوا ذلك.. لجبنوا ﴿وَلَتَنَازَعْتُم﴾ معطوف على ما قبله عطف سبب على مسبب، وسيذكر مقدمًا في قوله الآتي: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾؛ أي: ولاختلفتم في أمر القتال، ولتفرقت آراؤكم في الفرار والثبات. وانظر إلى محاسن القرآن، فإنه لم يسند الفشل إليه - ﷺ -؛ لأنه معصوم، بل قال: ﴿لَفَشِلْتُمْ﴾ إشارةً إلى أصحابه؛ أي: (٢) ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرًا.. لفشل أصحابك وخافوا، ولم يقدروا على حرب القوم، ولوقع بينهم النزاع وتفرق الآراء في أمر القتال؛ إذ منهم القوي الإيمان والعزيمة، فيطيع الله ورسوله ويقاتل، ومنهم الضعيف الذي يثبط عن القتال، بمثل الأعذار التي جادلوا بها الرسول - ﷺ -، كما تقدم في قوله: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾.
وعبارة "الخازن" هنا قوله: ﴿وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ يعني: اختلفتم في أمر الإقدام عليهم، أو الإحجام عنهم، وقيل: معنى التنازع في الأمر: الاختلاف الذي تكون معه مخاصمة ومجادلة ومجاذبة كل واحد إلى ناحية، والمعنى: لاضطرب أمركم واختلفت كلمتكم. انتهت.
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَلَّمَ﴾؛ أي: سلمكم، وحفظكم من التنازع والمخالفة فيما بينكم، وقيل: معناه: ولكن الله تعالى سلمكم وعصمكم
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
18
من الفشل والتنازع، وتفرق الآراء، وما يعقب ذلك من الانكسار والخذلان والهزيمة ﴿إنه﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيم بذَات اَلصدُورِ﴾؛ أي: بالخطرات التي تقع في القلوب من الصبر والجزع والجراءة والجبن، ولذلك دبر ما دبر.
والمعنى: أنه تعالى عليم بما تخفيه الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فيحجم عن القتال، ومن شعور الإيمان والتوكل الذي يبعث في النفس الطمأنينة والصبر فيحملها على الإقدام، ويسخر لكل منهما الأسباب التي تفضي إلى ما يريده منها.
٤٤ - والخطاب في قوله: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ﴾.. للرسول - ﷺ - وللمؤمنين جميعًا، وأرى: بصرية يقظانية، والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكروا يا معشر المؤمنين نعمة الله تعالى عليكم؛ إذ يبصركم الكفار وقت التقائكم وتقابلكم في المعركة ﴿فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا﴾؛ أي: أراكم إياهم حالة كونهم قليلًا في أعينكم ونظركم، حتى قال قائلٌ من المسلمين لآخر: أتراهم سبعين؟ قال: هم نحو المئة، وهم في نفس الأمر ألفٌ، تصديقًا لرؤيا النبي - ﷺ -، ولتزداد جراءة المؤمنين عليهم. ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿فِي أَعْيُنِهِمْ﴾؛ أي: في أعين الكفار ونظرهم؛ أي: يريهم إياكم قليلًا في أعينهم ونظرهم، حتى قال أبو جهل: إنما أصحاب محمَّد آكلة جزور؛ أي: قليلٌ، يشبعهم. جزور واحدٌ، فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال، وقلل الله المؤمنين في أعين المشركين قبل التحام الحرب؛ لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر، فيصير ذلك سببًا لانكسارهم، ولأنهم إذا رأوهم قليلًا أقدموا على القتال غير خائفين، فلما التحم القتال.. أرى الكفار المسلمين مثلي الكفار، وكانوا ألفًا، فرأوا المسلمين قدر ألفين؛ ليهابوا، وتضعف قلوبهم وشوكتهم، ويتمكن المسلمون منهم، وتكون الدائرة عليهم.
واللام في قوله: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ متعلقةٌ بمحذوف، تقديره: فعل بكم وبهم ذلك التقليل؛ ليظهر الله سبحانه وتعالى أمرًا كان مقضيًّا في سابق علمه، من إعلاء كلمة الإِسلام، ونصر أهله، وإذلال كلمة الشرك، وخذلان أهله.
19
والخلاصة (١): أنّ الله سبحانه وتعالى فعل ذلك؛ ليقدم كل منكم ومنهم على قتال الآخر، فهذا واثق بنفسه مدل ببأسه، وهذا متكل على ربه واثق بوعده، حتى إذا ما التقيتم ثبتكم وثبطهم؛ ليقضي بنصركم عليهم أمرًا كان في علمه مفعولًا، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ومن ثم هيَّأ الأسباب وقدرها تقديرًا.
- فإن قلت (٢) قد قال في الآية المتقدمة: ﴿وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ وقال في هذه الآية: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾، فما فائدة هذا التكرار؟
قلتُ: المقصود من ذكره في الآية المتقدمة؛ ليحصل استيلاء المسلمين على المشركين على وجه القهر والغلبة؛ ليكون ذلك معجزةً دالة على صدق رسول الله - ﷺ -، والمقصود من ذكره في هذه الآية: أنَّ الله سبحانه وتعالى قلل عدد الفريقين في أعين بعضهم بعضًا؛ للحكمة التي قضاها، فلذلك قال: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾.
﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، لا إلى غيره ﴿تُرْجَعُ﴾ بالبناء للمفعول؛ أي: ترد ﴿الْأُمُورُ﴾ كلها، يفعل فيها ما يريد، ويقضي في شأنها ما يشاء، ولا تجري على ما يظنه العبيد. وقرىء بالبناء للفاعل، أي: تفسير وترجع وتعود إلى الله تعالى في الآخرة، فيجازي كل عامل على قدر عمله، فالمحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، أو يغفر.
فائدة: فإن قيل (٣): ما فائدة تكرار الرؤية ها هنا، وقد ذكرت في قوله: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ﴾؟
قلتُ: يجاب عنه بجوابين:
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
(٣) زاد المسير.
20
أحدهما: أنَّ الأولى كانت في المنام، والثانية في اليقظة، فلا تكرار.
والثاني: أنَّ الأولى للنبي - ﷺ - خاصةً، والثانية له ولأصحابه.
فإن قيل: تكثير المؤمنين في أعين الكافرين أولى من تقليلهم لمكان إعزازهم؟
قلتُ: يجاب عنه بثلاثة أجوبة:
أحدها: أنهم لو كثروا في أعينهم.. لم يقدموا عليهم، فلم يكن قتال.
والقتال سبب النصر، فقللهم لذلك.
والثاني: أنه قللهم؛ لئلا يتأهب المشركون كل التأهب؛ فإذا تحقق القتال.. وجدهم المسلمون غير مستعدين، فظفروا بهم.
والثالث: أنه قللهم؛ ليحمل الأعداء عليهم في كثرتهم فيغلبهم المسلمون، فيكون ذلك آيةً للمشركين، ومنبِّهًا على نصرة الحق.
٤٥ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ باللهِ، وصدقوا بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً﴾؛ أي: إذا قابلتم جماعة كافرة وحاربتموها. وترك (١) وصفها؛ لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار، واللقاء اسم غالب للقتال ﴿فَاثْبُتُوا﴾ لقتالهم وجدوا في المحاربة، ولا تنهزموا إذا لم يزيدوا على الضعف، بأن يوطنوا أنفسهم على لقاء العدو وقتاله، ولا يحدثوها بالتولي ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى بالقلب واللسان في أثناء القتال ذكرا ﴿كَثِيرًا﴾ ومن الذكر ما يقع حال القتال من التكبير.
والمعنى (٢): كونوا ذاكرين الله عند لقاء عدوكم ذكرًا كثيرًا بقلوبكم وألسنتكم. أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين وأولياءه الصالحين بأن يذكروه في أشد الأحوال، وذلك عند لقاء العدو وقتاله. وفيه تنبيه على أن الإنسان لا يجوز أن يخلو قلبه ولسانه عن ذكر الله تعالى، وقيل: المراد من هذا الذكر: هو الدعاء على العدوِّ، وذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى، فأمر الله سبحانه
(١) النسفي.
(٢) الخازن.
21
وتعالى عباده أن يسألوه النصر على العدو عند اللقاء.
والخلاصة: أنكم إذا لقيتم (١) أعداءكم الكفار.. فاثبتوا لهم، ولا تفروا أمامهم؛ فإن الثبات قوة معنوية طالما كان هو السبب في النصر والغلب بين الأفراد والجيوش.
انظر إلى الرجلين الجلدين يتصارعان، فيعيا كل منهما وتضعف قوته، ويتوقع كل لحظة أن يقع صريعًا، ولكن قد يخطر له أن خصمه ربما وقع قبله فيثبت إلى اللحظة الأخيرة، فيكون له الفَلْجُ والفوز على خصمه، وهكذا في الحروب، فإن من أهم أسباب النصر فيها: الثبات وعدم اليأس، بل الثبات نافع في كل أعمال البشر، فهو الوسيلة في الفوز والنجاح فيها.
وأكثروا من ذكر الله تعالى في أثناء القتال بقلوبكم: بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين، ونصر كل من يتبع سنتهم بنصر دينه وإقامة سننه، وبأن النصر بيده ومن عنده، يؤتيه من يشاء، وبألسنتكم: بالتكبير والتسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار، وبالدعاء على الأعداء بنحو قولكم: اللهم أخذلهم واقطع دابرهم واجعل الدائرة عليهم، والتضرع إليه مع اليقين بأنه لا يعجزه شيء.
وفي ذلك إيماءٌ إلى أنه يجب على العبد أن لا يفتر عن ذكر الله تعالى، أكثر ما يكون همَّا وأشغل ما يكون قلبًا، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك، وإن كانت متوزعة عن غيره.
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؛ أي: لكي تظفروا بمرادكم من النصرة والمثوبة؛ فإن الثبات وذكر الله تعالى هما وسيلتان من وسائل الفوز في القتال في الدنيا، وفي نيل الثواب في الآخرة.
فإن قلت (٢): ظاهر الآية يوجب الثبات على كل حال، وذلك يوهم أنها ناسخة لآية التحرف والتحيز؟
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
22
قلتُ: المراد من الثبات هو: الثبات عند المحاربة والمقاتلة في الجملة، وآية التحرف والتحيز لا تقدح في حصول هذا الثبات في المحاربة، بل ربما كان الثبات لا يحصل إلا بذلك التحرف والتحيز.
٤٦ - ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى فيما أمركم به من الأسباب الموجبة للفلاح في القتال وفي غيره، ﴿و﴾ أطيعوا ﴿رسوله﴾ - ﷺ - كذلك، فهو المبين لكلام ربه، والمنفذ له بالقول والعمل والحكم، وهو القائد الأعظم في القتال، فطاعته هي جماع النظام، والنظام ركن من أركان الظفر، وهو المشاور لكم في الرأي والتدبير والاستشارة في الأمور. ﴿وَلَا تَنَازَعُوا﴾؛ أي: ولا تختلفوا في أمر القتال كما فعلتم في أحد ﴿فَتَفْشَلُوا﴾؛ أي: فتجبنوا عن القتال؛ فإن التنازع والاختلاف يوجب الفشل والضعف والجبن. ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾؛ أي: شدتكم وقوتكم ودولتكم. وقرأ أبو حيوة وأبان وعصمة عن عاصم: ﴿ويذهب﴾ بالياء ونصب الباء، وقرأ الحسن وإبراهيم: ﴿فَتَفْشَلُوا﴾ بكسر الشين. قال أبو حاتم: وهذا غير معروف. وقال غيره: هي لغة؛ أي: لا يكن منكم تنازعٌ واختلافٌ؛ فإن ذلك مدعاةٌ للفشل والخيبة وذهاب القوة فيتغلب عليكم العدو.
وأصل الريح (١): الهواء المتحرك، ثم استعيرت للقوة والغلبة؛ لأنه لا يوجد في الأجسام ما هو أقوى منها، فهي تهيج البحار وتقتلع الأشجار وتهدم الدور والقلاع، ومن ثم يقال: هبت رياح فلان: إذا جرى أمره على ما يريد، كما يقال: ركدت رياحه: إذا ضعف أمره. ومن استعارة (٢) الريح للدولة والقوة قول الشاعر:
مُرَادِيَ لاَ يَخْفَى عَلَيْكَ فَجُدْ بِهِ وَهُوَ عَلَى التَّفْصِيْلِ عِنْدَكَ بَادِيْ
تَعَؤَدْتُ مِنْكَ الْجُوْدَ وَالْفَضْلَ في الَّذِيْ أُوَمِّلُ مِنْ خَيْرٍ فَعَجِّلْ جَوَابِي
لَدَيْكَ جَمِيْعُ اَلْخَيْرِ فَاسْمَحْ بِنَيْلِهِ لِعَبْدٍ يُنَاجِي يَا سَمِيْعَ نِدَائِي
إِذَا هَبَّتْ رِياحُكَ فَاَغتَنِمهَا فَإنَّ لِكُلِّ عَاصِفَةٍ سُكُوْنَا
وقال شاعر الأنصار:
قَدْ عَوَّدَتْهُم صَبَاهُم أنْ يَكُونَ لَهُم رِيْحُ اَلْقِتَالِ وَأسْلاَبُ اَلَّذِيْنَ لَقُوْا
وقيل: المراد بالريح: ريح الصبا؛ لأن بها كان ينصر النبي - ﷺ -، كما يدل
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
عليه قوله - ﷺ -: "نصرت بالصَّبا، وأهلكت عاد بالدبور" وعن النعمان بن مقرِّن قال: (شهدت رسول الله - ﷺ -، فكان إذا لم يقاتل من أول النهار.. أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر) أخرجه أبو داود.
ثم أمرهم الله سبحانه وتعالى بالصبر على شدائد الحرب، وأخبرهم بأن الله مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه، فقال: ﴿وَاصْبِرُوا﴾ عند لقاء عدوكم، ولا تنهزموا عنهم ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بالنصر والمعونة، وعن عبد الله بن أبي أوفى أنَّ رسول الله - ﷺ - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى إذا مالت الشمس.. قام فيهم، فقال: "أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وأسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" ثم قال رسول الله - ﷺ -: "اللهم مُنْزِلَ الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم" متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا" متفق عليه.
والمعنى: واصبروا على الشدائد، وعلى ما تلاقونه من بأس العدو واستعداده، وكثرة عدده، فالله مع الصابرين، يمدهم بمعونته وتأييده، ومن كان الله معينًا له.. فلا يغلبه غالبٌ، ويا حبَّذا هذه المعية، التي لا يغلب من رزقها غالبٌ، ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات وإن كانت كثيرةً.
٤٧ - ثم نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس، وهم قريش، فقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا﴾ في الاستكبار والفخر ﴿كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ مكة، لحماية العير، حالة كونهم ﴿بَطَرًا﴾؛ أي: بطرين، فرحين مرحين، أشد البطر والفرح، أو خرجوا لأجل البطر والفرح، والبطر: شدة الفرح، أو الطغيان، أو كفران النعم، (و) حالة كونهم ﴿رِئَاءَ النَّاسِ﴾؛ أي: مرائين الناس، أو لأجل الرياء، فإنهم خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان، ومعهم القيان والمعازف، فلما بلغوا الجحفة.. أتاهم رسول أبي سفيان، وقال: ارجعوا إلى مكة؛ فقد سلمت عيركم، فأبوا إلا إظهار الجلادة والقوة
24
والشجاعة، وأيضًا لما وردوا الجحفة.. بعث الخفاف الكناني إلى أبي جهل - وهو صديق له - بهدايا مع ابن له، فلما أتاه.. قال: إنَّ أبي يقول: إن شئت أن أمدك بالرجال.. أمددتك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي.. فعلت. فقال أبو جهل: قل لأبيك: جزاك الله خيرًا، إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمَّد - ﷺ -... فوالله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس.. فوالله إن بنا على الناس لقوةً، والله ما نرجع عن قتال محمَّد حتى نرد بدرًا، فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، وننحر الجزور في بدر، فيثني الناس علينا بالشجاعة والسماحة، وقد بدَّلهَم الله شرب الخمر بشرب كأس الموت، وبدل ضرب الجواري على نحو الدفوف بنوح النائحات، وبدل نحر الجزور بنحر رقابهم، حيث قتل منهم سبعون، وأسر سبعون.
واعلم: أن النِّعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد، فإن صرفها إلى مرضاته تعالى وعرف أنها من الله تعالى.. فذاك هو الشكر، وإن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمغالبة بالكثرة على أهل الزمان.. فذاك هو البطر. والرياء: إظهار الجميل ليراه الناس، مع إبطان القبيح. والفرق بين الرياء والنفاق: أن النفاق: إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرياء: إظهار الطاعة مع إبطان المعصية.
والمعنى: عليكم أيها المؤمنون أن تمتثلوا ما أمرتم به، وتنتهوا عمَّا نهيتهم عنه، ولا تكونوا كأعدائكم المشركين الذين خرجوا من ديارهم في مكة وغيرها من الأماكن التي استنفرهم منها أبو سفيان بطرين بما أوتوا من قوةٍ ونعم لا يستحقونها، مرائين الناس بها ليعجبوا بها ويثنوا عليهم بالغنى والقوة والشجاعة. وظاهر النظم الكريم أن قوله: ﴿بَطَرًا﴾ متعلق بخرجوا، وهو لا يوافق الواقع؛ لأن خروجهم كان لغرضٍ مهم، وهو المنع عن عيرهم، والحق: أن يكون علة لمعلول محذوف، تقديره: خرجوا من ديارهم ليمنعوا عيرهم، ولم يرجعوا بعد نجاتها بطرًا، فهو علة لهذا المقدر، وهو قولنا: لم يرجعوا، وعلة الخروج: منعهم عن عيرهم كما قدرنا، كما ذكره في "الفتوحات".
25
وقوله: ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: ويمنعون الناس عن الدخول في دين الله، بمعاداة النبي - ﷺ - والمؤمنين، معطوفٌ على ﴿بَطَرًا﴾ على كلا التأويلين.
والمعنى: ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرين مرائين، صادين عن سبيل الله، أو خرجوا للبطر والرياء والصد عن سبيل الله تعالى. والصد: إضلال الناس، والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية، ويجوز أن يكون ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ معطوفًا على ﴿خَرَجُوا﴾ والمعنى: يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصد عن سبيل الله.
وإنّما ذكر البطر والرياء بصيغة الاسم، والصد بصيغة الفعل؛ لأنَّ أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على المفاخرة والرياء، وأما صدهم عن سبيل الله.. فإنّما حصل في الزمان الذي ادَّعى فيه النبي - ﷺ - النبوة. ﴿والله﴾ سبحانه وتعالى: ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ بعلمه؛ أي: عالم بما جاؤوا لأجله؛ أي: إنَّه تعالى عالم بجميع الأشياء، ظواهرها وبواطنها، لا يخفى عن علمه شيءٌ؛ لأنه محيط بأعمال العباد كلِّها، فيجازي المحسنين ويعاقب المسيئين.
٤٨ - وفي هذا زجر شديد، وتهديد أكيد على الرياء والتصنع والبطر والكبرياء، وأنه سيجازي عليها أشد الجزاء ﴿و﴾ اذكروا أيها المؤمنون نعمة الله تعالى عليكم ﴿وَإِذْ زَيَّنَ﴾ وحسن ﴿لَهُمُ﴾؛ أي: لهؤلاء المشركين ﴿الشَّيْطَانُ﴾؛ أي: إبليس بوسوسته ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ الخبيثة، في معاداة النبي - ﷺ - والمؤمنين، وخروجهم من مكة، فإن المشركين حين أرادوا السير والخروج إلى بدر.. خافوا من بني بكر بن كنانة؛ لأنهم كانوا قتلوا منهم رجلًا واحدًا قبل ذلك، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم، فتصوَّر لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم - وهو من بني بكر بن كنانة، وكان من أشرافهم - في جندٍ من الشياطين، ومعه رايةٌ. ﴿وَقَالَ﴾ إبليس للمشركين: ﴿لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ﴾؛ أي: لا غالب عليكم اليوم من بني كنانة ومن محمد - ﷺ - وأصحابه؛ أي: وقال لهم بما ألقاه في قلوبهم، وخيل إليهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعددهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون قربات، حتى قالوا: اللهم انصر إحدى الفئتين، وأفضل الدينين.
26
﴿و﴾ قال لهم: ﴿وَإِنِّي جَارٌ لَكُم﴾؛ أي: حافظكم من مضرتهم وناصركم عليهم، ﴿فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ﴾ والتقى الجمعان - جمع المسلمين وجمع الكافرين - بحيث ترى كل فئة الأخرى، أي: فلمَّا قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر، وصار بحيث يراه ويعرف حاله، وقبل أن تصطلي نار القتال معه، ورأى إبليس نزول الملائكة من السماء.. ﴿نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾؛ أي: رجع إبليس إلى خلفه هاربا: أي: رجع القهقرى وتولى إلى الوراء، وهي الجهة التي فيها: العقبان، والمراد: أنَّه كفَّ عن تزيينه لهم وتغريره بهم، وكان إبليس في صف المشركين، وهو آخذٌ بيد الحارث بن هشام ﴿و﴾ قال له الحارث: إلى أين تترك نصرتنا يا سراقة في هذه الحالة، أما تزعم أنك جار لنا، وجعل الحارث يمسكه. ﴿قال﴾ إبليس: ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ﴾؛ أي: إني بريء من جواركم وحفظكم ونصركم والذب عنكم، ﴿إِنِّي أَرَى﴾؛ أي: لأني أبصر ﴿مَا لَا تَرَوْنَ﴾؛ أي: ما لا تبصرون من نزول الملائكة مع جبريل، وإني أرى جبريل بين يدي النبي - ﷺ -، وفي يده اللجام يقود الفرس، ولم تروه، ودفع إبليس في صدر الحارث وانطلق وقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ﴾ أن يهلكني بتسليط الملائكة عليَّ، وانهزم المشركون. فلمَّا قدموا مكة.. قالوا: هزم الناسَ سراقةُ، فبلغ ذلك سراقة، فقال: بلغني أنكم تقولون: إني هزمت الناس، فوالله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، فقالوا: أما أتيتنا في يوم كذا وكذا، فحلف لهم، فلما أسلوا.. علموا أنَّ ذلك كان شيطانًا. وقيل: لما رأى إبليس الملائكة ينزلون من السماء.. خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر، فقال ما قال؛ إشفاقًا على نفسه ﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن عاداه وعادى أولياءه، قاله الشيطان بسطًا لعذره حينئذٍ، فهو تعليل لما قبله؛ أي ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ﴾؛ لأنه شديد العقاب، أو مستأنف من محض كلامه تعالى؛ تهديدًا لإبليس وجنده.
وقال قتادة (١): قال إبليس: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ﴾، وصدق. وقال: ﴿إنِّي أَخَافُ اللَّهَ﴾ وكذب، ما به مخافة الله. ولكن إنه لا قوة له ولا منعة، فأوردهم
(١) الخازن.
27
وأسلمهم، وتلك عادة عدو الله إبليس لمن أطاعه، إذا التقى الحق والباطل... أسلمهم وتبرأ منهم. وقيل: إنه خاف أن يهلك فيمن هلك، وقيل: خاف أن يأخذه جبريل فيعرف حاله، فلا يطيعوه. وقيل: معنى ﴿إنِّي أَخَافُ اللَّهَ﴾: أعلم صدق وعده لأولياه؛ لأنه كان على ثقة من أمر ربه.
فإن قلت (١): كيف يقدر إبليس على أن يتصور بصورة البشر، وإذا تشكل بصورة البشر.. فكيف يسمى شيطانًا؟
قلت: إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أعطاه قوةً وأقدره على ذلك، كما أعطى الملائكة قوة وأقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر، لكن النفس الباطنة لم تتغير، فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة.
والخلاصة (٢): أنّ جند الشيطان كانوا منبثين في المشركين، يوسوسون لهم - بملابستهم لأرواحهم الخبيثة - بما يغويهم ويغوهم، كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم - بملابستهم لأرواحهم الطيبة - ما يثبتون به قلوبهم، ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم، فلما تراءت الفئتان وأوشكا أن يتلاحما.. فر الشيطان بجنوده من بين المشركين؛ لئلا تصل إليهم الملائكة الملابسة للمؤمنين (وهما ضدان لا يجتمعان، ولو اجتمعا.. لقضى أقواهما، وهم الملائكة على أضعفهما، وهم الشياطين).
فخوف الشيطان من الملائكة إنَّما كان من إحراق الملائكة لجنوده، لا على المشركين، كما يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق متلاشٍ أمامه لا يبقى منه شيء.
٤٩ - والظرف في قوله: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾: متعلق بـ ﴿زين﴾ أو باذكر محذوفًا؛ أي: واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم حين يقول المنافقون ومن في حكمهم من مرضى القلوب، أو: واذكروا إذ يقول المنافقون وهم قومٌ من
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
28
الأوس والخزرج ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾؛ أي: شك وارتياب في الدين، وهم قوم من قريش، أسلموا ولم يقول إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا، منهم: عتبة بن ربيعة، وقيس بن الوليد، وأبو قيس الفاكه، والحارث بن زمعة، وعديُّ بن أمية، والعاص بن منبه، فلما خرج كفار قريش إلى حرب رسول - ﷺ -.. خرجوا معهم إلى بدر، فلمَّا نظروا إلى قلة المسلمين.. ارتابوا وارتدوا، وقالوا: ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ﴾ المؤمنين ﴿دِينُهُمْ﴾؛ أي: توحيدهم، حين أقدموا على ما أقدموا عليه من الخروج لحرب قريش مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، توهمًا منهم أنهم ينصرون عليهم؛ أي: اغتروا بدينهم، فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به، حيث خرجو وهم ثلاث مئة وبضعة عشر إلى زهاء ألف، ظنًّا منهم أنهم على الحق، ينصرون ولا يغلبون، فأولئك المرضى الذين خرجوا مع قريش كلهم قتلوا في بدر مع المشركين، ولم يذكر أن أحدًا من المنافقين خرج إلى بدر مع المسلمين.
﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾؛ أي: ومن يسلم أمره إلى الله ويثق بفضله ويعول على إحسانه.. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى حافظه وناصره؛ لأنه ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: غالب لا يغلبه شيء، فيسلط القليل الضعيف على الكثير القوي ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما قضى وحكم، لا يسوي بين أوليائه وأعدائه، فيوصل الثواب إلى أوليائه، والعقاب إلى أعدائه.
وهذا الكلام يتضمَّن الرد على من قال (١): ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾ فكأنه قيل: هؤلاء في لقاء عدوهم هم متوكلون على الله، فهم الغالبون ومن يتوكل على الله.. ينصره ويعزه؛ فإن الله عزيز لا يغالب بقوة ولا بكثرة، حكيمٌ يضع الأشياء مواضعها، أو حاكم بنصره من يتوكل عليه، فيديل القليل على الكثير.
والمعنى (٢): أي ومن يكل أمره إلى الله ويؤمن إيمان اطمئنان بأنه ناصره ومعينه، وأنه لا يعجزه شيء، ولا يمتنع عليه شيء أراده.. يكفه ما يهمه وينصره
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
29
على أعدائه وإن كثر عددهم وعظم استعدادهم؛ لأنه العزيز الغالب على أمره، الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه بمقتضى سننه في نظام العالم، ومن ذلك أن ينصر الحق على الباطل.
الإعراب
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾.
﴿وَاعْلَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّمَا﴾: أن حرف نصب ومصدر، ما: موصولة في محل النصب اسمها، وكان القياس فصلها من أنَّ، لكن ثبت وصلها في خط المصحف العثماني، وثبت فصلها أيضًا في بعضها، كما ذكره الجزري. ﴿غَنِمْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: أن ما غنمتموه. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور حال من العائد المحذوف، تقديره: حال كونه كائنًا من شيء ما قليلًا كان أو كثيرًا. ﴿فَأَنّ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الخبر بالاسم؛ لما في اسم أنَّ من العموم ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور خبر ﴿أنَّ﴾ مقدم على اسمها. ﴿خُمُسَهُ﴾: اسمها مؤخر ومضاف إليه، تقديره: فإن خمسه كائنٌ لله، وجملة أن اسمها وخبرها في محل الرفع خبرٌ ﴿أنَّ﴾ الأولى: ولكنّه خبر سببيٌّ، تقديره: واعلموا أن الذي غنتموه من شيء فكائنٌ خمسه لله وللرسول، وجملة ﴿أنَّ﴾ الأولى في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي علم، تقديره: واعلموا كون خمس الذي غنتموه من شيء لله، ﴿وَلِلرَّسُولِ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿لله﴾ ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ معطوف على الجار والمجرور قبله، ﴿وَالْيَتَامَى﴾: معطوف على ذي القربى، وكذا ﴿وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ معطوفان عليه.
﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿إن﴾ حرف شرط ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ ﴿إِن﴾
30
على كونه فعل شرط لها. ﴿آمَنْتُمْ﴾ فعل وفاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به، الجملة الفعلية في محل النصب خبر كان، تقديره: إنْ كنتم مؤمنين، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم مؤمنين بالله.. فاعلموا ذلك، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية مستأنفة ﴿وَمَا﴾ في محل الجر معطوف علي لفظ الجلالة ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: وبما أنزلناه ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأنزلنا. ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بأنزلنا. ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية، بدل من يوم الفرقان. ﴿الْتَقَى الْجَمْعَان﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقدير. ﴿قَدِيرٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿إذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾.
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان بدل من يوم الفرقان ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ، ﴿بِالْعُدْوَةِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والباء بمعنى في، والجملة الاسمية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿الدنيا﴾: صفة للْعُدْوَةِ. ﴿وهم﴾ مبتدأ ﴿بِالْعُدْوَةِ﴾: خبره، والجملة في محل الجر معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مضافًا إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿الْقُصْوَى﴾: صفة لـ ﴿الْعُدْوَةِ﴾. ﴿وَالرَّكْبُ﴾ مبتدأ. ﴿أَسْفَلَ﴾: منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور صفة لأسفل، والجملة من المبتدأ، والخبر في محل النصب، حال من الظرف الذي قبله، وهو قوله: ﴿بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾، والتقدير: إذ أنتم كائنون بالعدوة الدنيا، وهم كائنون بالعدوة القصوى، حالة كون الركب كائنين في مكان أسفل منكم، ويجوز أن تكون جملة ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ في محل الجر معطوف على أنتم؛ أي: وإذ الركب أسفل منكم، ذكره أبو البقاء. وفي "الفتوحات": وإيضاح ما في المقام أن ﴿وَالرَّكْبُ﴾: مبتدأ و ﴿أسْفَلَ﴾ أفعل تفضيل، استعمل بمعنى صفة لمكان محذوف أقيم مقامه، فهو مع متعلقه خبرٌ،
31
والجملة حال من الظرف الذي قبله، يعني: بـ ﴿بِالْعُدْوَةِ﴾. اهـ كرخي. وفي السمين: قوله: ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ الأحسن في هذه الواو، والواو التي قبلها الداخلة على هم أن تكون عاطفةٌ ما بعدها على: ﴿أَنْتُمْ﴾؛ لأنها مبدأ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم، ويجوز أن تكونا واوي حالٍ، و ﴿أسْفَل﴾ منصوب على الظرف النائب عن الخبر، وهو في الحقيقه صفةٌ لظرف مكان محذوف؛ أي: والركب في مكان أسفل من مكانكم اهـ. ﴿وَلَو﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿لو﴾ حرف شرط ﴿تَوَاعَدْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَاخْتَلَفْتُمْ﴾ ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لو﴾ الشرطية، ﴿لَاخْتَلَفْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿فِي الْمِيعَادِ﴾: متعلق به، والجملة جواب لو الشرطية، وجملة لو الشرطية مستأنفة. ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿وَلَكِن﴾ حرف استدراك ﴿لِيَقْضِيَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل، ﴿يقضي﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، ﴿اللَّهُ﴾ فاعل. ﴿أمْرًا﴾ مفعول به، وجملة ﴿كَانَ مَفْعُولًا﴾: صفة لأمرًا، وجملة يقضي مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لقضاء الله أمرًا كان مفعولًا، الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: ولكن جمع الله بينكم؛ لقضائه وإمضائه أمرًا كان مقضيًّا في سابق علمه، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة لو الشرطية.
﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿لِيَهْلِكَ﴾ ﴿اللام﴾ لام كي. ﴿يهلك﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة. ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل الرفع فاعل. ﴿هَلَكَ﴾: فعل ماضي، وفاعله ضمير يعود على من. ﴿عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ متعلق بيهلك، والجملة صلة ﴿من﴾ الموصولة، وجملة ﴿يهلك﴾ صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لهلاك من هلك عن بينة، الجار والمجرور معطوف بعاطف مقدر على الجار والمجرور قبله، على كونه متعلقًا بمحذوف، تقديره: ولكن جمع الله بينكم لقضائه أمرًا مفعولًا، ولهلاك من هلك عن بينة، وحياة من
32
حيَّ عن بينة، ﴿وَيَحْيَى﴾ فعل مضارع معطوف على يهلك ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل. ﴿حَيّ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة صلة من الموصولة. ﴿عَنْ بَيِّنَة﴾ متعلق بيحيى، ﴿وَإِنّ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿إن﴾ حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها ﴿لَسَمِيعٌ﴾: ﴿اللام﴾ حرف ابتداء ﴿سميع﴾ خبر أول لإنَّ ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثان لها، والجملة مستأنفة.
﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمَّد إذ يريكهم الله، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿يُرِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعولان وفاعل. ﴿فِي مَنَامِكَ﴾: متعلق به ﴿قَلِيلًا﴾: مفعول ثالث لأرى؛ لأن رأى الحلمية تنصب مفعولين بلا همزة، فإذا دخل عليها الهمز.. نصبت ثلاثة مفاعيل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه. ﴿وَلَو﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿لو﴾ حرف شرط ﴿أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا﴾: فعل وثلاثة مفاعيل، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لو﴾. ﴿لَفَشِلْتُمْ﴾ ﴿اللام﴾ رابطة الجواب ﴿لَفَشِلْتُمْ﴾ فعل وفاعله، والجملة جواب ﴿لو﴾ الشرطية، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَلَتَنَازَعْتُمْ﴾: فعل وفاعل معطوف على فشلتم، واللام فيه لام الربط مؤكدة للأولى ﴿فِي الْأَمْرِ﴾: متعلق به ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لكن﴾ حرف استدراك ونصب، ولفظ الجلالة: اسمها ﴿سَلَّمَ﴾ فعل ماضي، وفاعله ضمير يعود على الله ومفعوله محذوف، تقديره: سلَّمكم الله من الفشل والتنازع، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿لَكِنَّ﴾، وجملة ﴿لكن﴾ معطوفة على جملة ﴿لو﴾ الشرطية على كونها مستأنفة. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿عَلِيمٌ﴾: خبره ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾: متعلق بعليم، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾.
﴿وَإِذ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف،
33
تقديره: واذكروا أيها المؤمنون إذ يريكموهم، والجملة المحذوفة معطوفة على الجملة المحذوفة في قوله: ﴿إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ﴾. ﴿يُرِيكُمُوهُمْ﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ ﴿إِذِ﴾: ظرف لما مضى، متعلق بيريكموهم، وجملة ﴿الْتَقَيْتُمْ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذِ﴾، ﴿فِي أَعْيُنِكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَلِيلًا﴾. ﴿قَلِيلًا﴾ حال من المفعول الثاني الذي هو الهاء، ورأى هنا بصرية تنصب مفعولًا واحدًا بلا همز، واثنين مع الهمز كما هنا. ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ﴾: فعل ومفعول، و ﴿الواو﴾ فيه واو الحال. ﴿فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من فاعل يريكموهم ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا﴾: فعل وفاعل ومفعول، واللام فيه لام كي، وجملة ﴿كَانَ مَفْعُولًا﴾ صفة لـ ﴿أَمْرًا﴾، وجملة ﴿يقضي﴾ في تأويل مصدر مجرور باللام، والتقدير: لقضاء الله أمرًا كان مفعولًا، الجار والمجرور متعلق بيريكموهم، أو متعلق بمحذوف، تقديره فعل الله بكم وبهم ذلك التقليل؛ ليقضي أمرًا كان مفعولًا، وكرَّر هذا التعليل؛ لاختلاف الفعل المعلَّل به، أولًا: اجتماعهم بغير ميعاد، وثانيًا: تقليل المؤمنين قبل الالتحام، ثم تكثيرهم في أعين الكفار، كما مر في مبحث التفسير. ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بترجع ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يَا﴾ حرف نداء ﴿أيُّ﴾ منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾ حرف تنبيه ﴿الَّذِينَ﴾ صفة لأيُّ، وجملة النداء مستأنفة، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿لَقِيتُمْ فِئَةً﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿فَاثْبُتُوا﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب إذا ﴿اثبتوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب إذا، وجملة إذا جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاثْبُتُوا﴾. ﴿كَثِيرًا﴾:
34
منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف، تقديره: ذكرًا كثيرًا ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه. وجملة ﴿تُفْلِحُونَ﴾ في محل الرفع خبر لعل، وجملة لعل مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)﴾.
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة معطوفة على جملة إذا على كونها جواب النداء، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَأَطِيعُوا﴾. ﴿فَتَفْشَلُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿تفشلوا﴾ وجملة تفشلوا صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن تنازعكم ففشلكم وذهاب ريحكم. ﴿وَاصْبِرُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَأَطِيعُوا﴾.. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾: خبره، وجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)﴾.
﴿وَلَا تَكُونُوا﴾: فعل ناقص واسمه، مجزوم بلا الناهية. ﴿كَالَّذِينَ﴾: خبر تكونوا، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا﴾، ﴿خَرَجُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾: متعلق به ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾: منصوبان على الحال من فاعل ﴿خَرَجُوا﴾؛ أي: بطرين ومرائين، أو على أنهما مفعولان لأجله؛ أي: لأجل البطر والرياء، ﴿وَيَصُدُّونَ﴾: فعل وفاعل ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ﴾ على كونها حالًا من فاعل ﴿خَرَجُوا﴾ أي: حالة كونهم بطرين ومرائين وصادين عن سبيل الله، أو معطوفة على جملة ﴿خَرَجُوا﴾ على كونها صلة
35
الموصول. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بمحيط، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما يعملونه. ﴿مُحِيطٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، أو عاطفة، ﴿وَإِذ﴾: ظرف لما مضى، متعلق بمحذوف، تقديره: واذكروا إذْ زَيَّن لهم الشيطان، والجملة المحذوفة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: ﴿إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ ﴿زَيَّنَ﴾ فعل ماض ﴿لَهُمُ﴾ متعلق به. ﴿الشَّيْطَانُ﴾ فاعل. ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾، ﴿وَقَالَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿زَيَّنَ﴾، وفاعله ضمير يعود على الشيطان. ﴿لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ﴾ إلى قوله: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَتِ﴾ مقول محكي لـ ﴿قال﴾ وإن شئت قلت: ﴿لَا﴾: نافية، ﴿غَالِبَ﴾ في محل النصب اسمها، ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لا﴾. ﴿الْيَوْمَ﴾ ظرف متعلق بالخبر، ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ جار ومجرور حال من الضمير المستكن في خبر ﴿لا﴾ وجملة ﴿لا﴾ في محل النصب مقول قال. ﴿وَإِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿جَارٌ﴾ خبره. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به؛ لأنَّه بمعنى مجير، وجملة إنَّ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لا﴾ على كونها مقول قال.
﴿فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدّر، تقديره: إذا عرف ما قال لهم الشيطان، وأردت بيان عاقبة أمره معهم.. فأقول لك ﴿لمّا﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿نَكَصَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة جواب لمَّا، لا محل لها من الإعراب، وجملة لمَّا
36
في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿عَلَى عَقِبَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿نَكَصَ﴾. ﴿وَقَالَ﴾: فعل ماضي معطوف على: ﴿نَكَصَ﴾ وفاعله ضمير يعود على الشيطان ﴿إِنِّي بَرِيءٌ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿بَرِيءٌ﴾ خبره. ﴿مِنْكُم﴾ متعلق بـ ﴿بَرِيءٌ﴾ وجملة إنَّ في محل النصب مقول قال: ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَرَى﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، وجملة ﴿أَرَى﴾ في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ في محل النصب مقول قال. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ ﴿أرى﴾؛ لأنَّها بصرية تتعدى لمفعول واحد، ﴿لَا﴾: نافية. ﴿تَرَوْنَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلةٌ لما، أو صفةٌ لها والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: ما لا ترونه، ورأى بصرية أيضًا. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه، ﴿أَخَافُ اللَّهَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنّ، وجملة إنَّ في محل النصب مقول قال، ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: خبره، والجملة مستأنفة، إنْ كان من كلام الله، أو في محل النصب مقول قال إنْ كان من تمام كلام الشيطان.
﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى، متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمَّد إذ يقول المنافقون، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على ﴿الْمُنَافِقُونَ﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾: خبر مقدم ﴿مَرَضٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول. ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب مقول يقول ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿مَن﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يتوكل﴾ فعل الشرط، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق به، وجواب الشرط محذوف، تقديره: يغلب، وجملة من الشرطية مستأنفة. ﴿فَإِنَّ﴾: ﴿الفاء﴾
37
تعليلية ﴿إنَّ﴾ حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها، ﴿عَزِيزٌ﴾: خبر أول لها. ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿إنّ﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بالجواب المحذوف، تقديره: ومن يتوكل على الله يغلب أعداءه؛ لكون الله عزيزًا حكيمًا.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ﴾: الغُنم (١) والمغنم والغنيمة لغةً: ما يناله الإنسان ويظفر به بلا مقابل مادي، وقولهم: الغرم بالغنم؛ أي: يقابل به. وشرعًا: ما حصل للمسلمين من الكفار الحربيين بإيجاف خيلٍ، أو ركاب. والفيء: كل ما صار إلى المسلمين من أموال أهل الشرك، بعد أن تضع الحرب أوزارها، وتصير الدار دار الإِسلام، وهو لكافة المسلمين، وليس فيه الخمس. والنفل: ما يحصل للإنسان من الغنيمة قبل قسمتها. والسلب: ما احتوت عليه يد القتيل من ثياب وسلاح ومركوب يستحقه القاتل.
﴿بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾ والعدوة (٢) - بضم العين وكسرها - وقرىء بفتحها، لغات كلها بمعنى واحد، وهو: شط الوادي وشفيره، سميت بذلك؛ لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوزها؛ أي: منعته. وفي "المختار": العدوة - بضم العين وكسرها - جانب الوادي وحافته. وقال أبو عمرو: هي المكان المرتفع اهـ. وفي "البحر": العدوة: شط الوادي، وتسمَّى شفيرًا وضفة، سميت بذلك؛ لأنَّها عدت ما في الوادي من ماء أن يتجاوزه؛ أي: منعته.
وقال الشاعر:
عَدَتْنِي عَنْ زِيَارَتِهَا الْعَوَادِيْ وَقَالَتْ دُوْنهَا حَرْبٌ زَبُوْنُ
ويسمى الفضاء المساير للوادي عدوةً؛ للمجاورة اهـ.
(١) المراغي.
(٢) الفتوحات.
38
﴿الْقُصْوَى﴾: القصو (١): البعد، والقصوى: تأنيث الأقصى، ومعظم أهل التصريف فصلوا في الفعلى مما لامه واو، فقالوا: إن كان اسمًا.. أبدلت الواو ياءً، ثم يمثلون بما هو صفةٌ، نحو: الدنيا، والعليا، والقصيا، وإن كان صفة.. أقرت، نحو: الحلوى، تأنيث الأحلى، ولهذا قالوا: شذ القصوى - بالواو - وهي لغة الحجاز. والقصيا: لغة تميم، وذهب بعض النحويين إلى أنه إن كان اسمًا.. أقرت الواو، نحو: حزوى، وإن كان صفة.. أبدلت، نحو: الدنيا والعليا، وشذ إقرارها، نحو: الحلوى، ونص على ندور القصوى ابن السكيت.
﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ وفي "القاموس": والركب: ركبان الإبل، وهو اسم جمع لراكب، أو جمع له، وهو العشرة فصاعدًا، وقد يكون للخيل، والجمع أركب وركوب اهـ. ﴿لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾ وفي "المختار": والميعاد: المواعدة ووقتها ومكانها اهـ. ومثله في "القاموس". ﴿من حي﴾ (٢) يقرأ بتشديد الياء، وهو الأصل؛ لأن الحرفين متماثلان متحركان، فهو مثل شد ومد، ومنه قول عبيد:
عَيُّوْا بِأمْرِهِمُ كَمَا... عَيَّتْ بِبَيْضَتِهَا الْحَمَامَهْ
ويقرأ بالإظهار، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّ الماضي حمل على المستقبل، وهو يحيا، فكما لم يدغم في المستقبل.. لم يدغم في الماضي، وليس كذلك شد ومد؛ فإنه يدغم فيهما جميعًا. والوجه الثاني: أن حركة الحرفين مختلفة، فالأولى مكسورة، والثانية مفتوحة، واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين، ولذلك أجازوا في الاختيار: لججت عينه، وضبب البلد، إذا كثر ضبه، ويقوي ذلك أنَّ الحركة الثانية عارضة، فكانت الياء ساكنة، ولو سكنت.. لم يلزم الإدغام، وكذلك إذا كانت في تقدير الساكن، والياءان أصلٌ، وليست الثانية بدلًا من واو، فأما الحيوان.. فالواو فيه بدلٌ من الياء، وأما الحواء... فليس من لفظ الحية، بل من حوي يحوي إذا جمع، ذكره أبو البقاء.
﴿لفَشِلتُم﴾؛ أي: لجبنتم، يقال: فشل يفشل فشلًا، كطرب يطرب طربًا،
(١) البحر.
(٢) العكبري.
39
كذا في "المختار".
﴿إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً﴾؛ أي: حاربتم جماعة، وفي "المصباح": الفئة: الجماعة، ولا واحد لها من لفظها، وتجمع على فئات، وقد تجمع بالواو والنون؛ جبرًا لما نقص منها اهـ.
﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾: في "القاموس" و "المختار": إن الريح يطلق ويراد به القوة والغلبة، والرحمة والنصرة والدولة - بفتح الدال -.
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾: هم أهل مكة، حين خرجوا لحماية العير، والبطر (١): إظهار الفخر والاستعلاء بنعمة القوة أو الغنى، أو الرياسة، ويعرف ذلك في الحركات المتكلفة والكلام الشاذ، وفي "الشهاب" و"زاده": البطر (٢) والأشر - بفتحتين -: الطغيان في النعمة، بترك شكرها وجعلها وسيلة إلى ما لا يرضاه الله تعالى، وقيل: معناهما: الفخر بالنعمة ومقابلتها بالتكبر والخيلاء والفخر بها اهـ. والرئاء: أن يعمل المرء ما يحب أن يراه الناس منه ليثنوا عليه ويعجبوا به، وفي "السمين": والرئاء: مصدر راءى، كقاتل قتالًا، والأصل: ريايًا، فالهمزة الأولى: بدل من ياء هي عين الكلمة، والثانية بدل من ياء هي لام الكلمة؛ لأنها وقعت طرفًا بعد ألف زائدة، والمفاعلة في رئاءً على بابها. اهـ. منه في سورة البقرة. ﴿وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾؛ أي: مجير ومعين وناصر لكم، والألف في ﴿جَارٌ﴾ بدل (٣) من واو، لقولك: جاورته.
﴿فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ﴾؛ أي: قربت كل منهما من الأخرى، وصارت بحيث تراها وتعرف حالها.. ﴿نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾؛ أي: رجع القهقرى، وتولى إلى الوراء.
﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾: والمنافق: من يظهر الإِسلام
(١) المراغي.
(٢) الشهاب وزاده.
(٣) العكبري.
40
ويسر الكفر، هم أهل المدينة من الأوس والخزرج؛ والذين في قلوبهم مرض: هم ضعاف الإيمان، ملأت قلوبهم الشكوك والشبهات، فتزلزل اعتقادهم حينًا وسكن حينًا آخر.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التنكير في قوله: ﴿أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ إفادة للتقليل.
ومنها: الإضافة في قوله: ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾ إفادة للتشريف والتكريم.
ومنها: الطباق بين لفظ الدنيا والقصوى، في قوله: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾، وبين لفظ يهلك ويحيا، في قوله: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَاد﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ﴾ شبه الكفر بالهلاك بجامع الضرر، والإيمان بالحياة بجامع النفع، فاستعير اسم المشبه به - الذي هو الهلاك والحياة - للمشبه - الذي هو الكفر والإيمان - فاشتق من الهلاك بمعنى الكفر يهلك بمعنى يكفر، ومن الحياة بمعنى الإيمان يحيا بمعنى يؤمن، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾؛ وفي قوله: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ﴾ فالمضارع فيه بمعنى الماضي؛ لأن نزول الآية كان بعد الإراءة.
ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾؛ لأنها كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد، تقول العرب: هبت ريح فلان، إذا أقبل أمره على ما يريد، وفي "البيضاوي": والريح هنا مستعارٌ للدولة من حيث إنها - في تمشي أمرها ونفاذه - مشبهة بها في هبوبها ونفاذها اهـ.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾، وفي قوله:
41
﴿إذْ يُرِيكَهُمُ﴾ ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ﴾، ولكن التكرار هنا لفظيٌّ؛ لأن الإراءة الأولى حلمية، والثانية بصرية.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
42
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٥٢) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (٥٤) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (٥٨) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات، لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (١) حال هؤلاء
(١) المراغي.
43
الكفار - من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرًا ورئاء الناس، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم.. أردف ذلك بذكر أحوالهم حين موتهم، وبيان العذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٥)﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا بين حال مشركي قريش في قتالهم له - ﷺ - ببدر.. قفى على ذلك بذكر حال فريق آخر من الكفار الذين عادوا النبي - ﷺ - وقاتلوه، وهم اليهود الذين كانوا في بلاد الحجاز. قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآيات في ستة وهط من اليهود، منهم: ابن تابوت. وقال مجاهد: نزلت في يهود المدينة، وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف، وهو فيهم كأبي جهل في مشركي مكة. ثم ذكر سبحانه ما يجب أن يعمل مع أمثالهم من الخونة، وبين أن الرسول آمن من عاقبة كيدهم ومكرهم.
قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) بين فيما سلف أن اليهود الذين عقدوا العهود مع النبي - ﷺ -، وبها أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم، قد خانوه ونقضوا العهود وساعدوا عليه أعداءه المشركين الذين أخرجوه من دياره ووطنه، وتبعوه إلى مهجره يقاتلون فيه لأجل دينهم، وبذلك صاروا هم والمشركون سواء.. أردف ذلك ذكر ما يجب على المؤمنين في معاملتهم أثناء الحرب، التي أصبحت لا مناص منها بما أحدثوه من الخيانة والغدر والبداءة بالعدوان، وذلك سنة من سنن الاجتماع البشري؛ إذ حصول الصراع بين الحق والباطل، والقوة والضعف أمرٌ لا مندوحة منه.
وقال أبو حيان (٢): مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما اتفق في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا تكميل آلةٍ ولا عدةٍ، وأمره تعالى بالتشريد وبنبذ العهد للناقضين.. كان ذلك سببًا للأخذ في قتاله والتمالؤ عليه، فأمره تعالى والمؤمنين
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
44
بإعداد ما قدروا عليه من القوة للجهاد. انتهى.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر رسوله - ﷺ - بالجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء، وربما كان جنوحهم لها مظنة الخداع والمكر، ووعده أن يكفيه أمرهم إذا أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب وضروب الإيذاء والشر، وامتن عليه بتأييده له بنصره وبالمؤمنين، إذ سخرهم له، وألَّف بين قلوبهم باتباعه.. قفَّى على ذلك بوعده بكفايته، له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف بين قلوبهم في حال الحرب والسلم، وجعل هذا تقدمة لأمره بتحريضهم على القتال حين الحاجة إليه، كما إذا بدأ العدو بالحرب، أو نقض العهد أو خان في الصلح.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: نزلت: ﴿إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في ستة وهي من اليهود، فيهم ابن التابوت.
قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما رواه أبو الشيخ أيضًا عن ابن شهاب قال: دخل جبريل على النبي - ﷺ - فقال: يا محمَّد، قد وضعت السلاح وما زلت في طلب القوم؟ فاخرج فإنَّ الله قد أذن لك في قريظة، وأنزل فيهم: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما رواه البزَّار بسند ضعيف من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: لما أسلم عمر.. قال المشركون: قد انتصف القوم منا اليوم، وأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)﴾، وله شواهد: أخرج الطبراني وغيره من طريق سعيد بن
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
45
جبير عن ابن عباس قال: لما أسلم مع النبي - ﷺ - تسعة وثلاثون رجلًا وامرأةٌ، ثم إن عمر أسلم فكانوا أربعين.. نزل ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: لما أسلم مع النبي - ﷺ - ثلاثة وثلاثون رجلًا وست نسوة، ثم أسلم عمر.. نزلت ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ الآية. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال: لمَّا أسلم عمر... أنزل الله في إسلامه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾.
قوله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن ابن عباس قال: لما افترض الله عليهم أن يقاتل الواحد عشرةً.. ثقل ذلك عليهم وشق، فوضع الله عنهم إلى أن يقاتل الواحد الرجلين، فأنزل الله فيه ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ إلى آخر الآية.
وأخرج البخاري (١) قال: حدثنا يحيى بن عبد الله السلمي أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا جرير بن حازم قال: أخبرني الزبير بن الخريت عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾.. شقَّ ذلك على المسلمين حين فرض أن لا يفرَّ واحدٌ من عشرة، فجاء التخفيف فقال: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٥٠ - ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ﴾؛ أي: ولو رأيت يا محمَّد، أو أيها المخاطب، وعاينت وشاهدت إذ تقبض الملائكة أرواح الذين كفروا عند الموت ويأخذونها، يعني: الذين قتلوا ببدر، أو مطلقًا حالة كون الملائكة ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾؛ أي: تضرب الملائكة وجوه الذين كفروا وظهورهم
(١) البخاري.
46
بسياطٍ من نار ﴿و﴾ حالة كون الملائكة تقول لهم وقتئذٍ: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾؛ أي: باشروا العذاب المحرق وادخلوه أيها الكفرة. وجواب لو محذوف، تقديره: لرأيت أمرًا عظيمًا، ومنظرًا فظيعًا، وعذابًا شديدًا ينالهم في ذلك الوقت. واختلفوا (١) في وقت هذا الضرب، فقيل: هو عند الموت، تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم بسياط من نار، وقيل: إنَّ الذين قتلوا يوم بدر من المشركين كانت الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم. وقال ابن عباس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين.. ضربت الملائكة وجوههم بالسيوف، وإذا ولَّوا أدبارهم.. ضربت الملائكة أدبارهم. وقال ابن جريج: يريد ما أقبل من أجسادهم وأدبر، يعني: يضربون جميع أجسامهم، وتقول الملائكة لهم عند القتل: ذوقوا عذاب الحريق، قيل: كان مع الملائكة مقامع من حديد محماة بالنار يضربون بها الكفار، فتلتهب النار في جراحاتهم. وقال ابن عباس: تقول الملائكة لهم ذلك بعد الموت. وقال الحسن: هذا يوم القيامة، تقول لهم الزبانية: ذوقوا عذاب الحريق.
والمعنى (٢): ولو عاينت وأبصرت يا محمَّد حال الكفار حين يتوفّاهم الملائكة، فينزعون أرواحهم من أجسادهم ضاربين وجوههم وأقفيتهم، قائلين لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون.
وقرأ ابن عامر والأعرج (٣): ﴿تتوفى﴾ بالتاء، وذكر في قراءة غيرهما؛ لأن تأنيث الملائكة مجاز، وحسنه الفصل. وهذا الضرب والكلام من عالم الغيب، فلا يقتضي أن يراه الذين يحضرون وفاتهم، ولا أن يسمعوا كلامهم حين يقولون ذلك لهم؛ أي: لو رأيت ذلك.. لرأيت أمرًا عظيمًا هائلًا يرد الكافر عن كفره، والظالم عن ظلمه إذا هو علم عاقبة أمره.
وقد روي أن ضرب الوجوه والأدبار كان ببدر، كان المؤمنون يضربون من
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
47
أقبل من المشركين من وجوههم، والملائكة يضربون من أدبارهم.
٥١ - ﴿ذَلِكَ﴾ الضرب والعذاب والقول حاصلٌ بكم أيها الكفار ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُم﴾؛ أي: بسبب ما كسبته وعملته أيديكم وجوارحكم وقلوبكم من الكفر والمعاصي ﴿و﴾ الأمر والشأن ﴿أَنَّ اللَّه﴾ سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾؛ أي: بمعذب لعبيده بغير جرم اجترموه، وذنب اكتسبوه، وصيغة ﴿ظلام﴾ ليست للمبالغة، وإنما هي للنسب، كتمَّار وبقَّال؛ أي: ليس منسوبًا إلى الظلم، فقد انتفى أصل الظلم عنه تعالى، ويحتمل كون ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ معطوفًا على ﴿ما﴾؛ أي: ذلك العذاب بسبب ما كسبته أيديكم من المعاصي، وبسبب أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يظلمكم؛ إذ أنتم مستحقون العذاب، فتعذيبكم عدلٌ منه؛ لأنه سبحانه قد أرسل إليكم رسله، وأنزل عليكم كتبه، وأوضح لكم السبيل، وهداكم النجدين، كما قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
وحاصل المعنى: أي هذا العذاب الذي ذقتموه بسبب ما كسبت أيديكم من سيء الأعمال في حياتكم الدنيا من كفر وظلم، وهذا يشمل القول والفعل، ونسب ذلك إلى الأيدي - وإن كان قد يقع من الأيدي والأرجل وسائر الحواس، أو بتدبير العقل - من أجل أن العادة قد جرت بأن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها، وبسبب أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحدًا من عبيده، فلا يعذب أحدًا منهم إلا بجرم اجترمه، ولا يعاقبه إلا بمعصيته إياه، وقد وقع ذلك منكم، فأنتم الظالمون لأنفسكم، فلوموها ولا لوم إلا عليها. روى مسلم عن أبي ذر عن النبي - ﷺ - "إنَّ الله يقول:
يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا يا عبادي، إنَّما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
٥٢ - وقوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: من قبل آل فرعون، خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: دأب هؤلاء المشركين من قريش الذين قتلوا ببدر كدأب آل فرعون؛ أي: فعلهم وعادتهم في الكفر والتكذيب والعذيب كعادة قوم فرعون وفعلهم، وفعل من قبلهم من الأمم الخالية في كفرهم وتعذيبهم، فجوزي
48
هؤلاء بالقتل والأسر يوم بدر، كما جوزي آل فرعون بالإغراق.
وأصل الدأب في اللغة (١): إدامة العمل، يقال: فلان يدأب في كذا وكذا؛ أي: يداوم عليه، ويتعب نفسه فيه، ثم سميت العادة دأبا؛ لأنَّ الإنسان يداوم على عادته ويواظب عليها.
قال ابن عباس: معناه: إن آل فرعون أيقنوا أن موسى عليه السلام رسولٌ من الله تعالى فكذبوه، فكذلك هؤلاء لمَّا جاءهم محمد - ﷺ - بالصدق.. كذبوه، فأنزل الله بهم عقوبته، كما أنزل بآل فرعون. وجملة قوله: ﴿كفروا بآيات الله﴾ مفسرةٌ لدأب آل فرعون؛ أي: دأبهم هذا هو أنَّهم كفروا بآيات الله؛ أي: أنكروا الدلائل الإلهية.
والمعني (٢): عادة كفار قريش فيما فعلوه من الكفر، وفيما فعل بهم من العذاب كعادة آل فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وأضرابهم من الأمم الماضية، الذين من عادتهم أنهم كفروا بآيات الله الكونية، والمنزلة على رسله، وأنكروها.
﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: فأخذ الله سبحانه وتعالى تلك الأمم الماضية وأهلكها متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها؛ أي: أخذهم أخذ عزيز مقتدر، ولم يظلم أحدًا منهم مثقال ذرة، ونصر رسله والمؤمنين بهم، وكما كانت سننه تعالى في أولئك الماضين أن أخذهم بذنوبهم.. فسنته في هؤلاء المشركين كذلك؛ فقد نصر رسوله محمدًا - ﷺ - والمؤمنين في بدر، وأهلك هؤلاء المشركين بذنوبهم. وجملة قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ معترضة (٣) مقررة لمضمون ما قبلها؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى قويٌّ لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، شديد العقاب لمن استحق عقابه وكفر بآياته وجحد حججه، وقد جعل لكل شيءٍ أجلا.
وروى البخاري ومسلم وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري أن النَّبي - ﷺ - قال: "إنَّ الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه.. لم يفلته". والإشارة بقوله:
(١) الخازن.
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
49
٥٣ - ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا...﴾ إلخ، إلى العقاب الذي أنزله الله بهم، وهو مبتدأ، وخبره: ما بعده، والجملة جاريةٌ مجرى التعليل لما حلَّ بهم من عذاب الله، والمعنى: ذلك الذي ذكر من أخذه لقريش بكفرها بنعم الله عليها؛ إذ بعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياته فكذبوه وأخرجوه من بينهم وحاربوه.. كأخذه للأمم قبلهم بذنوبهم؛ أي: تعذيب الكفرة بما قدمت أيديهم حاصلٌ بسبب أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يكن مغيرًا ومبدِّلًا بنقمةٍ ﴿نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ﴾؛ أي: لم يكن مبدلًا نعمة أنعم بها على قوم كائنًا من كان، كالعقل وإزالة الموانع؛ أي: لم يكن مبدِّلًا إياها بنقمةٍ ﴿حَتَّى يُغَيِّرُوا﴾؛ أي: حتى يغيِّر ويبدِّل أولئك القوم ﴿مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ من الأحوال؛ أي: ما لهم من الحال إلى حال أسوأ منه، فإذا صرفوا تلك النعمة إلى الفسق والكفر.. فقد غيَّروا نعمة الله تعالى على أنفسهم، فاستحقوا تبديل النعم بالنقم، والمنح بالمحن، يعني: أنَّ (١) الله سبحانه وتعالى أنعم على أهل مكة بأن أطعمهم من جوع، وأمنهم من خوف، وبعث إليهم محمدًا - ﷺ -، فقابلوا هذه النعمة بأن تركوا شكرها، وكذبوا رسوله محمدًا - ﷺ -، وغيروا ما بأنفسهم، فسلبهم الله سبحانه وتعالى النعمة وأخذهم بالعقاب، قال السدي: نعمة الله: هو محمَّدٌ - ﷺ - أنعم به على قريش، فكفروا به وكذَّبوه، فنقله الله تعالى إلى الأنصار.
وقولنا: إلى حال أسوأ منه: إشارةٌ (٢) إلى دفع ما يقال من أن آل فرعون ومشركي مكة لم يكن لهم حالٌ مرضية حتى يقال أنهم غيَّروها إلى حال مسخوطة، فغير الله نعمته عنهم إلى النقمة، وتقرير الدفع: أنَّ قوله: ﴿مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ يعم الحال المرضية والقبيحة، فكما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة.. كذلك تغير الحال المسخوطة إلى ما هو أسوأ منها، وأولئك كانوا قبل بعثة محمَّد - ﷺ - كفرةً عبدة أصنام، فلمَّا بعث النبي - ﷺ - بالآيات البينات.. كذبوه وعادوه وتحزبوا على إراقة دمه، فغير الله نعمة إمهالهم بمعاجلتهم بالعذاب، هذا حاصل ما في "الكشاف"، اهـ "زاده".
(١) الخازن.
(٢) زاده.
وجملة قوله: ﴿وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ معطوفة على قوله: ﴿بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً﴾ داخلة معها في التعليل؛ أي: ذلك بسبب أنَّ الله لم يك مغيرًا... إلخ، بسبب ﴿أَنَّ الله﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَمِيعٌ﴾ لما يقوله مكذبوا الرسل ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يأتون وما يذرون، وهو مجازيهم على ما يقولون وما يعملون، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وقرىء (١) بكسر الهمزة على الاستئناف.
وفي الآية (٢) إيماءٌ إلى أنَّ نعم الله تعالى على الأمم والأفراد منوطة ابتداء ودوامًا بأخلاق وصفات وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشؤون ثابتةً لهم متمكنةً منهم.. كانت تلك النعم ثابتةً لهم، والله لا ينتزعها منهم بغير ظلم منهم ولا جرم، فإذا هم غيروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يلزم ذلك من محاسن الأعمال.. غيَّر الله حالهم وسلب نعمتهم منهم، فصار الغنيُّ فقيرًا، والعزيز ذليلًا، والقويُّ ضعيفًا.
وليست (٣) سعادة الأمم وقوتها وغلبتها منوطةً بسعة الثروة، ولا كثرة العدد، كما كان يظن بعض المشركين، وحكاه الله عنهم بقوله: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)﴾.
وكذلك لا يحابي الله تعالى بعض الشعوب والأمم بنسبها وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوةٍ، أو بما دونها، فيؤتيهم الملك والسيادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إليهم، كما كان هو شأن بني إسرائيل في غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم، وهكذا شأن النصارى والمسلمين من بعدهم إذا تبعوا سنتهم واغتروا بدينهم، وإن كانوا من أشد المخالفين له.
٥٤ - ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ خبرٌ لمحذوف كما مرَّ نظيره، تقديره: دأب هؤلاء المشركين من أهل مكة في الكفر والتكذيب والتعذيب ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: كعادة قوم فرعون ﴿و﴾ عادة ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: من قبل قوم فرعون، من قوم نوح وهود
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
51
وصالح ولوط؛ أي: هؤلاء المشركون غيروا ما بأنفسهم تغييرًا كتغيير الأمم الماضية، فهم ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: كذب آل فرعون ومن قبلهم بأنه تعالى ربَّاهم وأنعم عليهم، فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها وتواليها عليهم، كما كذب أهل مكة ذلك ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾؛ أي: أهلكنا الذين من قبل قوم فرعون ﴿بـ﴾ سبب ﴿ذنوبهم﴾ ومعاصيهم من الكفر والتكذيب بآيات الله تعالى، أهلكنا بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالحجارة، وبعضهم بالريح، وبعضهم بالمسخ، ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: قومه في البحر، بانطباقه عليهم بعدما خرج ونجا منه بنو إسرائيل مع موسى، فكذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف في بدر، حين غيَّروا ما بأنفسهم. ﴿وَكُلٌّ﴾؛ أي: وكل من الأمم المكذبة، من الأولين والآخرين ﴿كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ لأنفسهم بالكفر والمعصية، ولأنبيائهم بالتكذيب، ولسائر الناس بالإيذاء والإيحاش، فالله تعالى إنَّما أهلكهم بسبب ظلمهم، اللهم أهلك الكفرة والمشركين، وطهِّر الأرض من الفجرة والفاسقين، فإنك أنت القهار الجبار، القادر المنتقم يا خير المنتقمين.
فإن قلت (١): ما الفائدة في تكرير هذه الآيات مرة ثانية؟
قلتُ: فيها فوائد:
منها: أنَّ الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول؛ لأنَّ الآية الأولى فيها ذكر أخذهم، وفي الآية الثانية ذكر إغراقهم، فهذه تفسير للأولى.
الفائدة الثانية: أنَّه ذكر في الآية الأولى أنَّهم كفروا بآيات ربهم، وفي الآية الثانية أنَّهم كذَّبوا بآيات ربهم، ففي الآية الأولى إشارة إلى أنَّهم أنكروا آيات الله وجحدوها، وفي الآية الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها وكفرهم بها.
الفائدة الثالثة: أنَّ تكرار هذه القصة للتأكيد. وفي قوله: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ زيادة دلالةٍ على كفران النعم وجحود الحق، وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ
(١) الخازن.
52
بالذنوب اهـ. من "الخازن". وفي "الفتوحات": كرره؛ لأن الأول إخبارٌ عن عذاب لم يمكن الله أحدًا من فعله، وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم، والثاني إخبارٌ عن عذاب مكن الله الناس من فعل مثله، وهو الإهلاك والإغراق، وقيل: غير ذلك. انتهت.
وعبارة المراغي هنا: ولا تكرار؛ لأنَّ الدَّأب (١) الأول في بيان كفرهم بجحد ما قامت عليه أدلة الرسل من وحدانية الله ووجوب إفراده بالعبادة، وفي تعذيب الله إياهم في الآخرة، فهو دأبٌ وعادةٌ فيما يتعلَّق بحقه تعالى من حيث ذاته وصفاته، وفي الجزاء الدائم على الكفر به الذي يبتديء بالموت وينتهي بدخول النار.
والدَّأبُ الثاني: في تكذيبهم بآيات ربهم ونعمه، من حيث إنَّه هو المربي لهم، ويدخل في ذلك تكذيب الرسل وعنادهم وإيذاؤهم، وكفر النعم المتعلِّقة ببعثهم، وفي الجزاء على ذلك بتغيير حالهم وعذابهم في الدنيا.
وخلاصة ذلك: أنَّ ما دوَّنه التاريخ من دأب الأمم وعادتها في الكفر والتكذيب والظلم في الأرض ومن عقاب الله إياها.. جارٍ على سننه تعالى المطردة في الأمم، لا بسلب نعمة منهم، ولا بإيقاع أذىً بهم، وإنَّما عقابه لهم أثرٌ طبيعيٌّ لكفرهم وظلمهم لأنفسهم، وأما عذاب الاستئصال بعذاب سماوي.. فهو خاص بمن طلبوا الآيات من الرسل وأنذروهم العذاب إذا هم كفروا بها بعد مجيئها، ثم فعلوا ذلك.
٥٥ - ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ﴾؛ أي: إنَّ أقبح ما يدب على الأرض وأخسه ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: في علمه وحكمه هم ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: أصروا على الكفر ورسخوا فيهم ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: لا يرجى منهم إيمان،
٥٦ - وقوله: ﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ﴾ بدل (٢) من ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بدل البعض؛ للبيان والتخصيص، قيل: ﴿من﴾ صلةٌ، يعني: الذين عاهدتهم على ترك الحرب لك،
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
53
وعلى ترك المساعدة لمن يحاربك. وقيل: هي وللتبعيض؛ لأنَّ المعاهدة مع بعض القوم، وهم الرؤساء والأشراف ﴿ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ في كُلِّ مَرَّةٍ﴾ من مرات المعاهدة ﴿وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ﴾ الله؛ أي: لا يخافون عقاب الله تعالى في نقض العهد، أو لا يخافون (١) سبة الغدر وما فيه من العار والنار؛ لأنَّ عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم.. أن يتقي نقض العهد، حتى يسكن الناس إلى قوله ويثقون بكلامه، فبيَّن الله عَزَّ وَجَلَّ أنَّ مَنْ جمع بين الكفر ونقض العهد.. فهو من شرِّ الدَّواب.
وجعلهم شرَّ الدواب لا شرَّ الناس؛ إيماءً إلى انسلاخهم عن الإنسانية، ودخولهم في جنس غير الناس من أنواع الحيوان؛ لعدم تعقلهم بما فيه رشادهم.
والمعنى (٢): إنَّ هؤلاء الكافرين الذين هم شر الدواب عند الله تعالى.. هم هؤلاء الذين عاهدت منهم؛ أي: أخذت منهم عهدهم على ترك محاربتك والمساعدة لمن يحاربك، ثم هم ينقضون عهدهم الذي عاهدتهم في كل مرة من مرات المعاهدة، والحال أنهم لا يتقون النقض، ولا يخافون عاقبته، ولا يتجنبون أسبابه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما (٣): هم قريظة، فإنَّ رسول الله - ﷺ - كان عاهد يهود بني قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه، فنقضوا العهد، وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح يوم بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم مرةً ثانية فنقضوا العهد أيضًا، وساعدوا معهم على رسول الله - ﷺ - يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة، فحالفهم على محاربة رسول الله - ﷺ -.
وحاصل معنى الآيتين: أنّ شرَّ ما يدبّ على وجه الأرض في حكم الله وعدله هم الكافرون الذين اجتمعت فيهم صفتان:
- الإصرار على الكفر والرسوخ فيه، بحيث لا يرجى إيمان جملتهم، أو
(١) النسفي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
54
إيمان جمهورهم؛ لأنَّهم إمَّا رؤساء حاسدون للرسول - ﷺ - معاندون له، جاحدون بآياته المؤيِّدة لرسالته على علم منهم، وفيهم يقول سبحانه: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ وإمَّا مقلدون جامدون على التقليد، لا ينظرون في الدلائل والآيات، وقد لقَّبهم الله سبحانه وتعالى بالدَّواب - وهو اللفظ الذي غلب استعماله في ذوات الأربع -؛ لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط، بل هم أضلُّ من العجماوات؛ لأنَّ لها منافع، وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم، كما قال تعالى في أمثالهم: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٤)﴾.
٢ - نقض العهد، وقد كان النبي - ﷺ - عقد مع يهود المدينة عقب هجرته إليهم عهدًا أقرَّهم فيه على دينهم، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم، فنقض كل منهم عهده، بما مرَّ آنفًا عن ابن عباس رضي الله عنه.
٥٧ - وبعد أن بين سبحانه وتعالى أنه قد تكرر منهم نقض العهد.. أردف ذلك بذكر ما يجب أن يعاملوا به، فقال: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ﴾؛ أي: فإن تجد يا محمَّد هؤلاء الناقضين لعهدهم معك ﴿في الْحَرْبِ﴾؛ أي: في أثناء الحرب؛ أي: فإمَّا تصادفنهم وتظفر بهم في الحرب وتتمكن منهم ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ﴾؛ أي: ففرق وخوف بسبب تنكيلك بهم وعقوبتك لهم ﴿مَنْ خَلْفَهُمْ﴾؛ أي: من ورائهم؛ أي: من سواهم من سائر الكفار الذين يريدون محاربتك، كأهل مكة. ومعنى (١) الآية: إنَّك يا محمَّد إذا ظفرت بهؤلاء الكفار الذين نقضوا العهد.. فافعل بهم فعلًا من القتل والتنكيل تفرِّق بهم جمع كلِّ ناقضٍ للعهد، حتى يخافكم من وارءهم من أهل مكة واليمن ﴿لَعَلَّهُمْ﴾؛ أي: لعل الذين خلفهم ﴿يَذَّكَّرُونَ﴾؛ أي: يتعظون بما يقع لهؤلاء الناقضين من التعذيب؛ أي (٢): إذا فعلت بقريظة العقوبة.. فرقت شمل قريش؛ إذ يخافون منك أن تفعل بهم مثل ما فعلت بحلفائهم، وهم قريظة، فأمر رسول الله - ﷺ - أن يفرِّقهم في ذلك الوقت تفريقًا عنيفًا موجبًا للاضطراب،
(١) الفتوحات.
(٢) المراح.
55
والضميران في ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ الظاهر عودهما على ﴿مَنْ خَلْفَهُمْ﴾؛ أي: إذا رأوا ما حلَّ بالناقضين تذكروا اهـ. "سمين".
وقرأ الأعمش بخلاف عنه (١): ﴿فشرِّذ﴾ - بالذال المعجمة - بدل الدال المهملة، وكذا في محصف عبد الله، قالوا: ولم نحفظ هذه المادة في لغة العرب، وقال الزمخشري: فشرِّذ - بالذال المعجمة - بمعنى ففرِّق، وقال قطرب: - بالذال المعجمة - التنكيل، - وبالمهملة - التفريق.
وقرأ أبو حيوة والأعمش بخلاف: ﴿مِنْ خلِفهم﴾ جارًا ومجرورًا، ومفعول ﴿فشرِّد﴾ محذوف؛ أي: ناسًا من خلفهم يعملون مثل عملهم، أو فشرد أمثالهم من الأعداء.
والخلاصة (٢): أنَّك تدرك هؤلاء الناقضين لعهدهم وتظفر بهم في الحرب.. فنكِّل بهم أشد التنكيل؛ حتى يكون ذلك سببًا لشرود من وراءهم من الأعداء وتفرقهم، فيكون مثلهم مثل الإبل الشاردة النادة عن أمكنتها، وإنّما أمر الله رسوله - ﷺ - بالإثخان في هؤلاء الأعداء الذين تكررت مسالمته لهم وتجديده لعهدهم بعد نقضه؛ لئلا ينخدع مرةً أخرى بكذبهم؛ لما جبل عليه من الرحمة، وحب السلم. واعتبار الحرب ضرورةً تترك إذا زال سببها كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾، وهم قد أوهموه المرة بعد المرة أنَّهم يرغبون في السلم، واعتذروا عن نقضهم العهد، وكانوا في ذلك مخادعين.
﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾؛ أي: لعل من خلفهم من الأعداء يذكرون النكال، فيمنعهم ذلك من نقض العهد ومن القتال.
روى البخاري ومسلم أنَّ النبي - ﷺ - خطب في بعض أيامه التي لقي فيها العدو فقال: "أيها الناس، لا تمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم.. فاصبروا، واعلموا أنَّ الجنة تحت ظلال السيوف". ثم قال: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم".
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
56
وفي ذلك إيماءٌ إلى شيئين:
١ - أنَّ الحرب ليست محبوبة عند الله، ولا عند رسوله، وإنما هي ضرورة يراد بها منع البغي والعدوان، وإعلاء كلمة الحق ودحض الباطل ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾.
٢ - أنَّ استعمال القوة مع الناقضين للعهد والبادئين بالحرب والتنكيل بهم لتشريد من وراءهم.. أمر لا بد منه للعظة والاعتبار، حتى لا يعودوا إلى مثلها هم ولا غيرهم، ولا يزال الأمر كذلك في هذا العصر، وإن كانوا يريدون به الانتقام وشفاء ما في الصدور من الأحقاد، والتمتع بالمغانم من مال وعقار.
٥٨ - وبعد أن ذكر حكم ناقض العهد حين سنوح الفرصة.. قفى على ذلك بحكم من لا ثقة بعهودهم فقال: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ﴾؛ أي: وإن توقعت يا محمَّد ﴿مِنْ قَوْمٍ﴾ معاهدين ﴿خِيَانَةً﴾ وغشًّا ونكثًا للعهد، بوجود أمارات ظاهرة وقرائن تدل عليها ﴿انْبِذْ إِلَيْهِمْ﴾، أي: فاطرح وارم إليهم عهدهم ﴿عَلَى سَوَاءٍ﴾ على جهرٍ، لا على سرٍّ؛ أي: فاقطع (١) عليهم طريق الخيانة قبل وقوعها، بأن تنبذ إليهم عهدهم، وتنذرهم بأنك غير مقيد به، ولا مهتم بأمرهم، بطريق واضح، لا خداع فيه ولا استخفاء. والحكمة في هذا: أنَّ الإِسلام لا يبيح الخيانة مطلقًا.
والمعنى (٢): أعلمهم - قبل حربك إياهم - أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواءً، فلا يتوهَّمون أنك نقضت العهد أولًا بنصب الحرب معهم؛ أي: لا تحاربهم قبل إعلامهم بنقض العهد. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾؛ أي: الناقضين للعهود؛ أي: يعاقبهم، وهذه الجملة تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال على طريقة الاستئناف. قال ابن عطية: والذي (٣) يظهر من ألفاظ القرآن أنَّ أمر بني قريظة انتهى عند قوله: ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾، ثم ابتدأ تبارك
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
(٣) الشوكاني.
وتعالى في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانةً؛ أي: إنَّ الخيانة مبغوضةٌ بجميع ضروبها، ولا وسيلة لاتقاء ضررها من الكفار إذا ظهرت أماراتها إلا بنبذ عهدهم جهرةً.
روى البيهقي أنَّ النبي - ﷺ - قال: "ثلاثةٌ المسلم والكافر فيهن سواء: من عاهدته.. فوفِّ عهده مسلمًا كان أو كافرًا، فإنما العهد لله، ومن كانت بينك وبينه رحم.. فصلها مسلمًا كان أو كافرًا، ومن ائتمنك على أمانةٍ.. فأدِّها إليه مسلمًا كان أو كافرًا".
وعبارة "المراح" هنا قوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾؛ أي (١) وإن تعلمنَّ يا محمَّد من قوم من المعاهدين نقض عهد بأمارات ظاهرة.. فاطرح إليهم عهدهم على طريق ظاهر مستوٍ، بأن تعلمهم قبل حربك إياهم أنك قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة، حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواءً، ولا تبادرهم بالحرب - وهم على توهم بقاء العهد - فيكون ذلك خيانة منك ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ في العهود.
والحاصل: إن ظهرت الخيانة بأمارات ظاهرة من غير أمرٍ مستفيض.. وجب على الإِمام أن ينبذ إليهم العهد ويعلمهم الحرب، ذلك كما في قريظة، فإنهم عاهدوا النبي - ﷺ -، ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم عليه - ﷺ -، وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورًا مقطوعًا به.. فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد وإعلامهم بالحرب، بل يفعل كما فعل رسول الله - ﷺ - بأهل مكة، فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة النبي - ﷺ -.. وصل إليهم جيش النبي - ﷺ - بمرِّ الظهران، وذلك على أربع فراسخ من مكة.
٥٩ - ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا﴾ قرأ ابن عامر (٢) وحفص عن عاصم - بالياء التحتية - أي: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قريش أنفسهم فاتوا من عذابنا بهربهم يوم بدر. وقرأ الباقون بالتاء الفوقية، على مخاطبة النبي - ﷺ -، أو أيّ
(١) المراح.
(٢) المراح.
مخاطب؛ أي: ولا تحسبن يا محمَّد الذين كفروا الذين خلصوا منك يوم بدر فائتين من عذابنا ﴿إِنَّهُمْ﴾ بهذا الفرار ﴿لَا يُعْجِزُونَ﴾ الله تعالى من الانتقام منهم، إمَّا بالقتل في الدنيا، وإمّا بعذاب النار في الآخرة. وقرأ ابن عامر ﴿إِنَّهُمْ﴾ - بفتح الهمزة - على التعليل
٦٠ - ﴿وَأعِدُّوا لَهُمْ﴾، أي: وهيئوا أيها المسلمون لحرب الكفار ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وقدرتم عليه وأمكن لكم ﴿مِنْ قُوَّةٍ﴾، أي: من كل ما يتقوى به في الحرب، من كل ما هو آلة للجهاد، كالسيف والرماح والقوس. ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾؛ أي: ومن الخيل المربوط المهيأ، المقتنى للجهاد عليه، سواء كان من الفحول، أو من الإناث. وروي أنه كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيار عند الصفوف، وإناث الخيل عند البيات والغارات، حالة كونكم ﴿تُرْهِبُونَ﴾ وتخوفون ﴿بِهِ﴾، أي: بذلك الإعداد، أو بما ذكر من القوة والخيل المربوط. وقرىء ﴿تخزون﴾ ﴿عدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ وهم كفار مكة، وذكر أوَّلًا عدو الله؛ تعظيمًا لما هم عليه من الكفر، وتقوية لذمهم، وأنه يجب لأجل عدواتهم أن يقاتلوا ويبغضوا، ثم قال: ﴿وَعَدُوَّكُمْ﴾ على سبيل التحريض على قتالهم؛ إذ في الطبع أن يعادي الإنسان من عاداه، وأن يبغي له الغوائل. ذكره أبو حيان في "البحر" ﴿و﴾ ترهبون به قومًا ﴿وَآخَرِينَ﴾ من أعدائكم ﴿مِنْ دُونِهِمْ﴾؛ أي: من غير كفار مكة ﴿لَا تَعْلَمُونَهُمُ﴾؛ أي: لا تعلمون أنتم أيها المؤمنون أولئك الآخرين، على ما هم عليه من العداوة لكم، أي: فإنَّ تكثير آلات الجهاد كما يرهب الأعداء الذين تعلمون كونهم أعداءً لكم.. كذلك يرهب الأعداء الذين لا تعلمون أنهم أعداء، سواء كانوا مسلمين أو كفارًا. ﴿اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾؛ أي: الله سبحانه وتعالى لا غيره يعلم أولئك الآخرين؛ أي: كونهم أعداء لكم. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: من مال قل أو جلَّ من آلةٍ وسلاحٍ وصفراء وبيضاء ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: في طاعة الله في الجهاد، وفي سائر وجوه الخيرات ﴿يُوَف إِلَيكُمْ﴾؛ أي: يخلف لكم من العاجل، ويوفَّر لكم أجره في الآخرة، أي: يعطي لكم عليه أجرًا وافرًا كاملًا ﴿وَأَنتُمْ تُظْلَمُون﴾؛ أي: لا تنقصون من أجوره شيئًا، ولو مثقال ذرة، بل يصير ذلك إليكم وافيًا وافرًا كاملًا ﴿وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما﴾، ﴿أني لا أضيع عمل عامل منكم﴾.
59
وقرأ ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص (١): ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ - بالياء التحتية - وقرأ الباقون: ﴿تحسبن﴾ - بالمثناة فوق - كما مرَّ آنفًا، فعلى القراءة الأولى: يكون ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فاعل الحسبان، ويكون مفعوله الأول محذوفًا؛ أي: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم، ومفعوله الثاني: ﴿سَبَقُوا﴾، ومعناه: فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم، وعلى القراءة الثانية: يكون الخطاب لرسول الله - ﷺ -، ومفعوله الأول ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، والثاني ﴿سَبَقُوا﴾، وقرىء: ﴿إنَّهم سبقوا﴾ وقرىء: ﴿يِحْسَبَنَّ﴾ بكسر الياء.
وقرأ الأعمش (٢): ﴿ولا يحسب﴾ - بفتح الياء من تحت والسين، وحذف النون - وينبغي أن يخرَّج على حذف النون الخفيفة؛ لملاقاة الساكن، فيكون كقوله:
لاَ تُهِينَ الْفَقِيْرَ عَلَّكَ أَنْ... تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ
وقرأ ابن عامر: ﴿إِنَّهُمْ لَا يَعْجِزُونَ﴾ - بفتح الهمزة - والباقون بكسرها، وكلا القراءتين مفيدة؛ لكون الجملة تعليلية. وقرأ ابن محيصن: ﴿لَا يُعْجِزُونِي﴾ - بكسر النون، وياء بعدها -. وقال الزجاج: الاختيار فتح النون، ويجوز كسرها على أنَّ المعنى: إنهم لا يعجزونني، وتحذف النون الأولى؛ لاجتماع النونين. وقرأ طلحة: بكسر النون من غير تشديد ولا ياءٍ. وعن ابن محيصن: تشديد النون وكسرها، أدغم نون الإعراب في نون الوقاية، وعنه أيضًا؛ بفتح النون وتشديد الجيم وكسر النون. قال النحاس: وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أنَّ معنى عجزه: ضعفه وضعف أمره، والآخر: أنَّه كان يجب أن يكون بنونين اهـ. وقرأ الحسن وأبو حيوة وعمرو بن دينار: ﴿وَمِنْ رُبُط الْخَيْلِ﴾ - بضم الراء والباء - وعن أبي حيوة والحسن أيضًا. ﴿رُبْط﴾ - بضم الراء وسكون الباء - وذلك نحو كتاب وكتب وكتب. وقرأ الحسن ويعقوب وابن عقيل لأبي عمرو: ﴿تُرْهِبُونَ﴾ مشددًا عدي بالتضعيف كما عدي بالهمزة، قال أبو حاتم: وزعم عمرو أنَّ الحسن
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
60
قرأ ﴿يرْهِبُونَ﴾ بالياء من تحت وخففها، انتهى.
وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد: ﴿تخزون به﴾ مكان ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ﴾.
وقرأ السلمي: ﴿عَدُوًّا اللَّهِ﴾ بالتنوين ولام الجر. قال صاحب "اللوامح": فقيل: أراد به اسم الجنس، ومعناه أعداءً لله.

فصل


واعلم: أنَّ الله (١) سبحانه وتعالى أمر المؤمنين في هذه الآية بالاستعداد للحرب التي لا بُدَّ منها؛ لدفع العدوان، وحفظ الأنفس والحق والفضيلة، ويكون ذلك الاستعداد بأمرين:
١ - إعداد المستطاع من القوة؛ ويختلف هذا باختلاف الزمان والمكان، فالواجب على المسلمين في هذا العصر صنع المدافع والطيارات والقنابل والدبابات والرصاص، وإنشاء السفن الحربية والغواصات ونحو ذلك، كما يجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب.
وقد استعمل الصحابة المنجنيق مع رسول الله - ﷺ - في غزوة خيبر وغيرها.
روى مسلم عن عقبة بن عامر أنَّه سمع النبي - ﷺ - وقد تلا هذه الآية يقول: "ألا إنَّ القوة الرمي" قالها ثلاثًا، وذلك أنَّ رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربةٍ، أو نحو ذلك، وهذا يشمل السهم وقذيفة المنجنيق والطيارة والمدفع والبندقية ونحوها، فاللفظ يشملها وإن لم تكن معروفةً في عصره - ﷺ -.
٢ - مرابطة الفرسان في ثغور البلاد وحدودها: إذ هي مداخل الأعداء ومواضع مهاجمتهم للبلاد.
(١) المراغي.
61
والحكمة في هذا: أن يكون للأمة جندٌ دائم مستعدٌّ للدفاع عنها إذا فجأها العدو على غرةٍ، وقوام ذلك الفرسان؛ لسرعة حركتهم وقدرتهم على القتال وإيصال الأخبار من الثغور إلى العواصم وسائر الأرجاء، ومن أجل هذا عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها، ولا يزال للفرسان نصيب كبير في الحرب في هذا العصر الذي ارتقت فيه الفنون العسكرية في الدول الحربية.
ومعنى قوله: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾؛ أي: أعدوا لهم المستطاع من القوة الحربية ومن الفرسان المرابطة؛ لترهبوا عدو الله - الكافرين به وبما أنزله على رسوله - وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر؛ إذ لا شيء يمنع الحرب إلا الاستعداد للحرب، فالكفار إذا علموا استعداد المسلمين وتأهبهم للجهاد واستكمالهم لجميع الأسلحة والآلات.. خافوهم. وهذا الخوف يفيد المسلمين من وجوه:
١ - يجعل أعدائهم لا يعينون عدوًّا آخر عليهم.
٢ - يجعلهم يؤدون الالتزامات المطلوبة منهم.
٣ - ربَّما حملهم ذلك على الدخول في الإِسلام والإيمان بالله ورسوله.
وقوله: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾؛ أي: وترهبون به أناسًا غير هؤلاء الأعداء المعروفين لكم، وهم مشركو مكة ومن والاهم ممن يجمعون بين هاتين العدواتين حين نزول الآية عقب غزوة بدر، ممن لا تعلمون الآن عدواتهم، بل يعلمهم الله، وهو علام الغيوب.
والخلاصة: أنّ تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين تعلمون أنهم أعداء لكم.. يرهب الأعداء الذين لا تعلمون أنهم أعداء لكم، فالاستعداد للحرب يرهبهم جميعًا، ويمنعهم من الإقدام على القتال. وهذا ما يسمى في العصر الحديث: السلام المسلح.
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ﴾ قليلًا كان أو كثيرًا في إعداد المستطاع من القوة والمرابطة ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تعالى ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾؛ أي: يعطكم الله عليه الجزاء
62
الوافي التام ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾؛ أي: والحال أنه لا يحلقكم ظلم ولا اضطهاد من أعدائكم، فإن القوي المستعد لمقاومة المعتدي قلما يعتدي عليه أحد، وإن اعتدى عليه.. فقلَّ أن يظفر به.
وفي هذا إيماءٌ إلى أنَّ إعداد المستطاع من القوة الحربية والمرابطة في سبيل الله لا يمكن تحقيقهما إلا بإنفاق الكثير من المال، ومن ثم رغب سبحانه عباده المؤمنين في الإنفاق في سبيله، ووعدهم بأن كل ما ينفقون فيها يوفَّى إليهم، إمّا في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فحسب.
٦١ - ولمَّا كان السلم هو المقصد الأول لا الحرب.. أكده بقوله: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾؛ أي: وإن مال العدو عن جانب الحرب إلى جانب السلم والصلح ولم يعتز بقوته.. ﴿فَاجْنَحْ لَهَا﴾؛ أي: فمل إليها واقبلها منهم؛ لأنَّك أولى بالسلم منهم. وقرأ (١) أبو بكر عن عاصم والأعمش والمفضل وابن محيصن: ﴿لِلسَّلْمِ﴾ - بكسر السين - وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ الأشهب العقيليّ: ﴿فَاجْنَحْ﴾ - بضم النون - وقرأ الباقون بفتحها، والأولى لغة قيس، والثانية لغة تميم. قال ابن جني: ولغة قيس هي القياس، والسلم تؤنث كما تؤنث الحرب، أو هي مؤولَّة بالخصلة أو الفعلة.
أي: وإن (٢) مال الكفار للصلح بوقوع الرهبة في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعداد.. فاقبله منهم ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾؛ أي: وفوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله؛ ليكون عونًا لك على السلامة، ولكي ينصرك عليهم إذا نقضوا العهد، ولا تخف غدرهم ومكرهم ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ لما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما يفعلون وبنياتهم، فلا يخفى عليه ما يأتمرون به من الكيد والخداع - وإن خفي عليك - فيؤاخذهم بما يستحقونه، ويرد كيدهم في نحرهم. وقد اختلف أهل العلم: هل هذه الآية منسوخة أو محكمة؟.
(١) الشوكاني.
(٢) المراح.
فقيل: هي منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾.
وقيل: ليست منسوخة؛ لأنَّ المراد بها قبول الجزية، وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم، فتكون خاصةً بأهل الكتاب.
وقيل: إن المشركين إن دعوا إلى الصلح.. جاز أن يجابوا عليه. وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزةٍ وقوةٍ، لا إذا لم يكونوا كذلك.. فهو جائز، كما وقع منه - ﷺ - من مهادنة قريش، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك. وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرَّر في مواطنه. انتهى من "الشوكاني".
٦٢ - ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ﴾؛ أي: وإن يرد الكفار بإظهار الصلح خديعتك لتكف عنهم ويفترصوا الفرص، كانتظار الغرة التي تمكِّنهم من أهل الحق أو الاستعداد للحرب.. ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾؛ أي: فاعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى كافيك من شرورهم وناصرك عليهم. ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الَّذِي أَيَّدَكَ﴾ وقواك ﴿بِنَصْرِهِ﴾ في يوم بدر، وفي سائر أيامك ﴿وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ من المهاجرين والأنصار، وهذه الجملة معللة لما قبلها؛ أي: لا تخف من خداعهم ومكرهم؛ فإنَّ الله الذي قواك عليهم بالنصر في يوم بدر، هو الذي سينصرك ويقويك عليهم عند حدوث الخداع والنكث.
أي: إنَّ (١) من آثار عنايته تعالى بك أن أيدك بتسخير المؤمنين لك، وجعلهم أمةً متحدةً متآلفةً متعاونةً على نصرك، وأن سخر لك ما وراء الأسباب من خوارق العادات، كالملائكة التي تثبت القلوب يوم بدر، ثم بين كيف كان تأييده بالمؤمنين فقال: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: وهو الذي ألف وجمع بين قلوب المؤمنين على الإيمان بك وبذل النفس والمال في مناصرتك بعد التفرق والتعادي الذي كان أثر حروبٍ طويلة وضغائن موروثة، كما كان بين الأوس
(١) المراغي.
والخزرج من الأنصار.
٦٣ - وظاهر قوله (١): ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ العموم، وإنَّ ائتلاف قلوب المؤمنين هو من أسباب النصر التي أيَّد الله بها رسوله. وقال جمهور المفسرين: المراد الأوس والخزرج، فقد كان بينهم عصبية شديدة وحروب عظيمة، فألَّف الله بين قلوبهم بالإيمان برسول الله - ﷺ -. وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار. والحمل على العموم أولى؛ فقد كانت العرب قبل البعثة المحمدية يأكل بعضهم بعضًا، ولا يحترم ماله ولا دمه، حتى جاء الإِسلام فصاروا يدًا واحدة، وذهب ما كان بينهم من العصبية. وجملة قوله: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ - أي: لو بذلت يا محمَّد ما في الأرض من معادنها وزخارفها ﴿جَمِيعًا﴾ لتحصيل التأليف والجمع بينهم ﴿مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: ما قدرت على تحصيل التأليف والتوفيق بين قلوبهم، جملة مقررة لمضمون ما قبلها.
والمعنى: أنَّ ما كان بينهم من العصبية والعداوة قد بلغ إلى حد لا يمكن دفعه بحال من الأحوال، ولو أنفق الطالب له جميع ما في الأرض.. لم يتم له ما طلبه من التأليف؛ لأنَّ أمرهم في ذلك قد تفاقم جدًّا، أي (٢): إنه لولا نعمة الله عليهم بأخوة الإيمان التي هي أقوى من أخوة الأنساب والأوطان.. لما أمكنك أن تؤلِّف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية، فالضغائن الموروثة والدماء المسفوكة في الأنصار لا تزول بالأعراض الزائلة، وإنَّما تزول بصادق الإيمان الذي هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة، كما أن التآلف بين أغنياء المهاجرين وفقرائهم وأشرافهم وعامتهم على ما كان بينهم من فوارق في الجاهلية وجمع كلمة البيوت والعشائر مع رسوخ العدوات والإحن.. لم يكن مما ينال بالمال والآمال في المغانم ونحوها، على أن شيئًا من ذلك لم يكن في يد الرسول - ﷺ - أول الإِسلام، وإن كان قد صار في يده شيء كثير منه في المدينة بنصر الله له في قتال المشركين واليهود جميعًا.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
وكذلك جمع كلمة المهاجرين والأنصار على ما يدل (١) به كل منهما بميزة لا تتوافر لسواه، فالمهاجرون لهم مزية القرب من الرسول، والسبق إلى الإيمان، والأنصار لهم ميزة المال والقوة، وإنقاذ الرسول وقومه من ظلم مشركي مكة، وإيواؤهم ومشاركتهم لهم في أموالهم، فكل هذا من عوامل التحاسد والتنازع، لولا فضل الله وعنايته. ومن ثم قال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: جمع بين قلوبهم بعظيم قدرته وبديع صنعه؛ إذ هداهم إلى الإيمان الذي دعوتهم إليه فتألفت قلوبهم ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزٌ﴾ لا يغالبه مغالب، ولا يستعصي عليه أمر من الأمور؛ أي: إنه تعالى الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين، ولا كيد الماكرين ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبيره ونفوذ نهيه وأمره وفي جميع أفعاله، فينصر الحق على الباطل، ويفضل الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب.
٦٤ - وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ليس تكرارًا لما قبله، فإن الأول مقيد بإرادة الخداع؛ حيث قال: ﴿وإن يريدوا أن يخدوعك فإن حسبك الله﴾ فهذه كفاية خاصة، وفي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ...﴾ إلخ، كفاية عامة غير مقيدة.
والواو في قوله: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ﴾ يحتمل أن تكون للعطف على الاسم الشريف، والمعنى حينئذٍ: حسبك الله وحسبك المؤمنون، أي: كافيك الله وكافيك المؤمنون. ويحتمل أن تكون بمعنى مع، كما تقول: حسبك وزيدًا درهمٌ، والمعنى: كافيك وكافي المؤمنين الله؛ لأن عطف الظاهر على المضمر في مثل هذه الصورة ممتنع كما تقرر في علم النحو، وأجازه الكوفيون؛ أي: إنَّ الله سبحانه وتعالى كافٍ لك يا محمَّد كل ما يهمك من أمر الأعداء وغيرهم وكافٍ لمن اتبعك وأيدك من المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وهذا المعنى الأخير أرجح وأوضح من الأول وإن كان من حيث العربية ضعيفًا. وقيل: يجوز أن
(١) يقال: دل بعطائه إذا افتخر به على أقرانه اهـ م ج.
يكون المعنى: ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله، على كونه مبتدأ خبره محذوف.
٦٥ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ الكريم والرسول الرحيم ﴿حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: حث المؤمنين ﴿عَلَى الْقِتَالِ﴾؛ أي: على قتال أعدائهم ورغبهم فيه؛ لدفع عدوان الكفار وإعلاء كلمة الحق والعدل أهلهما على كلمة الباطل والظلم وأنصارهما.
والخلاصة: حثهم على ما يقيهم أن يكونوا حرضًا أو يكونوا من الهالكين بعدوان الكافرين عليهم وظلمهم إياهم إذا رأوهم ضعفاء مستسلمين.
ثم بشرهم؛ تثبيتًا لقلوبهم وتسكينًا لخواطرهم بأنَّ الصابرين منهم في القتال يغلبون عشرة أمثالهم من الكفار، فقال: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ﴾؛ أي: إن يوجد منكم أيها المؤمنون ﴿عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا﴾؛ أي: يقهروا بتأثير إيمانهم وصبرهم وفقههم ﴿مِائَتَيْنِ﴾ من الكافرين الذين جرِّدوا من هذه الصفات الثلاث، أي: إن يكن منكم عشرون.. فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مئتين ﴿وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ﴾ صابرة ﴿يَغْلِبُوا﴾ ويقهروا ﴿أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهذا وعد من الله تعالى وبشارة بأنَّ الجماعة من المؤمنين إن صبروا.. غلبوا عشرة أمثالهم من الكافرين بعون الله وتأييده.
والخلاصة (١): ليصبرن الواحد لعشرة، فجماعة المؤمنين الصابرين ترجح جماعة الكافرين بهذه النسبة العشرية سواء قلوا أو كثروا، بحيث يؤمرون بقتالهم وعدم الفرار منهم إذا بدؤوهم بالقتال.
وإنما يجب هذا الحكم عند حصول هذه الشروط المذكورة (٢):
منها: أن يكون المؤمن شديد الأعضاء قويًّا جلدًا.
ومنها: أن يكون قوي القلب، شديد البأس، شجاعًا غير جبان.
ومنها: أن يكون غير متحرف لقتالٍ، أو متحيزٍ إلى فئة، فعند حصول هذه
(١) المراغي.
(٢) المراح.
الشوط رجب على الواحد أن يثبت للعشرة.
والباء في قوله: ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ سببية متعلقة بـ ﴿يَغْلِبُوا﴾ في الموضعين، أي أنتم تغلبونهم وهم بهذه النسبة، بسبب أنهم، أي: أنَّ الكفار قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر، لا يفقهون ما تفقهون من حكمة الحرب، وما يراد بها من مرضاة الله عز وجل إقامة سننه العادلة، وإصلاح حال عباده بالعقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، عن وجوب مراعاة أحكامه وسننه بإعداد كل ما يستطاع عن قوة، وعن كون غاية القتال عند المؤمنين إحدى الحسنيين: النصر والغنيمة الدنيوية، أو الشهادة والسعادة الأخروية. وأنتم تقاتلون امتثالًا لأمر الله تعالى، وإعلاءً لكلمته، وابتغاءً لمرضاته، وهم إنما يقاتلون للحمية الجاهلية وإثارةً للعدوان، وهم يعتمدون على قوتهم، والمسلمين يستغيثون بربهم بالتضرع، ومن كان كذلك.. كان النصر أليق به.
وبالجملة: فحالهم يخالف حالكم في كل ما تقدَّم، لا سيما منكري البعث والجزاء منهم، كمشركي العرب في ذلك العصر واليهود الذين أعمتهم المطامع المادية وحب الشهوات، فهم أحرص على الحياة منكم؛ لعدم اعتقادهم بسعادةٍ أخرويةٍ إلَّا أن أهل الكتاب يظنون أنَّهم يحصلون عليها بنسبهم وشفاعة أنبيائهم.
وفي الآية (١) إيماءٌ إلى أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم، ومن ثم كانت المئة من الكافرين دون العشرة عن المؤمنين الصابرين، وهكذا كان المسلمين في العصور الأولى، حين كانوا يعملون بهداية دينهم وكانوا بها أرباب ملك واسع وعزٍ وجاه عريضٍ، ودانت لهم الشعوب الكثيرة، حتى إذا ما تركوا هذه الهدية.. زال مجدهم وسؤددهم، وذهبت ريحهم، ونزع منهم أكثر ذلك الملك.
٦٦ - ثم لما شقَّ ذلك عليهم واستعظموه.. خفف عنهم، ورخص لهم؛ لما علمه سبحانه من وجود الضعف فيهم، فقال: ﴿الآنَ﴾؛ أي في هذا الزمن الحاضر الذي قل فيه عددكم
(١) البيضاوي.
68
وعدتكم.. ﴿خَفَّفَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَنْكُمْ﴾ أيها المؤمنون أمر القتال، رفع عنكم ما فيه مشقةٌ ﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ في الأبدان عن قتال عشرة أمثالكم، لا في الإيمان؛ لكثرة العبادة والتعب، فرحمكم الله وأكرمكم بالتخفيف، وأيضًا علم الله سبحانه وتعالى ضعف من يأتي بعد الصدر الأول عن القتال، فخفف الله عن الجميع ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ﴾؛ أي: يوجد منكم ﴿مِائَةٌ صَابِرَةٌ﴾ على شدائد القتال ﴿يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾؛ أي: يتغلبوا على مئتين من الكفار ﴿وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ﴾؛ أي: وإن يوجد منكم ألف صابرون في ساحة القتال.. ﴿يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ﴾ أي: يتغلبوا على ألفين من الأعداء. وقوله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ أي: بإرادته وتيسيره: متعلقٌ بـ ﴿يَغْلِبُوا﴾ في الموضعين، وهو خيرٌ بمعنى الأمر؛ أي: فليثبت الواحد منكم لرجلين من الكفار، وقد استمر هذا الأمر إلى يوم القيامة. ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ على مشاق التكاليف بنصره ومعونته، فكيف لا يغلبون؟ قال (١) سفيان: قال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ذلك.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمَّا نزلت ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ الآية.. شقَّ ذلك على المسليمن حين فرض عليهم أن لا يفرَّ الواحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ قال: فلمَّا خفف الله عنهم من العدة.. نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
وبهذا الحديث استدل العلماء على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار، وتحريم الفرار عليه منهما، سواء طلباه أو طلبهما، وسواء وقع ذلك وهو واقفٌ في الصف مع العسكر، أو لم يكن هناك عسكرٌ.
والخلاصة: أنّ أقل حال للمؤمنين مع الكفار في القتال أن ترجح المئة
(١) المراغي.
69
منهم على المئتين، والألف على الألفين، وإنَّ هذه رخصة خاصة بحال الضعف، كما كان الحال كذلك في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات، وهو وقت غزوة بدر، حين كان المؤمنون لا يجدون ما يكفيهم من القوت، ولم يكن لديهم إلا فرسٌ واحدٌ، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدِّين للحرب، وكانوا أقل من ثلث المشركين الكاملي الأهبة والعدة.
ولمَّا كملت للمؤمنين القوة.. كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم، وما تمَّ لهم فتح ممالك الفرس والروم وغيرهم إلا بذلك.
وكان أصحاب رسول الله - ﷺ - في عهده ومن بعده القدوة في ذلك، فقد كان الجيش الذي أرسل إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله الحارث بن عمير الأزدي ثلاثة آلاف، وكان الجيش الذي قاتلهم من الروم ومتنصرة العرب مئةً وخمسين ألفًا.
وقد (١) قيل في نكتة التنصيص على غلب العشرين للمئتين، والمئة للألف: أنَّ سراياه - ﷺ - التي يبعثها كان لا ينقص عددها عن العشرين، ولا يجاوز المئة، وقيل: في التنصيص فيما بعد ذلك على غلب المئة للمئتين، والألف للألفين: بشارةٌ للمسلمين بأنَّ عساكر الإِسلام يجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف، ثم أخبرهم بأن هذا الغلب هو بإذن الله وتسهيله وتيسيره، لا بقوتهم ولا جلادتهم، ثم بشرهم بأنَّه مع الصابرين، وفيه الترغيب إلى الصبر، والتأكيد عليهم بلزومه، والتوصية به، وأنه من أعظم أسباب النجاح والفلاح والنصر والظفر؛ لأنَّ من كان الله معه.. لم يستقم لأحد أن يغلبه. وقد اختلف أهل العلم: هل هذا التخفيف نسخ أم لا؟ ولا يتعلق بذلك كثير فائدة.
وقرأ الأعمش (٢): ﴿حرص﴾ - بالصاد المهملة - وهو من الحرص، وهو قريب من قراءة الجمهور - بالضاد -.
وقرأ الكوفيون: ﴿يكن منكم مئة﴾ على التذكير فيهما، ورواها خارجة عن
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
70
نافع، وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - وابن عامر على التأنيث، وقرأ أبو عمرو على التذكير في الأولى، ولحظ ﴿يَغْلِبُوا﴾ والتأنيث في الثانية؛ ولحظ ﴿صَابِرَةٌ﴾ وقرأ الأعرج على التأنيث كلها، إلا قوله: ﴿وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ﴾ فإنه على التذكير بلا خلاف، وقرأ المفضل عن عاصم: ﴿وعلم﴾ مبنيًّا للمفعول. وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - والعربيان - أبو عمرو وابن عامر - والكسائي وابن عمر والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق: ﴿ضُعفا﴾ هنا وفي الروم - بضم الضاد وسكون العين - وقرأ عيسى بن عمر بضمهما، وحمزة وعاصم بفتح الضاد وسكون العين، وهي كلها مصادر وعن أبي عمرو بن العلاء: ضم الضاد لغة الحجاز، وفتحها لغة تميم. وقرأ ابن القعقاع: ﴿ضعفاء﴾ جمع ضعيف، كظريف وظرفاء، وحكاها النقاش عن ابن عباس.
الإعراب
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٥٠)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿لو﴾: حرف شرط ﴿تَرَى﴾: فعل مضارع بمعنى الماضي؛ أي: بمعنى رأيت؛ لأنَّ لو الامتناعية ترد المضارع ماضيًا، كما أنَّ أن الشرطية ترد الماضي مضارعًا، وفاعله: ضمير يعود على محمَّد، أو على أيّ مخاطب، وهي بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وهو محذوف، تقديره: ولو ترى حال الكفرة، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لو﴾ وجوابها محذوف، تقديره: ولو ترى حال الكفرة ﴿إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ﴾.. لرأيت أمرًا فظيعًا عجيبًا، وجملة لو الشرطية: مستأنفة. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿تَرَى﴾. ﴿يَتَوَفَّى﴾: فعل مضارع. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول مقدم على الفاعل للاهتمام به. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذْ. ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَأَدْبَارَهُمْ﴾: معطوف على وجوههم، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الملائكة.
71
﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة لقول محذوف، تقديره: ويقولون: ذوقوا عذاب الحريق. ﴿ذوقوا عذاب الحريق﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب مقولٌ لذلك القول المحذوف، وجملة القول المحذوف في محل النصب على الحال على كونها معطوفة على جملة يضربون.
﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائنٌ بسبب ما قدمته أيديكم، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما قدمته أيديكم ﴿وَأَنَّ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله. ﴿بِظَلَّامٍ﴾: خبر ليس، والباء زائدة. ﴿لِلْعَبِيدِ﴾: متعلق بظلام، وجملة أنَّ في تأويل مصدر معطوف على ما الموصولة على كونه مجرورًا بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب ما قدمته أيديكم، وكائن بسبب عدم كون الله ظلامًا للعبيد.
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٥٢)﴾.
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر للمبتدإ محذوف، تقديره: دأب هؤلاء المشركين كائن كدأب آل فرعون، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَالَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الجر معطوف على ﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾ ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور، صلة الموصول. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب؛ لأنها تفسير لـ ﴿دأب آل فرعون﴾ ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل معطوف على كفروا؛ لأنَّ الفاء فيه عاطفة ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أخذهم﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿قَوِيٌّ﴾: خبره. ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: خبر ثانٍ لأنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة
72
لتعليل ما قبلها.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿بِأَنَّ﴾ ﴿الباء﴾ حرف جر وسبب: ﴿أَنَّ﴾ حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم ﴿يَكُ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بلم، وعلامة جزمه سكون ظهر على النون المحذوفة للتخفيف على حدِّ قول ابن مالك:
وَمِنْ مُضَارعٍ لِكَانَ مُنْجَزِمْ تُحْذَفُ نوْنٌ وَهُوْ حَذْفٌ مَا الْتُزِمْ
وحذفت الواو من ﴿يك﴾؛ لالتقاء الساكنين؛ لأنَّ أصله: يكون، دخل الجازم عليه فسكنت النون، فالتقى ساكنان، فحذفت الواو؛ لالتقائهما، فصار يكن، ثم حذفت النون؛ للتخفيف، فصار: يك، واسمها: ضمير يعود على الله. ﴿مُغَيِّرًا﴾: خبرها، ﴿نِعْمَةً﴾: مفعول مغيرًا، وجملة يكون في محل الرفع خبر أن، وجملة أن في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب عدم كون الله مغيرًا نعمة الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائنٌ بسبب عدم تغيير الله نعمة أنعمها على قوم، والجملة اسمية مستأنفة ﴿أَنْعَمَهَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب صفة لنعمة ولكنها سببية. ﴿عَلَى قَوْمٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْعَمَهَا﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية، ﴿يُغَيِّرُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾، بمعنى إلى ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على المفعولية. ﴿بِأَنْفُسِهِمْ﴾ جار ومجرور صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لا، تقديره: ما كان بأنفسهم من الحال، وجملة ﴿يُغَيِّرُوا﴾ صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى: تقديره: إلى تغييرهم ما بأنفسهم، الجار والمجرور متعلق بيكون، أو بمغيرًا ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿سَمِيعٌ﴾: خبر أول له. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثان له، وجملة أنَّ في محل الجر معطوفة على جملة أن في قوله: ﴿بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا﴾ على قراءة الفتح، وعلى قراءة كسر همزة إن - فالجملة مستأنفة.
73
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (٥٤)﴾.
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾: جار ومجرور خبر لمحذوف، تقديره: دأبهم كدأب آل فرعون، والجملة مستأنفة، كررت؛ للإطناب في الذم. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على آل فرعون. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾ والجملة مفسرة لدأب أل، فرعون لا محل لها من الإعراب ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾. ﴿وَأَغْرَقْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿آلَ فِرْعَوْنَ﴾: مفعول ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿أهلكنا﴾. ﴿وَكُلٌّ﴾: مبتدأ وسوَّغ الابتداء بالنكرة.. قصد العموم. ﴿كَانُوا ظَالِمِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة كان في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، وجمع الضمير في كانوا وفي ظالمين؛ مراعاةً لمعنى ﴿كل﴾؛ لأنَّ كلًّا متى قطعت عن الإضافة.. جاز مراعاة لفظها تارة ومعناها أخرى، وإنما اختير هنا مراعاة المعنى؛ لأجل الفواصل، ولو روعي اللفظ فقط، فقيل: وكلُّ كان ظالمًا.. لم تتفق الفواصل اهـ "سمين".
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٥)﴾.
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ﴾: ناصب واسمه ومضاف إليه. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بشر ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾ اعتراضية، ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين البدل والمبدل منه، أو معطوفةٌ على جملة الصلة، وعبارة أبي السعود هنا قوله: ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ هذا حكم مترتب على تماديهم في الكفر ورسوخهم فيه، وتسجيل عليهم بكونهم من أهل الطبع، لا يلويهم صارف، ولا يثنيهم عاطف أصلًا، جيء به على وجه الاعتراض، لا أنه
74
عطفٌ على ﴿كَفَرُوا﴾ داخلٌ معه في حيز الصلة التي لا حكم فيها بالفعل. انتهت.
﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (٥٦)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ بدل من الموصول قبله بدل بعض من كل، أو عطف بيان له، أو خبر لمحذوف، تقديره: هم الذين. ﴿عَاهَدْتَ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب، ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة الصلة ﴿فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَنْقُضُونَ﴾. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَتَّقُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو ﴿يَنْقُضُونَ﴾.
﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧)﴾.
﴿فَإِمَّا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم المذكور من نقض العهد، وأردت بيان ما تفعل معهم.. فأقول لك: ﴿إما تثقفنهم﴾. ﴿إما﴾ ﴿إنْ﴾ حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في ميم ﴿ما﴾ الزائدة ﴿ما﴾ زائدة لتأكيد معنى الشرط. ﴿تثقفن﴾ فعل مضارع في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿فِي الْحَرْبِ﴾ متعلق به ﴿فَشَرِّدْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية ﴿شَرِّدْ﴾: فعل أمر في محل الجزم بإن الشرطية على كونه جوابًا لها مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمَّد ﴿بِهِمْ﴾: متعلق بشرد. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول شرِّد. ﴿خَلْفَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، صلة الموصول، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَذَّكَّرُونَ﴾ في محل الرفع خبر لعل، وجملة لعل في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدرة على كونها مسوقةً لتعليل ما قبلها.
75
﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (٥٨)﴾.
﴿وَإِمَّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿ما﴾ زائدة. ﴿تَخَافَنَّ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بأن مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على محمَّد ﴿مِنْ قَوْمٍ﴾: متعلق به. ﴿خِيَانَةً﴾: مفعول به. ﴿فَانْبِذْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب إن الشرطية ﴿انبذ﴾ فعل أمر في محل الجزم بإن مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمد، ومفعوله محذوف، تقديره: عهدهم. ﴿إِلَيْهِمْ﴾ متعلق بانبذ. ﴿عَلَى سَوَاءٍ﴾: حال من الفاعل الذي هو ضمير انبذ، والمفعول الذي هو ضمير إليهم، تقديره. حالة كونك وكونهم مستوين في العلم بنقض العهد بأن تعلمهم به؛ لئلا يتهموك بالغدر، وجملة إن الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾ اسمها، وجملة ﴿لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ خبرها، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال، على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.
﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (٥٩)﴾.
﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿سَبَقُوا﴾ في محل النصب مفعول ثان لحسب، ومفعولها الأول محذوف، تقديره: أنفسهم، والمعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا. ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لَا يُعْجِزُونَ﴾ في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾.
﴿وَأَعِدُّوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على المفعولية. ﴿اسْتَطَعْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلةٌ لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما
76
استطعتموه. ﴿مِنْ قُوَّةٍ﴾ جار ومجرور حال من ما الموصولة، أو من العائد المحذوف، تقديره: حالة كونه بعض قوة. ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿تُرْهِبُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به ﴿عَدُوَّ اللَّهِ﴾: مفعول به ﴿وَعَدُوَّكُمْ﴾: معطوف عليه، وجملة ﴿تُرْهِبُونَ﴾: في محل النصب حالٌ من فاعل ﴿أعدوا﴾، تقديره: حالة كونكم مرهبين لهم، ويجوز أن يكون حالًا من مفعوله وهو الموصول؛ أي: أعدوه حال كونه مرهبًا به.
﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾.
﴿وَآخَرِينَ﴾: معطوف على ﴿عَدُوَّ اللَّهِ﴾. ﴿مِنْ دُونِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لآخرين. ﴿لَا تَعْلَمُونَهُمُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به؛ لأنَّ علم هنا بمعنى عرف، والجملة في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿آخرين﴾. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿يَعْلَمُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب صفة ثالثة لآخرين. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿تُنْفِقُوا﴾. ﴿تُنْفِقُوا﴾: فعل وفاع مجزوم بما، على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: حال من ﴿ما﴾. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُنْفِقُوا﴾. ﴿يُوَفَّ﴾: فعل مضارع مغيّر الصيغة في محل الجزم بـ ﴿ما﴾، على كونه جواب شرط لها، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾. ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿وَأَنْتُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير إليكم؛ أي: يوف إليكم حالة كونكم غير مظلومين فيه، وجملة ما الشرطية مستأنفة استئنافًا نحويًّا.
﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿جَنَحُوا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بإن، على كونه فعل شرط لها. ﴿لِلسَّلْمِ﴾: متعلق به. ﴿فَاجْنَحْ﴾:
77
﴿الفاء﴾ رابطة لجواب إن الشرطية ﴿اجنح﴾ فعل أمر في محل الجزم بإن الشرطية، على كونها جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، ﴿لَهَا﴾: متعلق به، وجملة إن الشرطية مستأنفة. ﴿وَتَوَكَّلْ﴾: فعل أمر معطوف على ﴿فَاجْنَحْ﴾، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿السَّمِيعُ﴾: خبر أول لإنَّ. ﴿الْعَلِيمُ﴾: خبر ثانٍ لها، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿يُرِيدُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بإن على كونه فعل شرط لها. ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَخْدَعُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بإن المصدرية، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿يُرِيدُوا﴾، تقديره: وإن يريدوا خداعهم إياك، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فصالحهم ولا تخش منهم، وجملة إن الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ ﴿فَإِنَّ﴾ ﴿الفاء﴾ تعليلية ﴿إن﴾ حرف نصب. ﴿حَسْبَكَ﴾: اسمها ومضاف إليه. ﴿اللَّهُ﴾: خبرها، وجملة إنَّ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية؛ لأنَّ جملتها مسوقة لتعليل الجواب المحذوف، كما قدَّرناه آنفًا. ﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿أَيَّدَكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿بِنَصْرِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَيَّدَكَ﴾. ﴿وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾: معطوف على الجار والمجرور قبله.
﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)﴾.
﴿وَأَلَّفَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿أَيَّدَكَ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَلَّفَ﴾. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿أَنْفَقْتَ﴾: فعل وفاعل. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول
78
﴿أَنْفَقْتَ﴾. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور صلةٌ لما، أو صفةٌ لها. ﴿جَمِيعًا﴾: تأكيدٌ لما الموصولة، أو حال منها، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَلَّفْتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب لو الشرطية، وجملة لو الشرطية مستأنفة. ﴿بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَلَّفْتَ﴾. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾. ناصب واسمها. ﴿أَلَّفَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لكن، وجملة لكن معطوفة على جملة لو الشرطية. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿عَزِيزٌ﴾: خبر أول لها. ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان لها، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء، ﴿أيُّ﴾ منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾ حرف تنبيه زائد. ﴿النَّبِيُّ﴾: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفةٌ. ﴿حَسْبُكَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿اللَّهُ﴾ خبره، والجملة الاسمية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. وقال (١) قوم: ﴿حَسْبُكَ﴾: مبتدأ، و ﴿اللَّهُ﴾: فاعله؛ أي: يكفيك الله. ﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ﴾: في ﴿مِنَ﴾ ثلاثة أوجه من الإعراب:
أحدها: جره عطفًا على الكاف في ﴿حَسْبُكَ﴾؛ أي: حسبك يا محمَّد وحسب من اتبعك من المؤمنين.. الله. وهذا الوجه في المعنى أوضح وأظهر وأسلم من الإشكال، ولكن هذا الوجه من حيث العربية لا يجوز عند البصريين؛ لأنَّ العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار لا يجوز عندهم، كما قال ابن مالك:
وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى ضَمِيْرِ خَفْضٍ لاَزِمًا قَدْ جُعِلاَ
والثاني: موضعه نصب بعامل محذوف دلَّ عليه الكلام، تقديره: يكفيك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وهذا الوجه واضح أيضًا.
(١) العكبري.
79
والثالث: موضعه رفع، وهو على وجهين:
أحدهما: أنَّه معطوف على لفظ الجلالة، فيكون خبرًا آخر للمبتدأ، كقولك: القائمان زيد وعمرو، ولم يثن حسبك؛ لأنه مصدر. وقال قوم: هذا الوجه ضعيف من حيث المعنى؛ لأنَّ الواو للجمع، ولا يحسن ههنا، كما لا يحسن في قولهم: ما شاء الله وشئت، وثم هنا أولى، إلا أن يقال: إن الواو هنا بمعنى ثم.
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: وحسبك من اتبعك من المؤمنين من حيث النصر، ولا يلزم على هذا الوجه التشريك بين الله وبين غيره؛ لأنَّ الكلام جملتان.
وليس فيه اعتماد على غير الله؛ لأنَّ المؤمنين ما التفت إليهم إلا لإيمانهم وكونهم حزب الله، فرجع الأمر فيهم إلى الله. انتهى أبو البقاء مع زيادة وتصرف.
﴿اتَّبَعَكَ﴾ فعل ومفعول، وفعله ضمير يعود على ﴿مَنِ﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: جار ومجرور حال من فاعل اتبعك.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة، والجملة مستأنفة. ﴿النَّبِيُّ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾. ﴿حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على النبي، والجملة الفعلية جواب النداء. ﴿عَلَى الْقِتَالِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حَرِّضِ﴾ ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿يَكُنْ﴾: فعل مضارع تام بمعنى يوجد، مجزوم بإن على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿عِشْرُونَ﴾ فاعل. ﴿صَابِرُونَ﴾: صفة لـ ﴿عِشْرُونَ﴾، ويصح أن تكون ﴿يَكُنْ﴾ ناقصة. ﴿يَغْلِبُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بإن على كونه جواب الشرط لها. ﴿مِائَتَيْنِ﴾: مفعول به، وجملة إن الشرطية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾.
﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿إِنْ يَكُنْ﴾: جازم. ومجزوم. ﴿مِنْكُمْ﴾: متعلق
80
به ﴿مِائَةٌ﴾: فاعل. ﴿يَغْلِبُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بإن الشرطية على كونه جوابًا لها. ﴿أَلْفًا﴾. مفعول به، وجملة إن الشرطية معطوفة على جملة إن الأولى ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور صفة لِـ ﴿أَلْفًا﴾، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ ﴿الباء﴾ حرف جر وسبب ﴿أنَّ﴾ حرف نصب، و ﴿الهاء﴾ اسمها. ﴿قَوْمٌ﴾: خبر أنَّ، وجملة ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾ صفة لـ ﴿قَوْمٌ﴾، وجملة أنَّ في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب عدم فقههم. الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَغْلِبُوا﴾ في الموضعين.
﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)﴾.
﴿الْآنَ﴾ ظرف للزمان الحاضر في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على الفتح؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ لتضمنه معنى حرف التعريف، والظرف متعلق بـ ﴿خَفَّفَ﴾ الآتي. ﴿خَفَّفَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿عَنْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿خَفَّفَ﴾ ﴿وَعَلِمَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿خَفَّفَ﴾ ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِيكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لأن ﴿ضَعْفًا﴾ اسم أنَّ مؤخر، وجملة أنَّ في تأويل مصدر ساد مسدَّ مفعولي ﴿علم﴾، تقديره: وعلم كون ضعف فيكم ﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتفصيل. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿يَكُنْ﴾: فعل مضارع تام مجزوم بـ ﴿إن﴾ ﴿مِنْكُمْ﴾: متعلق به ﴿مِائَةٌ﴾: فاعل ﴿يَكُنْ﴾. ﴿صَابِرَةٌ﴾: صفة مئة. ﴿يَغْلِبُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها. ﴿مِائَتَيْنِ﴾: مفعول به، وجملة إن الشرطية من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة ﴿خَفَّفَ﴾ على كونها مفصلة لها. ﴿وَإِنْ يَكُنْ﴾: جازم ومجزوم. ﴿مِنْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿أَلْفٌ﴾: فاعلٌ. ﴿يَغْلِبُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بإن على كونه جوابًا لها. ﴿أَلْفَيْنِ﴾: مفعول به، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى على كونها تفصيلًا لـ ﴿خَفَّفَ﴾. ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَغْلِبُوا﴾ في الموضعين. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
81
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَأَدْبَارَهُمْ﴾؛ أي: ظهورهم وأقفيتهم. ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ والذوق: قد يكون محسوسًا، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، وأصله من الذوق بالفم. والحريق: بمعنى المحرق - فعيل بمعنى مفعل - ﴿لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾؛ أي: بذي ظلم، ففعال صيغة نسب، على حد قول ابن مالك:
وَمَعَ فَاعِلٍ فِعَالٌ وَفُعِلْ فِيْ نَسَبٍ أَغْنَى عَنِ اليَا فَقُبِلْ
﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ﴾: وفي "المصباح": ثقفت الشيء ثقفًا - من باب تعب - أخذته، وثقفت الرجل في الحرب: أدركته، وثقفته: ظفرت به، وثقفت الحديث: فهمته بسرعة، والفاعل ثقيفٌ، وبه سمي حيٌّ من اليمن اهـ. ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ﴾؛ أي: نكل بهم تنكيلًا يشرد غيرهم من ناقضي العهد، يقال: شرد إذا فرق وطرد، والمشرد: المفرق المبعد. ﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ﴾: والنبذ: الطرح والرمي. ﴿عَلَى سَوَاءٍ﴾؛ أي: على طريق واضح، لا خداع فيه ولا خباءة ولا ظلم. ﴿سَبَقُوا﴾؛ أي: أفلتوا من الظفر بهم ﴿لَا يُعْجِزُونَ﴾؛ أي: لا يجدون الله عاجزًا عن إدراكهم، بل سيجزيهم على كفرهم.
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ﴾: الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل. ﴿مِنْ قُوَّةٍ﴾: والمراد بالقوة: جميع ما يتقوى به في الحرب على العدو، فكل ما هو آلة يستعان به في الجهاد.. فهو من جملة القوة المأمور بإعدادها. ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾: والرباط - بكسر أوله في الأصل -: مصدر سماعي لرابط؛ لأنَّ فعالا لا يكون مصدرًا قياسيًّا إلا إذا كان الفعل يقتضي الاشتراك، كقاتل وخاصم، وهنا ليس كذلك، وفي "السمين": وقال الزمخشري: والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن تسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط بمعنى مربوط، كفصيلٍ وفصالٍ، والمصدر هنا مضافٌ لمفعوله اهـ. والرباط والمربط: الحبل الذي تربط به الدابة، ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها. وفي "المصباح": ربطته رباطًا من باب ضرب، ومن باب قتل لغة - شددته. والرباط: ما تربط به القربة وغيرها، والجمع ربط، مثل: كتاب وكتب، ويقال للمصاب: ربط الله على قلبه بالصبر، كما يقال: أفرغ الله عليه الصبر؛ أي: ألهمه.
82
والرباط: اسم من رابط مرابطة - من باب قاتل - إذا لازم ثغر العدو، والرباط الذي يبنى للفقراء مولد، ويجمع في القياس على رُبُط - بضمتين - ورباطات اهـ.
﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ﴾: والإرهاب والترهيب: الإيقاع في الرهبة، وهي الخوف المقترن بالاضطراب. ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾: يقال: جنح للشيء وإليه: إذا مال، يقال: جنحت الشمس إذا مالت إلى جانب الغرب الذي تغيب في أفقه، يقال: جنح - من باب دخل وخضع - جنوحًا، والجنوح: الميل، وجنحت الإبل: أمالت أعناقها، ويقال: جنح الليل إذا أقبل، قال النضر بن شميل: جنح الرجل إلى فلان ولفلان إذا خضع له، والجنوح: الاتباع أيضًا لتضمنه الميل، ومنه الجوانح للأضلاع لميلها على حشوة الشخص، والجناح من ذلك؛ لميلانه على الطائر اهـ. "سمين". ﴿إِلَى السَّلْمِ﴾: وفي "المصباح": والسلم - بكسر السين وفتحها -، ويذكَّر ويؤنَّث، الصلح وضد الحرب، والإِسلام دين السلم والسلام، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾.
﴿حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: التحريض في اللغة: الحث على الشيء بكثرة الترغيب وتسهيل الخطب فيه، كأنه في الأصل إزالة الحرض، وهو الهلاك اهـ. "الخازن". وفي "البيضاوي": الحرض: أن ينهكه المرض حتى يشرف على الموت اهـ. وفي "المصباح": حرض حرضا - من باب تعب - إذ أشرف على الهلاك، فهو حرض - بفتح الراء - تسميةً بالمصدر مبالغةً، وحرّضته على الشيء تحريضًا اهـ. وفي "المختار": والتحريض على القتال: الحث عليه اهـ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾؛ لأنه كناية عن ضرب أجسادهم، فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل. وفي قوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾؛ لأن المعنى: بما قدمته أنفسكم، فاليد هنا عبارة عن القدرة، وحسن هذا المجاز كون اليد آلة العمل، والقدرة هي المؤثرة، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة اهـ "كرخي".
83
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾؛ لأنَّ الذوق حقيقة في المطعومات، فشبه مباشرة العذاب بذوق الطعام بجامع الوصول إلى المقصود في كل.
ومنها: الاعتراض التذييليُّ المقرر لمضمون ما قبله في قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾، وفي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾، وفي قوله: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾، وفي قوله: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ﴾ ﴿يَغْلِبُوا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التخييلية في قوله: ﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ﴾ لأن النبذ حقيقة في الطرح، وهو هنا مجاز عن إعلامهم بأن لا عهد بعد اليوم، فشبه العهد بالشيء الذي يرمى لعدم الرغبة فيه، وأثبت النبذ له تخييلًا.
ومنها: الاحتباك الذي هو من المحسنات البديعية في قوله: ﴿إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا﴾ والاحتباك هو أن يحذف من كلّ من المتقابلين نظير ما أثبته في الآخر. وفي "الكرخي": وأثبت في الشرطية الأولى قيدًا - وهو ﴿صَابِرُونَ﴾ - وحذفه من الشرطية الثانية، وأثبت في الثانية قيدًا - وهو ﴿مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ - وحذفه من الأولى، والتقدير: مئتين من الذين كفروا، ومئة صابرة، فحذف من كل منهما ما أثبت في الآخر، وهو غاية الفصاحة، وهذا الاحتباك جارٍ في الجمل المذكورة بعد قوله: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع منها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
84
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى...﴾: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى (١) لمَّا ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في حال الغزو والجهاد أمام أعدائهم الكافرين من الصبر والثبات على القتال، ومن تفضيل السلم إذا جنح العدو إليها.. أردف ذلك بذكر أحكام الأسرى، لأنَّ أمورهم يفصل فيها بعد القتال غالبًا، كما وقع في وقعة بدر، كما يقع في كل زمان.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّه لما أخذ الرسول - ﷺ - الفداء من الأسرى.. شقَّ عليهم أخذ أموالهم، فأنزل الله هذه الآية؛ استمالةً لهم وترغيبًا في الإِسلام، ببيان ما فيه
(١) المراغي.
85
من خير الدنيا والآخرة، وتهديدًا وإنذارًا لهم ببقائهم على الكفر وخيانته، وبشارة للنبي - ﷺ - بحسن العاقبة والظفر له ولمن تبعه من المؤمنين.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم وما يجب أن يعمل مع الأسرى.. ختم السورة بولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزم ذلك، وولاية الكافرين بعضهم لبعض، ثم أمر بالمحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار ما دام العهد محفوظًا غير منبوذ ولا منكوث.
أسباب النزول
قوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الحاكم (ج ٣/ ص ٣٣٩) قال: أخبرنا أبو العباس محمَّد بن أحمد المحبوبي حدثنا سعيد بن مسعود حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: استشار رسول الله - ﷺ - في الأسارى أبا بكر، فقال: قومك وعشيرتك، فخلِّ سبيلهم. فاستشار عمر، فقال: اقتلهم. قال: ففداهم رسول الله - ﷺ - فأنزل الله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا﴾، قال: فلقي النبيُّ - ﷺ - عمر قال: "كاد أن يصيبنا بلاءٌ في خلافك"، هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقال الذهبي: قلت على شرط مسلم.
وروى (١) ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال: لما كان يوم بدر.. جيء بالأسارى، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة:
(١) المراغي.
86
أنت في وادٍ كثير الحطب، فأضرمه عليهم نارًا، فقال العباس - وهو يسمع ما يقول - أقطعت رحمك؟ فدخل النبي - ﷺ - ولم يرد عليهم شيئًا، فقال أناسٌ: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناسٌ: يأخذ بقول عمر: وقال أناس: يأخذ: بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله - ﷺ - فقال: "إنَّ الله ليلين قلوب رجالٍ حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام، قال: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)﴾، ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام؛ إذ قال: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾، وإنَّ مثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام قال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾. أنتم عالةٌ، فلا يفلتن أحدٌ إلا بفداء أو ضرب عنق" فقال عبد الله رضي الله عنه: يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء؛ فإني سمعته يذكر الإِسلام، فسكت رسول الله - ﷺ -، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليَّ الحجارة منى في ذلك اليوم حتى قال رسول الله - ﷺ -: "إلا سهيل بن بيضاء" فأنزل الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى...﴾ إلى آخر الآيتين.
وروى (١) أحمد من حديث ابن عباس قال: لما أسروا الأسارى - يعني يوم بدر - قال رسول الله - ﷺ - لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فديةً فتكون قوةً لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله - ﷺ -: "ما ترى يا ابن الخطاب؟ "، قال: لا والله، لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل - أخيه - فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - نسيبٌ لعمر -، فأضرب عنقه، ومكن فلانًا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله - ﷺ - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان الغد.. جئت فإذا رسول الله - ﷺ - وأبو بكر قاعدان يبكيان،
(١) المراغي.
87
قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء.. أبكي، وإن لم أجد بكاءً.. تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله - ﷺ -: "أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرةٍ قريبةٍ منه - وأنزل الله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾.
وفي هذا الحديث تصريحٌ بأنَّ الذين طلبوا منه - ﷺ - اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر في أكثر الرويات أبو بكر رضي الله عنه؛ لأنَّه أول من أشار بذلك، ولأنه أكبرهم مقامًا، وروى ابن المنذر عن قتادة قال: أراد أصحاب محمدٍ الفداء يوم بدر، ففادوهم بأربعة آلاف "أربعة آلاف درهم".
قوله تعالى: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨)﴾ سبب نزولها (١): ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي - ﷺ - قال: "لم تحلَّ الغنائم لأحد سود الرؤوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها"، فلمَّا كان يوم بدر.. وقعوا في الغنائم قبل أن تحل لهم، فأنزل الله ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨)﴾ إلى آخرِ الآيتين.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى...﴾ الآية، روى الحاكم والبيهقي في "سننه" وغيرها عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وكان العباس أسيرًا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر، فلم تبلغه النوبة حتى أسر، فقال العباس: كنت مسلمًا إلا أنهم أكرهوني، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن يكن ما تذكره حقًّا.. فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك.. فقد كان علينا" قال العباس: فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب عليَّ، فقال: "أمَّا شيء أخرجت لتستعين به علينا.. فلا"، قال وكلَّفني رسول الله فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن
(١) المراغي.
88
الحارث، فقال العباس: تركتني يا محمَّد أتكفف قريشًا، فقال رسول الله - ﷺ -: أين الذهب الذي دفعته إلى أمِّ الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدري ما يصيبني، فإن حدث بي حادث.. فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل؟ "، فقال العباس: وما يدريك؟ قال: "أخبرني ربي"، قال: فإني أشهد أنَّك صادقٌ، وأن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحدٌ إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابًا في أمرك، وأما إذ أخبرتني بذلك.. فلا ريب.
قال العباس: فأبدلني الله خيرًا من ذلك إلى الآن عشرون عبدًا، وإنَّ أدناهم ليضرب في عشرين ألفًا، وأعطاني زمزم، وما أحب أنَّ لي بها جميع أموال مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي عن أبي مالك قال: قال رجل: نورِّث أرحامنا المشركين، فنزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ...﴾ الآية، سبب نزولها ما أخرجه ابن جرير عن ابن الزبير قال: كان الرجل يعاقد الرجل، ترثني وأرثك، فنزلت هذه الآية: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾.
وأخرج ابن سعد من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: آخى رسول الله - ﷺ - بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك، قال الزبير: لقد رأيت كعبًا أصابته الجراحة بأُحد، فقلت: لو مات فانقطع عن الدنيا وأهلها.. لورثته، فنزلت هذه الآية: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ...﴾ الآية، فصارت المواريث - بعد - للأرحام والقرابات، وانقطعت تلك المواريث في المؤاخاة.
(١) لباب النقول.
89
التفسير وأوجه القراءة
٦٧ - ﴿مَا كَانَ﴾ ينبغي ﴿لِنَبِيٍّ﴾ من الأنبياء، وما يليق به، ولكن المراد به: النبي محمدٌ - ﷺ - بقرينة المقام. ﴿أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾ من الكفار؛ أي: أن يحبس كافرًا قدر عليه وصار في يده أسيرًا، ويترك قتله للفداء والمنّ ﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: حتى (١) يبالغ ويكثر في قتال المشركين في نواحي الأرض ويغلبهم ويقهرهم، فإذا حصل ذلك.. فله أن يقدم على الأسر، فيأسر الأسارى، بل اللائق به الآن قتلهم بلا فداء؛ إظهارًا لقوة المسلمين وعزة الإِسلام. أخبر (٢) الله سبحانه وتعالى أنَّ قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم وفدائهم، ثمَّ لما كثر المسلمون.. رخَّص الله في ذلك، فقال: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ كما يأتي في سورة القتال إن شاء الله تعالى.
والمعنى (٣): ما كان من شأن نبي من الأنبياء ولا من سنته في الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المن والفداء، إلا بعد أن يثخن في الأرض؛ أي: إلا بعد أن يعظم شأنه فيها، ويتم له الغلب والقوة بقتل أعدائه؛ لأن الملك والدولة إنَّما تقوى وتشتد بالقتال والقتل، كما قال:
لاَ يَسْلَمُ الشَّرَفُ اَلرَّفِيْعُ مِنَ الأَذَى حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ
مع أنَّ كثرة القتل توجد الرعب وشدة المهابة، وذلك يمنع من الجرأة والإقدام على ما لا ينبغي، ومن ثم أمر الله سبحانه به.
وخلاصة ذلك: أنَّ اتخاذ الأسرى إنَّما يكون خيرًا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل، ففي المعركة الواحدة بإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين، وفي الحالة العامة - التي تعم كلَّ معركة وكل قتال - فبإثخانهم في الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء.
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
90
﴿تُرِيدُونَ﴾ أيها المؤمنون بما قبضتم من الفداء ﴿عَرَضَ﴾ الحياة ﴿الدُّنْيَا﴾ الفاني الزائل ونفعها، وسمي عرضًا؛ لأنَّه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابل الجواهر، أي: تريدون بأسركم عرض الدنيا، وهو المال الذي تأخذونه من الأسرى فداءً لهم ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُرِيدُ﴾ ويرضى لكم ﴿الْآخِرَةَ﴾؛ أي: ثواب الآخرة الباقي بما يشرِّعه لكم من الأحكام الموصلة إليه ما دمتم تعملون بها، التي منها الإثخان بالقتل، ويدخل في ذلك: الاستعداد للقتال بقدر الاستطاعة على إرادة الإثخان في الأرض والسيادة فيها؛ لإعلاء كلمة الحق، وإقامة العدل.
وفي ذلك إنكارٌ لعمل وقع من جمهور المؤمنين على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة، وما كان للنبي - ﷺ - إقرار مثل هذا العمل، ومن ثم عاتبهم الله سبحانه وتعالى بما فعلوا بعد بيان سنة النبيين، كما عاتب رسوله أيضًا.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: غالب لا يغالب، يغلب أولياءه على أعدائه، وينصرهم عليهم، ويجعل الغلبة لهم، ويمكنهم من أعدائهم قتلًا وأسرًا ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما دبَّره لخلقه، يعلم ما يليق بكل حال، كما أمر بالإثخان، ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخير بين أخذ الفداء وبين المنِّ لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين، ولا تتم لهم العزة.. إلا بتقديم الإثخان في الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية، بمثل فداء الأسرى من المشركين، وهم في عنفوان قوتهم وشوكتهم وكثرتهم.
وعلى هذه القاعدة (١): جرت الدول العسكرية في العصر الحديث، فإذا رأت من البلاد التي تحتها أدنى بادرة من المقاومة بالقوة.. نكلت بأهلها أشد التنكيل، فتخرِّب البلاد وتقتل الأبرياء مع المشاغبين، بل لا تتعفف عن قتل النساء والأطفال بنيران المدافع وقذائف الطائرات والدبابات، ولكنَّ الإِسلام -
(١) المراغي.
91
وهو دين الرحمة والعدل - لا يبيح شيئًا من ذلك.
وقرأ أبو الدرداء وأبو حيوة (١): ﴿ما كان للنَّبي﴾ معرفًا، والمراد به في التعريف والتنكير: الرسول محمد - ﷺ -، ولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معينًا، وهو هنا على حذف مضاف؛ أي: ما كان لأصحاب نبيٍّ، أو لأتباع نبي، فحذف اختصارًا، ولذلك جاء الجمع بعده في قوله: تريدون عرض الدنيا، ولم يجىء التركيب: تريد أو يريد عرض الدنيا؛ لأنَّه - ﷺ - لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد عرض الدنيا قط، وإنَّما فعله جمهور مباشري الحرب. وقرأ أبو عمرو: ﴿أن تكون﴾ على تأنيث لفظ الجمع، وباقي السبعة والجمهور على التذكير على المعنى، لكن في قراءة (٢) التاء الفوقية.. تتعين الإمالة في ﴿أسرى﴾، وعلى قراءة الياء التحتية تجوز الإمالة وتركها. اهـ.
وقرأ الجمهور والسبعة. ﴿أَسْرَى﴾ على وزن فعلى، وهو قياس فعيل بمعنى مفعول إذا كان آفةً، كجريح وجرحى. وقرأ يزيد بن القعقاع والمفضل عن عاصم: ﴿أسارى﴾ وشبَّه فعيلٌ بفعلان، نحو كسلان وكسالى، كما شبهوا كسلان بأسير فقالوا فيه جمعًا: كسلى، قاله سيبويه، وهما شاذَّان، وزعم الزجاج أنَّ أسارى جمع أسرى، فهو جمع جمع.
وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثَّاب: ﴿حتى يثخِّن﴾ مشدَّدًا، ﴿عدوه﴾ بالتضعيف، والجمهور بالتخفيف، وعدوه بالهمزة؛ إذ كان قبل التعدية ثخن. وقرىء: ﴿يريدون﴾ بالياء من تحت، وقرأ الجمهور: ﴿الآخرة﴾ بالنصب، وقرأ سليمان بن جمَّاز المدني بالجر، واختلفوا في تقدير المضاف المحذوف، فمنهم من قدره: عرض الآخرة، قال: وحذف لدلالة عرض الدنيا عليه، قال بعضهم: وقد حذف العرض في قراءة الجمهور، وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب، فنصب. وممن قدره عرض الآخرة: الزمخشريُّ قال: على التقابل، يعني: ثوابها. انتهى.
(١) البحر المحيط.
(٢) الفتوحات.
92

فصل فيما يتعلق بعصمة الأنبياء


قد استدل بهذه الآية من يقدح في عصمة الأنبياء، وبيانه من وجوه:
الأول: أنَّ قوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾ صريح في النهي عن أخذ الأسارى، وقد وجد ذلك يوم بدر.
الوجه الثاني: أنَّ الله سبحانه وتعالى أمر النبيَّ - ﷺ - وقومه بقتل المشركين يوم بدر، فلمَّا لم يقتلوهم، بل أسروهم.. دلَّ ذلك على صدور الذنب منهم.
الوجه الثالث: أنَّ النبي - ﷺ - حكم بأخذ الفداء، وهو محرمٌ، وذلك ذنب.
الوجه الرابع: أنَّ النبي - ﷺ - وأبا بكر قعدا يبكيان لأجل أخذ الفداء، وخوف العذاب، وقرب نزوله.
والجواب عن الوجه الأول: أنَّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾.. يدل على أنَّه كان الأسر مشروعًا، ولكن بشرط الإثخان في الأرض، وقد حصل؛ لأنَّ الصحابة رضى الله تعالى عنهم قتلوا يوم بدر سبعين رجلًا من عظماء المشركين وصناديدهم، وأسروا سبعين، وليس من الإثخان في الأرض قتل جميع الناس، فدلَّت الآية على جواز الأسر بعد الإثخان، وقد حصل.
والجواب عن الوجه الثاني: أنَّ الأمر بالقتل إنما كان مختصًا بالصحابة، لإجماع المسلمين أن النبي - ﷺ - لم يؤمر بمباشرة قتال الكفار بنفسه، وإذا ثبت أنَّ الأمر بالقتل كان مختصًا بالصحابة.. كان الذنب صادرًا منهم، لا من النبي - ﷺ -.
والجواب عن الوجة الثالث: - وهو أنَّ النبي - ﷺ - حكم بأخذ الفداء وهو محرَّم - فنقول: لا نسلم أن أخذ الفداء كان محرَّمًا، وأما قوله سبحانه وتعالى: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾.. فهو عتاب لطيف على أخذ الفداء من الأسارى والمبادرة إليه، ولا يدل على تحريم الفداء؛ إذ لو كان حرامًا في علم الله تعالى.. لمنعهم من أخذه مطلقًا.
93
والجواب عن الوجه الرابع: - وهو أنَّ النبي - ﷺ - وأبا بكر قعدا يبكيان -: يحتمل أن يكون لأجل أنَّ بعض الصحابة لمَّا خالف الأمر بالقتل واشتغل بالأسر.. استوجب بذلك الفعل العذاب، فبكى النبي - ﷺ -؛ خوفًا وإشفاقًا من نزول العذاب عليهم بسبب ذلك الفعل، وهو الأسر، وأخذ الفداء، والله أعلم.
٦٨ - ﴿لَوْلَا كِتَابٌ﴾: أي: لولا حكم ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَبَقَ﴾ إثباته في اللوح المحفوظ، وهو أن لا يعاقب المخطىء في اجتهاده؛ لأنَّ هذا كان اجتهادًا منهم؛ لأنهم نظروا في أنَّ استبقاءهم ربَّما كان سببًا في إسلامهم، وأنَّ فداءهم يتقوى به على الجهاد، وخفي عليهم أنَّ قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم، أو ما كتب في اللوح من أنه لا يعذب أهل بدر، أو أنَّه لا يعذب قومًا لم يصرح لهم بالنهي عنه، أو أن الفدية التي أخذوها ستحل لهم، و (١) فيما ذكر من الاستشارة دلالةٌ على جواز الاجتهاد، فيكون حجةً على منكري القياس.
وخبر المبتدأ بعد لولا محذوف وجوبًا، تقديره: لولا كتاب من الله سبق موجودٌ ﴿لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾؛ أي: لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء قبل أن تؤمروا به عذاب شديد، ولكنَّه لم يمسكم؛ لسبق الكتاب بما ذكر آنفًا.
وقيل المعنى (٢): ولولا كتاب من الله تعالى سبق في علمه الأزلي أن لا يعذبكم والرسول فيكم وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم.. لمسكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم. وأخرج ابن المنذر عن نافع عن ابن عمر قال: اختلف الناس في أسارى بدر، فاستشار النبي - ﷺ - أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر: فادهم، وقال عمر: اقتلهم، فقال قائل: أرادوا قتل رسول الله - ﷺ - وهدم الإِسلام، ويأمره أبو بكر بالفداء! وقال قائل: لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه.. ما أمر بقتلهم.
فأخذ رسول الله - ﷺ - بقول أبي بكر، ففاداهم، فنزل: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨)﴾ فقال رسول الله - ﷺ -: "إن كاد ليمسنا في
(١) النسفي.
(٢) المراغي.
خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب.. ما أفلت إلا عمر".
٦٩ - وبعد أن عاتبهم الله سبحانه وتعالى على أخذ الفداء.. أباح لهم أكل ما أخذوه، وعدَّه من جملة الغنائم التي أباحها لهم في أول السورة، فقال: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ﴾ والفاء فيه عاطفة على محذوف، تقديره: قد أبيحت لكم الغنائم، فكلوا من كل ما غنمتم وأخذتم من الكفار قهرًا، سواء كان من الفدية المذكورة أو غيرها حالة كونه ﴿حَلَالًا﴾ لكم بإحلاله سبحانه لكم، وحالة كونه ﴿طَيِّبًا﴾؛ أي: مستلذًا في نفسه، لا خبث فيه، مما حرم لذاته، كالدم، ولحم الخنزير. روي أنهم أمسكوا عن الغنائم في بدر، ولم يمدوا أيديهم إليها حتى نزلت هذه الآية.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في مخالفة أمر ونهيه في المستقبل؛ أي: خافوا عقاب الله في أن تعودوا إلى أكل شيء من أموال الناس، كفارًا كانوا أو مسلمين قبل أن يحله لكم ربكم ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾ لذنبكم، بأخذ الفداء وإيثار جمهوركم لعرض الدنيا على ما يقتضيه إيثار الآخرة من طلب الإثخان أوَّلًا، لإعزاز الحق وأهله وإذلال الشرك وكبت حزبه ﴿رَحِيمٌ﴾ بكم؛ إذ أباح لكم ما أخذتم وأباح لكم الانتفاع به.
وخلاصة ما تقدم من الآيات: أنه ليس من سنة الأنبياء ولا مما ينبغي لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمن عليهم إلا بعد أن يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين؛ لئلا يفضي أخذه فداء الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعدائهم وجرأتهم عليهم، وما فعله المؤمنون من مفاداة أسرى بدر بالمال.. كان ذنبًا سببه إرادة جمهورهم عرض الحياة الدنيا قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة الله تعالى وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، ولولا كتابٌ من الله سبق من عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى، وعلى خلاف سننه.. لمسَّهم عذاب عظيم في أخذهم ذلك، وأنَّه أحلَّ لهم ما أخذوا، وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله تعالى لهم، والله غفور رحيم.
٧٠ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ الكريم والرسول الرحيم ﴿قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ﴾ وسلطتكم وقهركم ﴿مِنَ﴾ هؤلاء ﴿الْأَسْرَى﴾ الذين أسرتموهم يوم بدر وأخذتم منهم
الفداء: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا﴾؛ أي: إيمانًا وعزمًا على طاعة الله ورسوله في جميع التكاليف، وتوبةً من الكفر وجميع المعاصي.. ﴿يُؤْتِكُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى ويعوضكم في هذه الدنيا رزقًا ﴿خَيْرًا﴾ وأنفع لكم ﴿مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ﴾ من الفداء، أو في الآخرة بما يكتبه لكم من المثوبة بالأعمال الصالحة ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ما سلف منكم قبل الإيمان من كفركم وقتالكم لرسول الله - ﷺ -. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾ لمن آمن وتاب من كفره وآثامه ﴿رَحِيمٌ﴾ بالمؤمنين من أهل طاعته، فيشملهم بعنايته وتوفيقه، ويعدهم للسعادة في الدنيا والآخرة، وفي ذلك من الحض على الإِسلام والدعوة إليه ما لا يخفى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مِنَ الْأَسْرَى﴾ معرفًا وابن محيصن: ﴿من أسرى﴾ منكرًا، وقتادة وأبو جعفر وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وأبو عمرو من السبعة: ﴿من الأُسَارى﴾ - بضم الهمزة وفتح السين بعدها ألف - وبالإمالة.
واختلف عن الحسن وعن الجحدري. وقرأ الأعمش: ﴿يثبكم خيرًا﴾ من الثواب، وقرأ الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد: ﴿مما أَخذ﴾ مبنيًّا للفاعل.
٧١ - ولمَّا ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيرًا.. ذكر من هو على ضد ذلك منهم، فقال: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا﴾؛ أي: وإن يرد - يا محمَّد - هؤلاء الأسرى - الذين أسرتموهم في بدر وفاديتموهم بالمال - بما قالوا لك بألسنتهم من أنهم قد آمنوا بك وصدقوك ﴿خِيَانَتَكَ﴾؛ أي: مخادعتك ومماكرتك، ولم يكن ذلك منهم عن عزيمة صحيحة ونية خالصة.. فاعلم أنَّه ليس ذلك بمستبعد منهم؛ ﴿فـ﴾ إنَّهم ﴿قد﴾ فعلوا ما هو أعظم من ذلك، وهو أنَّهم ﴿خَانُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ورسوله - ﷺ - ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل هذا الأسر والظفر بهم بما أقدموا عليه من كفرهم بالله ومحاربتهم رسوله - ﷺ - ﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾؛ أي: مكَّنك منهم بأن نصرك عليهم في يوم بدر، فقتلت منهم من قتلت، وأسرت من أسرت ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ بما في ضمائرهم ونياتهم من الخيانة وضدِّها ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما
(١) البحر المحيط.
96
فعله بهم.
وحاصل معنى الآية: أي وإن يريدوا خيانتك بإظهار الميل إلى الإِسلام والرغبة عن قتال المسلمين.. فلا تخف مما عسى أن يكون من خيانتهم وعودتهم إلى القتال؛ فإنَّهم قد خانوا الله من قبل، فنقضوا الميثاق الذي أخذه الله على البشر بما أقامه على وحدانيته من الدلائل العقلية والكونية، وبما آتاهم من العقل الذي يتدبرون به سنن الله في خلقه، فيمكنك أنت وصحبك منهم بنصرك عليهم ببدر، مع التفاوت العظيم بين قوتك وقوتهم وعددك وعددهم، وهكذا سيمكنك ممن يخونونك من بعد، والله تعالى عليم يعلم ما يضمرونه وما يستحقونه من عقاب، حكيم، يفعل ما يفعل بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة، فينصر المؤمنين ويظهرهم على الكافرين، وفي الآية من العبر:
١ - أنه يجب على المؤمنين ترغيب الأسرى في الإيمان، وإنذارهم عاقبة الخيانة إذا ثبتوا على الكفر وعادوا إلى البغي والعدوان.
٢ - أن فيها بشارةً للمؤمنين باستمرار النصر وحسن العاقبة في كل قتال يقع بينهم وبين المشركين ما داموا محافظين على أسباب النصر المادية والمعنوية التي علمت مما تقدم.
وبعد ما ذكر الله سبحانه وتعالى تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم، وما يجب أن يعمل مع الأسرى.. ختم السورة بذكر ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة، وما يلزم ذلك، وولاية الكافرين بعضهم لبعض؛ ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به.
وقسم المؤمنين أربعة أقسام، وبين حكم كل من تلك الأقسام ومنزلته من بينها:
١ - المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية.
٢ - الأنصار الذين كانوا بالمدينة، وآووا النبيَّ - ﷺ - والمهاجرين عند
97
هجرتهم إليهم.
٣ - المؤمنون الذين لم يهاجروا.
٤ - المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
٧٢ - وسمى الله سبحانه وتعالى المهاجرين إلى المدينة بهذا الاسم؛ لأنهم هجروا وتركوا أوطانهم وفارقوها؛ طلبًا لما عند الله تعالى، وإجابةً لداعيه، وسمى الأنصار أنصارًا؛ لأنهم نصروا دين الله ورسوله - ﷺ -، فقال:
أولًا - ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله، وصدقوا بما جاء به محمَّد - ﷺ - ﴿وَهَاجَرُوا﴾ من مكة إلى المدينة، وفارقوا أوطانهم حبا لله تعالى ولرسوله - ﷺ - وسبقوا إلى الهجرة، بأن هاجروا قبل العام السادس عام الحديبية ﴿وَجَاهَدُوا﴾؛ أي: بذلوا جهدهم وطاقتهم في الجهاد ﴿بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي في طاعته؛ إعلاءً لكلمة الله التي هي الكلمة العليا كلمة الإِسلام؛ أي: صرفوا أموالهم إلى السلاح وأنفقوها على المحتاجين وبذلوا أنفسهم بمباشرة القتال، وبالخوض في المهالك.
أمَّا ما كان من بذل الأموال.. فهو قسمان:
١ - ما ينفق في التعاون والهجرة، والدفاع عن دين الله ونصر دينه، وحماية رسول الله - ﷺ -.
٢ - ما يكون بسخاء النفس، بترك ما تركوه في أوطانهم عند خروجهم منها.
وما كان من بذل الأنفس.. فهو ضربان أيضًا:
١ - قتال الأعداء وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعدتهم.
٢ - ما يكون قبل القتال من احتمال المشاقّ، ومغالبة الشدائد، والصبر على الاضطهاد، والهجرة من البلاد، وما يصحب ذلك من سغب وتعب، ونحو ذلك.
98
ثانيًا - ﴿وَالَّذِينَ آوَوْا﴾ الرسول محمدًا - ﷺ - والمهاجرين؛ أي: أسكنوهم منازلهم، وبذلوا لهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة ﴿وَنَصَرُوا﴾ هم وأمنوهم من المخاوف، فقد كانت يثرب ملجأ المهاجرين، شاركهم أهلها في أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، وقاتلوا من قاتلهم، وعادوا من عاداهم، ومن جراء هذا.. جعل الله حكمهم حكم المهاجرين في قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالصفات المذكورة - والإشارة إلى كل من الموصولين - ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، أي: يكونون يدًا واحدةً على الأعداء، ويكون حب كل واحد للآخر جاريًا مجرى حبه لنفسه؛ أي: يتولى بعضهم من أمر الآخرين ما يتولَّونه من أمر أنفسهم حين الحاجة إلى التعاون والتناصر في القتال وما يتعلق به من الغنائم؛ لأنَّ حقوقهم ومرافقهم مشتركةٌ، ويجب عليهم كفاية المحتاج وإغاثة المضطر منهم، وقيل: بعضهم أولياء بعض في الميراث والنصرة، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة، دون الأقارب حتى نسخ بقوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾.
ثالثًا - ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، وبالقرآن ﴿وَلَمْ يُهَاجِرُوا﴾ من مكة إلى المدينة ﴿مَا لَكُمْ﴾ أيها المهاجرون والأنصار ﴿مِنْ وَلَايَتِهِمْ﴾؛ أي: من ولاية الذين لم يهاجروا ونصرتهم وتعظيمهم، أو من ميراثهم بأن كان بينكم وبينهم قرابة وعصوبة ﴿مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ إلى المدينة، وما من ميراثكم لهم من شيء حتى يهاجروا، فإن هاجروا.. فلهم مثل ما لكم من المناصرة أو الموارثة.
والمعنى: أنَّ المؤمنين المقيمين في أرض المشركين، وتحت سلطانهم وحكمهم ودارهم دار حرب وشرك لا يثبت لهم شيء من ولاية المؤمنين الذين في دار الإِسلام، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم، أما من أسره الكفار من دار الإِسلام.. فله حكم أهل هذه الدار، ويجب على المسلمين السعي في فكاكهم بقدر ما يستطيعون من الحول والقوة، بل يجب بذل هذه الحماية لأهل الذمة أيضًا.
وقرأ الأعمش وابن وثَّاب وحمزة: ﴿ولايتهم﴾ بالكسر، وباقي السبعة والجمهور بالفتح، وهما لغتان، قاله الأخفش. وقيل: هي بفتح الواو، خاصَّة
99
بالنصرة والمعونة والنسب والدين، وبكسرها في الإمارة وتولي الأمور العامة؛ لأنَّها من قبيل الصناعات والحرف.
﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾؛ أي: وإن طلب منكم أيها المهاجرون والأنصار هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا النصرة لهم على المشركين ﴿فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ لهم؛ أي: فواجب عليكم النصر لهم ﴿إِلَّا﴾ إن استنصروكم ﴿عَلَى قَوْمٍ﴾ من المشركين ﴿بَيْنَكُمْ﴾؛ أي: أيها المؤمنون ﴿وَبَيْنَهُمْ﴾؛ أي: وبين أولئك القوم ﴿مِيثَاقٌ﴾ وعهد على ترك القتال، كأهل مكة الذين بينكم وبينهم صلح الحديبية الذي عقدتموه لهم على ترك القتال عشر سنين فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم حتى تنقضي مدته؛ إذ الميثاق مانع من ذلك.
والمعنى: أنّه لا ولاية لكم عليهم إلا إذا قاتلهم الكفار، أو اضطدوهم لأجل دينهم، وطلبوا نصركم عليهم.. فعليكم أن تساعدوهم بشرط: أن يكون الكفار حَرْبييِّن، لا عهد بينكم وبينهم، أما إن كانوا معاهدين.. فيجب الوفاء بعهدهم، ولا تباح خيانتهم وغدرهم بنقض العهود والمواثيق. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بما تعلمون بصير﴾ فلا تخالفوا أمره؛ كي لا يحل بكم عقابه، فعليكم أن تقفوا عند حدوده، وأن تراقبوه وتتذكروا اطلاعه على أعمالكم، وتتوخوا فيها الحق والعدل، وتتقوا الهوى الذي يصد عن ذلك.
وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سرًّا وجهرًا.. امتازت الشريعة الإِسلامية على الشرائع الوضعية، فشعار أهلها: الوفاء بالعهود، والبعد عن الخيانة والغدر. وقرأ السلمي والأعرج ﴿بما يعملون﴾ بالياء على الغيبة.
٧٣ - ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ في النصرة والتعاون على قتال المسلمين، فهم في جملتم فريقٌ واحدٌ تجاه المسلمين، وإن كانوا شيعًا يعادي بعضهم بعضًا، فإن كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود، فلمَّا ظهرت دعوة محمَّد - ﷺ -.. تعاونوا على إيذائه ومحاربته، والمشركون واليهود والنصارى لمَّا
100
اشتركوا في عداوة محمدٍ - ﷺ -.. صارت هذه الجهة سببًا لانضمام بعضهم إلى بعض، وقرب بعضهم من بعض، وتلك العداوة لمحض الحسد، لا لأجل الدين؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم كان في غاية الإنكار لدين صاحبه.
ولم يكن في الحجاز حين نزلت هذه السورة إلا المشركون واليهود، وكان اليهود يتولَّون المشركين وينصرونهم على النبي - ﷺ - والمؤمنين، ونقضوا العهود التي كانت بينه وبينهم، فقاتلهم حتى أجلاهم من خيبر، وفي هذا تعريض للمسلمين بأنهم لا يناصرون الكفار ولا يتولونهم ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ﴾؛ أي: إن لم تفعلوا ما أمرتكم به من التواصل بين المسلمين، ومن قطع المحبة بينهم وبين الكفار.. ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ﴾؛ أي: تحصل فتنة ﴿فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾؛ أي: ومفسدة عظيمة، فإنَّ المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم، وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم.. ربما صارت تلك المخالطة سببًا لالتحاق المسلم بالكفار، وإنَّ المسلمين لو كانوا متفرقين.. لم يظهر منهم جمع عظيم، فيصير ذلك سببًا لجراءة الكفار عليهم، وقال ابن عطية: والفتنة: المحنة بالحرب وما أنجز معها من الغارات والجلاء والأسر، والفساد الكبير: ظهور الشرك. وقال (١) البغوي: الفتنة في الأرض: قوة الكفر، والفساد الكبير: ضعف الإسلام اهـ. وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي: ﴿كثير﴾ - بالثاء المثلثة - وروي أنَّ الرسول - ﷺ - قرأ: ﴿وفسادٌ عريض﴾ وقال الزمخشري: أي: إنْ لا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولي بعضهم بعضًا حتى في التورث، تفضيلًا لنسبة الإِسلام على نسبة القرابة، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار، ولم تجعلوا قرباتهم كلا قرابة.. تحصل فتنة في الأرض، ومفسدة عظيمة؛ لأنَّ المسلمين ما لم يصيروا يدًا واحدةً على الشرك.. كان الشرك ظاهرًا والفساد زائدًا اهـ.
والخلاصة (٢): إنْ لم تفعلوا ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، ومن
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
101
تناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم، ومن الوفاء بالعهود - والمواثيق مع الكفار إلى أن ينقضي عهدهم وينبذوه على سواءٍ.. يقع من الفتنة والفساد في الأرض ما فيه أعظم الضرر عليكم، بتخاذلكم الذي يفضي إلى فشلكم وظفر الأعداء بكم، واضطهادكم في دينكم بصدكم عنه، كما وقع ذلك بضعفائكم بمكة قبل الهجرة.
٧٤ - ثم فضل الله سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار على غيرهم، فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمد - ﷺ - والقرآن ﴿وَهَاجَرُوا﴾ من مكة إلى المدينة ﴿وَجَاهَدُوا﴾؛ أي: قاتلوا الكفار ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: في طاعة الله تعالى، لإعلاء كلمته. لم يقل هنا بأموالهم وأنفسهم؛ اكتفاءً بما سبق ﴿وَالَّذِينَ آوَوْا﴾؛ أي: وطّنوا محمدًا - ﷺ - وأصحابه بالمدينة ﴿وَنَصَرُوا﴾ محمدًا - عليه الصلاة والسلام - يوم بدر ﴿أُولَئِكَ﴾ المذكورون من المهاجرين والأنصار ﴿هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾؛ أي: صدقًا يقينًا؛ أي: هم المؤمنون حقَّ الإيمان وأكمله، دون من لم يهاجر وأقام بدار الشرك ولم يغز مع المسلمين عدوهم ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ تامة من ربهم، كاملة ساترة لجميع ما فرط منهم من السيئات ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾؛ أي: ثواب جسيم وجزاء حسن في الآخرة؛ لأنهم قد تركوا الأهل والوطن، وبذلوا النفس والمال، وأعرضوا عن سائر اللذات الجسمانية، وعملوا ما يقرِّبهم من ربهم في دار النعيم.
فإنْ قلت (١): ما معنى هذا التكرار؟
قلتُ: ليس فيه تكرار؛ لأنَّه سبحانه وتعالى ذكر في الآية الأولى حكم ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضًا، ثم ذكر في هذه الآية ما منَّ به عليهم من المغفرة والرزق الكريم، وقيل: إنَّ إعادة الشيء مرةً بعد أخرى تدل على مزيد الاهتمام به، فلما ذكرهم أولًا، ثم أعاد ذكرهم ثانيًا.. دل ذلك على تعظيم شأنهم وعلوِّ درجاتهم، وهذا هو الشرف العظيم.
(١) الخازن.
٧٥ - ثم أخبر سبحانه بأنَّ من هاجر بعد هجرتهم وجاهد مع المهاجرين الأولين والأنصار.. فهو من جملتهم؛ أي: من جملة المهاجرين الأولين والأنصار في استحقاق ما استحقوه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان، والمغفرة والرزق الكريم، فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿مِنْ بَعْدُ﴾؛ أي: من بعد الهجرة الأولى، وقبل فتح مكة؛ لأنَّ الهجرة انقطعت بفتح مكة؛ لأنَّها صارت دار إسلام بعد الفتح ﴿وَهَاجَرُوا﴾ من مكة إلى المدينة بعد المهاجرين الأولين، بأن هاجروا بعد صلح الحديبية في السنة السادسة، وقبل الفتح، والسابقون: هم الذين هاجروا قبلها ﴿وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ﴾ في بعض مغازيكم ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المذكورون ﴿مِنْكُمْ﴾؛ أي: من جملتكم أيها المهاجرون الأولون والأنصار في المناصرة والموالاة، يعني (١) أنهم منكم، وأنتم منهم، فلهم ما لكم، لكن فيه دلالةٌ على أنَّ مرتبة المهاجرين الأولين أشرف وأعظم من مرتبة المهاجرين المتأخرين بالهجرة؛ لأنَّ الله سبحانه ألحق المهاجرين المتأخرين بالمهاجرين السابقين، وجعلهم معهم، وذلك معرض المدح والشرف، ولولا أنَّ المهاجرين الأولين أفضل وأشرف.. لما صحَّ هذا الإلحاق.
ثم بيَّن سبحانه بأنَّ أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض من غيرهم ممن لم يكن بينه وبينهم رحم وقرابة في التوارث والتناصر والموالاة، فقال: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ﴾؛ أي: أصحاب القرابات والأرحام، جمع رحم - بزنة قفل وكتف - وأصله: رحم المرأة، وهو موضع تكوين الولد، سمي به الأقارب لأنهم من رحم واحد؛ أي: وأولوا الأرحام، وأصحاب القرابات ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلَى﴾ وأحق ﴿بِبَعْضٍ﴾ من المهاجرين والأنصار الأجانب في التناصر والتعاون والتوارث في دار الهجرة في ذلك العهد وفي كلِّ عهد ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾؛ أي: في حكمه الذي كتبه، وأوجبه على عباده المؤمنين، من صلة الأرحام، والوصية للوالدين وذي القربى، وفي حكمه الذي بينه في كتابه بالسهام المذكورة في سورة النساء، أي: بعضهم أولى بعض في الإرث من التوارث بالإيمان والهجرة المذكورة في الآية السابقة.
(١) الخازن.
103
والخلاصة (١): أن القريب ذا الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره، ومقدم عليه في جميع الولايات المتعلقة به، كولاية النكاح، وصلاة الجنازة وغيرها، وإذا وجد قريبٌ وبعيد يستحقان البر والصلة.. فالقريب أولى، كما قال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾، وقال رسول الله - ﷺ -: "ابدأ بنفسك، فتصدق عليها؛ فإن فضل شيء.. فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك.. فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء.. فهكذا وهكذا"، أي: فللمستحق من الأجانب.
وأخرج (٢) أبو داود الطيالسي والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: آخى النبي - ﷺ - بين أصحابه، وورَّث بعض من بعض - بالهجرة والإخاء - حتى نزلت هذه الآية ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾، فتركوا ذلك، وتوارثوا بالنسب.
وتمسَّك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام، وأجاب عنه الشافعي بأنه: لمَّا قال ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾.. كان معناه في حكم الله الذي بيَّنه في سورة النساء، فصارت هذه الآية مقيَّدةً بالأحكام التي ذكرها في سورة النساء من قسمة المواريث وإعطاء أهل الفروض فروضهم، وما بقي فللعصبات ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾؛ أي: عالم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية، فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه، فهو سبحانه إنَّما شرع لكم هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة، والعهود والمواثيق، وصلة الأرحام، وأحكام القتال والغنائم، وسنن التشريع والأحكام عن علم واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدينية والدنيوية، ونحو الآية قوله: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ﴾.
زادنا الله تعالى علمًا بفقه كتابه، ووفَّقنا للعمل بأحكامه وآدابه، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه هو السميع القريب المجيب.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
104
أهم ما تشتمل عليه سورة الأنفال من الأحكام
وجملة ما تشتمل عليه سورة الأنفال من الموضوعات سبعة عشر:
١ - تعليل أفعاله وأحكامه بمصالح الخلق، كقوله: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾، وقوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾.
٢ - كفاية الله تعالى رسوله مكر مشركي قريش من مكة حين ائتمارهم على حبسه طيلة حياته أو نفيه في بلده، أو قتله، كما قال سبحانه: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠)﴾.
٣ - امتناع تعذيب المشركين ما دام الرسول فيهم، كما قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾.
٤ - استغاثة الرسول ربَّه، وإمداده بالملائكة، كما قال: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)﴾.
٥ - كراهة مجادلة الرسول فيما يأمر به، ويرغب فيه من أمور الدين ومصالح المسلمين بعد أن تبين لهم أنه الحق، كما قال: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)﴾.
أمَّا المجادلة والمراجعة في المصالح الحربية والسياسية قبل أن يتبين الحقُّ فيها.. فمحمودةٌ؛ إذ بها تتم المشاورة التي عمل بها النبي - ﷺ - في مواطن كثيرة.
٦ - أنَّ من شأن صادق الإيمان أن يتوكل على الله تعالى؛ أي: يكل إليه أموره وحده، فلا يتكل على مخلوق مربوب الخالق مثله، فكلُّ المخلوقات سواءٌ في الخضوع لسننه، ومن شأن المؤمن المتوكل أن يطلب كل شيء من سببه خضوعًا لسننه في نظام خلقه، فإذا جهل الأسباب أو عجز عنها. وكل أمره فيها إلى ربه داعيًا أن يعلمه ما جهل منها، وأن يسخِّر له ما عجز عنه من جمادٍ، أو حيوان، أو إنسان، كما قال: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ وبيَّن فائدة ذلك بقوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
105
٧ - أنَّ الظلم في الأمم يقتضي عقابها في الدنيا بالضعف والانحلال الذي قد يفضي إلى الزوال أو فقد الاستقلال، وإنَّ هذا العقاب يقع على الأمة بأسرها، لا على مقترفي الظلم وحدهم، كما قال: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾.
٨ - أنَّ الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة لضروب من الفساد، فإنَّ حب المال والولد من الغرائز التي يعرض للناس فيها الإسراف إذا لم تهذب بهدي الدين وحسن التربية والتعليم، كما قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
٩ - أن تقوى الله في الأعمال العامة والخاصة تكسب صاحبها ملكة يفرق بها بين الحق والباطل، والخير والشر، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾.
١٠ - أن تغير أحوال الأمم وتنقلها في الأطوار من نعم إلى نقم، أو بالعكس أثرٌ طبيعي لتغييرها ما بأنفسها من العقائد والأخلاق والآداب ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
١١ - وجوب إعداد الأمة بكل ما تستطيع من قوة لقتال أعدائها، وذلك يشمل السلاح، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وقد كثرت أنواعه من بريٍّ وبحريٍّ وهوائيٍّ، ومرابطة الفرسان في ثغور البلاد؛ لإرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على الأمة ومصالحها، أو على أفرادها ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾.
١٢ - تفضيل السلم على الحرب إذا جنح لها العدو؛ لأنَّ الحرب ضرورةٌ من ضرورات الاجتماع تقدر بقدرها ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾.
١٣ - المحافظة على الوفاء بالعهد والميثاق في الحرب والسلم، وتحريم الخيانة سرًّا وجهرًا ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾.
106
١٤ - وجوب معاملة ناقض العهد بالشدة التي يكونون بها عبرةً ونكالًا لغيرهم تمنعهم من الجرأة والإقدام على العودة لمثل ذلك ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧)﴾.
١٥ - جعل الغاية من القتال الديني حرية الدين ومنع الفتنة فيه، حتى لا يرجع المشركون أحدًا عن دينه ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩)﴾.
١٦ - إتقاء التنازع والتفرق حال القتال؛ لأنَّه سبب الفشل وذهاب القوة ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ وقد جرت على ذلك الدول في العصر الحديث، فإنها تبطل تنازع الأحزاب زمن الحرب، وتكتفي بالشورى العسكرية التي شرعها الإِسلام، وعمل بها النبي - ﷺ - في غزوة بدر، وفرضت عليه في غزوة أحد ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾.
١٧ - منع اتخاذ الأسرى ومفاداتهم بالمال في حال الضعف، وجواز ذلك حين الإثخان في الأرض بالقوة والعزة والسيادة، مع ترغيب الأسرى في الإيمان وإنذارهم أن يخونوا المسلمين بعد إطلاقهم بمنٍّ أو فداءٍ.
موضوعات السور المكية والمدنية
واعلم: أن أمهات المسائل التي ذكرت في السور المكية: هي أصول الإيمان من الاعتقاد بوحدانية الله، والتصديق بالوحي والرسالة والبعث والجزاء وقصص الرسل مع أقوامهم، ثم أصول التشريع العامة والآداب والفضائل الثابتة، وجاء في أثناء محاجة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول، ودحض شبهاتهم، وإبطال ضلالاتهم، والنعي على خرافاتهم.
وأمهات ما جاء في السور المدنية: قواعد التشريع التفصيلية ومحاجة أهل الكتاب، ببيان ما ضلوا فيه من هداية كتبهم ورسلهم، فكثر في سورة البقرة محاجة اليهود، وكثر في سورة آل عمران محاجة النصارى، وكثر في سورة المائدة محاجة الفريقين، وكثر في سورة النساء الأحكام المتعلقة بالمنافقين، وكثر
107
في سورة التوبة فضائح المنافقين، والله سبحانه وتعالى أعلم بأسرار كتابه ومعاني كلامه.
الإعراب
﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)﴾.
﴿مَا﴾ نافية. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص. ﴿لِنَبِيٍّ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لكان على اسمها ﴿أَنْ يَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بأن المصدرية ﴿لَهُ﴾ جار ومجرور خبر مقدم ليكون على اسمها ﴿أَسْرَى﴾: اسم يكون مؤخر، والتقدير: ما كان لنبي أن يكون أسرى كائنًا له، وجملة يكون صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم كان مؤخرًا عن خبرها، تقديره: ما كان كون أسرى لنبي كائنًا له؛ أي: لائقًا به، وجملة كان مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية بمعنى إلى. ﴿يُثْخِنَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى بمعنى إلى، وفاعله ضمير يعود على نبي ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى تقدير: إلى إثخانه في الأرض، الجار والمجرور متعلق بكان. ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ خبره، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية المذكورة قبلها. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾: مبتدأ وخبر أول. ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة.
﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨)﴾.
﴿لَوْلَا﴾ حرف امتناع لوجود ﴿كِتَابٌ﴾ مبتدأ، وسوَّغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة أولى لكتاب. ﴿سَبَقَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على كتاب، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لكتاب، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا: لقيام جواب لولا مقامه، تقديره: لولا كتابٌ من
108
الله سبق موجود ﴿لَمَسَّكُمْ﴾، على حدِّ قول ابن مالك:
وَبَعْدَ لَوْلاَ غَالِبًا حَذفُ الخَبَرْ
﴿اللام﴾ رابطة لجواب لولا، ﴿مسَّكم﴾ فعل ومفعول. ﴿فِيمَا﴾ ﴿في﴾ حرف جر وسبب ﴿ما﴾ موصولة، أو موصوفة في محل الجر بفي. ﴿أَخَذْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوفٌ، تقديره: فيما أخذتموه. الجار والمجرور متعلق بمسَّ. ﴿عَذَابٌ﴾: فاعل مسَّ. ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة لعذاب، وجملة ﴿مسَّ﴾ جواب ﴿لولا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة لولا مستأنفة.
﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى﴾.
﴿فَكُلُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف، تقديره: قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم ﴿كلوا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿كُلُوا﴾ ﴿غَنِمْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، والعائد محذوف، تقديره: مما غنمتموه. ﴿حَلَالًا﴾: حال من ما الموصولة، أو من عائدها المحذوف، أو نعت لمصدر محذوف، تقديره: أكلًا حلالًا. ﴿طَيِّبًا﴾: صفة حلالًا، أو حال ثانية. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معترضة؛ لاعتراضها بين العلة ومعلولها. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾ اسمها ﴿غَفُورٌ﴾ خبر أول لها. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان، وجملة إنَّ مستأنفة معلَّلة لقوله: ﴿فَكُلُوا﴾. ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء ﴿أيُّ﴾ منادى نكرة مقصودة ﴿ها﴾ حرف تنبيه زائد. ﴿النَّبِيُّ﴾: صفة لأيُّ، وجملة النداء مستأنفة. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة الفعلية جواب النداء. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قُلْ﴾. ﴿فِي أَيْدِيكُمْ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿من﴾ الموصولة ﴿مِنَ الْأَسْرَى﴾ حال مِنْ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، أو من الضمير المستكن في الظرف قبله.
109
﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿إِنْ﴾ حرف شرط ﴿يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل مجزوم بإن، على كونه فعل شرط لها ﴿فِي قُلُوبِكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَعْلَمِ﴾. ﴿خَيْرًا﴾: مفعول به؛ لأنَّ علم هنا بمعنى عرف ﴿يُؤْتِكُمْ خَيْرًا﴾: فعل ومفعولان، مجزوم بإنْ، على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، وجملة إنْ الشرطية في محل النصب مقول قل ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَيْرًا﴾. ﴿أُخِذَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعله ضمير يعود على ما ﴿مِنْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أُخِذَ﴾ وجملة ﴿أُخِذَ﴾ صلة لما، أو صفة لها. ﴿وَيَغْفِرْ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿يُؤْتِكُمْ﴾ على كونه جوابًا لإن الشرطية، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾: مبتدأ وخبر أول ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان، أو صفة لـ ﴿غَفُورٌ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، مجزوم على كونه فعل شرط لها. ﴿فَقَدْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب وجوبًا؛ لاقترانه بقد. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿خَانُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم على كونه جوابًا لها. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق به، وجملة إنْ الشرطية مستأنفة. ﴿فَأَمْكَنَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿أمكن﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، ومفعوله محذوف، تقديره: فأمكنك ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم معطوفة على جملة الجواب. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾: مبتدأ وخبر أول ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿الَّذِينَ﴾ اسمها ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة
110
الموصول. ﴿وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا﴾: معطوفان على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿بِأَمْوَالِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿جاهدوا﴾. ﴿وَأَنْفُسِهِمْ﴾: معطوف على ﴿أموالهم﴾. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جاهدوا﴾ أيضًا. ﴿وَالَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب، معطوف على الموصول الأول. ﴿آوَوْا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول. ﴿وَنَصَرُوا﴾: معطوف على ﴿آوَوْا﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ. ﴿بَعْضُهُمْ﴾ بدل من ﴿أُولَئِكَ﴾ بدل بعض من كل ﴿أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾: خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر: في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ مبتدأ أول ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول ﴿وَلَمْ يُهَاجِرُوا﴾: معطوف عليه ﴿مَا﴾: نافية ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مِنْ وَلَايَتِهِمْ﴾: جار ومجرور، حال ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾؛ لأنَّه صفة نكرة قُدِّمت عليها ﴿مِنْ﴾: زائدة ﴿شَيْءٍ﴾: مبتدأ ثان مؤخر، والتقدير: ما شيء كائن لكم حال كونه كائنًا من ولايتهم، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره: في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره: جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية بمعنى إلى. ﴿يُهَاجِرُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى، تقديره: إلى مهاجرتهم، والجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر.
﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ﴾: جازم وفعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بإن، على كونه فعل شرط لها ﴿فِي الدِّينِ﴾ متعلق به ﴿فَعَلَيْكُمُ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب، ﴿عليكم﴾ خبر مقدم ﴿النَّصْرُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجزم بإن على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿عَلَى قَوْمٍ﴾: جار ومجرور، متعلق بالنصر ﴿بَيْنَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، خبر مقدم. ﴿وَبَيْنَهُمْ﴾ معطوف عليه ﴿مِيثَاقٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية
111
في محل الجر صفة ﴿قَوْمٍ﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما تعملونه ﴿بَصِيرٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة للتهديد.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (٧٣)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ أول. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿بَعْضُهُمْ﴾ مبتدأ ثان ﴿أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط جازم مبني بسكون على النُّون المدغمة في لام لا. ﴿لا﴾ نافية. ﴿تَفْعَلُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، مجزوم بإن على كونه فعل شرط لها. ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ﴾: فعل وفاعل، مجزوم بإن على كونها جواب شرط لها، وكان هنا تامة بمعنى وقع وحصل. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به ﴿وَفَسَادٌ﴾: معطوف على ﴿فِتْنَةٌ﴾. ﴿كَبِيرٌ﴾: صفة ﴿فساد﴾، وجملة إن الشرطية مستأنفة.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ مبتدأ أول. ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا﴾ معطوفان على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿جاهدوا﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول. ﴿آوَوْا﴾: صلة الموصول. ﴿وَنَصَرُوا﴾: معطوف على ﴿آوَوْا﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة. ﴿حَقًّا﴾: صفة لمصدر محذوف، تقديره: إيمانًا حقًّا. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَغْفِرَةٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَرِزْقٌ﴾: معطوف على ﴿مَغْفِرَةٌ﴾. ﴿كَرِيمٌ﴾ صفة لـ ﴿رزق﴾، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ثان للمبتدأ الثاني، والتقدير: أولئك هم المؤمنون حقًّا، أولئك لهم مغفرة ورزق كريم.
112
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ مبتدأ أول. ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿مِنْ بَعْدُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آمَنُوا﴾ ﴿وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا﴾ معطوفان على ﴿آمَنُوا﴾ ﴿مَعَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿وَجَاهَدُوا﴾ ﴿فَأُولَئِكَ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا لشبهه بالشرط؛ لما فيه من العموم ﴿أولئك﴾ مبتدأ ثان. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة. ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ﴾: مبتدأ أول ومضاف إليه مرفوع بالواو المحذوفة لالتقاء الساكنين؛ لأنَّه ملحق بجمع المذكر السالم. ﴿بَعْضُهُمْ﴾: مبتدأ ثان. ﴿أَوْلَى﴾: خبر للمبتدأ الثاني. ﴿بِبَعْضٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾. وجملة المبتدأ الثاني خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول مستأنفة، أو معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا الحكم المذكور كائن في كتاب الله تعالى، وجملة المبتدأ المحذوف مستأنفة. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بعليم. ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر إنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾: الأسرى: جمع أسير - كجرحى جمع جريح - مأخوذ من الأسر، وهو الشدُّ بالإسار؛ أي: القَدّ من الجلد، وكان مَنْ يؤخذ من العسكر في الحرب يشد؛ لئلا يهربَ، ثم صار يطلق على أخذ الحرب وإن لم يشد. ﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾: والإثخان: قوته وشدته، يقال: قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه، وكذلك أثخنته الجراح: مأخوذ من الثخانة، وهي الغلظة والصلابة، فاستعمل في لازم المعنى الأصلي، وهو القوة، فكل شيء غليظ.. فهو ثخين، وفي "المصباح": وأثخن في الأرض إثخانًا: سار إلى العدو وأوسعهم قتلًا، وأثخنته: أوهنته بالجراحة وأضعفته. اهـ.
113
﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾: والعرض: ما يعرض ولا يدوم، سمي به حطام الدنيا؛ لأنَّه حدث قليل اللبث.
﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ﴾: اختلف (١) المفسرون في هذا الكتاب الذي سبق، ما هو؟ على أقوال:
الأول: ما سبق في علم الله من أنَّه لهذه الأمة الغنائم بعد أن كانت محرَّمة على سائر الأمم.
والثاني: أنَّه مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم وما تأخَّر، كما في الحديث الصحيح: "إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، قد غفرت لكم".
القول الثالث: هو أنَّه لا يعذبهم ورسول الله - ﷺ - فيهم، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾.
القول الرابع: أنَّه لا يعذِّب أحدًا بذنب فعله جاهلًا؛ لكونه ذنبًا.
القول الخامس: أنَّه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر.
القول السادس: أنَّه لا يعذب أحدًا إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي، ولم يتقدم نهي عن ذلك، وذهب ابن جرير الطبري إلى أنَّ هذه المعاني كلَّها داخلة تحت اللفظ، وأنَّه يعمها.
﴿لَمَسَّكُمْ﴾، أي: لأصابكم ولحلَّ بكم ﴿فِيمَا أَخَذْتُمْ﴾؛ أي: بسبب ما أخذتم من الفداء، أو لأجل ما أخذتم. ﴿فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا﴾؛ أي: حسن إيمان، وصلاح نيةٍ وخلوص طوية ﴿يُؤْتِكُمْ خَيْرًا﴾؛ أي: يعوضكم في هذه الدنيا رزقًا خيرًا منه، وأنفع لكم في الدنيا، أو ثوابًا في الآخرة.
﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ﴾؛ أي: مخادعتك، والخيانة: مصدر خان يخون، وأصل يائه الواو، فقلبت ياءً؛ لانكسار ما قبلها، ووقوع الألف بعدها.
(١) الشوكاني.
114
﴿وَالَّذِينَ آوَوْا﴾ أصله: أأووا - بهمزتين - أولاهما: همزة أفعل الرباعي، وثانيتهما: فاء الكلمة؛ لأنَّ ثلاثيه أوى بهمزة واحدة، يقال: أوى البيت، أو إلى البيت يأوي أويًا وإواءً نزل فيه، وآواه البيت يؤويه إيواءً: أنزله فيه.
﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾: يقرأ بكسر الواو وفتحها، قيل (١): هما لغتان، وقيل: المكسور مصدرٌ؛ تشبيهًا بالعمل والصناعة، كالكتابة والإمارة اهـ. "بيضاوي". يعني: إنَّ فعالة - بالكسر في المصدر - إنما يكون في الصناعات، وما يزول الكتابة والإمارة والزراعة والحراثة والخياطة والولاية.. ليست من هذا القبيل إلا على التشبيه اهـ. زكريا، والمفتوح: معناه الموالاة في الدين، وهي النصرة اهـ. "سمين".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿حَتَّى يُثْخِنَ﴾؛ لأنَّ الثخانة حقيقة في الغلظة والصلابة، فاستعمل هنا في لازمه الذي هو القوة.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ شبه منافع الدنيا ولذاتها بالعرض الذي هو من صفات الأجرام وأحوالها، بجامع عدم الثبات والدوام في كلٍّ، فاستعار لها لفظ عرض على طريقة الاستعارة التصريحية.
ومنها: الطباق بين لفظ ﴿الدُّنْيَا﴾ ولفظ ﴿الْآخِرَةَ﴾.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿خِيَانَتَكَ﴾ و ﴿خَانُوا﴾ في قوله: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا﴾، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا﴾.
(١) الفتوحات.
115
ومنها: الجناس المماثل في: ﴿هاجروا﴾ ﴿وَلَمْ يُهَاجِرُوا﴾، والمغاير في قوله: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾.
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
116
سورة التوبة
سورة التوبة (١) مدنيةٌ بإجماع المفسرين، قال ابن الجوزي: سوى آيتين في آخرها ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ إلى آخر السورة، فإنَّهما نزلتا بمكة، وهي مئة وتسع وعشرون آية، وقيل: مئة وثلاثون آية، وأربعة آلاف وثمان وسبعون كلمةً، وعشرة آلافٍ وأربع مئة وثمان وثمانون حرفًا.
التسمية: ولهذه السورة أسماء عشرة (٢):
منها: سورة التوبة؛ لأنَّ فيها التوبة على المؤمنين.
ومنها: سورة براءة؛ لأنَّ فيها ذكر براءة الله سبحانه وتعالى ورسوله - ﷺ - من المشركين، وهذان الاسمان مشهوران.
ومنها: المقشقشة، قاله ابن عمر؛ لأنَّها تقشقش من النفاق؛ أي تبرىء منه.
ومنها: المبعثرة؛ لأنَّها تبعثر عن أخبار المنافقين، وتبحث عنها وتثيرها.
ومنها: الفاضحة، قاله ابن عباس؛ لأنَّها فضحت المنافقين.
ومنها: سورة العذاب، قاله حذيفة.
ومنها: المخزية؛ لأنَّ فيها خزي المنافقين.
ومنها: المدمدمة؛ لأنَّ فيها هلاك المنافقين.
ومنها: المشردة؛ لأنها شردت جموع المنافقين وفرقتهم.
ومنها: المثيرة؛ لأنَّها أثارت مخازي المنافقين، وكشفت عن أحوالهم،
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
117
وهتكت أستارهم.
وعن سعيد بن جبير قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: بل هي الفاضحة، ما زالت تقول: ومنهم ومنهم، حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها. قال: قلت: سورة الأنفال؟ قال: نزلت في بدر. قال: قلت: سورة الحشر؟ قال: بل سورة النضير. أخرجاه في "الصحيحين".

فصلٌ في بيان سبب ترك كتابة البسملة في أول هذه السورة


وقد اختلف العلماء في سقوط البسملة من أولها على أقوال (١):
عن المبرد وغيره أنَّه كان من شأن العرب إذا كان بينهم وبين قوم عهدٌ فأرادوا نقضه.. كتبوا إليهم كتابًا، ولم يكتبوا فيه بسملةً، فلمَّا نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي - ﷺ - والمشركين.. بعث بها النبيُّ - ﷺ - عليَّ بن أبي طالب، فقرأها عليهم، ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادة العرب.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: سألت عليَّ بن أبي طالب: لِمَ لا تكتب في براءة ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١)﴾؟ قال: لأنَّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١)﴾ أمان، وبراءة نزلت بالسيف.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١)﴾ ووضعتموها في السبع الطِّوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله - ﷺ - كثيرًا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء.. دعا بعض من كان يكتب، فيقول: "ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا"، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر
(١) الشوكاني والخازن.
118
القرآن نزولًا، وكانت قصتها شبيهةً بقصتها، فظننت أنها منها، وقبض رسول الله - ﷺ - ولم يبين لنا أنَّها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١)﴾ ووضعتها في السبع الطوال.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي رجاء قال: سألت الحسن عن الأنفال وبراءة، أسورتان أم سورة؟ قال: سورتان.
وقال محمَّد بن الحنفية (١)، قلت لأبي - يعني عليَّ بن أبي طالب -: لِمَ لَمْ تكتبوا في براءة ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١)﴾؟ قال: يا بنيَّ إنَّ براءة نزلت بالسيف، وإن ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أمانٌ.
وسئل سفيان بن عيينة عن هذا، فقال: لأنَّ للتسمية رجَّةً، والرجة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين. وسئل أبي بن كعب عن هذا، فقال: إنَّها نزلت في آخر القرآن، وكان رسول الله - ﷺ - يأمر في كل سورة بكتابة ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١)﴾، ولم يأمر في براءة بذلك، فضمت إلى الأنفال؛ لشبهها بها.
وقيل: إن الصحابة اختلفوا في سورة الأنفال وسورة براءة، هل هما سورة واحدةٌ أم سورتان؟ فقال بعضهم: سورة واحدة؛ لأنَّهما نزلتا في القتال، ومجموعهما معًا مئتان وخمس آيات، فكانت هي السورة السابعة من السبع الطوال. وقال بعضهم: هما سورتان. فلمَّا حصل هذا الاختلاف بين الصحابة.. تركوا بينهما فرجةً؛ تنبيهًا على قول من يقول إنهما سورتان، ولم يكتبوا ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١)﴾؛ تنبيهًا على قول من يقول هما سورة واحدة، وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك، وهي آخر غزواته - ﷺ -، وقد كان الاستعداد لها وقت القيظ - أي: شدة الحر - زمن العسرة، وفي أثنائها ظهر من علامات نفاق المؤمنين ما كان خفيًّا. قيل: وأولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة، فأرسل النبيُّ - ﷺ - عليًّا ليقرأها على المشركين في الموسم.
(١) الخازن.
119
روى البخاري عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت ﴿يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة﴾ وآخر سورة نزلت براءة. ثم اختلف (١) العلماء في ابتداء هذه السورة بها، فقال ابن حجر من الشافعية: بالحرمة. وقال الرملي: بالكراهة. وفي الأثناء: يكره عند الأول ويجوز عند الثاني، ومذهب مالك كذلك. وقد أشار إلى ذلك صاحب "الشاطبية" بقوله:
وَمَهْمَا تَصِلْهَا أَوْ بَدَأَتَ بَرَاءَةً لَتَنْزِيْلِهَا بِالسِّيْفِ لَسْتَ مُبَسْمِلاَ
وَلاَ بُدَّ مِنْهِا فِيْ ابتِدَائِكَ سُوْرَةً سِوَاْهَا وَفِيْ الأَجْزَاءِ خُيِّرَ مَنْ تَلاَ
ومما ورد في فضلها: ما أخرجه أبو عبيد وسعيد بن منصور وأبو الشيخ والبيهقي في "الشعب" عن أبي عطية الهمداني قال: كتب عمر بن الخطاب: تعلَّموا سورة براءة، وعلِّموا نسائكم سورة النور.
ومنه ما رُوي: أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "ما نزل عليَّ القرآن إلا آية آيةً، إلا سورة براءة وسورة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾، فإنَّهما نزلتا ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة".
الناسخ والمنسوخ فيها: قال الشيخ أبو عبد الله محمَّد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة التوبة مدنية، وهي من أواخر ما نزل من القرآن، فيها سبع آيات منسوخات:
أولاهنَّ: قوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ إلى قوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ الآية (١ - ٣) التوبة، نسخت بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ (٥) التوبة.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ الآية (٣٤) التوبة، نسخت بالزكاة الواجبة.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ الآية (٣٩)، نسخت بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ (١٢٢).
(١) الصاوي.
120
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ الآية (٤٣)، نسخت بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ (٦٢) النور.
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ الآية (٨٠)، نسخت بقوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ الآية (٦) المنافقون.
الآية السادسة: قوله تعالى: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا﴾ الآية (٩٧). هذه الآية والتي تليها منسوختان بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآية.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
121
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)﴾.
المناسبة
مناسبة هذه السورة لما قبلها (١): أنَّ سورة براءة كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما في أصول الدين وفروعه، وفي التشريع الذي جله في أحكام القتال والاستعداد له وأسباب النصر فيه، وأحكام المعاهدات والمواثيق من حفظها ونبذها عند وجود المقتضي لذلك، وأحكام الولاية في الحرب وغيرها بين
(١) المراغي.
122
المؤمنين بعضهم مع بعض، والكافرين بعضهم مع بعض، وأحوال المؤمنين الصادقين، والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب، فما بدىء به في الأنفال.. تيمم به في براءة، وهاك أمثلةً لذلك:
١ - تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب.
٢ - ذكر في الأنفال صدَّ المشركين عن المسجد الحرام، وأنَّهم ليسوا بأوليائه، وجاء في براءة: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ...﴾ إلى آخر الآيات.
٣ - ذكرت العهود في سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها.
٤ - ذكر في سورة الأنفال الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وجاء ذلك بأبلغ وجه في براءة.
٥ - جاء في سورة الأنفال ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وفصل ذلك في براءة أتم تفصيل.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأذان العام بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافاتهم وضلالاتهم على الوجه الذي سبق تفصيله.. أردف ذلك بذكر ما يجب أن يفعله المسلمون معهم حين انقضاء الأجل المضروب لهم، والأمان الذي أعطي لهم للضرب في الأرض.
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر براءة الله ورسوله من المشركين وإمهالهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض أحرارًا، ثم ذكر
(١) المراغي.
123
Icon