تفسير سورة الشرح

زاد المسير
تفسير سورة سورة الشرح من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الانشراح مكية كلها بإجماعهم.

سورة الشرح
وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشرح (٩٤) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)
قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ الشرح: الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك. والله تعالى فتح صدر نبيه للهدى والمعرفة بإذهاب الشّواغل التي تصدّ «١» عن إدراك الحق. ومعنى هذا الإستفهام التقريرُ، أي: فعلنا ذلك «٢» وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ أي: حَطَطْنَا عنك إِثْمَكَ الذي سَلَفَ في الجاهلية، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، والفراء، وابن قتيبة في آخرين. وقال الزجاج: المعنى:
أنه غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال ابن قتيبة: وأصل الوِزْر: ما حمله الإنسان على ظهره، فشبّه بالحمل فجعل مكانه. وبمعنى أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أثقله حتى سمع نقيضه، أي: صوته. وهذا مَثَلٌ، يعني: أنه لو كان حملاً يحمل لَسُمِع نقيضُ الظهر منه. وذهب قوم إلى أن المراد بهذا تخفيف أعباء النبوة التي يُثْقِلُ القيامُ بها الظُّهْرَ، فَسَهَّلَ الله له ذلك حتى تيَسَّر عليه الأمر. وممن ذهب إلى هذا عبد العزيز بن يحيى.
قوله عزّ وجلّ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ فيه خمسة أقوال:
(١٥٤٣) أحدها: ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية،
ضعيف. أخرجه أبو يعلى ١٣٨٠ والواحدي في «الوسيط» ٤/ ٥١٦ من طريق ابن لهيعة به. وإسناده واه، فيه-
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٦٢٤- ٦٢٥: يقول تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، يعني أما شرحنا لك صدرك؟ أي نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا، كقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحا واسعا سمحا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٦٣٣: والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال: التين: هو التين الذي يؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت، لأن ذلك معروف عند العرب، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام: القسم بمنابت التين، ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهبا، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك، دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه، لأن دمشق هي منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون.
ابن لهيعة ضعيف، ودراج عن أبي الهيثم ضعيف أيضا. وأخرجه الطبري ٣٧٥٣٢ وابن حبان ٣٣٨٢ من طريق عمرو بن الحارث عن دراج به. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٨/ ٢٤٥ وقال: رواه أبو يعلى وإسناده حسن.
كذا قال؟! مع أن في إسناد أبي يعلى ابن لهيعة، ودراج.
460
فقال: قال الله عزّ وجلّ: إذا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ معي. قال قتادة: فليس خطيب، ولا مُتَشَهِّدٌ، ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وهذا قول الجمهور.
والثاني: رفعنا لك ذِكْرَك بالنبوة، قاله يحيى بن سلام. والثالث: رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا، حكاه الماوردي. والرابع: رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء. والخامس: بأخذ الميثاق لك على الأنبياء، وإلزامهم الإيمان بك، والإقرار بفضلك، حكاهما الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ضم سين «العُسُر» وسين «اليُسُر» أبو جعفر و «العسر» مذكور في الآيتين بلفظ التعريف. و «اليُسر» مذكور بلفظ التنكير، فدل على أن العسر واحد، واليسر اثنان. قال ابن مسعود، وابن عباس في هذه الآية: لن يغلب عُسْر يسرين. قال الفراء: العرب إذا ذَكَرَتْ نَكِرَةً ثم أعادتها بنكرة صارت اثنتين، كقولك: إذا كسبت درهماً فأنفق درهماً، فالثاني غير الأول، وإذا أعادتها معرفة، فهي من قولك: إذا كسبت درهماً فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول. ونحو هذا قال الزجاج:
ذَكَرَ العُسْر بالألف واللام، ثم ثَنَّى ذِكْرَه، فصار المعنى: إن مع العسر يسرين. وقال الحسين بن يحيى الجرجاني- ويقال له: صاحب النظم-: معنى الكلام: لا يحزنك ما يُعَيِّرك به المشركون من الفقر «فإن مع العسر يسراً» عاجلاً في الدنيا، فأنجزه بما وعده الله، بما فتح عليه، ثم ابتدأ فصلاً آخر فقال: «إن مع العسر يسراً» والدليل على ابتدائه تَعرِّيه من الفاء والواو، وهو وعد لجميع المؤمنين أي أن مع عسر المؤمنين يسراً في الآخرة، فمعنى قولهم: لن يغلب عسر يسرين: لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعده الله المؤمنين في الدنيا، واليسر الذي وعدهم في الآخرة، إنما يغلب أحدهما، وهو يسر الدنيا.
فأما يسر الآخرة، فدائم لا ينقطع، كقوله صلّى الله عليه وسلم:
(١٥٤٤) «شهرا عيد لا ينقصان»، أي: لا يجتمعان في النقص. وحكي عن العتبي قال: كنت ذات ليلة في البادية بحالة من الغَمِّ، فأُلْقِيَ في رَوعي بيت من الشعر، فقلت:
أرى الموت لمن أصبح... مَغْمُوماً لَهُ أَرُوَحْ
فلما جن الليل سمعت هاتفا يهتف:
ألا يا أيّها المرء الذي... الهمُّ بِه بَرَّحْ
وَقَدْ أَنْشَدَ بَيْتَاً لَمْ... يزل في فكره يسبح
إذا اشتَدَّ بك العُسْرُ... فَفَكِّر في «أَلَمْ نَشْرَحْ»
فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ... إِذا أَبْصَرْتَهُ فَافْرَحْ
فحفظت الأبيات وفرّج الله غمّي.
صحيح. أخرجه البخاري ١٩١٢ ومسلم ١٠٨٩ وأبو داود ٢٣٢٣ والترمذي ٦٩٢ وابن ماجة ١٦٥٩ وأحمد ٥/ ٣٨ و ٤٧ و ٤٨ والطيالسي ٨٦٣ والطحاوي ٢/ ٥٨ وابن حبان ٣٢٥ والبيهقي ٤/ ٢٥٠ من طرق عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا.
461
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي: فادأبْ في العمل، وهو من النَّصْب، والنَّصب: التعبُ، الدَّؤوب في العمل. وفي معنى الكلام ستة أقوال أحدها: فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، قاله ابن مسعود. والثاني: فإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، قاله ابن عباس، والضحاك، ومقاتل. والثالث: فإذا فرغت من جهالة عدوّك فانصب لعبادة ربّك، قاله الحسن وقتادة.
والرابع: فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك، قاله مجاهد. والخامس: فإذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، قاله الشّعبيّ والزّهريّ. والسادس: إذا صح بدنك فاجعل صحتك نَصباً في العبادة، ذكره عليّ بن أبي طلحة.
قوله وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ قال الزجاج: اجعل رغبتك إلى الله عزّ وجلّ وحده.
462
Icon