ﰡ
نصبت ( عجبا ) ب ( كان )، ومرفوعها ﴿ أَنْ أوحينا ﴾ وكذلك أكثر ما جاء في القرآن إذا كانت ( أن ) ومعها فعل : أن يجعلوا الرفع في ( أن )، ولو جعلوا ( أن ) منصوبة ورفعوا الفعل كان صوابا.
رفعت المرجع ب ( إليه )، ونصبت قوله ﴿ وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً ﴾ بخروجه منهما. ولو كان رفعا كما تقول : الحقُّ عليك واجب وواجباً كان صوابا. ولو استؤنف ( وعد الله حق ) كان صوابا.
( إنه يَبْدَأ الخَلْقَ ) مكسورة لأنها مستأنفة. وقد فتحها بعض القرّاء. ونُرى أنه جعلها اسما للحق وجعل ( وعد الله ) متصلا بقوله ( إليه مرجعكم ) ثم قال : " حقّا أَنه يبدأ الخلق " ؛ ف ( أنه ) في موضع رفع ؛ كما قال الشاعر :
أحقّا عباد الله أن لست لاقيا | بُثَيْنَة أو يلقى الثريا رقِيبُها |
أحقا عباد الله جُرْأَةُ محلق | علىّ وقد أعييت عادا وتبّعا |
ولم يقل : وقدّرهما. فإن شئت جعلت تقدير المنازل القمر خاصّة لأنّ به نعلم الشهور. وإن شئت جعلت التقدير لهما جميعا، فاكتفي بذكر أحدهما من صاحبه كما قال الشاعر :
رمانى بأمرٍ كنتُ منه ووالدى | بريئا ومن جُولِ الطَوىّ رمانى |
يقول : لو أجيب الناس في دعاء أحدهم على ابنه وشبهه بقولهم. أماتك الله، ولعنك الله، وأخزاك الله لهلكوا. و( استعجالهم ) منصوب بوقوع الفعل :( يعجل ) ؛ كما تقول : قد ضربت اليوم ضربتك، والمعنى : ضربت كضربتك وليس المعنى ها هنا كقولك : ضربت ضربا ؛ لأن ضربا لا تضمر الكاف فيه ؛ لأنك لم تشبهه بشيء، وإنما شبهت ضربك بضرب غيرك فحسنت فيه الكاف.
وقوله :﴿ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ ويقرأ :( لقَضَى إليهم أجلهم ). ومثله ﴿ فيمسك التي قَضَى عليها الموتَ ﴾ و( قُضِى عليها الموتُ ).
يقول : استمرّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه البلاء.
وقد ذكِر عن الحسن أنه قال : " ولا أَدْرَأْتكم به " فإن يكن فيها لغة سوى دريت وأدريت فلعلّ الحسَن ذهب إليها. وأما أن تصلح مِن دريت أو أدريت فلا ؛ لأن الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحَّتا ولم تنقلبا إلى ألف ؛ مثل قضيت ودعوت. ولعل الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها ؛ لأنها تضارع درأت الحدّ وشبهه. وربما غلِطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز فيهمزون غير المهموز ؛ سمعت امرأة من طيء تقول : رنات زوجي بأبياتٍ. ويقولون لبَّأت بالحج وحلأْت السَوِيق فيغلَطون ؛ لأن حَلأْت قد يقال في دفع العِطاش من الإبل، ولبَّأت ذهب إلى الِلبأ الذي يؤكل، ورَثَأت زوجي ذهبَتْ إلى رَثِيئة اللبن ؛ وذلك إذا حلبت الحليب على الرائب.
العرب تجعل ( إذا ) تكفي من فعلت وفعلوا. وهذا الموضع من ذلك : اكتُفي ب ( إذا ) من ( فعلوا ) ولو قيل ( مِن بعدِ ضراء مستهم مكروا ) كان صوابا. وهو في الكلام والقرآنِ كثير. ونقول : خرجت فإذا أنا بزيد. كذلك يفعلون ب ( إذْ ) ؛ كقول الشاعر :
بينما هنَّ الأراك معا | إذا أتى راكب على جملِه |
بينا تَبَغِيِّهِ العَشَاء وطَوْفِه | وقع العَشاء به على سِرْحانِ |
قراءة العامّة. وقد ذكر عن زيد بن ثابت ( ينشركم ) قرأها أبو جعفر المدنيّ كذلك. وكلّ صواب إن شاء الله.
وقوله :﴿ جَاءتْها رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾ يعني الفُلْك ؛ فقال : جاءتها، وقد قال في أوّل الكلام ﴿ وجرين بِهِم ﴾ ولم يقل : وجَرَت، وكلّ صواب ؛ تقول : النساء قد ذهبت، وذهبن. والفلك تؤنث وتذكر، وتكون واحدة وتكون جمعا. وقال في يس ﴿ في الفلك المشحون ﴾ فذكَّر الفلك، وقال ها هنا : جاءتها، فأنت. فإن شئت جعلتها ها هنا واحدة، وإن شئت : جِماعا. وإن شئت جعلت الهاء في ( جاءتها ) للريح ؛ كأنك قلت : جاءت الريحَ الطيّبةَ ريح عاصف. والله أعلم بصوابه. والعرب تقول : عاصف وعاصفة، وقد أعصفت الريح، وعَصَفت. وبالألف لغة لبنى أَسَد ؛ أنشدني بعض بنى دَبِير :
حتى إذا أعصفت ريح مزعزِعة | فيها قِطار ورعد صوته زجِل |
إن شئت جعلت خبر ( البغي ) في قوله ( على أنفسكم ) ثم تنصب ( متاعَ الحياةِ الدنيا ) كقولك : مُتْعَةً في الحياة الدنيا. ويصلح الرفع ها هنا على الاستئناف ؛ كما قال ﴿ لم يلبثوا إِلا ساعة من نهارٍ بلاغ ﴾ أي ذلك ( بلاغ ) وذلك ( متاع الحياةِ الدنيا ) وإن شئت جعلت الخبر في المتاع. وهو وجه الكلام.
﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أولئك أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خَالِدُونَ ﴾
وقوله :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ﴾
في موضع رفع. يقال إن الحسنى الحَسَنة. ( وزيادة ) حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرّاء قال حدثني أبو الأحوص سلاّم بن سُلَيم عن أَبى إسحاق السَبِيعيّ عن رجل عن أبى بكر الصدِّيق رحمه الله قال : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة : النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى. ويقال ( للذين أحسنوا الحسنى ) يريد حَسَنة مثل حسناتهم ( وزيادة ) زيادة التضعيف كقوله ﴿ فله عَشْرُ أَمثالها ﴾.
رفعت الجزاء بإضمار ( لهم ) كأنك قلت : فلهم جزاء السيئة بمثلها ؛ كما قال ﴿ ففِدية مِن صِيامٍ ﴾ و ﴿ فصيام ثلاثةِ أيام في الحج ﴾ والمعنى : فعليه صيام ثلاثة أيام، وعليه فدية. وإن شئت رفعت الجزاء بالباء في قوله :﴿ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ﴾ والأوّل أعجب إلىَّ.
وقوله :﴿ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً ﴾ و ( قطْعا ). والقِطَع قراءة العامَّة. وهي في مصحف أبى ﴿ كأنما يَغْشَى وجوهَهم قِطْع من الليل مظلم ﴾ فهذه حجة لمن قرأ بالتخفيف. وإن شئت جعلت المظلم وأنت تقول قِطْع قطعا من الليل، وإن شئت جعلت المظلم نعتا للقطع، فإذا قلت قطعا كان قطعا من الليل خاصة. والقطع ظلمة آخر الليل ﴿ فأَسِر بأهلك بقطع من الليل ﴾.
ليست من زُلْت ؛ إنما هي من زِلْتُ ذا من ذا : إذا فرَّقت أنت ذا من ذا. وقال ﴿ فزيَّلنا ﴾ لكثرة الفعل. ولو قَلَّ لقلت : زِلْ ذا من ذا ؛ كقولك : مِزْ ذا من ذا. وقرأ بعضهم ﴿ فزايلنا بينهم ﴾ وهو مثل قوله :﴿ يراءون ويرءُّون ﴾ ﴿ ولا تصعِّر، ولا تصاعر ﴾ والعرب تكاد توفّق بين فاعلت وفعَّلت في كثير من الكلام، ما لم تُرد فَعَلَتَ بي وفعلتُ بك، فإذا أرادوا هذا لم تكن إلا فاعلت. فإذا أردت : عاهدتك وراءيتك وما يكون الفعل فيه مفردا فهو الذي يَحتمل فعلت وفاعلت. كذلك يقولون : كالمت فلانا وكلَّمته، وكانا متصارمين فصارا يتكالمان ويتكلمان.
قرأها عبد الله بن مسعود :( تتلو ) بالتاء. معناها - والله أعلم - : تتلو أي يقرأ كلُّ نفس عملها في كتاب ؛ كقوله :﴿ ونخرِج له يوم القِيامةِ كِتابا يلقاه منشورا ﴾ وقوله ﴿ فأما من أُوتِى كِتابه بِيمينِه ﴾. وقوله ﴿ اقرأ كِتابك ﴾ قوّة لقراءة عبد الله. قرأها مجاهد ( تبلو كل نفسٍ ما أسلفت ) أي تَخْبره وتراه. وكل حَسَن. حدّثنا محمد قال حدّثني الفرّاء قال حدثنا محمد بن عبد العزيز التيمي عن مُغيرةَ عن مجاهد أنه قرأ ( تبلو ) بالباء. وقال الفرّاء : حدّثنى بعض المشيخة عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس :( تبلو ) تَخْبر، وكذلك قرأها ابن عباس.
وقوله ﴿ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ ﴾ ( الحقِّ ) تجعله من صفات الله تبارك وتعالى. وإن شئت جعلته نصبا تريد : ردّ إلى الله حقا. وإن شئت : مولاهم حقا.
فيه ما في الأولى.
وقد يقرأ ( كلمة ربِك ) و ( كلمات ربك ). قراءة أهل المدينة على الجمع.
وقوله :﴿ على الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ : حَقَّت عليهم لأنهم لا يؤمنون، أو بأنهم لا يؤمنون، فيكون موضعها نصبا إذا ألقيت الخافض. ولو كسرت فقلت : " إنهم " كان صوابا على الابتداء. وكذلك قوله ﴿ آمنت أنه لا إِله إِلا الذي آمنتْ بِه بنو إِسرائيل ﴾ وكسرها أصحاب عبد الله على الابتداء.
يقول : تعبدون مالا يقدر على النُقْلة من مكانه، إلا أن يحوّل وتنقلوه.
المعنى - والله أعلم - : ما كان ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى. وهو في معنى : ما كان هذا القرآن لِيفترى. ومثله ﴿ وما كان المؤمِنون لِينفِروا كافة ﴾ أي ما كان ينبغي لهم أن ينفِروا ؛ لأنهم قد كانوا نَفَروا كافَّة، فدلَّ المعنى على أنه لا ينبغي لهم أن يفعلوا مرَّة أخرى. ومثله ﴿ وما كان لنبي أن يَغُلّ ﴾ أي ما ينبغي لنبي أن يَغُلّ، ولا يُغَل. فجاءت ( أَنْ ) على معنى ينبغي ؛ كما قال ﴿ مالك أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجِدين ﴾ والمعنى : منعك، فأدخلت ( أن ) في ( مالك ) إذا كان معناها : ما منعك. ويدلّ على أن معناهما واحد أنه قال له في موضع :( ما منعك )، وفي موضع ( مالك ) وقصَّة إبليس واحدة.
للعرب في ( لكن ) لغتان : تشديد النون وإسكانها. فمن شدّدها نصب بها الأسماء، ولم يلها فَعَلَ ولا يَفْعَل. ومَن خفَّف نُونها وأسكنها لم يُعمِلها في شيء اسمٍ ولا فعل، وكان الذي يعمل في الاسم الذي بعدها ما معه، ينصبه أو يرفعه أو يخفضه ؛ من ذلك قوله ﴿ ولكِنِ الناسُ أَنفسهم يظلِمون ﴾ ﴿ ولكِنِ اللّهُ رَمَى ﴾ ﴿ ولكِنِ الشياطينُ كفروا ﴾ رُفعت هذه الأحرف بالأفافيل التي بعدها. وأما قوله ﴿ ما كان محمد أَبا أَحدٍ مِن رِجالِكم ولكِن رسولَ اللّهِ ﴾ فإنك أضمرت ( كان ) بعد ( لكن ) فنصبت بها، ولو رفعته على أن تضمر ( هو ) : ولكن هو رسول الله كان صوابا. ومثله ﴿ وما كان هذا القرآن أن يفترى مِن دونِ اللّهِ ولكِن تصدِيقَ الذي بين يديه ﴾ و ( تصدِيقُ ). ومثله ﴿ ما كان حدِيثا يفترى ولكِن تصدِيقَ الذي بين يديه ﴾ ( وتصديقُ ).
فإذا ألقيت من ( لكن ) الواو التي في أوّلها آثرت العربُ تخفيف نونها. وإذا أدخلوا الواو وآثروا تشديدها. وإنما فعلوا ذلك لأنها رجوع عما أصاب أوّل الكلام، فشبِّهت ببل إذْ كان رجوعا مثلها ؛ ألا ترى أنك تقول : لم يقم أخوك بل أبوك ثم تقول : لم يقم أخوك لكن أبوك، فتراهما بمعنى واحد، والواو لا تصلح في بل، فإذا قالوا ( ولكن ) فأدخلوا الواو تباعدت من ( بل ) إذ لم تصلح الواو في ( بل )، فآثروا فيها تشديد النون، وجعلوا الواو كأنها واو ودخلت لعطفٍ لا لمعنى بل.
وإنما نصبت العربُ بها إذا شُدّدت نونها لأن أصلها : إنّ عبد الله قائم، فزيدت على ( إن ) لام وكاف فصارتا جميعا حرفا واحدا ؛ ألا ترى أن الشاعر قال :
*** ولكننِي مِن حُبّها لكَميد ***
فلم تدخل اللام إلا لأن معناها إنّ.
وهي فيما وصلت به من أوّلها بمنزلة قول الشاعر :
لهِنَّكِ من عَبْسِيّةٍ لوِسيمةٌ *** على هُنُواتٍ كاذبٍ من يقولها
وصل ( إنّ ) ها هنا بلام وهاء ؛ كما وصلها ثَمَّ بلام وكاف. والحرف قد يوصل من أوّله وآخره. فما وصل من أوله ( هذا )، ( ها ذاك )، وصل ب ( ها ) من أوّله. ومما وصل من آخره. قوله :﴿ إما تُرِيَنِّي ما يُوعدون ﴾، وقوله : لتذهبن ولتجلسن. وصل من آخره بنون وب ( ما ). ونرى أن قول العرب : كم مالك، أنها ( ما ) وصلت من أولها بكاف، ثم إن الكلام كثر ب ( كم ) حتى حذفت الألف من آخرها فسكنت ميمها ؛ كما قالوا : لِمْ قلت ذاك ؟ ومعناه : لِمَ قلت ذاك، ولما قلت ذاك ؟ قال الشاعر :
يا أبا الأسود لِمْ أسلمتني *** لهموم طارقات وذِكر
وقال بعض العرب في كلامه وقيل له : منذ كم قعد فلان ؟ فقال : كَمُذْ أخذتَ في حديثك، فردُّه الكاف في ( مذ ) يدلّ على أن الكاف في ( كم ) زائدة. وإنهم ليقولون : كيف أصبحت، فيقول : كالخير، وكخير. وقيل لبعضهم : كيف تصنعون الأَقِط ؟ فقال : كهيّن.
( ثم ) ها هنا عطف. ولو قيل : ثَمَّ اللّهُ شهيد على ما يفعلون. يريد : هنالك الله شهيد على ما يفعلون.
إن شئت جعلت ( ماذا ) استفهاما محضا على جهة التعجّب ؛ كقوله : ويلَهم ماذا أرادوا باستعجال العذاب ؟ ! وإن شئت عظَّمت أمر العذاب فقلت : بماذا استعجلوا ! وموضعه رفع إذا جعلت الهاء راجعة عليه، وإن جعلت الهاء في ( منه ) للعذاب وجعلته في موضع نصب أوقعت عليه الاستعجال.
( الآن ) حرف بنى على الألف واللام لم تخلع منه، وترك على مذهب الصفة ؛ لأنه صفة في المعنى واللفظ ؛ كما رأيتهم فعلوا في ( الذي ) و ( الذين ) فتركوهما على مذهب الأداة، والألف واللام لهما غير مفارقتين. ومثله قال الشاعر :
فإن الألاء يعلمونك منهم | كعلمى مظَّنُّوك ما دمت أشعرا |
وأنى حُبست اليوم والأمسِ قبله | ببابك حتى كادت الشمس تغرب |
تفقَّأُ فوقه القَلَع السوارى | وجُنَّ الخاز بَازَ به جنونا |
كأن مَكَا كِىَّ الجِواء غُدَيَّةً | نشاوَى تساقَوا بالرَيَاح المفَلْفَل |
يعنى الرؤساء من المشركين، أسَرُّوها من سفلتهم الذين أضلّوهم، فأسرُّوها أي أخفَوها.
هذه قراءة العامة. وقد ذكر عن زيد بن ثابت أنه قرأ ( فبذلك فلتفرحوا ) أي يا أصحاب محمد، بالتاء.
وقوله :﴿ هُوَ خَيْرٌ مِّما يَجْمَعُونَ ﴾ : يَجْمع الكفار. وقَوّى قولَ زيد أنها في قراءة أبىّ ( فبذلك فافرحوا ) وهو البناء الذي خُلِق للأمر إذا واجهْتَ به أو لم تواجِه ؛ إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجَه لكثرة الأمر خاصَّة في كلامهم ؛ فحذفوا ؛ اللام كما حذفوا التاء من الفعل. وأنت تعلم أن الجازم أو الناصب لا يقعان إلا على الفعل الذي أوّله الياء والتاء والنون والألف. فلما حُذِفت التاء ذهبت باللام وأحدثت الألف في قولك : اضرب وافرح ؛ لأن الضاد ساكنة فلم يستقم أن يُستأنف بحرف ساكن، فأدخلوا ألفا خفيفة يقع بها الابتداء ؛ كما قال :( ادّارَكوا ). ( واثّاقَلْتُم ). وكان الكسائيّ يعيب قولهم ( فلتفرحوا ) لأنه وجده قليلا فجعله عيبا، وهو الأصل. ولقد سمعت عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض المشاهد ( لتأخذوا مصافّكم ) يريد به خذوا مصافّكم.
يقول : الله تبارك وتعالى شاهد على كل شيء. ( وما ) ها هنا جحد لا موضع لها. وهي كقوله ﴿ ما يكون مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلا هُوَ رابِعهم ﴾ يقول : إلا هو شاهدهم.
﴿ وَما يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ ﴾ و( أصغرُ وأكبرُ ). فمن نصبهما فإنما يريد الخفض : يُتْبعهما المثقال أو الذرّة. ومن رفعهما أتبعهما معنى المثقال ؛ لأنك لو ألقيت من المثقال ( مِن ) كان رفعا. وهو كقولك : ما أتاني من أحد عاقلٍ وعاقلٌ. وكذلك قوله ﴿ ما لكم مِن إِلهٍ غيرِه ﴾.
( الذين ) في موضع رفع ؛ لأنه نعت جاء بعد خبر إنْ ؛ كما قال ﴿ إِن ذلِكَ لَحَقٌّ تخاصُمُ أَهْلِ النارِ ﴾ وكما قال ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ﴾ والنصب في كل ذلك جائز على الإتباع للاسم الأوّل وعلى تكرير ( إنّ ).
وإنما رفعت العرب النعوت إذا جاءت بعد الأفاعيل في ( إنّ ) لأنهم رأوا الفعل مرفوعا، فتوهّموا أن صاحبه مرفوع في المعنى - لأنهم لم يجدوا في تصريف المنصوب اسما منصوبا وفعله مرفوع - فرفعوا النعت. وكان الكسائي يقول : جعلته - يعنى النعت - تابعا للاسم المضمر في الفعل ؛ وهو خطأ وليس بجائز ؛ لأن ( الظريف ) وما أشبهه أسماء ظاهرة، ولا يكون الظاهر نعتا لمكنىّ إلا ما كان مثل نفسه وأنفسهم، وأجمعين، وكلهم ؛ لأن هذه إنما تكون أطرافا لأواخر الكلام ؛ لا يقال مررت بأجمعين، كما يقال مررت بالظريف.
وذكر أن البشرى في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. وقد يكون قوله :﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى ﴾ ما بشّرهم به في كتابه من موعوده، فقال ﴿ ويبشِر المؤمِنِين الذِين يعملون الصالِحاتِ ﴾ في كثير من القرآن.
ثم قال لَهُمُ ﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ﴾ أي لا خُلْف لوعد الله.
المعنى الاستئناف. ولم يقولوا هم ذاك، فيكونَ حكاية. فأما قوله :﴿ وقولهم إِنا قتلنا المسِيح ﴾ فإنها كسرت لأنها جاءت بعد القول، وما كان بعد القول من ( إن ) فهو مكسور على الحكاية في قال ويقولون وما صُرِّف من القول. وأما قوله ﴿ ما قلت لهم إلاَّ ما أَمرْتَنِي بِهِ أَن اعبُدُوا اللّهَ ربِّى ﴾ فإنك فتحت ( أن ) لأنها مفسِّرة ل ( ما )، ( وما ) قد وقع عليها القول فنصبها وموضعها نصب. ومثله في الكلام : قد قلت لك كلاما حسنا : أن أباك شريف وأَنك عاقل، فتحت ( أَنّ ) لأنها فسّرت الكلام، والكلام منصوب. ولو أردت تكرير القول عليها كسرتها. وقد تكون ( أنّ ) مفتوحة بعد القول إذا كان القول رافعا لها أو رافعة له ؛ من ذلك أن تقول : قولُك مذ اليوم أَن الناس خارجون ؛ كما تقول : قولك مذ اليوم كلام لا يفهم. وقوله ﴿ ولا تقولن لِشيء إني فاعِل ذلِك غدا إلا أَن يشاء الله ﴾ المعنى : لا تقولنَّ لشيء : إني فاعل ذلك غدا إلا بالاستثناء : إلا أن تقول : إن شاء الله. ولو أردت : لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك : لا تقل إلا أن يشاء الله كان كأنه أُمر أن يقول إن شاء الله وحدها، فلا بدّ من أن مفتوحة بالاستثناء خاصة ؛ ألا ترى أنك قد تأمره إذا خلف فتقول : قل إن شاء الله، فلما أريدت الكلمة وحدها لم تكن إلا مكسورة.
أي ذلك متاع في الدنيا. والتي في النحل مثله، وهو كقوله ﴿ لم يلبثوا إلا ساعة مِن نهارٍ بلاغ ﴾ كله مرفوع بشيء مضمر قبله إما ( هو ) وإما ( ذاك ).
والإجماع : الإعداد والعزيمة على الأمر. ونصبتَ الشركاء بفعل مضمر ؛ كأنك قلت : فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم. وكذلك هي في قراءة عبد الله. والضمير ها هنا يصلح إلقاؤه ؛ لأن معناه يشاكل ما أظهرت ؛ كما قال الشاعر :
ورأيت زوجك في الوغى | متقلِّدا سيفا ورمحا |
وقد قرأها الحسن ( وشركاؤكم ) بالرفع، وإنما الشركاء ها هنا آلهتهم ؛ كأنه أراد : أَجمِعوا أمركم أنتم وشركاؤكم. ولست أشتهيه لخلافه للكتاب، ولأن المعنى فيه ضعيف ؛ لأن الآلهة لا تعمل ولا تُجْمع وقال الشاعر :
يا ليت شِعرِي والمنى لا تنفع | هل أَغدُوَنْ يوما وأمرِي مُجْمَع |
وقوله ﴿ ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ ﴾ وقد قرأها بعضهم :( ثم أَفْضُوا إلىّ ) بالفاء. فأما قوله ﴿ اقْضُواْ إِلَيَّ ﴾ فمعناه : امضوا إلىّ، كما يقال قد قضى فلان، يراد : قد مات ومضى. وأما الإفضاء فكأنه قال : ثم توجَّهوا إلىّ حتى تصلوا، كما تقول : قد أفضت إلىّ الخلافةُ والوجع، وما أشبهه.
يقول : لم يكونوا ليؤمنوا لك يا محمد بما كذَّبوا به في الكتاب الأوّل، يعنى اللوح المحفوظ.
يقول القائل : كيف أدخل ألف الاستفهام في قوله ( أسحِر هذا ) وهم قد قالوا ( هذا سحر ) بغير استفهام ؟
قلت : قد يكون هذا من قولهم على أنه سحر عندهم وإن استفهموا ؛ كما ترى الرجل تأتيه الجائزة فيقول : أحقّ هذا ؟ وهو يعلم أنه حقّ لا شكّ فيه. فهذا وجه. ويكون أن تزيد الألف في قولهم وإن كانوا لم يقولوها، فيخرج الكلام على لفظه وإن كانوا لم يتكلّموا به ؛ كما يقول الرجل : فلان أعلم منك، فيقول المتكلم : أقلتَ أحدٌ أعلم بذا منّى ؟ فكأنه هو القائل : أأحد أعلم بهذا منى. ويكون على أن تجعل القول بمنزلة الصلة لأنه فضل في الكلام ؛ ألا ترى أنك تقول الرجل : أتقول عندك مال ؟ فيكفيك من قوله أن تقول : ألك مال ؟ فالمعنى قائم ظهرَ القولُ أوْ لم يظهر.
اللفت : الصرف ؛ تقول : ما لفتك عن فلان ؟ أي ما صرفك عنه.
ويقول القائل : كيف قالوا ( وتكون لكما الكِبرياء في الأرض ) فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا صُدِّق صارت مقاليدُ أُمّته ومُلْكُهم إليه، فقالوه على مُلْك ملوكهم من التكبر.
( ما ) في موضع الذي ؛ كما تقول : ما جئت به باطل. وهي في قراءة عبد الله ( ما جِئتم به سِحر ) وإنما قال ( السحر ) بالألف واللام لأنه جواب لكلام قد سبق ؛ ألا ترى أنهم قالوا لِما جاءهم به موسى : أهذا سحر ؟ فقال : بل ما جئتم به السحر. وكل حرف ذكره متكلم نكرة فرددْتَ عليها لفظها في جواب المتكلم زدت فيها ألفا ولاما ؛ كقول الرجل : قد وجدت درهما، فتقول أنت : فأين الدرهم ؟ أو : فأرِني الدرهم. ولو قلت : فأرِني درهما، كنت كأنك سألته أن يريك غير ما وجده.
وكان مجاهد وأصحابه يقرءون : ما جِئتم به آلسحرُ : فيستفهم ويرفع السحر من نِيَّة الاستفهام، وتكون ( ما ) في مذهب أي كأنه قال : أي شيء جئتم به ؟ آلسحر هو ؟ وفي حرف أُبيّ ( ما أتيتم به سحر ) قال الفراء : وأشكّ فيه.
وقد يكون ( ما جئتم به السحرَ ) تجعل السحر منصوبا ؛ كما تقول : ما جِئت به الباطل والزور. ثم تجعل ( ما ) في معنى جزاء و( جِئتم ) في موضع جزم إذا نصبت، وتضمر الفاء في قوله ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ﴾ فيكون جوابا للجزاء. والجزاء لا بدّ له أن يجاب بجزم مثله أو بالفاء. فإن كان ما بعد الفاء حرفا من حروف الاستئناف وكان يرفع أو ينصب أو يجزم صلح فيه إضمار الفاء. وإن كان فعلا أوّله الياء أو التاء أو كان على جهة فَعَل أو فعلوا لم يصلح فيه إضمار الفاء ؛ لأنه يُجزم إذا لم تكن الفاء، ويرفع إذا أدخلت الفاء. وصلح فيما قد جُزِم قبُل أن تكون الفاء لأنها إن دخلت أو لم تدخل فما بعدها جزم ؛ كقولك للرجل : إن شئت فقم ؛ ألا ترى أنّ ( قم ) مجزومة ولو لم يكن فيها الفاء، لأنك إذا قلت إن شئت قم جزمتها بالأمر، فكذلك قول الشاعر :
من يفعلِ الحسناتِ اللّهُ يشكرها | والشرُّ بالشرِّ عِند اللّهِ مِثلانِ |
ففسَّر المفسرون الذرِّيَّة : القليل. وكانوا - فيما بلغنا - سبعين أهل بيت. وإنما سموا الذرّية لأن آباءهم كانوا من القِبط وأمهاتهم كنّ من بنى إسرائيل، فسموا الذرّية ؛ كما قيل لأولاد أهل فارس الذين سقطوا إلى اليمن فسمَّوا ذراريَّهم الأبناء ؛ لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم.
وقوله :﴿ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ﴾، وإنما قال ( وملئهم ) وفرعون واحد لان الملِك إذا ذُكر بخوف أو بسفر أو قدوم من سفر ذهب الوَهْم إليه وإلى من معه ؛ ألا ترى أنك تقول : قدم الخليفة فكثر الناس، تريد : بمن معه، وقدم فغلت الأسعار ؛ لأنك تنوى بقدومه قدوم من معه. وقد يكون أن تريد بفرعون آل فرعون وتحذف الآل فيجوز ؛ كما قال ﴿ واسأل القرية ﴾ تريد أهل القرية والله أعلم. ومن ذلك قوله :﴿ يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ﴾.
كان فرعون قد أمرَ بتهديم المساجد، فأُمِر موسى وأخوه أن يُتَّخذ المساجد في جوف الدور لتخفي من فرعون. وقوله :﴿ وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ﴾ إلى الكعبة.
ثم قال موسى ( ربنا ) فعلت ذلك بهم ( ليُضِلُّوا ) الناس ( عن سبيلك ) وتقرأ ( لَيضِلُّوا ) هم ( عن سبيلك ) وهذه لام كي.
ثم استأنف موسى بالدعاء عليهم فقال :﴿ رَبَّنا اطْمِسْ على أَمْوَالِهِمْ ﴾. يقول : غَيِّرها. فذُكر أنها صارت حجارة. وهو كقوله ﴿ من قبل أن نطمس وجوها ﴾. يقول : نمسخها.
قوله :﴿ وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ ﴾. يقول : واختم عليها.
قوله :﴿ فَلاَ يُؤْمِنُواْ ﴾. كلّ ذلك دعاء، كأنه قال اللهم ﴿ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ وإن شئت جعلت ( فلا يؤمنوا ) جوابا لمسئلة موسى عليه السلام إياه ؛ لأن المسئلة خرجت على لفظ الأمر، فتجعل ( فلا يؤمنوا ) في موضع نصب على الجواب، فيكون كقول الشاعر :
يا ناقَ سِيرِى عَنَقاً فسِيحا | إلى سليمان فنستريحا |
نُسبت الدعوة إليهما وموسى كان الداعي وهارون المؤمِّن، فالتأمين كالدعاء. ويقرأ ( دعواتكما ).
وقوله :﴿ فَاسْتَقِيما ﴾ أُمِرا بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة. ويقال : إنه كان بينهما أربعون سنة.
﴿ قال آمنت أَنه ﴾ قرأها أصحاب عبد الله بالكسر على الاستئناف. وتقرأ ( أنه ) على وقوع الإيمان عليها. زعموا أن فرعون قالها حين ألجمه الماء.
يعنى بنى إسرائيل أنهم كانوا مجتمعين على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبْعث، فلما بُعث كذَّبه بعض وآمن به بعض. فذلك اختلافهم. و( العلم ) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وصفته.
قاله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه غير شاكّ، ولم يشكك عليه السلام فلم يسأل. ومثله في العربية أنك تقول لغلامك الذي لا يشكّ في مُلكك إياه : إن كنت عبدي فاسمع وأطع. وقال الله تبارك وتعالى لنبيه عيسى صلى الله عليه وسلم ﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ﴾ وهو يعلم أنه لم يقله، فقال الموفَّق معتذرا بأحسن العذر :﴿ إن كنت قلتُه فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ﴾.
وهي في قراءة أُبَىّ ( فهلاَّ ) ومعناها : أنهم لم يؤمنوا، ثم استثنى قوم يونس بالنصب على الانقطاع مما قبله : ألا ترى أن ما بعد ( إلاَّ ) في الجحد يتبع ما قبلها، فتقول : ما قام أحد إلا أبوك، وهل قام أحد إلا أبوك ؛ لأن الأب من الأحد ؛ فإذا قلت : ما فيها أحد إلا كلبا وحمارا، نصبت ؛ لأنها منقطعة مما قبلَ إلا ؛ إذْ لم تكن من جنسه، كذلك كان قوم يونس منقطعين من قوم غيره من الأنبياء. ولو كان الاستثناء ها هنا وقع على طائفة منهم لكان رفعا. وقد يجوز الرفع فيها، كما أن المختلِف في الجنس قد يتبع فيه ما بعد إلا ما قبل إلا ؛ كما قال الشاعر :
وبلدٍ ليس به أنيسُ *** إلا اليعافير وإلا العيسُ
وهذا قوة للرفع، والنصب في قوله :﴿ ما لهم به من علم إلا اتِّباعَ الظنِّ ﴾. لأن اتباع الظن لا ينسب إلى العلم. وأنشدونا بيت النابغة :
***...... وما بالربع من أحد ***
*** إلا أَوارىَّ ما إن لا أُبَيِّنها ***
قال الفراء : جمع في هذا البيت بين ثلاثة أحرف من حروف الجحد : لا، وإنْ، وما. والنصب في هذا النوع المختلف من كلام أهل الحجاز، والإتباع من كلام تميم.
العذاب والغضب. وهو مضارع لقوله الرجز، ولعلهما لغتان بدّلت السين زايا كما قيل الأَسْد والأزد.