تفسير سورة الماعون

الدر المصون
تفسير سورة سورة الماعون من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قرأ الكسائي ﴿أرَيْتَ﴾ بسقوطِ الهمزةِ. وقد تقدَّم تحقيقُه في سورة الأنعام. وقال الزمخشري: «وليس بالاختيارِ؛ لأنَّ حَذْفَها مختصٌّ بالمضارعِ، ولم يَصِحَّ عن العرب» رَيْتَ «. والذي سَهَّلَ مِنْ أمرِها وقوعُ حرفِ الاستفهامِ في أولِ الكلامِ ونحوُه:
٤٦٥٦ - صاحِ هل رَيْتَ أو سَمِعْتَ براعٍ رَدَّ في الضَّرْعِ ما قرى في العِلابِ
وفي»
أَرَأَيْتَ «هذه وجهان، أحدهما: أنَّها بَصَرِيَّةُ فتتعدى لواحدٍ
119
وهو الموصولُ، كأنه [قال] : أبْصَرْتَ المكذِّبَ. والثاني: أنَّها بمعنى: أَخْبِرْني، فتتعدى لاثنينِ، فقدَّره الحوفيُّ:» أليس مُسْتَحِقَّاً للعذابِ «. والزمخشريُّ» مَنْ هو «. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبدِ الله» أَرَأَيْتَك «بكافِ الخطابِ والكافُ لا تَلْحْقُ البَصَريَّةَ.
120
قوله: ﴿فَذَلِكَ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنَّ الفاءَ جوابُ ُشرطٍ مقدرٍ، أي: إن تأمَّلْتَه، أو إنْ طَلَبْتَ عِلْمَه فذلك. والثاني: أنَّها عاطفةٌ «فذلك» على «الذي يَكَذِّبُ» إمَّا عَطْفَ ذاتٍ على ذاتٍ، أو صفةٍ على صفةٍ. ويكونُ جوابُ أَرَأَيْتَ «محذوفاً لدلالةِ ما بعدَه عليه. كأنه قيل: أَخْبِرْني، وما تقولُ فيمَنْ يُكَذِّبُ بالجزاءِ وفيمَنْ يُؤْذِي اليتيمَ ولا يُطْعِمُ المسكينَ أنِعْمَ ما يصنعُ؟ فعلى الأولِ يكونُ اسمُ الإِشارةِ في محلِّ رَفْعٍ بالابتداءِ، والخبرُ الموصولُ بعده، وإمَّا على أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: فهو ذاك والموصولُ نعتُه. وعلى الثاني يكونُ منصوباً لِنَسَقِه على ما هو منصوبٌ.
إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّ الثاني فقال:»
فجعل ذلك «في موضعِ نصبٍ عطفاً على المفعولِ، وهو تركيبٌ غريبٌ كقولِك:» أَكرَمْتُ الذي يَزورُنا فذلك الذي يُحْسِنُ إلينا «فالمتبادَرُ إلى الذهنِ أنَّ» فذلك «مرفوعٌ بالابتداء. وعلى تقديرِ النصبِ يكونُ التقديرُ: أَكرمْتُ الذي يزورُنا فأكرَمْتُ ذلك الذي يُحْسِنُ إلينا. فاسمُ الإِشارةِ في هذا التقديرِ غيرُ متمكِّنٍ
120
تَمَكُّنَ ما هو فصيحٌ؛ إذ لا حاجةَ أَنْ يُشارَ إلى الذي يزورُنا؛ بل الفصيحُ: أَكرَمْتُ الذي يزورُنا، فالذي يُحْسِن إلينا، أو أكَرَمْتُ الذي يزورُنا فيُحْسِنُ إلينا. وأمَّا قولُه» إمَّا عَطْفُ ذاتٍ على ذاتٍ «فلا يَصِحُّ لأنَّ» فذلك «إشارةٌ إلى الذي يُكَذِّبُ فليسا بذاتَيْنِ؛ لأنَّ المشارَ إليه ب» ذلك «واحدٌ. وأمَّا قولُه:» ويكونُ جوابُ أرأيتَ محذوفاً «فهذا لا يُسَمَّى جواباً بل هو في موضع المفعولِ الثاني ل» أرَأيْتَ «وأمَّا تقديرُه» أنِعْمَ ما يصنعُ «؟ فهمزةُ الاستفهام لا نعلُم دخولَها على نِعْم ولا بئسَ؛ لأنهما إنشاءٌ، والاستفهامٌ لا يدخلُ إلاَّ على الخبر» انتهى.
والجوابُ عن قولِه: «فاسمُ الإِشارةِ غيرُ ممتكِّنٍ» إلى آخره: أنَّ الفرقَ بينهما أنَّ في الآيةِ الكريمةِ استفهاماً وهو «أرأيْتَ» فحَسُنَ أَنْ يُفَسِّرَ ذلك المُسْتَفْهَمَ عنه، بخلافِ المثالِ الذي مَثَّل به، فمِنْ ثَمَّ حَسُنَ التركيبُ المذكورُ وعن قولِه: «لأنَّ» فذلك «إشارةٌ إلى» الذي يُكَذِّب «بالمنعِ» بل مُشارٌ به إلى ما بعدَه كقولِك: «اضْرِبْ زيداً، فذلك القائمُ» إشارةٌ إلى القائمِ لا إلى زيد، وإنْ كان يجوزُ أَنْ يكونَ إشارةً إليه. وعن قولِه «فلا يسمى جواباً» أنَّ النحاةَ يقولون: جوابُ الاستفهام، وهذا قد تَقَدَّمه استفهامٌ فَحَسُنَ ذلك. وعن قولِه: «والاستفهامُ لا يَدْخُلُ إلاَّ على الخبر» ؛ بالمعارضةِ بقولِه تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ﴾ [محمد: ٢٢] فإنَّ «عسى» إنشاءٌ، فما كان جواباً له فهو جوابٌ لنا.
وقرأ العامَّةُ بضمِّ الدال وتشديد العينِ مِنْ دَعَّه، أي: دَفَعه وأمير المؤمنين والحسن وأبو رجاء «يَدَعُ» بفتحِ الدالِ وتخفيفِ العين،
121
أي: يَتْرُكُ ويُهْمِلُ وزيدُ بن علي «ولا يُحاضُّ» مِن المَحَاضَّةُ وتقدَّم في الفجر.
122
قوله: ﴿لِّلْمُصَلِّينَ﴾ خبرٌ لقولِه: «فوَيْلٌ» والفاءُ للتسَبُّبِ، أي: تَسَبَّبَ عن هذه الصِّفاتِ الذَّميمةِ الدعاءُ عليهم بالوَيْلِ لهم. قال الزمخشري بعد قولِه: «كأنَّه قيل: أخْبِرْني، وما تقول فيمَنْ يُكذِّبُ بالدين إلى قوله: أنِعْمَ ما يصنعُ» ثم قال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾، أي: إذا عُلِمَ أنَّه مُسِيْءٌ فوَيْلٌ للمُصَلِّيْنَ على معنى فوَيْلٌ لهم، إلاَّ أنَّه وَضَعَ صفتَهم موضعَ ضميرِهم، لأنهم كانوا مع التكذيب وما أُضيفَ إليه ساهين عن الصلاة مُرائين غيرَ مُزكِّيْنَ أموالَهم. فإنْ قلتَ: كيف جَعَلْتَ المُصَلِّين قائماً مَقامَ ضميرِ الذي يُكَذِّبُ وهو واحدٌ؟ قلت: لأنَّ معناه الجمعُ، لأنَّ المرادَ به الجنسُ «.
قال الشيخ:»
وأمَّا وَضْعُه المُصَلِّين موضعَ الضميرِ، وأنَّ المُصَلِّيْنَ جمعٌ؛ لأنَّ ضميرَ الذي يُكذِّبُ معناه الجمعُ فتكلُّفٌ واضحٌ. ولا يَنْبغي أَنْ يُحْمَلَ القرآنُ إلاَّ على ما عليه الظاهرُ، وعادةُ هذا الرجلِ تكلُّفُ اشياءَ في فَهْمِ القرآنِ ليسَتْ بواضحةٍ «انتهى. قلت: وعادةُ شيخِنا - رحمه الله - التَّحامُل على الزمخشري حتى يَجْعلَ حسَنَه قبيحاً. وكيف يُرَدُّ ما قاله وفيه ارتباطُ الكلامِ بعضِه ببعضٍ، وجَعْلُه شيئاً واحداً، وما تضمَّنه من المبالغةِ في الوعيدِ في إبرازِ وَصْفِهم الشَّنيعِ؟ ولا يُشَكُّ أنَّ الظاهرَ من الكلامِ أن
122
السورةَ كلَّها في وصفِ قومٍ جَمَعوا بين هذه الأوصافِ كلِّها: من التكذيبِ بالدِّين ودَفْعِ اليتيمِ وعَدَمِ الحَضِّ على طعامِه، والسَّهْوِ في الصلاة، والمُراءاةِ ومَنْعِ الخيرِ.
123
قوله: ﴿الذين هُمْ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعَ المَحَلِّ، وأَنْ يكونَ منصوبَه، وأَنْ يكونَ مجرورَه تابعاً. نعتاً أو بدلاً أو بياناً، وكذلك الموصولُ الثاني، إلاَّ أنَّه يُحْتمل أَنْ يكونَ تابعاً للمُصَلِّيْنَ، وأَنْ يكونَ تابعاً للموصولِ الأولِ. وقوله: «يُراؤُون» أصلُه يُرائِيُوْنَ كيُقاتِلون. ومعنى المُراءاة، أنَّ المُرائيَ يُري الناسَ عملَه، وهم يُرُونَه الثناءَ عليه، فالمفاعَلَةُ فيها واضحةٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
وقوله :﴿ يُراؤُون ﴾ أصلُه يُرائِيُوْنَ كيُقاتِلون. ومعنى المُراءاة، أنَّ المُرائيَ يُري الناسَ عملَه، وهم يُرُونَه الثناءَ عليه، فالمفاعَلَةُ فيها واضحةٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
قوله: ﴿الماعون﴾ : أوجهٌ، أحدُها: أنه فاعُول من المَعْنِ وهو الشيءُ القليل. يُقال: «مالُه مَعْنَةٌ» أي: قليلٌ، قاله قطرب. الثاني: أنَّه اسمُ مفعولٍ مِنْ أعانه يُعينه. والأصلُ: مَعْوُوْن. وكان مِنْ حَقِّه على هذا أَنْ يقال: مَعُوْن كمَقُوْل ومَصُون اسمَيْ مفعول مِنْ قال وصان، ولكنه قُلِبَتِ الكلمةُ: بأنْ قُدِّمَتْ عينُها قبل فائِها فصار مَوْعُوْن، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ألفاً كقولِهم «تابَةٌ» و «صامَةٌ» في تَوْبة وصَوْمَة، فوزنُه الآن مَعْفُوْل. وفي هذا الوجه شذوذٌ من ثلاثةِ أوجهٍ، أوَّلُها: كَوْنُ
123
مَفْعول جاء من أَفْعَل وحقُّه أَنْ يكونَ على مُفْعَل كمُكْرَم فيقال: مُعان كمُقام. وإمَّا مَفْعول فاسمُ مفعولِ الثلاثي. الثاني: القَلْبُ وهو خلافُ الأصلِ: الثالث: قَلْبُ حرفِ العلةِ ألفاً، وإنْ لم يتحرَّكْ، وقياسُه على تابة وصامة بعيدٌ لشذوذِ المَقيسِ عليه. وقد يُجاب عن الثالث: بأنَّ الواوَ متحركةٌ في الأصل قبل القلبِ فإنه بزنةِ مَعْوُوْن.
الثالث: من الأوجه الأُوَل: أنَّ أصله مَعُوْنَة والألفُ عوضٌ من الهاء، ووزنُه مَفُعْل كمَلُوْم ووزنُه بعد الزيادة: ما فُعْل. واختلفَتْ عباراتُ أهلِ التفسير فيه، وأحسنُها: أنَّه كلُّ ما يُستعان به ويُنتفع به كالفَأْس والدَّلْوِ والمِقْدحة وأُنْشِد قولُ الأعشى:
٤٦٥٧ - بأَجْوَدَ مِنْه بماعُوْنِه إذا ما سماؤُهمُ لم تَغِمّْ
ولم يَذْكُرِ المفعولَ الأولَ للمَنْع: إمَّا للعِلْمِ به، أي: يَمْنعون الناسَ أو الطالبين، وإمَّا لأنَّ الغَرَضَ ذِكْرُ ما يمنعونه لا مَنْ يمنعون، تنبيهاً على خساسَتِهم وضَنِّهم بالأشياءِ التافهةِ المُسْتَقْبَحِ مَنْعُها عند كلِّ أحدٍ.
124
Icon