تفسير سورة هود

نيل المرام تفسير آيات الأحكام
تفسير سورة سورة هود من كتاب نيل المرام من تفسير آيات الأحكام المعروف بـنيل المرام تفسير آيات الأحكام .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

سورة هود وآياتها مائة وثلاث وعشرون آية
مكيّة في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وغيرهم «١».
قال ابن عباس وقتادة: إلا آية «٢»، وهي قوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ.
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اقرؤوا [هود] «٣» يوم الجمعة».
أخرجه الدارمي وأبو داود في «مراسيله» وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر والبيهقي في «الشعب» عن كعب «٤».
[الآية الأولى]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣).
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا: فسّر الأئمة من رواة اللغة الركون: بمطلق الميل والسكون من غير تقييد بما قيد به صاحب «الكشاف» حيث قال: إن الركون هو الميل اليسير، وهكذا فسّره المفسرون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد، إلا من كان من المتقيدين بما ينقله صاحب «الكشاف».
ومن المفسرين من ذكر في تفسيره للركون قيودا لم يذكرها أئمة اللغة.
(١) انظر: الطبري (١١/ ١٢٢)، وزاد المسير (٤/ ٧٤).
(٢) انظر: الطبري (١١/ ١٢٣)، زاد المسير (٤/ ٧٥).
(٣) ما بين [] حرّف لهود وهو خطأ واضح.
(٤) إسناده ضعيف: رواه الدارمي (٣٤٠٤)، وأبو داود في «مراسيله» (٥٩) عن كعب بن ماتع مرفوعا.
وعلته: إرسال كعب الأحبار فروايته للحديث مرسلا، وانظر: التهذيب (٨/ ١٩٣).
350
قال القرطبي في «تفسيره» «١» : الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، ومن أئمة التابعين من فسّر الركون بما هو بعض من معناه اللغوي:
فروي عن قتادة وعكرمة في تفسير الآية: إن معناها لا تودوهم ولا تطيعوهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير الآية: الركون هنا الإدهان، وذلك أن لا ينكر عليهم كفرهم.
وقال أبو العالية: معناه لا ترضوا أعمالهم «٢».
وقد اختلف أيضا الأئمة من المفسرين في هذه الآية: هل هي خاصة بالمشركين؟
وأنهم المرادون بالذين ظلموا؟ وقد روي ذلك عن ابن عباس.
وقيل: إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، وهذا هو الظاهر من الآية. ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون لكان الاعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
فإن قلت: قد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر، الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثبوتا لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة، بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح: «أطيعوا السلطان وإن كان عبدا حبشيا رأسه كالزبيبة» «٣».
وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة «٤»، وما لم يظهر منهم الكفر البواح «٥»، وما لم يأمروا بمعصية الله «٦».
(١) انظره في (٩/ ١٠٨).
(٢) انظر: الطبري (١٢/ ١٢٨)، الدر المنثور (٣/ ٣٥١). [.....]
(٣) حديث صحيح: رواه البخاري (٢/ ١٨٤، ١٨٨)، (١٣/ ١٢١)، ومسلم (١٢/ ٢٢٥)، عن أنس مرفوعا.
(٤) حديث صحيح: رواه مسلم (١٢/ ٢٤٤) عن عوف بن مالك مرفوعا، وفيه: «لا ما أقاموا الصلاة».
(٥) حديث صحيح: رواه البخاري (١٣/ ٥)، ومسلم (١٢/ ٢٢٨)، عن عبادة مرفوعا وفيه: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان».
(٦) حديث صحيح: رواه البخاري (١٣/ ١٢١، ١٢٢)، ومسلم (١٢/ ٢٢٦)، عن عبد الله بن عمر مرفوعا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».
351
وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مرتبة، وفعلوا أعظم أنواعه مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح، فإن طاعتهم واجبة، حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله.
ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية الله.
ومن جملة ما يأمرون به الجهاد وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم وإقامة الحدود على من وجبت عليه.
وبالجملة فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم، فكل ما يأمرون به مما لم يكن من معصية الله، ولا بد في مثل هذا من المخالطة لهم والدخول عليهم ونحو ذلك مما لا بد منه، ولا محيص عن هذا الذي ذكرناه من وجوب طاعتهم بالقيود المذكورة لتواتر الأدلة الواردة به بل وقد ورد به الكتاب العزيز: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: ٥٩]، بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الإطاعة وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا، كما في بعض الأحاديث الصحيحة: «أعطوهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم» «١».
بل ورد الأمر بطاعة السلطان وبالغ في ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى قال: «وإن أخذ مالك وضرب ظهرك» «٢».
وإن اعتبرنا مطلق الميل والسكون، فمجرد هذه الطاعة المأمور بها مع ما يستلزمه من المخالطة عن ميل وسكون، وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهرا وباطنا، فلا يتناول النهي في هذه الآية من مال إليهم في الظاهر بأمر يقتضي ذلك شرعا، كالطاعة أو للتقيّة مخافة الضرر منهم، أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة، أو لدفع مفسدة عامة أو خاصة، إذا لم يكن له ميل إليهم في الباطن ولا محبة ولا رضا بأفعالهم.
قلت: أما الطاعة على عمومها لجميع أقسامها- حيث لم تكن في معصية الله- فهي على فرض صدق مسمى الركون عليها مخصّصة لعموم النهي عنه، ولا شك في هذا
(١) حديث صحيح: رواه الباري (٦/ ٦١٢)، (١٣/ ٥)، ومسلم (١٢/ ٢٣١، ٢٣٢) عن ابن مسعود مرفوعا نحوه.
(٢) حديث صحيح: رواه مسلم (١٢/ ٢٣٧، ٢٣٨)، عن حذيفة مرفوعا.
352
ولا ريب، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من الأعمال التي أمرها إليهم- مما لم يكن من معصية الله كالمناصب الدينية ونحوها- إذا وثق من نفسه بالقيام إلى ما وكل إليه فذلك واجب عليه، فضلا عن أن يقال جائز له.
وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة، فذلك مقيد بعدم وقوع الأمر ممن تجب طاعته من الأئمة والسلاطين والأمراء، جمعا بين الأدلة أو مع ضعف المأمور عن القيام بما أمر به، كما ورد تعليل النهي عن الدخول في الإمارة بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة «١».
وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة، أو دفع مفسدة عامة أو خاصة، مع كراهة ما هم عليه من الظلم وعدم ميل النفس إليها، ومحبتها لهم، وكراهة الموصلة لهم- لولا جلب تلك المصلحة، أو دفع تلك المفسدة- فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد، والأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، ولا تخفى على الله خافية.
وبالجملة: فمن ابتلي بمخالطة من فيه ظلم، فعليه أن يزن أقواله وأفعاله وما يأتي وما يذر بميزان الشرع، فإن زاغ عن ذلك فعلى نفسها براقش تجني، ومن قدر على الفرار منهم، قبل أن يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته فهو الأولى والأليق به.
يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، الذين لا يخافون فيك لومة لائم وقوّنا على ذلك، ويسره لنا، وأعنا عليه.
قال القرطبي في «تفسيره» «٢» : وصحبة الظالم على التقيّة مستثناه من النهي بحال الاضطرار. انتهى.
وقال النيسابوري في «تفسيره» «٣» : قال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة، أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك
(١) حديث صحيح: ما رواه مسلم (١٢/ ٢١٠) عن أبي ذر مرفوعا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تأمرن اثنين، ولا تولين مال يتيم».
(٢) انظره في (٩/ ١٠٨).
(٣) المسمّى بالتيسير في عالم «التفسير» لعبد الملك بن هوازن- طبع بدار الغرب- بيروت ٣ مجلدات.
353
الأبواب. فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب مصلحة عاجلة فغير داخلة في الركون.
قال: وأقول: هذا من طريق المعاش والرخصة، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية. أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: ٣٦] انتهى.
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ: بسبب الركون إليهم وفيه إشارة إلى أن الظلمة أهل النار أو كالنار، ومصاحبة النار توجب لا محالة مس النار.
354
Icon