ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله جل وعلا :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ﴾[ البقرة : الآيات ٤٥ _ ٤٨ ].﴿ استعينوا ﴾ استفعال من العون، وياؤه مبدلة من واو، أصله :( استعونوا ) تحركت الواو بعد ساكن صحيح ؛ فوجب نقل حركتها إلى الساكن الصحيح، على حد قوله في الخلاصة :
لساكن صح انقل التحريك من | ذي لين ات عين فعل كأبن |
﴿ بالصبر و الصلاة ﴾ الصبر : مصدر صبر صبرا، وهذه المادة تتعدى وتلزم، فمن تعديها في القرآن ﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم ﴾ الآية [ الكهف : ٢٨ ]، ومن لزومها في القرآن ﴿ يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ﴾ الآية [ آل عمران : آية ٢٠٠ ]، ﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾ [ الشورى : آية ٤٣ ]. وقال بعض العلماء : هي متعدية دائما إلا أنها يكثر حذف مفعولها، ومن تعديها في كلام العرب قول عنترة، وقيل أبو ذؤيب :
فصبرت عارفة لذلك حرة*** ترسو إذا نفس الجبان تطلع
والصبر خصلة من خصال الخير عظيمة، صرح الله في سورة فصلت أنه لا يعطيها لكل الناس، وإنما يعطيها لصاحب الحظ الأكبر، والنصيب الأوفر، وذلك في قوله :﴿ وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ﴾ [ فصلت : آية ٣٥ ].
وهذه الخصلة التي هي الصبر لا يعلم جزاءها إلا الله، كما قال جل وعلا :﴿ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾ [ الزمر : آية ١٠ ]، والصائمون من خيار الصابرين، ولذا قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : " إلا الصوم فهو لي، وأنا أجزي به ".
والصبر يتناول الصبر على طاعة الله، وإن كنت كالقابض على الجمر، والصبر عن معصية الله، وإن اشتعلت نار الشهوات، ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عند الصدمة الأولى، والصبر على الموت تحت ظلال السيوف.
وقوله :﴿ و الصلاة ﴾ أي : واستعينوا بالصلاة ؛ لأن الصلاة نعم المعين على نوائب الدهر، وعلى خير الدنيا والآخرة ؛ كما قال تعالى :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ الآية :[ العنكبوت : آية ٤٥ ]، وقال جل وعلا :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعقبة للتقوى ﴾ [ طه : آية ١٣٢ ] وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى وروي عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أنه نعي له أخوه قثم، فأناخ راحلته وصلى، وتلا :﴿ واستعينوا بالصبر و الصلاة ﴾ [ البقرة : آية ٤٥ ] يستعين بالصبر والصلاة على صبر مصيبة أخيه.
ولا شك أن لطالب العلم هنا سؤالا وهو أن يقول : أما الاستعانة بالصبر على أمور الدنيا والآخرة فهي أمر واضح لا إشكال فيه ؛ لأن من حبس نفسه على مكروهها في طاعة الله، كان ذلك أكبر معين على الطاعة، ولكن ما وجه الاستعانة بالصلاة على أمور الدنيا والآخرة ؟
الجواب : أن الصلاة هي أكبر معين على ذلك ؛ لأن العبد إذا وقف بين يدي ربه، يناجي ربه ويتلو كتابه، تذكر ما عند الله من الثواب، وما لديه من العقاب فهان في عينه كل شيء، وهانت عليه مصائب الدنيا، واستحقر لذاتها، رغبة فيما عند الله، ورهبة مما عند الله.
ثم إن الله قال جل وعلا :﴿ وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ﴾ [ البقرة : آية ٤٥ ] للعلماء في مرجع الضمير في ﴿ وإنها ﴾ أقوال كثيرة، منها : أنه راجع إلى الاستعانة، المفهوم من قوله :﴿ واستعينوا ﴾. ومنها : أنه راجع إلى المذكورات في الآية قبل هذا، والتحقيق : أنه راجع إلى الصلاة، والمعنى :﴿ وإنها ﴾ أي : الصلاة ﴿ لكبيرة ﴾ أي : عظيمة شاقة على كل أحد ﴿ إلا على الخاشعين ﴾، والصبر كذلك على المصائب وعلى طاعة الله وعن معاصي الله، كبير جدا إلا على الخاشعين، والظاهر أن الضمير إنما رجع لأحد المتعاطفين اكتفاء به عن الآخر ؛ لأن مثل ذلك يفهم في الآخر، وهذا يكثر في القرآن، وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله هنا :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها ﴾ [ البقرة : آية ٤٥ ]، ونظيره :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ﴾ الآية [ التوبة : آية ٣٤ ]، وقوله :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ [ التوبة : آية ٦٢ ] ولم يقل : يرضوهما.
وقوله جل وعلا :﴿ يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه ﴾ [ الأنفال : آية ٢٠ ] ولم يقل : عنهما. ونظيره من كلام العرب قول حسان بن ثابت :
إن شرخ الشباب والشعر الأس ود ما لم يعاص كان جنونا
ولم يقل : " ما لم يعاصيا ".
وقول نابغة ذبيان :
وقد أراني ونعما لاهيين بها*** والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
وقول الأضبط بن قريع، وقيل كعب بن زهير :
لكل هم من الهموم سعة*** والمسي والصبح لا فلاح معه
ولم يقل : " لا فلاح معهما ".
والكبيرة هنا : وصف من ( كبر ) بضم الباء، ( يكبر ) بضمها، إذا عظم وشق وثقل، ومنه قوله :﴿ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ﴾ [ الشورى : آية ١٣ ] وهذا النوع في المعاني من ( كبر الأمر ) إذا شق وثقل، أو ( كبر ) بمعنى ( عظم )، كقوله :﴿ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ﴾ [ الصف : آية ٣ ] يكبر الأمر فهو كبير، مضموم في الماضي، تقول : كبر يكبر فهو كبير. كما بينا.
أما كبر السن : ففعله ( كبر ) بكسر الباء ( يكبر ) بفتحها على القياس، وهو معروف، ومن أمثلته قول قيس المجنون :
تعشقت ليلى وهي ذات ذوائب***ولم يبد للعينين من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا***إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
والاستثناء في قوله :﴿ إلا على الخاشعين ﴾ [ البقرة : آية ٤٥ ] استثناء مفرغ، وأصل تقرير المعنى :﴿ وإنها لكبيرة ﴾ أي : ثقيلة عظيمة شاقة على كل أحد ﴿ إلا على الخاشعين ﴾، والخاشعون جمع : الخاشع، وهو الوصف من : خشع. وأصل الخشوع في لغة العرب : الانخفاض في طمأنينة، كل منخفض مطمئن تسميه العرب : خاشعا، ومنه قول نابغة ذبيان :
توهمت آيات لها فعرفتها*** لستة أعوام وذا العام سابع
رماد ككحل العين لأيا أبينه*** ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
أي : منخفض مطمئن، هذا أصل الخشوع في لغة العرب.
وهو في اصطلاح الشرع : خشية تداخل القلوب، تظهر آثارها على الجوارح، فتنخفض وتطمئن خوفا من خالق السماوات والأرض.
والمعنى : أن الصلاة صعبة شاقة على غير من في قلوبهم الخوف من الله، ويدل لذلك شدة عظمها على المنافقين، كما قال جل وعلا :﴿ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ﴾ [ النساء : آية ١٤٢ ] وقال جل وعلا :﴿ فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ﴾ [ الماعون : الآيتان ٥، ٤ ].
والظن هنا معناه اليقين، على التحقيق، خلافا لمن شذ فزعم أنه الظن المعروف، وأن المتعلق محذوف، والمعنى : يظنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوب، فهم وجلون من تلك الذنوب. فهذا غير ظاهر، ولا يجوز حمل القرآن عليه وإن قال به بعض العلماء. والتحقيق أن معنى ﴿ يظنون ﴾ : يوقنون، وقد تقرر في علم العربية أن الظن يطلق في العربية وفي القرآن إطلاقين :
يطلق الظن بمعنى اليقين، ومنه قوله هنا :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ﴾ [ البقرة : آية ٤٦ ] أي : يوقنون، ومنه بهذا المعنى :﴿ إني ظننت أني ملاق حسابيه ﴾ [ الحاقة : آية ٢٠ ] أي أيقنت أنني ملاق حسابيه، ومنه قوله تعالى :﴿ ورءا المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ﴾ [ الكهف : آية ٥٣ ] أي : أيقنوا أنهم مواقعوها... إلى غير ذلك من الآيات. ومن أمثلة إطلاق العرب الظن على اليقين قول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج*** سراتهم في الفارسي المسرد
فقوله : " ظنوا " أي : أيقنوا.
وقول عميرة بن طارق :
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم*** وأجعل مني الظن غيبا مرجما
أي : أجعل مني اليقين غيبا مرجما، فمعنى ﴿ يظنون ﴾ أي : يوقنون.
﴿ أنهم ملاقوا ربهم ﴾ [ البقرة : آية ٤٦ ] و ﴿ ملاقوا ﴾ أصله ( ملاقيون ) ( مفاعلون ) منقوص، والمنقوص تحذف ياؤه عند التصحيح، وحذفت نون ( ملاقون ) للإضافة، أي : ملاقو ربهم. والمراد بهذه الملاقاة : أنهم يعرضون على ربهم يوم القيامة، فيجازيهم على أعمالهم، كما قال تعالى :﴿ يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ﴾ [ الحاقة : آية ١٨ ] وقال ( جل وعلا ) :﴿ من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت ﴾ الآية [ العنكبوت : آية ٥ ].
وقوله :﴿ وأنهم إليه راجعون ﴾ [ البقرة : آية ٤٦ ] أي : يوقنون أنهم أيضا إليه راجعون ( جل وعلا ) يوم القيامة فمجازيهم على أعمالهم، وقدم المعمول الذي هو الجار والمجرور في قوله :﴿ إليه راجعون ﴾ لأمرين، أحدهما : المحافظة على رؤوس الآي، والثاني : الحصر، وقد تقرر في فن الأصول في مبحث دليل الخطاب – أعني مفهوم المخالفة - : أن تقديم المعمول من أدوات الحصر، وكذلك تقرر في فن المعاني في مبحث القصر أن تقديم المعمول من أدوات الحصر، وهذا معنى قوله :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ﴾ [ البقرة : آية ٤٦ ].
وقوله :﴿ اذكروا نعمتي ﴾ المراد بالذكر هنا : ذكر يحمل على الشكر، ومن شكر تلك النعمة المأمور به : تصديق النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه فيما جاء به. و ﴿ نعمتي ﴾ اسم جنس مضاف إلى معرفة، واسم الجنس إذا أضيف إلى معرفة فهو من صيغ العموم كما تقرر في الأصول، فمعنى نعمتي : أي : نعمي، كقوله :( وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ) [ النحل : آية ١٨ ] أي : نعم الله لا تحصوها، وكقوله :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ﴾ [ النور : آية ٦٣ ] أي : أوامره، ومن هذه النعم التي ذكرهم بها حملا على شكرها : إنجاؤهم من عدوهم فرعون، وإغراق عدوهم وهم ينظرون، ومنها : تظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى، وتفجير الماء من الحجر... إلى غير ذلك مما قص الله في كتابه.
وجرت العادة في القرآن أن الله يمتن على الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالنعم التي صدرت من أسلافهم الماضين، وكذلك يعيبهم بالمعائب التي صدرت من أسلافهم الماضين ؛ لأنهم أمة واحدة ؛ ولأن الأبناء يتشرفون بفضائل الآباء، فكأنهم شيء واحد. ولذلك كان ( جل وعلا ) يمتن على هؤلاء بنعمه على الأسلاف، وكذلك يعيبهم بما صدر من الأسلاف ؛ لأنهم جماعة واحدة.
وقوله :﴿ التي أنعمت عليكم ﴾ أي : التي أنعمتها عليكم، كإنزال المن والسلوى، وتظليل الغمام، والإنجاء من فرعون... إلى غير ذلك.
﴿ وأني فضلتكم على العالمين ﴾ المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في محل نصب عطفا على ﴿ نعمتي ﴾، أي : اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم على العالمين. و " العالمون " : جمع عالم، وهو يطلق على ما سوى الله. والدليل على أنه يشمل أهل السماء والأرض من المخلوقين : قوله ( جل وعلا ) :﴿ قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ﴾ [ الشعراء : الآيتان ٢٣، ٢٤ ] والعالم : اسم جنس يعرب إعراب الجمع المذكر السالم. وقوله هنا :﴿ فضلتكم على العالمين ﴾ أي : على عالم زمانكم الذي أنتم فيه. فلا ينافي أن هذه الأمة التي هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم، كما نص الله على ذلك في قوله :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ [ آل عمران، آية ١١٠ ] وفي حديث معاوية بن حيدة القشيري ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ". ومن الآيات المبينة لفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمة موسى أنه قال في أمة موسى :﴿ منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ﴾ [ المائدة : آية ٢٢ ] فجعل أعلى مراتبهم الفئة المقتصدة، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقسمهم إلى ثلاث طوائف، وجعل فيهم طائفة أكمل من الطائفة المقتصدة، وذلك في قوله في فاطر :﴿ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ﴾ [ فاطر : آية ٣٢ ] فجعل فيهم سابقا بالخيرات، وهو أعلى من المقتصد، ووعد الجميع بظالمهم ومقتصدهم وسابقهم بجنات عدن في قوله :﴿ جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ﴾ [ فاطر : آية ٣٣ ] وقال بعض العلماء : حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين. يعني : واو ﴿ يدخلونها ﴾ ؛ لأنه وعد من الله صادق، شامل بظاهره الظالم والمقتصد والسابق.
وفي الآية سؤال معروف وهو أن يقال : ما الحكمة في تقديم الظالم لنفسه في الوعد بجنات عدن وتأخير السابق ؟ وللعلماء عن هذا أجوبة معروفة، منها : أنه قدم الظالم لئلا يقنط، وأخر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط. وقال بعض العلماء : أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم، فبدأ بهم لأكثريتهم.
ومما يدل على أفضلية أمة محمد صلى الله عليه وسلم على بني إسرائيل : أن الابتلاء الذي يظهر به الفضل وعدمه إنما يكون بخوف أو طمع، وقد ابتلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بخوف، وابتلاهم بطمع، وابتلى بني إسرائيل بخوف، وابتلاهم بطمع، أما الخوف الذي ابتلى الله ( جل وعلا ) به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : فهو أنهم لما غزوا غزاة بدر، وساحل أبو سفيان بالعير، واستنفر لهم النفير، وجاءهم الخبر بأن العير سلمت، وأن الجيش أقبل إليهم، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال له المقداد بن عمرو ( رضي الله عنه ) : والله لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا من دونه معك، ولو خضت بنا هذا البحر لخضناه، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى :﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ﴾ [ المائدة : آية ٢٤ ]، بل إنا معك مقاتلون. ولما أعاد الكلام قال له سعد بن معاذ ( رضي الله عنه ) : كأنك تعنينا معاشر الأنصار – لأنهم اشترطوا عليه ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، بشرط أن يكون في داخل المدينة، ولم يشترط عليهم خارج المدينة – فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعنيهم فقال كلامه المعروف المأثور، قال : " والله إنا لقوم صبر في الحرب، صدق عند اللقاء، والله ما نكره أن تلقى بنا عدوك حتى ترى منا ما يقر عينك، والله لقد تخلف عنك أقوام لو علموا أنك تلقى كيدا ما تخلف عنك منهم رجل ".
بخلاف بني إسرائيل لما امتحنوا بخوف كهذا صدر منهم ما ذكره الله في سورة المائدة في قوله :﴿ إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ﴾ [ المائدة : آية ٢٢ ] وقالوا له :﴿ إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ﴾ [ المائدة : آية ٢٤ ].
كذلك ابتلى بني إسرائيل بصيد السمك المذكور في الأعراف، المشار له في البقرة :﴿ وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٣ ] فحداهم القرم والطمع في أكل الحوت إلى أن اعتدوا في السبت، فمسخهم الله قردة. وقد امتحن الله ( جل وعلا ) أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية بالصيد وهم محرمون، فهيأ لهم جميع أنواع الصيد، من الوحوش، والطير، من كبارها وصغارها، ولم يعتد رجل منهم، ولم يصد في الإحرام، كما بينه ( جل وعلا ) بقوله :﴿ يأيها الذين ءامنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب ﴾ [ المائدة : آية ٩٤ ]، فما مد رجل منهم يده إلى صيد.
فظهر بهذا أن كلتا الأمتين امتحنت بصيد، وأن هؤلاء اعتدوا على ذلك الصيد فمسخوا قردة، وأن أولئك اتقوا الله.
كذلك امتحنوا بخوف من عدو فصبر هؤلاء وثبتوا، وخاف هؤلاء وجبنوا، فدل هذا على أنهم أفضل منهم، وهذا مما لا خلاف فيه، وهذا مما يبين أن قوله :﴿ وأني فضلتكم على العالمين ﴾ أن المراد : عالم زمانهم. وقال بعض العلماء : هو نوع من التفضيل آخر لا يعارض أشرفية هذه الأمة وأفضليتها عليهم، وهو كثرة الرسل فيهم ؛ لأن الأنبياء أكثر فيهم منهم في غيرهم، وكثرة الأنبياء فيهم لا تجعلهم أفضل من هذه الأمة، بل هذه الأمة أفضل منهم وإن كانت الأنبياء فيها إنما جاءها نبي واحد صلى الله عليه وسلم. وهذا معنى قوله :﴿ وأني فضلتكم على العالمين ﴾.
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه*** فتناولته واتقتنا باليد
يعني : استقبلتنا بيدها جاعلة إياها وقاية بيننا وبين رؤية وجهها.
والاتقاء في اصطلاح الشرع : هو جعل الوقاية دون سخط الله وعذابه، تلك الوقاية هي امتثال أمره، واجتناب نهيه ( جل وعلا ).
والمراد باتقاء اليوم : اتقاء ما يكون فيه من الأهوال والأوجال ؛ لأن القرآن بلسان عربي مبين، والعرب تعبر بالأيام عما يقع فيها من الشدائد، ومنه :﴿ هذا يوم عصيب ﴾ [ هود : آية ٧٧ ] أي : لما فيه من الشدة، وهذا معنى قوله :﴿ واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ﴾ [ البقرة : آية ٤٨ ] و( اليوم ) مفعول به ل " اتقوا ". وقيل : المفعول محذوف، واليوم ظرف. أي : اتقوا العذاب يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا. وقوله :﴿ لا تجزى نفس عن نفس شيئا ﴾ [ البقرة : آية ٤٨ ] الجملة نعت لليوم، وقد تقرر في العربية : أن الجمل تنعت بها النكرات ؛ كما عقده في الخلاصة بقوله :
ونعتوا بجملة منكرا*** فأعطيت ما أعطيته خبرا
ولطالب العلم أن يقول : أين الرابط الذي يربط بين الجملة التي هي وصف وبين المنعوت ؟
الجواب : أنه اختلف في تقديره على قولين : أحدهما أن العائد ( واتقوا يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا ) فالعائد هو : المجرور المحذوف هو وحرف الجر.
وقال بعض العلماء : حذف حرف الجر فوصل العامل إلى الضمير بعد حذف حرف الجر، ثم حذف، وعليه فالتقدير :( واتقوا يوما لا تجزيه نفس عن نفس شيئا ) بحذف الفاء، وعلى كل حال فحذف الضمير الرابط للجملة التي هي وصف للنكرة الموصوفة موجود في كلام العرب، ومن أمثلته في كلام العرب قول الشاعر :
وما أدري أغيرهم تناء*** وطول العهد أم مال أصابوا
فجملة ( أصابوا ) نعت للنكرة التي هي ( مال ) والعائد محذوف، وتقرير المعنى :( أم مال أصابوه ). وقوله :﴿ لا تجزى نفس عن نفس شيئا ﴾ أي : لا تقضي عنها حقا وجب عليها، ولا تدفع عنها عذابا حق عليها، أما تفسير من فسر ﴿ تجزى ﴾ ب ( تغني ) فهو إنما يتمشى على قراءة من قرأ ﴿ تجزي ﴾ بصيغة الرباعي ؛ لأنها هي التي تأتي بمعنى الإغناء، وتقرير المعنى :( واتقوا يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا ) أي : لا تقضي نفس عن نفس حقا وجب عليها، ولا تدفع عنها عذابا حق عليها، والرابط المحذوف محذوف من الجمل المعطوفة على الجمل النعتية. وتقرير المعنى :( لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا ولا يقبل فيه شفاعة، ولا يؤخذ فيه عدل، ولا هم ينصرون فيه ) فالرابط محذوف من الجمل المعطوفة على الجملة التي هي وصف، وتقرير المعنى :( واتقوا يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا )، أي : لا تقضي نفس عن نفس شيئا أي : حقا وجب عليها، ولا تدفع عنها عذابا حق عليها، وعلى هذا التقرير ف ﴿ شيئا ﴾ مفعول به ل ﴿ تجزي ﴾، وقال بعض العلماء :﴿ شيئا ﴾ في محل المصدر، أي : لا تجزي عنها شيئا، أي : جزاء قليلا ولا كثيرا.
وقوله :﴿ ولا يقبل منها شفاعة ﴾ فيه قراءتان سبعيتان : قراءة أكثر السبعة ﴿ ولا يقبل منها شفاعة ﴾ والتذكير في قوله :﴿ يقبل ﴾ لأمرين : أحدهما : أن تأنيث الشفاعة تأنيث غير حقيقي. الثاني : الفصل الذي بين الفعل وفاعله، والفصل يبيح ترك التاء، كما عقده في الخلاصة بقوله :
وقد يبيح الفصل ترك التاء في*** نحو أتى القاضي بنت الواقف
والشفاعة في الاصطلاح : هي التوسط للغير في جلب مصلحة أو دفع مضرة، وأصلها من الشفع الذي هو ضد الوتر ؛ لأن صاحب الحاجة كان فردا في حاجته فلما جاءه الشفيع صار شفعا، أي : اثنين، صاحب الحاجة ومن يتوسط له فيها، هذا [ أصل ] معنى الشفاعة، والشفاعة في الدنيا إذ كانت في حق واجب فللشافع أجر، وإذ كانت في حرام فعليه وزر، كما صرح تعالى بذلك في قوله :﴿ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ﴾ [ النساء : آية ٨٥ ]
وقال صلى الله عليه وسلم : " اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء ". وقد دل الكتاب والسنة أن نفي الشفاعة المذكور هنا ليس على عمومه، ، وأن للشفاعة تفصيلا، منها ما هو ثابت شرعا، ومنها ما هو منفي شرعا. أما المنفي شرعا الذي أجمع عليه المسلمون فهو الشفاعة للكفار ؛ لأن الكفار لا تنفعهم شفاعة ألبتة، كما قال تعالى :﴿ فما تنفعهم شفاعة الشافعين ﴾ [ المدثر : آية ٤٨ ] وقال عنهم :﴿ فما لنا من شافعين ﴾ [ الشعراء : آية ١٠٠ ] وقال ( جل وعلا ) :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ [ الأنبياء : آية ٢٨ ] مع أنه قال في الكافر :﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ [ الزمر : آية ٧ ] فالشفاعة للكفار ممنوعة شرعا بإجماع المسلمين، ولم يقع في هذا استثناء ألبتة، إلا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، فإنها نفعته بأن نقل بسببها من محل من النار إلى محل أسهل منه، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لعله تنفعه شفاعتي فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، له نعلان يغلي منهما دماغه ". أما غير هذا من الشفاعة للكفار فهو ممنوع إجماعا، وإنما نفعت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب في نقل من محل من النار إلى محل آخر.
الشفاعة المنفية الأخرى هي الشفاعة بدون إذن رب السماوات والأرض، فهذه ممنوعة بتاتا بإجماع المسلمين، وبدلالة القرآن العظيم، كقوله :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٥ ]. وادعاء هذه الشفاعة شرك بالله وكفر به، كما قال ( جل وعلا ) :﴿ ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾[ يونس : آية ١٨ ]. ووجه كون هذه الشفاعة من أنواع الشرك – ولله المثل الأعلى - : أن ملوك الدنيا قد يتمكنون من مجرم يتقطعون عليه غيظا، ويريدون أن يقطعوه عضوا عضوا، فيأتي بعض أهل الجاه والشرف ويشفع عندهم له، فيضطرون إلى قبول شفاعته ؛ لأنهم لو ردوا شفاعته لصار عدوا لهم، وترقبوا منه بعض الغوائل، فيضطرون إلى أن يشفعوه وهم كارهون، خوفا من سوئه، ورب السماوات والأرض لا يخاف أحدا، ولا يمكن أن يضره أحد، فلا يمكن أن يتجاسر أحد عليه بمثل هذا، وله المثل الأعلى ؛ ولذا قال ( جل وعلا ) :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٥ ].
أما الشفاعة للمؤمنين بإذن رب السماوات والأرض فهي جائزة شرعا وواقعة، كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، كما في قوله :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ [ الأنبياء : آية ٢٨ ]، وقوله ( جل وعلا ) :﴿ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ﴾ [ سبأ : آية ٢٣ ]، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث. والشفاعة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم كما يأتي إيضاحه في سورة بني إسرائيل في قوله :﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ﴾ [ الإسراء : آية ٧٩ ] وقد يشفع الله من شاء من خلقه، من الأنبياء والمرسلين، والصالحين.
وقد تكون الشفاعة بإخراج من دخل النار، وقد تكون الشفاعة بأن يشفع لمن عليه ذنوب فينقذ من النار، وقد تكون برفع الدرجات، والشفاعة الكبرى في فصل القضاء بين الخلق، فمعنى قوله إذا :﴿ ولا يقبل منها شفاعة ﴾ هذا إذا كانت كافرة على الإطلاق، ولو كانت مؤمنة لا تقبل شفاعة إلا بإذن رب السماوات والأرض.
وقوله :﴿ ولا يؤخذ منها عدل ﴾ العدل : الفداء، وإنما سمي الفداء عدلا ؛ لأن فداء الشيء كأنه قيمة معادلة له ومماثله له تكون عوضا وبدلا منه. قال بعض علماء العربية : ما يعادل الشيء ويماثله إن كان من جنسه قيل له ( عدل ) بكسر العين، ومنه ( عدلا البعير ) أي : عكماه ؛ لأنهما متماثلان. أما إذا كان يماثله ويساويه وليس من جنسه قيل فيه ( عدل ) بفتح العين ؛ ولذا سمي الفداء عدلا ؛ لأنه شيء مماثل للمفدي ليس من جنسه.
ومن هذا المعنى قوله ( جل وعلا ) :﴿ أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره ﴾ [ المائدة : آية ٩٥ ] ؛ لأن ما يعادل الطعام من الصيام ليس من جنسه، فإذا كان من جنسه قيل فيه ( عِدْل )، وهو معروف في كلام العرب، وقد كرره مهلهل بن ربيعة في قصيدته المشهورة في قوله :
على أن ليس عدلا من كليب*** إذا طرد اليتيم عن الجزور
على أن ليس عدلا من كليب*** إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب*** غداة بلابل الأمر الكبير
على أن ليس عدلا من كليب*** إذا برزت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب*** إذا اضطرب العضاه من الدبور
يعني أن القتلى التي قتلها بكليب من بني بكر بن وائل لا تماثله في الشرف ولا تساويه، وإنما كسر العين لأنهم من جنس واحد. وهذا معنى قوله :﴿ ولا يؤخذ منها عدل ﴾.
﴿ ولا هم ينصرون ﴾ أصل النصر في لغة العرب إعانة المظلوم. ومعنى هنا ﴿ ولا ينصرون ﴾ أي : ليس لهم معين يدفع عنهم عذاب الله.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي معروف، وهو أن يقول طالب العلم : أفرد الضمير في قوله :﴿ ولا يقبل منها ﴾ ﴿ ولا يؤخذ منها ﴾ أفرده مؤنثا، وجمعه مذكرا في قوله :﴿ ولا هم ينصرون ﴾ مع أن مرجع هذه الضمائر واحد ؟.
الجواب ظاهر ؛ لأن قوله :﴿ لا تجزي نفس عن نفس شيئا ﴾ نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تعم، وعمومها يجعلها شاملة لكثير من أفراد النفوس، فأنث الضمير وأفرده في قوله :﴿ ولا يقبل منها ﴾ ﴿ ولا يؤخذ منها ﴾ نظرا إلى معنى النكرة في سياق النفي، وأنها شاملة لكثير من الأنفس، وهذا معنى قوله :﴿ ولا هم ينصرون ﴾.
قال بعض العلماء : أصل ( الآل ) : أهل، بدليل تصغيره على ( أهيل )، وبعضهم صغره على ( أويل )، ولا يطلق ( الآل ) على الأهل إلا إذا كان مضافا لمن له شرف وقدر، فلا تقول : آل الحجام، ولا آل الإسكاف.
و ( فرعون ) ملك مصر المعروف، وهو يطلق على من ملك مصر. وقال بعضهم : كل من ملك العمالقة يطلق عليه ( فرعون ).
اختلف في لفظ ( فرعون ) هل هو عربي أو أعجمي ؟ قيل : هو اسم أعجمي، منع من الصرف للعلمية والعجمة. وقال بعض العلماء : هو عربي، من تفرعن الرجل إذا كان ذا مكر ودهاء. والأول أظهر. وعلى أنه عربي فوزنه ( فعلول ) بلامين لا ( فعلون ) بالنون.
وقوله :﴿ يسومونكم سوء العذاب ﴾ تقول العرب : سامه خسفا، إذا أولاه ظلما، وأذاقه عذابا، ومن هذا المعنى قول عمروا بن كلثوم في معلقته :
إذا ما الملك سام الناس خسفا*** أبينا أن نقر الذل فينا
وقوله :﴿ سوء العذاب ﴾ أي : يذيقونكم ويولونكم سوء العذاب، أي : أصعب العذاب وأشده وأفظعه ؛ لأنهم كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب شاقة ذكر الله بعضا منها هنا حيث قال :
﴿ يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ﴾
فالفعل المضارع الذي هو ﴿ يذبحون ﴾ بدل من الفعل المضارع الذي قبله الذي هو ﴿ يسومونكم ﴾، على حد قوله في الخلاصة :
ويبدل الفعل من الفعل كمن*** يصل إلينا يستعن بنا يعن
وإنما عبر بالتشديد في قراءة الجمهور في قوله :﴿ يذبحون ﴾ دلالة على الكثرة ؛ لأنهم ذبحوا كثيرا من أبنائهم. ﴿ يذبحون أبناءكم ﴾ أي : الذكور ﴿ ويستحيون نساءكم ﴾ أي : بناتكم الإناث، يبقوهن حيات، ولم يذبحوهن.
والنساء على التحقيق اسم جمع لا واحد له من لفظه، واحدته امرأة.
وفي هذه الآية سؤال معروف ؛ لأن الله لما ذكر أنهم ساموهم سوء العذاب فسر قوله :﴿ يسومونكم سوء العذاب ﴾ بالبدل بعده، وبين أن من ذلك العذاب العظيم السيئ : تذبيح الأبناء، واستحياء البنات. وفي هذا السؤال، وهو أن يقول : تذبيح الأبناء ظاهر أنه من ذلك العذاب الذي يسومونهم، أما استحياء البنات، وهو قوله :﴿ ويستحيون نساءكم ﴾ فأين وجه كون هذا من سوء العذاب، مع أن بقاء البعض قد يظهر للناظر أنه أحسن من تذبيح الكل ؟ كما قال الهذلي :
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجى | خراش وبعض الشر أهون من بعض |
مودة تهوى عمر شيخ يسره*** لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جفوة الناس بعده*** ولا ختن يرجى أود من القبر
ولما خطبت عند عقيل بن علفة المري ابنته الجرباء أنشد :
إني وإن سيق إلي المهر*** عبد وألفان وذود عشر
أحب أصهاري إلي القبر
وقد قال الشاعر :
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا*** والموت أكرم نزال على الحرم
وهذا هو وجه كون استحياء النساء من ذلك العذاب الذي يسومونهم.
وقال جل وعلا :﴿ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾ وفي الإشارة في قوله :﴿ ذلكم ﴾ وجهان لا يكذب أحدهما الآخر مبنيان على المراد بالبلاء ؛ لأن البلاء في لغة العرب الاختبار، والاختبار قد يقع بالخير وقد يقع بالشر، كما قال جل وعلا :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾ [ الأنبياء : آية ٣٥ ] وقال ( جل وعلا ) :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٨ ] والله ذكر في الآية الماضية أنه ابتلى بني إسرائيل بخير وشر ؛ أما الشر الذي ابتلاهم به فهو ما كان يسومهم فرعون من سوء العذاب، وأما الخير الذي ابتلاهم به فهو إنجاؤه إياهم من ذلك العذاب.
قال بعض العلماء :﴿ في ذلكم ﴾ أي :﴿ وفي ذلكم ﴾ العذاب الذي كان يسومكم فرعون، ﴿ بلاء ﴾ بالشر ﴿ من ربكم عظيم ﴾، وقال بعض العلماء :﴿ وفي ذلكم ﴾ الإنجاء الذي أنجاكم الله به من عذاب فرعون ﴿ بلاء ﴾ بالخير ﴿ من ربكم عظيم ﴾، وكلما كان الشر أكبر كان الإنقاذ منه مماثلا له في الكبر، ولا شك أن العرب تطلق البلاء على الاختبار بالشر والاختبار بالخير، خلافا لمن منعه في الاختبار بالخير، وهو معروف في كلام العرب، ومن أمثلته في الخير قول زهير :
جزى الله بالإحسان ما فعل بكم*** وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
وهذا معنى قوله :﴿ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾.
و ( البحر ) معروف، قال بعض العلماء : اشتقاقه من الشق ؛ لأنه شق في الأرض كبير، ومنه البحيرة ؛ لأنها مشقوقة الأذن. وقال بعض العلماء : هو من البحر بمعنى الاتساع لاتساعه.
وقوله :﴿ فأنجيناكم ﴾ أي : أنجيناكم من آل فرعون وما كان يسومكم من العذاب. وأصل الإنجاء والتنجية أصل اشتقاقه من النجوة، وهي المرتفع من الأرض. فكأن الإنسان إذا سلم من هلاك، ونجا من أمر خطر ارتفع عن هوة الهلاك إلى نجوة السلامة. وهذا معنى قوله :﴿ وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ﴾ الهمزة في ﴿ وأغرقنا ﴾ للتعدية، وأصل الفعل الثلاثي قبل أن تدخل عليه همزة التعدية :( غرق يغرق غرقا )، ومنه قول ذي الرمة :
وإنسان عيني يحسر الماء تارة*** فيبدوا وتارات يجم فيغرق
والعرب تعديه بالهمزة والتضعيف فتقول : أغرقه الله، وغرقه، إذا جعله يغرق. ومن هذا المعنى قول الشاعر :
..................................... *** ألا ليت قيسا غرقته القوابل
فالهمزة في ( أغرقنا ) همزة التعدية، والمعروف أن همزة التعدية إذا دخلت على فعل لازم أكسبته مفعولا، وإذا دخلت على فعل متعد لمفعول أكسبته مفعولين، وإذا دخلت على فعل متعد لمفعولين أكسبته ثالثا، كما قال في الخلاصة :
إلى ثلاثة رأى وعلما*** عدوا إذا صار لأرى وأعلما
و ﴿ ءال فرعون ﴾ قدمنا معناه. وقوله :﴿ وأنتم تنظرون ﴾ جملة حالية، والظاهر أنه نظر بالأبصار ؛ لأن الله أراهم ما أحل بفرعون وقومه من الغرق في البحر، وهو البحر الأحمر، ليكون ذلك أقر لأعينهم ؛ لأن هلاك العدو وعدوه ينظر إليه أقر لعينه. وهذا معنى قوله :﴿ وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون ﴾.
أما على قراءة أبي عمرو فلا إشكال : صيغة الجمع للتعظيم. والله وعد نبيه موسى أن ينزل عليه كتابا فيه الحلال والحرام، وكل ما يحتاجون إليه، بعد أربعين ليلة.
أما على قراءة الجمهور ﴿ وإذ واعدنا ﴾ بصيغة المفاعلة، فالمقرر في فن التصريف : أن المفاعلة تقتضي الطرفين. أعني اشتراك الفعل بين فاعلين ؛ ولذا استشكل بعض العلماء التعبير بالمواعدة هنا، قال : إن الله يعد وحده، ولا يعده غيره، والجواب عن هذا : أن المفاعلة باعتبار أن الله وعد موسى بوحي يبين له فيه الأمور، وموسى وعد ربه بالإتيان للميقات المعين لتلقي ذلك الوحي، ومن هنا صارت المفاعلة معقولة.
وقوله :﴿ أربعين ليلة ﴾ قال بعض العلماء : هو على حذف مضاف، أي : تمام أربعين ليلة. وقد بين تعالى في سورة الأعراف أن الوعد بهذه الأربعين كان مفرقا بأن وعد ثلاثين أولا ثم أتمها بعشر، وذلك في قوله :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٢ ] قال بعض العلماء : هذه الأربعون ليلة هي شهر ذي القعدة وعشر من ذي الحجة، واليوم الذي أغرق الله فيه فرعون وأنجى فيه بني إسرائيل هو يوم عاشوراء، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس ( رضي الله عنهما )، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فأخبروه بأنه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فيه فرعون وقومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن أولى بموسى منهم ". فكان يصومه حتى نزل صيام رمضان. وثبت في الصحيح عن عائشة ( رضي الله عنها ) أن قريشا كانوا يصومون يوم عاشوراء في الجاهلية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه. ولا تعارض بين الأحاديث ؛ لأنه لا مانع من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه لأن قريشا في الجاهلية كانوا يصومونه. ولما جاء تمادى على صومه، ووجد اليهود يصومونه، ولا مانع من كون الفعل الواحد أو النص الواحد له سببان فأكثر. وعلى كل حال فصوم يوم عاشوراء وجوبه منسوخ بإجماع العلماء.
وقوله جل وعلا :﴿ أربعين ليلة ﴾ عبر بالليالي لأنها قبل الأيام والمقرر في فن العربية أن التاريخ بالليالي لأنها قبل الأيام. فلما انتهى هذا الميعاد أنزل الله ( جل وعلا ) عليه التوراة، وكتبها له في الألواح، كما يأتي تفصيله في سورة الأعراف.
وقوله :﴿ ثم اتخذتم العجل من بعده ﴾ قرأه بعض السبعة :﴿ { ثم تخذتم العجل من بعده ﴾ وقرأه بعضهم :﴿ ثم اتخذتم العجل من بعده ﴾ بالإدغام.
وأصل ( الاتخاذ ) على التحقيق عند علماء العربية : افتعال من الأخذ، أصله ( اأتخاذ )، وإبدال الهمزة تاء يحفظ ولا يقاس عليه، وإنما المقيس إبدال فاء المثال، أعني واوي الفاء، أو يائي الفاء، كالاتجاه، والاتسار، وإبدال الواو فيه تاء، أما إبدال الهمزة تاء فهو شاذ يحفظ ولا يقاس عليه، كاتكل، واتزر، واتخذ، بناء على الصحيح أنها ( افتعل ) من الأخذ. وأصل العجل : ولد البقرة، ويجمع على ( عجاجيل، عجاجل ) على غير قياس، كما عقد مثله في الخلاصة بقوله :
وحائد عن القياس كل ما*** خالف في البيان حكما رسما
وهذا العجل هو العجل الذي صاغه لهم السامري من حلي القبط المذكور في قوله :﴿ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٨ ]، وبينه في سورة طه بقوله :﴿ فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ﴾ [ طه : آية ٩٦ ] وحذف مفعول الاتخاذ الثاني، وهو محذوف في جميع القرآن، وتقرير المعنى : ثم اتخذتم العجل من بعده، أي : من بعد موسى لما ذهب إلى الميقات، أي : اتخذتم العجل إلها. وهذا المفعول الثاني محذوف في جميع القرآن ﴿ إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ﴾ [ البقرة : آية ٥٤ ] أي : إلها. ﴿ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا ﴾ [ الأعراف : آية ٥٤ ] أي : إلها. فهذا المفعول الثاني الذي تقديره ( إلها ) محذوف في جميع القرآن.
قال بعض العلماء : النكتة في حذفه التنبيه على أنه لا ينبغي لعاقل أن يتلفظ بأن عجلا مصطنعا من حلي أنه إله.
وقوله :﴿ وأنتم ظالمون ﴾ جملة حالية، يعني : اتخذتم العجل والحال أنتم ظالمون باتخاذكم العجل إلها. وأصل الظلم في لغة العرب : هو وضع الشيء في غير محله، فكل من وضع شيئا في غير محله فقد ظلم في لغة العرب. وأكبر أنواع الظلم – أي وضع الشيء في غير محله – وضع العبادة في غير من خلق، فمن عبد غير خالق السماوات والأرض فقد وضع العبادة في غير موضعها ؛ ولذا هو ظالم لغة ؛ ولأجل هذا البيان فإن القرآن يكثر الله جل وعلا فيه إطلاق الظلم على الشرك، كما قال تعالى :﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٤ ]، وقال :﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ﴾ [ يونس : آية ١٠٦ ] وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر قوله تعالى. ﴿ الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾ [ الأنعام : آية ٨٢ ] أي : بشرك. وقال جل وعلا عن العبد الصالح لقمان الحكيم :﴿ يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : آية ١٣ ]. هذا معنى الظلم في لغة العرب، ومنه قيل لمن يضرب لبنه قبل أن يروب : ظالم ؛ لأنه وضع الضرب في غير موضعه ؛ لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده. وفي لغز الحريري هل تجوز شهادة الظالم ؟ قال : نعم، إذا كان عالما. يعني بالظالم : الذي يضرب لبنه قبل أن يروب. ومن هذا المعنى قول الشاعر :
وقائلة ظلمت لكم سقائي*** وهل يخفى على العكد الظليم
فقولها :( ظلمت لكم سقائي ) أي : سقيتكم منه قبل أن يروب ؛ ولأجل هذا قيل للأرض التي حفر فيها ولم تحفر قط، إذ لم تكن محلا للحفر : مظلومة ؛ لأن الحفر وقع في غير موضعه. ومن هذا المعنى على التحقيق قول نابغة ذبيان :
إلا الأواري لأيا ما أبينها*** والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
خلافا لمن زعم أن ( المظلومة ) التي أبطأ عنها المطر. ومن هنا قيل للقبر ( ظليم ) ؛ لأنه حفر في محل لم يحفر قبل ذلك. ومنه بهذا المعنى قول الشاعر :
فأصبح في غبراء بعد إشاحة*** على العيش مردود عليها ظليمها
هذا أصل معنى الظلم في لغة العرب، وشواهده العربية، وهو يطلق في القرآن إطلاقين : يطلق بمعناه الأعظم، وهو وضع العبادة في غير من خلق، وهذا أكبر أنواع الظلم، ومنه بهذا المعنى :﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٤ ]، ﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ﴾ [ يونس : آية ١٠٦ ]، ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : آية ١٣ ].
وقد يطلق الظلم في القرآن أيضا على ظلم الإنسان نفسه ببعض المعاصي التي لا تبلغ به الكفر، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ﴾ الآية [ فاطر : آية ٣٢ ]، بدليل قوله في الجميع :﴿ جنات عدن يدخلونها ﴾ الآية [ فاطر : آية ٣٣ ]، لأن هذا أطاع الشيطان وعصى ربه فقد وضع الطاعة في غير موضعها، كما قال تعالى :﴿ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ﴾ [ الكهف : آية ٥٠ ].
والإشارة في قوله :﴿ ذلك ﴾ إلى اتخاذهم العجل إلها، وهو ذلك الذنب العظيم، وأشار إليه إشارة البعيد ؛ لأن مثل ذلك الفعل يجب أن يتباعد منه تباعدا كليا.
وقوله :﴿ لعلكم تشكرون ﴾ قال بعض العلماء : يغلب إتيان ( لعل ) في القرآن مشمة معنى التعليل، إلا التي في الشعراء :﴿ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ﴾ [ الشعراء : آية ١٢٩ ] وإتيان ( لعل ) حرف تعليل مسموع في كلام العرب، ومن إتيان ( لعل ) للتعليل قول الشاعر :
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا*** نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم*** كشبه سراب بالملا متألق
فهذه ليست للترجي بتاتا ؛ لأنه قال : " ووثقتم لنا كل موثق ". وقوله : " ووثقتم لنا كل موثق " دل على أن المراد : فقلتم لنا كفوا الحروب لأجل أن نكف، ووثقتم لنا كل موثق في وعدكم بالكف المعلل بكفنا. هذا هو التحقيق.
وقال بعض العلماء : المراد ب( لعل ) يعني : افعلوا ما أمرناكم به مترجين أن يقع ما بعد لعل، وتقريره في هذا المعنى :﴿ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك ﴾. وذلك العفو ينبغي – مثلا – أن تترجوا، وذلك العفو الذي عفونا عنكم يرجى من مثلكم فيه أن تشكروا ذلك العفو. فتكون للترجي على بابها. والأول لا ينافي الثاني ؛ لأنا لو قلنا : إنها للتعليل، فالمعلل مرجو الحصول عند وجود علته.
وأصل ( الشكر ) في لغة العرب : الظهور، ومنه ( الشكير ) وهو العسلوج الذي يظهر في جدع الشجرة التي قطعت إذا أصابها الماء فظهر فيها عسلوج يسمى شكيرا ؛ لأنه ظهر بعد أن لم يكن، ومنه :( ناقة شكور ) يظهر عليها أثر السمن.
والشكر يطلق في القرآن من الله لعبده، ومن العبد لربه، فمن إطلاق شكر العبد لربه قوله جل وعلا :﴿ إن ربنا لغفور شكور ﴾ [ فاطر : آية ٣٤ ] ﴿ ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ﴾ [ البقرة : آية ١٥٨ ].
ومعنى شكر الرب لعبده : هو إثابته له الثواب الجزيل من عمله القليل. ويطلق الشكر من العبد، كما في قوله هنا :﴿ لعلكم تشكرون ﴾ ومعنى شكر العبد لربه : هو أن يستعمل نعمه في طاعاته ؛ فهذه العين الباصرة التي أنعم عليه بها شكرها أن لا ينظر بها إلا إلى ما يرضي الله، وهذه اليد الباطشة التي أنعم عليه بها شكر نعمتها أن لا يبطش بها إلا فيما يرضي الله، وهذا اللسان الذي يبين به ويفصح عما في ضميره شكره أن لا ينطق به إلا فيما يرضي الله، وهكذا في جميع سائر النعم والمنح البدنية والمالية إلى غير ذلك. وهذا معنى قوله :﴿ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون ﴾.
و ﴿ ءاتينا ﴾ معناه أعطينا، والألف فيه مبدلة من همزة فاء الفعل، فوزنه :( أفعلنا ) والأصل ( أأتينا ) فأبدلت همزة فاء الفعل مدا مجانسا لحركة همزة ( أفعل ) على القاعدة التصريفية المجمع عليها المشهورة التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله :
ومدا ابدل ثاني الهمزين من*** كلمة ان يسكن كآثر وائتمن
وصيغة الجمع للتعظيم. ومعنى ( آتينا ) : أعطينا، وهي تطلب مفعولين، والمفعول الأول هو موسى، والثاني الكتاب، وهذه من باب :( كسا ) لا من ( ظن ). ومعلوم عند علماء العربية أن الفرق الواضح الموضح بين باب ( ظن ) وباب :( كسا ) – مع أن كلا منهما تنصب مفعولين – هو : أن تحذف الفعل من كلا البابين، ثم تجعل المفعولين مبتدأ وخبرا، فإن صدقت القضية فهي من باب ( ظن )، وإن كذبت فهي من باب ( كسا )، وهذا ضبط مطرد مفيد لطالب العلم، فلو قلت مثلا : " ظننت زيدا قائما ". فحذفت الفعل الذي هو ( ظننت ) وجعلت المفعولين مبتدأ وخبرا، فقلت : " زيد قائم " كان كلاما مستقيما. فهذا من باب ( ظن )، بخلاف " كسوت زيدا ثوبا " و " سقيت عمرا ماء ". و ﴿ آتينا موسى الكتاب ﴾ لو حذفت الفعل منها وقلت : " زيد ثوب "، " عمرو ماء "، " موسى الكتاب "، فهذه القضية كاذبة، فدل على أنها من باب ( كسا ).
والمراد بالكتاب التوراة، بإجماع العلماء.
والتحقيق أن المراد بالفرقان هو التوراة أيضا، وقد تقرر في فن العربية أن الشيء الواحد إذا وصف بصفات مختلفة يجوز عطفه على نفسه نظرا إلى اختلاف صفاته، وتنزيلا لتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات. ومن أمثلته في القرآن قوله جل وعلا :﴿ سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى ﴾ [ الأعلى : الآيات ١ - ٤ ]، فالمتعاطفات بالواو مدلولها واحد، إلا أنها عطفت بسبب تغاير الصفات، ونظير هذا من كلام العرب قول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام*** وليث الكتيبة في المزدحم
فعطف هذه بعضها على بعض، مع أن الموصوف بها واحد، نظرا إلى تغاير الصفات. والدليل على أن ( الفرقان ) كتاب موسى، وأن من زعم أن المعنى : آتينا موسى الكتاب، ومحمدا صلى الله عليه وسلم الفرقان، أنه قول باطل، بدليل قوله ( جل وعلا ) في الأنبياء :﴿ ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين ﴾ [ الأنبياء : آية ٤٨ ].
وقوله :﴿ لعلكم تهتدون ﴾ أي : لأجل أن تهتدوا كما بينا. أو على أن إنزال هذا الكتاب يرجى منه أن تهتدوا ؛ لأنه مظنة لذلك، ومحل للرجاء في هداكم بهذا الكتاب العظيم السماوي.
و ﴿ تهتدون ﴾ معناه تسلكون طريق الهدى، من طاعة الله جل وعلا، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
واجعل منادى صح إن يضف ليا*** كعبد عبدي عبد عبدا عبديا
أصله : يا قومي. ﴿ إنكم ظلمتم أنفسكم ﴾ قدمنا معنى الظلم بشواهد العربية، ومعناه في القرآن، وقد جاء في القرآن في موضع واحد مرادا به النقص في قوله :﴿ كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ﴾ [ الكهف : آية ٣٣ ] أي : ولم تنقص منه شيئا.
وهذه الآية تدل على أن من خالف أمر الله أنه إنما ظلم بذلك نفسه حيث عرضها لسخط الله وعذابه ؛ فضرر فعله عائد إليه وحده، وذلك أكبر باعث على الانزجار والكف ؛ لأن الإنسان لا يحب أن يضر نفسه، ولا أن يجني عليها، فإذا عرف الإنسان أن ضرر فعله إنما هو عائد إليه حاسب.
والباء في قوله :﴿ باتخاذكم العجل ﴾ سببية، يعني أن اتخاذهم العجل هو السبب الذي ظلموا به أنفسهم. وقد قدمنا أن ( الاتخاذ ) مصدر اتخذ، وأن الظاهر أن أصله ( افتعال ) من ( الأخذ )، إلا أن الهمزة التي هي في محل فاء الكلمة أبدلت تاء وأدغمت في تاء الافتعال، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه، كما عقده في الخلاصة بقوله :
ذو اللين فا تا في افتعال أبدلا*** وشذ في ذي الهمز نحو ائتكلا
و ﴿ باتخاذكم ﴾ مصدر من فعل يطلب مفعولين، والمصدر هنا مضاف إلى فاعله. والمفعول الأول العجل، والمفعول الثاني محذوف دائما في القرآن، وتقرير المعنى : باتخاذكم العجل إلها.
وقد قدمنا أن هذا المفعول الثاني في ( اتخاذهم العجل إلها ) محذوف في جميع القرآن، وأن بعض العلماء قال : النكتة في حذفه دائما هي التنبيه على أنه لا ينبغي أن يتلفظ بأن عجلا مصطنعا من حلي إله.
وقال جل وعلا :﴿ فتوبوا إلى بارئكم ﴾ الفاء سببية، وقد تقرر في فن الأصول في مسلك ( الإيماء والتنبيه ) أن الفاء من حروف التعليل، وأن ما قبلها علة لما بعدها، كقولهم : " سها فسجد "، أي : لعلة سهوه، و " سرق فقطعت يده " أي : لعلة سرقته، ﴿ ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا ﴾ أي : لعلة ظلمكم. ﴿ فتوبوا إلى بارئكم ﴾ قد قدمنا معنى التوبة واشتقاقها في أول هذه السورة الكريمة.
وقوله :﴿ إلى بارئكم ﴾ أي : خالقكم ومبرزكم من العدم إلى الوجود. وقد ذكر ( جل وعلا ) الخالق البارئ من صفاته كما قال في أخريات الحشر :﴿ الخالق البارئ ﴾ [ الحشر : آية ٢٤ ] و ( الخالق ) اسم فاعل الخلق في اللغة : التقدير. و ( البارئ ) هو الذي يفري ما خلق ؛ فمعنى خلق : قدر، ومعنى برأ : أنفذ ما قدر، و أبرز من العدم إلى الوجود، والعرب تسمي التقدير خلقا، ومنه قول زهير بن أبي سلمى :
ولأنت تفري ما خلقت وبع*** ض القوم يخلق ثم لا يفري
وكثيرا ما يطلق اسم الخلق على الإبراز من العدم إلى الوجود. وعلى كل حال فمعنى ( البارئ ) : المبدع الذي يبرأ الأشياء، أي : يبرزها من العدم إلى الوجود.
وفي الآية سر لطيف، وهو أن من أبرز من العدم إلى الوجود هو الذي يستحق أن يعبد، ويتاب إليه من الذنوب ؛ لأن عنوان استحقاق العبادة إنما هو الخلق، فمن يخلق ويبرز من العدم إلى الوجود فهو المعبود الذي يعبد وحده، ويتنصل إليه من الذنوب، ومن لا يخلق فهو مربوب محتاج إلى خالق يخلقه ؛ ولذا كثر في القرآن الإشارة إلى أن ضابط من يستحق العبادة هو الخالق الذي يبرز من العدم إلى الوجود، كما تقدم في قوله :﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ﴾ [ البقرة : آية ٢١ ]، وكما في قوله :﴿ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ﴾ [ الرعد : آية ١٦ ] وخالق كل شيء هو المعبود وحده. وقال جل وعلا :﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق ﴾ [ النحل : آية ١٧ ]، الجواب : لا. وهذا معنى قوله :﴿ فتوبوا إلى بارئكم ﴾.
وقرأ هذا الحرف جمهور القراء :﴿ فتوبوا إلى بارئكم ﴾ وعن أبي عمرو فيه روايتان عنه : قراءة :﴿ إلى بارئكم ﴾ بإسكان الهمزة، وعنه قراءة أخرى رواها عنه الدوري باختلاس الهمزة، واختلاس الهمزة : هو تخفيف حركتها حتى يأتي ببعض الحركة ولا يأتي بها كاملة، وهذه الرواية الأخيرة رواية الدوري عن أبي عمرو هي التي بها الأخذ، والمشهورة عند القراء. وما زعمه بعض علماء العربية من أن الرواية الأخرى عن أبي عمرو بإسكان الهمزة في ﴿ بارئكم ﴾ أنها لحن، وأن حركة الإعراب لا يجوز تسكينها، فهو غلط، ولا شك أنها لغة صحيحة، وقراءة ثابتة عن أبي عمرو، وتخفيف الحركة بالإسكان لغة تميم وبني أسد، ويكثر في كلام العرب إسكان الحركة للتخفيف، ولا سيما إذا توالت ثلاث حركات، كما في قراءة الجمهور ﴿ بارئكم ﴾ بثلاث حركات. ومن تسكين الحركة للتخفيف قول امرئ القيس :
فاليوم أشرب غير مستحقب*** إثما من الله ولا واغل
وعلى هذا التخفيف قراءة أبى عمرو ﴿ أرنا الذين ﴾ [ فصلت : آية ٢٩ ]، وقراءة حفص :﴿ ويخش الله ويتقه ﴾ [ النور : آية ٥٢ ] فإن هذا السكون إنما هو تخفيف ؛ لأن المحل ليس محل سكون ؛ لأن الأصل ( يتقيه ) و ﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ [ البقرة : آية ١٢٨ي. ومنه قول الشاعر :
أرنا إداوة عبد الله نملؤها*** من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
وقول الآخر :
ومن يتق فإن الله معه*** ورزق الله مؤتاب وغاد
وقول الراجز :
قالت سليمى اشتر لنا سويقا*** وهات خبز البر أو دقيقا
وقوله :﴿ فاقتلوا أنفسكم ﴾ كأنهم قالوا : بم نتوب إلى بارئنا توبة يقبلها منا ؟ قيل لهم :﴿ فاقتلوا أنفسكم ﴾. أو الفاء للتعقيب ؛ لأن هذا القتل عقب الذنب هو الذي حصلت به التوبة.
وأصل القتل في لغة العرب : إزهاق الروح بشرط أن يكون من فعل فاعل، كالطعن، والضرب، والخنق، وما جرى مجرى ذلك، أما إزهاق الروح بلا سبب من ضرب أو نحوه فهو موت وهلاك لا قتل.
وقال بعض العلماء : القتل إماتة الحركة.
وقد تطلق العرب مادة القاف والتاء واللام على غير إزهاق الروح، فتطلقه على التذليل، فالتقتيل : التذليل، وتطلق القتل أيضا على إضعاف الشدة، فمن إطلاق التقتيل على التذليل قول امرىء القيس :
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي*** بسهميك في أعشار قلب مقتل
أي : مذلل. وقول زهير :
كأن عيني في غربي مقتلة*** من النواضح تسقي جنة سحقا
أي : مذللة.
وكذلك يطلق القتل على كسر الشدة، ومنه قتل الخمر بالماء، أي : كسر شدتها بالماء، كما قال حسان ( رضي الله عنه ) :
إن التي ناولتني فرددتها*** قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
يعني بقتلها : إضعاف شدتها بمزجها بالماء.
وقوله :﴿ فاقتلوا أنفسكم ﴾ ﴿ أنفسكم ﴾ جمع قلة ؛ لأن ( الأفعل ) من صيغ جموع القلة. وما يزعمه بعض النحويين والمفسرين من أن مثل هذه الآية جيء فيه بجمع القلة موضع جمع الكثرة فهو خلاف التحقيق ؛ لأن ﴿ أنفسكم ﴾ أضيف إلى معرفة، واسم الجنس مفردا كان أو جمعا إذا أضيف إلى معرفة اكتسب العموم. والشيء الذي يعم جميع الأفراد لا يعقل أن يقال فيه : إنه جمع قلة ؛ لأن جمع القلة لا يتعدى العشرة، وهو بعمومه يشمل آلاف الأفراد، فالتحقيق ما حرره علماء الأصول في مبحث التخصيص من أن جموع القلة وجموع الكثرة لا يكون الفرق بينها ألبتة إلا في التنكير، أما في التعريف فإن الألف واللام تفيد العموم، والإضافة إلى المعارف تفيد العموم، وما صار عاما استحال أن يقال هو جمع قلة ؛ لأن العموم يستغرق جميع الأفراد. هذا هو التحقيق. وهذا معنى قوله :﴿ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ﴾.
﴿ ذلكم خير لكم عند بارئكم ﴾ في مرجع الإشارة في قوله :﴿ ذلكم ﴾ وجهان للعلماء لا يكذب أحدهما الآخر، أحدهما : أنه راجع إلى مصدر القتل المفهوم من قوله :﴿ فاقتلوا ﴾ أي : ذلك القتل لأنفسكم خير لكم عند بارئكم، وقد قرر علماء العربية أن الفعل الصناعي – أعني فعل الأمر، أو الفعل المضارع، أو الماضي – ينحل عن مصدر وزمن، فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا. قال في الخلاصة :
المصدر اسم ما سوى الزمان من*** مدلولي الفعل كأمن من أمن
ونحن نرى القرآن يلاحظ المصدر تارة، ويلاحظ الزمن تارة. فمن أمثلة ملاحظته للمصدر :﴿ على ألا تعدلوا اعدلوا هو ﴾ [ المائدة : آية ٨ ] أي : العدل الكامن في مفهوم ﴿ اعدلوا ﴾، وتارة يلاحظ الزمن، ومن أمثلة ملاحظته لزمان الفعل الصناعي قوله ( جل وعلا ) في ( ق ) :﴿ ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ﴾ [ ق : آية ٢٠ ] فالإشارة في قوله :﴿ ذلك ﴾ لزمن النفخ المفهوم من بناء الفعل في قوله :﴿ ونفخ في الصور ﴾.
وقال بعض العلماء : الإشارة في قوله :﴿ ذلكم ﴾ راجعة إلى شيئين هما : التوبة المفهومة من قوله :﴿ فتوبوا إلى بارئكم ﴾، والقتل المفهوم من قوله :﴿ فاقتلوا أنفسكم ﴾، وعلى هذا القول فالمعنى : ذلكم المذكور من التوبة والقتل. ونظير هذا في القرآن – أي : بأن يكون لفظ الإشارة مفردا ومعناه مثنى – قوله ( جل وعلا ) في هذه السورة الكريمة :﴿ قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ﴾ [ البقرة : آية ٦٨ ] أي : ذلك المذكور من الفارض والبكر.
وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عبد الله بن الزبعرى :
إن للشر وللخير مدى*** وكلا ذلك وجه وقبل
أي : كلا ذلك المذكور. ولما قال رؤبة بن العجاج في رجزه المشهور :
فيها خطوط من سواد وبلق*** كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له : ما معنى قولك : " كأنه " بالتذكير، إن كنت تريد الخطوط لزم أن تقول :( كأنها )، وإن كنت تريد السواد والبلق لزم أن تقول :( كأنهما ) فلم قلت :( كأنه ) ؟ قال :( كأنه ) أي : ما ذكر من سواد وبلق.
وقوله :﴿ خير لكم ﴾ الظاهر أنها هنا صيغة تفضيل، وقد تقرر في فن العربية أن لفظة ( خير وشر ) حذفت العرب منها الهمزة في صيغة التفضيل لكثرة الاستعمال في الأغلب، كما عقده ابن مالك في الكافية بقوله :
وغالبا أغناهم خير وشر*** عن قولهم أخير منه وأشر
ووجه كونها هنا صيغة تفضيل : أن هذا القتل بهذه التوبة يقطع حياتهم الدنيوية، ولكنه يكسبهم حياة أخروية، وهذه الحياة الأخروية خير من الحياة الدنيوية، وهذا معنى قوله :﴿ ذلكم خير لكم عند بارئكم ﴾ أي : ذلكم المذكور من توبتكم وقتلكم أنفسكم خير لكم عند بارئكم من عدمه، أي : عند خالقكم ومبرزكم من العدم إلى الوجود.
وقوله :﴿ فتاب عليكم ﴾ معطوف على محذوف دل المقام عليه، أي : فامتثلتم ما أمرتم به، وقدمتم أنفسكم للقتل، فتاب عليكم.
واختلف العلماء في كيفية هذا القتل الذي أمروا به، قال بعض العلماء : كيفية هذا القتل الذي أمروا به أن من يعبد العجل منهم أمر بأن يقتل من عبد العجل، وقيل : أمروا أن يقتلوا بعضهم بعضا، من عبد العجل ومن لم يعبده، وعلى هذا القول فذنب من لم يعبد العجل أنه لم ينههم، ولم يغير المنكر ؛ لأن المنكر إذا وقع ولم يغير عم العذاب.
وأظهر القولين : أن البريء منهم أمر بقتل الذي عبد العجل. ذكر المفسرون في قصتهم أنهم لما كان الرجل ينظر إلى قريبه وأخيه لا
وقوله :﴿ جهرة ﴾ فيه وجهان من التفسير، أحدهما : أنه متعلق ب﴿ نرى ﴾ والمعنى :﴿ نرى الله جهرة ﴾ أي : عيانا، وانتصابه على أنه مصدر مؤكد لعامله مزيل توهم أنها رؤية منام، أو رؤية علم بالقلب، وقال بعض العلماء : هو يتعلق بقوله :﴿ قلتم ﴾ أي : قلتم جهارا – من غير مواربة – هذا القول العظيم الشنيع، وعلى هذا فأظهر القولين فيها أنه مصدر منكر حال، أي قلتم هذا القول جهرة أي : في حال كونكم جاهرين بهذا الأمر العظيم.
وقوله :﴿ فأخذتكم الصاعقة ﴾ الفاء سببية دلت على أن أخذ الصاعقة إياهم سببه هذا الاجتراء العظيم، وامتناعهم من تصديقهم نبيهم حتى يروا الله عيانا، كما قال جل وعلا :﴿ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ﴾ [ النساء : آية ١٥٣ ].
والصاعقة تطلق إطلاقات : تطلق على النار المحرقة، وعلى الصوت المزعج المهلك، وأكثر إطلاقاتها عليهما معا، صوت مزعج مشتمل على نار مهلكة، وعلى كل حال فعلى أنهم السبعون المذكورون في الأعراف فقد بين أن هذه الصاعقة رجفة، كما في قوله :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال ربي لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ الآية :[ الأعراف : آية ١٥٥ ]. على كل حال فهذه الصاعقة سواء قلنا : إنها نار محرقة، أو صوت مزعج أهلكهم، أو هما معا صوت مزعج أرجف بهم الأرض، فالتحقيق أنهم ماتوا، وأنه صعق موت، كما صرح الله بذلك في قوله :﴿ ثم بعثناكم من بعد موتكم ﴾ [ البقرة : آية ٥٦ ] أنهم ماتوا، أماتهم الله عقابا لمقالتهم هذه الشنعاء، ثم أحياهم بدعاء نبيهم صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا صلى الله عليه وسلم، خلافا لمن زعم أن صعقهم هذا صعق غشية قائلا : إن الصعق قد يطلق على [ غير ] الموت، وذكروا منه قول جرير يهجو الفرزدق :
وهل كان الفرزدق غير قرد*** أصابته الصواعق فاستدار
فقوله : " أصابته الصواعق " ليس معناه أنه مات. والتحقيق أنه صعق موت ؛ لأنه لا أحد أصدق من الله، والله صرح بأنه موت في قوله :﴿ ثم بعثناكم من بعد موتكم ﴾ البعث بعد الموت معناه الإحياء بعد الموت، أي : بعد أن متم. أحياهم الله جل وعلا أحياء.
وعامة المفسرين يقولون إن الزمن الذي مكثوا في هذا الموت أو الغشية – على القول الباطل عند من يزعم أنه صعق غشية لا صعق موت، مدة هذا الصعق الذي التحقيق أنه موت – يوم وليلة، كما عليه عامة المفسرين إلا من شذ.
وقوله :﴿ وأنتم تنظرون ﴾ جملة حالية، وأصل هذه الجملة فيها إشكال معروف، وهو أن يقول طالب العلم : كيف ينظرون، وينظر بعضهم إلى بعض، مع إصابة الصاعقة إياهم ؟
وللعلماء عن هذا أجوبة : أظهرها أن الصاعقة أصابتهم غير دفعة، بل تصيب البعض والبعض ينظر إلى إهلاكه ؛ لأن ظاهر القرآن يجب الحمل عليه إلا بدليل جازم من كتاب وسنة، وظاهر القرآن أن هنالك نظرا لوقوع هذه الصاعقة، أن الصاعقة وقعت في حال نظرهم، وبهذا قال بعض العلماء، وهو الأظهر ؛ لأنه يتمشى مع ظاهر القرآن، ولا مانع من أن تصيب الصاعقة بعضهم والبعض الآخر ينظر إليه، ثم تصيب بعضا والبعض الآخر ينظر إليه، وكذلك قال بعض العلماء : إن الله أحياهم متفرقين في غير دفعة واحدة، يحيى بعضهم والبعض الآخر ينظر إليه كيف يحييه الله. وهذا معنى قوله :﴿ فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ﴾.
وهذه الآية الكريمة فيها دليل جازم على البعث ؛ لأن بني إسرائيل هؤلاء، هذه الطائفة منهم التي أماتها الله فأحياها دليل قاطع على أن الله ( جل وعلا ) قادر على إحياء الموتى. وقد ذكر الله ( جل وعلا ) في هذه السورة الكريمة خمسة أمثلة من إحيائه للموتى في دار الدنيا هذا أولها.
الموضع الثاني : قوله في قتل بني إسرائيل :﴿ فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته ﴾ [ البقرة : آية٧٣ ] وقوله :﴿ كذلك يحي الله الموتى ﴾ يبين به أن إحياءه قتيل بني إسرائيل في دار الدنيا دليل على البعث وإحياءه الموتى، وبعثه إياهم بعد أن صاروا عظاما.
الموضع الثالث : قوله جل وعلا :﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ﴾ [ البقرة : آية ٢٤٣ ].
الموضع الرابع : قوله في عزير وحماره :﴿ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك ءاية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٩ ]. وفي القراءة الأخرى ﴿ كيف ننشرها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾.
الموضع الخامس : طيور إبراهيم المذكور في قوله :﴿ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم ﴾ [ البقرة : آية ٢٦٠ ].
وصيغة الجمع في قوله :﴿ وظللنا ﴾ للتعظيم.
﴿ وأنزلنا عليكم المن والسلوى ﴾ لما اشتكوا في التيه من الجوع، دعا الله نبيهم، فأنزل الله المن والسلوى. وأكثر علماء التفسير على أن المن : الترنجبين، وهو شيء ينزل كالندى ثم يجتمع، أبيض، حلو، يشبه العسل الأبيض، هذا قول أكثر المفسرين في المراد بالمن.
قال بعض العلماء : ولا يعارض هذا ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه قال : " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ". قالوا : فمراده صلى الله عليه وسلم بقوله : " من المن " أي : من جنس ما من الله به على بني إسرائيل، حيث إنه طعام يوجد – فضلا من الله – من غير تعب، وظاهر الحديث أن الكمأة من نفس ما من الله به على بني إسرائيل في التيه.
وقوله :﴿ والسلوى ﴾ جمهور المفسرين، أو عامة المفسرين على أن ( السلوى ) : طير، قال بعضهم : هو السمانى، وقال بعضهم : طائر يشبه السمانى. وتفسير من فسر السلوى بأنه ( العسل ) غير صواب، وكذلك ادعاء أن السلوى يطلق في لغة العرب على العسل، ومنه قول الهذلي :
وقاسمتها بالله جهدا لأنتم*** ألذ من السلوى إذا ما نشورها
والشور : استخراج العسل خاصة.
لكن ليس المراد بالسلوى في الآية العسل، وإنما المراد به طائر، كما عليه عامة المفسرين، هو السمانى أو طائر يشبه السمانى.
وقوله :﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ محكي قول محذوف، أي : وقلنا لهم : كلوا من طيبات ما رزقناكم كهذا المن والسلوى، وهما طيبان حسا ومعنى ؛ للذاذة طعمهما وحليتها شرعا ؛ لأنهما من وفضل من الله جل وعلا.
﴿ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ هنا محذوف دل المقام عليه، والمعنى :﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ أي : أنعمنا عليهم هذه النعم فقابلوا نعمنا بعدم الشكر، وارتكاب المعاصي، ﴿ وما ظلمونا ﴾ بتلك المعاصي التي قابلوا بها نعمنا ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾.
وقال بعض العلماء : أمروا أن لا يدخروا من المن والسلوى فخالفوا أمر الله وادخروا، وما ظلمونا بذلك الادخار المنهي عنه ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. والقول الأول أشمل، وهو الصواب.
وقوله ( جل وعلا ) في هذه الآية :﴿ وما ظلمونا ﴾ فيه الدليل الواضح على أن نفي الفعل لا يستلزم إمكانه ؛ لأن الله نفى عنه أنهم ظلموه، ونفيه ( جل وعلا ) عن نفسه أنهم ظلموه، لا يدل على أنه يمكن أن يظلموه، بل نفي الفعل لا يدل على إمكانه.
وقوله جل وعلا :﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ ( لكن ) واقعة في موقعها، والمعنى : أن هذا الظلم واقع على أنفسهم حيث عرضوها به لسخط الله ( جل وعلا ) وعقابه، فضرر فعلهم عائد إليهم، والله ( جل وعلا ) لا تضره معاصي خلقه، ولا تنفعه طاعاتهم ﴿ فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد ﴾ [ التغابن : آية ٦ ].
وقد بين القرآن في آيات كثيرة أن الله ( جل وعلا ) لا يتضرر بمعاصي خلقه ولا يتنفع بطاعاتهم، كقوله :﴿ إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ﴾ [ إبراهيم : آية ٨ ]، وقوله :﴿ فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد ﴾ [ التغابن : آية ٦ ]، وقوله :﴿ يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ﴾ [ فاطر : آية ١٥ ]، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا " الحديث.
هذا معنى قوله :﴿ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ أي : قابلوا نعمنا بالمعاصي، وما ظلمونا بذلك ولكن ظلموا أنفسهم بذلك.
والتحقيق الذي عليه جمهور المفسرين أنها ( بيت المقدس )، ويدل عليه قوله في المائدة :﴿ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ﴾ [ المائدة : آية ٢١ ] هذه القرية. ولما زال عنهم التيه، ومات موسى وهارون، وكان الخليفة بعدها يوشع بن نون، وجاؤوا وجاهدوهم الجهاد المعروف في التاريخ، الذي رد الله فيه الشمس ليوشع بن نون، وفتحوا البلد، أمرهم الله ( جل وعلا ) أن يشكروا هذه النعمة بقول يقولونه، وفعل يفعلونه، فبدلوا القول الذي قيل لهم بقول غيره، وبدلوا – أيضا – الفعل الذي قيل لهم بفعل غيره، وتقرير المعنى :﴿ وإذ قلنا ادخلوا القرية فكلوا منها حيث شئتم ﴾ فكلوا من هذه القرية حيث شئتم. ( حيث ) كلمة تدل على المكان كما تدل ( حين ) على الزمان، ربما ضمنت معنى الشرط، وهي تعم، أي : في أي مكان من أمكنة هذه القرية شئتم.
وقوله :﴿ رغدا ﴾ نعت لمصدر محذوف أي :( أكلا رغدا ) أي : واسعا لذيذا لا عناء فيه ولا تعب. وهذا الذي أبيح لهم هنا الذي يظهر أنه يدخل فيه ما طلبوه – أي : طلبوا نبيهم موسى أن يدعوا الله لهم أن يطيعهم إياه – الآتي في قوله :﴿ لن نصبر على طعام واحد فادعوا لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ﴾ [ البقرة : آية ٦١ ] الظاهر أن الله لما قال لهم :﴿ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ﴾ [ البقرة : الآية ٦١ ] وفتح عليهم هذه القرية قال لهم :﴿ ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا ﴾ [ البقرة : الآية ٥٨ ] وأنه يدخل في ذلك ما طلبوه أيام التيه من البقول والفوم والعدس والبصل وما ذكر معها.
ثم إن الله ( جل وعلا ) أمرهم بفعل وقول شكرا لنعمة الفتح، وهو قوله :﴿ ادخلوا الباب سجدا ﴾ أي : ادخلوه في حال كونكم سجدا. والسجد جمع ساجد، و ( الفاعل ) إذا كان وصفا من جموع تكسيره المعروفة – جموع الكثرة – أن يجمع على ( فعل )، كساجد وسجد، وراكع وركع.
قال بعض العلماء : هو سجود ركوع وانحناء تواضعا لله، وشكرا على نعمة الفتح. وقد يفهم من هذا أن نعمة الفتح ينبغي أن تشكر بالسجود لله ( جل وعلا ). ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة صلى الضحى ثمان ركعات. وكان العلماء يرون أنها صلاة شكر على ما أنعم الله عليه به من الفتح، والله ( تعالى ) أعلم. وهذا معنى قوله :﴿ ادخلوا الباب ﴾ الباب : واحد الأبواب، وألفه الكائنة في موضع العين مبدلة من واو، بديل تصغيره على ( بويب )، وجمعه على ( أبواب ).
و ﴿ سجدا ﴾ حال من الواو في ﴿ ادخلوا ﴾، أي : حال كونكم سجدا لله على نعمة الفتح. وقال بعض العلماء : هو سجود انحناء وتواضع. ومنهم من شذ فزعم أنه مطلق التواضع لله. والسجود وإن كان في لغة العرب قد يطلق على مطلق التواضع فليس هو المراد في الآية.
وقوله :﴿ وقولوا حطة ﴾ هذا القول الذي قيل لهم أيضا. و ﴿ حطة ﴾ ( فعلة ) من ( الحط )، و ( الحط ) معناه الوضع، وهو خبر مبتدأ محذوف، ومتعلقها محذوف. وتقرير المعنى بإيضاح :( وقولوا مسألتنا لربنا حطة ) أي : غفران لذنوبنا وحط، أي : وضع لأوزارنا عن ظهورنا، فهو لفظ عربي فصيح. هذا هو القول الذي قيل لهم، أمرهم الله أن يدخلوا سجودا متواضعين، وأن يقولوا قولا هو استغفار وطلب لحط الذنوب. وهذا معنى قوله :﴿ وقولوا حطة ﴾.
وقوله :﴿ نغفر لكم خطاياكم ﴾ فيه ثلاث قراءات سبعيات : قرأه نافع المدني :﴿ يغفر لكم خطاياكم ﴾ بالياء المضمومة وفتح ( الفاء ) مبنيا للمفعول. وإنما جاز تذكيره والإتيان بالياء لأن تأنيث الخطايا غير حقيقي ؛ ولأنه فصل بينه وبين الفعل فاصل، وهو ( لكم )، والفصل يبيح ترك ( التاء ) كما تقدم. وقرأه الشامي ابن عامر :﴿ تغفر لكم خطاياكم ﴾ بضم ( التاء ) وفتح ( الفاء ) مبنيا للمفعول. ﴿ خطاياكم ﴾ نائب الفاعل في كلتا القراءتين. وقرأه غيرهما من القراء :﴿ نغفر لكم خطاياكم ﴾ ﴿ خطاياكم ﴾ في محل نصب على المفعول به، و ﴿ نغفر ﴾ بكسر ( الفاء ) مبنيا للفاعل. وقراءة الجمهور أشد انسجاما بالسياق ؛ لأن الله قال قبلها :﴿ قلنا ﴾، ﴿ وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ﴾ وقال بعدها :﴿ وسنزيد المحسنين ﴾ بصيغة التعظيم، فقراءة الجمهور أشد انسجاما وملاءمة مع السياق من قراءة نافع وقراءة ابن عامر.
و ( الخطايا ) : جمع الخطيئة، والخطيئة : الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه التنكيل، أي : نغفر لكم ذنوبكم العظيمة.
ثم قال ( جل وعلا ) :﴿ وسنزيد المحسنين ﴾ للعلماء في تفسير المحسنين هنا أقوال، والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن لا يعدل في تفسيرها عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله لما سأله جبريل عن الإحسان : " هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". يعني : الذين كانوا أشد مراقبة لله في أعمالهم سيزيدهم الله إيمانا ؛ لأن الإنسان كلما ازداد تقواه لله ( جل وعلا ) زاده الله، كما قال تعالى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى ﴾ [ محمد : آية ١٧ ] معناه : وسنزيد المحسنين منكم، أي : الذين هم أشد مراقبة لله سنزيدهم من الخير والإيمان. وقال بعض العلماء : سنزيد في جزاء أعمال المحسنين ؛ لأن العمل الذي يراقب صاحبه الله قد يكون ثوابه أكثر ممن هو منه مراقبة.
وما قاله بعض العلماء : من أن هذه الآية الكريمة يؤخذ منها عدم نقل الحديث بالمعنى ؛ لأن الله ذم من بدل قولا بقول غيره، فيلزم أن يكون القول هو نفس ما أمر به، لا قولا غيره، غير صواب. ويجاب عنه : بأن القول المأمور به له حالتان : إما أن يكون متعبدا بلفظه ك ( الله أكبر ) في الصلاة، وما جرى مجرى ذلك من العبادات القولية، فمثل هذا لا يجوز تبديله، ومن بدله يلحقه من الوعيد ما لحقهم بقدر ما ارتكب في قوله :﴿ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ﴾ ولا يجوز تبديله. أما الذي لم يتعبد به بلفظه فلا مانع من أن يبدل بلفظ يؤدي معناه إذا لم يكن هناك تفاوت في المعنى.
وجماهير العلماء من المسلمين قديما وحديثا على جواز نقل الحديث بالمعنى إذا كان ناقله بالمعنى عارفا باللسان، متبحرا فيه، لا تخفى عليه النكت والتفاوت الذي يكون بين الألفاظ، ونقله بحالة ليست أخفى من نص الحديث، ولا أظهر من نص الحديث، فلا يجوز نقله بلفظ أظهر منه. قال بعض العلماء : لأنه قد يعارضه حديث آخر، والظهور من المرجحات بين النصوص المتعارضة، فيظن المجتهد أن لفظ الراوي الظاهر الذي بدله بلفظ هو أقل منه ظهورا أنه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فيرجحه بهذا الظهور على حديث آخر، فيكون استناد هذا الترجيح مستندا لتصرف الراوي، وهذا مما لا ينبغي. وعلى كل حال فمسألة نقل الحديث بالمعنى مسألة معروفة في الأصول، وفي علوم الحديث، منعها قوم واستدلوا بالحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع الرجل قال : " آمنت بكتابك الذي أنزلت ورسولك الذي أرسلت ". رد عليه وقال : " ونبيك الذي أرسلت ". ولا شك أن اللفظ الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لا يقوم مقامه اللفظ الذي تصرف فيه الراوي ؛ لأن " ونبيك الذي أرسلت " واضح بليغ لا تكرير فيه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون مرسلا وغير مرسل، والرسول مرسل قطعا، فيكون " رسولك الذي أرسلت " تكرار – يعني – لأن " الذي أرسلت " معناه يؤديه " رسولك " أما " نبيك الذي أرسلت " فيكون كل من الكلمتين عمدة وتأسيسا لا لغوا، والحاصل أنه معروف أن الجمهور من العلماء على جواز نقل الحديث بالمعنى إذ وثق الراوي أنه لم يزد في معناه ولم ينقص، وأن قوما منعوا ذلك، وأن الآية لا دليل فيها لذلك ألبتة ؛ لأنهم إنما بدلوا قولا منافيا للقول الذي قيل لهم في المعنى، والتبديل إذا كان منافيا في المعنى ممنوع بإجماع المسلمين، وليس مما فيه الخلاف، إنما الخلاف في تبديل الألفاظ مع بقاء المعنى، وهم بدلوا اللفظ بلفظ لا يؤدي معناه، أمروا بأن يقولوا ( حطة )، فقالوا :( حبة في شعرة )، أو ( حنطة في شعيرة ) ! ! فالقول الذي بدلوا به ليس معناه يؤدي معنى القول الذي أمروا به، فكأنهم رفضوه بتاتا، وعصوا الله، وجاؤوا بما لم يؤمروا به، لا لفظا ولا معنى. والفعل الذي بدلوا به : أنهم أمروا بالسجود فدخلوا يزحفون على استاههم.
وقوله :﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا ﴾ الفاء سببية، وصيغة الجمع للتعظيم، أي : فبسبب تبديلهم القول الذي قيل لهم بقول غيره، والفعل الذي قيل لهم بفعل غيره أنزلنا عليهم، وإنما أظهر في محل الإضمار قال :﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا ﴾ ولم يقل :( فأنزلنا عليهم ) ليسجل عليهم موجب هذا العذاب ؛ وأنه الظلم ؛ ولذا عدل عن الضمير إلى الظاهر قال :﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ﴾ ليبين أن هذا الرجز منزل عليهم بسبب ظلمهم، والضمير لا يعطي هذا، وإن كان معناه يؤدي المعنى في الجملةوهذا معنى قوله :﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا ﴾ أي : أنفسهم بتبديل القول بقول غيره، والفعل بفعل غيره.
﴿ رجزا من السماء ﴾ الرجز : العذاب، وهذا العذاب طاعون أنزله الله عليهم. قال العلماء : أهلك الله به منهم سبعين ألفا.
وقوله :﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ ( الباء ) سببية، و ( ما ) مصدرية، أي : بسبب كونهم فاسقين. والفسق في لغة العرب الخروج، ومنه قوله جل وعلا :﴿ إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ﴾ أي : فخرج عن طاعة ربه، والعرب تقول :( فسقت الرطبة من قشرتها ) إذا خرجت، و ( فسقت الفأرة ). إذا خرجت من جحرها للإفساد. وكون الفسق يطلق على الخروج معروف في كلام العرب، ومنه قول رؤبة بن العجاج :
يهوين في نجد وغورا غائرا*** فواسقا عن قصدها جوائر
فقوله : " فواسقا عن قصدها " أي : خوارج عن طريق القصد إلى طريق آخر. وقال بعض العلماء : إنما كرر لفظ ( الظلم ) في قوله :﴿ فبدل الذين ظلموا ﴾ ﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا ﴾ لأن هذا الفعل الذي هو ظلمهم ذكره له أهمية في السياق ؛ لأنهم ظلموا في الوقت الذي أنعم الله عليهم، وعصوا أمر ربهم، ومن عادة العرب إذا كان الأمر له أهمية أن تكرره، سواء كانت أهميته من جهة خير، أو أهميته من جهة شر، كما قال الشاعر :
ليت الغراب غداة بنعب دائما*** كان الغراب مقطع الأوداج
لأن الغراب لما نعب بين أحبته صار الغراب له أهمية عنده فكرر لفظه، ومنه قول الآخر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء*** نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
لما كان الموت له أهمية في قطعه الحياة كرره، ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب، وعلماء البلاغة يقولون إن إعادة قوله :﴿ ظلموا ﴾ في قوله :﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا ﴾ ليسجل عليهم الذنب الذي بسببه أنزل عليهم العذاب كما قدمناه، والله ( تعالى ) أعلم.
ومعنى قوله جل وعلا :﴿ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾ كما ذكره المفسرون : أنه قتل في بني إسرائيل قتيل كما يأتي في قوله :﴿ وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها ﴾ [ البقرة : آية ٧٢ ] يزعمون أن اسم القتيل ( عاميل ). قال بعضهم : كان له أقرباء فقراء، وهو غني، فقتلوه ليرثوه. وقيل : كانت تحته امرأة جميلة فقتله بعض الناس ليتزوجها. والأول أكثر قائلا. وعلى كل حال فالذين قتلوا القتيل ادعوه على غيرهم، وسألوا من نبي الله موسى أن يسأل الله لهم ليبين لهم قاتل القتيل، فأمرهم الله ( جل وعلا ) على لسان نبيه أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل بجزء منها، فيحيا القتيل، ويخبرهم بقاتله. وهذا معنى قوله : واذكر ﴿ إذ قال ﴾ أي : حين قال ﴿ موسى لقومه ﴾ لما ادارؤوا في القتيل وتدافعوه، كل يدفع قتله عن نفسه إلى غيره :﴿ إن الله ﴾ جل وعلا ﴿ يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾ أي : وتضربوا القتيل ببعضها فيحيا، فيخبركم عن قاتله. وقرأ هذا الحرف جماهير القراء :﴿ يأمركم ﴾ بضمة مشبعة على القياس. وقرأه أبو عمرو :﴿ يأمركم ﴾ بإسكان الراء، وزاد عنه الدوري باختلاس الضمة، وقد قدمنا وجه ذلك في قراءته في ﴿ فتوبوا إلى بارئكم ﴾.
وقوله :﴿ أن تذبحوا بقرة ﴾ المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها هو متعلق الأمر، وأصل ( أمر ) تتعدى بالباء، والأصل :( يأمركم بأن تذبحوا بقرة ) أي : بذبح بقرة، وضرب القتيل بجزء منها، كما عدى الأمر بالباء في قوله :﴿ إن الله يأمركم بالعدل والإحسان ﴾ [ النحل : آية ٩٠ ] فالمصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها مجرور بحرف محذوف، وحذف هذا الحرف قياس مطرد كما عقده في الخلاصة بقوله :
وعد لازما بحرف جر*** وإن حذف فالنصب للمنجر
نقلا وفي أن وأن يطرد*** مع أمن لبس كعجبت أن يدوا
ولطالب العلم هنا سؤال، وهو أن يقول : عرفنا أن المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها المجرور بالباء المحذوفة في قوله :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾ أي :( يأمركم بأن تذبحوا بقرة )، فهذا المصدر بعد حذف الباء هل محله الجر بالباء المحذوفة، أو محله النصب لما نزع الخافض ؟
الجواب : أن جماهير النحويين أنه في محل نصب، وأنه لو عطف عليه لنصب على اللغة الفصحى. وخالف في هذا ( الأخفش ) فقال : إن محله الجر. واستدل على ان محله الجر بأنه سمع عن العرب خفض المعطوف عليه في قول الشاعر :
وما زرت ليلى أن تكون حبيبة*** إلي ولا دين بها أنا طالبه
فخفض قوله : " ولا دين " بالعطف على المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها المجرور بحرف محذوف. وتقرير المعنى : " فما زرت ليلى أن تكون حبيبة " أي : لكونها حبيبة، ولا لدين بها أنا طالبه. وأجاز سيبويه الوجهين، أن محله الكسر، والعطف عليه بالخفض، وأن محله النصب، والعطف عليه بالنصب.
وأجاب الجمهور عن البيت الذي أورده الأخفش بأن الخفض فيه من عطف التوهم، وعطف التوهم يكفي فيه مطلق توهم جواز الخفض. وعطف التوهم مسموع في كلام العرب، ومن أمثلة قول زهير :
بدا لي أني لست مدرك ما مضى*** ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
فالرواية نصب " مدرك " وخفض " سابق "، والمخفوض معطوف على المنصوب، وهو عطف توهم. أعني توهم ( الباء ) في خبر ( ليس ) ؛ لأن ( بدا لي أني لست مدرك ما مضى ) يجوز فيه : لست بمدرك ولا سابق، كما قال :
وبعد ( ما ) و ( ليس ) جر ( البا ) الخبر...............................
فتوهموا ( الباء ) لمطلق الجواز، وعطفوا عليه خفضا عطف توهم، ونظيره قول الآخر :
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة*** ولا ناعب إلا ببين غرابها
بخفض ( ناعب ) عطفا على ( مصلحين )، لتوهم جواز دخول الباء.
قالوا : من ذلك :
وما زرت ليلى أن تكون حبيبة إلي ولا دين....
لتوهم اللام.
وقوله جل وعلا :﴿ أن تذبحوا بقرة ﴾ الذبح معروف، و ( بقرة ) قال بعض العلماء : تاؤه للتأنيث، وذكره يسمى ثورا. وقال بعض العلماء : هي تاؤه الوحدة، والبقر يطلق على ذكره وأنثاه.
وهذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أنهم لو ذبحوا أي بقرة لأجزأت، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.
وقوله جل وعلا :﴿ قالوا أتتخذنا هزوا ﴾ أي : قال قوم موسى لما قال لهم :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾ :﴿ أتتخذنا هزوا ﴾ أي : مهزوءا منا من قبلك بأن نقول لك : ادع لنا ربك يبين لنا قاتل القتيل، فتجيبنا بقولك :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾ فهذا الجواب غير مطابق للسؤال، فكأنك تستهزئ منا، وتسخر منا، ولم يفهموا أن المراد بذبح البقرة أنه يضرب القتيل ببعض منها فيحيا – بإذن الله – ويخبرهم بقاتله، فقال نبي الله موسى :﴿ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ﴾ أعتصم وأمتنع بربي أن أكون من الجاهلين. الجاهلون : جمع الجاهل، وهو الوصف من ( جهل ). وأحسن تعار يف الجهل عند علماء الأصول : أنه هو انتفاء العلم بما من شأنه أن يقصد ليعلم، وللعلماء فيه أقوال متعددة محل ذكرها في فن الأصول.
والمعنى : أن نبي الله موسى استعاذ بربه ( جل وعلا ) من أن يكون معدودا، وفي عداد الجاهلين. والآية تدل على أن من يستهزىء من الناس أنه جاهل لأن نبي الله موسى استعاذ بالله أن يكون اتخذهم هزوا كما قالوا ؛ ولذا قال :﴿ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ﴾ فلما علموا أن الأمر من الله جد، وأن الجواب مطابق لسؤالهم، وأن المراد بذبح البقرة أن يضرب القتيل بجزء منها فيحيا، فيخبرهم بقاتله، تعنتوا وأكثروا الأسئلة فشددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم.
لعمري لقد أعطيت جارك فارضا*** تساق إليه ما تقوم على رجل
ولم تعطه بكرا فيرضى سمينه*** فكيف تجازى بالمودة والفضل
ومن إطلاق العرب الفارض على ما تقادم عهده قول الراجز :
يا رب ذي ضغن علي فارض*** له قروء كقروء الحائض
يعني : بالضغن الفارض : أنه تقادم عهده وطالت سنه. قال بعض العلماء : ومنه قول الآخر :
شيب أصداغي فرأسي أبيض*** محافل فيها رجال فرض
قال : أي طاعنون في السن، والأظهر أن المراد بقول هذا الراجز " فرض " أي : ضخام الأبدان ؛ لأن العرب تطلق الفارض أيضا على الضخم عظيم البدن.
وقوله :﴿ ولا بكر ﴾ البكر : هي التي لم يفتحلها الفحل لصغرها.
وقال بعض العلماء : البكر : التي ولدت مرة، ولكن المراد هنا التي لم يفتحلها الفحل لصغر سنها، والمعنى : ليست هذه البقرة التي أمرتم بذبحها بطاعنة في السن فارض، ولا بصغيرة جدا لم يفتحلها الفحل، بل هي ﴿ عوان بين ذلك ﴾ العوان : النصف، أي : لا طاعنة في السن ولا بكر، أي : لا صغيرة جدا بل هي :﴿ عوان بين ذلك ﴾ والعوان : النصف، وأصل النصف : التي انتصف عمرها، وهي وسط في السن، ليست بصغيرة جدا، ولا كبيرة جدا، وكل متوسطة في السن نصف تسميها العرب ( عوانا )، وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الطرماح قال :
حصان مواضع النقب الأعالي*** نواعم بين أبكار وعون
يعني بالأبكار جمع بكر، الصغيرة التي لم تتزوج. والعون : جمع عوان، وهي النصف، والنصف التي انتصف عمرها، فهي في وسط سنها، ليست بكبيرة جدا، ولا بصغيرة جدا، ومنه قول كعب بن زهير :
شد النهار ذراعا عيطل نصف*** قامت فجاوبها نكد مثاكيل
وفسر بعض الأدباء في شعره ( النصف ) بالتي انتصف عمرها، حيث قال :
وإن أتوك وقالوا إنها نصف*** فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا
وقوله :﴿ بين ذلك ﴾ فيه سؤال معروف وهو أن ( ذلك ) إشارة إلى مفرد مذكر، كما قال في الخلاصة :
بذا لمفرد مذكر أشر***..............................
و ( بين ) لا تضاف للمفرد إلا إذا أريدت أجزاؤه.
والجواب : أن ذلك وإن كان لفظه مفردا فمعناه مثنى ؛ لأن الإشارة راجعة إلى ما ذكر من الفارض والبكر، أي بين ذلك المذكور من فارض وبكر ؛ لأن العوان أصغر من الفارض وأكبر من البكر، ونظير هذا من كلام العرب قول ابن الزبعرى كما تقدم :
إن للشر وللخير مدى*** وكلا ذلك وجه وقبل
أي : وكلا ذلك المذكور من شر وخير ؛ لأن ( كلا ) لا تضاف إلا لمثنى لفظا أو معنى، وهذا معنى قوله :﴿ عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون ﴾ الأصل ( ما تؤمرون به ) فحذف الباء، فوصل الفعل إلى الضمير فحذف.
وهذا الذي يؤمرون به هو ذبح البقرة ليضربوا القتيل بجزء منها فيحيا.
وهذا معنى قوله :﴿ فافعلوا ما تؤمرون ﴾ فزادوا تعنتا وسؤالا وتشديدا فشدد الله عليهم أيضا.
﴿ يبين لنا ما لونها ﴾ اللون هو إحدى الكيفيات التي يكون عليها الجرم، كالسواد والبياض. يعني ما اللون الذي هي متلونة به ؟
﴿ قال إنه ﴾ أي : ربكم جل وعلا :﴿ يقول إنها بقرة صفراء ﴾ أي : متصفة بلون الصفرة، والتحقيق أن المراد بالصفرة هنا الصفرة المعروفة، وما ذهب إليه بعض أهل العلم من أن المراد بالصفرة ( السواد ) مردود من وجهين :
أحدهما : أنه أكد الصفرة بقوله :﴿ فاقع لونها ﴾ والفقوع لا يوصف به إلا الصفرة الخالصة تماما.
[ ثانيهما ] : أن العرب لا تطلق الصفرة وتريد السواد إلا في الإبل خاصة دون غيرها، كما يأتي في تفسير قوله :﴿ إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالت صفر ﴾ [ المرسلات : الآيتان ٣٢ - ٣٣ ] الجمالة جمع الجمل. والمراد ب ( الصفر ) هناك ( السود ) ؛ لأن شرر نار الآخرة أسود، والعرب إنما تطلق الصفرة على السواد في الإبل خاصة دون غيرها من سائر الحيوانات، ومن إطلاق العرب الصفرة على سواد الإبل قول الأعشى :
تلك خيلي منه وتلك ركابي*** هن صفر أولادها كالزبيب
يعني بقوله :( صفر ) : سود. فالتحقيق أن المراد بالصفرة هنا : هي الصفرة المعروفة.
وقوله :﴿ فاقع لونها ﴾ هذا نعت سببي.
والتحقيق في إعراب ﴿ لونها ﴾ أنه فاعل لقوله :﴿ فاقع ﴾ وأن ﴿ فاقع ﴾ نعت سببي لقوله :﴿ بقرة صفراء ﴾ و ﴿ لونها ﴾ فاعل به لقوله :﴿ فاقع ﴾.
وقال بعض العلماء :( لونها ) مبتدأ مؤخر، و ( فاقع ) خبر مقدم، وجملة المبتدأ والخبر في محل النعت. أي : بقرة صفراء لونها فاقع. أي : صفرتها خالصة جدا.
وقوله :﴿ تسر الناظرين ﴾ أي : يدخل السرور على من نظر إليها لكمال حسنها. ذكروا في قصتها أن الشمس تتوضح في جلدها لشدة حسنها. وعادة إذا نظر الإنسان إلى شيء جميل سره النظر إلى ذلك الشيء الجميل ؛ ولذا قال جل وعلا :﴿ تسر الناظرين ﴾.
فالسؤال الأول عن سنها، وهل هي كبيرة، أو صغيرة، أو متوسطة ؟
والسؤال الثاني عن لونها، وقد تقدم الجواب فيهما.
والسؤال الثالث عن صفتها، هل هي مذللة مروضة عاملة، أو هي صعبة غير مروضة ؟ وهل فيها لون يخالف لون جلدها الآخر ؟ ولذا أجابه بما يأتي.
﴿ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا ﴾ يعنون [ أن ] هذه الأوصاف كثيرة في البقر، فيكثر في البقر : الصفرة، والفقوع، والتوسط في السن، فلم تتميز لنا هذه البقرة من غيرها من البقر للاشتراك في الصفات.
وأفرد الضمير في ﴿ تشابه ﴾ وذلك يدل على أن أسماء الأجناس يجوز تذكيرها وتأنيثها وقراءة الجمهور هنا ﴿ تشابه ﴾ هو. أي البقر، بصيغة الماضي. وتذكير الضمير لأن ( البقر ) جنس يجوز تذكيرها وتأنيثها. وفي بعض القراءات :﴿ تشابه علينا ﴾ وأصله : تتشابه هي، أي : البقر، وأدغم التاء في التاء، وهذه قراءة شاذة. و( البقر ) يجوز تذكيره وتأنيثه، وهو اسم جنس يقال فيه : باقر، وبيقور، وفيه لغات غير ذلك. ومن إطلاقه على ( البيقور ) قول الشاعر :
أجاعل أنت بيقورا مسلعة*** ذريعة لك بين الله والمطر
قيل : سمي البقر بقرا لأنه يبقر الأرض، يعني بحيث يشقها للحرث. وهذا معنى قوله :﴿ إن البقر تشابه علينا ﴾.
﴿ وإنا إن شاء الله لمهتدون ﴾ مفعول المشيئة محذوف، وتقرير المعنى : وإنا لمهتدون إن شاء الله هدايتنا. ففصل بين اسم ( إن ) وخبرها، وحذف مفعول ( إن شاء ) لدلالة المقام عليه. وتقرير المعنى : وإنا لمهتدون إلى نفس البقرة المطلوبة إن شاء الله هدايتنا إليها. ذكر عن ابن عباس أنه قال : لو لم يقولوا إن شاء الله لما اهتدوا إليها أبدا.
﴿ إنها بقرة لا ذلول ﴾ أي : لم تذلل بالرياضة، بل هي صعبة متوحشة.
وقوله :﴿ لا ذلول تثير الأرض ﴾ يعني لم تذلل، ليست بذلول مروضة، ولا تثير الأرض، أي : لا يحرث عليها ؛ لأن البقر تثار عليها الأرض للحرث، وهذه البقرة لم تذلل بالرياضة، ولم تثر أرض الحرث لصعوبتها وتوحشها، فليست مروضة.
﴿ تثير الأرض ولا تسقي الحرث ﴾ يعني : ليست مما يحرث عليه، ولا يستنى عليه لسقي الزرع ؛ لأنها صعبة متوحشة. وهذا هو التحقيق : أن ﴿ تثير ﴾ و ﴿ تسقي ﴾ كلها معطوفات على النفي فهي منفية. والمعنى :﴿ لا ذلول ﴾ ليست مذللة مروضة، وليست ﴿ تثير الأرض ﴾ للحرث و ﴿ ولا تسقي الحرث ﴾ أيضا ؛ لأنها صعبة متوحشة. خلافا لمن زعم أن ﴿ تثير الأرض ﴾ مؤتنف.
والذين قالوا : " تثير الأرض " يرد قولهم أنه قال :﴿ لا ذلول ﴾ والمروضة للحرث ذلول.
وأجاب بعضهم : أن المراد ب ﴿ تثير الأرض ﴾ أي : تثيرها بشدة وطء أظلافها لنشاطها وقوتها. وهذا خلاف الظاهر، بل معنى الآية : أن من صفات هذه البقرة أنها غير مروضة، وغير مذللة، فليست تثير الأرض ؛ لأنها لم تذلل لذلك، ولا تسقي الحرث، ولا يستنى عليها ؛ لأنها لم ترض، ولم تذلل لذلك. وهذا معنى الآية.
وقوله :﴿ مسلمة ﴾ أي : من جميع العيوب، ليس فيها عرج، ولا عور، ولا كسر قرن، ولا أي عيب. أي : مسلمة من جميع العيوب.
وقوله :﴿ لا شية فيها ﴾ وزن الشية :( علة )، وأصل مادتها :( وشى )، ومعروف أن المثال – أعني واوي الفاء – يطرد حذف فائه في المصدر – مثلا – إذا كان على ( علة )، وكذلك في المضارع والأمر، كما عقده في الخلاصة بقوله :
فا أمر او مضارع من كوعد*** احذف وفي كعدة ذاك اطرد
فأصل الشية :( وشية ) من الوشي، والوشي : هو – مثلا – أن يكون في الشيء لونان مختلفان تقول العرب : فيه وشي. وإذا كان – مثلا – حمار الوحش أو الثور فيه خطوط – يعني تخالف لونه في أرجله – يقولون له : موشي. أي : فيه وشي. ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا*** بذي الجليل على مستأنس وحد
من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
( موشي أكارعه ) يعني [ أن ] فيها وشيا. أي : خطوطا تخالف لونه، فمعنى ﴿ لا شية فيها ﴾ أي : لا وشي من خطوط مخالفة للونها، بل لونها كله أصفر فاقع على وتيرة واحدة، حتى قال بعض العلماء : إن أظلافها وقرونها صفر. وهذا معنى قوله :﴿ لا شية فيها ﴾.
﴿ قالوا الآن جئت بالحق ﴾ الألف واللام زائدتان لزوما في ﴿ الآن ﴾. وهي يعبر عنها بالوقت الحاضر. وبعض العلماء يقول : هو مبني على الفتح ؛ لأنه خولفت به نظائره. وعلى كل حال فالمراد ب ﴿ الآن ﴾ : الوقت الحاضر، في هذا الوقت الحاضر ﴿ جئت ﴾ – يعني في صفات هذه البقرة المطلوبة – ﴿ بالحق ﴾، ويتعين هنا حذف الصفة ؛ لأنه لو لم تقدر الصفة لكانوا كفارا ؛ لأنهم لو قالوا : لم يأت بالحق إلا في هذا الوقت، فقبل هذا الوقت لم يكن آتيا بالحق ! ! كانوا مكذبين لنبي كريم، ومن كذب نبيا كريما فهو كافر ؛ ولذلك يتعين تقدير النعت هنا، والمعنى : جئت بالحق الذي لا يترك في هذه البقرة لبسا لإيضاحها بصفاتها الكاشفة تماما، وقد تقرر في علم العربية : أن حذف الصفة إذا دل المقام عليه موجود في القرآن، وفي كلام العرب، فمن أمثلته في القرآن ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ﴾ [ الكهف : آية ٧٩ ] حذف نعتها، أي : كل سفينة صحيحة. إذ لو كان يأخذ المعيبة لما كان في خرق الخضر للسفينة فائدة، ولما قال :﴿ فأردت أن أعيبها ﴾ [ الكهف : آية ٧٩ ].
قال بعض العلماء : ومنه ﴿ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها ﴾ [ الإسراء : آية ٥٨ ] قالوا : حذف وصفه. أي : وإن من قرية ظالمة. بدليل قوله :﴿ وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾ [ القصص : آية ٥٩ ]. ومن شواهد حذف النعت في لغة العرب قول الشاعر، وهو المرقش الأكبر :
ورب أسيلة الخدين بكر*** مهفهفة لها فرع وجيد
أي : لها فرع فاحم، وجيد طويل. ومن هذا القبيل قول عبيد بن الأبرص الأسدي :
من قوله قول ومن فعله*** فعل ومن نائله نائل
يعني : من قوله قول فصل، ومن فعله فعل جميل، ومن نائله نائل جزل. فحذف النعوت لدلالة المقام عليها، وهذا كثير في كلام العرب، وإن ذكر ابن مالك في الخلاصة أن حذف النعت قليل حيث قال :
وما من المنعوت والنعت عقل*** يجوز حذفه وفي النعت يقل
وهذا معنى قوله :﴿ قالوا الآن جئت بالحق ﴾ أي : جئت في الوقت الأخير بالحق الذي لا يترك في هذه البقرة لبسا، ولا يتركها تتشابه مع غيرها من البقر ؛ لأنه ميزت بصفاتها الكاشفة التي تفصلها وتميزها عن غيرها.
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة جواز السلم في الحيوانات، وأنها تنضبط بصفاتها الكاشفة حتى تصير كالمرئية ؛ لأن هؤلاء الناس لا يوجد ناس أشد منهم تعنتا، فاضطرتهم الصفات الكاشفة إلى أن اعترفوا بأن هذه البقرة ظهرت صفاتها وتميزت عن غيرها، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها حتى كأنه ينظر إليها ". فبين صلى الله عليه وسلم أن الصفات الكاشفة تقوم مقام النظر ؛ لأنها تعين الموصوف. وهذا دليل واضح لما ذهب إليه جمهور العلماء من السلف في الحيوانات إذا بينت صفاتها ؛ لأن الوصف يجعلها كالمرئية ويضبطها. خلافا للإمام أبي حنيفة ( رحمه الله ) الذي منع السلم في الحيوانات بناء على أنها لا تنضبط صفاتها. ومما يؤيد السلم فيها – خلافا للإمام أبي حنيفة ( رحمه الله ) : ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استسلف بكرا ورد رباعيا، وكما دلت عليه هذه النصوص.
قال بعض العلماء : ويؤخذ من هذه القصة أيضا جواز النسخ قبل التمكن من الفعل ؛ لأن قوله :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾ نكرة في سياق الإثبات، والنكرة في سياق الإثبات إطلاق، فلو ذبحوا أي بقرة كانت لصدقت بتلك البقرة المطلقة، ولأجزأتهم، ولما شددوا نسخ الله الاكتفاء ببقرة مجردة أية كانت إلى بقرة موصوفة بصفات منعوتة بنعوت كثيرة شديدة. ومن هنا قال بعض العلماء : هذه من الأدلة على النسخ قبل التمكن من الفعل. وقال بعض العلماء : هذا لا يصلح مثالا للنسخ قبل التمكن من الفعل ؛ لأن هذا حكم زيدت فيه صفات، ولم ينسخ ذبح البقرة بالكلية، بل بقي محكما، وإنما زيدت في البقرة صفات.
وأجاب القائلون بأنه نسخ قالوا : زيادة هذه الصفات تضمن نسخا في الجملة ؛ لأن مضمون النص الأول يدل على أن كل بقرة ذبحت كائنة ما كانت ولو مجردة عن تلك الصفات [ أجزأت ]، فوصفها بالصفات الآتية الجديدة نسخ الاجتزاء بأي بقرة كانت. وعلى كل حال فهذه مسألة أصولية هي – مثلا : هل يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل أو لا يجوز ؟ والجماهير من العلماء على أنه جائز، وواقع، ومن أمثلته : نسخ خمس وأربعين صلاة ليلة الإسراء بعد أن فرضت خمسين، ونسخ منها خمس [ وأربعون ]، ثم أقرت خمسا. ومن أمثلته قوله ( جل وعلا ) في إبراهيم في قصة ذبح إبراهيم لولده :﴿ وفديناه بذبح عظيم ﴾ [ الصافات : آية ١٠٧ ]. لأنه أمره أن يذبح ولده، ونسخ عنه هذا الأمر قبل التمكن من الفعل.
والتحقيق أن هذا جائز وواقع. ولا شك أن فيه سؤالا معروفا، وهو أن يقول طالب العلم : إذا كان الحكم يشرع وينسخ قبل العمل فما الحكمة في تشريعه الأول إذا كان ينسخ قبل أن يعمل به ؟
الجواب : أن التحقيق أن حكمة التشريع منقسمة قسمة ثنائية، وهي دائرة بين الامتثال والابتلاء. فإذا نسخ الحكم بعد العمل به فحكمته الامتثال وقد امتثل، وإذا نسخ قبل العمل به فحكمة تشريعه الأول الابتلاء، وهو اختبار الخلق هل يتهيؤون للامتثال ؟ وقد وقع الابتلاء، وقد نص الله ( جل وعلا ) في قصة إبراهيم على أن الحكمة في أمره بذبح ولده – مع أن الله يعلم أنه لا يمكنه من ذلك – هو الابتلاء هل يتهيأ ويطيع ربه في أن يذبح ثمرة قلبه ؟ كما قال جل وعلا :﴿ فلما أسلما وتله للجبين ﴾ [ الصافات : آية ١٠٣ ] يعني : تله للجبين لينفذ فيه الذبح حتى – مثلا – قال له ربه :﴿ ونانديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ﴾ [ الصافات : الآيتان ١٠٤ ١٠٥ ] وقال :﴿ وفديناه بذبح عظيم ﴾ [ الصافات : آية ١٠٧ ] ثم إن الله نص على أن الحكمة الابتلاء في قوله :﴿ إن هذا لهو البلاء المبين ﴾ [ الصافات : آية ١٠٦ ].
وقوله جل وعلا :﴿ فذبحوها ﴾ أي : فذبحوا البقرة، وضربوه بجزء منها فيحيي، وأخبرهم بقاتله كما يأتي.
وقوله :﴿ وما كادوا يفعلون ﴾ يعني : ما كادوا يذبحونها إلا بعد جهد جهيد ؛ لما جاؤوا به دون ذبحها من السؤالات والتعنتات.
وقول بعض العلماء : إن ( كاد ) إذا كانت في الإثبات دلت على النفي، وإذا كانت في النفي دلت على الإثبات، وأن هذا يلغز به : هو في الواقع غير صحيح، وأن ( كاد ) فعل مقاربة تدل على مقاربة حصول الخبر للمبتدأ، وإذا نفيت نفيت المقاربة. يعني : ما قاربوا أن يذبحوا. يعني في زمن التعنت والأسئلة، في آخر الأمر ذبحوها، والقرينة على أن هذا المراد : أنه صرح بأنهم ذبحوها ﴿ فذبحوها ﴾ يعني : في الآونة الأخيرة ﴿ وما كادوا ﴾ قبل ذلك في الأزمان التي قبله ﴿ يفعلون ﴾ لتعنتهم وكثرة سؤالهم وعدم امتثالهم. وهذا معنى قوله :﴿ فذبحوها وما كادوا يفعلون ﴾.
وهنا سؤال، وهو أن يقال : ما المسوغ لإسناد قتل هذا القتيل إلى جميعهم في قوله :﴿ وإذ قتلتم ﴾ ؟
الجواب : أن القرآن بلسان عربي مبين، ومن أساليب اللغة العربية إسناد الأمر إلى جميع القبيلة إذا فعله واحد منها. ونظيره في القرآن قراءة حمزة والكسائي :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾ [ البقرة : آية ١٩١ ] ؛ لأنه ليس من المعقول أمر من قتل بالفعل أن يقتل قاتله، ولكن : فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم البعض الآخر. فأسند الفعل إلى الجميع وهو واقع من البعض. وهذا أسلوب معروف في لغة العرب، ومنه قول الشاعر :
فإن تقتلونا عند حرة واقم*** فلسنا على الإسلام أول من قتل
يعني : تقتلوا بعضنا.
وقوله :﴿ فادارءتم فيها ﴾ أصله : فتدارأتم فيها. وهو ( تفاعل ) من الدرء، بمعنى الدفع، والقاعدة المقررة في علم العربية : أن ( تفاعل ) و ( تفعل ) – مثلا – إذا أريد فيهما الإدغام استجلبت همزة الوصل ليمكن النطق بالساكن ؛ إذ العرب لا تبتدئ بساكن. أصله :( تدارأتم ) فأريد إدغام تاء التفاعل في الدال التي هي فاء الكلمة فسكن لأجل الإدغام، فاستجلبت همزة الوصل توصلا للنطق بالساكن. وهذا كثير في القرآن في ( تفاعل ) و ( تفعل ) نحو ﴿ ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم ﴾ [ التوبة : آية ٣٨ ] أصله : تثاقلتم ﴿ قالوا اطيرنا ﴾ [ النمل : آية ٤٧ ] أصله : تطيرنا ﴿ وازينت وظن أهلها ﴾ [ يونس : آية ٢٤ ] أصله : تزينت، إلى غير ذلك من الآيات. ونظير هذا الإدغام في ( تفاعل ) ونحوها من كلام العرب قول الشاعر :
تولي الضجيع إذا ما التذها خصرا*** عذب المذاق إذا ما اتابَع القبل
يعني : إذا ما تتابع القبل.
ومعنى ﴿ فادارءتم ﴾ : تدارأتم من الدرء، والدرء معناه : الدفع. والمعنى : تدافعتم قتل القتيل. أي : كل منكم يدفع قتله عن نفسه إلى صاحبه، بأن يقول هؤلاء : قتله غيرنا، أنتم قتلتموه، وهؤلاء يقولون : بل أنتم الذين قتلتموه، ونحن لم نقتله. واختلاف العلماء فيه بمعنى قول بعضهم :﴿ فادارءتم ﴾ أي : تنازعتم. وقول بعضهم :﴿ فادارءتم ﴾ اختلفتم – كله عائد إلى ما ذكرنا.
وقوله :﴿ فيها ﴾ أنث الضمير، يعني : راجعا إلى النفس. يعني :( فيها ) أي : في النفس المقتولة، كلكم يدفع قتلها عن نفسه إلى صاحبه.
﴿ والله مخرج ما كنتم تكتمون ﴾ ﴿ مخرج ﴾ اسم فاعل ( أخرج ) أي : مظهر ما كنتم تكتمون. و ( ما ) موصولة، والعائد محذوف ؛ لأنه منصوب بفعل، على حد قوله في الخلاصة :
........................................... والحذف عندهم كثير منجلي
في عائد متصل إن انتصب بفعل او وصف كمن نرجو يهب
وتقريره :( والله مخرج الذي كنتم تكتمونه من أمر القتيل ) وكذلك أسند الكتم هنا للجميع، والكاتم هو القاتل.
وقال بعض العلماء : القتلة جماعة تمالؤوا على عمهم فقتلوه ليرثوه.
ومعنى قوله :﴿ ما كنتم تكتمون ﴾ أي : مخرج الذي كنتم تكتمونه. أسند الكتم إلى الكل وأراد بعضهم، سواء قلنا : إن القاتل واحد أو جماعة.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي وهو : أن ( ما ) مفعول به لاسم الفاعل الذي هو :( مخرج )، والقصة – التي هي هذه – قصة ماضية قبل نزول الآية الكريمة ؛ لأنها واقعة في زمن موسى، فهي في وقت نزول الآية ماضية، مضت لها أزمان كثيرة، والمقرر في علم العربية : أن اسم الفاعل إذا لم يحل بالألف واللام لا يعمل إلا إذا كان مقترنا بالحال أو المستقبل، فلا يعمل مقترنا بالماضي، وهنا أعمل وهو واقع في زمن الماضي ؟ هذا وجه السؤال.
الجواب : أنه إنما أعمل اسم الفاعل في هذا المفعول ؛ لأن هذه حكاية حال ماضية في وقتها، فإنما حكيت الحال في وقتها ؛ فكأنها في وقتها ؛ لأن الحكاية تحكى فيها الأحوال في حال وقتها. ونظير هذا يجاب به عن قوله جل وعلا :﴿ وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ﴾ ؛ لأنها أيضا حكاية حال ماضية، وهي في وقتها مطابقة للزمن الحالي.
والآية تدل على أن من فعل سوءا وكتمه أن الله يظهره، غالبا لا يسر الإنسان سريرة إلا ألبسه الله رداءها. وكان بعض العلماء يقول : لو عمل الإنسان الشر في غاية الخفاء لا بد أن يظهره الله، كما يفهم من قوله :﴿ والله مخرج ما كنتم تكتمون ﴾.
أبوك خليفة ولدته أخرى*** وأنت خليفة ذاك الكمال
فأنث ( الخليفة ) وأطلق عليه لفظ ( الأخرى ) نظرا إلى تأنيث لفظه، مع أنه يجوز تذكيره ؛ لأنه رجل. فقلنا لهم : اضربوا القتيل ببعض هذه البقرة، فضربوه ببعضها فحيي.
وهذا البعض الذي ضربوه به منها اختلف فيه المفسرون، فمنهم من يقول : هو لسانها. ومنهم من يقول : فخدها. ومنهم من يقول : عجب ذنبها. ومنهم من يقول : الغضروف، غضروف الأذن.
والحق أن هذا البعض الذي ضربوه به منها لا دليل عليه، ولا جدوى في تعيينه. وكثيرا ما يولع المفسرون بالتعيين في أشياء لم يرد فيها دليل من كتاب ولا سنة، ولا جدوى تحت تعيينها، فيتعبون بما لا طائل تحته، كاختلافهم في خشب سفينة نوح من أي شجر هو ؟ وكم كان عرض السفينة ؟ وطولها ؟ وكم فيها من الطبقات ؟ وكاختلافهم في الشجرة التي نهي عنها آدم وحواء، أي شجرة هي ؟ وكاختلافهم في كلب أصحاب الكهف ما لونه، هل هو أسود أو اصفر ؟ وكثير من هذه الأمور التي يولعون بها ولا طائل تحتها، ولا دليل عليها من كتاب وسنة. غاية ما دل عليه القرآن : أنهم ضربوه ببعض من تلك البقرة غير معين، ﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ أي : فضربوه ببعض منها فحيي بإذن الله، فأخبرهم بقاتله، ثم عاد ميتا، ولم يرثه قاتله الذي قتله. قال بعض العلماء : ومن ذلك اليوم لم يرث قاتل عمدا.
وعامة العلماء على أن القاتل لا يرث، سواء كان القتل عمدا أو خطأ، لا من المال ولا من الدية. وعن مالك بن أنس ( رحمه الله ) التفصيل بين الدية والمال في خصوص القتل خطأ، قال : إن القاتل خطأ يرث من المال، ولا يرث من الدية. والجمهور على خلافه، وشذ قوم فورثوه من المال والدية في القتل خطأ.
وقوله :﴿ كذلك يحي الله الموتى ﴾ يعني : كما أحيا الله هذا القتيل وهذا الجم الغفير من الناس ينظرون، كذلك الإحياء المشاهد يحيي الله الموتى يوم القيامة، فهو دليل قرآني على البعث ؛ لأن من أحيا نفسا واحدة فهو قادر على إحياء جميع النفوس ؛ لأن ما جاز على المثل يجوز على مماثله، والله ( جل وعلا ) يقول :﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾ [ لقمان : الآية ٢٨ ].
وهذه الآية الكريمة تؤخذ منها فوائد، من الفوائد التي تؤخذ منها : أن الخالق الفاعل كيف يشاء هو رب السماوات والأرض. وأن الأسباب لا تأثير لها إلا بمشيئة الله. وأن الله يسبب ما يشاء على ما شاء من الأسباب، ولو لم تكن بين السبب والمسبب مناسبة، فهذا القتيل لو ضرب بالبقرة وهي حية لقال قائل جاهل : اكتسب الحياة من حياتها فالله ( جل وعلا ) أمرهم أن يذبحوها حتى تكون ميتة، وأن يأخذوا قطعة ميتة منها لا حياة فيها فيضربوا بها هذا القتيل فيحيا. فضربه بهذه القطعة الميتة من هذه البقرة المذبوحة كان سببا لوجود الحياة فيه. وهذا السبب لا مناسبة بينه وبين المسبب، فدل على أن خالق السماوات والأرض يفعل ما يشاء كيف يشاء، ويرتب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب باختياره وقدرته ومشيئته، ولو لم تكن هناك مناسبة بين السبب ومسببه.
أخذ مالك ( رحمه الله ) دون عامة العلماء من هذه الآية حكما، وهو أنه يثبت القسامة. بقول المقتول : " دمي عند فلان " ؛ لأن هذا القتيل لما حيي أخبرهم أن قاتله فلان، وعملوا بقوله، قال مالك : فعملهم بقوله الذي دل عليه القرآن دليل على أن من قال : " قتلني فلان ". أنه يعمل بقوله، ومن هنا جعل قول المقتول إذا أدرك وبه رمق وقيل له : من ضربك ؟ فقال لهم : " قتلني فلان، أو دمي عند فلان ". فهذا لوث عند مالك حلف معه أيمان القسامة، ويستحق به الدم أو الدية، على التفصيل المعروف فيما تستحق به القسامة من عمد أو خطأ.
وخالف مالكا في هذا الفرع عامة العلماء، وقالوا : قول القتيل : " دمي عند فلان " هذا لا يمكن أن يسوغ القسامة ؛ لأنه لو قال : " لي درهم على فلان، أو أطالب فلانا بكذا " لا يثبت من ذلك شيء، فكيف يثبت به القتل ودم المعصوم ؟ ومالك استدل بهذه القصة، واستدل أيضا بأن الإنسان إذا كان في آخر عهد من الدنيا زال غرضه من الكذب، وصار منتقلا إلى دار الآخرة، وصارت الدواعي إلى الكذب بعيدة جدا في حقه، فالذي يغلب على الظن أنه لا يخبر إلا بالواقع.
وأجاب الجمهور عن القصة قالوا : هذه القصة لا يقاس عليها غيرها ؛ لأن هذا قتيل أحياه الله معجزة لنبي، وأخبرهم – مثلا – أنه يحييه، وأنه يخبرهم بمن قتل وهذا الإخبار مستند إلى دليل قطعي، فليس كإخبار قتيل آخر.
وأجاب ابن العربي في أحكامه عن هذا قال : المعجزة إنما هي في إحياء القتيل، أما كلام القتيل، فهو كسائر كلام الناس، يجوز في حقه أن يكون حقا، وأن يكون كذبا.
وعلى كل حال فهذا الفرع خالف فيه مالكا جمهور العلماء.
وقوله جل وعلا :﴿ كذلك يحي الله الموتى ﴾ فيه دليل على أن قصة إحياء هذا القتيل من الأدلة على البعث، وقد بينا فيما مضى خمسة أمثلة منها في هذه السورة الكريمة.
وقوله :﴿ ويريكم آياته ﴾ ﴿ ويريكم ﴾ مضارع ( أراه )، أصلها يرئيكم آياته. أي : يبينها لكم حتى ترونها. ﴿ ءاياته ﴾ الآية : تطلق في اللغة إطلاقين، وجمهور علماء العربية أن أصل وزن الآية ( أيية ) فهي وزنها :( فعلة ) فاؤها همز، وعينها ياء، ولامها ياء، اجتمع فيها موجبا إعلال، على القاعدة المقررة في التصريف، التي عقدها في الخلاصة بقوله :
من [ واو أو ياء ] بتحريك أصل*** ألفا ابدل بعد فتح متصل
والأصل المشهور أن يكون الإعلال في الأخير، فالجاري على القياس أن يقال : أياة، وتبدل الياء الأخيرة ألفا، إلا أنه أبدلت هنا الياء الأولى. وإعلال الأول من الحرفين اللذين اجتمع فيهما موجبا إعلال موجود في القرآن، وفي كلام العرب، كآية، وغاية.
والآية تطلق في لغة العرب إطلاقين : تطلق الآية بمعنى :( العلامة ).
وهذا إطلاقها المشهور. ومنه قول نابغة ذبيان :
توهمت آيات لها فعرفتها*** لستة أعوام وذا العام سابع
ثم صرح بأن مراده بالآيات علامات الدار في قوله :
رماد ككحل العين لأيا أبينه*** ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
ومن هذا المعنى قوله :﴿ إن آية ملكه ﴾ أي : علامة ملكه ﴿ أن يأتيكم التابوت ﴾ الآية [ البقرة : الآية ٢٤٨ ].
وتطلق الآية على :( الجماعة )، تقول العرب : جاء القوم بآياتهم، أي : بجماعتهم، ومنه قول برج بن مسهر :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا*** بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا
أي : بجماعتنا.
والآية تطلق في القرآن إطلاقين : آية كونية قدرية، كقوله :﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ﴾ [ آل عمران : الآية ١٩٠ ] وهذه الآية الكونية القدرية من ( الآية ) بمعنى ( العلامة ) باتفاق، أي : لعلامات على كمال قدرة من وضعها، وأنه الرب وحده، المعبود وحده.
وتطلق الآية في القرآن بمعناها الشرعي الديني، كقوله :﴿ رسولا يتلوا عليكم آيات الله ﴾ [ الطلاق : آية ١١ ] أي : آياته الدينية الشرعية.
والآية الدينية الشرعية قيل : من ( العلامة ) ؛ لأنها علامات على صدق من جاء بها، لما فيها من الإعجاز. أو لأن لها مبادىء ومقاطع علامات على انتهاء هذه الآية وابتداء الآية الأخرى.
وقال بعض العلماء : هي من ( الآية ) بمعنى ( الجماعة ) ؛ لأن الآية كأنها نبذة وجماعة من كلمات القرآن، تتضمن بعض ما في القرآن من الإعجاز، والأحكام، والعقائد، والحلال، والحرام.
هذا معنى :﴿ ويريكم آياته ﴾ يعني : يجعلكم ترونها واضحة. أي : علاماته الواضحة على كمال قدرته وإحيائه للموتى، وأنه يبعث الناس بعد أن يموتوا.
﴿ لعلكم تعقلون ﴾ يعني : لأجل أن تدركوا بعقولكم أنه ( جل وعلا ) يحيي الناس بعد الموت، ويبعثهم من قبورهم، وأنه قادر على كل شيء، وأنه المعبود وحده، و ﴿ تعقلون ﴾ معناه : تدركون بعقولكم.
قال بعض العلماء :( ثم ) في قوله :﴿ ثم قست قلوبكم ﴾ للاستبعاد ؛ لأن هذا الذي نظروه من آيات الله، وعبره، وإحيائه للقتيل سبب عظيم للين القلوب، فقسوة القلوب بعد مشاهدته من الأمر المستبعد ؛ ولذا قال :﴿ ثم قست قلوبكم ﴾ من بعد ذلك الأمر الذي عاينتموه، وهو إحياء القتيل، الذي هو أعظم سبب للين القلوب، ف ( ثم ) هنا للاستبعاد، كما قاله بعض العلماء. ونظيره من إتيان ( ثم ) للاستبعاد قوله تعالى في أول سورة الأنعام :﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾ [ الأنعام : آية ١ ] ؛ لأن من خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور يستبعد جدا أن يجعل له عديل ونظير. ونظير ( ثم ) للاستبعاد من كلام العرب قول الشاعر :
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة*** يرى غمرات الموت ثم يزورها
لأن من رأى غمرات الموت تستبعد منه زيارتها.
والإشارة في قوله :﴿ ذلك ﴾ عائدة إلى ما ذكر من إحياء القتيل لما ضرب بالجزء من البقرة الميتة، ومعنى قسوة القلوب : شدتها وصلابتها حتى لا يدخل فيها خير ؛ لأن ذا الشيء القاسي ليس بقابل لدخول شيء فيه، فقلوبهم صلبة شديدة نابية عن الخير لا يدخلها وعظ ولا ينجع فيها خير. والسبب الذي قست به قلوبهم نهى الله عن ارتكابه المسلمين في قوله :﴿ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ﴾ [ الحديد : آية ١٦ ].
وقوله :﴿ فهي كالحجارة ﴾ أي : في شدة القسوة والصلابة، فكما أنك لو أردت أن تدخل ماء أو دهنا في جوف حجر صلب أصم لا يمكن لك ذلك، فلا يمكن أن تدخل في قلوبهم خيرا، ولا موعظة، ولا شيئا ينفعهم ؛ لقساوتها – عياذا بالله.
وقوله :﴿ أو أشد قسوة ﴾ ؛ ﴿ أو أشد ﴾ مرفوع عطفا على الكاف من قوله :﴿ فهي كالحجارة ﴾ أي : فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة ؛ لأن الكاف في معنى ( مثل ). وقيل : عطف على محل الجار والمجرور ؛ لأنه في محل رفع خبر المبتدأ، أي : فهي كالحجارة، أو فهي أشد قسوة.
و ﴿ قسوة ﴾ تمييز محول عن الفاعل ؛ لأنه بعد صيغة التفضيل، على حد قوله في الخلاصة :
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا*** مفضلا كأنت أعلى منزلا
لأن ﴿ قسوة ﴾ تمييز فاعل في المعنى، فنصب بأفعل مفضلا تمييزا محولا عن الفاعل.
ثم إن الله ( جل وعلا ) بين أن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة، قال :﴿ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ﴾ يعني : إن بعض الحجارة ربما [ تفجر منه الأنهار ]، وبعضها ربما لان فتشقق فخرج منه ماء، وقلوبهم لا تلين ولا ينفجر منها خير، لا قليل ولا كثير.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقول طالب العلم : ما معنى ( أو ) في قوله :﴿ أو أشد قسوة ﴾ والمخبر بهذا الكلام ( جل وعلا ) يستحيل في حقه الشك، فما معنى ( أو ) في قوله :﴿ فهي كالحجارة أو أشد قسوة ﴾ ؟
للعلماء في هذا السؤال أجوبة معروفة، أظهرها : أن " أو " للتنويع، و " أو " التي هي للتنويع تدل على نوع. والمعنى : أن منهم نوعا قلوبهم كالحجارة، وهنالك نوع آخر دلت عليه ( أو ) التنويعية أقسى قلوبا من هذه (... ).
﴿ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ﴾ [ البقرة : الآية ٧٥ ] يعني : أتعقلون الطمع بما لا طمع فيه فتطمعون أن يؤمنوا لكم أي : يتصفوا بالإيمان لكم. أي : لأجل دعوتكم وطلبكم منهم الإيمان.
والعادة في القرآن أن الإيمان إذا كان تصديقا بالله ( جل وعلا ) عدي بالباء، فتقول : " ويؤمنون بالله "، " آمنت بالله ". وإذا كان تصديقا ببشر عدي باللام. وهذا معروف من استقراء القرآن، كقوله هنا :﴿ أن يؤمنوا لكم ﴾ أي : يصدقوكم ويتبعوكم في هذا الدين الحنيف، ومنه قوله :
﴿ وما أنت بمؤمنين لنا ﴾ [ يوسف : آية ١٧ ] أي : بمصدقنا في أن يوسف أكله الذئب ﴿ ولو كنا صادقين ﴾، وقوله :﴿ فآمن له لوط ﴾ [ العنكبوت : آية ٢٦ ]، وجمع المثالين قوله :﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ﴾ [ التوبة : آية ٦١ ] والمعنى : أن الله أنكر عليهم الطمع بإيمانهم ؛ لأنهم لا مطمع في إيمانهم.
ثم بين صعوبة الإيمان عليهم وبعدهم منه قال :﴿ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ﴾ يعني : أتطمعون بإيمان قوم وهم بهذه المثابة من العناد واللجاج وعدم امتثال الأوامر، والحال :﴿ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ﴾ الفريق : الطائفة من الناس، ويجوز انقسام الناس إلى جماعات متعددة، ولا يلزم أن يكونوا فريقين فقط، بل يجوز أن يكونوا فريقين وأكثر، ومن هذا المعنى قول نصيب :
فقال فريق القوم : لا، وفريقهم : نعم، [ وقال فريق ] : ويحك ما ندري
واختلف العلماء في المراد بهذا الفريق الذين سمعوا كلام الله وحرفوه بعد أن عقلوه :
قال جماعة من العلماء : هذا الفريق هم علماؤهم، ومعنى ﴿ يسمعون كلام الله ﴾ يسمعون كلام الله يتلى في كتابه التوراة ويفهمونه ﴿ ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ﴾ من بعد ما أدركوه بعقولهم، فيجدون فيه صفات النبي صلى الله عليه وسلم :( أبيض )، فيحرفونها إلى ( أسمر )، ويجدون من صفاته :( ربعة )، فيحرفونها إلى أنه طويل مشذب، ونحو ذلك من تغيير الصفات.
فعلى هذا الوجه فالفريق الذين يسمعون كلام الله : العلماء يسمعون كتاب الله التوراة يتلى ﴿ ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ﴾ يعني يبدلونه ويحرفونه، ويجعلون فيه ما ليس فيه، بأن يحلوا حرامه، ويحرموا حلاله، ويغيروا فيه صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وينكروا بعض آياته كآية الرجم، وما جرى مجرى ذلك من التحريف.
وعلى هذا القول فالفريق : العلماء منهم بالتوراة، وتحريفهم له معروف.
فإذا كان خيارهم وعلماؤهم يعقلون عن الله كلامه في كتابه ثم يغيرونه ويحرفونه ويحملونه على غير محمله، فما بالكم تطمعون في أن مثل هؤلاء يؤمنون لكم ويهتدون إلى خير.
الوجه الثاني : أن هذا الفريق هم السبعون الذين اختارهم موسى، المذكورون في سورة الأعراف في قوله :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ﴾ الآية [ الأعراف : آية ١٥٥ ] ومن قال هذا القول قال : إنهم لما خرجوا مع موسى إلى الميقات سألوه أن يسأل الله أن يسمعهم كلامه. فسأل لهم نبيهم ذلك. وأن الله أمرهم أن يصوموا. ولما أراد الله أن يكلم موسى، وألقى عليه الضباب، سمعوا كلام الله يأمر موسى وينهاه، فبعد أن سمعوا كلام الله وعقلوه حرفوه. قالوا : سمعناه يقول في آخر الكلام : إن شئتم فافعلوا، وإن شئتم لا تفعلوا.
فإذا كانوا يسمعون من الله كلامه، هذه السبعون المختارة منهم تسمع كلام الله وتحرفه وتغيره، فما بالكم تطمعون في إيمان من هذه صفتهم ؟
هذان الوجهان في قوله :﴿ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ﴾.
وقد بينا مرارا أن همزة استفهام الإنكار إذا جاء بعدها حرف عطف كالفاء، كما في قوله هنا :﴿ أفتطمعون ﴾ و ( الواو ) أو ( ثم ) أن فيها للعلماء وجهين معروفين :
أحدهما : أن همزة الاستفهام تتعلق بمحذوف دل المقام عليه، و ( الفاء ) تعطف الجملة التي بعدها على الجملة المحذوفة التي دل المقام عليها. والمعنى : أتطمعون بما لا طمع فيه، فتطمعون أن يؤمنوا لكم ؟ ونحو هذا. أو : ألا تعرفون الحقائق فتطمعون بما لا طمع فيه ؟ والأحوال متقاربة، وإلى هذا الوجه ميل ابن مالك في الخلاصة في قوله :
وحذف متبوع بدا هنا استبح*** وعطفك الفعل على الفعل يصح
والوجه الثاني : أن همزة الاستفهام مزحلقة عن محلها، وأنها متأخرة بعد الفاء، إلا أنها قدمت عن محلها ؛ لأن للاستفهام صدر الكلام، وعلى هذا فالمعنى : فأتطمعون. فتكون الجملة معطوفة بالفاء على ما قبلها، كان المعنى : فأعطف على ذلك إنكار طمعكم بما لا طمع فيه، فيكون المعنى : فأتطمعون أن يؤمنوا لكم والحال ﴿ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ﴾.
التحريف : يعني : وضع الشيء في غير موضعه، يصدق بأن يبدلوه بما ليس منه وأن يغيروه، وأن يحملوه على غير محمله، إلى غير ذلك من أنواع التحريف.
وقوله :﴿ من بعد ما عقلوه ﴾ أي أدركوه بعقولهم. العرب تقول : عقلت الأمر أعقله، إذا أدركته بعقلي.
والعقل نور روحاني تدرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية، ومحله القلب، كما نص عليه الكتاب والسنة. لا الدماغ كما يزعمه الفلاسفة.
وبحوث العقل بحوث فلسفية لا طائل تحتها.
فللفلاسفة في بحث العقل ما يزيد على مائة طريق، من جهة البحث في العقل هل هو جوهر أو عرض ؟ والكلام على العقول العشرة، والعقل الفياض. كله بحث فلسفي لا طائل تحته.
وإنما قال جل وعلا :﴿ تعقلون ﴾ أي : تدركون بعقولكم ؛ لأن العقل نور روحاني تدرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية. وقد دل القرآن على أن محله القلب لا الدماغ ؛ لأن الله يقول :﴿ فتكون لهم قلوب يعقلون بها ﴾ [ الحج : آية ٤٦ ] ولم يقل : أدمغة يعقلون بها. ويقول :﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ﴾ [ ق : آية ٣٧ ] ولم يقل : لمن كان له دماغ. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " ولم يقل : ألا وهي الدماغ.
وجمع بعض العلماء بين قول أهل السنة وقول الفلاسفة بأن قال : إن أصل العقل في القلب كما في الكتاب والسنة، إلا أن نوره يتصل شعاعه بالدماغ. واستدلوا على هذا بدليل استقرائي عادي، قالوا : بالعادة المطردة والاستقراء أنك لا تجد رجلا طويل العنق طولا مفرطا إلا كان في عقله بعض الدخل ؛ لبعد ما بين طرفي شعاع نور عقله.
والتحقيق : أن العقل في القلب كما دل عليه الوحي [ والذين قالوا : إن العقل في ] الدماغ استدلوا : بأن كل ما يؤثر على الدماغ يؤثر على العقل. وهذا لا دليل فيه ؛ لإمكان أن يكون العقل في القلب – كما هو الحق – وسلامته مشروطة بسلامة الدماغ، وهذا لا إشكال فيه.
والعقل الصحيح هو الذي يعقل صاحبه عن الوقوع فيما لا ينبغي، كما قال ( جل وعلا ) عن الكفار :﴿ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ﴾ [ الملك : آية ١٠ ] أما العقل الذي لا يزجر عما لا ينبغي فهو عقل دنيوي يعيش به صاحبه، وليس هو العقل بمعنى الكلمة.
وقوله جل وعلا :﴿ وهم يعلمون ﴾ جملة حالية يعني : أنهم سمعوا كلام الله فحرفوه بعد أن أدركوه بعقولهم وفهموه، والحال أنهم يعلمون أنهم حرفوه وافتروا على الله، فمن [ كان ] بهذه المثابة لا يطمع أحد في إيمانه.
( إذا ) : ظرف فيه معنى الشرط، العامل فيه دائما جزاء الشرط لا فعل الشرط، وهو من الأسماء الملازمة للإضافة إلى جمل الأفعال خاصة، كما قال في الخلاصة :
وألزموا إذا إضافة إلى*** جمل الأفعال كهن إذا اعتلى
و ( لقوا ) أصله : لقيوا ( فعلوا )، والقاعدة المقررة في التصريف : أن كل فعل ناقص – أعني معتل اللام – سواء كان واوي اللام، أو يائي اللام، إذا أسند إلى واو الجماعة، أو ياء مؤنثة مخاطبة، وجب حذف لامه المعتلة بقياس مطرد. فحذفت هذه الياء التي هي لام الكلمة، وأبدلت كسرة القاف ضمة لمجانسة الواو. فأصله :( لقيوا ) على وزن ( فعلوا )، ووزنه الحالي ﴿ وإذا لقوا ﴾ ( فعوا ) ؛ لأن الياء التي في موضع اللام حذفت لإسناد الفعل الناقص إلى واو الجماعة، كما هو مقرر في التصريف.
﴿ الذين ءامنوا ﴾ في محل نصب مفعول به ل ﴿ لقوا ﴾، والمعنى : أن هؤلاء الطائفة من المنافقين إذا اجتمعوا بالمؤمنين – النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه – ﴿ قالوا ءامنا ﴾. ذكروا لهم أنهم آمنوا نفاقا، وبينوا لهم أن النبي المنتظر المبشر به أن صفاته الموجودة في كتبهم متطبقة على هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. هذا معنى قوله :﴿ وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا ﴾.
﴿ وإذا خلا بعضهم إلى بعض ﴾ يعني : رجعوا إلى أصحابهم وكان الموضع خاليا من المؤمنين، بأن كان الموجود فيه هم فيما بينهم.
﴿ قالوا ﴾ يعني : أصحابهم الذين لم ينافقوا. قالوا منكرين على الذين نافقوا وموبخين لهم :﴿ أتحدثونهم ﴾ أي : أتحدثون المؤمنين – النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه – ﴿ بما فتح الله عليكم ﴾ يعني : بما فتح عليكم علمه في التوراة من أن هذا هو النبي المنتظر، وأن هذه صفاته، أنها متطبقة، وأنه هو لا شك فيه، وأنكم مؤمنون به لما علمتم من أنه هو النبي الموعود به المنتظر.
﴿ ليحاجوكم ﴾ بهذا الإقرار ﴿ عند ربكم ﴾ أنكم أقررتم بأنكم تعرفون أنه الحق، وأن صفاته متطبقة على صفات النبي المنتظر، فإن هذا يحاجونكم به يوم القيامة، أنكم عرفتم الحق وتركتموه.
وهذا يدل على أنهم في غاية الجهل ؛ لأنهم لو كتموه أليس الله عالما بما في ضمائرهم ؟ وما الفرق بين ما لو أقروا بأنهم عرفوا الحق وكتموه، أو كتموه ولم يقولوا ؟ ولذا وبخهم الله بقوله :﴿ أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ﴾
﴿ يسرون ﴾ هو المضارع من الإسرار، و ﴿ يعلنون ﴾ المضارع من الإعلان، والفعل إذا كان ماضيه على وزن ( أفعل ) تحذف همزته في المضارع، واسم الفاعل، واسم المفعول، بقياس مطرد.
فالأصل :( يؤسررون ) و ( يؤعلنون ) إلا أن حذف همزة ( أفعل ) يطرد في المضارع وفي اسم الفاعل واسم المفعول، كما عقده في الخلاصة بقوله :
وحذف همز أفعل استمر في*** مضارع وبنيتي متصف
والمعنى : أن إسرارهم وإعلانهم عند الله ( جل وعلا ) سواء ؛ لأن الله يعلم السر وأخفى، السر عنده علانية، يعلم ما تخفيه الضمائر ﴿ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾ [ ق : آية ١٦ ].
وعلى هذا الذي قررنا فمعنى :﴿ فتح الله عليكم ﴾ يعني : علمكم إياه وأزال عنكم الحجاب دونه من العلم مما في التوراة.
وقوله :﴿ ليحاجوكم ﴾ أصله ( يحاججوكم ) ( يفاعلون ) من المحاججة يقتضي الطرفين، والحجة : كل ما أدلى به الخصم باطلا كان أو حقا.
بدليل قوله :﴿ حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ﴾ [ الشورى : آية ١٥ ].
وقال بعض العلماء : المراد بالفتح في هذه الآية : الحكم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر ذكر لهم اسم القردة. قال بعضهم : ما علموا أن أوائلكم وقع مسخ بعضهم قردة إلا منكم، بعضكم أخبرهم بهذا ! !. وعلى هذا فالمراد ﴿ بما فتح الله عليكم ﴾ أي : ما حكم عليكم به من المسخ، والعرب تطلق الفتح على الحكم، وقد جاء في القرآن العظيم، ومنه على التحقيق :﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ﴾ [ الأنفال : آية ١٩ ] يعني : إن تطلبوا الحكم من الله على الظالم بالهلاك فقد جاءكم ذلك، وهلك الظالم، أبو جهل وأصحابه، ومن هذا المعنى قوله ( جل وعلا ) عن شعيب :﴿ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ﴾ [ الأعراف : آية ٨٩ ] أي : احكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين، وهذه لغة حميرية، يسمون الحاكم : فتاحا، والحكم فتاحة، ومن هذا المعنى قول الشاعر :
ألا أبلغ بني عمروا رسولا*** بأني عن فتاحتكم غني
أي : عن حكمكم غني.
هذا قيل في الآية، ولكنه قول مرجوح غير ظاهر، والتحقيق – إن شاء الله – هو الأول، ثم إنهم قالوا لهم :﴿ أفلا تعقلون ﴾، أتقولون قول من لا يعقل ؟ فلا تعقلون أنه لا ينبغي لكم أن تخبروهم وتحدثوهم بما فتح الله عليكم من التوراة مما خفي عليهم ؛ ليكون حجة لهم عليكم عند الله يوم القيامة، أنكم أقررتم بأنهم على حق، وخالفتموهم ولم تتبعوهم.
وقوله :﴿ إلا أماني ﴾ في قوله :﴿ إلا أماني ﴾ وجهان معروفان من التفسير عند العلماء : أحدهما تبعده قرينة في نفس الآية.
أما القولان المعروفان : أن المراد بالأماني هنا : جمع ( أمنية ) بمعنى ( القراءة ). والعرب تطلق ( الأمنية ) على ( القراءة )، وهذا معنى معروف في كلام العرب، تقول العرب :( تمنى ) إذ قرأ، ومنه قول حسان :
تمنى كتاب الله آخر ليله*** تمني داود الزبر على رسل
وقول كعب بن مالك أو حسان :
تمنى كتاب الله أول ليلة*** وآخرها لاقى حمام المقادر
فمعنى ( تمنى ) : قرأ، وعلى هذا فالاستثناء متصل. وتقرير المعنى : لا يعلمون من الكتاب إلا قراءة ألفاظ ليس معها تفهم وتدبر لما تحويه الألفاظ من المعاني، ومن لم يكن عنده من علم الكتاب إلا قراءة ألفاظ لا يفهم ما تحتها من المعاني فهذا جاهل لا علم عنده. هذا وجه في الآية، وهو الذي قلنا : إن في الآية قرينة تبعده ؛ لأن هذا يدل على أنهم يقرؤون التوراة قراءة ألفاظ لا يفهمون ما تحتها من المعاني، والعبر، والحكم. وقوله في أول الآية :﴿ ومنهم أميون ﴾ يدل على أنهم لا يقرؤون. فكان حمل الأماني على القراءة فيه شبه ناقضة مع قوله :﴿ ومنهم أميون ﴾.
الوجه الثاني في الآية الكريمة : أن الاستثناء منقطع، وأن ( الأماني ) جمع ( أمنية )، وهي الأمنية المعروفة، وهي أن يتمنى الإنسان حصول ما ليس بحاصل. وعلى هذا القول فتقرير المعنى : لا يعلمون الكتاب، لكن يتمنون أماني باطلة صادرة عن جهل لا مبدأ لها من علم، كأن يقولوا : ما عليه محمد وأصحابه ليس بحق، و ﴿ نحن أبناؤا الله وأحباؤه ﴾، ﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾، ﴿ كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ﴾، والدليل على أن هذا من أمانيهم الباطلة، وأن خير ما يفسر به القرآن القرآن : قوله تعالى :﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم ﴾ [ البقرة : الآية ١١١ ] فصرح ( جل وعلا ) بأن أمانيهم من هذا القبيل، كما قال جل وعلا :﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ﴾ الآية [ النساء : آية ١٢٣ ] وهذان الوجهان في قوله :﴿ لا يعلمون الكتاب إلا أماني ﴾.
﴿ وإن هم إلا يظنون ﴾ ( إن ) هي النافية. والمعنى : ما هم إلا يظنون، يسمعون عند علمائهم قولا فيقولونه تقليدا وظنا وجهلا.
والظن قد قدمنا أنه يطلق إطلاقين : يطلق على الشك. وهو المراد هنا، وهو المراد في قوله :﴿ إن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾ [ يونس : آية ٦٣ ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ". ومنه قوله عن الكفار :﴿ إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ﴾
[ الجاثية : آية ٣٢ ] واصطلاح الأصوليين : أن الظن لا يطلق على الشك ؛ لأن الشك نصف الاعتقاد. والظن عندهم جل الاعتقاد، وما بقي عن الظن من الاعتقاد يسمونه وهما، هذا اصطلاح أصولي.
أما أهل اللغة العربية فإنهم يطلقون اسم الظن على الشك.
قوله تعالى :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ﴾ [ البقرة : الآية ٧٩ ] ( ويل ) : كلمة عذاب، وهو مصدر لا فعل له من لفظه، معناه : هلاك عظيم هائل كائن لهم.
وقال بعض العلماء :( ويل ) : واد في جهنم تستعيذ جهنم من حره.
ولو فرضنا صحة هذا القول لكان راجعا إلى الأول.
ولفظه ( ويل ) تتعدى باللام ولذا عداه بقوله :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب ﴾ وهو مبتدأ خبره جملة :( للذين )، وإنما سوغ الابتداء بهذه النكرة لأنها مشمة معنى الدعاء، وقد تقرر في علم العربية : ان النكرة إذا كانت مشمة معنى الدعاء بخير أو بشر كان ذلك مسوغا للابتداء بها، ومثاله في الدعاء بالخير :﴿ قالوا سلام قال سلام ﴾ [ هود : آية ٦٩ ] ( سلام عليكم ) مبتدأ، سوغ الابتداء به أنه في معرض الدعاء، والدعاء بالشر كقوله هنا :
﴿ فويل ﴾ أي : هلاك عظيم لا خلاص منه للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، فهؤلاء اليهود – قبحهم الله – كانوا يأخذون أوراقا وقراطيس ينقلون فيها التوراة، يقولون مثلا : في المحل الفلاني من التوراة كذا وكذا وكذا، ويكتبون أمورا باطلة ليست في كتاب الله، كما يأتي في قوله :﴿ تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ﴾ [ الأنعام : آية ٩١ ] وهذا الذي يكتبونه بأيديهم في هذه القراطيس كذب مختلق على الله ( جل وعلا ). وهذا الاختلاق والتحريف إنما فعلوه ليتعوضوا به عرضا من عرض الدنيا، ذلك أنهم لو أخبروا بالواقع لآمن كل الناس، وصاروا تبعا لا متبوعين، وضاعت عليهم رئاسة الدين، والأموال التي يأخذونها عن طريق الرئاسة الدينية، فصاروا يكتبون أمورا محرفة مزورة، منها تغيير صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك. فقال الله فيهم :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب ﴾ يكتبون الكتاب في تلك القراطيس بأيديهم.
وقوله :﴿ بأيديهم ﴾ هذا نوع من التأكيد جرى على ألسنة العرب، فنزل به القرآن ؛ لأنه بلسان عربي مبين. نحو :﴿ ولا طائر يطير بجناحيه ﴾
[ الأنعام : آية ٣٨ ]، ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه. ﴿ يقولون بأفواههم ﴾ [ آل عمران : آية ١٦٧ ] ومعروف أنهم يقولون بأفواههم. ﴿ يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ﴾ ( ثم ) هذه كمان تدل على الاستبعاد ؛ لأن الكتاب إذا كان مختلقا على الله يبعد كل البعد أن يقول الإنسان إنه من عند الله.
ثم بين علة افترائهم وتزويرهم، ودعواهم أن الكتاب من عند الله، وهو ليس من عند الله، بين علة ذلك وعلته الغائية المقصودة عندهم بقوله :﴿ ليشتروا به ثمنا قليلا ﴾ الاشتراء في لغة العرب : الاستبدال، فكل شيء استبدلته بشيء فقد اشتريته، ومن هذا المعنى قول علقمة بن عبدة التميمي :
والحمد لا يشترى إلا له ثمن*** مما تضن به النفوس معلوم
وقول الراجز :
بدلت بالجملة رأسا أزعرا*** وبالثنايا الواضحات الدردرا
........................... *** كما اشترى المسلم إذ تنصرا
أي : كما استبدل.
و ( الثمن ) تطلقه العرب على كل عوض مبذول في شيء تسميه العرب ثمنا، ومنه بيت علقمة المذكور آنفا في قوله :
والحمد لا يشترى إلا له ثمن***.............................
وقول عمر بن أبي ربيعة :
إن كنت حاولت دنيا أو أقمت لها*** ماذا أخذت بترك الحمد من ثمن
ومعنى الآية الكريمة : أنهم يغيرون كلام الله، ويكتبون على الله ما لم يقل، ويقولون : إنه من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ؛ لأجل أن يعتاضوا بذلك ثمنا قليلا من عرض الدنيا، وهو ما ينالونه من المال على رئاستهم الدينية.
ثم إن الله قال :﴿ فويل لهم مما كتبت أيديهم ﴾ أي : هلاك عظيم لا خلاص منه كائن لهم، مبدؤه وسببه مما كتبت أيديهم مزورا على الله أنه من عند الله وليس من عند الله، ﴿ وويل لهم مما يكسبون ﴾ أي : من الرشا والأموال عوضا عن ذلك التزوير والافتراء على رب السماوات والأرض، وهذا غاية التهديد والوعيد العظيم حيث قال :﴿ فويل لهم مما كتبت أيديهم ﴾ يعني : وتقولوه على الله كذبا، ﴿ وويل لهم مما يكسبون ﴾ أي : من المال عوضا عن ذلك، وهذا معنى قوله :﴿ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ﴾.