ﰡ
قوله - عز وجل - ﴿الم﴾: الآية (١) - سورة البقرة.
اختلف الناس في الحروف التي في أوائل السور، فقالوا فيها أقوالاً جلها مراد باللفظ وغير متناف على السير، لكن بعضها مفهوم بلا واسطة، وبعضخا مفهوم بواسطة، فنقول وبالله التوفيق: إن المفهوم من هذه الحروف الأظهر بلا واسطة ما ذهب إليه المحققون من أهل اللغو كالفراء وقطرب، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنهما - وكثير من التابعين على ما بين من بعد، وهو أن هذه الحروف لما كانت هي عنصر الكلام ومادته التي تركب منها بين تعالى أن هذا الكتاب من هذه الحروف التي أصلها عندكم تنبيهاً لهم على إعجازهم، وأنه لو كان من عند البشر لما عجزتم مع تظاهركم عن معارضته، وأما اختصاص هذه الحروف وهذا العدد المخصوص وكونها في سور معدودة وجعل بعضها مفرداً، وبعضها ثنائياً وثلاثياً ورباعياً وخماسياً، ثم لم يتجاوز ذلك واختصاصها ببعض الحروف دون بعض، ففيها عجائب وبدائع إذا اطلع عليها علم أنه كما وصفه تعالى بقوله: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾، والقول في ذلك إن حروف التهجي قد قيل: ثمانية وعشرون.
وقيل: تسعة وعشرون، وهذا الخلاف من حيث أن " الألف " حرف لا صورة له في اللفظ حتى قال بعض الناس: الألف - في حروف التهجي: حرف لا ساكن ولا متحرك، وإنما هو مدلاً اعتماد له وقيل: إن الله تعالى جعل هذه الحروف طبقاً للعدد الذي هو أصل العلوم، ولو توهم ارتفاعه سائر العلوم، لأن عقود الأعداد ثمانية وعشرون: آحاد: وهي تسعة، وعشرات، وهي تسعة، ومائات، وهي تسعة وألف: وهو واحد، ثم الباقي مكررات، وجعلها أيضاً لمنازل القمر، وهي ثمانية وعشرون إلى غير ذلك من العجائب، وأما " لام الألف ": فمركب من حرفين، ولا اعتداد به في حصر المفردات، وقد قال بعض النحويين: إن ذلك أن يقال: " لا "، ذاك أنهم لما أرادوا تعريف صورة لفظ الألف مفردة: ولم يكن سبيل إلى التفوه به مفرداً، إذ لا يكون إلا مدة ضم إليها اللام ليمكن النطق به.
وخص بذلك اللام لعله مذكورة في موضعها.
فإذا ثبت ذلك فقد قيل: إن السور التي ذكر في أزائلها هذه الحروف تسع وعشرون، وجعل ذلك تنبيهاً على عدد حروف التهجي - إذا عد فيها الألف.
وقد ذكر هذه الحروف مفردة وتنائية إلى الخمسية تنبيهاً أن الكتاب المنزل على رسوله مركب من كلماتهم التي هي أصولها:
وجاء ثلاث سور مفتتحة بمفردات، وتسع سور بالثنائيات.
وثلاث عشرة سورة ثلاثيات، وسورتان برباعيات، وسورتان بخماسيات، وذلك " صّ " و " قّ " و " نّ " و " طّه " و " يسّ " و " طسّ " وست من الحواميم، و " المّ " في ست سور.
و" الرّ " في خمس سور، و " طسّم " في سورتين، و " المرّ "، و " المصّ "، و " كهيعصّ " و " حمّ عسق "، فجعل عدد الثلاثي أكثر تنبيهاً أن أكثر تراكيب كلامهم الثلاثي.
وباقيها أقل.
وإنما جعل الثلاثي ثلاثة عشر تنبيهاً أن أصول الثلاثي المستعملة: ثلاثة عشر: عشرة منها للأسماء المستعملة وذلك " فّعْل " " كعْاس "، و " فُعْل " كقُفُل، و " فِعْل " كقِرْد، وفَعَلِ كجعل، و " فَعُل " كعضُد، و " فَعِل " ككتف وفعل كابل وفعل كعنق، وفعل كعنب، و (فعل) كصرد، وثلاثة للأفعل: " فَعَل " و " فَعُل " و " فَعِل " ولم يعتد بـ " فُعِلَ ": أما في الأسماء، فلأنه لم يوجد ما يعتد به، أما في الأفعل: فإن الفعل في الأصل يجب أن يبنى للفاعل ويسند إليه دون المفعول.
وأما التسعة الثنائية، فتنبيهاً أن ما جاء من الكلم على حرفين تسعة اضرب ثلاثة للحروف: " إن " و " مّن " ومذ إذا جر به - وثلاثة للأسماء: " من " و " إذ " وهذا إذا رفع به.
وثلاثة للأفعال في الاسعمال، نحو " قل "، و " بع " و " خف " وأما الثلاثة المفردة: فتنبيهاً أن الحروف ثلاثة أضرب مفتوح ومكسور وساكن، نحو: له، وبه، ولام التعريف، وأما الرباعيان والخماسيان، فتنبيهاً أن لكل واحد منهما ساكن أصلاً وملحقاً به، أما الأصل: فكجعفر وسفرجل، وأما الملحق بهما: فكقرد وحجنكل، واقتصر من حروف التهجي على النصف منها - وهو أربعة عشر حرفاً من غير تكرير - لتدل على حكم عجيبة.
ولما خص نصفها بالذكر أورد فيها من الحروف المجهورة والمهموسة والشديدة، وما ليس بشديدة، واللينة والمطبقة وحروف البدل وما لا يصح فيه الإدغام، وما لا يدغم فيما قاربه، ولا يدغم ما قاربه فيه، وما لا يدغم فيما قاربه، ويدغم ما قاربه فيه، ومن حروف اللقلقة ومن الحروف التي للعرب دون العجم، من كل ذلك ما هو زوج، واحتمل التنصيف فإنه أخرج نصفه، ومن كل ما هو فرد لا يحتمل التنصيف نصفه بإسقاط حرف أو زيادة حرف، وأما الحروف الذلقية والحلقية، والزوائد، فقد زيد فيها على النصف بخاصية فيها: من ذلك: الحروف المجهورة: وهي ما أشبع للاعتماد على منبعه،
والمهموسة: وهي: ما ضعف الاعتماد على منبعه، وذلك عشرة يجمعها: " (ستشحثك خصفه) ذكر منها في هذه الأربعة عشر نصفها، وهي ما يجمعها: (صه حسك) والشديدة: وهي ثمانية يجمعها: " أجدت طبقك " ذكر نصفها، ويجمعها " أقطك " وباقيها [رخوة] وهو: أحد وعشرون، إذا سقط منها الألف فنصفها عشرة يجمعك " حمس على نصره ".
واللينة حرفان - سوى الألف: الواو والياء، وفي هذه الأربعة عشر أحدهما: وهو الياء، والمطبقة أربعة: ص، ض، ط، ظ.
ذكر اثنان منها، وهي: الصاد والطاء.
وحروف البدل اثنا عشر حرفاً - فيما ذكر سيبويه - يجمعها: (أجد طويت منها): ذكر منها ستة يجمعها " أهطمين " وترك باقيها.
وإنما لم يجر مجرى غيرها في أن ترك منها الألف ثم نصف، بل زيد لأمر اختص به باب البدل، وهو أن الألف في باب البدل أكثر من سائر الحروف، فلم يجز الإخلال بها في باب الإبدال وأما على غير طريقة سيبويه، فقد بلغ حروف البدل ثمانية عشر، فعد فيها اللام بدلاً من النون في " أصيلان " والصاد تبدل من " السين " في " الصراط " و " الثاء " من " الفاء " في " فروع الدلو " والفاء من التاء في " جدث " و " جدف " و " ثوم " و " فوم " والعين من الهمزة في عنعنة تميم، نحو قوله:
أأن ترسمت من خرقاء منزلة.
في " أأن ترسمت " والباء من الميم " باسمك " في " ما اسمك " والزاي من السين في قولهم: " زقر " أي " سقر " - فعلى هذا - في الحروف من الثمانية عشر تسعة، وهي الستة المذكورة واللام، والصاد، والعين.
وما لا يصح فيه الإغام: اثنان: الهمزة والألف.
وذكر أحدهما.
وما لا يدغم ولا يدغم فيه: فالواو والياء - إذا انفتح ما قبلهما - وقد ذكر أحدهما.
وأما الحروف التي لا يدغم فيما قاربها، ويدغم ما قاربها فيها: فهي الميم، والراء، والشين، والفاء، وقد ذكر من هذه الحروف اثنان، وأما حروف اللقلقة: فخمسة: القاف، والجيم، والطاء، والدال، والباء، وذكر منها اثنان: الطاء والقاف وهما
وأما الحروف التي للعرب دون العجم: فالضاد والحاء، وقد ذكر أحدهما.
وأما الحروف الذلقية: وهي التي ذلقت وسهلت على اللسان، فستة يجمعها " رمل فنب ".
وحروف الحلق وهي ستة: الحاء، والخاء، والعين، والغين، والهاء، والهمزة، فقد ذكر من النوعين أكثر من النصف للتنبيه على كثرة وقوعهما في الكلام، إذ قل ما ينفك رباعي وخماسي من حرف أو حرفين وثلاثة من هذه الحروف، فلما كثر وقوعها في الكلام أيد المذكور منهما على النصف تنبيهاً على ذلك.
وأما الزوائد: فعشرة يجمعها (اليوم تنساه) وقع في هذه الحروف منها سبعة لخاصية فيها، وهي التنبيه على أن البناء من الكلمة قد يبلغ سبعة أحرف بالزيادة، فهذه هي التي زاد المذكور منها على النصف لفائدة تختصه وحكمة تقتضيه.
وما روي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن هذه الحروف اختصار من كلمات، فمعنى " الم ": أنا الله أعلم، ومعنى " المر " أنا الله أعلم وأرى، فإشارة منه إلى ما تقدم.
وبيان ذلك ما ذكره بعض المفسرين أن قصده بهذا التفسير ليس أن هذه الحروف مختصة بهذه المعاني دون غيرها، وإنما أشار بذلك إلى ما فيه الألف واللام والميم من الكلمات تنبيهاً أن هذه الحروف منبع هذه الأسماء، ولو قال: إن اللام يدل على " اللعن "، والميم على " المكر " لكان يحمل، ولكن تحرى في المثال اللفظ الأحسن، كأنه قال: هذه الحروف هي أجزاء ذلك الكتاب.
ومثل هذا في ذكر نبذ تنبيها على نوعه قول ابن عباس - رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ أنه الماء الحار في الشتاء، ولم يرد به أن النعيم ليس إلا هذا، بل أشار إلى بعض ما هو نعيم تنبيها على سائره، فكذلك أشار بهذه الحروف على ما يكتب منها، وعلى ذلك ما رواه السدي عنه أن ذلك حروف إذا ركبت يحصل منها اسم الله.
وكذا ما روي عنه أنه قال: هي أقسام غير مخالف لهذا القول، وذلك أن الأقسام الواردة في فواتح السور إنما هي بقسم وأجوبتها تنبيه عليها.
فيكون قوله: " ألم ذلك الكتاب جملة في تقدير مقسم بها.
وقوله: " لا ريب فيه " جوابها، ويكن إقسامه بها تنبيهاً على عظم موقعها، وعلى عجزنا عن معارضة كتابه المؤلف منها.
فإن قيل: لو كان قسماً لكان فيه حرف القسم.
قيل: إن حرف القسم يحتاج إليه إذا كان المقسم به مجروراً.
فأما إذا
وعلى هذا القصائد والخطب المسماة بلفظ منه يفيد معنى فيها، وكذلك ما قاله أبو عبيدة، وروي أيضاً عن مجاهد، وحكاه قطرب والأخفش.
أن هذه الفواتح دلائل على انتهاء السورة التي قبلها، وافتتاح ما بعدها، فإن ذلك يقتضي من حيث إنها لم تقع إلا في أوائل السور ولا يقتضي أن لا معنى لها سواه، كما أن بسم الله في أوائل السور يقتضي ما قالوه ولا يوجب ذلك أن لا معنى سواه.
وما ذكر من أن هذه الحروف قصد بها الرد على من قال: إن النبي - ﷺ - كان يتلقن ما يودعه القرآن من بعض الأعجمين، وذلك في قوله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ فذلك شبيه أن هذه الصورة المخصوص بها القرآن، هي من النظم الذس أصوله عندكم، وذاك أن القوم لم يدعوا أن لفظ هذا القرآن أعجمي، وإنما ادعوا أن معناه مأخوذ عنهم ولهذا قال تعالى: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ فإذا: المعنى يرجع إلى ما تقدم بأنه تنبيه على إعجازه.
وما قاله قطرب إنه قصد بها صرف أسماع المشركين إلى الاستماع إليه لما تواصلوا بأن لا يستعموا له حتى قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ فإنما يشير به أيضاً إلى المعنى المتقدم، لأنه تعالى قصج بصرف أسماعهم تنبيههم على عجزهم عن معارضته، وأن من حقكم إذا عجزتم عن مثله أن تتدبروا آياته، وأن تعرفوا أنه حق فلا تلغوا فيه.
وما روي عن اين عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: الألف من " الم " على " الله "، اللام على " جبرائيل "، والميم على " محمد "، فدل بذلك على أن القرآن (من الله) - عز وجل - مبدؤه، وأن الواسطة: " جبريل ".
ومنتهاه إلى محمد.
فهذا صحيح ودال على ما تقدم، وفيه نبه بمخرج " الألف " الذي هو مبدأ مخارج الحروف على المبدأ، وهو الله تعالى، وبمخرج اللم الذي هو أوسط المخارج على جبريل، وبمخرج الميم الذي هو منتهى المخارج على المنتهى الذي هو النبي - عليه السلام -.
وما قاله الربيع بن أنس أن هذه الحروف حروف الجمل، وأن ذلك من علوم خاصتهم، وقد نبه بها على مدد، فذلك غير ممتنع أن يكون مع المعنى الأول مراداً، بدلالة أن النبي - عليه السلام - لما أتاه اليهود فسألوه عما أنزل عليه، تلا عليهم " الم "، فحسبوه، وقالوا: إن ملكاً يبقى إحدى وسبعين سنة لقصير المدة فعل غيره؟ فقال: " آلر "، و " آلمر " و " آلمص " فقالوا: خلطت علينا، فإنا لا ندري بأيها نأخذ.
فتلاوة النبي - عليه السلام - ذلك عليهم، وتقريرهم على استنباطهم دلالة أنه لا يمتنع أن يكون في كل واحدة دلالة على مدة لأمر ما.
وأما ما حكي عنالزبيري أن هذه الحروف ذكرت علماً منه تعالى أن يكون في هذه الامة من يزعم أن القرآن ليس بكلام الله، وإنما هو حكاية كلامه، فأراد أن يبين أن القرآن مما يكتب ويخبر عن أبعاضه وأجزائه بالحروف التي هي معلومة إنها محدثة، فإن هذا القول من الوهي بحيث يستغنى عن إظهار بطلانه، إذ لا يقول أحد إن الكتاب بما هو كتاب ليس بمؤلف من هذه الحروف وإن كانوا قد اختلفوا في القرآن.
بل هو مقصور على الكتاب، أو المراد به هو غيره.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ الآية (٢) - سورة البقرة.
قال أبو عبيدة: عنى به هذا الكتاب.
وقال غيره: عنى هو الكتاب، فظن بعض من لم يتقو في الحقائق أن قولهم: " ذلك " قد يجئ بمعنى " هذا " و " هو " ليس الأمر على ما ظنوه.
وإنما قصد هذا المفسر أن يبين أن الاسم الذي فيه الألف واللام هو الخبر، لا لأنه وصف والخبر منتظر، كقوله تعالى: ﴿إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ﴾ والفصل كما يقع بالمضمرات فإنه يقع بالمبهمات
فإن قيل: إذا كان هذا المعنى ما قدمت في " الم ذلك الكتاب " فهلا قيل: " ذلك الكتاب ألم " فإنه قد علم أن حروف التهجي - كما يكون الكتاب المشار إليه - قد يكون شعراً وخطبةً ورسالةً.
وقد تقرر أن العام إذا أخبر عنه بالخاص كان كذباً، نحو قولهم: الحيوان إنسان وإذا أخبر عن الخاص بالعام كان صدقاً، نحو قولهم: الإنسان حيوان، فيحصل من ذلك أنه إذا قيل: " الم
و" الم ": خبراً له مقدماً، وتقديمه على كون العناية به أصدق كما تقدم.
والثاني: أنه قد يقال: الإنسان زيد.
بمعنى غير معنى " زيد إنسان " وهو أن يراد أن كما الإنسانية موجود في زيد.
فكأنه قيل: كمال حروف التهجي موجود في هذا الكتاب والمكتوب في التعارف اسم للمكتوب، أي: المنظوم كتابة، وقد يعبر عن المنظوم عبارة قبل أن يكتب بالكتاب.
قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ الآية: (٢) - سورة البقرة.
قال المفسرون: معناه لا شك فيه،
فإن قيل: كيف نفى الريب عنه، وقد علم تشكك كثير من الناس فيه؟ قيل: في ذلك أجوبة: الأول: إن ذلك نفي على معنى النهي نحو قوله: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، بدلالة قوله: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ وقوله: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾
فإن قيل: الشك لا يقصده الإنسان، فكيف ينهى عنه؟ قيل: اللفظ لذلك، والمعنى حث على التدبر والتفكر النافيين للشك.
والثاني: أنه يقال: رابني كذا، إذا تحققت منه الريبة، وأرابني: أوهمني الريبة.
قال الشاعر:
أخوك الذي إن ربته قال إنما... أربت وإن عاتبته لان جانبه
فالقرآن لا ريب فيه، وإن كان فيه ارتياب من بعض الكفار، والثالث أنه يقال: هذا لا ريب فيه، والقصد إلى أنه حق، تنبيهاً أن الريب يرتفع عن عند التدبير والتأمل، والرابع: أنه لا ريب في كونه مؤلفاً من حروف التهجي وقد عجزتم عن معارضته، والخامس لا ريب فيه للمتقين، ويكون خبر (لا ريب فيه) قوله تعالى: (للمتقين) وهدى نصب على الحال أو خبر ابتداء مضمر في موضع الحال.
قوله عز وجل -: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ الآية: (٢) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في الهداية.
أما اختصاص المتقين، فلأن الهداية: نصب العلم ليهتدي به الناس فله موضوع هو المبدأ: وذلك نصب العلم للكافة.
وغاية: وهو الاهتداء به، فيقال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ لما لم يهتد به غيرهم.
ومثاله: من بنى مسجداً مباحاً للكافة.
يصح أن يقول: " بنيت هذا المسجد للناس كافة "، اعتباراً بالمبدأ.
ويصح أن يقول: بنيته للمصلين فيه، اعتباراً بالغاية.
وطريقة أخرى: وهي أن
وطرقة ثالثة - إذا تؤملت تصور عنها جواب مسائل كثيرة في القرآن - وهو أن الله تعالى جعل لنا طبين طبا بدنياً، وطباً دينياً.
وكل واحدٍ منهما ضربان: أحدهما: إعادة الصحة.
والآخر: حفظ الصحة.
قد أجرى العادة أن الذي يحفظ به الصحة غير الذي يعاد به الصحة أما في الطب البدني: فالذي يعاد به الصحة العقاقير والأدوية.
والذي يحفظ به الصحة فالغذاء والأطعمة، وأما في الطب الديني فالذي يعاد به الصحة صقل العقل واستعماله في تدبر الدلالات، وتعرف المعجزات، ومعرفة النبوات.
والذي يحفظ به الصحة: تدبر الكتاب المنزل، وتتبع سنن النبي المرسل.
فكما أن من لم يستفد الصحة في الطب البدني، إذا تغذى، كان ذلك ضرراً عليه، ومتى أعاد صحته كان تناول الغداء عائداً بنفع إليه، كذا من لم يستفد صحة عقله بتدبر الدلالات كان القرآن ضرراً عليه، ومتى استعمل ذلك وتهذب فيه، جلب بالاستماع إلى القرآن نفعاً إليه.
وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًاء﴾ وقوله: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ إلى قوله: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ وأما [التقوى] فهو: جعل النفس في وقاية مما يخاف.
هذا حقيقته.
ثم يسمى تارة " الخوف " التقوى.
والتقى: خوفاً على تسمية المقتضي باسم المقتضي والمقتضي باسم المقتضي وفي التعارف: حفظ النفس عن كل ما يؤثم.
ولها منازل: الأول: ترك المحظور.
وذلك لا يتم إلا بترك بعض المباح مما يليه.
ولذلك قال عليه السلام " من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه " وقيل: من
فقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ أي: التاركين للمحظورات.
وقال ﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ فجعل " المتقي " - في الآيتين - غير المصلح والمحسن.
والثاني: من منازل التقوى - أن يتعاطى الخير من تجنب الشر، وإياه عنى الله تعالى بقوله: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾ والثالث منها: التبرؤ من كل شيء سوى الله - عز وجل - فلا سكون إلى النفس ولا إلى شيء من القنيات والجاه والأعراض.
وهو المعنى بقوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ وما وعدناه بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ ورجاناه بقوله: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ فهذه المنازل مرتب بعضها على بعض.
وقد فسر قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ على الوجوه الثلاثة، فقيل: عني به التاركين لمحارم الله.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما: عني به الخائفين عقوبته الراجين رحمته، وقال بعض المتقدمين: معنى ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي وصلة للمنقطعين إليه عن الأغيار الذين نزع عن قلوبهم حب الشهوات.
فهذا نظر منهم إلى الغاية.
الإيمان: التصديق بالشيء، ولا يكون التصديق إلا عن علم.
ولذلك قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فالإيمان: اسم لثلاثة أشياء: علم بالشيء وإقرار به، وعمل بمقتضاه، إن كان لذلك المعلوم عمل، كالصلاة والزكاة.
وهذا هو الأضل، ثم قد يستعمل في كل واحد من هذه الثلاثة، فقال: " فلان مؤمن "، ويعني به أنه مقر بما يحصن دمه وماله وإياه عن النبي - ﷺ - بقوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "، وبذلك حكم - عليه السلام - على الجارية التي عرضت عليه فسألها ما سألها.
ثم قال: " اعتقها فإنها مؤمنة " ويقال: " مؤمن " ويراده: أنه يعرف الأدلة الإقناعية التي يحصل معها سكون النفس، وإياه عنى النبي - ﷺ - بقوله: " من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة "، ويقال: " مؤمن "، ويعني به: أنه يسكن قلبه إلى الله من غير تلفت إلى شيء من عوارض الدنيا وإياه عنى الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ الآية، وبقوله: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ و " الغيب ": ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداية العقول، وإنما يعلم إما بواسطة علم ما أو الاستشهاد به عليه، وإما بخبر الصادق، وهو الذي دفعه قوم، فلزمهم اسم الإلحاد، لأن الإلحاد: دفع أخبار الغيب، وقول: " زر بأن ": الغيب: هو القرآن.
وقول عطاء: إنه القدر: تمثيل لبعض ما هو غيب.
وليس ذلك بخلاف بينهم، بل كل أشار إلى الغيب بمثال وكذا ما روى أبو جمعة " إنا كنا مع رسول الله - ﷺ - فقلنا يا رسول الله: هل قوم أعظم أجرا منا، آمنا بك واتبعناك.
قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين،
وقوله: " بالغيب " في موضع المفعول.
كقوله: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ وقال بعضهم: معناه: يؤمنون إذا غابوا عنكم، ولم يكونوا كالمنافقين الذين ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾.
وقوى ما قاله بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ وقوله ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾، قول الشاعر:
وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا
ويكون " بالغيب " على هذا في موضع الحال.
ومفعول: " يؤمنون ": محذوف.
وقال بعض المتأخرين من المتكلمين: يحمل قوله تعالى " بالغيب " على المعنيين وخفي عليه أن ذلك لا يصح، فإن وبالغيب في القول الأول: مفعول: في القول الثاني: حال لا يصح أن يقال ضربت راكباً، و " راكب " يكون مفعولاً: لـ " لضربت " و " حالاً " للفاعل.
والوجه: هو القول الأول، لأنه مستوعب لمعنى الثاني وزائد عليه، إذ كل من آمن - على الوجه الأول - فلا شك أنه بخلاف من يقول: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ وقيل: معنى قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ يعني بالقلب، والنور الذي آتاهم الله وهو العقل، ومعناه: آمنوا بقلوبهم، بخلاف من أخبر الله تعالى عنهم بقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ومن حكى عنهم: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ وهذا أيضاً يرجع إلى الأول عند التحقيق، وقيل: " يؤمنون " من: " آمن فلان " - أي: صار ذا أمنٍ نحو أحال وأجرب.
ومعناه: صاروا ذوي أمن بظهر الغيب بأن ما أخبروا به حق، فتطمئن قلوبهم بذكر الله.
إقامة الصلاة: توفية حدودها وإدامتها، وتخصيص " الإقامة " تنبيه على أنه لم يرد إيقاعها فقط.
ولهذا لم يأمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة نحو: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ وقوله: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ و ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ ولم يقل المصلي إلا في المنافقين ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ وذلك تنبيه أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل، كما قال عمر - رضي الله عنه [الحاج قليل والركب كثير]، ولهذا قال عليه السلام:
" من صلى ركعتين مقبلاً بقلبه على الله خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " فذكر مع قوله - ﷺ - الإقبال بقلبه على الله تنبيهاً على معنى الإقامة، وبذلك عظم ثوابه وكثير من الأفعال التي حث تعالى على توفية حقه ذكره بلفظ الإقامة نحو: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ ونحو: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ تنبيهاً على المحافظة على تعديله.
وقال أبو علي الجبائي: الصلاة لما جاورها القيام صح أن يعبر عن المصلى بالقيام وهذا بعيد، لأن المجاور للصلاة القيام لا الإقامة، ثم مع القول المتقدم لا يعرج على هذا، وقوله - عز وجل - ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ الرزق: لفظ مشترك، يقال للعطاء الجاري تارة، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة.
فقوله تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ يعني نصيبكم من النعمة.
وقوله: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ﴾ تنبيه على ان الحظوظ بالمقادير.
وقوله: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ محمول على المباح دون الحظور لأمرين: أحدهما: [أنه] حث
والثاني: باضافته إليه وتمكينه منه، حيث قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ من شرط ما يضاف إليه من الأفعال مفصلاً أن يخص الأفضل، فالأفضل، وإن كان قد يضاف إليه الأفعال كلها على سبيل العموم بمعنى: أنه هو السبب الذي لولاه - تعالى - لم يحصل ولم يكن بوجه والظاهر - من إنفاق ما رزقه الله - المال، وذلك عام فيما يخرج من الزكاة المفروضة، ومن العطايا النافلة، بدلالة أن ذلك مدح منه.
والمدح قد يستحق بالفرض والنفل، وما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه عنى " الصلوات المفروضة " والزكوات [المحدودة] فإنه، ذكر أوكد ما يستحق به المدح، إذ لا يعتد بالنفل ما لم يؤت بالفرض، لقوله عليه السلام: " إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة " وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - " إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يضعها في في امرأته " فالإنفاق من الرزق بالنظر العامي من المال كما تقدم.
وأما بالنظر الخاصي:
فقد يكون الإنفاق من جميع المعاون التي أتانا الله - عز وجل - من النعم الباطنة والظاهرة، كالعلم والقوة والجاه والمال.
ألا ترى إلى قوله - عليه السلام - " إن علماً لا يقال به ككنز لا ينفق منه " وبهذا النظر عد الشجاعة وبذل الجاه وبذل العلم من الجود حتى قال الشاعر:
والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
وقال آخر:
بحر يجود بماله وبجاهه... والجود كل الجود بذل الجاه
وقال حكيم: الجود التام: بذل العلم.
فمتاع الدنيا عرض زائل ينقصه الإنفاق.
وإذا تزاحم عليه قوم ثلم بعضهم حال بعض.
والعلم بالضد ٠ فهو باق دائم.
ويزكو على النفقة، ولا يثلم تناول البعض حال الباقين، وإلى هذا ذهب بعض المحققين فقال: (ومما رزقناهم ينفقون) أي: مما خصصناهم به
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾.
سورة البقرة: الآية (٤)..
الإنزال، والوحي متقاربان، لكن استعمال " الإنزال " على اعتبار حال المنزل والمنزل إليه بالشرف والمنزلة، لا بالمكان، والوحي: هو الإشارة والإبقاء.
وذلك على ثلاثة أضرب بينها الله تعالى في قوله ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ﴾ الأول - من ذلك الوحي: والإنزال الذي بينه تعالى وبين أولي العزم من الرسل بسفير يرونه.
والثاني: بسماعٍ من غير رؤية، كحال موسى - عليه السلام - في ابتداء بعثته.
والثالث: بالإلهام والإلقاء في الروع.
وذلك ضربان: إما الإلقاء في الروع في حال اليقظة، وهو المعبر عنه بالمحدث و " المروع "، وعليه نبه عليه السلام بقوله: (إن في أمتي لمروعين) وقوله: (إن يك في هذه الأمة محدث فعمر بن الخطاب) وقوله (إن روح القدس نفث في روعي) وإما إلقاء إليه في المنام، وذلك ضربان: إما ظاهر من المنام لا يحتاج إلى تعبير...
وإما تلويح ورمز يحتاج إلى تعبيره، ولهذا قال عليه السلام:
" الرؤيا الصادقة [الصالحة] جزء من خمس وأربعين جزءاً من النبوة " فالذي يكون في المنام بالإلقاء في الروع، قد يكون لغير الأنبياء - عليهم السلام - والذي يكون بالسماع من غير رؤية قد يكون لغير أولي العزم من الرسل.
والذي يكون بالسفير المرئي لا يكون إلا لأولي العزم.
وعلى هذا
واليقين أقوى إدراكات العقل، ولهذا قيل: هو مشاهدة الغيوب بعين القلوب تنبيه أنه أقوى إدراكات العقل، كما أن رؤية البصر أقوى إدراكات الحواس، ولصعوبة إدراكه، قال - عليه السلام -: " أخوف ما أخاف على أمتي ضعف اليقين " ولذلك قالوا: اليقين هو اطمئنان القلب اعتباراً بثمرته.
وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ واستعمل فيه " الرؤية تنبيهاً على ما تقدم، والكلام في ترتيب الآيتين ونظمها صعب.
وذاك أنه إن كانت تفصيلاً للمتقين، فالوجه أن يفصل ذلك بفصل لا يدخل أحد القسمين في الآخر، نحو أن يقال: العرب بدوي وحضري، وشاعر وغير شاعر.
أو تميمي وغير تميمي، فأما أن يقال: شاعر وتميمي، فلا يصح، ومعلوم أن بعض ما ينطوي عليه أحد الآيتين داخل في جملة الأخرى.
وإن كان ذلك ليس بتفصيل، وإنما هي صفات للمتقين، ويكون ذكر بعض ذلك مخصصاً عن الجملة كذكر جبرائيل وميكائيل بعد الملائكة على سبيل التخصيص، فالوجه: أن لا يعاد " الذين " ثانياً، [ثم] قوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الآية: (٥) - سورة البقرة.
[يجب أن يعلم هل هما صفتان لموصوفين أو لموصوف واحد] فيقال - وبالله التوفيق: إنه قد قيل: الآيتان - وإن كانتا عامتين فمعناهما خاص.
فالأولى أشير بها إلى الذين آمنوا عن الشرك، والثانية إلى الذين آمنوا من أهل الكتاب - وهو قول ابن عباس - واستدل على تقوية ذلك بأنه كما صنف الكفار - بعد
فعلى هذا قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ كأنه قيل: هذا الكتاب هدى للمسلمين الذين هذا وصفهم.
ولأهل الكتاب الذين جمعوا بين الإيمان بك وبمن تقدمك.
وقد قيل فيه قول ثان: وهو أن الإيمان ضربان: ضرب يمكن أن يدرك جملتها بالعقل، وإن لم يكن إدراك تفاصيله إلا بالشرع.
وذلك ثلاثة أشياء.
ذكرها في الآية المتقدمة: وهي أفضل ما يؤدي بالجوارح وهي الصلاة.
وأفضل ما يؤدي من الأملاك، وهو الزكاة.
وذلك صفات المتقين.
ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة أشياء.
ذكرها في الآية المتقدمة: وهي أفضل ما يؤدي بالجوارح وهو الصلاة.
وأفضل ما يؤدى من الأملاك، وهو الزكاة.
وذلك صفات المتقين.
ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة أحوال من أسرار الإيمان مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالسمع وهو الإيمان بالقرآن والإيمان بالكتب المنزلة على الرسل المتقدمة الإيقان بيوم القيامة قال: وإنما أعاد " الذين " تنبيهاً أن هذه الثلاثة سبيلها غير سبيل الأول، وقد قيل فيه قول ثالث: وهو أن الإيمان ضربان، ضرب هو معرفة سبيل الحق، وطلب الوسيلة إليه وهو المشار إليه بقوله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ وبقوله: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ وضرب هو مزاولة السلوك إليه المشار [إليه] بقوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ وبقوله: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ فالمعنيون بالآية الأولى هم الموطئون السبيل إليه بالإيمان به والعبادات البدنية والمالية، وبالثانية المجتهدون في التوصل إليه وهم الذين يعرفون حقائق مراد الله بما أنزله على أنبيائه وعناهم الله تعالى بقوله: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ وبقوله: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ وبقوله: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ وهم المزيد لهم بقوله: ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ فعلى
قد تقدم القول في ذكر الهداية بما أغنى عن الإعادة.
فأما " الفلح " فأصله: الشق ومنه قيل: " الحديد بالحديد يفلح " وسمى " الأكار " فلاحاً، اعتباراً بمبدأ فعله، وهو شق الأرض، ومن قال: يسمى " المكارى " فلاحاً لقول الشاعر " وفلاح يسوق لها حماراً " فهذا سوء نظر منه، فإنه أراد أكاراً يسوق حماراً، فكما أنه لو قال: أكاراً يسوق حماراً، لم يكن يجب أن يقال: الاكار: هو المكاري، كذلك هذا.
وسمي " الظفر " فلاحاً اعتباراً بكشف الكربة.
ثم " الفلاح " تارة يعتبر بأعراض الدنيا، فيقال: أفلح فلان: إذا ظفر بما يريده.
وقول من قال: الفلاح: البقاء، لقول الشاعر: وترجو والفلاح بعد عاد وحميرا فإنما عني الفرج.
والبقاء: بعض الفرج.
فإذا ذلك عام موضوع موضع خاص.
وقد استعمل " الفلاح " في الآية لما هو في الحقيقة ظفر وفرج، كما قال عليه السلام: " لا عيش إلا عيش الآخرة " وهو قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾.
الكفر في اللغة الستر، ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص والزارع لستره البذر في الأرض وليس لهما باسم كما ظن بعض أهل اللغة لما سمع قول الشاعر: ألقت ذكاء يمينها في كافر فإن ذلك على إقامة الوصف تمام المصوف، وقول الشاعر: كالكرم إذ نادى من الكافور، أي: الأكمام منه، وسمى القرية كفراً لذلك، وكفر النعمة: سترها، يقال: كفر كفراً وكفوراً، نحو شكر شكراً وشكوراً وهو كافر وكفور، وشاكر وشكور.
وحقيقة الكفر ستر نعم الله تعالى، ولما كانت نعمه تعالى بالقول المجمل ثلاثاً، نعمة خارجة: كالمال والجاه، ونعمة بدنية: كالصحة والقوة، ونعمة نفسية: كالعقل والفطنة، صار الشكر والفكر ثلاثة أنواع بحسبها، وأعظم الكفر ما كان مقابلاً للنعمة [النفسية] فيها يتوصل إلى الإيمان واستحقاق الثواب، ومن قابل تلك النعم بالكفران فهو الكافر المطلق، ولذلك صار الكفر في الإطلاق جحود الوحدانية والنبوة والشريعة..
، وقوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ﴾ في الأصل مصدر كالعلاء والنماء، وفي المتعارف يستعمل في وسط الشيء المعتبر استواؤه بطرفيه، ومنه سواء الدار، وأما السيان: ففي الشيئين المعتبر أحدهما بالآخر في المساواة، فالشيء هو المساوي كالقتل والمثل في معنى المقاتل والمماثل، فإذا قيل: " سيان زيد وعمر "، فمعناه: " كل واحد منهما مساوٍ للآخر "، وإنما جاز قولهم: ([سواء] على أقمت أم قعدت) منه بإبهام الأمر على استواء الحالين لديه، وإن كان القصد الأول بهذا الكلام إلى الاستفهام دون المساواة، فلما صار فيه معنى الاستواء، جاز أن يقال ذلك بمعنى أن ما اقتضاه هذا السؤال سوى عندي، وأكثر النحويين جعلوا " سواء " مبتدأ وما بعده خبره، وقالوا: " كل جملة حصلت خبرا لمبتدأ فلابد من أن يكون فيها ضمير منطوق به، أو مقدر إلا هذه الجملة، فإنه لا ضمير فيها بوجه، وذكر بعضهم أن المبتدأ ههنا مقدر، وقد دل عليه لفظ الاستفهام وسواء: خبره فالجملة قد تدل على المخبر عنه نحو من كذب
إن قيل: كيف قال ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ الآية وقد علم أنه قد آمن من الذين كفروا قوم قيل: إيمان من آمن لا ينافي مقتضى الآية، وذلك أنه تعالى نفى أنهم ينتفعون بالإنذار مع حصول الكفر، فأما إذا زال الكفر وهو الجحود، فإنه لا يمتنع أن ينتفعوا بالإنذار، كقولك: " المريض سواء أطعمته أم لم تطعمه لا ينفعه الطعام " - تنبيهاً أنه ما دام مرضه حاصلاً لم ينفعه ذلك، ولا تقتضي أنه لا ينتفع بذلك إذا زال مرضه، وقد تقدم أن الطب ضربان: إزالة المرض، وحفظ الصحة، وأن الإنذار يجري مجرى الغداء الحافظ للصحة، وأن النظر في الأدلة المقتضية للتوحيد وإثبات الرسل جار مجرى الدواء المعيد للصحة، والمريض لا ينتفع بالغذاء ما لم يزل مرضه، فتبين أن الذي في قلبه مرض من الكفر لا ينتفع بما يجري مجرى الغذاء ما دام به المرض، وقد روى عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ما دل على هذا، وهو أنه قال: " عنى به الجاحدين لنعمه " وأن الإنذار لا ينفعهم مع كفرهم "، وقيل: إن ذلك حكم على جميعهم، لأن النبي - عليه السلام - كان يحب أن يؤمنوا بأجمعهم، وإيمان بعضهم ليس يقتضي أن الحكم على الكل كاذب، وقيل: الآية نزلت في اليهود الذين حجدوا نبوة النبي - ﷺ - مع ظهور المعجزات لهم، ولم يؤمن أحد منهم، وقال الربيع: " نزلت في قادة الأحزاب الذين نزلت فيهم.
فإن قيل: إذا علم أنه لا ينجع فيهم الإنذار، فما فائدة حث النبي - ﷺ - على إنذارهم؟
قيل: قد بين الله تعالى في الآية ما هو تنبيه على الجواب عن ذلك، لأنه قال: " سواء عليهم "، ولم يقل: عليك، ليبقى للنبي فضل الإنذار والسعي، ففي إبلاغه فائدتان: فائدة له في استحقاق الثواب لما تكلفه من المشاق، وفائدة لهم أن قبلوا، فهم وإن حرموا فائدة القبول، فإنه - عليه السلام - لم يحرم فائدة الإبلاغ، وعلى ذلك قال: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ تنبيهاً على هذا المعنى، وقال فيما خاطب به الكفار وذمهم لعبادتهم الأصنام ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ فقال عليكم لما كان ذلك راجعاً إلى الداعين دون المدعوين وخبر أن يصح أن يكون قوله: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ مع خبره اعتراض في موضع الحال، ويصح أن يكون الجملة التي هي سواء عليهم مع خبره خبر " إن " وقوله: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ حال مؤكدة، أو تفسير لذلك، لأنه إذا قيل: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ لا يعلم من ظاهره أن هذا الاستواء هل هو في: " أن يؤمنوا " أو في " أن لا يؤمنوا " فبين ذلك
قوله - عز وجل -: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ الآية (٧) سورة البقرة.
الختم، والطبع الأثر الحاصل على نقش، وتجوز به في أمور، يقال: " ختمت كذا " في الاستيثاق من الشيء والمنع منه - نظراً إلى ما يحصل من المنبع بالختم على الكتب والأبواب، ويقال ذلك، ونعني به تحصل أثر نظر إلى النقش الحاصل عن الطابع إذا طبع، ويقال ذلك ونعني به بلوغ أخر الشيء - نظراً إلى أنه أخر فعل يفعل في إحراز الشيء منه، ومنه قيل: " ختمت القرآن " ويقال ذلك لما يستدل به إلى الشيء نظراً إلى ختم المناشر المستدل به على منشيها، وأما المراد من الآية، فقد قيل: " للإنسان بالقول المجمل ثلاثة
الأول: الغفلة عن العبارات، وذلك يورث صاحبها جسارة على ارتكاب الذنوب، وهي المشار إليها بقوله عليه السلام: " إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يغلق قلبه " " والثاني: الجسارة على ارتكاب المحارم، إما الشهوة تدعوه إليه أو وشرارة تحسنه في عينه، وذلك يورثه وقاحة، وهي المعبر عنها بالرين في قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ والثالث: الضلال، وهو أن يسبق إلى اعتقاد مذهب باطل، وأعظمه الكفر، فلا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق، وذلك يورثه هيئة تمرنه على استحسانه للمعاصي واستقباحه للطاعات، وهو المعبر عنه بالختم والطبع، وكما عبر عنه بذلك في قوله تعالى: ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ فقد عبر عنه بالإقفال في قوله تعالى: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ وبالإغفال في قوله: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ وبقساوة القلب في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ وبجعل أكنةٍ عليها في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ وبعدم العقل في آيات كثيرة.
ويجب أن يتصور ههنا نكتة تزيل الشبهة فيها وفيما أشبهها من الآيات، وهي أن الهداية من الله تعالى ضربان، أحدهما: بالعقل الذي هو فطرته التي فطر الناس عليها، ومتى توهم نفياً مرتفعاً ارتفع التكليف، والثاني: العلم المحصل للإنسان بالفكر والروية بواسطة ما أعطى من نور الهداية الأولى، وهو الذي أشار إليه النبي - ﷺ - فيما قال لعلي - رضي الله تعالى عنه - " إذا تقرب الناس إلى خالقهم بالصلاة والصيام، فتقرب أنت إليه بالعقل تسبقهم بالدرجات " فإذا كان كذلك، وجب أن يكون متصوراً أن هذه الهداية الثانية مباحة للكافة.
تخرصا وأحاديثا ملفقة... ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
وذاك أن هذا الحكم لا سبيل إلى إثباته إلا بسمع غير محتمل، وأيضا فإن هذه الكتابة إن كانت
البصر مغشي عليع مفرداً عن القلب، والسمع، فقد قيل: إن ذلك لاختصاص البصر بمعنى، وهو أنه لما كان يحتاج في إدراك مدركاته إلة نور من خارج كما يحتاج إلى نور من داخل، والقلب والسمع يستوي حالهما في إدراك مدركاتها في الضوء والظلمة، خص البصر بالغشاوة - تنبيهاً على أن النور ممنوع منه، فلا يحصل به الانتفاع وأيضاً، فإن ما يدركه القلب والسمع لا يختص بجهة دون جهة، وما يدركه البصر يختص بجهة المقابلة، فجعل ما يمنعهما من خاص، فعليهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وجعل ما يمنع البصر من خاص الغشاوة المختصة بجهة دون جهة، وأكثر ما ذكر الله القلب، فالمقصود به " العقل والمعرفة "، وكان ذلك عباة عن الموعي بالوعاء، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾، وقوله عليه السلام: " استفت قلبك وإن افتاك المفتون "، وأما إفراد السمع مع جمع القلب والبصر، فقد قيل: إن السمع في الأصل مصدر، فأجرى مجرى أصله، وقيل: أراد موضع سمعهم، وقيل: المضاف إلى الجمع يصح جمعه على الأصل، وإفراده على الإيجاز - اعتماداً على المضاف إليه، كقول الشاعر:
أمَّا عِظَمامُهَا فَبِيضٌ...
وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
ومن نصب غشاوة فعلى تقديره جعل على أبصارهم غشاوة، ومن رفع فعلى القطع والاستئناف، والعذاب: اسم من التعذيب، وكان الأصل من قولهم ما عذب والتعذيب إزالة ذلك العذاب كقولهم مرضته فديته في إزالة المرض والقذى بين العذاب والعقاب أن العقاب لا يقال إلا فيما كان مجازة، وكأنه هو المتعقب للجرم المتقدم، والعذاب يقال فيه وفي غيره، ووصفه بالعظيم: تنبيه أنه إذا قويس بسائر ما يجانسه قصر جميعه عنه.
قوله - عز وجل - ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ الآية: (٨) - سورة البقرة.
الناس: جماعة حيوان ذي فكر ورويةٍ، واختلف في لفظه، فقيل: هو من قولهم: أناس، وحذف همزته وتقديره بعد الحذف عال، وقيل: بل هو من: " ناس " - ينوس - أي اضطرب، وتسميته بذلك لكونه ذا اضطراب زائد على غيره، إما ببدنه وفكره معاً، فللإنسان بالفكر حركة زائدة على سائر الحيوان، وقيل: هو ومقلوب من: نسى، نحو: " جذب "، و " جبذ " ولاه أبوك ولهي أبوك، وكذا قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في الإنسان: إنه سمى بذلك لأنه عهد إليه فنسى، فإنسان: على ذلك: " أفعلان " أصله " إنسيان " بدلالة تصغيرهم على أنيسان وقيل: سمي إنسا وإنساناً لانه خلق خلقه لا قوام له في حياته بجميع أسبابه، فيحتاج البعض إلى بعض ليتسبب لهم أمورهم ولأنه إذا لم يكن له مسكون إليه من جنسه لم تطب حياته، وعلى ذلك قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ وهذا المعنى رمقه الشاعر حيث قال:
من كان في الدنيا بغير حبيب... فحياته فيها حياة غريب
ما كان في حور الجنان لا دم... لو لم يكن حواء من مرغوب
قد كان في الفردوس يشكو وحشة... فيها فلم يأنس بغير حبيب
والرابع: للعناية الصادقة بالشيء نحو: فلان يقول بكذا، والخامس للدلالة المنبئة عن الشيء نحو: امتلأ الحوض، وقال قطني
والسادس: في استعمال المنطقيين عبارة عن الحد، يقولون قول الجوهر كذا، وقول العرض كذا، أي حدهما، ولاستعمال القول على أوجه مختلفة، قال تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ وقال: ﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ والأصل في ذلك العبارة، لكن عبر عن نسبة تارة به كتسمية العنب خمراً في قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ والفرق بين القول والكلام أن الكلام لا يطلق إلا لجملة مفيدة لفظاً أو تقديراً، والقول قد يقال لبعض الجملة، فإذا كل كلام قول، وليس كل قول كلاماً، ولذلك قال سيبويه:
" قلت: في كلامهم: يحكى به ما كان كلاماً لا قول " فأورد ذلك مورد المقرر في النفس أن الكلام موضوع لجملة مفيدة، وقد بين الله تعالى في هذه الآية أن في الناس من يدعي الإيمان بالله والمعاد، وهو كاذب في قوله ودعاه وذلك كقوله: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا﴾ وقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ كل ذلك تنبيه على أن الإيمان غير نافع ولا مقبول إلا بتقديم النية والإخلاص ومطابقة المقال والفعال، وقال أبو علي الجبائي: هذه الآية تدل على أن إقرار من أقر بالله إذا لم يكن عارفاً بالله لا يكون بهذا القول مؤمناً بل مدعياً له.
والمخالف لا يخالف في ذلك وإنما يقول: إنه يصير مؤمنا إذا تفوه بالشهادتين، وقال أبو علي أيضا: " إن الآية
ورابعاً: أن من يقول: معرفة الله ضرورة، يذكر أن ذلك لا يحصل إلا عن سبب يتقدمه كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة لا يحصل إلا بتقديم سماع المخصوص فكذلك معرفة الله ضرورة [لكن لابد فيها من سبب يتقدمها، وخامسها: أن عند كثير ممن يدعي] أن معرفة الله ضرورة أن ذلك موجود في الإنسان بالقوة، كوجود النار في الحجر، فلابد لها من انقداح به يخرج، ومتى لم يحصل السبب لم تكن النار، كذلك المعرفة بالله تعالى.
قوله عز وجل: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾
الآية (٩) - سورة البقرة.
الخداع: إنزال الغير عما هو بصدده بأمر تبديه على خلاف ما تخفيه، ومنه: قيل: خدع الضب.
إذا استتر في جحره، واستعمال ذلك فيه لما اعتقدوا في الضب، أنه يعد عقربا يلدغ من يدخل يده في حجره حتى قالوا العقرب بواب الضب، ولاعتقاد الخديعة فيه قالوا: " أخدع من ضب " وطريق خادع مخالف لما يقتضيه ظاهره، والمخدع كأنك جعلته خادعاً لمن رام تناول ما فيه لأنه بيت في بيت، وقولهم: " خدع الطريق " إذا قل، فتغير متصور منه هذا المعنى.
والاخدعان: تصور منهما الخداع، لاستنادهما تارة، وظهورهما أخرى، وفي الحديث:
" بين يدي الساعة سنون خداعة " أي مغتالة، لتلونها بالجدب تارة، والخصب أخرى.
إن قيل:
فإن قيل: المخادعة من بين اثنين، وقد علم أن ذلك لم يكن من الله تعالى ولا من الرسول - ﷺ -، فكيف قال يخادعون؟ قيل: قد قال أهل اللغة وكثير من المفسرين: أن الخديعة من الله هي مجازاته إياهم بمثل فعلهم، فسمي مجازاة الشيء باسمه، وكذلك قالوا في المكر والهزؤ ونحوهما مما وصف به نفسه، ولا يليق به، وعلى ذلك قول الشاعر:
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ووجه أخر وهو أنه قد تقدم أن مخادعتهم لله - عز وجل - في الحقيقة مخادعة الرسول، ولما كانوا يراؤون ليزيل عنهم حكم المشركين ويجريهم في الأحكام مجرى المؤمنين، ويطلعهم على الأسرار، وهو لا يجريهم في كثير من الأمور مجراهم تصوروا أن ذلك لهم خداع، كما أن الأول منهم له خداع، فأخرج اللفظ على حسب وهمهم وجسبانهم فهمهم، لا على ما عليه حقيقة الأمر.
وقد يطلق الحكم على المعنى عبارة على حسب اعتقاد المخاطب والمخبر عنه لأعلى ما عليه حقيقة الأمر كقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ أي على زعمك، وقول الشاعر:
خذها خذيف فأنت السيد الصمد..
فإن قيل: كيف وصف تعالى نفسه بأنه خادعهم في قوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾؟ قيل هو على ما تقدم، ووجه آخر في هذا اللفظ، وإخوانه مما وصف الله تعالى نفسه به من الصفات التي تنزه تعالى عما يتصور من ظواهر معانيها نحو قوله تعالى: ﴿وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾، وقوله: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا﴾ وقوله: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، وقوله: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ كل ذلك قد قيل فيه قيول، من تصوره متحرياً به الحقى ثلج قلبه، واستقرب ما كان من قبل يستبعده، وهو أن المكر والخديعة، وإنما هو استنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبدي منه خلاف ما تخفيه ويتحراه مستعمله على وجهين: أحدهما: قاصداً به استنزال الغير عن ضلال إلى الرشد وذلك جميل، وهو كما يفعله الأب البار بابنه من تحذير يستجره به إلى ترك شراً أو تعاطي خير، فيقول: " خدعت ابني عما كان يتعاطاه من القبيح "، و " مكرت به حتى قبحته في عينه "، وقد علم أن هذا الفعل وإن أطلق عليه لفظ الخديعة والمكر فهو فعل حسن، فإذا المكر والخديعة وإن كان لفظهما مستبشعاً فقد يقصد به وجه محمود، وبالعكس من ذلك فعل العدالة، فقد يتحراه الإنسان لاستغواء غيره وإضلاله مما يعد فساداً وجوراً وخديعة ومكراً، قد يكون صلاحاً ورشداً وعدلاً، وما يعد صلاحاً وعدلاً ورشداً قد يكون فساداً وجوراً ومكراً، وبهذا النظر قال بعض التابعين: " كل قبيح من العبد فهو حسن من الله تعالى " ويعني بذلك أن الفعل يقبح ويحسن المقاصد، ولهذا قال عليه السلام: " الأعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى "، وقال: " نية المؤمن خير من عمله "، وبهذا النظر قال بعض المحققين وقد سئل عن شيء يقبح إطلاقة
ويقبح من سؤال الشيء عندي...
فتفعله فيحسن منك ذاكا
فهذا ظاهر لمن جلى بصيرته وتأمل حقيقته، ونبه بقوله: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ أن وبال خديعتهم راجع على أنفسهم لا على الله تعالى وعلى المؤمنين، كقولك: " ظلمت فلاناً وما ظلمت إلا نفسك "، وذلك في الحقيقة أعظم خديعة وظلم وجور، فإن الله تعالى لما قيض لهم النعيم الأبدي والخير السرمدي، وسهل لهم السبيل إليه، ثم غفلوا عنه، ومالوا إلى زهرات الدنيا، صاروا في الحقيقة خادعين لأنفسهم ظالمين لها، ولذلك وصفهم في القرآن بطلم أنفسهم في غير موضع وبأنهم خسروا أنفسهم وما يمركون إلا بأنفسهم، ولأنه قيل: " من خدعك وقد عرفت خديعته فقد خدع نفسه "، ومعلوم أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء، فمن خادعه فقد خدع نفسه، وقوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أصل هذا الشعر ومنه الشعار للثوب الذي يلي الجسد، فيقال: أشعرته ثوباً، ثم يقال على التشبيه بذلك أشعرهما، واستشعر سروراً، و " شعرت كذا ": يستعمل على وجهين، تارة يؤخذ من مس الشعر، ويعبر به عن اللمس، وعنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: " فلان لا يشعر " فذلك أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر، لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر، وتارة يقال: " شعرت كذا ": أي أدركت شيئاً دقيقاً من قولهم: شعرته أي أصبت شعره نحو: قادته وراسته، وكأن ذلك إشارة إلى نحو قولهم: " فلان يشق الشعر في كذا " إذا دقق النظر فيه ومنه أخذ الشاعر لإدراكه دقائق المعاني...
قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ الآية: (١٠) - سورة البقرة.
المرض ضربان: جسمي ونفسي، وكلاهما خروج عن الاعتدال الخاص بهما، فالجسمي: معروف، والنفسي: كالجهل والجبن والبخل الوحسد والحرص وسائر الرذايل الخلقية وتسميتها بالمرض إما لكونها مانعة عن إدراك الفضائل، كالمرض الملنع للبدن عن التصرف الكامل، وأما لكونها ذريعة إلى سلب الحياة الحقيقة التي هي في الدنيا لسان صدق، وفي الآخرة بقاء الأبد، كما وصفه تعالى في قوله:
يا مرسل الريح جنوباً وصباً...
إن غضبت قيس فزدها غضباً
أي زدنا إيلاً ليزدادوا غضباً، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا﴾، وقوله: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾، ولا يختلف المعنى في قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ أي جعل مورده مورد خير أو مورد دعاء، فإن الدعاء من الله واجب، وإن كان منا رغبة وطلباً، ويجوز أن يكون ذلك رجعاً إلى حال الآخرة، ومعناه من في قلبه مرض، فإن الله يزيده في الآخرة مرضاً نحو قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ وهذا والأول يرجعان إلى معنى، لأنهم إذا زيدوا في الدنيا عداوة للنبي - ﷺ - ما ازدادوا إلا شكاً في الآخرة استحقاق عذاب، قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ الآية (١١) - سورة البقرة.
الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال، والصلاح على الضد منه، والافساد: إخراجه عن الاعتدال، والفساد عام في الكفر والضلال وكل ما هو ضار، والصلاح عام في الإيمان والرشد وكل نافع، فقوله: ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ عام في كل ذلك، وقول ربيعة وقتادة أن معناه " لاتسالموا الكفار "، ومثله: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾، ومن قال: عنى بذلك كنز الدراهم، فإنه تمثيل بأدنى ما يكون فساداً - تنبيهاً أن ذلك عام، فإنه إذا كان ذلك فساداً، فما فوقه من قتل النفس الزكية بغير حق ونحوه أولى بذلك، والخطاب في الآية للمنافقين، وما روي عن سلمان أ، أهل هذه الآية لم يأتوا بعد، فيجوز أن يكون معنى قوله: " أنه سيكون من بعد حاله من له في ذلك شبيهه بحال المنافقين، فإن الآية متصلة بما قبلها، والضمير فيها ليس إلا لمن تقدم ذكره، وقولهم ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ فيه تنبيه أنهم يتصورون إفسادهم بصورة الإصلاح لما في قلوبهم من المرض، كما قال: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾، وقوله: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وقوله: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ قال الحسن: من ذلك الإفساد: بناؤهم مسجد قباء ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وقوله - عز وجل - ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ " ألا ": تقرير للإثبات لأن " لا " للنفي، والألف
إن قيل: ما الذي يفيد تعريف قوله المفسدون وإدخال لفظه هم عليه؟.
قيل: أما التعريف: فيقتضي كون الكلام جواباً أو كالجواب، وأما إدخال لفظ هم، فيقتضي إثبات الحكم للمذكور ونفيه عمن عداه نحو أن يقال: " زيد منطلق "، فتقول: أنت يا عمرو هو المنطق، ولما كان في قولهم: ﴿نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ تعريض إنكم المفسدون رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ وقد تقدم أن " شعرت " يستعمل على وجهين أحدهما بمعنى: أحسست والثاني: بمعنى فطنت، فقوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ في الآية الأولى نفي الإحساس عنهم، وفي هذه الآية نفي الفطنة عنهم، لأن معرفة الصلاح والفساد تدرك بالفطنة، وفي الآية التي بعدهما نفي العلم عنهم،
فإن قيل: كيف نفي أولاً الحس ثم الفطنة ثم العلم ومعلوم أن ما لا حس له فلا فطنة له ولا علم؟، قيل: إن في نفي هذه الثلاثة على هذا الوجه تنبيهاً لطيفاً ومعنى دقيقاً وذلك أنه يبين في الأول أن في استعمالهم الخديعة نهاية للجمل الدالة على عدم الحس، ثم بين في الثاني أنهم لا يفطنون - تنبيهاً على أن ذلك لازم لهم، لأن من لا حس له لا فطنة له، ومن لا فطنة له لا علم له، ثم بين في الثالث أنهم " لا يعلمون " - تنبيهاً أن ذلك أيضاً لازم لهم، لأن من لا فطنة له فلا علم له فإذا: من الألفاظ الثلاث إشارة إلى قياس ظاهر وإلزام واجب لمن تأملها وتدبرها.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ الآية: (١٣) - سورة البقرة.
قولهم: الناس، بل كل اسم نوع، ف، هـ يستعمل على وجهين، أحدهما: دلالة على المسمى وفصلاً بينه وبين غيره، والثانيك وجود المعنى المختص به وذلك هو الذي يمدح به في نحو:
" إذ الناس ناس والزمان زمان "
ونحو ذلك: " زيد رجل "، و " هذا الفرس فرس "، ومثال ذلك أن كل ما أوجده الله في هذا العالم يصلح لفعل خاص به لا يصلح لذلك العمل سواه، فإن الفرس للعدو الشديد، والبعير لقطع الفلاة البعيدة، والمنجر لنجر الخشب والمنحت لنحته، وعلى ذلك الجوارح كاليد والرجل والعين.
والإنسان أوجد لأن يعلم ويعمل بحسبه، وكل شيء لو يوجد كاملاً لما قد خلق له لا يستحق اسمه مطلقاً، بل قد ينفي عنه نحو قولهم: " فلان ليس بانسان "، أي لا يوجد فيه المعنى الذي خلق من أجله، فإذ ثبت ذلك، فقوله
وأصحابه كلاهما صحيح، لأن الفريقين يجري على ما اقتضاه فعل الإنسانية، وقوله تعالى: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ﴾ استعلام على جهة النفي نحو ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ ومعناه: لا نؤمن إيمان السفهاء تعريضاً بأصحاب النبي - عليه السلام - والسفيه: خفة في البدن وفي المقال يقتضيها نقصان العقل، والحلم رزانة في البدن يقتضيها زيادة العقل، وعنه استعير " زمام سفيه "، و " رمح سفيه "،
إن قيل: كيف عذرهم بأهم لا يعلمون؟ قيل لهم: ليس عذراً لهم، بل تعظيم أمر عليهم وأنهم مع جهلهم يجهلون جهلهم كما قال:
جهلت ولم تعلم بأنك جاهل...
وذاك لعمري من تمام الجهالة
وكل ما ذم به الكفار من أنهم لا يعلمون ولا يبصرون ولا يسمعون فتنبيه أنهم لم يستعملوا هذه الآلات ولم يتفكروا.
وقوله - عز وجل -: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ الآية (١٤) - سورة البقرة.
قال الخليل: كل شيء استقبلته وصادفته فقد لقيته، وأما ألقيته أي طرحته، فأصله جعلته بحيث يلقي أي يصادف، ثم جعل عبارة عن الطرح واللقي المطروح الذي لا يحجزه شيء عن لقاء المارة به.
ولقي من اللقوة كناية بذلك عنها، ثم كثر حتى صار معروفاً بالداء.
و" خلا الإناء " صار خالياً، و " خلا فلان بفلان " صار معه في خلاء والخلي: من خلاه الهم، نحو المطلق في قوله: يطلقه ".
طوراً وطوراً
وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ الآية: (١٥) - سورة البقرة -.
الهزء: إظهار جد يراد به مزح أو ما هو في الظاهر كالمزح يقال: هزأت واستهزأت، نحو أجبت، واستجبت، والصحيح أن الاستهزاء إرتياد الهزؤ وإن كان قد يعبر به عنه، وكذا الاستجابة في الأصل معناها مخالف للإجابة وإن كان قد يجري مجراها، والهزؤ إذا أريد به المزح لا يصح منه تعالى، كما لا يصح منه اللعب واللهو وإطلاقه عليه، إما لأنه يراد به المجازاة، فسماه به إما لمقابلة اللفظ باللفظ إما مع مقابلة اللفظ مراعاة مطابقة ما لكونه مماثلاً له في القدر، فسماه لذلك باسمه نحو قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ ولأنه تعالى لما أمهلهم لتطول المدة التي يمكنهم أن يتوبوا فيها فلم يحصل ذلك منهم سمي إمهاله هزؤاً، ولأنه لما استدرجهم من حيث لا يعلمون صار ذلك كالهزؤ، وإما لأن الهزؤ لما لم يخل
أكثر ما جاء من الإمداد في القرآن فبالخبر، نحو قوله تعالى: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ﴾ وقوله ﴿نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ﴾ وقال: وما كان من المد فبالشر نحو قوله تعالى: ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ وقال ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ﴾ والطغيان في المصادر كالعدوان والكفران، يقال: طغي يطغوا ويطغى، نحو صفا، وحكى: طغيت، والفرق بين عدا، وطغي، وبغي أن العدو أن العدو أن تجاوز المقدار المأمور بالانتهاء إليه والوقوف عنده وعلى ذلك قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ أي من تجاوز معكم المقدار المأمور بالانتهاء إليه، فتجاوزوا معه بقدره، لتكون العدالة محفوظة في المجازاة بالتعدي وأما الطغيان: فتجاوز المكان الذي وقعت فيه، وكأن من أخل بما فطر عليه من المعارف العقلية والمواقف الشرعية فلم يراعها فيما يتحراه ويتعاطاه، فقد طغى، وعلى ذلك قوله: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ أي تجاوز الحد الذي كان عليه من قبل، والبغي: طلب تجاوز
* * *
قوله تعالى ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ الآية (١٦) - سورة البقرة.
المبايعة ضربان: مبايعة سلعة بناض، فيقال لدافع السلعة: بايع، ولدافع الناض مشنري، ومبايعة سلعة بسلعة أو ناض بناض، ويصح أن يقال لكل واحد منهما بائع ومشتري، ولذك بحسب ما يتصور في الثمن والمثمن فأي السلعتين تصورتها بصورة الثمن فأخذه بايع، والآخر مشتري، ولهاذ الشأن صار البائع والمشتري من الأسماء المشتركة المعدودة في باب الأضداد والمشاراة وإن كانت موضوعة لمعاملة في أعيان على وجه مخصوص فقد يتحرز بها في كثير من المعارضات فيقال لمن أفرح عن شيء في يده مخصلاً به غيره قد باعه به، وقد يقال لمن رغب عن شيء طمعاً في غيره.
وقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ الآية - ومعناه: أراد منهم أن يبذلوا مهجهم وأموالهم في سبيله، فيجعل لهم بذلك الجنة، فسمي ذلك شري، وقد تقدم أن الهدي يقال على أربعة أوجة: الأول: لما جعله الله للإنسان بالفطرة، والثاني: لما جعله له بالوحي، والثالث: لما يكتسبه الإنسان بالفكر والنظر والعمل والرابع: زيادة الهدي في الدنيا، وطريق الجنة في الآخرة، فكذلك.
الضلال على أربعة أوجه مقابل للهداية، فالأول: إضاعة الإنسان ما جعله الله له بالفطرة من العقل الغزيزي، وذلك بأن لا يزكيه كما قال تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾.
والثاني: إضاعته لما أنزل الله تعالى على ألسنة الأنبياء.
والثالث: لما يكتسبه الإنسان بالفكر والنظر والعمل.
والرابع: أن يترك ما يستحق به زيادة الهدي في الدنيا والثواب في الآخرة، وقد علم من هذا أن من الضلال ما هو
وكذا قول من قال: من التزم فعلاً من الخيرات ثم أخل به فقد اشترى الضلالة بالهدى، ولما استعمل في ذلك المشاراة قال تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ والربح والخسران ينسبان مرة إلى صاحب السلعة، ومرة إلى السلعة، ومرة إلى الصفقة، إذ لا اشتباه فيه، ونحوه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ ونفي أنهم كانوا مهتدين أي طالبين للهدى تنبيهاً أنهم لو طلبوع لوجدوه.
قوله - عز وجل - ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ الآية: (١٧) - سورة البقرة.
التمثيل: تصوير الخفي بالظاهر، وأصله من مثل إذا انتصب، والتمثال للشيء المصور، وسمي الوصف مثلاً، إذ هو مثال للموصوف يدل عليه كالمثال في دلالته على ما هو مثال له، والمستوقد: طالب الوقود وأخذه، وقد يقال للموقد للمجيب مستجب، والنار حرارة مخصوصة والنور والضياء وأحدهما مشتق من الآخر من حيث إنه قل ما ينفك أحدهما عن الآخر، ولهاذ قال: ﴿نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ فاستعمل فيه الاقتباس الذي هو للنار، ويقال: أضاءت الشيء فضاء وأضاء والأظهر في الآية أن يكون متعدياً لإدخال حرف التأنيث فيه والآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضرباً من الهداية والمعارف النفسية أو البدنية أو الخارجة، فأضاعه ولم يتوصل به إلى النعيم الأبد فإذا قول من قال ذلك هو فيمن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة، وقول من قال: هو في الذين آمنوا ثم كفروا، وقول من قال: هو فيمن أظهر الإيمان نفاقاً منه وحقناً لدمه، كل ذلك داخل في عمومه، وكذا قول من قال إنه يعني من لم تصح له أحوال الإرادة، فارتقى منها بالدعوى إلى أحوال المحبة، فأذهب الله عنه ما جعل له من النور عبد الإرادة، فبقي متحيراً في حال الدعوى، وقد نبه تعالى بتشبيههم بمستوقد نار أضيع نورها على حيرتهم أو نكسهم فيما أضاءه من الهدى، وقوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ الأظهر أن يكون ذلك راجعاً إلى المشبه الذي هو في قوله: " مثلهم " دون المشبه به الذي هو
فإت الذي خانت بفلج دماءهم هم القوم، هم فقال: استوقد رداً إلى لفظ الذي ثم قال بنورهم رداً إلى معنى الجمع، وإنما قال على هذا " بنورهم " ولم يقل " بنارهم "، لأن المراد من النار ههنا النور الذي يضئ لهم الطريق فتركه إياهم في ظلمات إنما هو لتركهم إياه في قبول التوفيق منه، فلما تركوه تركهم كما قال تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾، وإنما قال: في " ظلمات " لأنه عنى ظلمة ضلال لهم، وظلمة همومهم في الدنيا، وظلمة يوم القيامة التي تنزه عنها الموصوفون بقوله تعالى ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾، وقوله - عز وجل - ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ والصم صلابة من اكتناز الأجزاء، ومنه قيل: حجر أصم، وصخرة صماء، أو قناة صماء، وقيل لرأس القارورة " الصمام " والبكم: اعتقال اللسان وأصله فيمن يولد أخرس والعمي يقال في عدم البصيرة والبصر، جميعاً، فمن ترك الإصغاء إلى الحكمة وأعرض عن طريق الآخرة واشتغل عن تعرف حالها ولم ينعم تدبرها صح أن يستعمل هذه الألفاظ فيه، فيقال: هو أصم عن سماعه، وأبكم عن تعرفه، وأعمى عن إدراكه، ومالآية مبنية على الآية الأولى، ومفسرة بحسب تفسيرها، وقوله ﴿لَا يَرْجِعُونَ﴾ أي لا يعودون إلى طريقة الرشد، وقيل معناه: " لا يرجعون جواباً " أي لا يردونه.
* * *
قوله تعالى ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
الآيتان (١٩، ٢٠) - سورة البقرة.
الصيب: فيعل من " صاب " يصوب، وذلك يقال للسحاب والمطر وإن كان الصيب في السحاب أكثر، والصوب يقال في المطر، وكأن المطر تسمي صوباً لمجيئه على الصواب إما اعتباراً بالوقت المحتاج إليه فيه، وإما بالقدر المعتدل على حسب قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾ وعلى طريقه نظر من وصف المطلر بقوله..
صوب الربيع وديمة تهمى
وأصاب السهم إذا توجه نحو الرمية على الصواب، وقد شبه العقل والقرآن بل العلوم كلها بالمطر والماء من حيث أنه سبب الحياة الأبدية، كما أن الماء سبب الحياة الدنيوية والسماء في هذا الموضوع يجوز أن يكون السحاب وأن يكون المطر، من فيه للتبغيض، وقوله " فيه ظلمات " يقتضي معنى اللصطحاب، فلا فرق بين أن يقال: صيب فيه ظلمة ورعد - وأما الكلام في مائية الرعد والبرق فليس يليق بهذا الموضع، والصاعقة يستعمل في كل هائل عظيم من مرئي ومسموع، وإنما قال: " أو كصيب "، لأنه من حيث أنه يدل على أحد الشيئين، ويستعمل في الإباحة والتخيير، وفيه تنبيه على أنه إن شبه بأحدهما فصواب، وإن شبه بهما فصواب، وهذا المعنى في لفظه أو دون الواو، فإن قيل كيف وجه العطف في ذلك وقد قال في الأول ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ ولا يليق أن يقال بعده.
" أو كصيب "؟ قيل: قد أجيب عن ذلك بانه أريد أو كاهل صيب من السماء، وقيل: إن ذلك عطف على المعنى وذاك أن التشبيه تارة يؤتي به مطابقاً للمشبه في اللفظ، وتارة يؤتي به على ما يقتضيه المعنى دون اللفظ وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ ومعناه كحرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح، فروعي فيه المعنى دون اللفظ، وعلى ذلك قول الشاعر:
فلابنة حطان بن عوف منازل...
كما رقش العنوان في الرق كاتب
وتقديره: كعنوان رقشه الكاتب، وهذا النوع من التشبيه يقال له: التشبيه الملقف، والآية تأولت على وجهين: أحدهما أنه شبه حال المتحرين الذين اشتروا الضلالة بالهدى بمن حصل في ليلة مطيرة ومظلمة راعدة بارقة يخاف من أهوالها وصاعقتها ويسد أذنه خوفاً من أن يصعق ويكون هذا في شغل الكلام بالمشبه به ووصفه بما يعظم من غير أن يكون في تفاصيل صفة المشبه به ما يرجع إلى المشبه طريقة العرب على ذلك قول لبيد.
أفتلك أم وحشية مسبوعة...
خذلت وهادية الصوار قوامها
والثاني: أنه شبه ما أتى الله الإنسان من المعاون التي هي سبب الحياة الأبدية بالصيب الذي فيه خياة كل ذي حياة، وما فيه من المشاق المبهمة والعوارض المشكلة بظلمات، وجمع الظلمات تنبيهاً على كثرة العوارض، وشبه ما فيه من الوعيد بالرعد، وما فيه من الآيات الباهرة بالبرق، ثم ذكر كل واحد من هذه الأشياء فقال: إذا سمعوا وعيداً تصاموا عنه كحال من تهوله الرعد فيخاف من صواعقه، فيسد أذنه عنها مع أنه لا خلاص لهم منها وهذا معنى قوله: " الله محيط بالكافرين "، ثم ذكر أنه إذا رأوا لامعاً لهم إما راشد تدركه بصائرهم وإما رفداً ينفعهم اهتزوا له، فمضوا بنوره وذلك قوله " كلما أضاء لهم مشوا فيه "، ثم بين أنه إن اعترض لهم شبهة أو عن لهم مصيبة تحيروا، فوقفوا، وذلك معنى قوله ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ وقوله ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ تنبيهاً على أنهم يصرفون أسماعهم وأبصارهم عما فيه نجاتهم وتأمل ما فيه صلاحهم وإنما جعل الله لهم السمع والأبصار لينفعهم ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي أنفسهم عليها يسدهما وتعطيلهما، وذلك تنبيه على أنه إنما أعطاهم هذه الآلات لينتفعوا بها.
قوله - عز وجل - ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الآية (٢١) - سورة البقرة.
قد تقدم أن " الناس " يستعمل على وجهين أحدهما المشار به إلى الصورة المخصوصة، وذلك عام في الصغير والكبير، والعاقل وغير العاقل، والثاني المشار به إلى المختص بقوى العلم والعمل المحكم وهو المستعمل على طريق المدح، ولذلك يقال: فلان أكثر إنسانية من فلان، لاختصاص هذا المعنى بقبول الزيادة والنقصان، وهذا المعنى هو المراد في هذا الموضع، والعبادة نهاية التذلل في الخدمة وبذل الطاعة وذلك في مقابلة أعظم النعم، ولا يستحقها غير الله تعالى، فهو الذي له أعظم النهم، و " العبادة " تقال في ثلاثة أشياء: اعتقاد الحق، وتحري الصدق، وعمل الخير، وعبادة الله قد يكون في فعل المباحات كما يكون في أداء الواجبات وذلك إذا قصد بالفعل وجه الله وتحرى به مرضاته.
وقد قال بعض الحكماء: " مباحات أولياء الله كلها واجبات " وواجباتهم نوافل " فقيل كيف يكون ذلك؟ قال: لأنهم لا يقومون على تناول مباح لهم كالأكل والشرب حتى يضطروا إليه، فيصير تناولها متحتماً ويلتزمون من الفرائض فوق ما يلزمهم حتى يصير فرضهم متنفلاً، وبهذا النظر قيل
ألا ترى أن كثيراً من المحظورات يصير مباحاً عند الضرورات بل ربما يصير عليه من الواجبات.
إن قيل: ما الفرق بين قوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وبين قوله ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ قيل في قوله ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ إيجاب العبادة بواسطة رؤية نعمه التي بها تربيتهم وقوامهم، وفي قوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إيجاب عبادته بمراعاته عز وجل من غير واسطة وعلى ذلك قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ وقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ فحيث ذكر الناس ذكر معه الرب، وحيث ذكر الإيمان ذكر الله - لما تقدم وأما الخلق فتقدير الأعراض الجسمانية وإيجادها، وقد يقال مفيداً للتقدير من غير إيجاد نحو قوله الشاعر:
وأراك تفري ما خلقت....
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
واستعمل الخلق في الأجسام والخلق في القوى والأفعال، وجعل " خلقت " للتكوين، وأخلقت للإفساد، نحو فريت، وأفريت، وذلك نحو " أخلقت الثوب " فخلق وأخلق، ولما كان الشيء الحلق كثيراً ما يلين قبل حجر أخلق و " الصخرة خلقاء " أي " ملساء "، ومن أجل أن " الخلق لا يستعمل إلا في إيجاد الأجسام وأعراضها امتنع قوم من إطلاق الخلق على القرآن، فراعوا فيه هذا الوجه دون الوجه الآخر، قالوا: ولا يكاد يقال في وصف الكلام مخلوق ومختلق إلا إذا أريد به المنقول المفتعل.
وعلى هذا قال تعالى حكاية عن الكفار في وصفه ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾ ولا يكاد يستعمل الخالق مطلقاً إلا في وصف الله تعالى.
وقيل في الجملة: يستعمل في المتقدم لكن ذلك على أربعة أوجه تقدم بالزمان نحو آدم قبل نوح عليهما السلام، وتقدم بالذات وهو في كل شيئين متى توهمت ارتفاع أحدهما ارتفع معه الآخر، وإذا توهمت ارتفاع الآخر لم يرتفع معه الأول، كالحياة مع العلم، وتقدم بالشرف، نحو تقدم الأمير للحاجب، وبهذا النظر استعمل العتيق في الشريف وإن كان موضوعه لما تقدم زمانه، نحو
وتقدم بالرتبة الوضيعة نحو قولنا: الواحد قبل الاثنين، وقوله: " الذين " ها هنا يتناول نوع العقلاء وغيرهم من جميع الأشياء.
وفي ذلك تنبيه أن الله تعالى خالقنا وخالق كل ما تقدمنا، وكل ما هو سبب في وجودنا وحصولنا من الآباء والأمكنة والأزمنة والسماء والأرض وسائر ما لو توهمناه مرتفعاً لم يحصل، وأخرج الكلام مخرج المقرر عند المخاطبين أنه تعالى خالق الكل ومبدع الجميع، فعلم ذلك عندهم إما موجود وإما ممكن وجوده، ولهذا قال ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ولعل ذكر بعضهم أن معنى ما في غاية القرآن، قال: لأن " لعل " للشك، والشك لا يصح على الله تعالى، فكما لا يصح أن يقول أرجو، وأشك وأظن، فكذلك لا يصح منه أن يقول " لعل " و " عسى " بمعنى ذلك فثبت أن معناه إذا أورده معنى ما وهذا تصور بعيد، وذاك أن القائل إذا قال: " إفعل كذا لعلك تفلح يصح أن يكون " لعلك " حال للمخاطب بمعنى أنا طامع راج لفلاحك ويصح أن يكون للمخاطب بمعنى " وأنت طامع في فلاحك "، ولما دلت الدلالة أن الطمع إنما يكون لمن يخفى عليه العواقب، علم أنه لا يصح أن يكون لله تعالى إذا ورد في كلامه، فصار ذلك حال للمخاطب كأنه قال: " اعبدوا ربكم راجين تقاكم "، وإخراج الكلام على ذلك لأن من شرط المكلف أن يكون واقفا بين الرجاء والخوف ولذلك قال في مدح المؤمنين ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ وقال: ﴿يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ وكذلك التقوى فقد تقدم أن لها ثلاث منازل: الأولى: ترك الكفر، والثانية: ترك المحارم التي تحظرها الشريعة.
والثالث: حفظ الخواطر والنيات، والآخران اللذان رجانا هما الله تعالى ها هنا دون الأولى، إذ لا يصح فعل العبادة مع وجود الكفر، وحقيقة التقوى جعل النفس في وقاية من كل ما يبعد عن الله تعالى ولهذا قال بعض المحققين التقوى أن يتجنب الإنسان بغاية جهده الأخلاق الحيوانية، ويتخصص بالأخلاق الملكية، فلا يكون متكبراً كالنمر، ولا معيناً كالكلب، ولا حقوداً كالجمل، ولا غمراً كالثور، ولا جاهلاً كالحمار - وقد نبه بالآية أن العبادة لله تعالى هي المبلغة بنا إلى نهاية التقوى التي يستحق بها حوار الله تعالى، نحو قوله عز وجل: ﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وقوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
قوله - عز وجل -: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ الآية (٢٢) - سورة البقرة.
جعل: لفظ عام في الافعال كلها، ويتصرف على ثلاثة أوجه: تارة تجري مجرى صار، و " طفق "
وقد جعلت قلوص بني سهيل....
من الأكوار مرتعها قريب
وتارة تجري مجرى " أوجد، فيتعدى إلى مفعول واحد، نحو قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ وتارة تجري نجرى صير وكون فيتعدى إلى مفعولين نحو قوله تعالى ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ وتقول جعلته خارجاً إذا جملته على الخروج وإذا أخبرت عنه بالخروج أو حكمت له سواء كان خارجاً أو لم يكن والفراش والبساط متقاربان وهو كل ما فرش من ثوب أو غيره والبناء لكل مرتفع وحائط وغيره والقصد بالآية إلى ما جعله الله تعالى لنا من الآية الواصلة إلينا من السماء والأرض وما بينهما ودل على ذلك بأظهر الآلاء وأقربها من الحواس وقد بسط ذلك المعنى بأبلغ من هذا في قوله ﴿خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وهذا المعنى على مقتضى ظاهر اللفظ.
وقد قال بعض المفسرين إن الله تعالى مع إرادته لهذا المعنى جعل ذلك مثلاً فذلك أنه جعل الأرض فراشاً أي مركباً من قوله: " افترشت البعير " إذا ركبته، (والسماء بناء) أي الجنة مقراً أو منزلاً، وجعل ما يصل إلينا من الوحي والعلم ماء، وما يثمره من الأعمال الصالحة التي هي سبب الحياة الأبدية ثمرات، وهذا إذا جعل مثلاً فليس ببعيد، إذ قد علم أن السماء تجعل مثلاً لكل منزلة رفيعة كقول الشاعر:
نالوا السماء فأمسكوا بعنانها...
حتى إذا كانوا هناك استمسكوا
ولا منزلة أرفع من الجنة، ثم لما كانت الجنة في السماء على ما روي في الخبر صح أن يعبر به عنها وقد جعل الأرض مركباً لنا لما روى في الخبر: " اجعلوا الدنيا مطية تبلغكم إلى الآخرة، واجعلوا الآخرة دار مقركم ومحط رحالكم، وجعل المساء مثلاً للعلم والحكمة حتى قيل في قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أنه عنى بالماء القرآن بدلالة أنه علقه بالسماع، وليس الماء مما يسمع، وفي قوله - عز وجل - ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ أنه عنى به القرآن، فذلك روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، ويروى أن رجلاً قال لابن سيرين:
، وجعل بعضهم ذلك مثلاً على وجه آخر، فقال: الأرض مثل للأبدان، والسماء مثل للعقل، والماء مثل لما أفاض الله به علينا من العلوم المكتسبة التي تحصل بواسطة العقل.
والثمرات التي جعلها الله رزقاً لنا مثل لما يحصل من الأفعال التي تقتضيها العلوم والله أعلم.
وهذا يكون أبلغ في المعنى، لأنه يحصل مع المعنى المحسوس معنى معقول.
والله أعلم.
قوله - عز وجل -: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الآية: (٢٢) - سورة البقرة.
الند والشبه والمساوي والشكل والمثل متقاربة المعنى، لكن بيناه فروق - فند الشيء هو المشارك له في الجوهر وإن خالفه في الكمية والكيفية وشبهه مماثله في الكيفية، وإن خالفه في غيرها ومساويه مماثله في الكمية كلها وإن خالفه في غيرها، وشكله مماثله في القدر والمساحة ويدل على هذا الفرقان إنه إذا قيل ما هذا؟ فيقال: ند كذا، أو يقال كم هذا؟ فيقال مساو لكذا، أو يقال: كيف هذا؟ فيقال: شبه كذا قنع المخاطب متى عرف المشبه به، ولو قال كم هذا؟ فيقال: شبه هذا أو قال كيف هذا؟ فيقال مساو لهذا لم يقنع به، والمثل عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله تعالى نفي الشبيه من كل وجه خصه بالذكر، فقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وقال أبو عبيد: الند " هو الضد، وهذا نظر منه إلى بعض الأنداد،
إن قيل: ما وجه قوله: " وأنتم تعلمون "؟ فإن ذلك إن جعلته خبراً مستأنفاً، فلابد له من ذكر معلم يقترن به حتى يحصل به تمام الخبر، إن جعلته حالاً يصير تقديره: " لا تجعلوا له أنداداً في حال علمكم "، وذلك غير صحيح، لأن جعل الأنداد محظور في كل حال، قيل إن ذلك حال للمنتهي، وليس الاتيان به شرطاً لقصر الحكم على هذه الحال، وإنما هو تنبيه على قبح فعلهم، لأن مرتكب القبيح مع علمه بقبحه أعظم جرماً، وإذا قيل: " لا تكفر معانداً " فذلك نهي عن الكفر وعن العناد، فكذلك هذا، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ ثم قوله: (وأنتم تعلمون) عام فيمن حصل له العلم بذلك، وفيمن له التمكن مع العلم به، فقد
قوله - عز وجل - ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ الآية (٢٣) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في الريب، وأما الفرق بين الشك والمرية، والريب والأرابة، والتخمين والحدس، والوهم والخيال، والحسبان والظن، فإنه يذكرها هنا إذا كانت معرفته نافعة، فنقول: وبالله التوفيق: إن الشك هو وقوف النفس بين الشيئين المتقابلين بحيث لا يترجع أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية هي التردد في المتقابلين، وطلب الإمارة مأخوذ من بري الضرع، أي منحه للدر، فكأنه يحصل مع الشك تردد في طلب ما يقتضي عليه الظن.
والريب أن تتوهم في الشيء أمراً ما، ثم ينكشف عما توهمت فيه، والأرابة أن تتوهمه، فينكشف بخلاف ما توهمت، ولهذا قيل: " القرآن فيه أرابة وليس فيه ريب "، والتخمين توهم لا عن إمارة.
والحدس إسراع الحكم بما لا يأتي به الهاجس من غير توقف فيه مأخوذ من حدس في سيره، أي أسرع والوهم صورة تتصورها في نفسك سواء كان لها وجود من خارج كصورة إنسان ما، أم لم يكن له وجود كعنقاء مغرب، وغزائل، والخيال تصور ما أدركه الحاسة في النفس.
والحسبان: اعتقاد عن أمارة اعتددت به، سواء كان له وجود في الحقيقة، أو ولم يكن وهو مشتق من حسبت الحساب، والظن: أعم معنى من ذلك كله فإنه اعتقاد عن أمارة ما مما قد ثبت، فمتى كانت تلك الأمارة ضعيفة جرى مجرى " خلت
قال أهل اللغة: " ظننت " قد يكون بمعنى: " خلت " وبمعنى: " تيقنت "، ومتى كانت الأمارة قوية، ولحق بباب العلم استعمل معه " أن " الثقيلة والخفيفة منه نحو: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ وقوله: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى﴾ ومتى كانت ضعيفة، استعمل معه " أن " المختصة بالمعدومين من الفعل، نحو قوله: ﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ وقد تقدم الكلام في الإنزال والتنزيل وفي معنى العبد.
وأما تخصيص إضافة العبد إلى الله في كثير من المواضع، فتنبيه على مدحه في كونه مطيعاً له متصرفاً عن أمره، وأنه غير متعرج على غيره، ولا مؤتمر لسواه كمن سماهم " عبدة الطاغوت "، و " عبد الدرهم والدينار " وتنبيه أنهم ممن وصفهم الله بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ وتنبيه أنه يجري مجرى الملك الموصوف في قوله ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ ثم إضافته بنون الملكية مبالغة في الاختصاص، وكل إضافة إليه تعالى على هذه الوجه، فالمبالغة والسورة المنزلة في نحو:
ألم تر أن الله أعطاك سورة
ويقال للمحيط بالمدينة " سور " لحياطته بجملتها، وتسمية القطعة من القرآن بذلك لكونه كالمحاط بها إحاطة السور بالمدينة، أو لكونها منزلة ما من القرآن كما تقدم، ومن قال سؤرة بالهمز، فمن: أسارت أي: أبقيت قطعة، فكان ذلك قطعة مفرزة من جملته، وقوله:
قوله - عز وجل -: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
الآية: (٢٣) - سورة البقرة.
الشهادة: تبين الشيء الحاضر، فقولهم: " شهد زيد " في المعنى من قولهم: " حضر " وإن كان قد يفسر به، ولما كان تبين الشيء على ضربين: تبين بالبصر، وتنبين بالبصيرة، والحضور على ضربين: حضور بالذات، وحضور بالتصور، صارت الشهادة تستعمل على أوجه بحسب ذلك، فيقال ذلك لحصول قربة ومنزلة، ومنه قليل: استشهد فلان "، " وهو شهيد "، كأنه حضر وتبين ما كان يرجوه، واستعمال ذلك فيه كاستعمال القريب نحو قوله: ﴿الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ولهذه العنى قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾، وقال في الشهداء: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، وقالوا: " أنا شاهد لهذا الأمر "، أي عارف به متصور له - إشارة إلي قولهم " لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي ".
وقالوا: " شاهده " أي: ناصره، وعلى نحوه قال [تعالى]: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ وقالوا: " صحبك الله، وأما الشهادة المتعارفة: فأصلها الحضور بالقلب والتبين، ثم يقال ذلك إذا عبر عنه باللسان، ولذلك متى أطلق لفظ الشهادة على ما يظهر من اللسان دون حصوله في القلب عد كذباً، كقوله تعالى في المنافقين حيث قالوا: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾، فكذبهم وقال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ ثم يقال لكل ما يدل على شيء شهادة وإن لم يكن قولاً فقوله: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ قد فسر على ما يقتضيه لفظ
مخلفون، ويقضي الناس أمرهم...
وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا
وأما الصدق: فإنه يُحد بأنه مطابقة الخبر المخبر عنه، لكن حقيقته وتمامه أن يتطابق في ذلك أشياء، وجود المخبر عنه على ما أخبر عنه، واعتقاد المخبر فيه ذلك عن والاعتقاد وبخلافه، صح أن يوصف بالكذب...
ألا ترى أن الله تعالى كذب المنافقين في إخبارهم " إنك لرسول الله " لما كان اعتقادهم غير مطابق لقولهم؟ وإذا قال لك من أعتقد كون زيد في الدار، ولم يكن فيها صح أن يقال كذب، وإن كان قوله مطابقاً لاعتقاده، ولما كان اللسان ترجمان القلب، صح أن يقال: " صح في اعتقاده أو كذب "، وقد يتجوز أيضاً بذلك في جميع الأفعال، فيقال لكل فعل جميل على ما يجب صدق، ولما كان بخلافه [قيل] كذب، ويقال أيضاً لكل شيء يعتقد فيه اعتقاداً ما فوجد مطابقاً لذلك صدق، وإن وجد بخلافه كذب، ووجه الآية أن الله تعالى تحداهم بأن قال: " ادعوا أعوانكم وأنصاركم " وأستعينوا بكل ناصر لكم غير الله الذي هو مفزع الكل، وانظروا هل فب طوقكم الإتيان بمثله - تنبيهاً على أن ذلك لو أتى به محمد من قبله لقدرتم أنتم مع تظاهركم على الإتيان بمثله، ويحوز أن يكون قوله: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ذماً لهم أي: ادعوا أعوانكم التي من عادتكم الاستعانة بهم الذين هو غير
قوله - عز وجل -: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾.
الآية: (٢٤) - سورة البقرة.
لفظ الفعل أعم من معنى سائر أخواته، نحو: العمل، والصنع، والإبداع، والإحداث، والخلق والكسب وذاك أن الإبداع أكثر ما يقال في إيجاد عين عن عدم، وليس حقيقة ذلك إلا الله تعالى، والأحداث يقال في إيجاد الأعيان والأعراض معاً، والعمل لا يقال إلا ما كان عن فكر وروية، ولهذا قرن بالعلم، فقيل: علم وعمل، حتى قال بعض الأدباء: " قلب لفظ " العمل عن لفظ " العلم " تنبيهاً أنه من مقتضاه، والصنع يقال لإيجاد الصورة في المواد كالصياغة والبناء فإن الصائغ يوجد صورة الخاتم والخلخال في الذهب والفضة، والبناء يوجد صورة البناء في الطين، والكسب أكثر ما يقال في اجتلاب المنافع، وقد يقال أيضاً في اجتلاب المضار مقيداً، والخلق قد تقدم القول فيه، وقد أمر الله بالتقوى على ثلاثة أوجه، وخص بكل وجه عصابة من الناس وذلك بحسب اختلاف مراتبهم من العلم ومكانهم من الإيمان، فالأول: حث الإنسان على اتقاء عقوبة الله برؤية ذنوبه، وذلك في قوله: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ والثاني: حث على
وجعلها على ثلاثة مراتب حسب ما سنه تعالى في سياسة الأصناف الثلاثة من الناس الخاصة والعامة، وبهذا الاعتبار قسمهم تعالى ثلاثة أقسام في قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ وأشرف هذه المنازل " تقوى الله " تعالى من غير رؤية الوسايط بلا مخالفة ولا رجاء، ولذلك عظم ثوابه بقوله: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ وهم الاتقون المعنيون بقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ والمعبر عنهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ والوقود: الحطب الذي يوقد به، ولذلك فسر بأنه دقاق الحطب، لأنه الدقاق الذي يوقد به، ولما كانت نار الدنيا محتاجة إلى دقاق توقد به، ونار جهنم مستغنية عن ذلك، بل يكتفي في إيقادها بالناس وبالحجارة التي ليست من عادة النيران المشاهدة أن يتقدبها عظم أمرها ومن قال: أراد بذلك حجارة " الكبريت " فإنما عنى أن الحجارة لتلك النار كحجارة الكبريت لنار الدنيا، وقوله: أعدت أصله في العدد وهو الإحصاء، لكن العد يتجوز به على أوجه فيقال: شيء معدود ومحصور للقليل مقابلة بما لا يحصى كثرة، ويقال على الضد من ذلك، وجيش عديد، وإنهم لذو عدد، أي: كثيرة، وذلك مقابلة بما لا يحتاج إلى حصره وتعداده لقلته، ولهذا قيل: أعددت هذا لكذا، أي جعلته معادا للمعد له، يتناول منه بحسب حاجته إليه وقد ألزمهم الله تعالى بهذه الآية الحجة بأنكم إن أتيتم بمثله، فقد أدخصتم حجته،
وفصل بين الشرط والجزاء بحكم جزم أن لا تأتوا بمثله، وذلك زيادة في إعجازه لوجود مخبره على ما أخبر به وذلك مثل قوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ الآية، فإن قيل كيف خص الكافرين بالنار دون الفاسقين؟ قيل: يجوز أن يكون أراد أن هذا الضرب من النار يختص به الكفار، وهي المخصوصة أيضاً بقوله: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ ثم إذا قيل: " أعد هذا لزيد " لا يقتضي أن لا يكون معداً لغيره، بل قد يكتفي بأعظم الشيئين عن الآخر نحو قوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ لم يذكر معه البرد، فيكون النار على هذا الوجه للجنس، وعلى الأول للنوع..
الآية: (٢٥) - سورة البقرة.
أصل بشرته تلقيته مني ببشرة ووجه طلق، وذاك أن من شأن من أتى بخبر سار أن يكون طلق الوجه، ومن أتى بخبر بخلافه يكون عابس الوجه وقيل معنى بشرته: أطلقت بشرته بما أخبرته فإن من ناله سرور، طار دمه منتشراً في صفحة وجهه، ومن ناله سوء يقيض دمه فاصفر أو اسود وقيل: بشرتهك أظهرت له خبراً دلت بشرته على المسرة به، أي ظاهره فاستعير لظاهر الخبر البشرة وذلك لكثرة ما يدل وجه الشيء على باطنه
فإن قيل: فإن كانت البشارة للأخبار السارة، فما وجه قوله تعالى:
﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؟ قيل إن مثل ذلك قد يستعمل على سبيل التهكم نحو:
" تحية بينهم ضرب وجيع "
تنبيهاً أن السار لهم الإخبار بالعذاب الآليم، فما الظن بما وراءه؟ والإيمان لما كان في الأصل للتحقيق والتصديق، قيل: ما ذكره الله تعالى إلا قرن به الأعمال الصالحة، تنبيهاً أن الاعتقاد لا يغني من دون العمل، فالعلم أس والعمل بناء، ولا غناء للأس ما لم يكن بناء كما لا بناء ما لم يكن له أس ولذلك قيل: " لولا العمل لم يطلب علم "، ولولا العلم لم يكن عمل، فإذا حقهما أن يتلازما والجن: أصله المستر عن حس البصر وسمى الجن لاستتاره عنه، ثم اشتق من الجن، فقيل جن فلان، وبنى على فعل نبأ " عامة الأدواء نحو:
إن قيل: لم قال: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) وقد علم أن الماء في البساتين إذا كان جارياً على وجع الأرض أحسن منها إذا كان جارياً تحتها؟ قيل: عنى أنهاراً جارية تحت الأشجار، لا تحت الأرض، وقد روي عن مسروق ما يدل على ذلك، وهو أن كل أنهار الجنة تجري في غير أخاديد،
إن قيل: كيف قالوا:
﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ وما كان من قبل قد فنى وعدم؟ قيل: لفظة " هذا " وأخواته يشار بها إلى العين الموجودة طوراً، وإلى النوع والجنس طوراً.
والنوع من حيث ما هو نوع ليس يفنى، وإنما الذي يفنى هو الجزئيات وعلى ذلك تقول في الإشارة إلى نهر جار: " هذا الماء
وابن جرير رجح هذا الوجه، وقال: إن قوله: (كلما) عام يقتضي أنهم قالوا ذلك في كل مرة من غير تخصيص، ومتى جعل ذلك الأولى، اقتضى أن يكون مخصوصاً خلاف ما يقتضيه عموم الآية، وقال بعض المفسرين قول ابن عباس -[رضي الله عنهما]- في قوله: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أي: في الدنيا، يعني ثواب ما رزقنا من المعارف كقوله: ﴿ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، قال: ويدل على صحة هذا أن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: " ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء "، والمتشابه: المتماثل في الكيفية، ولهذا يقال فيكا لا يتميز أحدهما عن الآخر متشابه، وكذلك للواقع من الكلام بين معنيين فصاعداً ومتشابه والشبهة في الشيء ما يقع فيه من مشابهة الغير، فقوله: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾، قيل: هو تفسير لقوله: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أي يشبهه اسماً ولوناً لا طعماً وحقيقة وقيل: عنى به متماثلاً في الكمال وأن لا تقارب، فيه كأطعمة الدنيا، وقال بعض المفسرين: إن الآية مثل لا على الحقيقة، وقد نبه على كونه مثلاً بقوله بعده: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ والأنهار مثل لمجاري الخيرات، كقولك: ينابيع الحكم، وأنهار الفعل والرزق لم يعن به ما يؤكل فقط، وإنما هو كقولك: " رزقت فهماً وعلماً " والثمرة: اسم
وهذا القول وإن كان لمجازه مساغ في اللغة، فهو ترك لما روي عن السلف في تفسير الآية، وقد طعن في هذه الآية وأمثالها من الآيات قوم من المتفلسفين والطبيعيين، وقالوا: " إن الجنة لا يصح فيها الأكل والشرب، فإن الأكل لا يطيب إلا عن جوع، والجوع مرض وأذى، والأكل مداواة له، ولا مرض ولا أذى بوجه في الجنة، ثم إن الطعام يصير بعضه ثقلاً بعد طبخ المعدة إياه فيخرج من البدن، وبعضه يصير غذاء يزيد في البدن بقدر ما يتحلل منه، وإلا خرج به البدن عن الاعتدال.
وكل ذلك لا يصح إلا في دار الكون.
والفساد دون دار الخلد والبقاء ".
وهذا كلام من نظر إلى الأجساد في الآخرة نظره إليها في هذه الدنيا، وهي مركبة تركيباً معرضاً للاستحالات، ولم يعلم أن الله تعالى [قادر على أن] يعيدها إعادة لا تعتورها الاستحالات، ويجعل لها أطعمة يتلذذ بها، فلا يكون لها ثقل ولا تغير منكر، وقد دل على ذلك تعريضاً وتصريحاً، أما إعادتها على وجه معرى من الاستحالات، فقوله تعالى: ﴿وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وبقوله عليه السلام في أهل الجنة: (جرد مرد مكحول)، وأم إن أطعمتها لا يستحيل فبقوله عليه السلام: (إن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون إنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك).
الزوج: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوان المتزواجة، ومن القرينين في غيرهما، كزوج الخف والنعل، ولكل ما معه آخر مقارن له - مماثلاً كان أو مضاداً، مركباً معه أو مفرداً، فقوله تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ أي.
أشكالهم وموافقيهم في الدين، ولم يرج الرجل وحليلته، فقد تكون تحت المؤمن الكافرة وتحت الكافر المؤمنة، وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ أي اثنين، إما من حيث الأعداد، أو من حيث التركيب - تنبيهاً أنه تعالى هو الفرد من كل وجه، وما سواه زوج من وجه ما، والزوجية: أي أنثوية يقتضي كونها محدثة، والتطهير يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال جميعاً، وقيل في قوله: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾.
أي نفسك نقها من الأوساخ، وذلك مخاطبة لككافة وإن كان لفظه للنبي - عليه السلام - وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، ومعلوم أنه تعالى لم يرد تطهيراً عن نجاسة في ثوب وبدن، وإنما أراد تطهير النفس الذي يستحق به المدح والخلود والبقاء الدائم وأصله لما يطول مكثه، ومنه قيل للأثافي والأحجار " خوالدٌ "، والخُلْدُ: اسم للجزء يبقى من الإنسان على حالته مادام حياً...
الآية (٢٦) سورة البقرة.
الحياءُ: عارض للفرع من النقيصة، وذلك بين الوقاحة والخجل، فإن الوقاحة هي الجرأة على الإعال القبيحة من غير مبالاة، والخجل انحصار النفس عن الفعل، والحياء مأخوذة من لفظ (الحياة) التر يراد بها العلم والعقل، ووجه ذلك أن الحياء أسُّ العقل، إذ هو أول أمارة منه تظهر من الصبي، ولهذا قال عليه السلام: " من لا حياء له لا إيمان له "، لأن الحياء أول منزلة من العقل، والإيمان آخر منزلة له، ومحال أن يحصل آخر المنزلة لمن لم يحصل له الأولى، وأما الحياء الذي هو الفرح، فسمي بذلك لكونه مستحباً من ظهورة، ومن أجل ذلك قيل: " شورتُ لفلان " أي خَجَّلتُهُ خجل من يظهر شوارهُ أي فرحُةُ والضربُ أصله وقع شيء على شيء ثم تجوز به على أنظار مختلفة، ولما قيل: " ضربتُ الدرهم "، و " درهمٌ ضربٌ " أي مصوغ، استعير منه: " ضربت المثل " والكلام في المثل، والمثل قد تقدم، وما في قوله: " مثلاً ما " للمبالغة في التنكير، فإن " ما " في الخبر إما أن تكون معرفة، فتكون موصلة، أو نكرة، وذلك على ثلاثة أوجة: إما موصوفة نحو قوله:
رُب ما تجزعُ النُّفوسُ منَ الأمـ....
ـرِ فُرْجةٌ كحلٌ العقال
أو مبتدأ بلا صفة وذلك في قولهم: " ما أحسن زيداً " على مذهب " سيبويه "، وإما تابعاً
إن قيل: من حق مطابقة قوله [تعالى]: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي يقول: (وأما الذين كفروا فلا يعلمون)؟ قيل: لما كان الإيمان صادراً عن العلم، والعلم يقتضي سكون النفس وطمأنينة القلب، وذلك لا يقتضي مراجعة ومساءلة ذكر مقتضاه ولما كان الكفر منبع الجهل التام وتمام الجهل والاعتراض على الحق على
[والكبير والكثير يتقاربان، إلا أن الكبير والكثير أكثر ما يقال في أخر الشيء المتصل] فالكثير في الأعداد والمعدودات المنفصلة:
إن قيل: كيف قال: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ والكثير والقليل إنما يقالان في شيئين يعتبر أحدهما بالآخر، والناس إذا فرقوا فرقتين فحكمت على إحديهما بالكثير، فالأحرى لا محالة قليلة، فكيف جعلهما كثيرين؟ قيل: إن ذلك باعتبارين، فقوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ يعني من حيث العدد، ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ يعني من حيث الفضل والشرف.
وعلى هذا قول الشاعر:
" قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا "
أو يحكم عليهما بالكثرة - اعتباراً بالإضافة إلى غيرهما -.
﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ الآية: (٢٧) - سورة البقرة.
النقض: فسخ المبرم، وأصله في طاقات الحبل، والنكث: مثله، لكنه يقال في المتبلد كالأكسية، والأخبية، والعهد: كل أمرٍ شأنه أن يراعي كاليمين، والمشاركة، والمبايعة، ويقال العهد للدار المراعاة بالرجوع إليها، والتاريخ المراعي، وللمطر المتعهد، والميثاق: اسم لما يقع به الوثاقة، والعهد المأمور بحفظه ضربان: عهد مأخوذ بالعقل، وعهد مأخوذ بالرسل، والمأخوذ بالرسل مبني على المأخوذ بالعقل، ولا يصح إلا بعده أو معه، وقد حملت الآية عليهما، وذلك هو المذكور في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ الآية، وفي قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ وقد عظم الله تعالى أمر العهد وتوعد على الإخلال به في أي كثيرة، كقوله: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ وقوله ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ الآية وقال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ وأما ذمهم بقطع ما أمر الله به أن يوصل، فذم بقطع الخيرات وتعاطي السيئات، وذلك أن التقاطع بين الناس يحصل من رفض المحبة والعداية ورفضهما سبب كل فساد، فإن القوم إذا أحبوا وعدلوا تواصلوا، وإذا تواصلوا تعاونوا، وإذا تعاونوا عمروا وإذا عمروا عمروا وأمروا وبالعكس إذا تباغضوا وظلموا تدابروا وإذا تدابروا تخاذلوا وإذا تخاذلوا، لم يعمل بعضهم لبعض
(لا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله) وقال: (المؤمن مألف، ولا خير فيمن لا يؤلف ولا يألف)، ولذلك حثنا على الاجتماعات في الجماعات والجمعات، لكون ذلك سبباً للألفة، بل لذلك عظم الله تعالى المنة على المؤمنين بإيقاع الألفة بين المؤمنين، فقال تعالى: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ وقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ وليس ذلك في الإنسان فقط، بل لولا أن الله تعالى الف بين الأركان المتضادة، لما استقام العالم، ولذلك قال عليه السلام: " بالعدل قامت السماوات والأرض " ومتى تصور هذه الجملة، علم أن الآية في نهاية الذم
فلكل منزلة من الفسق منزلة من نقض العهد، ومنزلة من القطع، ومنزلة من الخسران تلازمه، فالأول في كل ذلك مخطئ، والثاني فاسق، والثالث كافر، ثم منزل كل واحد منهم يتفاوت.
كيف: ههنا استخبار لا استفهام، والفرق بينهما أن الاستخبار قد يكون تنبيهاً للمخاطب وتوبيخاً ولا يقتضي جهل المستخبر، والاستفهام بخلاف ذلك، فكل استفهام استخبار، وليس كل استخبار استفهاماً، والحياة: يستعمل على أوجه، يقال للقوة النامية في النبات والحيوان حياة: ومنه قيل نبات حي إذا كان نامياً، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ وقوله عز وجل: ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ والثاني: للقوة الحساسة الحاسة، وبه سمي الحيوان حيواناً، والثالث: للقوة المختصة بالإنسان من العقل والعلم والإيمان، وذلك لكونها سبباً للحياة الأبدية، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا﴾ وقوله: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ وعلى نحوه قوله:
وقد أسمعت لو ناديت حيا...
ولكن لا حياة لمن تنادي
والموت: يستعمل في فقد كل واحدٍ مما تقدم، وأما وصف الباري - جل ثناؤه - بالحي، فليس يتصور منه مقابله الموت، فإنه تعالى الدائم الباقي الذي به حياة كل حي، ومعنى الآية: قبل " كنتم أمواتاً " أي: تراباً ونطفة، فأحياكم، بأن أنشأكم وخلقكم ثم يميتكم الموت المعروف، ثم يحييكم يوم ينفخ
قوله - عز وجل -:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ الآية (٢٩) - سورة البقرة.
الاستواء: طلب السواء، أي المساواة، وسمي وسط الشيء سواء، لتساوي مساحة الجوانب كلها إليه، وقيل للعدل سواء لكونه وسطأً للظلم والانظلام،
إن قيل: قوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) يقتضي أن كل ما في الأرض خلق لأجل الإنسان، والانتفاع به، ومعلوم أن في الأرض كثيراً مما لا ينفع للإنسان فيه، بل فيه المضار كالحيات والعقارب، (والسموم) والأشرار من الناس، قيل: الأشياء الضارة في الظاهر لكل نوع منها خاصة فيها نفع للإنسان أو نفع لما فيه نفع للإنسان،
وذلك بين في أنواع الأشياء وأجناسها.
فأما نفع جزيئاتها في أن يقال: ما نفع هذه الحية بعينها فلا سبيل لنا إليه، وأجزاء العالم شيء ضار بالإضلاق، وإنما الضار بالاعتبار إلى جزيئاته،
إن قيل: كيف ذكر ههنا أنه خلق ما في الأرض قبل السماء وقد قال: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾، معلوم أن ما في الأرض محال وجوده قبل وجودها؟ قيل: قد ذكر في هذا جوابان: أحدهما: أنه تعالى خلق جوهر الأرض، ثم دحاها وبسطها بعد خلق السماء، والثاني: أنه خلق السماء بعد خلق الأرض ووجودها، وإنما وقعت الشبهة من قوله: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾، لأن بعض الناس تصور له من جهة القرآن قوله: (بعد ذلك) ظرف لقوله: (دَحَاهَا) واعتبر في (بعد) الزمان وليس كذلك، فإن تقدير الآية: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾، ثم قال: ﴿دَحَاهَا (٣٠) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾.
كقوله: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾ ثم قال: ﴿بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾، وليس " بناها " وصفاً للسماء، بل تقديره: (أم السماء أشد خلقاً)، ثم استوؤنف فقيل: بناها - تنبيهاً أن من قدر على ذلك [فهو على] إعادتكم قادر، ثم قال: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي الأرض بعد السماء أشد خلقاً من إعادة خلقكم، وذلك لأن السماء بما فيها من عجائب الصنعة أعظم خلقاً من الأرض، ثم الأرض أعظم من الإنسان، وليس يريد بقوله بعد التوقيت، وإنما يريد الترتيب في الشرف والرفعة،
فإن قيل: ولم نصب الأرض ولم يرفعها كما رفع السماء؟
إن قيل: لم ذكر السماء ثم قال: (فَسوَاهُنَّ).
قيل: لما عنى بالسماء السموات رد الضمير إلى المعنى، ومجاز ذلك أن الأسماء على ضربين: اسم موضوع لأجزاء الرجل والمرأة متشابهة، نحو: الدم، واللحم، والماء، والأرض، واسم موضوع لأجزاء غير متشابهة، نحو: اليد، والرجل، فما كان من الأول، فإنه يقع على بعضه اسم كله، فلا فرق بين أن يذكر بلفظ واحد، أو بلفظ الجمع.
والسماء من هذا الباب، لأنه يقال لأقطاع اللحم لحم، ولكل قطعة منها منفصلة كانت أو متصلة لحم كذلك السماء، والله أعلم.
إذ: يتعلق بمضمر في موضع المفعول به، لأن تقديره: اذكر لا أذكر فيه، وقول أبي عبيد: إن " إذ " في مثل هذه المواضع زائدة، فإنه تقصير منه في النظر، والملك أصله " ملاك " مقلوباً عن مالك، والألوك: الرسالة المحفوظة في الفم من " ألك الفرس اللجام "، إذ لاكه، وروي أن الملائكة على أضرب خواص يتميزن تمييزاً مبانياً في الفضيلة، منهم وأدون ألو أجنحة، وجماعة يقال لهم الجن، وهم أقرب إلى النسا، وقد يقال للصالح من الناس " مَلَك " على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾
وقال الشاعر:
فلَسْتَ لإ نسى ولكن لملاك
والخليفة والخلف يتقاربان من قولك: خلف فلان فلاناً إذا قام مقامه، والخلف والسلف يتناقضان كخلف وقدام،
فإن قيل: ما وجه استخلاف الله تعالى، والخلافة إنما تكون للنيابة عن الغري؟ إما لغيبته أو موته أو عجزه، وذلك لا يجوز على الله تعالى قيل: بل قد يكون على غير ذلك، وهو أن يستخلف المستخلف غيره امتحاناً للمستخلف، أو تهذيباً له، أو يستخلفه لقصور المستخلف عليع من قبول التأثير من المستخلف لا لعجز المستخلف وذلك ظاهر في الأشياء المهينة والطبيعية، فإن السلطان
وسبحته عن كذا: أي نزهته، وتسبيح الله: تنزيهه بالقول والحكم و " سبحان " مصدر، ككفران، وجعل السبحة للتسبيح، وسمى الصلاة بها لكونها تسبيحاً والحرزات: سمى سبحة، ومعنى: (نسبح بحمدك) أي: نسبحك والحمد لك، أو نسبحك بأن نحمدك والتقديس: التطهير، وقوله: (نقدس لك) قيل معناه نطهر أنفسنا لك - إشارة إلى نحو قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ وليس ذلك إظهاراً للمنة، بل هو على حسب ما نقول مجتهد محب أن يفوض صاحبه إليه خدمة ما، فيقول: أتستعين بغيري وأنا مجتهد في خدمتك؟ وعلى ذلك قولهم: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ ولي قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ على سبيل الاستشارة، فالاستشار استمداد علم من المستشار، والله تعالى منزه عن ذلك، وإنما ذلك إعلام، كإعلامه إيانا كثيراً من الكائنات لمصلحة ما،
إن قيل: فمن أين حكمت الملائكة على الإنسان بالإفساد في الأرض وسفك الدماء، وذلك إما ادعاء علم الغيب أو الحكم بالظن والتخمين، وهم منزهون عن ذلك؟ قيل: قد قيل إنهم قاسوهم على من كان يسكن الأرض قبل من الجان، فأفسدوا فيها، وقيل: وهو أصح أن الله تعالى كان قد أخبرهم بذلك، لكن لم يقص علينا فيما حكى عنهم تنبيهاً عليه بما ذكر في الجواب وذلك عادة القرآن في كثير من الأقاصيص المذكورة، كقوله تعالى في قصو يوسف عليه السلام: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا﴾ وقولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ ليس بانكار إنما هو استخبار مجرد ليعرفهم ما تسكن نفوسهم إليه ويرشدهم إلى ما يزيل شبهتهم وليسألوا عن ذلك ألا وقد أذن لهم في السؤال
الآيات: (٣١، ٣٢، ٣٣) سورة البقرة.
الإنباء: إخبار فيه إعلام، وهو متضمن لهما ولذلك كل إنباء أخبار، وليس كل إخبار إنباء، وكل نبأ علماً وليس كل علم نبأ ولكونه متضمناً لهما، ومشتملاً عليهما أجري مجرى كل واحد منهما فقيل أنبأته بكذا كقولك أخبرته وأنبأته بكذا، كقولك أعلمته كذا، ولا يقال: " نبأ " إلا لكل خبر يقتضي العلم كالمتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر الأنبياء [عليهم السلام] وما جرى مجراها، وسمى النبي لكونه منبئاً بما تسكن نفسه إليه، ومنبأ بما سكن المؤمنون إليه فهو أصح من أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل وبمعنى مفعول، أما بمعنى الفاعل، فلقوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ وقوله ﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ وأما بمعنى المفعول فلقوله: ﴿نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ وشرح هذه الآية لابد أن يبين فيه كيف كان تعليم الله آدم الأسماء، وهل فيه دلالة على أن اللغات توقيف أو أوائلها إصطلاح؟ وأنه هل علمه الأسماء دون المعاني؟ أو علمه إياها جميعاً؟ وما في ذلك مما تنبه الملائكة على خطئهم فيما توهموه وقالوه حتى رجعوا عن دعواهم واعتقادهم وأذعنوا للاستسلام؟ فنقول وبالله التوفيق: إن الناس اختلفوا في اللغات، فذهب بعض المتكلمين إلى أن أوائلها اصطلاح، والباقي يصح أن يكون توقيفاً، واستدل على ذلك بأنه لا سبيل إلى معرفة مراد الله تعالى إلا بالخطاب، ولا يصح أن يكون العلم بمراده ضرورة والعلم بذاته مكتسباً لأن ذلك مؤد إلى أن تعلمه ضرورة أن العلم بمراده فرع على العلم بذاته فلا يصح أن يكون العلم الخفي ضرورياً والجلي
فإن قيل: فما ينكر أن يتواضعوا بإشارات وتصويت، فإن الأخرس يقدر على ذلك، وله مخارج الحروف، لأنا نجد الذين لا يتكلمون يفهمون ويفهمون ولا لغة لهم! قيل: الإشارات يفهم عنها بالاستدلال كسائر الاستدلالات التي لو توهمنا الكلام مرتفعاً لصح حصوله وليس للأخرس إلا الاستدلال فقط، ولا قدرة له على الألفاظ يؤلفها، وإنما صوته كصوت الطفل الذي لم يتلقن الألفاظ واللغة إنما تكون لغة بحصول تركيب المفردات الثلاث ولو كان إلى ذلك سبيل من غير تعليم، لكان من شرط البكم أن يتواضعوا فيما بينهم كلاماً لأن آفة البكم من السمع، وإنما عجز عن الكلام لعجزه عن التلقن بالسمع، فثبت أن ابتداء تعليم الكلام لا يكون إلا من معلم، وذلك قد كان من الله تعالى لآدم بأحد هذه الوجوه المتقدمة
إن قيل: كيف علمه الأسامي كلها وقد علمنا أنه ما من زمن إلا وبنوه يضعون
فأما معرفة الجزئيات متعرية عن الأصول، فليس بعلم، ولا يقال للعارف بها عالم على الإطلاق، وإنما هو في معرفتها محاك محاكاة الببغاء للألفاظ وإذا كان كذلك، فتعليم الله تعالى آدم الأسماء كلها إعلامه القوانين والأصول المشتملة على الجزئيات والفروع وقد علم أن تعليم الكليات أعظم في الأعجوبة وأشبه بالأمور الإلاهية من تعليمنا الصبي الحرف بعد الحرف وقوله: (الأسماء كلها) أراد بها الألفاظ والمعاني ومفرداتها، ومركباتها وحقائقها وذوات الأشياء في أنفسها، وبيان ذلك أن الاسم يستعمل على ضربين: أحدهما بحسب الوضع الاصطلاحي، وذلك هو للمخبر عنه، نحو: " رجل وفرس " والثاني: بحسب الوضع الأول، وذلك يقال للأنواع الثلاثة التي هي المخبر عنه، والخبر والرابط بينهما، وهي المعبر عنها بالاسم والفعل والحرف، وهذا هو المراد ههنا، فإنه - تعالى - لم يرد بقوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ تعليمه رجلاً وفرساً دون ذهب وخرج ومن وعن ولا يعرف الإنسان الاسم فيكون عارفاً بمسماه إذا عرض عليه إلا أن يعرف المسمى، ألا ترى أنا لو علمناه أسامي [بالهندية] أو بلغة مجهولة، ولم يعرف صورة ما له تلك الأسماء لم يكن عارفاً بها إذا شاهدناها وكنا عارفين بأصوات مجردة، فثبت أن معرفة الاسم لا تحصل إلا بمعرفة المسمى في نفسه وحصول صورته في الضمير، ثم المعلومات قد تكون جواهر وأعراضاً من
فإن قيل: فأي شيء في تعليم آدم الأسماء من تنبيه الملائكة على ما سئلوا عنه؟ قيل: إن الله تعالى لما خلق الإنسان من أمشاج مختلفة وقوى متفاوته وجعله جسمانياً روحانياً، وحصل له بحسب القوى المختلفة معارف مختلفة وأفعال متفاوته، فإن له بحسب الحواس الخمس معارفاً خمساً، وبحسب العقل معارف معقولة وبحسب الوهم والخيال معارف موهومة متخيلة وحصل له بحسب التراكيب البدنية وبسائطها أفعال متباينة ومهن متفاوتة كالتجارة، والصياغة، وسائر الصناعات.
وجل ذلك معدوم في الملك لعدم كثافة الجسم المركب من الأمشاج، ولاستغنائها عن ذلك، فبين الله تعالى بتعليمه آدم - عليه السلام - هذه الأسماء كلها والمعاني وعرضها على الملائكة، وأنبأ آدم - عليه السلام - بها وبحقائقها.
ومعرفة تعاطي الصناعات المختصة بالإنسان عجز الملائكة، وأن الإنسان مستصلح لعلوم وأعمال ليس للملك سبيل إليها [بوجه] فإن المحسوس لا يدركه محسوساً إلا ذو الحاسة، والمهن لا يتعاطاها إلا من ركب تركيب الإنسان من القوى المتفاوته التي منها القوتان اللتان كانوا يرونهما مفسدتين.
أعني القوة
إن قيل: ما وجه قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وهل كان لهم في ذلك التشكك حتى احتاجوا إلى أن يقال لهم ذلك؟ قيل له: ليس مخرج هذا الكلام على الوجه الذي توهمته، بل هو تنبيه لهم بما عملوه مجملاً على ما اشتبه عليهم مفصلاً، وتقدير ذلك: كأنه قيل: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ومن علم غيب السماوات والأرض علم ما تبدون وما تكتمون.
ومن علم ذلك علم ما لا تعلمون.
إن قيل: فما [تلك] الفضائل التي اختص الإنسان بها واستصلح لها مما لم يكن للملائكة؟ قيل له: إن ذلك هو تعاطي العفة التي هي مختصة بالقوة الشهوية، والنجدة المختصة بالقوة الغضبية، والإنصاف في المعاملات، وسياسة الإنسان نفسه، ومجاهدة هواه وسياسة ذويه وأبناء جنسه، فإن كل ذلك فضائل ليست إلا للإنسان المختص بقوته الشهوية والغضبية، فأما الملك المعرى عن مقاسات عارية " بطنه وفرجه " فليس بمحتاج إلى سياسة البدن وسياسة أبناء جنسه في مراعاة ذلك منهم، [وهذا ظاهر]
إن قيل: في وجه قوله: (أنبئوني بأسماء هؤلاء) وذلك تكليف لهم ما لا تعلمون وتكليف إيراد ما لا يعلم تكليف ما لا يطاق، وما وجه قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ والصدق إنما يتعلق بالخبر، وهم إنما استخبروا ولم يخبروا فكيف يصح أن يصدقوا أو يكذبوا قيل: أما قوله: ﴿أَنْبِئُونِي﴾ فليس بتكليف وإنما هو تنبيه على عجزهم عن الخلافة التي رشح الإنسان لها، وقد علم أن لفظة " افعل " تجيء على أوجه، منها: التبكيف والتعجيز، وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فالصدق وإن كان لا يدخل الاستخبار والأمر والنهي بالقصد
إن قيل: ما وجه قوله: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ وهو عالم بما علمهم وعالم بأن لا علم لهم إلا ما علمهم؟ قيل: القصد بذلك إظهار أن ليس سؤالهم على وجه الاعتراض، بل على سبيل الاستفادة وإظهار العجز، وأنه قد بدا لهم ما كان خفي عليهم من فضيلة الإنسان وإظهار الشكر لنعمته وتعظيم منته بما عرفهم وفيه تنبيه على استعمال [حسن] الأدب عند سؤال المعلم بتفويض العلم إليه وتنبيه على أعظم التواضع، فقد قيل لبعض الحكماء: ما أعظم التواضح؟ فقال: الاعتراف بالجهل للعالم، وفيه تنبيه على العلم بما جهلوه، وذلك إحدى فضيلتي الإنسان، وقال بعض المحققين: الافتخار مدرجة للسقوط، انظر كيف اضطر الله الملائكة لما قالوا: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ إلى أن اعترفوا بعدم العلم، فمن استكثر لله طاعة واستكبر له خدمة فالجهل موطنه واستدل بعضهم بهذه الآية على أن العلم أفضل من العبادة، فإن الملائكة أذعنوا لآدم [عليه السلام] لما أفيد من العلم، والحكيم أصله لمن له الفعل المحكم، لكن لما يصح حصول الففعل المحكم إلا بالعلم [المتقن] صارت الحكمة متناولة للعلم والعمل معاً.
فالحكمة منتهى العلم.
والعلم مبدأ الحكمة، ولا يتم أحدهما إلا بالآخر.
فلهذا جمع بينهما.
وقدم " العليم " [هاهنا] على " الحكيم " فقال: (إنك أنت العليم الحكيم).
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾
الآبة: (٣٤) سورو البقرة.
الخضوع والخشوع والخنوع والسجود والركوع تتقارب، وبينهما فروق، فالخضوع ضراعة بالقلب، والخشوع بالجوارح، ولذلك قيل: إذا تواضع القلب خشعت الجوارح، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، وقال: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾، والخشوع ضراعة لمن دونه رغبة في عرض في يده، وكذلك أكثر ما يجئ في الدم، والركوع تذلل مع التطأطؤ.
والسجود مع خفض الرأس.
وسجود الملائكة إن أريد به المتعارف في الشرع.
فليس بعبادة لآدم -[عليه السلام]، فعبادة غير الله تعالى لا تجوز بوجة، وإن كان على حسب المتعارف للخدمة، فقد قيل: إن ذلك كان مباحاً قبل شرعنا، وعلى ذلك ما روي في قصة يوسف - عليه السلام - ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾، وقد قيل: أريد به التذلل كقوله تعالى: يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}.
وقول الشاعر:
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر
وإبليس: لفظة أعجمية، فلا يصح أن تكون مشتقة من العربية.
والخيلاء: ظن بالنفس كاذب، من قولهم: خلت، والصلف: قلة التلفت إلى الغير من قولهم: صلف: إذا اشتكى صليفه، واعتباراً بهذا المعنى قال الشاعر:
إن الكريم من تلفت حوله...
فإن اللئيم الطرف أقود
* واختلف في إبليس هل كان من الملائكة؟ فقال قوم: كان منهم، بدلالة استثنائه من الملائكة المأمورين للسجود لآدم، وقال قوم: لم يكن منهم اعتباراً بقوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾، وروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الملائكةعلى ثلاثة أضرب على ما تقدم آنفاً، وضرب منهم يقال لهم الجن، ومنهم إبليس، ولهم توالد، ولهذا قال: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾، وقيل: إن الجن كانوا مأمورين مع الملائكة بالسجود له، لكن لم يحتج إلى ذكرهم، فالسلطان إذا أمر أماثل رعيته بالخضوع لإنسان، فمعلوم أن أصاغرهم مأمورين بذلك، ألا ترى أن
إن قيل: كيف يصح أن يكون من الملائكة نوعاً والله قد وصفهم بأنهم ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾؟ قيل: إن ذلك في وصف خزنة جهنم، وليس كون بعضهم على هذه الصفة مقتضيا أن يكون كلهم كذلك، و (كان من الجن): قيل معناه: صار ههنا، وليس ذلك بشيء، فإن (كان) استعمل (ههنا) على أحد وجهين: إما لاعتبار وقت العصيان بوقت الاختبار، ويكون بالإضافة إليه ماضياً فيجب أن يقال: كان، وإما أنه قال: ﴿كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ - تبيهاً أن ما تقدم من طاعته غير معتد به، وأن حكمه من قبل حكم الكافرين، فمن شرط الطاعة أن لا تحبط ومن حكم الإيمان أن يمتد ويتصل،
إن قيل: كيف أمر الملائكة بالسجود لآدم ومنزلتهم فوق منزلته بدلالة أن إبليس مناه أن يكون إياهم بقوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ وبعيد أن يؤمر الفاضل بالتخضع للمفضل؟ قيل: الخضوع لآدم كان خضوعاً لله تعالى من أجل الائتمار له فيما أمرهم به، وظاهر في العادات أن التذلل لخادم كبير خضوع لذلك الكبير، وأيضاً: فإن الإنسان في باب الفضائل التي ذكرناها آنفاً أفضل من الملك وإن كان الملك أفضل منه من وجوه أخر، والشيئان قد يكون كل واحد منهما أفضل من الآخر من وجه ووجه، وإنما المنكران بفضل كل واحد منها الآخر من وجه واحد، وفي الآية تنبيه على وجوب الائتمار لمن له الخلق والأمر، ومجانبة عصيانه، وارتكاب التكبر والحسد، وإنها قد يفضيان براكبهما إلى الكفر، كما روى في الخبر: " أن أول ما عصي به الله في السماء والأرض الكبر والحسد " وحث على ترك الدخول في سره والاعتراض على حكمه.
﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الآية: (٣٥) - سورة البقرة.
قيل: ما الفرق بين أن يقال: افعل أنت وقومك كذا وبين أن يقال: افعلوا كذا، قيل: الأول تنبيه أن المقصود هو المخاطب، وغيره تبع له، وأنه لولاه لما كانوا مأمورين بذلك، وعلى نحوه: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ وليس كذلك إذا قال: افعلوا، وقال بعضهم: إنما قال: اسكن فاستعمل السكن تنبيهاً أنه يعرض النقل، عنها وأنه لا يجب أن يركن إليها.
إن قيل: ما الفرق بين الإرادة والمشيئة؟ قيل: الإرادة قد تكون بحسب القوة التسخيرية، والفكرية والحسية ولذلك تستعمل في الجماد، نحو: ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ وفي الحيوان وفي العقلاء والمشيئة لا تكون إلا مع اختيار ولذلك لا يقال إلا للعالم والمتفكر، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ فالقصد بالنهي عن قرب الشيء تأكيد للحظر والمبالغة في النهي، وذاك أن القرب من الشيء مقتض الألفة، والألفة داعية للمحبة، ومحبة الشيء كما قيل: " حبك الشيء يعمي ويصم، والعمى عن القبيح والصم عن النهي عنهما الموقعان فيه، والسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، كما أن السبب الداعي إلى الخير مأمور به، وعلى ذلك قال - عليه السلام -: (العينان تزنيان) لما كان النظر داعياً إلى الألفة، والألفة إلى المحبة، وذلك
والشجرة: قيل: كانت الحنطة، وقيل: الكرم، وقيل: التين، وقوله: (فتكونا): الأظهر: أنه جواب النهي، وقد قيل: يصح أن يكون عطفاً، لأنك تقول: " لا تجب والدك فتعص ربك كما تقول: فتعصي ربك، والظلم في الحقيقة: الإخلال بما يقتضيه داعياً الله: " العقل والشرع " وهو الخروج عن الحظر ولهذا قيل: هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد تقدم أن الظلم ضربان: ظلم النفس، وظلم الغير، وظلم الغير لا ينفك من ظلم النفس، وظلم النفس قد ينفك من ظلم الغير، ولأجل أن الظلم خروج عن الحق، وأن الحق يجري مجرى النقطة من الدائرة، ومجرى القرطاس من الهدف، صار من تعداه يصح أن يقال: " هو ظالم " وإن كان بين الظالم والظالم بون ولذلك قد يطلق " الظالم " على من ارتكب صغيرة وعلى من ارتكب كبيرة، إن قيل كيف جاز أن ينهي عن الشجرة ثم يتناولها وقد أنكرتم أن يرتكب الأنبياء الكبائر؟ قيل: قد أجيب عن ذلك بأن آدم [عليه السلام] أشير له إلى شجرة، فقيل له: " لا تقربا هذه الشجرة " وأريد به الجنس لا العين نحو ما روي أن النبي - عليه
ولم يرد به العين، وإنما أراد به الجنس، فحمل آدم متأولاً الإشارة إلى العين دون الجنس، فوقع عليه السهو من هذا الوجه، وقيل: أنه حمل النهي على الندب دون الحتم، ونسي الوعيد المقرون به، ولذلك قال: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ أي: " نسي الوعيد ".
واختلف في الجنة التي أسكنها آدم - عليه السلام - فقال بعض المتكلمين: كان بستاناً جعله الله تعالى له امتحاناً ولم يكن جنة المأوى فإن تلك لم تخلق بعد، إذ هي للخلود، وقد ثبت أن الله تعالى يفني الأشياء كلها حتى لا يبقى إلا وجهه ولو كانت مخلوقة الآن لم يصح أن يخص بهذه الصفة، وقال أكثر الناس: كانت جنة المأوى، وتسميتها بجنة الخلد اعتباراً بدوامها بعد أن يدخلها المثابون.
والشيء الواحد قد يسمى بأسماء كثيرة - اعتباراً بمعان متفاوته، ألا ترى إلى ما حكي عن الحسن أنه قال: " خلقنا للأبد، ولكنا ننقل من دار إلى دار " وذلك اعتباراً بحال الإعادة، ومن قال: لم تكن تلك جنة الخلد، لأنه لا تكليف في الجنة، وآدم [عليه السلام] كان مكلفاً، [فقد قيل في جوابه: إنما لا يكون دار التكليف في الآخرة، ولا يمتنع أن يكون في وقت دار تكليف، ولا يكون في وقت كذلك، كما أن الإنسان يكون] مكلفاً في وقت دون وقت، وقال بعض الناس: " إن الله تعالى لما خلق الإنسان لاستخلافه في أرضه واستعماره فيها كما قال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ وقال ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ وأراد أن يوصله بذلك إلى جنة المأوى وعلم بسابق علمه أنه لسوء تدبيره
﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ الآية: (٣٦) - سورة البقرة.
زل، وزال يتقاربان، إلا أن زل يقتضي عثرة مع الزوال، يقال: زلت رجله في المشي ولسانه بالقول، وسمي الأسد إذلالاً اعتباراً من الفاعل استقلاله حتى يعده عثرة، وقول النبي - عليه الصلاة والسلام: " من أزلت إليه نعمة فليشكرها " أي من أسدى إليه نعمه، وإن كانت طفيفة، وإزلال إبليس لآدم عليه السلام قوله له ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ وقوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ ومقاسمته إياها بقوله: ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ فمن الناس من حمل هذه الأحوال على مفاوضة ومجاراة بالمشاهدة وقيل: إن ذلك كان بوسوسته كما قال: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ﴾ وما روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن إبليس عرض نفسه على دواب الأرض أن تحمله فتدخله الجنة ليكلم آدم وزوجته، فأبت عليه الدواب كلها حتى كلم الحية وقال: أمنعك من بني آدم إن أنت أدخلتني الجنة، فجعلته بين نابين من أنيابها، فأدخلته الجنة وكلمها من فيها، قال: فلذلك أمر الإنسان بقتلها أينما وجدها فإن بعض الناس حمل ذلك على سبيل المثل، وقال: هذا إشارة، فقوله: عرض نفسه على
(من حفظ بطنه فقد سد على الشيطان بابه ومن شبع ونام قسا قلبه وتمكن منه الشيطان) ويكون الهوى أعظم سلاح للشيطان، صار لا فرق بين قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وقوله ﴿لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ في أن المقصد واحد في كونهما نهياً عن ارتكاب الذنوب وقوله، فلذلك أمر الإنسان بقتلها، أي أمر أن يقهر الشهوة [ويذللها] حيثما تراءت له، وطالبته بما بنافي الإيمان، وهذا الذي ذكره هذا القائل وإن كان صحيحاً من حيث المعنى، ففي صرف الخبر إليه ترك للظاهر وفتح باب من التأويلات عظيم الضرر.
والله أعلم بحقائق ما يخبرنا به من الغيوب..
وقوله: (اهبطوا): الهبوط ضد الصعود، وليس يراد به الانحدار عن رفعة مكانية
بلغنا السماء بأحسابنا
وقال:
وصاعد في هضاب المجد يطلعها
وأما المعاداة: ففقدان الملاءمة والموافقة، ومنه قيل: " هو مكان ذو عدوى "، والتعدي والعدوان والاعتداء، والعدوى منها، وقوم عدى للأعداء أو الغرباء، لما بينهم من فقدان الملاءمة، وقوله تعالى: ﴿بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ ليس يريد المهارشة فقط، وإنما يعني فقدان الالتئام، أما بين الشيطان والإنسان فظاهر، وبين الرجل والمرأة كثير في الخلق والخلق، حتى إن عامة ما يحمد من أخلاق الرجل يذم من المرأة، ثم بين قوى الإنسان في نفسه تفاوت، فحذرنا الله تعالى الذي خلقنا منها ليتنبه للاحتراز مما ينافينا في بلوغ السعادة، ونسوس منها ما يمكن سياسته، وندفع منها ما يجب مدافعته، والمستقر: المكان الذي يحصل فيه القرار، والقرار هو السكون عن برودة ولما كان من شأن البرودة السكون كما أن من شأن الحرارة الحركة قيل في الساكن برد، وفي المتحرك: اشتعل، والتهب، وحتى شبه السريع بنار متقدة، والساكن بماء جامد، وقوله ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ كقوله: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾ وقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ قيل معنى المستقر القبور، والآية محمولة عليها، فقد قال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ والمتاع: انتفاع
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ واختلاف ذلك لاختلاف المضاف إليه، وفي الآية تحذير من الشيطان كما قال: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ الآية والتحذير من كل غرور ومن الركون إلى الدنيا، والتنبيه على أنها دار ممر، وأن الآخرة دار مقر.
[وبالله التوفيق]
﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ الآية: (٣٧) سورة البقرة.
التلقي كالتلقن، إلا أن التلقي يقتضي استقبال الكلام وتصوره، والتلقن يقتضي الحذق في تناوله، والتلقف يقاربه، لكن يقتضي الاحتيال في التناول، الكلم: التأثير المدرك بإحدى الحاستين السمع والبصر، فالكلام مدرك بحاسة السمع فكلمته: جرحته جراحة بأن أثرها ولاجتماعهما في ذلك قال الشاعر:
والكلم الأصيل كأرغب الكلم
وقال:
وجرح اللسان كجرح اليد.
والكلمات التي تلقاها آدم من ربه قيل: هي قوله: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ وقال الحسن: هو قوله: " ألم تخلقني بيدك؟ ألم تسكنني جنتك؟ ألم تسجد لي ملائكتك؟ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ فقال تعالى له: بلى، قال: أرايت إن تبت تبت علي وأعدتني
أحدها في سورة التوبة: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والثاني في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ والآيات إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
والتوبة والأوبة والاستغفار متقاربة وبحسب ما اختلفت فيها الاعتبارات اختلفت عليها العبارات، (الإنابة) الرجوع عن طريق الضلال إلى الهدى، والأوبة: رجوع القلب إلى الحق والوقوف عليه، والاستغفار: طلب الغفران قولانً وفعلاً، أي: تعاطي ما يغفر ما تقدم من الذنب، والتوبة التامة المعتد بها: ترك الذنب، والندم عليه، وهو العزم على أن لا يعود إليه، وتدارك ما تقدم وهو رد المظالم " مظلمة الخلق، ومظلمة الخالق " ومظلمة الخالق: هي إعادة ما ترك من العبادات وإذابة ما استفاد جسمه من الحرمات، ألا ترى إلى قوله [عليه السلام] " كل لحم نبت من سحت النار أولى به " والتواب: يقال في العبد، وفي الرب، لكن العبد تائب إلى الله - عز وجل - والله تائب على عبده، وقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ جمع بين الوصفين - تنبيهاً على أنه مع ترك ذنبه، عليه لا يخليه من
وفي الآية تنبيه يعني هو أنه متى تلقينا منه ما أنعم به علينا من العلوم، واستعملناه واعترفنا بذنبنا وطلبنا منه التجاوز عنه ونحن في مهلة من الحياة تاب علينا وأحسن إلينا.
قوله - عز وجل -:
﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
الآية (٣٨) - سورة البقرة.
والمجيء والإقبال والإتيان متقاربة غير أن المجيء عام والإقبال مجيء من ناحية القبل والإتيان مجيء عن بعد ومنه قيل: الآتي " للغريب وللسبيل " الجائي " من بعيد، و " أتيته " أي: " أعطيته " منقول عن أتيته و " اتوته " وهما لغتان، والاتباع والإتلاء والاحتذاء والاقتداء تتقارب فالإتلاء: مجيء بعد أخر فاصل بينهما من جنسهما، والاحتذاء منقول من حذو الفعل بالفعل والاقتداء: اتباع على مدى، أي على قدر المتبع بلا تجاوز ولا تأخر، والاتباع عام في كل ذلك، ومنه قيل في الرعية " أتباع " و " سمي العجل التابع لامه تبيع، والخوف والفزع والحذر والرهبة والهيبة والخشية والوجل والشفقة تتقارب فالخوف توقع مكروه عن أمارة وذلك للمذنب ولهذا قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: " لا يخافن امرؤ إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربه " والفزع: اضطراب عن وهم، كمن يسمع هدة فاضطرب، والحذر: خوف مع احتراز، والرهبة خوف مع اضطراب واحتراز والهيبة: رهبة مع استشعار تعظيم، والشفقة: خوف مع محبة، ولذلك قيل: الخوف والحذر للمذنب والرهبة للعابد والخشية للعالم، والهيبة للعارف والحزن خشونة تعتري النفس، مشتق من حزونة الأرض
والفائدة على تكرير قوله: (اهبطوا) لتكرير الشرط المقرون به، فإن الأول فرن بحال العداوة الثانية بينهم وسكونهم في الأرض إلى مدة متناهية، والثاني: بين به أنهم وإن اشتركوا في الهبوط، فهم متبانيون في الحكم فإن من اتبع هدايته فهو على سبيل الخلاص،
إن قيل: لم لم يقل: فمن تبعه فيستغنى بالضمير عن التكرير، فقد استقبح في باب البلاغة تكرير اللفظة الواحدة في الجملة الواحدة حتى استرذل قول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء....
تغص الموت ذا الغنا والفقيرا
وقول آخر مع جودة معناه
بجهل كجهل السيف والسيف منتضي...
وحلم كحلم السيف والسيف مغمد
قيل: إن ذلك يستقبح إذا لم يحصل في الثاني معنى غير المعنى الأول كالبيت.
والآية بخلاف ذلك، فإن الهدى من الله ضربان، ضرب بالعقل، وضرب بقول الرسل، وأراد تعالى بقوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ ما يأتي على ألسنة الرسل - عليهم السلام -، ويقوله: هداي ما على لسانهم، وما كان من جهة العقل فنبه أن من أتاه رسول ورعاه مع رعايته لمقتضى العقل فهم الأولياء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
إن قيل: كيف نفى الخوف عن الأولياء في مواضع نحو قوله:
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾
والخوف والحزن المنفيان عنهم استشعار الغم الذي يكون من ذوي العدوان، وكذلك روي: (لا يرجون امرؤ إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه)
وأيضاً فالحزن إنما يكون لفوت محبوب، الخوف يكون لفقد مطلوب، والمتبع لهدي الله هو المؤمن الحكيم، الذي لا يقتنيي لنفسه فضولاً من الأعراض، وما اقتناه لضروراته علم إنه يعرض الأعراض وأنه عارية مستردة، فلا يحزن على استرداها، ولا يطلب المستغني عنه، وما طلبه بعد وجوبه عليه طلبه عالماً أن الله لا يبسط لأحد دنيا إلا اغتراراً واختباراً، فإذا منح قام يحقوقه شاكراً، وإذا منع استغنى عنه صابراً، فهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في دنياهم.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ " الأية (٣٩) - سورة البقرة "
الاصطحاب، والاجتماع، والاقتران تتقارب، فالاجتماع أعم معنى، الاصطحاب: اجتماع مع طول لبث، والاقتران يقتضي شداً ما، إما صنعة، كاقتران بعير ببعير وإما حكمة، كاقتران الصديقين واصحب الرجل إدا صار ذا صاحب، ولما كان الأصحاب مقتضياً للانقياد، فسره أهل اللغة به، والتكذيب بالآيات بعض الكفر وتمامه، فإن فيه مع تعاطي الكفر بالفعل جحودآ باللسان
وتخصيصه بعده نحو قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ في أن عمل الصالحات بعض الإيمان وتمامه، وليس يعني بالآيات القران فقط، بل يراد بها مع دلك الآيات التي في السماوات والأرض الدالة على الوحدانية المستحث على اعتبارها، بنحو قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾،
إن قيل: لم قال ههنا: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وقال في الحج: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ قيل: الاسم الموصول، والنكرة الموصوفة حتى ضمنتا معنى الشرط قد تدخل " الفاء " في خبرها تنبيها على معنى الشرط، ويجوز ترك ذلك منه بقول: والذي يأتيني له درهم، والذي يأتيني فله درهم "،
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾
الآية: (٤٠) - سورة البقرة.
الابن: من البناء، وسمي بذلك لكونه كالمبنى لأبيه، وكل مصنوع ينسب إلى صانعه وآلته، فيقال هو ابنه، وللصانع يقال: هو أبوه، وعلى هذا يقال: فلان ابن الحرب، وأبو الحرب، وبتسمية الصانع أباً للمصنوع، والمصنوع ابناً للصانع أطلق على ما جكى في شريعة من تقدمنا " أبناء الله "، ثم تصور ذلك الجهلة والأغبياء معنى الولادة، فحظر إطلاق ذلك حتى صار التفوه به يعد كفراً، والوفاء مراعة العهد، والغدر تضييعه، كما أن الإنجاز مراعاة الوعد، والإخلاف تضييعه، الوفاء والإنجاز في الفعل كالصدق في المقال.
والعذر والاخلاف كالكذب فيه، وقيل: وفي وأوفى بمعنى، والصحيح أن أوفى أبلغ من وفي، كما أن: أسقى " أبلغ من " سقى "، والخطاب وإن كان لبني إسرائيل لقولهم مقصودين بالتبكيت لنسيانهم نعم الله تعالى وكون نعمته عليهم أظهر، فالناس طراً يشاركونهم في وجوب ذكر نعمة عليهم، وقد تقدم ذكر تفاصيل النعم، وإن قيل: ما فائدة تقييد النعمة بقوله: أنعمت عليكم؟ قيل: نظر الإنسان إلى نعم الله ضربان، أحدهما: نظره إلى نهمة الله تعالى التي [تختص به من نفسه دون ما اختص به غيره] وذلك يفيده رضاً عن النعم وشكراً له ومعرفة ما على غيره من النعم، والثاني: نظره إلى نعمة الله على غيره ونسيان ما قد خص به في نفسه، وذلك يجلب إليه سخطاً على ربه، وكفراناً لآلائه، وحسداً على عباده، ولهذا قيل:
" انظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى من هو فوقك، فذلك أجدر أن لا تزرى بنعمة ربك ".
وآخره ما كان من أولياء الله في حفظ النظرات والخطرات، ويقابله من الله تعالى: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وبينهما وسائط كثيرة لها من الله تعالى مقابلات، ولما كان من مبدئه إلى منتهاه عرضاً كثيراً نظر كل واحد من المفسرين للآية نظراً ما صارت به أقوالهم مختلفة في الظاهر بحسب اختلاف نظراتهم، فروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الإشارة بذلك إلى قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾
وروي عنه " أوفوا بعهدي " في اتباع محمد أوفِ بعهدكم في رفع الإصر والأغلال التي في أعناقكم "
وقيل: أوفوا بعهدي في ترك الكبائر أوفِ بعهدكم في غفران الصغائر، وقيل: أوفوا بعهدي في أداء الفرائض أوفِ بعهدكم في الإثابة عليها)، وقيل: (أوفوا بعهدي في الاهتداء إلى طريق الاستقامة أوفِ بعهدكم في الزيادة في الاهتداء وإيتاء الاتقاء - إشارة إلى ما قال:
﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾، وهذه الأوقايل اختلفت إما بحسب اختلاف النظرات، أو بحسب اختلاف العبارات، وفيما بين من الأصل معرفة نظر الكل، وإن عامة أقوالهم لا
وقال تعالى لهذه الأمة: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، فقال بعض المحققين في اعتبار الآيتين دلالة على تشريف هذه الأمة في أنه لما خصهم بفضل فهم وعقل، أمرهم بذكره بلا واسطة، وأمر بني إسرائيل أن يجعلوا ذكر الآية وصلة إلى ذكره، وذلك فصل قد أحكم في كتاب: (شرف التصوف)، وقوله: " فارهبون "، تقديره: ارهبوني، فحذف الياء لدلالة الكثرة عليه، وكون الفواصل كالقوافي، وفائدة تكرير الضمير توكيد للحث على رهبته، وأنها لا يجوز أن تكون إلا منه تعالى دون غيره، ومثله في تذكيرهم نعمة الله تعالى ما حكاه تعالى عن موسى قال لهم: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾
قوله - عز وجل -
﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾
" الآية: (٤١) - سورة البقرة ".
قد تقدم أن الإيمان مقتض للعلم اليقيني، ففي ضمن قوله تعالى: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ حث على استفادة العلم، إذ لا يحصل الإيمان الحقيقي من دونه، ونبه بقوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ أن لا منافاة بين ما أتى به الأنبياء من أصول العبادات، وأنهم كنفس واحدة من حيث يتساوى دعاؤهم إلى التوحيد والأركان الثلاث من الشرائع التي هي العبادات الخمس وأحكام الحلال والحرام والمزاجر، وإنما الاختلاف بينهم في جزئيات الأحكام وفروعها كيفما تقتضيه مصلحة قوم وزمان، فكل مصدق للآخر فيما أتى به من أن كليات شرائعهم متساوية، وأن فروعها حق بحسب الإضافة إلى زمان كل واحد منهم، وأمته حتى لو كان أحدهم في زمن الآخر لم ير المصلحة إلا فيما أتى به الآخر، ولذلك قال عليه السلام: " لو نشر موسى بن عمران لما وسعه إلا اتباعي "، وقوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ أي لا تكونوا أئمة في الكفر، فيقتدي بكم تباعكم، فتكونوا لأوزاركم وأوزارهم، كما قال تعالى
إن قيل: لم قال: " ولا تكونوا أول كافر به " وأنت لا تقول " كونوا أول رجل " وإنما تقول " رجال "؟ قيل: إن ذلك معناه: " أول كافر أو خرب مما لفظه المفرد، ومعناه الجمع على ذلك قول الشاعر:
فإذا هم طمعوا فالأم طاعم....
وإذا هم جاعوا فشر جياع
وقد أجاز بعضهم إخوتك أول رجل، أي أول الرجال إذا كانوا رجلاً رجلاً، والقليل والكثير من الأسماء المتضايقة، ويعتبران بالغير، وليس استعمال القلة في قوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ لأجل اعتبار ثمنين من أعراض الدنيا، كما تصوره بعض الناس فاعترض على الآية: وقال: ذلك
وإن امرءاً يبتاع دنيا بدينه...
لمنقلب منها بصفقة خاسر
وعلى هذا قوله تعالى:
﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾
الآية: (٧٩) - سورة البقرة.
وإنما ذكر في الآية الأولى.
(فارهبون) وفي الآية الآخرى (فاتقون)، لأن الرهبة دون التقوى، فحينما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم، وحثهم على ذكر نعمة التي يشركون فيها، أمرهم بالرهبة التي هي مبادئ التقوى، وحينما خاطب العلماء منهم، وحثهم على مراعاة آياته والتنبه لما يأتي به أولوا العزم من الرسل، أمرهم بالتوقى التي هي منتهى الطاعة...
قوله - عز وجل -
﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الآية (٤٢) - سورة البقرة.
اللبس والستر، والتغطية، والتعمية، والتموية، والكتمان، والإخفاء يتقارب، فالستر أعم الألفاظ، لأنه يقال في المحسوس والمعقول " سترت كذا بثوبي "، وسترته في نفسي، والتغطية في الأعيان فقط، واللبس أصله في الثوب، ثم يقال في المعنى أيضاً، وذلك أن يخلط حق بباطل، وصدق بكذب، والتعمية: ما جعل الإنسان عن إدراكه كالأعمى، والتموية: ما جعل على وجهه مواهة، والكتمان: يقال في الحديث ونحوه، وقوله: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ أخص من قوله: ﴿تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾، لأن اللبس هو الخلط بغيره، والكتمان إخفاؤه جملة، والأجود أن يكون قوله: ﴿وَتَكْتُمُوا﴾ جواباً بالواو منصوباً.
وإن صح أن يكون عطفاً مجزماً، فيكون أمراً بخصوص بعد عموم، وقراءة أُبيَّ:
قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ تعظيم لارتكاب الذنب، فإنه مع العلم بقبحة لأعظم عقوبة، ولهذا قال بعض الحكماء:
(لأن أدع الحق جهلاً به، أحب إلى من أن أدعه زهداً فيه، ولأن أترك جميع الخير جهلاً به أحب إلى من أفعل أقل الشر، بعد المعرفة بقبحه).
وقد تقدم الكلام في الحق، فأما الباطل: فالإثبات له عند الفحص عنه، والحق يناقضه، وذلك عام في الاعتقاد والمقال والفعال.
ولذلك قال الشاعر:
لقد نظقت بطلاً على الأقارع.
فاستعمله في القول، وفي الآية حث على تجنب الشر والنهي عن كل تلبيس وتمويه وإن كانت الآية واردة فيمن آمنوا ببعض الكتاب، وكفروا بالبعض، وجحدوا صفة النبي - ﷺ - وقول ابن عباس - رضي الله عنهما: [لا تخطلوا الصدق بالكذب وقول بن زيد] لا تخلطوا الحق الذي هو التوارة بالباطل الذي كتبتموه بأيديكم، فإشارة إلى بعض ما يقتضيه عموم الآية.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ " الآية (٤٣) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في إقامة الصلاة، فأما الزكاة، فأصلها من: " زكا الزرع، فهي بالنظر، العامي: تثمير المال باستجلاب تركه الله - عز وجل -، وبالنظر الخاصي: تتميز النفس، وهو تطهيرها بإخراج الحقوق من المال.
والتزكية قد تقال في المقال، نحو: " زكيت فلاناً، وعلى ذلك قوله: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾، وذلك نهي عن الثناء على النفس، فإنه من المستقبح بالعقل والششرع، ولذلك قيل لحكيم:
ما الذي لا يجسن وإن كان حقاً؟ فقال: مدح الرجل نفسه.
وقد تقال التزكية في الفعال، وهي ما يقتضي تظهير النفس المدعو إليه بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾
وقلما حث الله تعالى على إقامة الصلاة، أو مدح بها، إلا قرن بها إيتاء الزكاة، فبهما يتم الإيمان، وعليها دل قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾، وقوله: ﴿ارْكَعُوا﴾ حث على الخضوع وتذرع الخشوع، ويصح أن يكون مع ذلك - حثاً على مراعاة الجماعات في الصوات والاجتماع مع المؤمنين في كل مأمور به نحو قوله تعالى:
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، ولذلك قال: ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾
الآية (٤٤) - سورة البقرة.
البر: التوسع في أفعال الخير، بدلالة ما قاله - عليه السلام - وقد سأله أبو ذر عن البر، فتلا عليه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ الآية إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.
فذكر جملة أفعال الخير، فرائضها، ونوافلها، ومكارم الأخلاق كلها.
فالبر في ثلاث:
بر في معاملة الله تعالى وعبادته، وبر في معاملة الأقارب ومراعاة حقوقهم، وبر في معاملة الأجانب وإنصافهم.
واشتقاقه من البر هو الفضاء والسعة، ولهذا وصف المؤمن بسعة الصدر، والكافر بضده، نحو قوله تعالى:
﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾..
الآية، فسمي براً...
وقد وصف الله تعالى بالبر كما وصف به العبد، يقال " بر العبد ربه "، أي أطاعه، على ذلك قول الشاعر:
يبرك الناس ويفخرونكا
والله - عز وجل - بر عبده، أي وسع عليه إحساناً، ويقال: أبر فلان على فلان أي تقدمه ببر،
فثم الفتى كل الفتى كان بينه...
وبين المراجي نفنف متباعد
والنسيان: زوال الشيء عن الحفظ، فهو ضربان:
انفعال بغير فعل من صاحبه، وهو المعفو عنه بقوله - عليه السلام - " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ".
وأنه قال بفعل من صاحبه، وهو أ، يترك مراعاة المحفوظ حتى يذهب عنه، وهو المذموم بقوله تعالى:
﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾، وقال عليه السلام:
" من حفظ القرآن، ثم نسيه، لقي الله وهو أجذم "، ولما ورد هذا الخبر عن النبي - عليه السلام - كره ابن مسعود - رضي الله عنه أن يقول القائل: " نسيت آية كيت وكيت "، والق:
لتقل: " أنسيت، ومن جعل الإنسان من ذلك، فأصله عنده: " أنسيان "، بدلالة: " أنيسيان " في تصغيره، ومعنى تلاه: تبعه، والتلاوة في القرآن إتباع اللفظ اللفظ، أة: إتباع اللفظ بتدبر المعنى، وهو المراد بقوله: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾، والعقل: أصله المنع الشديد، ومنه: عقل البعير "، " والعاقول ": الدواء، يمسك البطن، والعقلية للنفس الممنوع عن الإخراج، والمعقلة، والعقال، واعتقل لسانه.
وقد ذكر الله تعالى " العقل " بأربعو أسماء: " العقل، والنهي، والحجر، واللب " وذلك بأنظار مختلفة -، فأكثرها ذكر العقل، وذلك لعقله عما يقبح وعلى ما يحسن، والنهي: لكونه ناهياً عن القبائح، والحجر: لجعل صاحبه في حجر عما لا يحسن، واللب: لكون ذلك الجزء من الإنسان، بالإضافة إلى
ولهذا قيل: " كفى بالمرء تهزياً أن يعظ غيره وينسى نفسه، ولأن المدعي لمصلحة هو يتجنبها إما كاذب في دعواه، و‘ما خبيث النفس، وكلاهما لا يقبل قوله، فإذا " حق الإنسان أن يبدأ بنفسه فيما يعظ به غيره، حتى يكون واعظاً بفعله كوعظة بقوله.
وروي أن رجلاً أتى ابن عباس [رضي الله تعالى عنهما] فقال: " إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله تعالى فافْعل.
قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، وقول شعيب: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾، وقد اتبع الله ذمهم بحكمين حقق غيهم أحدهما، قوله: ﴿وانتم تتلون) أي: تتدبرون التوراة، والثاني: قوله: (أفلا تعلقون) - تنبيهاً - أن الجامع للعقل ومتبع الكتاب ليس من حقه أن يأمر الغير بما لا يفعله، فذلك منبئ عن الجهل، فصارت الآية بما عقبت أبلغ من معنى قول الشاعر:
لاتنه عن خُلُق وتأتي بمثلُه....
عار عليك إذا فعلت عظيم
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ مثل هذه الآية في حث الإنسان على (العناية بالنفس) قبل العناية بغيره، لا نهياً عن الوعظ كما تصوره بعض الناس، حتى قال هذه الآية منسوخة..
﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾: الآية (٤٥) - سورة البقرة.
أصل الصبر: الإمساك في ضيق، ومنه: دابة مصبورة، والصبرة من الطعام للجمعة منه، وفي التعارف: إمساك النفس على ما يقتضيه العقل وعما يقتضيه، وذلك ضربان: صبر عن المشتهى، وهو العفة، وصبر على المكروه وهو الشجاعة، وقيل الصبر: الصوم، لقوله عليه السلام: (صيام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهب كثيراً من وحر الصدر)، وتسميته بالصبر، لكونه بعضه، إذ هو إمساك الشهوة، ولهذا قال عليه السلام:
" الصوم نصف الصبر "، والصلاة أرفع منزلة من الصبر، لأنها تجمع ضروباً من الصبر، إذ هي حبس الحواس على العبادة، وحبس الخواطر والإفكار على الطاعة، ولهذا قال:
﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، وخصها برد الضمير إليها دون الصبر، وأما الصلاة التي تخفف على غير الخاشع، فإنها مسماة باسمها، وليس هي في حكمها، بدلالة قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، ومثلها، وقل ما ترى صلاة غير الخاشع تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ومثلها في رد الضمير على أحد المذكورين لاختصاص العناية به، قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾، فأعيد الضمير إلى التجارة - لما كانت سبب انفضاض الذين نزلت الآية فيهم، ولأنه قد تشغل التجارة عن العبادة من لا تشغله اللهو، وعلى ذلك قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لما كان حبس الفضة عن الناس أعظم ضرراً، إذ كانت
قوله - عز وجل -:
﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾...
الآية (٤٦) سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في الظن، وأنه أعم ألفاظ الشك واليقين، وأنه اسم لما تحصل عن أمارة متى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت حداً لم يتجاوز حد الوهم، [وأنه متى قوي استعمل معه أن المشدةة، و " أنْ " المخففة منها]، ومتى ضعفت استعمل معه " أن " المختصة بالمعدومين من الفعل نجو " ظننت أن خرج، وأن يخرج " فالظن إذا كان بالمعنى الأول فمحمود، وإذا كانت بالمعنى الثاني: فمذموم، والآية من المعنى الأول والمعنى الثاني كقوله: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾، وقوله: ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾، وعنى بلقاء الله " الموت " وبالرجوع إليه " الثواب والعقاب "، وتخصيص ذكر الظن ها هنا إعلام بأنهم في كل حال لا يأمنون الموت، ولو كان بدله العلم، [لم يصح على الوجه] الذي يصح فيه الظن، لأنك تقول: " أظن أني أموت في كل حال، وأما قوله ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾، فهو نهاية في الذم، ومعناه: ألا تحصل لهم أمارة تنبههم على التفكر في ذلك - تنبيهاً
وقوله - عز وجل -:
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾
الآية (٤٧) سورة البقرة.
الفضل: كالزيادة، إلا أنه أخص منها، وهو من الأسماء المتضايقة، كالكثير، والقليل، والكبير، والصغير، ويستعمل على اعتبارين: أحدهما: اعتباراً بالطرف الذي هو النقص، وذلك يستعمل على سبيل المدح، والثاني: اعتباراً بالوسط الذي هو العدل والسواء، ويستعمل ذلك على وجهين: أحدهما: الزائد على العدالة على سبيل الاستظهار، وهو السماحة والإسماح ببعض ما لا يجب عليه، أو بترك بعض ما لا يجب له، وذلك هو المعنى بالإحسان: في قوله:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾، وبالزيادة في قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾، وإياه عنى بقوله: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، والثاني: الإفراط الجاري في الذم مجرى التفريط، كالإسراف والتبذير المنهي عنه بقوله: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا﴾، وقوله: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾، والمعبر عنه بقول العامة: " الزيادى على الكفاية نقصان "، وأكثر ما يعبر عنه بالفضلة والفضالة فالزيادة على الاعتبار الأول فضيلة، وهو استظهار في العدالة، وعلى الاعتبار الثاني رذيلة، وهو ترك العدالة، والتفضيل: يستعمل على وجهين: إما بمنحة خص المفضل بها نحو قوله: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾، فإن ذلك أمور خص بها بنو آدم ابتداء، وأما الحكم للمفضل بالفضل الحاصل منه، نحو قوله: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، فالأول: يجب على العبد به الشكر، إذا هو مدح له، نوليس له به حمد، والثاني: يجب له به حمد، ويستحق به الثواب، وأما العالمون: فقد تقدم الكلام فيه، وأنه تارة يقال لجميع ما أوجده الله تعالى من الفلك، وما يحويه عالم بلفظ الإفراد، وتارة
فواحدهم في الورى عالم.
إن قيل كيف قال: فضلتكم على العالمين وقد قال تعالى لهذه الأمة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ الجواب: أن التفضيل الذي يكره الله تعالى هو الفضيلة التي خص بها نبو آدم، المعنية بقوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ الآية، وبنو إسرائيل وإن كان قد شاركهم غيرهم في هذه النعمة، فإنهم لما نسوا نعم الله تعالى خصوا بالنداء لتذكيرهم، كقولك: " يا فلان نسيت نعمة الله عليك "، وقد تقدم أنه ربما يخص بالمخاطبة لتذكيرهم بعض المعنيين بالحكم، لأنه أرفعهم منزلة، أو لأن العناية ما أعطوا من المن والسلوى وإظلالهم بالغمام، والحجر الذي تفجر منه الأنهار، وغير ذلك: وقيل: إنه جعل كل فرقة أو كل نفس في زمانهم عالماً، وذكر أنه فضلهم على غيرهم ممن في زمانهم، وقيل: إن ذلك بمارشحهم له من الإيمان بالله ورسوله والأعمال الصالحة، فإن من فعل ذلك كان هو المفضل على العالمين، كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾
إن قيل: كيف قال ذلك وهذه النعم كانت على أسلافهم؟ قيل: قد قال بعضهم: لما ذكر الله تعالى ذلك في التوراة على سبيل الخطاب، أعاد اللفظ على الحكاية، وقيل: " النعمة على الإنسان ضربان ": نعمة تصل إليه من المنعم بلا واسطة، ونعمة تصل إليه من المنعم بواسطة، أو بوسائط وذلك كتسخير الله من يزرع لنفسه زرعاً يصل إلينا نفعه على بعض الوجوه، فهذا الزارع منعم علينا، وعلى هذا قيل: إن الله تعالى منعم على كل واحد منا بأكثر ما يتعاطاه الناس من أعمالهم من المهن والصنائع المرفقة لأنفسهم، ونحو هذه الآية قول الله - عز وجل - ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ وأعاده قوله:
قوله - عز وجل -
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾...
الآية (٤٨) سورة البقرة.
الجزاء والمكافأة، والمقابلة متقاربة، لكن الجزاء أعمها، لأن المكافأة: يعتبر فيها المماثلة والمقابلة: يراعى فيها المجازاة، والجزاء لا يراعى فيه شيء من ذلك، ويقال: جزاه " بلا همزة "، يجزيه، أو " أجزاه " بالهمزة، ففي الجزاء معنى العناء، والقبول تناول المقبل، ومنه القابل: المتناول الدلو، وأصل ذلك من قَبل وقُبل.
فقبل يستعمل في المتقدم المنفصل، ويضاده بعد، وقبل: في المتصل، ويضاده: دبر، وقد جعل كناية عن السوءتين، ويقابل القبول الرد.
والشفاعة: جعل الفرد شفعاً يقال: شفعت له، أي صرت شفعاً له بانضمامي إليه، وعبر عمن انصم إلى غيره في طلب ما " شافع "، وعلى ذلك قول الشاعر:
له من عدو مثل ذلك شافع.
ومنه الشفعةُ، وأصلها ضم ملك إلى ملكه، وشفعه به، والعدل: التسوية، يقال: عدلته، وانعدل، وعدلته، فاعتدل، وعدل الشيء مساويه بلا إفراط ولا تفريط، وأكثر ما يقال في المساوي من حيث الحكم نحو قوله - عز وجل -:
﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾، والعدل: يقال في المساوي، في الكمية في الوزن والكيل، وقيل الفداء: العدل إذا اعتبر فيه معنى المساواة، وقولهم: " لا يقبل منه صرف ولا عدل ".
والنصرة أخص من المعونة، فإنها تختص بدفع الشر والظلم، وقيل أرض منصورة: إذا أتاها المطر بعد طول مدة، والقصد بالآية التقوى من يوم لا يكفي أحد أحداً.
وقد أعاد تعالى هذا المعنى في غير موضع، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا﴾
وقوله: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾، وقوله: ﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا﴾، تنبيهاً أن لكل واحد ما يستصحبه من الإيمان والأعمال الصالحة: كما قال: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾،
إن قيل: كيف قال ذلك، وقد أثبتت الشفاعة في غير آية، قيل: هذا رد على اليهود فيما ادعوه حيث قالوا: " نحن أبناء الأنبياء وهم يشفعون لنا وإن ارتكبنا (ما ارتكبنا)، فنبه على أنه ليس لهم شفاعة كما قال: ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾، وقوله: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾، والضمير من قوله - عز وجل - ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا﴾ راجع إلى النفس الأولى وقيل أنه راجع إلى الثانية، وفي قوله: ﴿وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا﴾ راجع إلى الثانية لا محالة، وقوله: ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾، أي ليس لهم من ينتصر من الله تعالى بأن يمنعهم من عذابه إشارة إلى قوله تبارك وتعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ﴾، وقوله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي﴾، قيل: معناه: ﴿لَا تَجْزِي﴾ فيه، فحذف، وهو قول الكسائي، وقال البصريون، وصل الفعل إليه.
فنصبه نحو قول الشاعر:
ويوم شهدناه سليماً وعامراً
ثم حذف الهاء كحذفه من " الذي ضربت ".
وحقيقة الخلاف أن ما يقدر الكسائي حذفه بدفعه يقدره البصريون بدفعتين، ولا خلاف أن الأصل كان في ذلك فيه وأنه لا يطرد في كل مكان حذف الجار مع المجرور.
﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ الآية (٤٩) سورة البقرة.
أصل النجاء: طلب الخلاص، ويقال لمن عدا نجا، لكون العدو أحد أسباب التخلص، فإن الله تعالى جعل للحيوانات قوتين تزيل بهما الأذى، قوة بها تهرب مما يؤذيها، وقوة بها تدفع ما يؤذيها، فمن الحيوانات ما يختص بأحديهما، ومنها ما جعلتا جميعاً به، فإذاًَ: العدو أحد أسباب الخلاص، فصح أن يعبر عنه به، وقيل: " نجا فلان)، إذا ألقة ثوبه وذلك استعارة له، كما استعير إلقاء الثوب للعدو في نحو قولهم: " القى بزه " وخلع ثوبه، وعلى ذلك قوله:
ألقيت ليلة خُبث الرهط أرواقي
وسميت الربوة " نجوا " اعتباراً بأنه منجي من السيل وكثير من الآفات التي تكون في الوهاد، وكنى عن العذرة الملقاة بالنجو إما اعتباراً بأنه خلاص من الأذى، أو كناية عنه بالنجو، كما كنى عنه بالغائط ولما اعتقد في السر أنه خلاص من الوشاة والعداة سمي بنجوى، وبهذا النظر قال الشاعر:
ونجعل نجوانا نجاة من العدا...
والآل: قيل هو مقلوب عن الأهل، كالماء عن الموه، ويصغرُ على أهيَلْ، كما أن الماء مصغر على مُويْه، إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة، يقال: " آلُ فلان "، ولا يقال: آلُ مكة، وزمان كذا: هو اسم للشخص، ويصغر على " أوائل "، وهو قول الكسائي، ويستعمل فيمن اختص بالإنسان اختصاص ذاته به إما بقرابته قربته، أو بموالاة دينه، أو كالدينية، فقد أجرى الموالاة الدينية مجرى القرابة واللحمة حتى قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾،
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، ولاختصاص الآل بما قلنا، قال تعالى: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ وقال هذا القائل: أهل الدين من النبي - عليه السلام - ضربان: ضرب يتخصص منه بالعلم المتقن والعمل المحكم، فيقال لهم: آل النبي، وضرب يتخصص منه بالعمل على سبيل التقليد دون العلم المتقن، ويقال لهم أمة، فكلُّ آل النبي أمته، وليس كل أمته آلهُ، وقيل لجعفر بن محمد: إن ناساً يقولون: المسلمون كلهم آل النبي، فقال: كذبوا وصدقوا، قيل: فما معنى كذبوا وصدقوا؟ قال: كذبوا: أن الناي على ما هو عليه من التقصير في دينهم هم آل محمد، وصدقوا: أنهم آله إذا قاموا بشريطه شريعته، فمن ضيع الشريطة، فليس منه وإن قرب نسبه، ومن حافظ على شريطته فهو منه وإن بعد نسبه، والسومُ: أصله الذهاب في إبتغاء الشيء، فهو لفظ لمعنى مركب الذهاب والابتغاء فإنه جرى مجرى الذهاب، فقيل: " سام الإبل "، فهي سائمة إذا ذهبت في المرعى، و " سمته كذا "، كقولك نعيته كذا، ومنه السوم في البيع، فعدى تعديته والسوء: يتناول كل ما يسوء الإنسان من آفة وداء، ويقال: السوء والسوى، أي: نحو الحسن والحسنى، وعلى سبيل كراعية ذكر الفرج والنظر إليه، كنى عنه بالسوءة، وكذا كنى عن البرص بها، وسوء العذاب: أي شدة العذاب، والذبح أصله شق الأوداج، وقيل: ذبحت الفارة النافجة على الاستعارة، لما شبه ذلك الوعاء بفارة فسمي بها، والذباحة: كأنه يذبح بشدته وكونه في المذبح، وخصت سنا يكثر في الأدواء، نحو: خراجة تخصيص التذبيح دون الذبح تنبيهاً على كثرة ذلك منهم، والاستحياء: كالاستبقاء، وهو تحري طلب الحياة فيهن، وقيل: معناه: يبتغون ما في أرحام النساء مشتقاًَ من
جزى الله بالإحسان ما فعلابكم...
وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
ومن أعظم الرزء فيما أرى...
بقاء البنات وموت البنينا
وقيل كان ذبحهم للأبناء استخدامهم في الأعمال القذرة الجارية مجرى أعظم الذبحين القتل، والإهانة، قال: وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ﴾، وفيها حث لنا على تذكر نعمه ومراعاتها واحدة واحدة، وتجديد الشكر لكل منها...
﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ الآية: (٥٠) سورة البقرة.
الفرقُ، والفلقُ، لكن الفلق لا يكون إلا بين جسمين، والفرق: قد يكون في الأجسام والمعاني، وفي هذه القصة قد جاء اللفظان، قال تعالى: ﴿فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ أي كل قطعة من الماء، والفرقان: كل كتاب يفرق بين الأحكام، وسمي عمر - رضي الله تعالى عنه - فاروقاً لأجل أن النبي - ﷺ - قضي ليهودي على منافق، فأتى عمر وقال " إن محمداً قضى بيني وبين هذا، ولست أرضي قضاءه فاقض بيننا "، فقال: أو رضيت قضائي؟ قال: نعم، فدخل داره، وأخرج السيف وحز رأسه، فنزل جبرائيل - عليه السلام - وقال: (إن عمر قد سمي في السماء فاروقاً).
والبحر: استعير للسعة، فقيل: بحرت مذا أي: " وسعته كسعته "، وقيل بحرت الناقة: أي: شققت أذنها شقاً واسعاً، والباحر: الأحمق الموسع عليه من جهة رفع العقل عنه، وكأنه اعتبر في تسميته بلذك مقابلة العاقل، فقد جعل أسماء العقل كلها معتبراً فيه الضيق، والشدة، والفرق، والرسوب في المآثم شبه به غيره حتى قيل: غرق فلان في النعمة، وغرقه من اللبن أي مليء قدح، وأغرق في الشيء إذا تناهي والنظر نظران، نظر بصر، وبه يدرك المحسوسات ونظر بصيرة، وبه يدرك المعقولات، ونظر البصر كالخادم لنظر البصيرة فإن كان كلاهما سبيلاً إلى المعرفة، والنظير أصله للمناظر، كأنه ينظر كل واحد من الناظرين إلى صاحبه في المشاكله، وناظرته: باريته في النظر، وأنظرته: تركته ينظر فيطلب، ومعنى الآية ما ذكره في قوله ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى﴾ الآية، وفي قوله: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}، وفي قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ لما كان النظر متردداً بين المحسوس الذي منه
﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾
الآية (٥١) سورة البقرة.
فرئ: " واعدنا " اعتباراً بالموعود وقبوله من الواعد وعده، فكان من كل واحد منهما وعداً، هذا بالإعطاء، وذلك بالقبول " ووعدنا " هو للاعتبار بالواحد دون الموعد، وعلى الثاني أكثر ما في القرآن نحو: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ ﴿وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا﴾ ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ﴾ وتقدير أربعين ليلة انقضاؤها كقولك: اليوم أربعون يوماً منذ خرج زيد، أي تمامها، وقيل: إنما وعدهم ذلك في الأربعين، وأن لا يتجاوز هذا القدر، وهو الأصح، وقوله: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ على ذلك، فإنه قيل له: يكون ذلك انقضاء ثلاثين، ثم كان عند الأربعين، فلم يكن في الوعد إخلاف، وإنما كان فيه بعض الإبهام، فلهذا التبس عليهم، وذكر تعالى عظم جهلهم، وأنهم بعدما أعطوا من البينات ورشحوا لما وعدوا، تهافتوا على عبادة عجل اتخذوه وقوله: وأنتم ظالمون: عنى به الظلم المطلق وهو الكفر، وقد تقدم الكلام في أنواع الظلم وأنها بالقول المحمل ثلاث أعظمها الكفر، وفي الآية حث على معرفة ما وعدنا الله تعالى به ومراعاته والمنع من الاشتغال عنه تعالى بشيء بغيره، وعلى هذا الوجه قال بعض الناس: كل ما شغلك عن الله فهو عجل متخذ وطاغوت متع وشيطان مطاع ومبدأ كل ذلك اتباع الهوى، ولذلك قال: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وقال وهذا وإن لم يكن كفراً فهو شرك وبهذا الوجع قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾
﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ سورة البقرة الآية (٥٢)...
العفو: القصد لتناول الشيء يقال: عفاه، واعتفاه وعفت الريح الدراري قصدته متناولة منها أثارها ولهذا المعنى قال الشاعر:
أخذ البلى آياتها
وإذ قيل: " عفا فلان عن فلان " كأنه قصد تناول شيء ما منصرفاً عنه والمفعول به مترك لكونه غير مقصود وذلك كقولهم ذهبت عما ارتكبته وتجاوزت عنك: أي تجاوزت إلى شيء ما وعفا النبت والشعر أي قصد تناول الزيادة كقولهم: أخذ النبت في الزيادة وقولهم أعطى عفوا فعفوا مصدر في موضع الحال، أي أعطى وحاله حال العافي في الاهتزاز - إشارة إلى المعنى الذي عد بديعاً للشعراء في نحو قول الشاعر:
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
والشكر: مقابلة الصنيعة بإظهار، ومنه: دابة شكور، إذا كانت مظهرة احسان صاحبها إليها، وضره شكري من ذلك والشكر: كناية عن الفرج المزوج، لكونه مقابلاً للمهر مقابلة الشكر للمشكور عليه، والشكر ضرب من العدالة، إذ هو في مقابلة النعمة، وأعم من المكافآت فإن المكافأة يعتبر فيها تارة مماثلة في الكمية وتارة في حال المكافئ والمكافأ والشكر: لا يعتبر فيه ذلك.
وأيضاً فالشكر قد يكون باللسان تارة، وبالمقابلة تارةً وقد تقدم الكلام في (لعل) وأنه وإن كان مقتضياً
قوله - عز وجل -:
﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ الآية (٥٣) - سورة البقرة.
الكتاب والفرقان: اسمان لشيء واحدٍ لكن يقالان باعتبارين مختلفين أما الكتاب، فلجمع الأحكام المتفرقة فيه، وأما الفرقان: فلكونه مفرقاً بين الحق والشبهة وبين الأحكام المختلفة، وأتى باللفظين تنبيهاً على تضمين التوراة للمعنيين وهذا أصح من قول من قال: تقديره: " وإذ آتينا موسى الكتاب ومحمداً الفرقان " فغن التوراة والقرآن كل واحدٍ كتاب من وجهٍ، وفرقان من وجه، وقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ﴾ وما قالوه من أن الفرقان أريد به فرق البحر فلا يمتنع إرادته مع ما تقدم، والإيتاء منقول عن: أتيت لكن تعورف في الإعطاء لما كان الإعطاء ضربان من الإيتاء وقد تقدم الكلام في " لعل " وفي الابتداء.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ الآية: (٥٤) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في الظلم، فأما ظلم النفس، فقد يقال لكل فعل يباعدها عن توفيق الله تعالى في الدنيا وعن قوابه في الآخرة صغيراً كان أو كبيراً وقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
فالأظهر أن فعل الفاحشة وعمل السوء للكبيرة، وظلم النفس في الآيتين للصغيرة.
وفي الجملة: فإن ظلم النفس هو الخروج عن الاعتدال صغيراً كان أو كبيراً وقوله: " تبارئكم " فأصل البرء خلوص الشيء عن غيره إما على سبيل التقصي منه، أو على سبيل الإنشاء عنه فعلى التقصي قولهم: برئ فلان من مرضه، والبايع من عيوب مبيعه، وصاحب الدين من دينه، ومنه: استبراء الجارية، فإنه أراد تقصيها من " ما " ومن " عسى " أن قد غشيها من قبل، وعلى سبيل الإنشاء: قولهم: أبرأ الله الخلق وقوله تعالى: ﴿الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ فإشارة إلى أحوال ثلاث، فالخلق: إلى إيجاد البدن، والبرء: إلى إيجاد الروح، وهي النسمة التي عناها أمير المؤمنين بقوله: " والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة "، والتصوير إلى الجمع بينهما وإلى ثلاثتها أشار بقوله: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ الآية وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾ وأما البرية فكثير من الناس ذهبوا إلى أنها منه، فترك همزة، كالذرية والنبي الخابية ومنهم من قال: البرى.
أي التراب، أو من البرى، وإليه ذهب الكسائي قبرا هي اعتباراً بالأرواح، ويرى اعتبراً بالأشباح والقتل معروف وقد يستعمل في معنى
إن التي ناولتني فرددتها....
قتلت قتلت فهاتها لم يقتل
وفلان قتل فلاناً، أي: مثله، فأصله مقاتلة، فتصور منه معنى المماثلة، لكون المقاتلين متماثلين في فعليهما المختص بهما، وإذ قيل: فلان قتل نفسه، فقد يقال: إذا فعل بنفسه فعلاً أزال به الروح، وقد يقال إذ سلم نفسه للقتل، وإن كان أكثر ما يقال في ذلك المستقتل وقد يقال: إذ قيل من يختص به اختصاص نفسه نحو: فلم أقطع بهم إلا بنائي، وقوله: وإذا رميت يصيبني سهمي
وقد يقال: قتل فلان نفسه، إذا ضيع حظها في طلب الآخرة، فأدى به ذلك إلى زوال حياته الأبدية، وذلك مذموم، وقد يقال في ضد ذلك وهو إذا أفنى شهوته وذلك هواه في الدنيا طلباً للآخرة، وذلك محمود، وعلى الاول قال جعفر بن محمد في قوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: اطلبوا لها الحياة الأبدية، وعلى هذا قيل: " قتل النفس إحياءها، وإحياءها قتلها، يعني في حالة وحالة، وروى أن الله تعالى أوحى إلى موسى (أن من أحبني قتلته، فقال يارب: إذا انتهيت في الخلة لم أبال بقتل الدنيا) وقال بعض الحكماء: " من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحبها (فاقتلوا أنفسكم) حملوه على أكثر هذه الوجوه، قال بعضهن: أمروا أن يجبا كل واحد نفسه بالسكين، وقيل: أمروا أن يسلم كل أحد للقتل، وقال أكثرهم: " أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً فكان الرجل يقتل أباه وأخاه غير متحاش من ذلك قال بعضهم: أمروا أن يزيلوا شهواتهم ويفنوا نفوسهم الشهوية في الوصول إلى رضاء الرب ويبلغوا إلى الحياة الأبدية وقد طعن في هذه الآية بعض الملحدة، وزعم أن قتل
بين تعالى بقوله: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ﴾ أن ذلك خير بالاعتبار بالأمور الإلاهية
إن قيل: لم أعاد ذكر " بارئكم "؟
والإتيان بالضمير في مثله أحسن؟ قيل: إنما يحسن الضمير إذا لم يشتبه ولم يقصد بالتكرير تعظيم الأمر، وكان ذلك في جملة واحدة أو ما حكمه حكم الجملة الواحدة، فأما إذا لم يكن كذلك فتكريره أحسن وقد حصل ههنا الأحوال الثلاث فإنه جرى ذكر موسى والعجل فلو قيل عنده: يصح توهم إرادة أحدهما ثم قد علم أن المقصود في مثل هذا الموضع تفخيم الامر ثم قوله: (ذلك خير لكم) جملة أخرى غير الأولى..
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
وإنما استقبح لأنه قوله: يسبق الموت " مفعول ثان " لقوله: لا أرى الموت فصار المصراع كله جملة واحدة، والكلام في التوبة والثواب قد مضى، وعند قوله: (بارئكم) أي في حكمه وفيما يرتضيه نحو قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ والشيء الذي يرتضيه تعالى تارة ينسب إليه، فيقال: [هو] له وتارة يقال: " هو من عنده " و " هو عنده " وقد بين في قوله: (وإذ واعدنا موسى) ما ارتكبوه من الذنب، وبين في هذه الآية ما قال لهم موسى - عليه السلام - عند ارتكابهم ذلك الذنب، وأن موسى - عليه السلام - مع تعظيم ما ارتكبوه لم يخلهم عن النصح لهم وتصريفهم بين بلاء النعمة والنقمة حسب ما أمره الله تعالى.
قوله - عز وجل -:
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾
الآية (٥٥) - سورة البقرة.
[الرؤية] إدراك المرئي، وذلك على أوجه بحسب اختلاف قوى الإنسان فالأول [الرؤيا]
(ترون ربكم - عز وجل - كما ترون القمر ليلة البدر) والمشار إليها بقوله - عز وجل - ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾.
ولا يحصل في الدنيا إلا لبعض الأنبياء في بعض الأحوال، وذلك بتصور أفعاله تعالى مجردة عن أفعال المخلوقين بلا شبهة تعتريه ولتعري نفسه من الشهوات والهوى، ولكون ذلك لبعض الأنبياء في حال دون حال، قال عليه السلام:
" رأيت ربي في بعض طرقات المدينة "، بمعنى وأنا فيها وقال تعالى:
﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ الآية (٥٦) - سورة البقرة.
البعث إرسال المبعوث عن المكان الذي فيه، لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المعلق به، فقيل: بعثت البعير [من] مبركه، أي: أثرته، وبعثته في السير، أي: هيجته، وبعث الله الميت: أحياه، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال، وكل ذلك واحد في الحقيقة، وإنما اختلف لاختلاف صور المبعوثات، والموت حمل على المعروف وحمل أيضا على الأحوال الشاقة الجارية مجرى الموت، وليس يقتضي قوله: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ انهم ماتوا، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ لكن الآية تحتمل الأمرين، وحقيقة ما كان إنما يعتمد فيها على السمع المتعري عن الاحتمالات والكلام في ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ قد تقدم، ونبه بالآية على أنه تعالى ينقذ من الشدائد عبده حالاً فحالاً تنبيهاً له من غفلته وإليه أشار بقوله: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾..
وقوله - عز وجل -:
﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ الآية (٥٧) - سورة البقرة:
الظل في الحقيقة عدم الصبح وسمي سواد الليل ظلاً لعدم الصبح فيه والظلة كالصفة، والمظلة آلة يطلب بها الظل، و " أظل فلان علينا حقيقته " ألقى ظله علينا لدنوه منها واستعير الظل للمكان الذي فيه النعمة تصوراً له في اليوم الصائف حتى قيل: فلان في ظل فلان، وقد أشار ابن عباس - رضي الله عنهما - إلى أن [الغمام] ههنا فيض الباري - عز وجل - وتوفيقه وإحسانه، فقال: هذا الغمام
وقوله: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ قد تقدم الكلام في الرزق، وأنه بالنظر الخاصي ليس يتناول الأعراض الدنيوية فقط، بل جميع ما خولنا ومكننا منه من النعم الثلاث النفسية والبدنية والخارجية ولم يرد بالطيب المستطاب بحاستي الذوق والشم، بل المستطاب من كل وجه محسوساً ومعقولاً وعاجلاً وآجلاً، والطيبات من الطعام هي المتناولة بحكم العقل والشرع من حيثما يسوغ تناوله في وقت ما يحتاج إليه [إلى تناوله وبقدر ما يحتاج] غير مسرف فيه ولا مشتغل به عما خلقنا لأجله ومتى تؤول على هذا الوجه يكون طيباً على الإطلاق وإلا فإن طاب من وجه خبث من وجه وعلى ذلك
﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ الآية (٥٨) - سورة البقرة.
الدخول والولوج والتفحم والتوغل متقاربة، لكن الدخول عام، والولوج الدخول في مضيق والتفحم دخول في شدة، والتوغل في مشتبك شجر، وأوردت الإبل دخالاً إذا تداخلت في الورود وفلان دخيل في القوم، وفيه دخل كناية عن الفساد، ودخول في مغمرة بالكلام، والدخل طائر صغير سمي بذلك لدخوله.
خلال الشجر الملتفة، والحجر الضيقة، والقرية من قريت الشيء جمعت، وقيل أصله قرية، والقرى مجمع الماء، فكل بقعة يجتمع فيها الماء والأبنية قيل قرية، والمقرى للحوض، والقرى للحوضن والمكيلة، و (حطة) فعلة من حططت وقرى نصباً ورفعاً، وبالنصب قيل هو مفعول بها نحو: قلت كلمة طيبة، وقيل هي في موضع سؤال أي: حط عنا ذنوبنا، نحو غفراً لنا، وبالرفع قيل هي حكاية، كأنه قيل: ما نسأله حطة، وقيل معناه هو مغلم تحطون فيه رحالكم، والغفر ستر بحائل ومنه المغفر للبيضة والغفارة لخرقة يغطي بها الرأس ولما تلف على سنة القوس، وغفر المريض " نكس كأنه غطى المرض على عقله أو على صحته، وغفر ذنبه استعارة في الأصل، كقولهم: " ليست عليه ذيلي، والخطايا على ضروب أحدها أن يريد غير ما يحسن إرادته ويفعله فهذا هو الخطأ التام [من كل وجه] المأخوذ به الإنسان والثاني أن يريد ما يجوز فعله، لكن وقع منه خلاف ما أراد فيقال:
وبدخول الباب سجداً سلوك الاستقامة على التذلل والتخضع، وبقوله: (حطة) إلى الاستغفار قولاً وفعلاً طلباً الذنوب، وقال بعضهم: الإشارة به إلى التحقق بالعلم الذي أتاهم به موسى - عليه السلام - وتناولهم منه والتمسك به فهو الحلال الحلو الذي يتناول بلا خطر، إذ إن جميع المتناولات في
قوله - عز وجل -:
﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾
الآية (٥٩) - سورة البقرة:
التبديل والتغيير يتقاربان، لكن أكثر ما يقال التبديل في شيء يجعل مكان آخر، والتغيير في حالة للشيء تغير كالماء الحار إذا جعل بارداً، وقيل: الأبدال من الناس هم قوم يجعلهم الله مكان آخرين ممن هم [المعنيون من العالم] الذين بدلوا أحوالهم البهيمية بالأحوال الملكية حسب الطاقة، والرجز: الرجس والنجس يتقاربان معانيها بتقارب ألفاظها نحو: السراط والزراط، والبراق والبساق، وأصل ذلك لما يعافُ ذوقاً أو شماً أو عقلاً أو شرعاً، فالكريهُ بالعقل والشرع يعبر عنه بالخبيث والقذر ونحو ذلك، كما يعبر عن ضده بالطيب والنظيف، وعلى ذلك قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾، وقوله
إن قيل: لم قال: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ ولم يقل: (فأنزلنا عليهم) مع أنه كان أوجز؟ قيل: قصداً إلى
قوله - عز وجل -:
﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾
الآية (٦٠) - سورة البقرة.
الاستسقاء طلب السقي أو الإسقاء، فالسقي أن يجعل له ماء يشربه، والإسقاء التعريض للماء، وجعله له ليتناوله منتى أراد، فهو أخص معنى من السقي، والسقي اسم مفعول نحو النقض والنكث، فيقال للماء سقي، وللأرض التي يجعل فيها الماء سقياً، والعصا اصله من الواو، بدلالة قولهم عصوته نحو هروته إذا ضربته بهما، وقيل عصيته بالسيف، وعصى فلان أصله أن يتناول العصا فيضرب بها، ثم كثر فعبر به عن الخارج من الطاعة، فصار العصا اسماً للطاعة حتى قيل: شق فلان العصا، ولما كانت عادة المسافر ملازمة العصا قيل: ألقى فلان عصاه إذا ترك السفر...
والانفجار والانبجاس، والانصداع والانشقاق يتقارب، لكن الانشقاق عام، والانصداع أكثر ما يقال في الأشياء الصلبة.
والانفجار في الأشياء اللينة، ومنه " فجرة الوادي " للمكان الذي ينبعث منه الماء، واستعير للخروج عن خطر الشريعة لتصور الفاجر بصورة الماء المنفجر من الحوض، واستعير الانفجار والانصداع والانشقاق لظهور الفجر، وقولهم: فَجَرَ أي كَذَبَ، هو استعمال لفظ عام في موضع خاص، فإن الكذب بعض الفجور، إذ قد يكون الفجور قولاً وفعلاً، والانبجاس يقارب الانفجار، إلا أن الانبجاس لا يكون إلا واسعاً، والانفجار يستعمل في الضيق والواسع، فكلُّ انبجاسٍ: انفجار، وليس
فإن قيل: فما فائدة قوله ﴿مُفْسِدِينَ﴾، والعثو ضرب من الإفساد، وقيل: قد قال بعض النحويين إن ذلك حال مؤكدة، وذكر ألفاظاً مما يشبهه، وقال بعض المحققين، " إن العثو وإن اقتضى الفساد فليس بموضوع له، بل هو كالاعتداء، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد وهو مقابلة المعتدي بفعله، نحو: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، وهذا الاعتداء ليس بإفساد، بل هو بالإضافة إلى ما قوبل به عدل، فلولا كونه جزاءًَ لكان إفساداً، فبين تعالى أن العثو المنهي عنه هو المقصود به الإفساد مكروه على الإطلاق، ولهذا قال: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾، وقد يكون في صورة العثو، والتعدي ما هو صلاح وعدل على ما تقدم، وهذا ظاهر، والمروي في الخبر أنه كان مع موسى - عليه السلام حجرٌ إذا نزلوا منزلاً وضعه فضربه بالعصاة فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً لكل سبط عين، وأنكر ذلك بعض الطبيعيين واستبعده، وهذا المنكر مع أنه لم يتصور قدرة الله في
﴿قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾، وأمره أن شرع لهم بالسنة الأسباط الأثنى عشر أنهاراً من العلوم يتناول كل فرقة على قدر منزلته واستحقاقه من مشربه، وقيل: إن موسى - عليه السلام - طلب لهم العلوم الموهبية وهي الحكمة الحقيقية التي نبه عليها الخضر حيث قال له موسى عليه السلام: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾، فبين الله تعالى له أن منزلة (بني إسرائيل) تقصر عن إدراك ذلك، وأمره أن يأخذهم بالعلوم والأعمال الظاهرة، وذلك هو الاعتقادات والعبادات والمعاملات والمزاجر التي قد بنيت عليها الشرائع كلها ولكل واحد من ذلك ثلاثة منازل منزلة الظالم والمقتصد والسابق، وهو العامة والجامة والخاصة، فالعامة تؤخذ منها بالقهر السلطاني، والجامة بالقهر العلمي والخاصة بالقهر اليقيني، فهذه اثنتا عشر خصلة من استكملها بلغ منزلة من وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ ووصف به أصحاب الكهف في قوله تعال: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (١٣) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾، الآية، وهذه الأقوال محققة في أنفسها وإن لم تكن مقصودة في الآية والله أعلم.
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ الآية: (٦١) - سورة البقرة.
الصبر الحبس على المكروه، وذلك ضربان: أحدهما: حبس الغير، فيتعدى نحو: صبرت الدابة، وصبرت يمينه أي: حلفته بالله حلفة لا خروج لها منها، والثاني: حبس النفس، ولا يتعدى في اللفظ، وهو حبس النفس عما يقتضيه الهوى أو على ما يقتضيه " الهوى " والعقل، ويختلف مواقع الصبر، وربما خولف بين أسمائها بحسب اختلاف مواقعها فإن كان في مصيبة يقال له: صبر لا غير وضده الجزع وإن كان في محاربة سمي شجاعة، وضدها الجبن وإن كان في نائبة مضجرة، سمي " رحب الصدر " وضده " ضيق الصدر " والضجر والتبرم وإن كان في إمساك [النفس فضولات العكس، سمي قناعة وعفة وضدها الحرص والشره وإن كان في امساك] كلام في الضمير سمي كتماناً وضده الذل والإفشاء ثم الصبر ضربان: نفسي وبدني فالبدني: أكثر لأخساء الناس والنفسي: للأشراف ولذلك قال الشاعر:
والصبر بالأرواح يعرف فضله...
صبر الملوك، وليس بالأجساد
والطعام ما يغتذي به مأكولا كان أو مشروباً، وفي المشروب قالك ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ ورجل طاعم لمن يطعم، ويتجوز به لمن حسن حالة في المطعم، ويقال: قوس مطعمة ويعير مطعم ومطعمنا الباري لبرئته كل ذلك تصور أنها تطعم صاحبها، والواحد يقال على أوجه من حيث الجنس
فإن قيل: كيف قال: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾، وكان لهم المن والسلوى؟ قيل: إن ذلك إشارة إلى مساواته في الأزمنة المختلفة، كقولك فلان يفعل فعلاً واحداً في كل يوم وإن كثرت أفعاله إذا تحرى طريقة واحدة وداوم عليها، والدعاء أعم من النداء، فإن النداء يقال فيمن يكون بعيداً أو في حكم البعيد والدعاء فيه وفي القريب، وقوله: ﴿فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا﴾ ذكر جواب الدعاء، ولم يذكر المطلوب في الأول لكونه معلوما كقولك: قل لفلان يعطني كذا، وتقديره: قل له أعطني يعطني، والنبت والنبات يقال لما ينبت الله ولمصدر نبت، وقد يقال ذلك لذوي الساق من الشجرة، وأنبت الغلام إذا راهق على طريق الاستعارة ولنبات عانته، والبقل مالا ينبت أصله ولا فرعه في الشتاء، وأبقل المكان: صار ذا بقل وتبقلت تناولته وبقل وجهه استعارة، والفوم: الزرع، وقيل: الحنطة خاصة، وقيل: الثوم، والثاء والفاء يبدل أحدهما من الأخرى نحوه جدث، وجدف، ومغافير، ومغاثير، وأدنى أي أوضع، ويعبر عن الوضيع بالدني، والخير يقال على ضربين: أحدهما الخير المطلق وهو الشيء النافع الحسن الملذ وضده الشر المطلق وهو الضار القبيح المؤلم، والثاني: الخير المفيد، وهو ما يحصل فيه أحد الأوصاف الثلاثة، فيصح أن يوصف بالخير مرة والشر مرة على نظرين مختلفين، نحو أن يقال المال خير والمال شر، ولأجل أن الخير المطلق هو ما جمع الأوصاف الثلاثة،
وجاعل الشمس مصرا لاخفاء به....
بين النهار وبين الليل قد فصلا
من حيث إن الحد معتبر فيه، ومصرت الناقة جمعت ضرعها بإصبعين للحلب، ولما كان خروج اللبن على ذلك قيل غير مصور لقليلة اللبن، و " فلان مصور " أي بخيل يعسر إخراج الشيء منه تشبيها بذلك، فمصر ههنا قيل هو البلد المعروف، ولذلك قيل هو في قراءة أبي - رضي الله تعالى عنه - بغير تنوين، وقيل: عنى به مصرا من الأمصار، والذلة تقال على وجهين، على الهون وقريء: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ والمسكنة: الفقر الذي يسكن الإنسان عن التصرف، ومعنى ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ﴾ أي ألزمت وأوجبت - تشبيها بضرب الخيمة على من فيها والإحاطة به، و " باؤا " أي احتملوا، وأصل ذلك من البوأ أي المساوية، فباء فلان بكذا تنبيه أنه تحمل مقدار ما يساوي وقوته، والمباءة: المنزل في المستوى، وذلك إذا لم يكن ذا عد، وبين الله تعالى في هذه الآية أنه لما اختار الله لهم ما يتبلغون به، أبوا إلا الميل إلي القاذورات وما فيه مراعاة القوة
﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ الآية: (٦١) سورة البقرة.
النكال: العقوبة الرادعة على سبيل القهر والفضيحة المشهورة، وهو منقول عن نكل فلان عن كذا أي ارتدع، ومنه النكل للقيد ولحديدة اللجام ولكل ما ينكل به، والوعظ ردع بالعبارة والإحالة على الاعتبار، وقوله: (لما بين يديها) أي لما في زمانها، (وما خلفها) أي لن بعدها، ولما كانت عامة السياسات ضربين، قهرية وهي للعامة وذلك بالنكال ووعظية، وهي للخاصة وذلك بالقال ذكر الله تعالى أنه جمع في دلك الأمرين نكالاً لعامتهم وموعظة لخاصتهم وهم المتقون، فإن قيلت لم قال (لما بين يديها) ولم يقل لمن بين يديها؟ قيل في ذلك تنبيه على لطيفة وهي أن لفظة (ما) يعبر بها عن الأجناس من الحيوان وغيره ومن لا يعبر به مفرداً إلاً عن العقلاء، ولما قال في الجهلة ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ﴾ استعير لهم لفظ ما تنبيها على ما ذكرنا، وعلى دلك كثير مما وضع ما وضع من في كلامهم، وبكشف ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، فجعلهم شر الدواب كما
جعلهم في الأولى أضل من الأنعام، وبهذا المعنى ألمَّ بعض المحدثين في قوله:
حولي بكل مكان منهم خلق....
تخطي إذا جئت في استفهامهم بمن
وقال بعض الأدباء قوله: (وما خلفها) نصب وملفوف على الهاء في قوله: فجعلناها أي جعلنا هذه العقوبة وهو المسح وما خلفها من عذاب النار عقوبة (لما بين يديها) أي لذنوبهم المتقدمة [والله أعلم].
قوله- عز وجل:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ الآية: (٦٢) - سورة البقرة
الهود: قبل التوبة، لقوله تعالى: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ أي تبنا، ومنه أخذ اليهود وقيل: أصل اليهود ويهدوا منقول عن السريانية، وهو أقرب وهاد فلان إذا تحرى طريقتهم في الدين، والاسم العلم قد يتصور منه [معنى] ما يتعاطاه المسمى به والمنسوب إليه ثم يشتق منه، نحو قولهم تفرعن فلان، إذا تحرى في فعله الجور الذي كان يتعاطاه فرعون، و " تطفل فلان " إذا فعل فعلا
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
الآمة: (٦٣) - سورة البقرة ".
الميثاق: عقد مؤكد بمين أو عهد، يقال: أوثقت كذا ووثقته ووثق به ثقة، ثم قيل: رجل ثقة، وقوم ثقة، فاستعير لفظها للموثوق به، والميثاق الذي أخذ منهم ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾، وفي قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ وفي قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ الآية، والطور: قيل هو اسم لجبل مخصوص وقيل: هو اسم لكل جبل ينبت شيئا، وطابق لفظه الطور أي الفناء و " طار يطور " لسرعة المشي، كما أن طار يطير للسباحة في الهواء، والقوة يستعمل تارة بمعنى القدرة، وتارة للتهيؤ الموجود في الشيء، نحو أن يقال: النوى بالقوة " نخلة "، أي متهيأ ومترشحآ أن يكون منه ذلك، ويستعمل القوة في البدن تارة، وهو الأظهر، وتارة في النفس، ولما كانت القوة للشدة الموجودة في الشيء سميت المفازة قوى - تصورا منها ذلك، ثم قيل: أقوى فلان، إذا صار في قوى، أي قفر، وتصور من حال الفقر الفقر، فاستعير الأقوى للافتقار استعارة قولهم أترب وأرمل، لذلك، فقوله: (خذوا ما آتيناكم بقوة) أي: تعاطوا ما فيه بعلم ودراية فالعلم هو الذي يقوي الإنسان ويبلغه المقصود في أمور الدين، وقال الضحاك: (بقوة): أي بطاعة الله، وذلك لما روى " أقوى الناس من أطاع الله واتقاه "، وقيل: " بقوة، أي بعمل ما فيه، وذلك صحيح بنظر فإن تعاطي كل جزء من العمل الصالح يقوي الإنسان على ما فوقه، وقد تقدم أن الذكر ذكران ذكر باللسان، وذكر بالقلب وأنه يتجوز به في الحفظ والمراعاة، فيقال: اذكر كذا، كما يقال في الترك: النسيان، وذاك أن الذكر سبب
إن قيل: إن هذا يكون إلجاء، ولا يستحق به الثواب، قيل: لم يستحقوا الثواب بالالتزام، وإنما استحقوا بالعمل بها من بعد، فأما في التزامها فمضطرون، وقال بعض الناس: " عني برفع الطور تشديد الأمر عليهم وجعل ذلك مثلا "، وذلك بعيد، وقوله: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾، الواو فيه للحال لا للعطف، لأن أخذ الوثاق كان بعد رفع الطور، وذلك نحو قول الشاعر:
قالت ولم تقصد لقيل الخنا....
مهلا فقد أبلغت إسماعي
قوله- عز وجل:
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
الآية: (٦٤) سورة البقرة.
التولي: التفعل من الولاية في الأصل، ويقتضي تولى الأمر حصوله في أقرب المواضع منه، وإذا قيل: تولى عنه، فمعناه ترك التولي معرضا، فالتولي عن الشيء أخص من الإعراض، والافضال والإحسان والإنعام لا يكاد يفرق بينهما في التعارف سيما إذا وصف به الباري سبحانه وإن كان قد
الفعل الحسن سواء كان واجبا وعدلاً أو نافلة وزائدا على العدل وأن كان في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ الآية ما يقتضي ما يزيد على العدل والإنعام يقتضي ما يتنعم به المنعم عليه، ولا يكاد يقال في التعارف يقال فيما يقتنيه الإنسان في نفسه هذه، وفيما يعطي غيره تارة، فيقال فيهما: فلان ذو فضل، والثاني هو المراد ههنا، وقول أبي العالية والربيع: " إن فضل الله الإسلام "، ورحمته " القرآن "، فذلك بعض ما يقتضيه عموم اللفظ، ولكن في قولهما تنميه، إن هذا خطاب لمن كان في زمان النبي - ﷺ - دون المتقدمين، والخاسر المطلق في القرآن هو الذي خسر أعظم ما يقتني، وذلك [نعيم] الأبد، وهو المذكور في قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، إن قيد: إن ذلك يقتضي أن لا فضل له تعالى على الذين خسروا [أنفسهم]، قيل: تخصيص من انتفع بذلك من حيث إنه قبله لا يقتضي إن لم يعرض فضله لغيره فإن فضله تعالى الديني معرض لكل أحد، لكن حق الإنسان أن يترشح بقبوله والانتفاع به، فمثله كمثل نعمته بالشمس والصوب اللذين وإن كانا عامين لا ينتفع بهما من زرعه من لم يرشحها للانتفاع بهما، كذلك فضله الديني والعقلي لا ينتفع به من لم يرشح نفسه بقبوله..
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾
الآية: (٦٥) سورة البقرة
العلم ههنا بمعنى المعرفة ويتعدى ذلك إلي مفعول واحدة وحقيقة ذلك أن معارفنا ضربان.
أحدهما: حصول صور الموجودات في النفس وذلك كالمعرفة بذات الشيء، والثاني: الحكم بوجود شيء لشيء هو موجد له، أو الحكم بنفي شيء عن شيء هو منتف عنه، فالأول: يقال له معرفة وعلم، ويتعدى إلى مفعول واحد، وعلى ذلك قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾، وقوله: ﴿لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ والثاني: يقال له علم، ولا يقال له معرفة، ويتعدى إلى مفعولين لا يصح الاقتصار فيه على أحدهما من حيث إن ذلك يقتضي إثبات حكم أو نفي حكم لمعلوم، والاعتداء مجاوزة الحق على وجه محظور قال الحسن: كان اعتداؤهم في السبت أخذهم الحيتان على جهة الاستحلال وقيل: حبسهم إياها في الشباك يوم السبت ليأخذوها يوم الأحد، والسبت في الأصل راحة بعد تعب، واستعمل في الشعر إذا حلق لهذا المعنى، وفي الجلد إذا أزيل عنه الشعر تشبيها به، وقيل للنعل " سبت "، أي مسبوت نحو نقض، ونكث، والسبات للنوم من ذلك، والسبت قيل جعل اسما للنوم من ذلك، وخسأت الكلب فخسأ، زجرته فانزجر وخسأ البصر من ذلك أي انقبض، وقوله ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ أي جعلناهم، فذكر القول ههنا تنبيها على سرعة جعله كذلك نحو قوله: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ﴾، أي جعلنا له وبيان جعله الإنسان قردة وخنازير يحتاج فيه إلى مقدمة وهي أن الإنسان أتم ما أوجده الله تعالى في هذا العالم وأشرف، فإن الأعيان المبصرات بالقول المجمل أربعة، الجماد [وهو الجسم غير النامي]، ثم النبات وهو الجسم النامي، ثم الحيوان، وهو النامي
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ الآية: (٦٧) سورة البقرة.
قد فرق العرب بين كثير من ذكور مشاهير الحيوان وإناثها في الأسماء فقالوا: رجل وامرأة وجمل وناقة وثور وبقره وعير وأتان، وجعلوا في عامة ذلك اسما يجمعها كالإنسان والبعير والحمار وربما جمعوها تحت أحد اسمي الذكر والأنثى كقولهم البقر والضبع وقيل: سمي البقر لأنه يبقر الأرض، أي يشقها، والأقرب أن يكون البقر أصلاً في الباب، ثم اشتق منه هذه الأفعال بحسب تصورها منه، فلما عرف من البقر هذا الفعل اشتق من لفظه بقر، وشبه به بقر فلان بطن فلان، وتصور انفعال من البقر ما فيه من البلادة، فاشتق منه بقر فلان إذا تبلد في الأمر تبلد البقر وتصور منه أسرار مضطرب، فقيل بقر إذا أسرع إسراعه، وقيل لجماعة البقر بقرنحو الحمير والكلاب، وقيل الباقر للبقر وأصحابها وعلى ذلك الخامل، وذلك كقولهم لابن وتامر في أنه اسم للبن وصاحبه لكن الباقر يستعمل لجماعة البقر منفردا، نحو قول الشاعر:
وما ذنبه أن عافت الماء باقره
والعوذ: الالتجاء إلى الغير والتعلق به، وعوذه إذا أرقاه منه، والعوذة اسم لما يعاذبه من الشر، وقيل: أطيب اللحم عوذه أي ما عاذ بالعظم وتمسك به، والجهل عدم العلم، وربما جعله أهل اللغة وبعض المتكلمين معنى مقتضيا للأفعال الخارجة على النظام، وعلى ذلك قالت العرب المجهلة للأمر
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾ الآية (٦٨) من سورة البقرة.
التبيين كالتعريف، إلا أن التبيين يقتضي إظهار الفضل بين الشيء وغيره، والتعريف قد يكون إظهار الشيء في نفسه من دون اعتبار بغيره واشتقاق ذلك من البين وهو المسافة بين الشيئين، وأصل الفرض قطع الحديد وهو أبلغ من الفرض، والمفراض والمقراض ما يقطع به الحديد، ونحوه وفرض الزند والقوس مستعار من ذلك وكذا فرضه الماء [للمقسم المحكوم به] وقيل لما أوجب وقطاع به الحكم فرض كفرض العبادة وما ألزم إعطاؤه من المال، وسمي ما يؤخذ في الصدقة من [الإبل والبقر والغنم] فريضته، والفارض من البقر يجوز أن يكون من هذا، لأن السائغ في الصدقة من سن البقر اثنان، التبيع والمسنة فالتبيع يجوز في حال دون حال والمسنة يصح بدلها في كل حال، فيجوز أن يكون سمى فارضا لهذا، وقيل فرضت البقر، وفرضت والبكر المتقدم على أمثاله في السن وبه سمي البكر، وأول نكاح وأول مولود وأول والد ووالدة، وقيل في البعير بكر، وفي الفواكه باكورة وبكل فلان في الحاجة إذا تعجل، وعلى ذلك قوله:
بكرت تلومك بعد وهن في الندى
والعوان: الوسط بين السنين وهو المحمود لأنه بين الحالين وقد تجعل كناية عن المسنة بين
وإن آتوك فقالوا إنها نصف.....
فإن أمثل نصفيها الذي ذهبا
وقيل: حرب عوان تشبيهاً بالمرأة، واستعارة منها كاستعارة القناة والشمطاء وغير ذلك من الأسماء، وقوله: ﴿لَا فَارِضٌ﴾ أي غير فارض، وهو وصف أو خبر ابتداء مضمر، كذلك عوان، لكن الأجود في عوان أن يجعل خبر ابتداء مضمر، فقد كثر عن الفراء الابتداء به وذلك قصد منهم أن يكون خارجاً عن النفي في اللفظ كما هو خارج عنه في المعنى، وجاز أن يقال " بين ذلك "، وإن كان بين ذلك تضاف إلى شيئين لما كان ذلك عبارة عن الفارض والبكر في قوله: ﴿فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾ زجر لهم عن المراجعة وتطلب العناد وتنبيه أن مراجعتهم تشدد الأمر عليهم وذلك كما روي عن النبي - ﷺ - لما قيل له في الحج: العامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد ثم قال: (إئما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم على أنبيائهم)..
قوله- عز وجل:
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾
الآية (٦٩) سورة البقرة.
الصفرة لون مخصوص وعبر عن ذلك السواد بالصفرة، كما عبر عن الخضرة بالسواد، وذلك لكون الصفرة والخضرة سالكين إلي السواد، وقال الحسن.
الصفراء هنا سوداء، لكن استبعد ذلك لقوله: فاقع، والسواد يقال فيه حالك لا فاقع، ولفظة الصفر يتصرف على وجهين، ومنه قيل للنحاس صفر وليبيس البهمى صفار، والثاني: حكاية صوت وهو الصفر، وعنه قيل: صفر الإناء إذا خلا حتى
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾
الآية (٧٠) سورة البقرة.
إن قيل: لم قال: ما هي؟ ولم يقل أي بقرة هي؟ أو كيف هي؟ وما يسأل به عن الأجناس، والأنواع، وإنما يسأل عن الأعراض بكيف وبأي؟ قيلت إنما قد يسأل به عن كل ذلك، فيقال: ما هذا الإنسان؟، أي ما حاله وما صفته، كما يقال كيف هذا الإنسان وأي إنسان هو؟ وكيف وأي لا يسأل بهما عن الأجناس والأنواع، والفصل بين ذلك أن لفظ ما من لفظة أي وكيف يجري مجرى الجنس من الأنواع، فكما يصح أن نعبر عن النوع بالجنس، فيقال للإنسان هو حيوان، ولا يصح أبو يعبر عن الجنس
بالنوع، فيقال لكل حيوان إنسان، كذلك يصح أن يعبر عن أي وكيف بما، ولا يصح أن يعبر لكن كل ما فيه ما بأي وكيف، وقرئ " تشابة " على لفظ الماضي، فجعل لفظ البقر مذكراً، وتشابه بالتخفيف على تقدير تتشابه، فحذف إحدى ألتاءين وقرى " تشَّابة " بتشديد الشين على إدغام التاء في الشين، وقرئ " يشابه " بالتشديد على الإدغام والتذكير والاشتباه أن يشبه البعض البعض، فيصعب التمييز بينهما، وروى أنهم لما قرنوا بالمراجعة الأخيرة قولهما: ﴿وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ وفقهم الله لمعرفة
ما سالوا عنه ولترك التعنت، وقال النبي- عليه السلام- " والذي نفس محمد بيده لو لم يستثنوا ما بينتْ لهم أخر الأبد "، وفي ذلك حث، حيث قال الله تعالى لعباده على استجلأب توفيقه وضم لفظ المثنوية أي: مشيئة الله إلى كل ما يذكر من مستقبل الأمر كما قال: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾
﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ الآية (٧١) سورة البقرة.
الإثارة.
البحث والكشف الشديدة ومنه ثار الدخان والغبار والقطاعن محثمها، والدم في وجه الإنسان والحصبة في البدن، وتورث الأمر، وقوله: ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ صفة لقوله: ذلول، لأنه يراد نفي الإثارة عنها لا إثباتها لها، والحرث تذليل الأرض وتسهيلها للزراعة، ثم يتجوز به في الزراعة، ويكنى به عن النكاح وعن جميع المال، ويقال: دابة محروثة أي مذللة، والمحراث لما يحرث الزرع والنار، والمسلمة المتروكة سليمة من العاهات، وأصل ذلك من السلامة، والتسليم أصله بذل السلامة، وجعل
في التعارف لبذل المقاله المخصوصة لما كان ذلك في الأصل موضوعاً لبذل السلامة، ولما كان قوله السلام مقتضية لذلك، قال عليه السلام: " أفشوا السلام بينكم تدخلوا جنة ربكم " ولم يرد بذلك المقال دون الفعال وإن كان ظاهره المقال، ولهذا ضمن به الجنة، وقوله: ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ أي، لا أثر بها يخالف معظم لونها، وهي فعلة من الوشى، واستعمل الوشى في الكلام بالمنسوج وحض التقول على سبيل النميمة بالوشاية والمجئ والإتيان يتقاربان، لكن المجئ كأنه يقال باعتبار الحصول والإتيان باعتبار القصد، ولذلك قيل للماء المجتمع حية، وللسيل القاصد أتى، وقوله: ﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ لا يتضمن أن ما جئت به من قبل كان باطلاً، وإنما أرادوا الآن جئت بما تحققنا المال مناً، وليس كما قال بعض الناس إن القوم كفروا بذلك، لأن كلامهم تضمن أن موسى لم يكن يأتي بالحق قبله، والنفي في قوله: ﴿وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ وإن دخل في لفظ " كاد "، فهو متناول لقوله يفعلون نحو: ما كان زيد
وأما أنهم بكم اشتروا البقرة، وممن اشتروها فليس مما يفتقر إليه تفسير الآية وقال بعض الناس: في هذه الآية دلالة على فسخ الشيء قبل فعله، فإن في الأول أمروا بذبح بقرة غير معينة، وكان لهم أن يذبحوا أي بقرة شاؤوا، وفي الثاني والثالث أمروا بذبح بقرة مخصوصة، فكأنهم نهوا عما كانوا أمروا به من قبل وليس الأمر كذلك، فإن الأول أمر مطلق، والثاني والثالث كالبيان له لما
راجعوه ولم يسقط عنهم ذبح البقرة، بل ريد في أوصافها، وكشف عن المراد بالأمر الأول، وفي الآية دلالة على جواز تأخير بيان المجمل إلى وقت الحاجة..
قوله- عز وجل:
﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. الآية (٧٢، ٧٣) سورة البقرة.
ادارأتم أي تدافعتم، وأصل الدرء الاعوجاج، فالتدارؤ أن يعوج كل على الآخر بمخالفته له، وقال الخليل: كوكب دري، فقيل من الدرء أي تدافع الضوء، ودرأت عنه الحد منه، ووزن " ادارأتم " من الفعل تفاعلتم، أصله تدارأتم، فأريد الإدغام تخفيفاً، فأبدل من التاء دالا فسكن للإدغام، واجتلب لها ألف الوصل، فحصل على اتفاعلتم، وقال بعض الأدباء: ادارأتم افتعلتم، وكلما فيه من أوجه...
أولاً: أن ادارأتم.
على ثمانية أحرفا وافتعلتم على سبعة أحرف، وثانياً: أن الذي يلي ألف الوصل تا، فجعلها دالاً، وثالثاً: أن ألذي يلي الثاني دال، فجعلها تاء، ورابعاً: أن الفعل الصحيح العين لا يكون ما بعد تاء الافتعال منه إلا متحركاً، وقد جعله ههنا ساكناً وخامسأ: أن ههنا قل دخل بين التاء والدال زائد، وفي افتعلتم لا يدخل دلك، وسادساً: أنه أنزل الألف منزل العين وليست بعين،
وسابعا: أن تاء افتعل قبله حرفان وبعده حرفان، وادارأ بعد التاء ثلاثة أحرفا وثامناً أن عين أفتعل في المستقبل مكسور، وبين " ادرأتم " في المستقبل مفتوح، وفي قوله: ﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾
قبل، وبيان ذلك أنه قد قيل قولان: أحدهما: أن موسي- عليه السلام- قد أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة قبل الحادثة، فلذلك تعجبوا وقالوا: أتتخذنا هزواً، فلما ذبحوا البقرة اتفق حصول القتال، فقال موسى لا راجعوه: " اضربوه ببعضها "، وقيل: بل كان الأمر بذبح البقرة بعد وقوع التشاجر، وعلى هذا قوله: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ ليس بمعطوف على قوله: (وإذ قال موسى لقومه)، بل هو في موضع الحال له، كأنه قيل: (واذكروا إذ قال موسى لقومه.. ) الآية..
وذلك إذ قتلتم نفسا [فادارأتم فيها] أو إذ قتلتم نفسه كان ذلك، لكن اختصر، وفي قوله ﴿اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ اختصار، كأنه قيل " ليحى محي، وأنا بأي عضو ضرب، فقد قال مجاهد: بفخذها، وقال السدى: بمضغة من لحمها، وقال الفراء: بذنبها، وقال وهب: بأصغريها قلبها ولسانها، فظاهر الآية لا يقتضي تخصيص عضو، (من عضو) وقوله: ﴿يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾، قيل: هو حكاية عن قول موسى-[عليه السلام]- لقومه، وقيل: بل هو خطاب من الله تلالي لهذه الأمة تنبيهاً على الاعتبار بإحيائه الموتى، وقد استبعد بعض الناس ذلك وماحكاه الله منه، وأنكر حصول ذلك الفعل على الحقيقة، وقال ذلك ممتنع من فعل الطبيعة، [وأيضا فإن ذلك لا يعرف فيه حكمة الشهية فأما
بذلك على طلبها واستيجاب الثواب في بذل ثمنها وجلب نفع إلى صاحبها لكان في ذلك حكمة عظيمة، وفي الآية تنبيه على أن الجماعة التي حكمهم واحد، يجوز أن ينسب الفعل إليهم وإن كان واقعاً من بعضهم، ولا يكون ذلك كذباً، كما أن الجملة المركبة من شخص واحد يصح أن ينسب إليها ما وقع من عضو منها، وذكر بعض الصوفية أن الله تعالى قصد بما ذكره لبني إسرائيل وإشارة إلى معنى لطيف، فإن في الأمر بذبح البقرة أمرا بتذليل.
القوة الشهرية، ولما لم ينتبهوا لمراد هـ، قالوا أتتخذنا هزواً.
وبين قوله ﴿لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ﴾ أن حق الإنسان أن يتحرى في إماتة شهوته وقت ما يزول عنه شره صباه، فلا يكون كبكر، ولم يلحقه حسوا لكبر، فيكون كفارض، ثم نبه بما ذكره من اللون أنه لا يحب أن يمنع النفس من إماتة شهوته كونها رائقة المنظر، بل يجب أن يميتها أعجب ما تكون إليه، ثم نبه بقوله: ﴿لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ أن النفس التي تحمل على تذليلها في العبادة هي النفس التي لم تستعبدها الدنيا ولم تتأثر بدنسها، ولم تتوسم بمقابحها، وطاهر الآية لا يقتضي ذلك، لكن مثله إذا حكى، فتصحيحه مفوض إلى فكرة قارئه ومتأملة، والله أعلم..
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
الآية: (٧٤) سورة البقرة.
قساً وحساً وعساًَ تتقارب معانيها- تقارب ألفاظها، فالقساوة تقال في الصلب الذي لا تخلخل فيه كالحجر ونحوه، وقيل: قلب قاس تشبيهاً به، وعسا إذا كان هدى معه عصيان فهو يقارب عصى، وحساً يقال فيما يتصلب، والصلابة تقال فيما في جوهره شدة، وأما الشدة فتقال فيما تعتبر فيه انضمام الأجزاء بعضها إلى بعض، ومنه قيل: شددته، وشد الشر الشيء واشتد، وقيل للعد والشد، كما يقال فيه القابض والتقريب والشدة تارة تقال في القوة الجسمية، وتارة في القوة النفسية، وقولهم: " بلغ فلأن
أشده "، أي حاله استمر مرير نفسه وجسمه، والنهر يقال لمسيل الماء الواسع، وللماء جميعا ولتصور السعة.
فيه يقال منه أنهرت فتقه، أي أوسعته، والنهار خص به السعة فيما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وألشق أن يجعل الشك شقين، وقيل للأخوين شقيقان، وللخلاف الشقاق، إذ هو ضد الائتلاف، والشقيقة في الداء تشبيهاً بذلك، ولهذا قيل له الصداع والخشية خوف عن تعظيم المخشى، وقد تقدم الفرق بينه وبين إخوانه والغفلة والسهو والنسيان يتقارب، لكن النسيان بانحذاف ذكر الشيء عن القلب والغفلة استتارة في بعض الأحوال اشتغالاً بغيره، والسهو يقاربه، إلا أن الغفلة أكثر ما يقال فيما تركته وحقه أن لا يترك، والسهو يقال فيه وفيما فعلته ولم يكن حقه أن يفعل، فإذا السهو أعم من الغفلة واستعمل لأحد الشيئين، وقول من قال هو للشك فنظر منه إلى بعض تفاصيله، فإن الشك لا يقيده او بالقصد الأول، فقد يقال: لقيت زيدا أو عمرو قصداً إلى الإجمال والإبهام، أو لعله عنابه التفصيل، وقود بين الله تعالى بالآية أنهم ارتكبوا ذنوباً قست بها قلوبهم بعد آيات مقتضية للين
قلوبهم من إحياء الفتى ومسخ الناس قردة وخنازير ورفع الطور فوقهم وأنها صارت في القساوة
ومنهم من قارب، قال أبو علي الجبائي: عنى لهذه الحجارة البرد الهابط من السماء، وبقوله: ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أي بخشيته، وعنى بالخشية التخويف، لأن الخوف والخشية واحد، قال: " ولما كان نزول البرد تخوفا ألفه لعباده قال ذلك، ثم قال، وإنما قلت هذا، لأن الحجارة جماد فلا يصح منه الخشية، كما ترى [قال الشيخ أبو القاسم- أيده الله]- فهذا كما ترى، وقال البلخي: هذا على جهة التمثيل لا في الحجارة من الانقياد لأمر الله الذي لو كان من حي قادر دل على أنه حاش لله...
، وقال بعضهم: وإن منها أي من الحجارة لما يهبط من أجل أن يخش الله العباد، وقال أبو مسلم ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، الهاء فيه راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة، أي من القلوب ما يخضع،
قوله - عز وجل:
﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ الآية (٧٥) سورة البقرة.
الطمع يقارب الرجاء، والأمل، لكن الطمع أكثر ما يقال فيما يقتضيه الهوى والأمل والرجاء قد يكونان فيما يقتضيه الفكر والروية، ولهذا أكثر ذم الحكماء للطمع، حتى قيل الطمع طبع، والطمع يدنس الثياب، ويفرق الإهاب، والأصل في تحريف الشر الانتهاء به إلى ناحية يمكن جره إلى غيره، ثم يقال في كل كلام غير سكن وجهه محرف، والسماع يقال على ما يحس وعلى ما يتصور، ولذلك وصف الله تعالى الكفار بالصمم، فقوله: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ حمل بعضهم على المسموع منه تعالى، فجعل الفريق بعض السبعين الذين كانوا مع موسى [عليه السلام] في المناجاة، لاستماع كلامه، فلما عادوا حرفوا ما سمعوه وإليه ذهب ابن عباس والربيع، وبعضهم حمله على ما كان في الأصل منه تعالي، وإن سمع من غيره فجعله التوراة وتجعل الفريق العلماء الذين غيروا التأويل، وإليه ذهب السدي والحسن وابن زيد، وفي الآية تسلية للنبي - ﷺ - والمؤمنين، وتوهين للطمع في أئمتهم: وإن هؤلاء إذا كان علمائهم وأحبارهم الذين سمعوا لكلام الله وعقلوه وحرفوه ولم يؤمنوا، فكيف يرجى أن تؤمن جماعتهم مع جهل أكثرهم
إن قيل: كيف يقتضى امتناع بعض من الإيمان
قوله- عز وجل:
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ الآية (٧٦) سورة البقرة.
الحديث ما يوجد بعد ان لم يكن نطقاً كان أو عيناً، والفتح أصله فتح الغلق، ولما استعمل في الأمر المبهم والكلام الصعب الغلق استعمل في إزالته الفتح، ومنه قيل في الحرب وفي آيات الحجة، وفي الحكم الفتح حتى قيل للحكم المفصول فتاحة، وللحاكم فتاح، وقوله: ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي بما أطلعكم عليه من العلم، وهذا أولى من قول [من قال]: ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ من النصر في مغازي رسول الله - ﷺ - ومن الآيات التي كانت في بدر من المواضع التي انتهى إليها فبدل وقوع
الحرب، فقال: [هذا مصرع فلان غداً، وهذا مصرع فلأن]، ثم كان على ما قال، فإن هذا لم
وجل-[عليهم] على سبيل ما يسمى في البلاغة بـ " الالتفات "، ويصح أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين تنبيها على ما يفعله الكفار والمنافقون.
﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ الآية: (٧٧) سورة البقرة.
هذا تبكيت لهم وإنكار لما يتعاطونه مع تكلمهم أن الله لا يخفى عليه خافية.
قوله - عز وجل -:
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ الآية: (٧٨) سورة البقرة.
الأمي: قيل هو الذي لا يكتب، وأصل هذا اللفظ في المنسوب إلى الأم، ولما كانت الأم هي المنشئة المربية للولد، تصور ذلك في أشياء، فقيل له أم نحو أم الأضياف، وأم الجيش للرئيس، وأم القرى لمكة وذلك لنحو ما روى أنه لا خلق الأرض دحاها من تحت الكعبة، وأم الكتاب للوح المحفوظ ولفاتحة الكتاب تصوراً أن منهما منشأ الكتاب، وقيل أمه إذا قصده قصد الإنسان للأم المشفقة عليه، ومنه اشتق الإمام والأمة، فالأمي في التعارف هو المنسوب إلى ما يجري منه مجرى أمه في العناية وتربيته في الفضيلة وحفظها عليه أما ما كان ذلك أو غيره، واستعمل فيمن لا يقرأ فيحتاج إلى من يحفظ عليه معارف، وهذه الحالة فضيلة للنبي- عليه السلام- ونقيصة لغيره، من أجل أنه- عليه السلام- حفظ عليه علومه فيض إلا هي ونور سماوي، فصار افتقاره غني، كما روى [عنه - ﷺ -] أنه كان يقول في دعائه:
" اللهم اغنني بالافتقار إليك "، وغيره لما احتاج إلى أن يحفظ معلومه عليه آدمي مثله صار في الحقيقة ناقصة، وفقيراً وقوله: (إلا أماني)، الأصل في هده اللفظة الدائر في جميع متصرفاته التقدير، ومنه المنا الذي يوزن به، والذي الذي منه الحيوان، ومنى الله كذا، أي قدر، وعن ذلك
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى على هذا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ قيل: قد قلنا إن التمني كما يكون عن تخمين وظن، فقد يكون عن روية وبناء على أصل، ولما كان النبي- عليه السلام- كثيرا ما كان يبادر إلى ما نزل به الروح الأمين على قلبه حتى قيل له: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ سمي تلاوته على ذلك تمنيت..
، وقوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ كناية عن الكذب لما كان الظن واقعاً بين الصدق والكذب، كما كنى عنه بالحرص الذي هو تقدير الأثمار لما كان ذلك متردداً بين الوفاق والخلاف، وقد أنبأ الله تعالى بالآية عن جهل الأميين وذمهم والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم، فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة، واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم، وهم قد ضلوا وأضلوا، ونبهنا الله تعالى
بذم الأميين على اكتساب العارف لئلا يحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه وبذم زعمائهم على تحري الصدق وتجنب الإضلال، إذ هو أعظم من الضلال..
﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ الآية (٧٩) سورة البقرة.
ويل: تقبيح، وقد يستعمل على سبيل التحسر، وما روى أبو سعيد الخدري- " رضي الله عنه " - أنه واد في جهنم، فليس يعني أن الويل هو اسم لذلك الوادي، وإنما يعني أن الذين يجعل لهم الويل هم المتبوئون في ذلك الوادي، والكسب استجلاب نفع، وقوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً﴾، فعلى نحو قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ إن قيل ما وجه توكيد الكتابة باليد، وهي لا تكون إلا بها،
قيل: لما كانت اليد العاملة يختص بها الإنسان من بين الحيوان وهي أعظم جارحة، بل عامة المنافع راجعة إليها حتى لو توهمناها مرتفعة ارتفع بها الصناعات التي بها قوام العالم كالبناء، والحوك، والصوغ صارت مستعارة في القوى جميعا، والمنافع كلها حتى قيل: فلان يد فلان إذا قواه، وقيل للنعمة يد لما صارت معينة للمعطى إعانة يده وحتى صار مستعاراً في اللفظ لله تعالى بدلاً عن القدرة أو عن النعمة أو صفة أخرى غيرهما، فذكرت مثناة مرة ومجموعة مرة تصويراً للمبالغة في ذلك، فقال
تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾، وقال تعالى: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾، وقال: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾، ووجه آخر، وهو أن الفعل ضربان: ابتداء، واقتداء، فيقال فيما كان ابتداء: " هذا مما عملته يدي فلان "، فقوله: ﴿مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي مما اخترعوه من تلقائهم، وعلى هذا قد يحمل قوله تعالى:
قيل: لم ذكر الكتابة دون القول؟ قيل: لما كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه إذ هو كذب باللسان
واليد صار أبلغ، لأن كلام اليد يبقى رسمه، والقول يضمحل أثره...
إن قيل ما الذي كانوا يكتبون؟
قيل: قد روي عن بعض السلف أن رؤساء اليهود كانوا يغيرون من التوراة نعت النبي - ﷺ -، ثم يقولون
هذا من عند الله، وهذا فصل يحتاج إلى فضل شرح، وهو أنة يجب أن يتصور أن كل نبي أتى بوصف لنبي بعده فإنه أتى بلفظة معوضة به وإشارة مدرجة لا يعرفها إلاً الراسخون في العلم وذلك لحكمة ألاهية، فإن من شأن المسوسين سيما الذين لم يتمهروا في الحقائق أنهم متى أحسوا بحال سايس يتعقبه " سايسهم " وإمامهم تواكلوا عن الأئتمار لأوامره، والأرتسام لزواجره، وهذا معروف من عادات الناس، وقد قال العلماء ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي عليه السلام، ولكن بإشارات ولو كان دلك متجلياً لعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضأ بنقله من لسان إلى لسان من العبراني إلى السرياني " ومن السرياني " إلى العربي، وقد ذكر المحصلة ألفاظاً من التوراة والإنجيل إدا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة لنبوة محمد - ﷺ - بتعريض هو عند الراسخين في العلم جلي، وعند العامة خفي، فبان بهذه الجملة أن ما كتبت أيديهم كان تأويلات محرفة، وقد نبه الله تعالى بالآية على التحذير من تغيير أحكامه وتبديل آياته وكتمان الحق عن أهله وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طمعاً في عرض من أعراض الدنيا، وقد تقدم أنه قد عنى بالثمن القليل أعراض الدنيا وإن كثرت لقوله تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾.
﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ الآية: (٨٠) سورة البقرة.
المس واللمس والحس والجس تتقارب، إلا أن الحس عام في المحسوسات والجس فيما يخفى ويدق كنبض العرق والخبر الخفي، واللمس بظاهر البشرة، وكل ذلك يقال عند تأثير المحسوس في المس وبغيره لأجله، واللمس كالطلب للمس، وقد ينفك منه، ولذلك قال: " وألمسه فلم أجده "، وجعل المس كناية عن النكاح تارة، وعن الجنون تارة، فقيل: بفلان مس، وهو ممسوس، والمسوس من الماء ما مسته الأيدي، ولا كانوا كل وعد عقداً ما وكل عقد عهداً ما كان كل وعد عهداً، فصح أن يعبر عن
الوعد بالعهد، ولكونه وعدأ استعمل منه الإخلاف، ومعدودة قليلة ووجه ذلك أنه لما كان المعدود ضربين، ضرباً قليلاً يسهل عده (وإحصاؤه) وكثيرة لا يسهل عده، وكانت الأعراب يقل فيهم الحساب وقوانين الحساب، تصوروا الكثير متعذر العد، والقليل متيسر العد، وقالوا: " شي معدود ومحصور أي قليل وغير معدود، ومحصور أي كثير.
ووجه الآية أن اليهود اختلفت، فبعض قال نعذب بعدد الأيام التي عبد أصحابنا فيها العجل، وبعض قال: مدة الدنيا سبعة ألاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف
سنة من الدنيا يوما من الآخرة، وبعضه قال: إنما بين طرفي جهنم أربعون سنة، وإذا خلاً العدد انقضى الأجل ولا عذاب، فبين الله تعالى أن زعمكم أنا نعذب أياما معدودة ولا طريق للعقل إلى معرفة ذلك، وإنما سبيل معرفته الإخبار عنه تعالى.
جده-، وإخباره بذلك وعد، ووعده عهد، وما كان به من الله- عز وجل من عهد فلا خلف فيه، وقد تبت أنه لا عهد له بذلك، فإذا ليس هو إلا تقولاً منكم على الله بما لا تعلمون، فبين بلفظ الاستفهام كذبهم فيما زعموا، وقوله: " عند الله "، أي في حكمه على
ما تقدم...
﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
الآية: (٨١) سورة البقرة.
بلى: رد للنفي، ونعم عدة وتصديق، ويقعان في الاستفهام والخبر، فبلى لا يكون إلا في النفي، أما في الاستفهام فنحو قوله (ألست بربكم قالوا بلى)، وأما في الخبر فنحو: هذا، وأما نعم ففي الاستفهام نحو: ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ﴾، ويقال: أنا أحبك، بل نعم ولا يقال: بلى بوجه، وفي النفي إدا قيل ما عندي شي، فقلت بلى، فهو رد لكلامه، وإذا قلت: نعم فإقرار منك به، والسيئة الفعل القبيح القيود إليه في نفسه ولكونها قبيحة قوبلت بالحسنة في عاهة ما جاء في القرآن، نحو: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ الآية وقوله ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ﴾، وقوله ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ وقوله: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ﴾ والفرق بينها وبين الخطيئة أن السيئة قد يقال فيما يقصد إليه في نفسه، والخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون مقصوداً إليه في. نفسه، بل يكون مقصودا إلى سببه كمن يرمي صيداً، فأصاب سهمه إنساناً أو شرب مسكراً، فجني على رجل جناية في سكره، ثم السبب في دلك سببان، سبب محظور فعله، كشرب المسكر، وسبب غير محظور،
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
الآية: (٨٢) سورة البقرة.
عادة القرآن في كل موضع يذكر عقاب قوم أن يذكر بإزائه ثواب مضادتهم ليُرجى رحمته ويخاف عذابه، وقد تقدم أن عامة ذكر الإيمان في القرآن مقرونة بالأعمال الصالحة تنبيهاً أن جملة الاعتقاد والمقال لا اعتداد بها ما لم يضامها الأعمال الصالحة، إذ الاعتقاد كالأس، والعمل كالبناء، ولا غناء في أسء بلا بناء، كما لا ثبات لبناء بلا أس، وفيه دلالة أن قوله تعالى من قبل: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ هو الكفر، وإحاطة الخطيئة به الأعمال السيئة، وذلك لا قابله به من الإيمان والأعمال الصالحة..
قوله - عز وجل -:
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾
الآية (٨٣) سورة البقرة.
الولد: المولود، والوليد للصبي اعتبارا بقرب ولادته، كما يقال: لما قرب اجتناؤه جني، والوليدة في الأمة كناية عن طريق التلطف بأنها تجري مجرى الولد، و " فلان لدة فلأن "، أي ولد معه، واليتيم قد يقال لمن فقد كافله قبل البلوغ من أبويه، أما في الناس فأباه، وأما في البهائم فأمه، لأن كفالة الولد في الناس على غالب الأمر، وفي الحكم إلى الأب، وفي البهائم إلى الأم، وقد يقال لن يتصور بصورة الفرد الذي إذا اعتبرت فضيلته قدر أن لا أباله من جنسه لكونه خارجية بالفضل عن طبيعة أبائه،
كله معتبراً بان يلتزمه المأخوذ عليه ويرضى به، بل بأن توجه الحجة، وتقدير قوله: (لا تعبدون إلا الله) فيه أوجه، قال الكسائي: (أن لا تعبدوا)، فلما حذف " أن " نرفع، نحو:
ألاَ أيُّهذا الزَّاجري أحْضُر الوَغى
وقال الأخفش: لما أفاد قوله ﴿أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ معنى القسم أجابه بجوابه نحو: خلفت لا يخرج زيد، وقال قطرب: (لا تعبدون) في موضع الحال، تقديره غير عابدين، وقال الفراء: لفظه خبر، ومعناه النهي نحو: (لا تضار والدة بولدها) بالرفع، واستدل على كونه نهيأ بقراءة أبي: (لا تعبدوا إلا الله)، وبعطف قوله: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ عليه.
هو خطاب لن كان في زمان رسول الله - ﷺ - منهم، وقيل قوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ خطاب للسلف، وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ خطاب لمن كان في زمنه،
إن قيل: ما فائدة قوله: ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ بعد قوله:.
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ قيل فيه ثلاثة أقوال، الأول: أن قوله ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ حال مؤكدة، لأن تقديره: (ثم توليتم معرضين)، ذلك على قول من جعلها خطاباً لفريق واحد، والثاني أن التولي قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت العقد والإعراض هو الانصراف عن الشيء بالقلب، والثالث: أن التولي والإعراض في دلك مثل مأخوذ من سلوك الطريق، وإدا اعتبرنا حال سالك المنهج في ترك سلوكه، فله حالتان، إحداهما: أن يرجع عوده على بدئه، وذاك هو التولي، والثانية: أن يترك النهج ويأخذ في
قوله - عز وجل -:
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾
الآية (٨٤) سورة البقرة.
الدار سميت اعتبارا بدورها، وقيل داره، كقولهم: محلة ومنزلة اعتباراً بوحدة ما، فإن الدار يقال لها وإن انطوت على حجر وبيوت، والدواري الدهر، لكر الجديدين، والدوار في الرأس وضم على بناء الأدواء، نحو الصداع، يقال للصنم التي يدار حوله دوُار ودَوار ودوار، وقوله تعالى: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ متعلق بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ ما تقدم في الآية الأولي..
إن قيل: كيف أخذ ميثاقهم أن لا يفعلوا ذلك بأنفسهم مع كون الإنسان مضطرا لأن يفعل بها ذلك؟، قيل في ذلك أجوبة...
الأول: لا يفعل ذلك بغضكم ببعض، وإليه ذهب قتادة وأبو العالية، الثاني: لا يفعلن أحدكم [ذلك] بالآخر، فيفعل به، فيكون في حكم فاعله بنفسه، الثالث: [لا تفعلوا ما يؤدي بكم إلى صرفكم عن الحياة الأبدية الجاري مجرى القتل، وهو العذاب الأليم]، ولا تفعلوا ما تحرمون به على أنفسكم
قال الشاعر:..
أقر كما قر الخليلة للبعل..
فقوله ﴿أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ يصح أن يكونا [جميعا خطابين] للسلف، وأن يكونا للخلف [وأن يكون الأول للسلف والآخر للخلف]
فإن قيل: ما الفرق بين الإقرار والشهادة؟ قيل: الشهادة إقرار مع العلم وثبات اليقين، والإقرار قد ينفك من ذلك، ولهذا كذب الله تعالى الكفار في قولهم: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ ولو قالوا: نقر إنك لرسول الله لم يكذبوا..
قوله - عز وجل:
﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ الآية: (٨٥) سورة البقرة.
قيل: تقدير هؤلاء يا هؤلاء، وذلك مستبعد لحذف حرف النداء، [فحرف النداء] لا يحذف إلا من الأعلام وما هو كالأعلام ومن المضاف دون غيرهما من المناديات، وقيل معناه كمعنى الذين، فقد أجرى
نجوت وهذا تحملين طليق
وقيل معناه: أنتم كهؤلاء، وتظاهرون تتعاونون، وأصل اللفظة من الظهر التي هي الجارحة، ولما كان الظهر من حيث الخلقة خالياً عن الحروق والعكن بخلاف البطن، سمي ما كان بارزا ظهراً، وما كان خافياً بطناً، فجعل الظهر والظهور لجميع متصرفات هذه اللفظة أصلين وقرئ تظاهرون بالتشديد، وأصله: يتظاهرون ويظاهرون بالياء والتشديد على ذلك، وتظاهرون بحذف أحد ألتاءين وبالتخفيف، والإثم اسم الأفعال المبطئة للثواب، ولتضمن البطؤ قال الشاعر في صفة ناقة:
جمالية تعتلي بالردف....
إذا كذب الآثمات الهجير
وقوله تعالى: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ أي في تعاطيهما أبطأ عن الخيرات، فإنهما شاغلان، فصار الإثم في التعارف نقيض البر
" البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك "، فهذا حكمهما لا تفسيرهما والوزر والذنب والجرم تتقارب، لكن الوزر اسم لا يوجب العقوبة بمعاونة الغير، ولهذا روى:
" من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها "، فإن السان والمسنن بها متآزران متعاضدان، والسان أعظم إثما، إذ ليس المتبع كالمبتدع، وأما الذنب فما يقتضي عاقبة مذمومة اعتبارا بأذناب الأمور، والجرم اعتبارا بما يحصل من ثمرة سوء العمل تشبيها لجرام النخل، والعدوان هو تجاوز لحد المرسوم في الاعتداء المرخص فيه على سبيل المجازاة في قوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ فالتجاوز للمرسوم هو العدوان، والأسر شد يضم به بعض المشدود إلى بعض يقال: أسرت الرجل، والسرح والرحل، وما يشدبه إسار، والفدا العوض الذي يخص به فكاك الإنسان وقيل الفدا والفداء واحد، والأقرب أن الفداء بالمد اسم لما يفدي به والفدى اسم للمفدى، كما يقال الحمى للمحمي وإن كان كل واحد منهما يوضع موضع الأخر، والحرام المنع الشديد من جهة الحكم، ورجل حرام يجوز أن يكون على وضع المصدر موضع الفاعل كأنه محرم على نفسه بالتزامه ما ألزم ما كان محللاً له إما بدخوله الحرم أو بالإحرام، ويجور أن يكون في موضع المفعول، كأنه صار محروماً أي ممنوعة من بعض ما كان مباحا له والشهر سمي محرما لذلك، واستحرمت الماء غيره، كأنها طلبت شيئا محرما في غيرها، وذلك كناية، والخزي ذل يستحي منه، ولتضمن المعنيين استعمل تارة في الذل نحو: عليه الخزي، وفي الاستحياء، نحو خزي،
﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾
ومعنى الآية أن اليهود كان أوجب عليهم أن لا يسفكوا الدماء ولا يخرجوا أحداً من ديارهم ولم يوجب عليهم مفادات الأسرى، فأخلوا بالواجب والتزموا ما لم يكن يلزمهم، فأنكر الله تعالى عليهم ترك الفريضة ومراعاة النافلة وقوله: ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ متعلق بما قبله وقد فصل بينهما بقوله: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾ وقال بعضهم: إن الله تعالى نبه بهذه الآية مع المعنى الظاهر على لطيفة، وهي أن في قوله تعالى تقتلون أنفسكم تنبيه أنه تسعون في اكتساب العقاب الذي يجري مجرى قتل النفس، وبقوله: ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ أي تضيعون بعض قواكم ولا
بالتقصير، [فقد ضيع نفسه] وكأنه أخرجها من محلها الذي جعله الله تعالي لها، وعلى ذلك ما إذا ضبط قوته الشهوية ولم يضبط قوته الغضبية، ونبه بقوله: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾ إنكم تتصدون لهدى غيركم مع تضييعكم أنفسكم كقوله: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾، وعلى ذلك قيل: (كفى بالمرء تهزياً أن يعظ غيره وينسى نفسه)، وقوله: ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ فقد قيل: هو ضمير الحديث، وقيل: هو
ضمير المصدر الذي هو الإخراج، وقد أعيد ذكره تأكيده، فكأنه تكرير الخبر مراتين، ثم بين أن متعاطي ذلك له في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم، وعظم إبعادهم بتنبيههم أنه سبحانه بالمرصاد لا يغفل عن شي تعالى الله وتقدس...
قوله - عز وجل -:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾
الآية (٨٦) سورة البقرة.
الخفة والثقل يقالان على أضرب، الأول: خفيف في المخسر لطلب العلو كالنار، وثقيل في المسخر لطلب السفل كالحجر، الثاني: يقال على سبيل التصادف كشيئين يترجح أحدهما على الآخر فيصح أن يوصف شي واحد بأنه خفيف وثقيل على اعتباره بشيئين، الثالث على اعتبار الزمان نحو أن يقال: هذا الفرس خفيف، وذاك ثقيل بمعنى أنه إذا اعتبر عددهما بزمان واحد كان أحدهما أكثر عددا من الآخر، والرابع: يقال فيما تستجليه النفس خفيف، وفيما تعافه ثقيل، فالخفيف على هذا مدح، والثقيل ذم الخامس على العكس من ذلك، وهو أن يقصد بالثقيل معنى الرزين، وبالخفيف
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾
الآية: (٨٧) سورة البقرة.
الاقتفاء إتباع القفا، كما أن الارتداف إتباع الردف، وقفوته: أصبت قفاه نحو: قادته وبطنته إذا رميت ذلك منه، ثم يكني به عن الاغتياب، وقافية الشعر لاعتبار الاقتفاء فيها، والقفاوة ما يتفقد به الغير على سبيل الإيثار، والهوى اسم للقوة الشهوية، وأصله من الهوى، لأنه يهوى بصاحبه فلا يستقر به، والروح من الحيوان اسم للجزء الذي معه تحصل الحياة، ولما كانت الحياة تختلف، فمنها ما تشترك فيه الحيوانات ويحصل به التحرك والسعي واستجلاب النافع واستدفاع المضار، ومنها الحياة التي يختص بها الإنسان، وبها يكون الفكر والروية ولأجله قيل، فلان ليس بحي أو هو ميت إذا ضعف ذلك فيه، ومنها الحياة التي يستفيدها الإنسان بالعلم وهو أس ما يتوصل به إلى الحياة الأبدية، وإياها قصد بقوله: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ صار الروح يقال لكل ذلك، فيقال " ذوروح " لكل حيوان، وقيل للقرآن روح لما كان سببا للحياة الأبدية قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾، وقيل: سمي عيسى عليه السلام روحا، لأنه كان يحيى الموتى فصار كالروح، وقيل: سمي بذلك لأنه كان يفيد الناس ويعلمهم ما يتوصلون به إلى الحياة الأبدية، وقيل: سمي بذلك لقوله: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾، وذلك أنه لم يخلق من ماء ذكر وأنثى، وإنما قال له: (كن) وسمي جبرائيل (عليه السلام) روح القدس، والروح الأمين، وهذه الآية توكيد لذمهم والإنباء عن بعدهم عن الإيمان وأنهم قد أتاهم موسى بالكتاب، ثم اتخذوا العجل وأتاهم رسل فلم يعرجوا عليهم، وجاءهم
إن قيل: لم قال: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ وهلا جعلا ماضيين أو مستقبلين؟ قيل: أما من حيث اللفظ، فلأنه لما لم يكن يفسد المعنى روعي فيه المجانسة بين الفواصل ليكون اللفظ أحسن، وأما من حيث المعنى: فللتنبيه أنهم لم يتوقفوا في تكذيب من جاءهم من الأنبياء، فذكره بلفظ الماضي، إذ لا مزاولة فيه، وذكر القتل بلفظ الاستقبال تنبيهاً أنهم يزاولون قتله قدروا عليه أم لم يقدروا.
قوله - عز وجل:
﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ الآية (٨٨) سورة البقرة.
أصل الغلف ستر الشيء بالشيء الذي يجعل فيه، ومنه غلفت السيف والسرج والرحل واللحية بالغالبة، والأغلف الأقلف لكون ذلك منه في غلاف من غلفته أي قلفته وعزلته، فقوله: (غلف): قيل هو جمع غلاف وأصله غلف، فخفف، وقرئ غرف ككتب وقيل: هو جمع أغلف، فعلى الأول قيل معناه: قلوبنا أوعية للعلم لا تسمع علماً إلا وعته إلا ما تقول، بمعنى أن ما يقوله ليس بعلم، وعلى الثاني
ورد الله تعالى ذلك عليهم بأن ذلك لكونهم مبعدين عن العلم لسوء فعلهم، وقد تقدم أن سبب المانع من الفضيلة سببان: أحدهما: ابتداؤه ليس من جهة الإنسان نفسه، وهو متجاف عنه كمرتكب قبيح لزوال عقله بجنون أو مرض، والثاني: ابتداؤه من جهته، وهو مأخوذ به كمرتكب ذنب لسكره، فبين الله تعالى أن قلوبهم ممنوعة عن العلم بكفرهم وذلك من جهتهم، وقوله: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي لم يؤمنوا إلا إيمانا قليلاً أو زمانا قليلا، وذلك غير معتد به، لأن الإيمان هو التصديق المخصوص، ومتى لم يحصل كمالاً لم يعتد به، ولذلك عظم عقوبة ذلك بقوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، ونحو هذه الآية قوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾
قوله - عز وجل:
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ الآية: (٨٩) سورة البقرة.
الاستفتاح: طلب الفتح، والفتح ضربان، فتح إلاهي، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة، وفتح دنيوي، وهو النصرة في الوصول إلى اللذات البدنية وعلى الأول قوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾، وقوله ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ﴾ وعلى الثاني قوله:
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾، وقوله: ﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ قيل معناه:
قوله - عز وجل -:
﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.
الآية: (٩٠) من سورة البقرة.
بئس؟ كلمة تستكمل في جميع المذام، كما أن " نعم " تستعمل في جميع المادح، وأصله من البؤس، وهو المكروم وتصور منه الفقر تارة، فقيل بئيس، والنكاية في الغيرة فقيل بؤس، وسمى البسالة بأساً به وأصل البغي الطلب، واختلفت مكانيه لأختلاف المسند إليه، وربما خولف بين
شيئاً باعوا أنفسهم به كفرهم بكتب الله المنزلة، ثم بين أن أعظم هذا الجنس أن يفعل دلك حسدا على من خصه الله تعالى بفضل من عنده، وفضله ههنا أجل الفضائل، وهو النبوة، ثم بين أنهم بذلك استحقوا بذلك أنواعا من الغضب نوعاً بعد نوع نحو قوله: ﴿يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ﴾..
نعوذ بالله منه.
قوله- عز وجل:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ الآية (٩١) سورة البقرة.
وراء يقال للخلف والقدام، وهو في الأصل مصدر وارى، فلما كان المصدر يضاف إلى الفاعل وإلى المفعول، فمتى قيل وراء زيد بمعنى قدامه، فمعناه الذي يواري زيد، وإذا قيل بمعنى " خلف "، فهو الذي يواريه زيد، ثم جعل ظرفاً مثل كثير من المصادر، وإن قيل: كيف قيل للخلف " فلم تقلتون "، وكان القتل من السلف لا منهم، قيل: لما كان من عادة العرب أن ينسبوا إلى أنفسهم على طريق الفخر مأثراً بأيهم، فيقول فعلنا كذا متصورين بصورتهم خوطبوا أيضا في نسبة مثالبهم إليهم على ذلك
إن قيل: كيف قال: (تقتلون من قبل) ولا يجور في الكلام تخرج أمس، قيل: في ذلك وجهان.
أحدهما: أن عادة العرب إذا أرادوا أن يخبروا عن تعاطي فعلى مداوم عليه قرنوا لفظ الماضي بالمستقبل تنبيها على المداومة عليه نحو قول الشاعر:
ولقد أمر على الَّلئيم يسبنُّي...
فمضيتُ ثمة قُلتُ لا يعنينِي
وعلى ذلك يقال: فعلت كذا قبل وبعد، وافعل كذا قبل وبعد، فيجئ تارة بلفظ الماضي وتارة بلفظ المستقبل، والثاني إن قوله (من قبل) يتعلق بمقتضى قوله " فلم " الذي هو بحث عن علة الشيء، فكأنه قليل: أخبرني قبل عن سبب قتلكم، ومعنى لم تقتلون لم ترومون قتلهم، وهذا أوضح، وقوله: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ قيل معناه بما أنزل الله بعده من الإنجيل والقرآن، وقيل: معناه بما تنطوي عليه التوراة، وذاك أن انتساب المعنى إلى اللفظ انتساب المتأخر إلى المتقدم والباطن إلى الظاهر، ولهذا يقال: وراء هذا الكلام معنى لطيف، وفي ضمنه شيء حسن، وقد بين الله تعالي أنهم يدعون
قوله- عز وجل:
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾
الآية (٩٢) سورة البقرة.
جعل ذلك أيضا دلالة على دلالة قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا) فكأنه قيل: كيف آمنتم به وقد أتاكم موسى بالآيات البينات فما لبثتم أن عبدتم العجل ظلما، وظلمهم الإخلال بآيات الله وبيناته وتلقيها بالكفران والكفر، وفي تخصيص ثم زيادة فائدة، وهي أن ذلك منكم بعد تدبر الآيات والتمكن من معرفتها، والآيات.
ههنا هي الآيات التسع المذكورة في قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾، وقوله: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ﴾
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
الآية: (٩٣) سورة البقرة.
قوله: (اسمعوا)، قيل معناه: افهموا، وقيل معناه: اعملوا به، ووجه ذلك أن الشيء يُسمع به، ثم يتخيل، ثم يفهم، ثم يعقد، ثم يعمل به إن كان ذلك المسموع مما يقتضي عملاً، ولا كان السماع مبدأ والعمل غاية وما بينهما وسائط صح أن يذكر، ويراد به بعض الوسائط وأن يعني به الغاية وهي العمل، فمن قال معنى (واسمعوا) أي اعملوا به، فنظر منه إلى الغاية، ومن قال: افهموا واعقلوا فنظر منه إلى البدء أو إلى الوسائط، وقال بعضهم: قد قالوا قولاً سمعنا وعصينا، وقيل: إنما سمعوه وتلقوه بالعصيان، فكأنهم قالوا بدلك قولاً، كقول الشاعر:
امتلأ الحوض وقالَ قطْنىِ
وقال الآخر: قالَ جناحاهًُ لرجليه الحقَاَ
﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾...
من عادة العرب أنهم إذا أرادوا العبارة عن مخامرة حب أو بغض في القلب أن يستعيروا لها اسم الشراب، إذ هو أبلغ منجاع في البدن، ولذلك قالت الأطباء:
تغلغل حيث لم يبلُغْ شرابٌ....
ولا حزنُُ ولمْ يبلغْ سرُورُ
وقال أهل النحو: أريد حب العجل، فحذف المضاف تحقيقاً، ويجب أن يعلم أنه لو قيل حب العجل، لم يكن له من المبالغة ماله بحذفه، لأن فيه تنبيها أن لفرط شغفهم به ثبت صورة العجل في قلوبهم راسخة، وإن زالت ذاته الجسمية، ثم بين أن ذلك [كذلك] بسب كفرهم، لا أنه تعالى ظلمهم به، وما قال السدي وابن جرير أن موسى- عليه السلام- لما رجع إلى [قومه] برد العجل الذي عبدوه، فذراه في اليم، فلم يشربه أحد أحبه إلاً خرج على شاربيه الذهب، وليس ينافي ما تقدم تصورت ذلك حقيقة أم تصورته كناية وإشارة، وقال بعضهم: معنى أشربوا من قولهم: " أشربت البعير " إذا شددت حبلاً في عنقه، قال:
وأشربْتُها الأقران حتى وقصتُاً...
بقرْحِ وقدْ ألقينَ كلَّ جنين
فكأنما شد في قلوبهم العجل لفرط شغفهم به، فهو راجع إلى الأول تحقيقه وإن خالفه تشبيها وتمثيلاً، ثم بكتهم تعالى بقياس شرطي يدل على إبطال دعواهم الإيمان بالتوراة وهو قوله:
﴿بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، وتقديره: إن كنتم مؤمنين، فإيمانكم أمركم بذلك، وكل إيمان أمر بذلك فإيمان مذموم، وقد ثبت أن الإيمان بالتوراة ليس بمذموم ولا يظهر بالمذموم، فإذا
فإن عنى أن إن ههنا لفظة للنفي فدلك بعيد، وإن عنى أنه شرط مقتضاه النفي كما تقدم فصحيح والكلام في أنه كيف جعل الإيمان أمراً في قوله: ﴿يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ فقد تقدم في صدر الكتاب فصل كلي يكفي الاشتغال بهذه التفاصيل.
قوله - عز وجل -:
﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
الآية (٩٤) سورة البقرة.
الخالص كالصافي، لكن الصافي يقال فيما لم يكن قبل فيه شوب، ولا يقال: خالص إلا ما كان فيه شوب من [قبل]، فزال عنه، ولذلك قال الشاعر:
خلاصُ الخمْرِ منْ نسجِ الفَدَامِ
فاعتبر فيه معنى التخلص والتمني تقدير تأتي مشيته والتحدث به إما ضميراً، وإما مقالاً، ودون لما كان في الأصل القاصر عن الشر اعتبر ذلك في المكان تارة وفي الشرف تارة، وفي الاختصاص تارة، فإذا قيل: هذا لي دونك، فهو مفيد للاختصاص، ومعناه: أنت تقصر عنه، وإن قيل كيف قال: (من دون الناس) والمخاطبون أيضاً من الناس؟
قيل: قد قال بعضهم لفظه عام، ومعناه خاص، أي دون سائر الناس، وقال بعضهم في ذلك لطيفة، وهو أنه يقال: " فلأن ليس من الناس، وذلك متردد بين المدح والذم، فالمدح نحو قول بعضهم: فلان ليس إنساناً، بل هو ملك كريم...
فلست بإنسيَّ وَلكنْ لملاك
والذم نحو: فإنَّ جُلهُمُ أوُ كلهُمْ بَقر
ولما كانت الدار الآخرة لا تحصل للناس خالصة، بل لأبد في نيلها من تحمل شوائب وتجرع نوائب، وكانوا قد ادعوا أنها لهم خالصة قيل لهم ذلك بمعنى إن كنتم جنساً غير الناس في أن تحصل لكم الدار الآخرة خالصة [على حسب ما تحصل للناس] فتمنوا الموت، وإنما قيل لهم " تمنوا الموت "، لأنهم قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا﴾، وقالوا:
﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، فبين الله تعالي كذبهم في دعواهم ذلك فقال: إن كنتم أحباء الله، فالمحبة داعية إلى الشوق، والشوق داع إلى محبة لقاء المحبوب، ومحبة لقائه داعية إلي تمنى سهول السبيل إليه، ولا سبيل إلى الطريق إليه إلا بالموت، فيجب أن يكون الموت متمنى، فترككم تمني ذلك دلالة أن لا [محبة منكم له]..
إن قيل: فهل يجوز للمسلم أن يتمنى الموت؟ قيل:
أنا تمنيه على أن سخط ما أراد الله من حياته فلا يجوز فإن ذلك مضادة الله في أرادته، وتسخط لقضائه، وإما على أن يكرهه إذا أتاه، فجائز، وهو غاية الحكمة وشعار المؤمن المحق، ولذلك قيل: " لا يكون الحكيم حكيماً حتى يعلم أن الموت يعتقه والحياة تسترقه، وقيل: " سرور المؤمن بموته
الله لقاءه ".
وقال علي- رضي الله عنه:
" لا أبالي سقطت على الموت أو سقط الموت علي " إنما قيل: كيف أعاد الشرط، فقال: إن كنتم صادقين "، وذلك يقتضي جوابا أخر، قيل: إن ذلك كالبدل من الشرط الأول، فإن مقتضاهما واحد، لكن الصدق يتناول اللفظ، وقوله: ﴿إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ يتناول ذات الشيء، فصار كقول القائل لمن يدعي فعلاً: " إن فعلته فلك كدا إن صدقت "...
قوله - عز وجل -:
﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ الآية: (٩٥) - سورة البقرة.
التقدم إما أن يقال باعتبار زمانين، فيقال حديث وقديم، وإما باعتبار تقدم على الزمان، فيقال: قديم أي متقدم وجوده على وجود الزمان وإما بالشرف فيقال: " فلان متقدم على فلأن " أي أشرف منه منزلة وإما لما لا يصح وجوده إلا بوجود الأخر، فيقال لذلك الآخر قديم كقولك: الواحد متقدم على العدد، بمعنى أنه لو توهم ارتفاعه لارتفع الأعداد، وكما استعملوا القديم والحديث باعتبار زمانين استعملوا التقدم والتأخير، وقدام وخلف باعتبار مكانين، وباعتبار التقدم المكاني سمي القدم قدماً، وقد بت الله تعالى القول بأن لا تمنى للموت منهم قط، لما احتقبوه من الآثام، وفي ذلك أعظم حجة، فإنهم ما فعلوا ذلك ولا جسروا حتى قال - عليه السلام.
" لو تمنوا الموت ما قام رجل ممن مجلسه "، فلم يجسروا أن يقولوا كاذبين: نحن نتمناه، ثم بين تعالى بقوله؟ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ قدرته على معاقبتهم تهدداً لهم...
﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ الآية (٩٦) سورة البقرة.
الوجود يقال باعتباره بالحاسة، وباعتباره بالتخيل، وباعتباره بالفهم والعقل، ومتى قيل باعتباره بالعقل فعلى ضربين: متعب إلى مفعول واحد، ومعناه كمعنى عرفت، ومؤكد إلى مفعولين، ومعناه قريب من معنى علمت، والحرص أصله أن لا يرضى بالكفاية ويضاده القناعة، وأصله هن حرص القصار الثوب، والحارصة وهي شجة تشق الجلد، فالحرص كأنه مزيل للحياء والكرم عن النفس، وأصل الشرك مساواة اثنين فصاعداً في شيء كتجارة وزراعة وميرات [وشراك للفعل وشراك الخيط] معتبر فيه معنى الشركة، وكذا الشرك للطريق والحبالة للصائد، وصار الشرك متعارفاً فيمن يثبت مع الله إلاها آخر أو يصفه بصفة على حد ما يوصف به شي من المكونات فيطلق تارة على من لم يكن من أهل الكتاب، كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾، وهم الذين لا يقارون على بذل الجزية، ومرة يقال لأهل الكتاب لقولهم عزيز ابن الله والمسيح ابن الله [وقولهم اتخذ الله ولداً] ومرة يطلق على الربا ونحوه فروى أن أبا حنيفة- رحمه الله تعالي- قال لجعفر بن
محمد- رحمهما الله تعالى- من أين قال أبوك: الرياء شرك؟ فقال: من قول الله- عز وجل- ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾.
ولما لم ينفك عامة الناس من تشبيه ما في أوصاف الله تعالى ومن رياء ما في عبادته، قصارى تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾...
فإن قيل: كيف قال ذلك والذين أشركوا من الناس؟ قيل: لما كان للمشركين فضل اختصاص في محبة الحياة الدنيا خصهم بالذكر بعد العموم تخصيص جبرائيل وميكائيل بعد ذكر الملائكة، وتخصيص النخل والرمان بعد الفاكهة،
فإن قيل: فهلاَّ قال: أحرص الناس والمشركين، أو من أحرص من الناس ومن المشركين ليكون الكلام على نمط واحد، قيل: إنما قال كذلك لمعنى اقتضاه، وهو أن أفعل يستعمل على وجهين، أحدهما مضافة إلى جملة هو بعضها نحو: هو أفضل الناس، ومعناه أن فضله زائد على جل المضاف إليه.
الحقيقية التي وصف بها وللآخرة في قوله: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾، فأبان الله تعالي فرط حرصهم على الحياة الدنيا، وأن تمنيهم لها فوق تمني المشركين، إذ غاية تمنيهم للحياة ألف سنة، وبذلك يتداعون، ثم بين تعالى أن بقاءهم ألف سنة لا ينقذهم من عذاب الله إن ماله مدة فقصير، وإن طال، فكما قال الشاعر:
أرى العمرْ كنْزاً ناقصاً كُلَّ ليلةٍ....
ومَاَ تنقصُ الأيامُ والدهْرُ يُنْقلُ
قوله تعالى:
﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية (٩٧) سورة البقرة.
العدو التجاوز ومنافاة الالتزام، فتارة يعتبر بالقلوب، فيقال له العداوة، وتارة في المشيء، فيقال له العدو، وتارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة، فيقال له العدوان، وتارة إما في المكان وإما في النسب، فيقال قوم عدي أي غرباً، وجبريل فيه لغات، وإنما كثرت فيه اللغات لكونه معرباً، وتقرأه كل [قبيلة] على حسب استحقاقه، فمنهم من لم يتحر فيه أبنية كلامهم ولا تخفيف اللفظ، ومنهم من خفف ولم
إن قيل: كان الوجه أن يقال: " فإنه نزله على قلبي "، قيل: يجوز الأمران، فالحكاية تارة تعاد على اللفظ، نحو أن يقال: قل لهم الخبر عندي كذا وكذا، وتارة على المعنى، فيقال: " قل لهم: الخبر عندك كذا "، وعلى ذلك: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾ وسيغلبون ويحشرون "، ويجوز أن يكون قوله: قل خطاباً لجبريل، كأنه قال: قل للنبي.
قوله - عز وجل -:
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} الآية (٩٨) - سورة البقرة.
قد يدل على تفسير هده الآية ما روي سأل عن جماعة من اليهود عن سبب امتناعهم من الإسلام، فقالوا: إن الملك الذي يأتي محمدا...
جبريل، وجبريل عدونا ولو أتاه ميكائيل لآمنا به، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة، فقال عمر- رضي الله عنه- أنشدكم: أين جبرائيل وميكائيل من الله- عز وجل-؟
قوله - عز وجل -:
﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ﴾ الآية (٩٩) سورة البقرة.
عنى بالآيات القرآن وسائر المعجزات والدلالات التي أوضح الله- عز وجل - بها أمر النبي- عليه السلام-، وذكر أنه لا يجحد ذلك ولا ينكره إلا كل متناه في الكفر، والفاسق الخارج عن الطاعة، إما عن أصل الدين، وإما عن بعض الطاعات بارتكاب كبيرة، ولذلك قال- عز وجل- في إبليس: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾، وقال فيمن يرمي المحصنات: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ فبين الفاسق والفاسق بون..
﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الآية (١٠٠) سورة البقرة.
[النبذ] والطرح والإلقاء متقاربة، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما ينسى، وعلى ذلك قول الشاعر:
كنبذكَ نَعلاً أخُلَقَتْ منْ نعالِكاَ
وقيل: صبي منبوذ إذا ألقته أمه فنسيته، واستعير للشراب الملقى المنسي إلى وقت إدراكه، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه، والإلقاء يعبتر فيه ملاقاة بين الشيئين أو بين الشيء ومكانه، ومعنى الآية: أنه لما بين تعالى أنه قد أنزل مالاً يكفر به إلاً كل فاسق بين لفظ الإنكار أن عادة بعض اليهود المذمومين تضيع العهد اللازم واطراحه، ثم بين أن عادتهم لا يؤمنون تنبيهاً أن أكثرهم وإن لم ينبذوا العهد جهاراً لم يحص منهم الإيمان الذي هو معرفة ما يجب معرفته وفعل ما يجب فعله، بل اقتصروا على ظاهر القبول الذي لا يعتد به على الحقيقة...
قوله - عز وجل -:
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ الآية (١٠١) سورة البقرة.
الرسول ههنا إن جعلته الرسالة أو جعلته النبي محمداً - ﷺ - جعلته المسيح عليه السلام فالكل صحيح ومراد، وكذلك إن جعلت الكتابة ههنا التوراة أو جعلته القرآن فصحيح.
لأن المنكر لأحدهما
جاهل غير عالم بجهله، وهو الشرير الذي لا مداواة له، وإياه عنى بقوله.
﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾، وجاهل عالم بجهله، وهو الشاك وإياه عنى بقوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، ومعاند غير جاهل، وإياه عنى بقوله: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ووصف هذا الفريق بأن حكمهم حكم الجاهلين الذين هم فوق الموصوفين بأنهم لا يؤمنون، [وكل من دافع الحق لا ينفك من الأقسام الثالثة التي ذكرناهما والله أعلم]...
قوله - عز وجل -:
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾
الآية (١٠٢) سورة البقرة.
تلا: يقال تارة في اتباع الغير إما بالجسم وإما بالحكم، ومصدره تلو، وتلو وتارة في اتباع الكلام، وإما بالقراءة وان ابالتدبر لمعناه، ومصدره تلاوة وعلى الأول قوله: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾
المتوسمين بالحكمة، وهو أنه عمل يقرب إلى الشيطان بمعونة منه، وذلك أن توقع الساحر وهمه على أمر يريد فعله بالغير لافظاً بكلمات من الشرك ومادحاً للشيطان مستعيناَ به والدي يحتاج إليه في معرفة ذلك مقدمة، وهي أن الجواهر المكلفة ضربان جسماني محسوس، وروحاني معقول، فكما أن الجسماني بالقول الجمل ثلاثة أقسام: خيَّر، وشرير، ومتوسط، كذلك الروحاني، فالخير من الروحاني الأرواح المقدسة، وهي الملائكة، والشرير شياطين الجن والمتوسط مؤمنو الجن كمن نزل فيهم سورة
الجن، ولا كانت الملائكة لا تواصل ولا تعاون إلا خيار الناس كل متأله نقي، وكل ناسك تقي متشبه بهم في المواظبة على العبادة والتقرب إلى الله - عز وجل- بالفعل والقول، كذلك الشياطين لا تواصل ولا تعاون إلا الأشرار من الناس كل مشرك خبيث عابد للشيطان معاند للرحمن، ولهذا قال: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، وقال: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾
إن قيل: لو أمكن الإنسان من جهة الشيطان الوقوف على الأخبار الغائبة والأفعال
الأول: أن ما جرى معطوف على قوله ﴿مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ ومعناه: كذبوا على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين والثاني: أن ما نفى وعلى القولين: قيل لم يعلم الملكان السحر، بل كانا ينهيان عنه ﴿حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ أي حتى بلغ من نهيهما عن ذلك أنهما كانا يقولان إنما نحن فتنة، أي مفتونون بأن نعلم السحر وذلك مستبعد من حيث اللفظ، فإنه إنما يقال: فلان لا يفعل كذا حتى إنه يقول كذا على سبيل الاستئناف، ولا يقول حتى يقول، وقال هذان القائلان معنى (ويتعلمون منهما) أي
والشر إذا واجبة كوجوب معرفة الصدق والخير، بل لا يتم معرفة أحدهما إلا بالآخر كما قد تبين أن المعرفة بالمتضادين واحد، وإن كان معرفتهما لازمة، فتعريفهما واجب، وإنما المستقبح تعاطي الكذب والقبيح، فإذا كان كذلك فلا ضير أن يبعث الله تعالى من قبله في وقت يكثر فيه الاستغواء بالسحر هن ينبه على وجه احتياله، فتزول عن الناس الشبهة، ثم إن استعان شرير به على تعاطي شر، فهو كالاستعانة بتعلم الفقه وتعاطي العبادات لاستغواء الناس، فما من شي من المعادن أو من المعارف والعلوم نسخ في هذه الدار مصلح لخير إلا ويمكن استعماله في شر، ومن لم يتمسك فيما يتحراه بالطاعة وقع في المعصية أو الكفر، وأما هاروت وماروت فالظاهر أنهما. كانا الملكين، وقيل: كانا رجلين سُميَا ملكين اعتباراً بصلاحهما ولهذا قرأ بعض القراء ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ اعتباراً بملكهما، وقال بعض المفسرين إن الملكين ليسا بهاروت وماروت، وإنما هما شيطانان من الجن والإنس وجعلهما نصباً في اللفظ بدلاً من الشياطين بدل البعض من الكل كقولك: القوم قالوا كذا زيد وعمرو، قال: ويكون قولهما: (وإنما نحن فتنة) كقول الخليع لغيره: لا تعيرني فإني خليع فاسق، ويكون قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ نفقاً اعتراضاً بين البدل والمبدل منه، وروى بعض من جعلهما ملكين أنهما كانا صيُراً على صورة الآدميين وركب منهما الشهوة، وأنهما تعرضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على شرب الخمر وارتكاب المحظور ثم صعدت إلى السماء، فقد استسخف جماعة الجدليين قائل هذا الحديث وعدوه خرافة ينره العاقل سمعه عن سماعه، وذكر بعض الناس أن ذلك رمز منقول عن
إن قيل: كيف قال: ﴿مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ وما يضر يعلم أنه لا
ينفع؟ قيل: إن ذلك من وجه ووجه، فقد يكون الشيء نافعة من وجه وضاراً من وجه، وتعلم السحر كان
قوله - عز وجل -:
﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ الآية (١٠٢) سورة البقرة.
ويصح أن يكون معطوفاً على المعلوم، وهو قوله: ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ ويصح أن يكون استئنافا حكماًَ به، وجواب قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ محذوف.
إن قيل: كيف أثبت لهم العلم في أول الكلام ونفى عنهم في أخره؟ فالجواب في ذلك من أوجه..
الأول: أن العلم المثبت لهم هو العقل الغريزي، وما جعله لهم بصيغته، والمنفي عنهم هو المكتسب الذي هو من جملة التكليف، والثاني: أن المثبت لهم هو العلم بالجملة، والمنفي عنهم هو العلم بالتفصيل، فقد يعلم الإنسان مثلاً قبح الشيء ثم لا يعلم أن فعله قبيح، فكأنهم علموا أن شرى النفس بالسحر مذموم، لكن لم يتفكروا في أن ما يفعلونه هو من حملة ذلك القبيح، والثالث: أنهم علموا عقاب الله، لكن لم يعلموا حقيقة عقابه وشدته، والرابع: أن معنى قول ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ يعملون به، لأن من لا
يعمل بما يعلم فهو في حكم من لا يعلم.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ الآية (١٠٣) - سورة البقرة.
الثؤوب: رجوع الشيء إلى حالة شبيهة بالحالة الأولى، يقال: ثاب الحوض إذا امتلاء بعد فراغه عقيب امتلائه، والثوب لتصوره بصورة القطن لاجتماع أجزائه بعد تفرقها بالغزل، والثيب من النساء لعودها إلى الأيمة، والتثويب في الصوت ترديده، والثواب والمثوبة في الخير تحصيل نفع يثوب إليه بإحسانه، ومعنى الآية: لو أمن الذين يتعلمون السحر واتقوا لأثيبوا وكان ذلك خيرا لهم، ولو علموا لظهر لهم ذلك، وجواب لو [الأولى] ما دل عليه لمثوبة وتقديره: لأثيبوا، تقول: لو أتاني زيد لإكرامي خير له، ولا تقول له أتاني زيد لعمرو منطلق، إذ لم يدل لفظ عمرو على فعل، وجواب لولا يكون إلا فعلاً، أو ما دل عليه، ومن النحويين من أجاز ذلك إذا دل الخبر على فعل...
قوله - عز وجل -:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
الآية (١٠٤): سورة البقرة:
الراعي: حفظ الغير في أمر يعود بمصلحته، ومنه: رعي الغنم، ورعي الوالي الرعية، وعنه نقل: أرعيته سمعي، وتشبيهاً برعي الغنم قيل: رعيت النجوم إذا راقبتها، وكان يقال للنبي- عليه السلام-[راعنا] أي استمع إلينا واحفظنا، فقالت اليهود: راعنا تعريضاً به من الرعونة، فلما عوتبوا قالوا: إنما نقول مثل ما يقول المسلمون، فنهوا عن ذلك، وقيل لهم: قولوا بدل ذلك انظرنا، وذلك معناه معنى راعنا، وقد نبه على ذلك بقوله- عز وعلا-: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَاسْمَعُوا﴾: يجوز أن يكون من جملة ما أمروا لن يقولوا مع قولهم " انظرنا " ويجوز أن يكون ذلك استئناف أمر من الله تعالى بامتثال ما أمرهم به، وقيل: إنما نهوا عن قولهم: " راعنا " لكونه
قوله - عز وجل -:
﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ الآية (١٠٥) - سورة البقرة.
الود: محبة الشر مع تمنيه، ولما كان لهما استعمل في كل واحد منهما، فقيل: وددت فلانا إذا أحببته، وددت الشيء إذا تمنيته، وأصل الاختصاص الخصاص وهو فرجة بين الشيئين، ومنه الخُص لبيب من قصب لما فيه من الفرج، وسمي انثلام الحال خصاصاً وخصاصة على التشبيه، كما سمي انثلاماً واختلالا وشعباً، وخصصت فلاناً وخصني أوليته خصاصي نحو خللته، وقولهم: وقفتهم على عجزي ونحري، وخُصان الرجل خلانه، ثم جعل الخاص مقابلاً للعام في التعارف، وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من اليهود كانوا يظهرون مودة المسلمين، ويزعمون أنهم يودون لهم الخير، فأكذبهم الله تعالى في ذلك، ونفي ما أدعوه وكان المسلمون يوالونهم ويركنون إليهم، فأكذبهم الله تعالي في ذلك [ونفى ما ادعوه] ونهاهم تعريضاً عن موادتهم، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ﴾
إن قيل: فلم قال: " ولا المشركين " وذلك يقتضي أن المشركين ضربان، كافر، وغير كافر كما أن أهل الكتاب ضربان؟ قيل: إن " من " في قوله (ومن أهل الكتاب) للتبيين ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾، فإذا كان كذلك، فالذين كفروا هم أهل الكتاب، فجاز أن يقال: (ولا المشركين) عطفاً على لفظ أهل الكتاب، وجاز أن يقال (ولا
بتمكين الله إياه وضرب يخص تعالى به بعض عباده لا يعرفه في ذلك..
قوله - عز وجل -:
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
الآية (١٠٦) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في مناهية النسخ والفرق بينه وبين التخصيص في صدر الكتاب، والنسخ في اللغة إزالة الصورة عن الشر وإثباتها في غيره كنسخ الظل للشمس، ثم يقال في إزالة الصورة من غير إثباتها في غيره نحو قوله تعالى: ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾، ويقال أيضاً في إثبات مثل تلك الصورة في الغير من غير إزالتها سكن الأول كنسخ الكتاب وأصحاب التناسخ زعموا.
أن النفوس تنتقل من هيكل إلى هيكل، فإن كانت محسنة انتقلت إلى هيكل متنعمة فيه، وإن كانت مسيئة فإلى هيكل معذبة فيه، وليس الإنسان الأمر بالترك المؤدي إلى النسيان، وليس كل متروك يقال له منسئ، وقرئ ننسأها من النسئ، وهو تأخير الشيء عن وقته أو عن هيئته، فمما هو بالوقت قولهم:
نسأت في ظمي الإبل، ونسأ الله في أجلك، و " نسأت المرأة " تأخر وقت حيضها، وأنسأت فلاناً البيع، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ ومما هو بالهيئة نسأت الإبل عن الحوض،
إن النسخ لا يكون إلا في معنى الأمر والنهي معني الخبر والإنشاء يكون في الإخبار وفي الأمر والنهي، لكن في الخبر معناه لا يزول وإن زال اللفظ، وقد يستعمل أحد اللفظين مكان الأخر، فمن هذا ما روت عائشة- رضي الله تعالى عنها- أنه نزل في قصة أهل بئر معونة قرآن منه: (بلغوا قومنا) أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا)، ثم نسخت، ففيه دلالتان:
إحداهما أن قوله: (لقينا ربنا) إخبار، وقت سمته نسخاً، والثانية: أنها استعملت النسخ في رفع التلاوة دون المعنى، وعلى ذلك ما روي أنه كان فيما أنزل الله: (لو أن لابن أدم واديين من مال لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملا جوف ابن أدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)، ثم نسخ وذلك خبر، وقيل: الكلام في تأويل الآية أن يذكر ما يكشف خطأ اليهود وشرذمة من المسلمين أنكروا النسخ زاعمين أن ذلك هو المبدأ، ولا يفعلن إلا من يجهل العواقب ويتجدد له رأي بعد رأي، فيقال وبالله التوفيق...
" إن لله تعالى خلفاء في الأرض مستخلفين فيها ومستعمرين فيها لنتوصل بذلك إلى مجاورته والقرب منه بحياة لا موت بعدها، وغنى لا حاجة معه، وقدرة لا يعتورها عجز، ولا سبيل إلى ذلك إلا باكتساب الصحة في النفس، وصحتها أمران: العلم والعمل، أما العلم: فمعرفة الصدق من الكذب، والجميل من القبيح، والخير من الشر، وأما العمل: فتحري الصدق في المقال والجميل في الفعال وتجنب ضديهما، وكما لا سبيل إلى استفادة صحة البدن إلا بطبيبين، أحدهما من داخل وهي القوة
فإن قيل: إن الذي ترك ولم ينسخ ليس هو مثله بل هو هو، فكيف قال بمثلها؟ قيل: الحكم الذي أنزل في القرآن وكان ثابتا في الشرع الذي
قلنا يصح أن يقال هو هو إذا اعتبر بنفسه ولم يعتبر بكسوته التي هي اللفظ، ويصح أن يقال: هو مثله إذا لم يعتبر بنفسه فقط، بل اعتبر باللفظ، ونحو ذلك أن يقال ماء البئر هو ماء النهر إذا اعتبر جنس الماء، وتارة يقال: مثل ماء النهر إذا اعتبر قرار الماء، وعلى قول من جعل الإنسان ترك اللفظ حتى تنسى قال: معناه: إدا أزيل حكم آية أو أنسى لفظها نأت بما هو أوفق لكم وأقرب إلى أن يبلغوا به إلى ما أريد منكم، ثم قال: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي لا تحسبن أن تغييري الحكم حالاً فحالاً وإن لم آت بالثاني في الابتداء هو العجز، فإن من علم قدرته على كل شي لا يظن ذلك، وإنما يعتبر ذلك لا يرجع إلى مصلحة العباد، وبدأ الأليق بهم في الوقت المتقدم الحكم المتقدم وفى الوقت المتأخر الحكم المتأخر، وقال بعض المحققة أن الآية مع هذا الظاهر تنبئ عن معنى لطيف، وهو أن الله تعالى خلق الإنسان خلقة تدرجه من حال إلى حال إلى أنما يصير كاملاً موصوفاً بعام
إن قيل: إذا لم يحمل خبر علي التخفيف فليست الثانية خيراً من الأولي في شي من الأحوال، لأن الأولى في الوقت أصلح وأفضل، والثانية في الوقت أصلح وأفضل، فقد تساويا في عظم المصلحة، وبطل أن يكون الثانية خبرا بأن يكون أثقل وأكثر أعمالاً ليكون أجزل في الأجر وأكثر ثواباً، ومع هذا
قوله - عز وجل -
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾
الآية (١٠٧) - سورة البقرة.
الولي يقال تارة لمن له موالاة نسبية أو خلف، وتارة لمن له ولاية سلطانية، وإنما ذكر الولي والنصير، وهما متقاربان بالعنف، لأنه قد ينفك الولي من النصرة بأن يكون ضعيفاً، والنصير من الولاية بأن يكون عن المنصور أجنبياً، وقوله: ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّه﴾ ِإذا تصور خطاباً للكفار اقتضى وعيدا أي لأولي وناصر يحميكم عنه نحو قوله تعالي.
﴿إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ﴾ إدا تصور خطابة للمؤمنين اقتضى تسكيناً لهم أي لا تعتدوا بمن يواليكم وينصركم سواه، كقوله: ﴿ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾، وإذا اعتبر بهما فالمعنيان فيهما موجودان أي لا تعتقدوا أن لكم ولياً وناصراً إذا لم يكن الله وليكم تنبيها أنه تعالي هو الذي لا يمكن تصور ولي وناصر مع تصور
الكلام على لفظ التقرير لكونه أبلغ في حكم الخطابة، وموضع قوله: (ومالكم) معطوف على موضع ﴿أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾...
قوله - عز وجل -
﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾
الآية (١٠٨) - سورة البقرة.
السبيل والطريق يتقاربان لكن السبيل يقال على اعتبار السبل، كقولهم: طريق مسنون، ومنه أسبلت الإزار، والستر والسبلة المسترسل من الشعر على الشفة العليا والسبيل المطر مادام بين السماء والأرض، والطريق يقال على اعتبار طرقه بالأرجل، االسواء أصله يستعمل في المكان الذي يستوي فيه إليه مسافة الطرفين وفي ذلك معنى القصد والعدل، فصح أن يفسر بالوسط وبالقصد وبالعدل وليست هذه الألفاظ في تفسيره أقوالاً مختلفة كما ظنه بعض المفسرين، وأما " أم "، فقيل هو معطوف على قوله: (ألم تعلم)، وتقديره: ألم تعلموا ذلك أم لم تعلموا فتسئلوا رسولكم، وقيل هو لاستئناف الاستفهام المفسر بها، كقول الشاعر:
كذبتْكَ عيْنُكَ أمْ رأيْتَ بِواسطٍ؟
إن قيل: ما فائدة قوله: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ ومعلوم أنه بدون الكفر بالإيمان يعلم أنه قد ضل؟ قيل سواء السبيل وفي ذلك تنبيه أن ضلالة سواء السبيل قائدة إلى الكفر بعد الإيمان، ومعناه: " لا تسألوا رسولكم كما سئل موسى فتفضلوا سواء السبيل فيؤدي بكم إلى تبديل الكفر بالإيمان "، فمبدأ ذلك الضلال عن
سواء السبيل، ووجه آخر وهو أنه سمي معاندة الأنبياء عليهم السلام بعد حصول ما تسكن النفس إليه كفراً، إذ هي مؤدية إليه، كتسمية العصير خمراً، فقال: " ومن يتبدل " أي يطلب تبديل الكفر والإيمان أي بما حصل له من الدلالة المتقضية لسكون النفس فقد ضل سواء السبيل، ووجه ثالث، وهو أن ذلك نهاية التبكيت لن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل، وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه، ووجه رابع: وهو أن سواء السبيل إشارة إلى الفطرة التي فطر الناس ما عليها، والإيمان إشارة إلى المكتسب من جهة الشرائع، فقال: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ أي بالإيمان الكتاب فقد أبطله وضيع الفطرة التي فطر الناس عليها، فلا يرجى له نزوع عما هو عليه بعد ذلك...
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
الآية (١٠٩) - سورة البقرة.
الحسد: كراهية نعمة على مستحق لها، وعدت من عظائم الذنوب، إذ هو معاندة الله في إرادته، وهو شر من البخل، فإن الحسد بخل على الغير بنعمة من لا تنفد العطايا نعمه، والعفو ترك العقوبة على المذنب، والصفح ترك ترئته، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح، وصفحت عنه: أي أوليته مني صفحة جميلة معرضاً عن ذنبه، أو لقيت صفحته متجافياً عنه، أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه إلى غيرها من قولك: تصفحت الكتاب، وفي الآية تنبيه أن كثيراً من أهل الكتاب يتمنون ارتدادكم بعد إيمانكم حسداً، وقوله: (من عند أنفسهم) أي من عند هواهم كقوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾، وعبر عن الهوى بالنفس وهي الأمارة بالسوء، وبين أنهم فعلوا ذلك بعد وضوح الحق لهم، ولكنهم بحسدهم وهوائهم لا يتحرونه، ولا يحبون أن يتحراه غيرهم، ثم أمر بالتجافى عنهم إلى أن يأتي الله بأمره تسكيناً لهم ووعداً بتغييره لقدرته على كل شك، وروي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، وقال غيره: هي غير منسوخه، وهذا الخلاف يرجع إلى اختلاف نظيرين، وذاك أن كل أمر ورد مقيداً بانتهاء ما معين أو غير معين فورود الأمر بخلافه يصح أن يقال: هو نسخ له من حيث إنه يرفع الأول، ويصح أن يقال: إنه ليس بنسخ، فإن النسخ في الأمر المطلق.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
الآية (١١٠) - سورة البقرة.
هذا معطوف على قوله: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾، ومعناه: اشتغلوا بالعبادات التي يعود عليكم فعلها نحو: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾، وجعل ثواب الفعل نفس الفعل لكونه إياه في التقدير، وبهذا النظر سمي ثوابه وهو الثائب إليه، فلذلك قال: تجدوه، وبين أن كل خيري حصله الإنسان فمدخر له بخلاف عمل الكفار الذي قال فيه: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾، وبخلاف عمل الدنيا الذي قال فيه: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾، وعلى ذلك قال: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾، وقال: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، وأمنهم من ضياع ما يقدمونه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ تنبيها على نحو قوله: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾.
إن قيل: كيف قال تجدوه، ومن أحبط عمله لا يجده! قيل الخبر المقدم في الحقيقة هو الذي لم يحبط، فأما ما أحبط فقد أخرج من كونه خيرا [وإن كان] قد يسمى في بعض الأحوال خبراً بنظر من يضعف نظره...
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
الآية (١١١) - سورة البقرة.
البرهان: كل حجة لا يعتريها شبهة بوجه.
وهود، قال الفراء: أصله يهود، فحذف ياؤه لكونها زائدة، وقال غيره: هو جمع هايد أي تائب نحو: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾، وكأنه كان في الأصل اسم مدح لمن تاب منه، ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازماً لجماعتهم كالعلم لهم وجعل مقالهم ذلك، أماني من حيث أن الأمنية مقال منيعة عن تقدير، فيستعمل تارة في التقدير حقاً كان أو باطلا على ذلك، حتى بين ما تمنى لك الماني، وتارة في المقال، وقوله: (لن يدخل) كلام " ملفوف " وتقديره: قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى: لن يدخلها إلا النصارى فأجمل اكتفاء بعلم السامع أن يرد كلأ إلي ما يقتضيه ونحوه في الإجمال قوله- عز وجل- ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾.
ثم [كذبهم] بعجزهم عن إقامة البرهان على ما ادعوه.
قوله- عز وجل- ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
بل: رد لدعواهم وإثبات لضد حكمهم، والإسلام: الدخول في السلم، وقيل للانقياد إسلام، نحو:
كَمَاَ أسْلمَ السَّلْكَ منْ نِظْمه...
لألئ منُحْدراتٍ صغَاراً
لأن الانقياد للمسالم من مقتضى السلم، وجعل الإسلام في الشرع ضربين، ضرباً قبل الإيمان دونه، وهو الاعتراف باللسان الذي يحقن الدماء حصل معه الاعتقاد الصحيح أو لم يحصل، وإياه
﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ وضرباً بعد الإيمان وفوقه، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب ووفاء بالفعل، وإياه عنى يوسف بقوله: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾، وقال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ أي الطاعة هي تسليم لأمر الله- عز وجل، وهذا الإسلام بين مبدأه ومنتهاه بون بعيد، وكان منتهاه على حسب طاقة البشر حال إبراهيم- عليه السلام- حيث ابتلى، فقيل له أسلم، فقال أسلمت لرب العالمين، ثم وفي بما كان منه، وهذا هو الإخلاص المراد من الأولياء، وأصل الوجه العضو المقابل من الإنسان فاستعير للمقابل من كل شيء حتى قيل: واجهته ووجهته، وقيل للقصد وجه، وللمقصد وجهة، وعلى ذلك ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾، ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾، ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾ وعلى ذلك قوله: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا﴾.
ولما جعل دلك للقصد أضيف تارة إلى القاصد كما تقدم، وتارة إلى المقصور، كقولك: " أردت بكذا وجه الله "، وقد حمل على ذلك ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾، وقيل: الوجه في هذه المواضع اسم العضو مستعاراً للذات، فقوله: أسلم وجهه أي نفسه والإحسان قيل هو الإتيان بلد فرض العبادة بالنفل، وبعد إقامة العدل بالفضل ولما كذبهم الله عز وجل فيما ادعوه
إن قيل: كيف قال (لا خوف عليهم) وقد مدح المؤمنين على خوفهم بقوله: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ قيل: إن الذي نفي عنهم هو ما تقدم آنفاً، والذي مدحهم به هو توفية حق العبادة، فإن مخافة الله إقامة عباداته وارتسام مرسوماته، ولذلك قيل: من لم تخف نفسه الدنيا فلا يعذبه [خائفاً] وقيل: معنى ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي: من آمن وعمل صالحاً، وما تقدم منطوٍ على هذا...
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾
الآية (١١٣) - سورة البقرة.
الكتاب يتناول كل كتاب منزل، والفرقان يقال في التوراة وفي القرآن، والقرآن يختص بالمنزل على محمد - ﷺ -، وروي أنه لما قدم نصارى نجران علي رسول - ﷺ - أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عنده، وقال كلا الفريقين للآخر: لستم عدي شيء، فأنزل الله-عز وجل - هذه الآية،
إن قيل: كيف عرض تعالى بتكذيبهم فيما ادعوه وقد صدق الفريقان على قول المسلمين؟ قيل: ليس قول أحد الفريقين بسديد من وجه، إذ قد بتوا الحكم وليس ذلك على البت والقطع، فلكا الفريقين في وقت وعلى وجه على حق، على أن القصد بالآية الدلالة على جهلهم وتخبطهم مع تشاركهم في قراءة التوراة دالة على ما اختلفوا فيه، فبين أن كلا الفريقين حائد عن الطريق، وأنهم في الجهل أو التجاهل
كالمشركين الذين لا كتاب لهم في دعواهم على أهل الكتابي والمسلمين أنهم ليسوا على شي، ثم توعد الفريقين بحكمه بينهم [يوم القيامة] وقد أبهم حكمه فيدخل فيه كل قول قالوه من قول من قال: عني إنصاف المظلوم من الظالم، وقول من قال: عني تعريف المكذب من المكذَّب، وقول من قال: مثل قوله ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
الآية (١١٤) - سورة البقرة.
المنع، أن يحال بين من المراد ومريده، ولما كان الشيء قد يمنع ضناَ به صار المنع متعارفاً في المتنافس فيه، والسعي مشئ بسرعة، وهو دون العدو، وخص بأنواع من السعي منها: السعاية، أي الوشاية وسعي العبد في اكتساب ما يعتق به والتصرف، للتكسب، ولجباية الصدقة حتى صار الساعي معروفة في جابي الصدقة، وجعل المساعدة كناية عن الفجور بالأمة والخراب ضد
العمارة، وجعل الخربة لسعة خرق الأذن تشبيها بالخراب، وشبه عروة المزادة بها، فقيل خربة، والخارب: السارق لتخريبه، أو لكونه سكاناً في خراب متوحشاً عن الناس، فيكون بنائه كباد وحاضر، وقيل: هو مخصوص بسارق الإبل خاصة، والأولى بالمساجد أن تكون عامة في كل مكان مرشح للصلاة، فقد قال عليه السلام.
" جعلت لي الأرض مسجداً وطهواًَ "، وعظم تعالى ظلم من سعي في المنع من ذكر الله وتخريب الأمكنة المختصة بأهل الشرائع المحقة مسجدا كان أو غير مسجد، وليس
التخريب الهدم فقط، بل تعطيله عن عباده الله- عز وجل-.
وقول ابن عباس ومجاهد: إنه عني به الروم إذ خربوا بيت المقدس، وقول غيره إنه عني " بخت نصر " لما خربه، وقول من قال: إنما عني به المشركين إذ صدوا النبي عليه السلام عن المسجد الحرام،
قوله - عز وجل -:
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾
الآية (١١٥) - سورة البقرة.
المشرق والمغرب تارة يقالان بلفظ الواحد إما إشارة إلى ناحية الأرض، وإما إلى المطلع والمغيب، وتارة بلفظ التثنية إشارة إلى مشرقي ومغربي الشتاء والصيف، وتارة بلفظ الجمع اعتباراً باختلاف المغارب والمطالع كل يوم، وشرقت الشمس طلعت، وأشرقت: أضاءت وذلك إذا كثير شروقها، وشرقت اللحم: ألقيته على الشمس المشرق، والشرف الصلب لأنه يقام فيه صلاة [العيد] عند شروقها، وشرق الثوب بالصبغ تشبيها بلون الشرقة، والغروب للشمس تصور منه بعد ذهابها عن العمارة، فيقال لدى تباعد غروب، ومنه الغروب لكونه مبعدا في الذهاب، وغارب السنام لبعده عن المنال، وغرب السيف أبعد جزء من صحيفته، ثم تصور منه حدته، فقيل لسان غرب وسمي الدلو غرباً
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾
الآية (١١٦) - سورة البقرة.
القنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع، ولما كان لهما فسر بكل واحد منهما، فقيل في قوله: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ أي خاضعين، وقيل طائعين، ولما كان من تمام القنوت القيام والسكون ما لم يكن أمر بخلافه واستعمل فيهما، فقيل في قول النبي - ﷺ - لما قيل له: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت " أي القيام، ولما ادعى النصارى في المسيح واليهود في عزير أنهما أبناء الله، ومشركوا العرب في الملائكة أنهم بنات الله تقدس ألفه تعالى عن ذلك، نبه على أقوى حجة على نفي ذلك وبيانها هو أن
لكل موجود في العالم مخلوقاً طبيعياً أو معمولاً صناعياً عرضاَ وكمالاً أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض كاليد للبطش، والرجل للمشي، والسكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر وإن كان اليد قد يصلح للمشي في حال، والرجل للتناول، لكن ليس على التمام، والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه، وجزء منه لا لم يجعل الله له سبيلاً إلى بقائه بشخصه، فجعل له بذراً لحفظ نوعه، ويقوي دلك أنه لم يجعل الشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذراً، واستخلافاً لما لم يجعل لها فناء النبات والحيوان، ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم بلا ابتداء ولا انتهاء، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى، ولهذا قال سبحانه أن يكون له ولد، أي هو منزه عن السبب المقتضي للولد، ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما، ودلك لما تقدم أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلفه لكونه غير كامل في نفسه، بين تعالى بقوله ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أنه لا يتوهم له فقر فيه فيحتاج إلى اتخاذ
إن قيل: من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلي الله تعالى؟ قيل: قد ذكر أن في الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم " الأب "، وعلى الكبير منهم اسم الإله- حتى إنهم قالوا: إن الأب هو الرب الأصغر، وإن الله هو الأب الأكبر "، وكانوا يريدون بدلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان، وأن الأب هو السبب الأخير في وجوده، وأن الأب هو معبود الابن من وجه، أي مخدومه، وكانوا يقولون للملائكة آلهة كما قالت العرب للشمس إلهة، وكانوا يقصدون معنى صحيحا
كما يقصد علمائنا بقولهم:.
الله محب ومحبوب، ومريد ومراد، ونحو ذلك من الألفاظ، وكما يقال للسلطان الملك وقول الناس " رب الأرباب.
، إله الألهة "، " ملك الملوك "، ومما يكشف عن تقدم ذلك التعارف ويقوي ذلك ما يروى أن يعقوب كان يقال له " مكر الله "، وأن عيسى كان يقول، " أنا ذاهب إلي أبي، ونحو دلك من الألفاظ، ثم تصور الجهلة منهم باخرة معنى الولادة الطبيعية، فصار ذلك منهياً عن التفوه به في شرعنا تنزهاً عن هذا الاعتقاد، حتى صار إطلاقه وإن قصد به ما قصده هؤلاء قرين
الكفر، وقد استدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن الملك لا يقارن الولادة، وأن من ملك والده أو مولوده عتق عليه، لأنه تعالى نفي عن نفسه الولد بإثبات الملك له وهذا بعيد عما قصد في الآية بالمقال وإن كان فيه مجال للجدال...
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
الآية (١١٧) - سورة البقرة.
البديع: يقال للمُبدع والمبدع جميعاً، والإبداع إيجاد فعل ابتداء لا احتذاء، ولهذا قيل: فلان بدع في كذا، وجدل البدعة اسماً لكل مخترع لم يؤثر عن أرباب الشرع.
والقضاء: إتمام الشر قولاً أو فعلاً، فمن القول قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾، ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾، ومن الفعل قوله: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ وقضى فلان دينه، وقضى
نحبه، وانقضى الأمر، وتقضى بلغ أخره، ذكره تعالى هذه الآية حجة رابعة شرحها أن الأب هو عنصر للابن، منه تكون، والله مبدع الأشياء كلها، فلا يكون عنصرا للولد، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلاً، وخص لفظ الإبداع لكونه أبلغ لفظاً وأبعده عن الاحتمال، وذلك أن أفعال الله تعالى على ثلاثة أوجه: إبداع وهو " اختراع " الشيء لا عن شيء ولا في زمان، ويستعمل ذلك في إيجاده تعالى المبادئ، و " صنع " وهو تركيب صورة مع العنصر، وتستعمل في إيجاده الأجسام، و " تسخير " وهو سوق الشيء إلى غرضه المقصود منه طوعاً أو قهراً، ويستعمل في القوى التي أوجدها في السحاب والأمطار والأغذية والأدوية، وكل هذه الثلاثة يقال له الخلق، وأقدمها الإبداع، ونبه بقوله: ﴿قَضَى أَمْرًا﴾ على حجة خامسة، وهو أن الولد يكون بنشر وتركيب حالاً بعد حال، وهو إذا أراد شيئاً فقد فعل بلا مهلة ولم يرد " بإذاً " حقيقة الزمان، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان، ولم يرد أيضاً " بكن " حقيقة اللفظ ولا بالفاء التعقيب الزماني، بل استعير كل ذلك ولأنه أقرب ما يتراءى لنا به سرعة الفصل وتمامه، وذكر لفظ " القضاء "، إذ هو لإتمام الفعل.
والآخر لكونه منطوياً على اللفظ والفعل
قوله - عز وجل -:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾
الآية (١١٨) - سورة البقرة
اليقين أبلغ علم وأوكده، وهو أن يكون عالم بالشئ، وعالماً بأنك تعلمه غير شاك ولا متهيئ للشك، ولذلك قيل: هو المعلوم الذي زالت عنه المعارضة على مرور الأوقات، وإنما لم يوصف الباري تعالى به من حيث أنه لا يستعمل إلا في العلم المكتسب، ولهذا قال تعالى في صفة إبراهيم- عليه السلام ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، ويعني بالذين لا يعلمون الكافرين على عهد رسول الله - ﷺ - وقول ابن عباس: " هم اليهود "، وقول مجاهد: " النصارى "، وقول الحسن وقيادة: " هم مشركو العرب كله محتمل ويصح أن يكونوا جميعاً مرادين، فقد قال الله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ ومشركو
إن قيل: إنهم وإن أخطأوا في قولهم: (لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ) فإنهم لم
يخطئوا في سؤال الآية، إذ لا يلزم الإنسان أن يؤمن إلا لمن يأتي بآية تدل على صدقه، قيل: إنما أنكر عليهم جحودهم الأيات التي آتاهم، ولذلك قال (قد بينا الآيات) كما قالت: ﴿قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ﴾ كما قال، ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾، وقوله: ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ فيه معنيان: أحدهما أنهم يطلبون اليقين وليس بهم المعاندة، والثاني: أن من حصل له اليقين بالحق المحض وليس يعتريه شبهة فله في القرآن لا آية بل
آيات، كما قال: (هو للذين أمنوا هدى وشفاء)، وقرأ بعضهم: (تشابهت) بتشديد الشين، كأنه نظر إلى قوله: (تشابه)، فحمل عليه، وذلك خطأ، لأن تشابه أصله تتشابه، فأدعم، وليس في تشابهت ذلك، ومن قال: هلا أجابهم إلى سؤالهم في أثناء الآية؟: فسؤال جاهل بحكمة الله تعالى، فباقتراح جاهل، وتشويه لا يجوز للحكيم أن يفعل ما ينافي مقتضى الحكمة، وقد أزاح العلة بغير سؤالهم وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾
الآية (١١٩) - سورة البقرة.
الجحيم المناحج من النار يقال نجحت النار، وشبه حمرة عين الأسد به، فقيل لها جحمة.
وجاحم الحرب تشبيهاً، فبين تعالى أن عليك البشارة والإنذار، ولا يلزمك عقابهم تسلية له، كقوله:
﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾، وقوله ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾، وقوله: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾.
وقوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾، وقوله: (لا تُسْئَلُ) قال معطوف على قوله (بشيرا ونذيراً)، وقرأ نافع (ولا تُسئلْ)، بالجزم، فقيل ذلك تفخيما لشأنهم، وقيلت: نهى عن تتبع ما أغناه الله عنه من أخبار من مضى، وقد روي أنه عليه السلام كان يستغفر لأبيه، فنهاه الله تعالى عن ذلك، لقوله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى﴾.
قوله - عز وجل -:
﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾
الآية (١٢٠) - سورة البقرة.
الملة: من أمللتُ الكتاب، وهي اسم لما شرعه الله تعالي لعباده على لسان أنبيائه ليتوصلوا به إلي آجل ثوابه، والدين ملة، لكن الملةَ تُقال باعتبار دعا الله وإنزال كتبه والدين باعتبار طاعة العباد له بإجابة دعائه والانقياد لأمره، والشيء الواحد قد يسمى باسمين على اعتبارين، ثم تقال الملهُ والدين لما
وربما بعد ذلك في جرائمهم الكبيرة ويؤاخذون بما لا يؤخذ غيرهم به، وذلك معلوم في التعارف، فإن من حصل له زلفة متناهية من السلطان لا يتجافى عما يقع منه من أدنى مخالفة كالتجافي عن الأجانب، ولهذا قيل: (كبائر الأولياء صغائر العوام)، وقيل: (فاحشة الأولياء التواني في تعهد الأنفاس، وفاحشة العوام فيما فيه المحدود) وإنما قال: أهواءهم بلفظ الجمع تنبيهاً على أن لكل هوى غير هوى الأخر، ثم هوى كل واحد منهم لا يتناهى، ونحو ذلك قوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وقوله: ﴿قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾، وقوله للمؤمنين: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ﴾، وقال: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وذلك تحذير من الهوى جملة، وقد تعلق بهده الآية من يجعل الكفر كله ملة واحدة، لأنه جمع بين اليهود والنصارى، وسمي طريقتهما ملة واحدة....
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
الآية (١٢١) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في التلاوة، منها تكون بالقراءة تارة، وبتتبع العنف تارة، وباستعمال مقتضاه تارة، وهو المعنى بقوله: (حق تلاوته)، وعليه دل قول ابن عباس وابن مسعود يتبعونه حق اتباعه، وقول مجاهدة " يعملون به حق عمله "، وقول عمر: " حق تلاوته ": إذا ذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا ذكر النار تعود منها "، وذلك عام في كتاب الله تعالى وفي أربابها، فقول قتاده: هم أصحالب النبي - ﷺ - وقول ابن زيد: إنهم اليهود والنصارى، وقول غيرهما: هم الذين أسلموا من مشركي العرب كلها داخل فيه، وعموم اللفظ يقتضيه وقوله " الذين " مبتدأ، " يتلونه " حال لهم، و " أولئك " خبره، والمعنى: هم الذين يحصل لهم الإيمان به دون الذين ينكرونه، وليس لهم إلاً الخسران البين، ونحو ذلك قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾، وهذه الأية كالتحقيق لما تقدم من قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾.
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾
الآيتان (١٢٢، ١٢٣) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في مضمون الآيتين، ويسأل عن فائدة تكريرها، وأنه قال في هذه الآية: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌوفي الآية المتقدمة قال: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾، والجواب: أما التكرير فعلى سبيل الإنذار، فالواعظ إذا وعظ لأمر ما قد يكرر الذي يعظ لأجله تعظيماً لأمره، وأما تغيير النظم، فلما كان قبول العدل وأخذه وقبول الشفاعة ونفعها متلازمة، لم يكن بين اتفاق هذه العبارات واختلافها فرق في المعنى..
قوله- عز وجل:
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾
الآية (١٢٤) - سورة البقرة.
الابتلاء كالاختبار، لكن الابتلاء طلب إظهار الفعل، والاختبار طلب الخبر، وهما متلازمان، والتام والكامل والوافي والوافر متقاربة، لكن التام يقال للمعدود الممسوح جميعاً، نحو عدد تام، وليل تام، ورجل تام الخلقة، والكمال أكثر ما يقال في الممسوح والمشبه به، وقوله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾، فالمراد كمال الحكم لإكمال العدد، كما قدره بعض الملاحدة، فاعترض عليه بالإزراء.
وقال: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾، وأمر- عليه السلام- بذكر إبراهيم في الصلاة، فقال: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم "، ولم يرد بالإمامة ههنا النبوة كما ظنه بعض المفسرين، فإنه- عليه السلام- إمام للناس على العموم في كل زمان على الإطلاق وليس بنبي لهم على [العموم] بالإطلاق، ولا قيل له ذلك قال: (ومن ذريتي)، فأجيب إلى ملتمسه بقوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ لكنه تعالى بين أنه قد يكون من ذريته ظالم، وبين أن الإمام يتحمل للعهد، والظالم لا عهد له، فإذاً لا إمامة له، ولهذا ما روي في الخبر أن الله تعالى يقول يوم القيامة لوالي السوء: (ياداعي السوء، أكلت اللحم، وشربت اللبن، ولبست الصوف، ولم تؤد الكسير ولم ترعها في مرعاها)، واستدل بالآية بعض الناس، فزعم أن الظالم إدا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده، وقال الحسن: " إنما لم يجعل الله لهم عهداً "....
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾
الآية (١٢٥) - سورة البقرة.
البيت: يسمى اعتبارا بالمبيت فيه، ومنه قيل: بيتهم وبات يموت بات ليلته في إنائه، ثم ترك اعتبار المبيت، وللوعي صورته، وبه شبه بين الشعر اعتباراً بأنه مبني من أوتاد وأسباب بناء بيت الشعر والوبر من نحوها، وبيت الله: سمي لوجود صورة البيت فيه، والمثابة إما لثؤوب الناس إليه، وإما لاستحقاقهم الثواب بقصده.
إن قيل: كيف جعل مثاباً عامة قصاده لا يثوبون إليه قبل ذلك باعتبار جنس الناس لا بآحادهم، واعتبر بعض الناس ما سآلته، واستدل بالآية في وجوب العمرة، فقال: لا يكون مثابة لأحاد قصاده إلا على هذا الوجه، ومقام إبراهيم الحرم عن ابن عباس، والمزدلفة عن عطاء، والحجر عن السدى، والأولى أنه الحرم كله، فما من موضع ذكروه إلا وهو مصلى أي مدعى، أو بوضع صلاة، والطوف المشي حول الشيء، ومنه: الطائف يدور حول البيت حافظاً، وطائف من الجن والخيال، وجعل الطوافون عباده عز الحرم، والعكوف: الإقامة مع اللزوم بين تعالى أنه جعل البيت من حيث الحكم مثابة للناس وأمناً ومصلى، ولم يعن أنهم ملجؤون إلى أن لا يخيفوا أحداً، كما لم يعن أنهم ملجؤون إلى أن يجعلوه مصلى ومثابة.
إن قيل: فقد قال: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، قيل: هو أيضاً على معنى الأول، ولو عنى ما قلت لقال: (وإن من دخله كان آمنا) قيل: هو أيضاً علي معنى الأول، ولو عنى ما قلت لقال: وإن من دخله حتى كان يتعلق بالأول، وعلى ذلك حكم قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ على أن حكم الله في ذلك مما فيه أية منه لأنه حض الناس على
قوله- عز وجل:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
الآية (١٢٦) - سورة البقرة.
البلد: الأثر الباقي، وسمي المدينة، وكركرة البعير.
والمفازة: بلداً للآثار الظاهر بها، وقيل للآثار في الجلد أبلاد، والبليد: المقيم على بلده أي مكانه، ثم جعل عبارة عمن لا نفاذ له في الأمر حتى صار أملك له، والمصير: المنتهي إليه في الأمر، ومنه المصير: لمنتهى الطعام، وصير البقرة مأواها، كالزريبة للغنم، وصير الباب: حيث مصيره، وإنما قيل: شق الباب اعتباراً بصورته لا بحقيقة مقتضي اللفظ، والاضطرار: حمل الإنسان على [ما يضره وهو في التعارف] حمل على الأمر بكره وذلك على وجهين: أحدهما بسبب خارج، وهو إما أن يضرب أو يهدد بالضرب حتى يفعله منقاداً، وإما أن يؤخذ بيده فيفعل ذلك به، والثاني بسبب من داخل، وذلك إما بقهر قوة له لا يناله بدفعها الهلاك، كمن غلب
إن قيل: إن قوله (فأمتعه) يقتضي كثرة ثبات الفعل وقوله (قليلا) ينافيه، فكيف جمع بينهما؟ قيل: ذلك على وجهين، فإن نعمته في الدنيا وإن كانت كثيرة بإضافة بعضها إلى بعض، فقليلة بإضافتها إلى نعمة الآخرة، وعلى هذا قال: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾، كيف لا يقل ما يتناهى بالإضافة إلى مالا يتناهى؟ وانتصاب " قليل " إما لكونه وصفا لمصدر محذوف أو لكونه ظرفاً، وتكون في العبارة به عن الزمان، كقوله تعالى: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾.
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
الآية (١٢٧) سورة البقرة.
الرفع والوضع يتقابلان، ويقال في الأجسام وفي الشرف والذلة على التشبيه وكذلك يقال في الإعراب على التشبيه والقعود المقابل للقيام، ثم جعل للثبات، فقيل لأساس البيت قواعد عن طلب الشرف، والقعيدة كناية عن الزوجة اعتبارا بقعودها في المنزل، والقعدة للفرس المقتعد في أكثر الأحوال، والقعود من البعير المدرك اقتعاده، وقيل إن إبراهيم عليه السلام - كان يبني وإسماعيل يرفع إليه الأحجار ويناوله، وذلك لا يمنع من أن يكون الفعل منسوباً إليهما وقول من قال: يجب إن يكون إبراهيم يتولى بناءه مرة، وإسماعيل مرة حتى يصح نسبة الفعل إليهما فبعيد التصور لسعة مجال الألفاظ وما اختلف فيه أنه هل كان للبيت بناء قبل إبراهيم - عليه السلام -، فأعاده أو هو الذي أنشأه وأحدثه، فليس مما يفتقر معنى الآية إليه وقيل ليس يعنى برفعهما قواعد البناء فقط، بل تحريمها تشريفه بدعاء الناس إليه ودعاء الله بحفظه، وصح نسبة ذلك إليهما وإن كان الله تعالى في الحقيقة شرفه من حيث أنهما من الأسباب المتأخرة لتشريفه.
﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ الآية (١٢٨) - سورة البقرة.
النسك: غاية العبادة، والناسك الأخذ نفسه ببلوغ قاصيتها حسب طاقته، وسمي أعمال الحج المناسك ثم خص الذبيحة بالنسك وتعورف فيه حتى قيل نسك فلان أي ذبح وقيل للذبيحة نسيكة ولم يعن بالمسلم ههنا من حقن دمه بالشهادتين، كما ظن بعضهم وقال هذا دعاء بما علم كونه لهما لا محالة، وإنما عنى من ليس في فلبه تعظيم الله معه، وهو المعنى بالمضروب له المثل في قوله: ﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ وبقوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ وقوله: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾ وهذه قاصية الإيمان، ونبه تعالى بالآية أن من حق الإنسان أن يكون مع تحري الحق لا ينفك من التضرع إلى الله - عز وجل - بإرشاده وتوفيقه، ومن طلب أن يتوب عليه من ذنب عسى إن كان منه وهو غافل عنه
فإن قيل: ولم قيد؟ فقال: (ومن ذريتنا، أمة مسلمة لك) ولم يعمم؟ قيل إن هذه منزلة شريفة لا يكاد يتخصص بها إلا الواحد فالواحد في برهة بعد برهة، وعلم أن الحكمة الإلاهية لا تقتضي ذلك، فإنه لو جعل الناس كلهم كذلك لما تمشى أمر العالم إذ كان العالم يفتقر إلى كون أفاضل فيها وأوساط وأراذل لتولي عمارته والقيام بتمشية أموره فقد قيل: عمارة الدنيا بثلاثة أشياء، أحدها الزراعة والغرس، والثاني: في الحماية والحرب، والثالث جلب الأشياء من مصر إلى مصر، وأنبياء الله لا يصلحون لذلك إذ كانوا بغرض أخر أشرف من ذلك ولهذا قيل: " لولا الحمقى لخربت الدنيا " وإنما عني بالحمقى المعنيون بأمر الدنيا بإضافته إلى المعنيين بأمر الآخرة، ولذلك قال ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾
﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ الآية (١٢٩) - سورة البقرة.
العزيز: الذي يقهر ولا ويُقهر، وتعزر فلأن بفلان، والعزاز من الأرض ما فيه صلابة بازاء الذلول، وعز الشيء إذا قل اعتباراً بأن كل موجود مملوك، وكل مفقود مطلوب، والحكمة حدت بحدود على اعتبارات مختلفة، إما اعتبارا بمبدأها، فقد قيل: هي معرفة حقائق الأشياء، وقيل: معرفة الأشياء الإنسية والأشياء الإلهية، وهذا هو كالأول، إلا إنه أبين، وإما اعتبارا بمنتهاها، فقد قيل: هي إماتة الشهود وقلا الاكتراث بالموت المحمود، وقيل: الترشح بالعلم والعمل لإدراك ثواب الله- عز وجل-، فأما الرسول- الذي طلبه إبراهيم- عليه السلام، فقد روي عن نبينا - ﷺ - أنه قال: " أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بن مريم " يعني بالأول: قوله: ﴿وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾، وبالآخر: قوله: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾.
إن قيل: كيف قال: يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة وليس الكتاب إلا الآيات، وما وجه هذا الترتيب؟
قيل: أما الآيات فهي الآيات الدالة على معجزة النبي - ﷺ - وذكر التلاوة لما كان أعظم دلالة نبوته متعلقاً بالقرآن، وأما الترتيب فلأن أول منزلة النبي - ﷺ - بعد ادعاء النبوة الإتيان بالآيات الدالة على نبوته، ثم بعده تعليمهم الكتاب، أي تعريفهم حقائقه لا ألفاظه فقط، ثم بتعليمهم الكتاب يوصلهم إلي
، أي مطهراً مستصلحاً لمجاورة الله- عز وجل-.
قوله - عز وجل -:
﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾
الآية (١٣٠) سورة البقرة.
الرغبة: سعة الإرادة، ومنه بطل رغيب أي نهم، والرغيب الشيء المرغوب فيه، ومش عدى بعن اقتضى صرف الإرادة عن ذلك الشيء، وذلك بالزهد فيه، والاصطفاء تناول صفوة الشيء، كما أن الاختيار تناول خيره، والاجتباء تناول جانبه أي وسطه، وهو المختار، و (سفه نفسه) قيل: تقديره سفه، نفسه، وقيل: أصله سفه نفسه، فصرف الفعل عنه، نحو: بطر معيشته، وسفه نفسه أبلغ من جهلها، وذاك أن الجهل ضربان جهل بسيط، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء وجهل مركب، وهو أن
يعتقد في الحق أنه باطل، وفي الباطل أنه حق، والسفه أن يعتمد ذلك، ويتحرى بالفعل مقتضاها ما اعتقده، فبين تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لسفهه نفسه، وذلك أعظم مذمة، فهو مبدأ لكل نقيصة، وذاك أن من جهل نفسه جهل أنه مصنوع، وإذا جهل كونه مصنوعاً جهل صانعه، وإذا لم يعلم أن له صانعاً، فكيف يعرف أمره ونهيه، وما حسنه وقبحه، ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق- جد ثناؤه- قال: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، وقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾
فإن قيل: كيف وصفه بالاصطفاء في الدنيا وبالصلاح في الآخرة، والنظر يتقضي عكس ذلك، فإن الصلاح وصف يرجع إلى الفعل، وذلك يكون في الدنيا، والاصطفاء حال يستحقه العبد بكونه صالحاً، فحقه أن يكون في الآخرة؟ قيل الاصطفاء ضربان، أحدهما كما قلت والأخر في الدنيا، وهو اختصاص الله بعض العبيد بولايته ونبوته لخصوصيته فيه وهو المعنى بقوله
قوله - عز وجل -:
﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الآية (١٣١) سورة البقرة.
لما سأل الله تعالى بقوله: ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾، أجابه بقوله تعالى: " أسلم " أي أخلص سرك فإنه موضع الاطلاع، وإلى ذلك أشار النبي - ﷺ - بقوله: " أخلص يكفك القليل من العمل "، وبقوله: " الأعمال بالنيات " وقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، وقيل معنى " أسلم " استأسر لهم كقولك للأسير: استسلم، وقيل: معناه: اجعل نفسك مسلمة عن أسر الشيطان، حيث قال: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾، وهذان القولان واحد في
قوله- عز وجل:
﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
الآية (١٣٢) - سورة البقرة.
الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ واشتقاقه من وصاه أي وصله، ومضاده قصاه أي فصله، وقوله: [بها] أي بالملة، وقيل بالكلمة التي دل عليها قوله: " أسلمت "، وكلاهما غير منفك من الآخر، إذ كانت هذه الكلمة من جملة الملة، والملة مقتضية لهذه الكلمة، فبين تعالى أن إبراهيم وصى بنيه، ووضع يعقوب بنيه أيضا بها كما أوصى إبراهيم، وقال: (إن الله اصطفى لكم الدين) أي دين إبراهيم، فحذف القول لتضمن الوصية لذلك، وحث على الإسلام، أي أسلموا قبل أن تموتوا، وليس ذلك نهيا عن الموت، وإنما هو حث على الإسلام المتقدم ذكره فهو الذي يفيد الحياة الأبدية المذكورة في قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾
﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ الآية (١٣٣) - سورة البقرة.
الشهود: حضور بالذات أو بالعناية أو بالمقال، وأحضر الفرس [أصله] صار ذا حضور.
والفرق بين الإحضار والعدو أن الإحضار يقال اعتبارا بالمنتهى والعدو اعتبارا بالمبدأ المتجاوز لأنه من عداه إذا تجاوزه، وجعل الحضارة بإزاء البداوة في التعارف، والمحتضر لمن حضره الأجل، ولما ذكر إبراهيم وأن دينه الإسلام، وأن يعقوب اقتدى به، ودعا نبيه إليه، وقادهم على ذلك وأخذ اعترافهم بين أن مع وصيته لأولاده كان على جملة اعترافه معهم لم يعن بقوله: (ما تعبدون من بعدي) العبادة المشروعة فقط، وإنما عنى جميع الأعمال، وكأنه دعاهم أن لايتحروا في أعمالهم غير وجه الله - عز وجل- ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام، وإنما خاف أن تشغلهم دنياهم، ولهذا قيل: " ما قطعك عن الله فهو طاغوت "، ولهذا قال: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾، أي نخدم ما دون الله، وهدا المعنى تحراه الشاعر بالعبادة:
فتى مَلكَ اللذاتِ أنْ تعتبدنّهُ....
ومَاَ كُلَّ ذي ملُك لهُنِ بمالِكِِ
فإن قيل: لما قال: (نعبد إلاهك وإله آبائك)، وتكرير اللفظ يقتضي دارين، فالجواب عن ذلك من وجهين، أحدهما من حيث اللفظ، وهو أن المضاف إلى المضمر متى عطف على المضاف إليه لابد من إعادة المضمر إذ كان المضمر المحرور لا يصح العطف عليه، والثاني من حيث المعنى، وهو أن المعبود
لما لم يمكن سبيل إلى الوصول إليه إلا بالنظر، فكان لدى واحد نظر، بينوا أن معبودنا هو الواحد الذي أثبته، وأثبته أباؤك، ثم بين بقوله، (ونحن له) أنه واحد، وقد استدل بالآية من منع من مقاسمة الجد
قوله - عز وجل -:
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
الآية (١٣٤) سورة البقرة.
الأمة في الأصل المقصود كالعمدة والعدة في كونهما معمودأ ومعذب، وسمي الجماعة أمة من حيث تأمها الفرق، وقيل للجبن أمة لكونه متضمنا لأمة ما وسمى الدين أمة لكون الجماعة عليه، وقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ أي جمع في نفسه في الفضيلة ما لا يجتمع إلا في أمة، وبهذا المعنى ألم الشاعرفي قوله:
وليس على الله بُمستُنكرٍ....
أنُ يُجمعَ العالمُ في وَاحدٍ
والكسب: اجتلاب النفع بالعمل، وإذا قيل في المضرة، فعلى طريق التشبيه، ولما بين الحجة عليهم وإنهم لم يخالفوا في الاقتداء بإبراهيم بين من بعد أن أعمالهم وأعمالكم متباينة لاُيثاب ولا يعاقب أحد بما كان من الآخر كقوله: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، وليس معنى بقوله: ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ السؤال المجرد، فقل أخبر أنه يقول لعيسى بن مريم ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إنما يعني المؤاخذة بها.
﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
الآية (١٣٥) - سورة البقرة.
يعني أن اليهود قالوا: كونوا يهوداً تهتدوا، وقال النصارى مثل ذلك، فأنزل الله تعالى على نبيه:
﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أي تتبع ملته المجمع على كونها هدى، وبين بقوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أن كلتى الطائفتين قد أشركت، وأن إبراهيم كان حنيفاً، وكان يقال في الجاهلية ولمن كان على دين إبراهيم حنيفاً عليهم عن طريقتهم إلى طريقة غيرها، ثم سمى من اختتن أو حج البيت [حنيفآ] لمن كان ذلك من سنته.
قوله - عز وجل -:
﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
الآية (١٣٦) - سورة البقرة.
السبط ولد الولد، وأصله من سبط أي امتد، كأنه امتداد للفروع، ومنه سبط الكفين، والساباط البناء الممتد بين الدارين، والسباطة ما مد من الكناسة، وما امتدمن الشعر، وسباط الحمى اعتبارا بتمدد المحموم وتمطيه،
إن قيل: كيف ابتدأ بما أنزل إلينا مع كونه متأخراً عن كل ما أنزل الله، وقال: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحق كتاب، ولم قال: ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ فخصهما بالإيتاء دون الإنزال، وزكر النبيين، وقد تقدم ذكر بعضهم.
قيل: أما الابتداء بما أنزل إلينا، فلأنه أول بالإضافة إلينا، فالناس بعد مجيء محمد - ﷺ -، مدعوون إلى الإيمان بما أنزل عليه أولاً جملة وتفصيلاً، ولا يجب الإيمان بما أنزل من قبل إلا على سبيل الجملة دون التفصيل، وأما المنزل إلى إسماعيل ومن ذكر معه، فهو المنزل على إبراهيم، إذ هم داخلون تحت
إن قيل: لم قال: بين أحد منهم، ولفظ أحد وإن كان قد يعمم به في النفي فهو متناول للواحد، ولو قال بينهم لكان أوجز؟ قيل: لما كان القصد إلى أن نبين أن لا نفرق بين واحد واحد ذكر لفظ أحد فكأنه قال: لا نفرق بين أحد وجماعتهما أي لا يخرج واحد من حكمهم، فكان لفظا أحد أدل على المعنى المقصود، ثم بين بقوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ إنا مسلمون له إسلام إبراهيم عليه السلام..
قوله - عز وجل -:
﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
الآية (١٣٧) - سورة البقرة.
الشقاق المنازعة، يقال: شق العصا، أي فارق الجمع، وشاق القوم صار كل نفر في شق، وشاقوا الله أي صاروا في شق غير شق أوليائه، وعلى ذلك: ﴿يُحَادُّونَ اللَّهَ﴾ أي صاروا في حد غير حده..
إن قيل: ة كيف قال: (فإن أمنوا بمثل ما أمنتم به) ولم يقل أبما أمنتم أو (مثل ما آمنتم)، وذلك يقتضي إثبات مثل الله- عز وجل-، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا تقولوا: (فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به) [ويكن قولوا فإن أمنوا بالذي أمنتم به] وإن لم يكن هذا السؤال لازماً فما كان [وجه] الإنكار منه؟ قيل إن الباء ههنا ليس للتعدية كما هو في قولك (مررت بزيد)، و (آمنت بالله) وإنما هو للإله، ومعناه أن تحروا الإيمان بالسبيل الذي تحريتم به، والإشارة بقوله: ﴿بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ إلى السبيل المذكور في قوله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ وسبيل الله المتوصل به إليه ثلاث منازل
قوله - عز وجل -:
﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾
الآية (١٣٨) - سورة البقرة.
الصبغة إشارة من الله- عز وجل- إلى ما أوجده فينا من بداية العقول التي ميزنا بها من البهائم، رشحنا به لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق وهو المشار إليه بالفطرة في قوله: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ الآية...
والمعنى بقوله- عليه السلام- " كل مولود يولد على الفطرة " الخير، وتسمية ذلك بالصبغة من حيث أن قوى الإنسان التي ركب عليها إذا اعتبرت بداية يجري مجرى الصبغة التي هي زينة للمصبوغ، ولما كانت اليهود والنصارى إذا لقنوا أولادهم اليهودية والنصرانية يقولون قد صبغناه بين تعالى أن الإيمان بمثل ما أمنتم به هو صبغة الله وفطرته التي ركزها في الخلق، ولا أحد أحسن
قوله - عز وجل -:
﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾
الآية (١٣٩) - سورة البقرة.
المحاجة: المقاومة في إظهار الحجة البينة للحجة أي المقصد وقد ألزمهم بهذه الآية الحجة المذكورة في قوله: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾، ولما كانت الشرائع مبنية بالقول المجمل على ثلاثة أشياء...
الإقرار بالباري- عز وجل-، والعمل له والإخلاص في ذلك قال..
قل لهم إنا قد تشاركنا في الإقرار بالله- عز وجل- وفى العمل له ونحن قد حصل لنا الإخلاص [في ذلك] من دونكم،
فإن قيل: ومن أين؟
إن الإخلاص حصل للمسلمين دونهم، وهل هذا إلا مجرد ل الدعوى قيل قد أحالهم على التأمل، وذلك ظاهر بالاستقراء والتدبر، فإن الأصول الاعتقادية هي ما ذكر الله- عز وجل-، [في قوله] ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وإذا تأمل حالة الإقرار بالله تعالي فقد أخلص المسلمون فيها يدعيه اليهود من التشبيه والنصارى من التثليث، وما ادعوه على جبريل أنه عدو لهم وما ادعاه اليهود على إبراهيم، حيث زعموا أنه لم يكن نبياً، وإنما كان رجلاً صالحاً، ونسبوا إليه لوطآ من الفجور ببنيه في حال سكره وادعى النصارى في نبوة عيس- عليه السلام- وإنكارهم بعض ما في التورط والإنجيل، وما ذكروه من البعث حيث قالوا ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ وادعت النصارى أنه لا بعث، وإنما ينال الثواب والعقاب الأرواح، فإذن قول المسلمين (ونحن له مخلصون) ظاهر...
﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ الآية (١٤٠) سورة البقرة.
قوله: ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ معطوف على قوله (أتحاجوننا) - أم تدعون أن الأنبياء كانوا على دينكم تنبيها أنه من المحال أن يكون المتقدم مقتدياً بالمتآخر ومستند بسنته، ومن قرأ بالياء فوجه العدول فيه من الخطاب إلى الإخبار استجهالاً لهم بما كان منهم من هذه الدعوة كما يفعل العالم من الإعراض عمن يخاطبه بعد ارتكابه جهالة شنيعة إلى غيره، واحتج عليهم بمقدمتين فقال: أنتم أعلم أم الله أي قد بينت أن الله أعلم منكم، وبينت أنه ليس بغافل عما تعملون وقد كتمتم الشهادة عنها، ومن كتم من الله شهادة عنده مع كون الله بهذا الوصف فهو أظلم الخلائق، فهدا تبكيت لهم في كتمانهم أحوال النبي- عليه السلام- وسائر الأنبياء واحتج عليهم بما لا انفصال لهم عنه، وقوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ على هذا متعلق بقوله: ، ﴿كَتَمَ﴾ وقيل؟ إنه متعلق بقوله شهادة، أي من كتم عن الناس شهادة مصدرها من الله - عز وجل، وقيل: في الآية قول أخر، وهو أن قوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ يتعلق بقوله " أظلم " وقوله ﴿مِمَّنْ كَتَمَ﴾ من جمله الذين كتموا وتقدير هذا التأويل قد ثبت أن الله - عز وجل- أعلم منكم، وقد حكم أن الشهادة كتمانها عصيان بقوله: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ فكأنه قيل: من أظلم من الله من الذين كتموا الشهادة إن كان الأمر على ما ذكرتم ولم يخبركم،.
وهذا كقولك: من أظلم ممن يجور على الفقير من السلطان أي لا أحد أظلم منه إدا ظلمه، وعلى هذا يكون قوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ على سبيل التهديد لهم.
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
الآية (١٤١) - سورة البقرة.
أعادت هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمه في الناس صالحهم وطالحهم أن يفتخروا بآبائهم ويقتدوا بهم في متحرياتهم سيما في أمور دينهم، ولهذا حكى عن الكفار قولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾، فأكد الله تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطريقة، وذكر في أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب ببنيه بذلك تنبيها أن الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن، فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه، وفي الثاني لا ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم أعاد أيضا تأكيدا عليهم تنبيهاً على نحو ما قال: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾، وقوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، وقوله: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، ولما جرت به عادتهم، تقررت به معرفتهم كل شاة تناط برجليها.
قوله - عز وجل -:
﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
الآية (١٤٢) سورة البقرة.
السفيه كل معتقد باطلاً يسرع إلى إظهار معتقده، ولا يكون له ثبات، والقبلة وإن كانت في الأصل اسماً للحال التي عليها الإنسان من الاستقبال كالجلسة والقعدة، فقد صار في التعارف للمكان المتوجه نحوه للصلاة، وهؤلاء السفهاء المنكرون لتغيير القبلة اليهود على ما رد عن ابن
قوله- عز وجل:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
الآية (١٤٣) - سورة البقرة.
الوسط في الأصل اسم للمكان الذي يستوي إليه المساحة من الجوانب في المدورة، ومن الطرفين في المطول كالنقطة من الدائرة ولسان الميزان من العمود، ويجعل عبارة عن العدل، وكذلك السواء والنصف.
، وشبه به كل ما وقع بين طرفين إفراط وتفريط كالجود بين السرف والبخل والشجاعة
إن قيل: كيف جعلهم وسطا؟ الخُلق أم لخلْقِ خصهم به؟ أم لعلم ركزه فيهم؟ أم لشرع شرعه لهم؟.
قيل: قد خصهم بكل ذلك، والظاهر من ذلك هي الشريعة التي إدا اعتبرت بسائر الشرائع وجد لها حد الاعتدال، وهو أن بني إسرائيل لما عتوا كما حكى الله عنهم في غير موضع شدد عليهم أشياء صارت عليهم إصرا وأغلالاً، نحو: ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾، ولذلك أمرنا تعالى فيما يدعونه أن نقول ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾، ثم خفف عنهم على لسان عيسى بعض التخفيف، ولهذا حكى عنهم: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾، وتمم ذلك بمحمد - ﷺ - فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ إلى قوله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ وقال: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾، وقال عليه السلام " بعثت بالحنيفية السهلة "، فصارت شريعته متوسطة بين الإفراط الذي هو الإصر والأغلال وبين التفريط الذي هو
سمى مقتضاهما كلمة (سواء) أي عدلاً باتفاق العقول فقال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ الآية..
إن قيل: هل ذلك للأمة كلهم أم للبعض دون البعض؟ قيل: الخطاب لأصحاب النبي - ﷺ - خاصة على وجه، وهو خطاب للكافة عامة على وجه، وذلك أن أصحابه في الحقيقة صاروا موجودين خير الناس، وسائر أمته ممكنون أن يصيروا أخيارا وذلك بقبولهم الفيض الذي أباحه الله لهم بعقولهم ولسان نبيهم وتدرجهم إلى بلوغ أقاصيه..
إن قيل: على أي وجه شهادة النبي - ﷺ - علي الأمة وشهادة الأمة على الناس؟ قيل: الشاهد هو العالم بالشيء المخبر عنه مبينا، حكمه، وأعظم شاهد من ثبتت شهادته بحجة، ولما خص الله تعالى الإنسان بالعقل والتمييز بين الخير والشر وكمله ببعثة الأنبياء، وخص هذه الأمة بأتم كتاب، كما وصفه بقوله: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، فأفادناه- عليه السلام- وبينه لنا صار حجة وشاهداً أن نقول ما جاءنا من بشير ولا نذير، وجعل أمته المتخصصة بمعرفته شهودا على سائر الناس...
إن قيل: هل أمته شهود كلهم؟ أم بعضهم؟
قيل: كلهم ممكنون من أن يكونوا شهداء وذلك بشريطة أن يزكوا أنفسهم بالعلم والعمل الصالح، فمن لم يزك نفسه لم ليكن شاهداً مقبولاً، ولذلك قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾، وعلى هذا قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾، فالقيام بالقسط
عدالة بين الإنسان ونفسه، وعدالة بينه وبين الناس، وعدالة بينه وبين الله- عز وجل-، فمن رعى
ذلك فقد صار عدلاً شاهداً لله- عز وجل-.
إن قيل: فهل هم شهود على بعض الأمم أم على الناس كافة؟ قيل بل كل شاهد على نفسه وعلى أمته وعلى الناس كافة فإن من عرف حكمة الله تعالي وجوده وعدله ورأفته، علم أن لم يغفل تعالى عنه ولا عن أحد من الناس، ولا يبخل عليهم ولا يظلمهم، ومن علم ذلك فهو شاهد لله على أن من زمانه وعلى من قبله ومن بعده، وعلى هذا الوجه ما روي في الخبر " أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على الأمم "،
إن قيل: ما المشبهْ وما المشبه به في قوله كذلك قيل: ولما قال: ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ بين أن نعمته بهذا التشريف كنعمته بالهداية إلى صراط مستقيم.
قوله - عز وجل -:
﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾
الآية (١٤٣) - سورة البقرة.
يعني ما أمرناك بالتوجه إلى بيت المقدس إلا لنعلم، أي لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، وقيل معناه: إلا لنعلم حينئذ من ينقاد لك من العرب في اتباعك إلى الصلاة إلى بيت المقدس، وقيل معناه: ما غيرنا حكم القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، والقبلة على هذا كله بيت القدس، وقيل معناه: ما جعلنا هذه القبلة التي أنت عليها أي أمرناك بها يعني الكعبة، وإنما استعمل فيه " كان " إشارة إلى أن حكم الله تعالى بدلك قد تقدم في سابق علمه، وقيل: عنى الكعبة حتى توجه إليها قبل
إن قيل: ما وجه قوله: (إلا لنعلم)، وذلك يقتضي استفادة علم وقد علم أن الله تعالى لم يزل عالماً بما كان، وبما يكون؟ قيل إن ذلك من الألفاظ التي لولا السمع لما تجاسرنا على إطلاقها عليه تعالى، ومجاز ذلك على أوجه..
الأول: أن اللام في مثل ذلك تقتضي شيئين: حدوث الفعل في نفسه، وحدوث العلم به، ولما كان
علم الله لم يزل ولا يزال صار اللام فيه مقتضياً حدوث الفعل لا حدوث العلم.
والثاني: أن العلم يتعلق بالشيء على هو به، والله تعالى علمهم قبل أن يتبعوه غير تابعين،
وبعد أن تبعوه علمهم تابعين، وهذا الجواب كالأول في الحقيقة، لأن التغيير داخل في المعلوم لا في
العلم.
والثالث ة معناه لنعلم حزبنا، فنسب ذلك إلى نفسه على علاته في نسبه، أفعال أوليائه إلى نفسه، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، وقال في موضع أخر: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ وقال تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ وإنما علمه بملائكته.
والرابع: معناه لنجازي، وذلك متعارف نحو: قولك: سأعلم.
حسن بلائك، أي سأجازيك على حسب مقتضى علمي- قيل: فعبر عن الجزاء بالعلم لما كان هو سببه.
والخامس: أن عادة الحكيم إذا أفاد غيره علما أن يقول وتعالى " حتى يعلم كذا "، وإنما يريد إعلام المخاطب لكن يحل نفسه محل المشارك للمتعلم على سبيل اللطف...
إن قيل: كيف يتصور حقيقة انقلاب الإنسان على عقبيه؟
فكنت في موضع اللبنة)، فمن أنعم عليه بأن أوجده بعد بعثته (عليه السلام) فرغب عن شريعته مائلاً إلى غيرها من الشرائع المنسوخة قد انقلب على عقبيه، وبين بقوله: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أن الانتقال عن المألوف من القبلة مستصعب على الطبع، والإنسان ألوف لما يتعوده سيما الشريعة، فإن ذلك إنما لا ينقل عليه من أنعم الله عليه وهداه وعرف حكمته، وعلم أنه تعالى يأمر عباده بما هو أصلح لهم كأهل " منا " الذين لما أتاهم الخبر بنسب القبلة، وكانوا في الصلاة حولوا وجوههم نحو الكعبة من غير أن يستبينوا، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ هو تسكين لمن صلى إلي بيت المقدس، من المسلمين ومن أهل الكتاب قبل النسخ، وبين أنهم يثابون على ذلك، فقد
روي أن قوماً قالوا: كيف بمن مات من إخواننا وقد وصلوا إلى بيت القدس؟ فأنزل الله تعالى، ذلك،
فإن قيل ولم قال؟ ﴿لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ ولم يقل صلواتكم؟
فإن قيل: ولم لم يقل إيمانهم؟ قيل: ذكر بلفظ الخطاب ليتناول الماضين والباقين تغليباً لحكم المخاطب على الغائب في اللفظ، ثم بين بقوله تعالى: (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) أنه لا يضيع إحسانهم وهو رؤوف بهم، فإن رأفته بالناس وإضاعة إحسانهم متنافيان لا يجتمعان.
قوله عز وجل:
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ الآية: (١٤٤) سورة البقرة،
قطر وشطر وشطن ألفاظ متقاربة المعاني تقارب ألفاظها، فقطر معناه انفصل عن قطره أي بجانبه ومنه القطرة القليل المنفصل من المانع، وشطر: انفصل وتباعد، ودار شطور منفصلة عن الدور، وشطون بعيدة، وقد يستعمل الشطور موضع الشطون لكن الشطون لما هو أبعد، ورجل شاطر أي منفصل عن الجماعة بالخلاعة، وشاطرته: أي أخذت شطرا وتركت له شطرا، وشاة شطور لها ضرع واحد وأحد ضرعيها أكبر كأنه لا يعتد بالآخر، وتوجهت شطره أي نحوه اعتبارا بالشطر المقابل من شطريه، وتقلب الوجه أبلغ من تقلب العين، على أن الوجه يراد به التوجه كقولك: " وجهتي إلى فلان "
إن قيل: هل كان يستخط - عليه السلام - توجهه إلى بيت المقدس حتى قيل ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾؟
قيل لم يقصد بذلك أنك كنت ساخطة، وإنما كان - عليه السلام - يحركه السر، ويعلم بما يلقى في روعه أن الله تعالى يريد تغييراً في القبلة، وكان يتشوفه ويحثه، وقيل معنى (ترضاها) أي يرضاها، لكن يبين بهذا القول أن مرادك لم يخالف مرادي.
وقول مجاهد وابن زيد، أحب النبي عليه السلام التوجه إلى الكعبة مخالفة لليهود وقول ابن عباس فإنه أحبها اقتداء بإبراهيم عليه السلام وقول الزجاج إنه أحبها لاستدعاء العرب بها إلى الإسلام فكلها صحيحة إذ لا منافاة بين هذه الإرادات، وهذه منزلة يشير إليها أولو الحقائق ويذكرون
(من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل من ما أعطى السائلين)....
وعلى ذلك أول أمية بن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوماً...
كفاهُ من تعرضك الثناء
وبين تعالى بهذه الآية رغبة النبي عليه السلام في التوجه إلى الكعبة وإلحائه، وقرن به علم أهل الكتاب بأن ذلك حق من الله- عز وجل- ونبه بقوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ على وعيد لهم.
ووعد المؤمنين في إلحائهم وإمتناعهم...
إن قيل: من أين علم أهل الكتاب أن ذلك حق؟
قيل: لما تضمن كتبهم من ذكر النبي- عليه السلام-، وعلمهم أن عبادة الله أن يخص كل رسول من أولى العزم بقبلة غير قبلة من تقدمه أنفاً...
إن قيل: كيف خاطبه أولاً بقولها ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ ثم عم بقولها: ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾، قيل: أما خطابه الخاص أولاً، فتشريفاً له، وإيجاباً لرغبته وإنجازاً لوعده، وأما خطابه العام بعده، فلأنه، كان
قوله عز وجل:
﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الآية: (١٤٥) - سورو البقرة.
إن قيل؟ كيف حكم، بأنهم لا يتبعون قبلتك وقد أمن منهم فريق- قيل: قال بعضهم: إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض، وهذا صحيح بدلالة أنك لو قلت: ما أمنوا، ولكن آمن بعضهم لم يكن منافياً، وقيل عنى به وأقوام مخصوصون وقيل: عنى ما تبعوا قبلتك بقلوبهم، وقوله: (يوما أنت بتابع قبلتهم)، أي لا يكون ذلك منك، فمحال أن من عرف الله حق معرفته يرتد، وقد قيل: (ما رجع من يرجع إلا من الطريق)، أي: " ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول "...
إن قيل: فقد يوجد من يحصل له معرفة ثم يرتد؟ قيل: إن الذي يقدر أنه معرفة، وهو ظن متصور بصورة العلم، فأما أن يتحصل العلم الحقيقي ثم يعقبه الارتداد فمحال ولم يعن بهذه المعرفة
إن قيل: كيف أجاب فقال: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾، ولايقال إن جئتني ما فعلت، وإنما يقال: لم أفعل؟ قيل: قد قال سيبويه: إن ذلك لما تضمن معنى القسم، فأدخل على أن اللام صار جوابه كجواب القسم، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا﴾ وقال الأخفش: لما كان إن،) وهو متضمنان الشرط حمل " إن "، عدى " لو " فعلى هذا يصح أن يقال " إن أتيتني ما أكرمتك "، وعلى قول " سيبوية " لا يصح ما لم يكن مع " إن " اللام نحو للئن.
قوله - عز وجل -:
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
الآية (١٤٦) - سورة البقرة.
أتيناهم أبلغ من قوله: (أوتوا)، فإن (أوتوا) قد يستعمل فيمن لم يكن له قبول، وأتيناهم أكثر ما جاء فيمن له قبول نحو: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾، وعلى ذلك كل مما جاء من نحو هذا فيما يختص بإكرام نحو: ﴿هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا﴾، وقوله (يعرفونه) أي العلم الذي هو النبوة
يعرف نفسه إلا بعد انقضاء برهة من دهره، ويعرف ولده من حين وجوده، ثم في ذكر الابن، ما ليس في ذكر النفس، فإن الإنسان عصارة ذاته ونسخة صورته، وإنما قال: ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ ولم يقل يكتمونه، لأن في كتمان أمره كتمانه الحق جملة، وزاد في ذمهم بقوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
فقد قيل: ليس المرتكب ذنباً عن جهل كمن يرتكبه عن علم...
قوله عز وجل:
﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الآية (١٤٧) - سورة البقرة.
الامتراء من) مريت الناقة) إذا مسحت ضرعها، وبه شبه مري الريح السحاب الممطر، ومرى الفارس فرسه للعدو، واستعير الممتري للمتردد، وفي الحكم، ولهذا استعمل فيه المتحير، وهو من حار إذا رجع، وبين أن كل حق هو من الله تعالى، إما بإبداعه وإيجاده وصنعه، وإما بأمره وإما توفيقه، وقوله: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ ليس بنهي عن الشك، وإذ كان ذلك ليس بقصد من الشاك، بل هو حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها، وعلى ذلك قوله تعالي: ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
الآية: (١٤٨) - سورة البقرة.
أي: لكل أمة، وقيل لكل نبي وجهته، وقيل قبلة، وقيل: شريعة، وذلك في المعنى واحد، وهو ضمير
لله- عز وجل- أي الله موليها إياه، وقيل: ضمير للكل: أي كل موالي جهته، وقرئ: (هو مولاها)
فيكون هو ضمير ضمير الكل ولا يحتاج إلى تقدير ضمير أخر، وقيل: معنى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ أي
للناس كلهم الآن وجهة، وهي الإسلام تنبيهاً أن الأديان به نسخت، نحو: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ وفي الآية قول آخر، وهو أن الله تعالى قيض الناس في أمور دنياهم وأخراهم لأحوال متفاوتة، وجعل بعضهم أعوان بعض فيها، فواحد يزرع، وآخر يطحن، وأخر يخبز وكذلك في أمر الدين، واحد يجمع الحديث، وواحد يطلب الفقه، والثالث يطلب الأصول وهم في الظاهر مختارون وفي الباطن مسخرون وإليه أشار النبي بقوله: " كل ميسر لما خلق له " وجعل للكل سبيلاً للوصول إليه تلالي، وإذا راعى ما هو بصلاة وأدى الأمانة فيه، ولهذا سئل بعض الصالحين عن تفاوت الناس في أفعالهم، فقال: في ذلك طريق إلى الله تعالي وصل إليه، أراد أن يعمرها بعباده فبين أن لكل طريقاً إذا تجرى فيه وجه الله تعالي وعلى ذلك قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾، وقوله: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، كقوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وقوله: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ وقوله: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ يعني أي شغل تحريتم، وحيثما صرفتم، وأي معبود اتخذتم فإنكم مجموعون ومحاسبون عليها...
﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
الآية: (١٤٩) - سورة البقرة.
إن قيل: ما وجه تكرير (فول وجهكم) قيل: إعادة ذلك لحكمة لطيفة، وهو أنه ذكر لتغيير القبلة ثلاث علل من قوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) - الأولى: إكرامه تعالى نبيه - عليه السلام- إن ولاه قبلة أبيه إبراهيم ابتغاء مرضاته، وهو قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) والثانية: إخباره أن لكل صاحب دعوة قبلة وهو قوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ)، والثالثة: قطع حجة معانديه وهو قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾، فقرن بذكر في علة معلولها الذي هو الفرض، وذلك قوله: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) لقولك: إن هذا فرض لسبب كذا، وفرض لسبب كذا، فيعتد المعلوم مع العلة، وهذا أبلغ من قول من قال: لما طال القصة، واعترض فيما بينها ما فيه زيادة بيان أعاد الحكم نحو: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾، وأنه أعاد " لما جاءهم " وأشار بقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ إلي تحقيق ما قدمه، فبين أنه إذا كانت الحكمة تقتضي أن لكل صاحب شرع قبلة تختص بها وأنت صاحب شرع، فتغيير القبلة لك حق،
إن قيل: لم خص الأول بلفظ الرب، والثاني بلفظ الله؟
قيل: لأن الأول لما نبهنا على الاستدلال على حكمته بالنظر إلى أفعاله ذكر لفظ الرب المقتضى [للنعم المسطر فيها إلى المنعم] ويستدل بها عليه، ولما انتهى إلى ذكر الوعيد ذكر لفظ الله تعالى المقتضي للعبادة التي من أحل بها عليه استحق أليم عقاب.
﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾
الآية (١٥٠) - سورة البقرة.
فإن قيل: لم كرر قوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، قيل: حث بأحدهما على التوجه نحو القبلة بالقلب والبدن في أي مكان حصل الإنسان نائياً كان عنها أو دانياً منها، وذلك حال الاختيار والتمكن، وحث بالآخر على التوجه بالقلب نحوه عند اشتباه القبلة، وفي حال المسامعة، وفي صلاة النافلة في حال المسير في السفر وعلى الراحلة...
إن قيل: كيف استثنى الذين ظلموا وذلك يقتضي أن يكون لهم حجة، ؟ قيل: الحجة ههنا موضوعة موضع الاحتجاج نحو: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ﴾ ومعناه: لئلا يحتج عليكم أحد إلا وهو وظالم، وقوله: (لئلا) إبانة عن الغرض، والعاقل لا يقصد إلا عارضاً يصح أن يصيبه، فالمؤمن لا يقصد بذكر الحجة أن يكف الناس بها عن الاحتجاج لعلمه أن منهم معانداً لا يبالي بارتكابه الباطل، والله تعالى لا يأمر بدلك لكونه غير مستطاع، فكأنه قال: أقصدوا بالحجة دفع الناس إلا الظالمين، وقيل الظالمون إشارة إلى مشركي العرب حيث قالوا:
" إن محمد عاد إلى فبلتنا "، وقد استدل بعضهم على أن الناس ههنا لمشركي قريش بما روي في الخبر أن كل ما في القرآن من قوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) فمخاطبة لأهل مكة، وما فيه من (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فمخاطبة لأهل المدينة، وقول من قال تقديره: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾.
ولا عيبَ فيهِمْ غيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ....
بِهِنَّ فُلُولُ
البيت راجع إلى الأول وأما قول أبي عبيدة إن تقديره " والذين ظلموا " فإن أراد أن معناه هذا على تقدير ما تقدم فصحيح، وإبل أراد أن معناه بمعنى " الواو " هبعيد، وقول الشاعر الذي احتج به وهو قوله:
ماَ بالمدينة دارٌ وَأحِدةٍ
دارُ الخَليَفة إلا دارُ مَرَوانِِ
فتقديرها: ما بالمدينة دار إلا دار مروان غير واحده، وهي دار الخليفة، فقد أثبت دارين فصار من حيث المعنى، كما قال: ليس معنى إلا معنى الواو، وإن قيل: أي حجة لهم على ألكفار إذا فعلوا ذلك، وأي حجة تسقط عنهم، قيل لما ذكر الله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾، ومن أن التوجه إلي الجوانب سواء في المعقول أبان أق إنما قصرهم على جانب واحد لئلا يختلف توجيههم فيحتج عليهم الكفار بالاختلاف، ويقولون: ما بالكم تصلون إليها تارة وإلى غيرها أخرى، وقوله: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ أي لا تراقبوهم ولا تستحيوا منهم، وذلك لما علم أن كلامهم عناد للعقيدة عند ظهور الحجة عن التزامها، فقال لهم ذلك والخشية قد تجري مجرى المراقبة والاستحياء في قوله: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ وقوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ معطوف على قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ وإتمام نعمته هو أن نعم الله تعالى ضربان: أحدهما موهوب، والآخر مكتسب،
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ فقد أتممت نعمتي عليكم) واستتممتموها)
قوله عز وجل:
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾
الآية (١٥١) - سورة البقرة.
ما مع ما بعده مصدر، أي: كإرسالنا، والكاف فيه متعلق بقوله ولأتم نعمتي عليكم، أي إذا أنتم ائتمرتم في أمر القبلة وخشيتم الله دون الناس أتم عليكم كلمته كنعمته بإرسال رسول هكذا تنبيها أن النعمة في بعثته ودعائه العالم إلى دين مخالف لدينهم، ووعدكم أته سيظهر دينه على الأديان كان أعظم من تغيير القبلة، وقد وفى بذلك، وقيل: تتعلق الكاف بقولها " اذكروني " وهو بعيد...
إن قيل: كيف أخر فيما حكى عن إبراهيم عليه السلام قوله: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا) ذكر التزكية عن تعليم الكتاب والحكمة وقدمها هاهنا؟ قيل: التزكية من الله عز وجل ضربان، أحدهما الشهادة بطهارة الإنسان، وذلك يكون بتزكية الإنسان نفسه، وذلك مؤخر عن تحصيل الإنسان الكتاب والحكمة والعمل بهما، وإياهما عنى إبراهيم- عليه السلام- في دعائه، فلذلك أخر، والثانية من الله - عز وجل- تبين أحكامه الشرعية، ومن العبد العمل بها، وذلك متقدم علي معرفة حقائق الكتاب والحكمة وهي المعنية ههنا، فلهذا قدم
وهل ذلك إلا الكتاب والحكمة؟
قيل: عنى بقوله: ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ اللعوم التي لا طريق إلى تحصيلها إلا بالوحي على ألسنة الأنبياء، ولا سبيل إلى إدراك جزئياتها ولا كلياتها إلا به، وعنى بالحكمة والكتاب ما للعقل مدخل في معرفته شيء منه، وأعاد ذكره يعلمكم مع قوله: ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ تنبيهاً أنه علم مفرد عن المتقدم ذكره... قوله - عز وجل -:
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾
الآية (١٥٢) - سورة البقرة.
الذكر حضور الشر بالقلب والقول، فلهذا قيل: الذكر ذكران ذكر باللسان، وذكر بالقلب، وقد
يكون ذلك لحضور لا عن نسيان، وقل يكون عن نسيان، ولهذا فيل: الذكر ذكران، ذكر لكن نسيان،
وذكر لا عن نسيان.
وإلى الثاني ذهب الشاعر في قوله:
وكيف أذكره إذ لست أنساه؟
وقال بعض العلماء: لما خص الله هذه الأمة بفضل قوة زائدة على ما لبني إسرائيل، قال لبني إسرائيل: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾، فأمرهم بتذكر نعمته المنبهة عن الغفلة لينظروا منها إليه وقال لهذه الأمة:) فاذكروني)، فأمرهم أن في يذكروه بلا واسطة
إن قيل: ما الفرق بين شكرت لزيد، وشكرت زيداً؟ قيل: شكرت له هو أن يعتبر إحسانه الصادر عنه فيثنى عليه بذلك وشكرته: إذا لم تلتف إلى فعله، بل تجاوزت إلى ذكر ذاته دون اعتبار أفعاره، فهو أبلغ من شكرت له، إذ قد يكون
إن قيل: علم عطف قول: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾؟
قيل: على قوله: ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾، وذلك أنه لما أمرنا باستقبال القبلة، وبين العلة وأنه يريد أن يتم نعمته عليكم كما أنعم ببعثته رسوله أعاد النظم الذي هو الأمر، فأمر بالذكر الواجب بعضه في الصلاة، وبعضه في غيرها، وإن قيل: ولم قال بعده: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ ولم يقتصر على أحد اللفظين؟ قيل: لما كان الإنسان قد يكون شاكراً في شي ما، وكافرا في غيره، فيصح أن يوصف بهما على حسب النظر إلى فعليه، فلو اقتصر على قوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ لكان يجوز أن يتوهم إن من شكره مرة أو على نعمة ما فقد امتثل، ولو اقتصر على قوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ لكان يجوز أن يتوهم أن ذلك نهى عن تعاطي قبيح دون حث على الفعل الجميلة فجمع بينهما لإزالة هده الشبهة، ولأن في قوله:
إن قيل: فلم قال: (ولا تكفرون) ولم يقل (ولا تكفروا لي)؟ قيل: لأنه يقتصر من العبد على شكر نعمه، ولا يقتصر منه على أن لا يكفر نعمه، بل نهى عن الكفر به أكثر مما نهى عن كفر نعمه، إذ قد يعفو عن كفر بعض النعم ولا يعفو عن الكافر المطلق... قوله - عز وجل -:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
الآية (١٥٣) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في الصبر والصلاة وأنواعهما، فحث الله تعالى على الصبر، إذ هو ذريعة إلي فعل كل خير ويبدأ كل فضل، فإن أول التوبة الصبر عن العاصي، وأول الزهد الصبر عن مناجاة الدنيا، وأول الإرادة الصبر على طلب ما سوى الله، ولهذا قال عليه السلام: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد)، وقال: (والصبر خير كله) والصلاة هي المقتضية للخشوع والداعية إلي ترك الفحشاء قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ ولا أمر بالذكر والشكر حث على الاستعانة بالصبر والصلاة - تنبيهاً أنه بهما يتوصل إليه، فإن الصبر مبدأ الإيمان، والشكر منتهاه ولهذا قال عليه السلام: " الصبر نصف الإيمان " ثم قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ فضمن صحبته إياهم تنبيهاً على قرب فيضه وتوفيقه، كما قال:
إن قيل: لم قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ولم يقل: " مع المصلين " وقال في أخرى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ فاعتبر الصلاة دون الصبر؟ قيل:
لما كان فعل الصابرين أشرف وأعلى من الصبر، إذ قد ينفك الصبر من الصلاة ولا تنفك الصلاة من الصبر ذكر ههنا الصابرين، فمعلوم أنه تعالى إذا كان مع الصابر، كان لا محالة مع المصلي أكثر ثم قال: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ فذكر الصلاة دون الصبر تنبيها أنها أشرف منزلة من الصبر فقد ترك توفية حق الصلاة من تصبر في كثير من الأحوال.
قوله - عز وجل -:
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾
الآية (١٥٤) - سورة البقرة.
قد تقدم أن الحياة تقال على أوجه، وكل واحدة يقابلها موت، الأول: في القوة النامية التي بها الغذاء والشهوة إليها، وذلك موجود في النبات والحيوان والإنسان، ولذلك يقال: نبات حي، والثاني في القوة الحساسة التي بها الحركة المكانية وهي موجودة في الحيوان والإنسان دون النبات، والثالث القوة العاملة العاقلة [وبها يكون العقل والعلم] وهي في الإنسان دون
لذكرهم بحكمهم واستجهل من قال إذ! م أحياء وقال: قد علم أن رسول الله ﴿- ﷺ -﴾ والشهداء في
قبورهم، وهم لا يأكلون ولا يشربون، واستجهاله لن خالفه هو لأنه فرغ إلى الحس الذي قد نفى الله تبارك وتعالى بقوله: ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي: لا تحسون ولا تدركون ذلك بالمشاعر أي الحواس تنبيهاً أن ذلك مما السبيل إلى معرفته الفرق إلى العقول وإلى الاعتبارات الصحيحة [دون الحواس] وإما علي طريقة غيرهم فمعلوم، وقد أجمعوا على أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النمو والغذاء ولا الحياة التي بها الحس، فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول، فبعض المفسرين اعتبر المعنى الآخر الذي هو العلم المستفاد والعمل الصالح، فقال: إن الله تعالى نهى أن يسمى الشهداء أمواتا في حكم الدين، فقال: لا تقولوا لهم ما قال المشركون، ولكن قولوا هم أحياء في الدين، وهذا صحيح...
وبعضهم اعتبر الحياة المختصة بالإنسان، وقال: إن هذه الحياة مختصة بالقوة المروية المسماة تارة الروح، وتارة النفس، وتارة النسمة قال: والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة أي الروح البدن، فمتى كان الإنسان محسناً كان منعماً بروحه، [مسروراً بمكانه] إلى يوم القيامة، وإن كان مسيئا كان به معذباً، وإن الحسن يعلم في بذلك بعد موته، وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين
فقال: [ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب] وما روي أنه قال: " رأيت نسمة
وقال ابن عباس والربيع وغيرهما: " أرواح الشهداء في أحواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها "
قوله - عز وجل -:
﴿ولنبونكم بشي وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾
الآية (١٥٥) - سورة البقرة.
البلاء: المبالغة في الاختبار، كأنك [أبليته] وأخلقته من كثرة ما اختبرته به، ولذلك يقال: بليت فلاناً أي خبرته، والكلام في نسبة الابتلاء إلى- عز وجل- كما تقدم في.
قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ﴾ وإنما يراد به ظهور الفعل دون حصول العلم، والخوف توقع مكروه، والجوع استدعاء البدن عوض ما تحلل عنه، ونقص الأموال: ذهاب بعض ما حوته اليد، ونقص الأنفس: افتقاد الإنسان بعض قواه في ذاته، أو بعض جوارحه [أو سمعه أو بصره] أو بعض أقاربه وأخلائه، ونفس الثمرات: فقد المتوقع من الدخل والربح، وهذه الجملة مشتملة على محن الدنيا كلها.
إن قيل: هل ابتلاء الله الناس بهذه النوائب عام لهم أم خاص لبعضهم؟ وهل ذلك في زمان دون زمان؟ أو فبم كل زمان؟
وقال الشاعر:
إذا كان الشبابُ يعوُدُ شيباً...
وهمَّا فالحياةُ هيَ الحمامُ
فالعاقل بتفكره يعلم أن ماله وبدنه وذويه ونعمه عارية مستردة، فإذا عرضت له نائبة كان له من الصبر مطية لا تكبو، ومن الرضا بقضاء الله سيف لا ينبو، وإما بنظر أعم من ذلك، فإن الله تعالي لا أجرى عادة الدنيا أن لا تنفك من هذه الآفات المذكورة، وأنها قد تنال الأخيار كما تنال الأشرار، جعلها ابتلاء لأوليائه لكي إذا تلقوها بالصبر حط بها وزرهم، وإلا عظم به أجرهم.
وخص بعض المفسرين هذه الأشياء فقال: أراد بالخوف: ما ينال في مجاهدة العدو وبالجوع: صوم شهر رمضان وبنقص من الأموال، ما أوجب من الزكوات، وبنقص الأنفس: الأمراض وبنقص الثمرات: الصدقات وجعل بعضهم هذه الأشياء المحن الظاهرة العامة، لكن خص المخاطبين بأنهم أصحاب النبي- عليه وعليهم السلام خاصة، فقال: " إن الله- عز وجل أبلاهم بهذه الأشياء الظاهرة للحواس " المتبينة للكل ليعلم من بعدهم أنهم لم يتحروا في أتباع النبي- عليه السلام- طلب عرض، بل تبعدوه لتحققهم بمعرفة الحق وظهور الحجج، وجعل بعض المعتزلة المخاطبين والمحن
وعلى هذا النحو قوله: عز وجل: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾، وقوله: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾، وقوله: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾
إن قيل: لم فصل بقوله: (لا تقولوا) الآية بين هذه الآية والتي قبلها من قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ وهي بمعزل منهما؟ قيل: بل هي متصلة بهما، لأنه لما حث على الصبر وأكثر الصبر إنما لطلب الحياة ولما يعين علي الحياة، بين تلك الآية أن ذلك الصبر يوصل إلى حياة باقية كما قال: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ وكما قال- عليه السلام: " اللهمَّ لا عيشّ إلا عَيشُ الأُخرةِ "
قوله - عز وجل -:
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾
الآية (١٥٦) - سورة البقرة.
المصيبة من: أصاب السهم، إذا بلغ على صواب، وهي في الأصل صفة، وليس يريد بالقول اللفظ فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح والسخط للقضاء ليس يعني شيئاً وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله، والقصد له والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول، فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها، وتصور بها المقصد ووطن نفسه عليه.
فإن قيل: ولم قلت إن الأمر بالصبر يقتضي العلم، وما الصبر من العلم؟
قيل: الصبر على الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبة، ولهذا قال الخضر لموسى لما علم أن ليس يرف مقصده في فعله قال: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ فدل أن حقيقة تحمل الصبر لأبد له من معرفة المقصود به، وقال عليه السلام " أعطيت أمتي ما لم يعط أحد، قال يعقوب [عند المصيبة] يا أسفي، وأعطيت أمتي أن يقولوا: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، وقال عليه السلام: " من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل
قوله - عز وجل -:
﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
الآية (١٥٧) - سورة البقرة.
الصلاة وإن كانت في الأصل الدعاء، فهي من الله البركة على وجه، والمغفرة على وجه، وهي الرحمة وإن كانتا متلازمتين فهما مفترقتان في الحقيقة، وإنما قال:) صلوات) على الجمع تنبيها على كثرتها منه وإنها حاصلة في الدنيا توفيقاً وإرشادا، وفي الآخرة ثواباً ومغفرة، ثم بين أن من كان كذلك فهو المهتدي تنبيهاً علي ملازمة هذه المعاني الصبر.
﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾
الآية (١٥٨) - سورة البقرة.
الصفا: الحجارة الصافية عن الطين، والمروة: ما كان صلباً شديداً، والشعائر جمح الشعيرة، أي علامة محسوسة، ومعالم الحج مشاعر وشعائر، وسمي الهدى المعلم بذلك، والحج: القصد بمعرفة، ومنه الحجة، والعمرة في الأصل الزيارة المقتضية لعمارة المودة في الأصل، فكان الحج هو الزيادة والعمرة عمارتها، ولهذا يتأخر ذكرها في القرآن، ويجب الدم على من قدمها في أشهر الحج
أوقرنها به لتقديم ما من حقه أن يؤخر، وهذا ينبه أن الإفراد أفضل من التمتع والقرآن
فإن قيل: فكيف ندب النبي- عليه السلام أصحابه إلى فسخ الحج والانتقال إلى العمرة، على هذا قيل: إنه أراد أن ينزلهم عن اعتقادهم أنما الاعتبار في أشهر الحج من أكبر الكبائر، والجناح الميل إلى الإثم، أصله من الجناح و " جنح الطائر " حرك جناحه، وبه شبه سير الإبل، فقيل جنحت الإبل في السير، كقوله طارت، وجنوح السفينة لتشبه السابح بالطائرة ولهذا قيل: السابح طائر في الماء، والطائر سابح في الهواء، وجنح الظلام ألقى جناحه، ألا ترى أنه يقال: ألقى الظليم أرواقه كما يقال: ألقى الظالم أرواقه؟ والتطوع: تكلف طوع أي انقياد، وهو في التعارف التبرع بما لا يلزم، وإنما قال: لا جناح وذلك واجب، لأن العرب كانت تكره السعي في الجاهلية وقيل: أنها كرهت لصنمين كانا قيل عليهما يعتقدون أنما لهما السعي، فتأثموا لذلك فأنزل الله تعالى الآية، وأما الوجوب: فمستفاد من الخبر، وهو قوله:) أسعوا) فإن الله كتب عليكم السعي، وروي أن عروة قال لعائشة- رضي لله عنها: " ما أرى جناحي أن لا يطوف بين الصفا والمروة فقالت: " بئسما قلت، لو كان كذا لقال: " أن لا يطوف بهما ".
﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾
الآية (١٥٩) - سورة البقرة.
اللعن الإبعاد على وجه الطرد، وصار في التعارف دعاء إذا قيل: لعنه الله والبينة والهدى وإن كانا متلازمين فإنهما مختلفان، فإن البينات يشار بها إلى الآيات المنزلة والهدى إلى ما يستدل به من الأمارات، وقيل: الأمة في أهل الكتاب العالمين أمر النبي عليه السلام، وقيل: هي عامة، وسواء خصت الآية أم لم تخص، فحكم الله عام في أن من كتم علماً عن مستحق له استحق العقوبة، وعلى هذا قال عليه السلام: " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار " وليس ذلك بمناف يقول من منع حقائق الحكمة عمن لا يستحقها، فإن ذلك دعاء له أن يترشح لقبولها وحسن سماعها وحفظها لئلا يستعين بها في طريق السر، فليس العلم بأهون على الله- عز وجل- من المال الذي هو عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وقد منع أن يمكن منه السفيه الذي لا يحسن مراعاته، فقال:
واللاعنون: قيل هو عام في الملائكة والناس ودواب الأرض، وما روي أنه تلعنهم الهوام فتقول: (منعنا القطر بمعاصي بني آدم)، فذلك تنبي أحوالها أنهم مستحقون من الله اللعن، فكأنه ناطقة بذلك كقولك لمن رأيت له أثرا قبيحاً على فرسه: " إن فرسك تشكوك وتلعنك "، وعلى ذلك قول الشاعرفي ناقته:
يقولُ إذا ادَرَأتُ لها وضيني...
أهذا دينُهُ أبداً وديني
وأما ما يتصوره بعض الناس في أن يكون للهوام تمييز ولعن بالقول، فذلك ممتنع بوجه مخصوص ليس هذا موضع شرحه.
قوله - عز وجل -:
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
الآية (١٦٠) - سورة البقرة.
لما كانت التوبة استدراك ما ارتكب من المآثم بما يغمره هن أفعال الخير على ما تقدم ذكره، فمن يكتم البينات والهدى عن الناس فإنه مع جنايته في نفسه أفسد الناس ومنع حقهم، فإذن لا يكفيه من التوبة أن يغير نيته بالندم والعزم على أن لا يعاود مثله حتى يصلح ما أفسده بقدر طاقته ويظهر ما كتمه، كما أن من غصبه مالاً يكون موفياً حق التوبة حتى يرد ما غصبه، وضمن تعالى
أنه يتوب عليهم إذا فعلوا ذلك وبين بقوله: ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ أنه ليس يفعل ذلك بهم فقط، بل يتوب على كل تائب، ولمي حق توبته ويرحمه.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾
الآيتان (١٦١، ١٦٢) - سورة البقرة.
لما بين في الأول من تاب من ذنبه تاب عليه ورحمه بين في هذا أن من مات على كفره فالعقوبة لازمة له،
إن قيل: أليس قد قال في الأول: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ فلم أعاد ههنا فيل لأمرين، أحدهما أنه عم ههنا، وخص في الأولى الذين يكتمون الحق والثاني أنه في الأولى ذكر أن اللعنة تتوجه إليهم وهم يستحقونها، وفي الثانية ذكر أن اللعنة تقر عليهم، ولهذا قال عليهم:
ن قيل.
هل الناس عام حتى أكده بأجمعين؟
قيل: نعم، وذلك أن المؤمنين وصالحي العباد يلعنونهم، وهم يلعن بعضهم بعضاً: كما قال: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾، وكل يلعن نفسه ويلعن بعض جوارحه وقواه بعضة، كما تشهد عليه، وقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ قيل: في اللعنة، وقيل: في النار، وهما في الحقيقة واحد، فكل من عليه اللعنة فهو في النار، وقرئ ﴿وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، ويكون ذلك عطفآ
على المعنى دون اللفظ.
قوله - عز وجل -:
﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾
الآية (١٦٣) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في الواحد إذا وصف به البارئ عز وجل وقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ يجوز أن يكون خطاباً عاماً أي المستحق منكم العبادة وهو إله واحد لا أكثر، ويجوز أن يكون خطاباً للمؤمنين،
إن قيل: ما فائدة الجمع بين ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وبين ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ وأحدهما يبنى على الآخر؟
قيل: لما بين بقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أنه المقصود بالعبادة أو المستحق لها، وكان يجوز أن يتوهم أن يوجد إله غيره ولكن لا يعبد أولا يستحق العبادة أكده بقوله: (لأ إله إلاً هو)، وحق لهذا المعنى أن يكون مؤكدا ويكرر عليه الألفاظ [الملخصة]، إذ هو مبدأ مقصود العبادة ومنتهاه.
قوله عز وجل:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
الآية (١٦٤) - سورة البقرة.
اختلاف الليل والنهار: أن يخلف كل واحد منهما الأخر، كقوله عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾، وقوله: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ وقوله: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾، والفلك: السفينة المدورة، وبه شبه فلك السماء، ولذلك استعمل فيه السباحة وفلكة المغزل، وفلكت الجارية صار ثديها كفلكة، وفلكت الجدي: وضعت فلكه على لسانه يمنعه عن الرضاع، والفلك يقال للواحد والجمع، وذلك أنه يقال للواحد فلك، وفلك نحو: نُخل ونَخْلٍ وعُربٍ وعَرّب، وعُجْمِ وعَجَم، ومن قال: فلك يجمعه على فلك نحو أسَدٍ وأُسْدٍ فتداخل الواحد والجمع من لغتين، والبث إظهار
إن قيل: لم جمع السماء وأفرد الأرض في كل القرآن؟
قيل: لأن السماوات لما كانت في الحقيقة سبعاً وطبائعها مختلفة على ما ذكر أصحاب هذه الصناعة، وكل واحدة مستمدة القوة مما فوقها ومعطية ما دونها، والأرض وإن كانت سبعاً، فليس على ذلك الوجه، لأنها بالأقاليم لا بالطبقات المتراكمة تراكب السماء وطبيعتها واحدها، ولهذا قال: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ فترك اللفظ مفرداَ، ونبه بمثلهن على العدل الذي يعد به الأقاليم، وإنما ذكر هاهنا لفظ الخلق، لأنه مشتمل علي الإبداع والصنع والتسخير، وخص فعل الله تعالى بذلك لكونه موضوعا للتقدير المقتضي للأحكام، وهو تعالى أحد الحاكمين، ونبه تعالي على وحدانيته بالتفكر في الموجودات وذكر من آياته مالا يخفى أمر صنعته على ذوي الحواس والعقول ليستدل به كل على قدر فهمه ويقف منه على معارف بمبلغ علمه.
إن قيل: كان الوجه أن يعقد ذكر السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بتصريف الرياح والسحاب التي هي من آثار الجو ومختصة بفعل الله- عز وجل-، ثم يعرج على ذلك الفلك التي هي
قدم ذكر الفلك لننظر منها إلى أثار الله تعالى، وقال بعض الناس:
لم يعن بالفلك والبحر المحسوسين فقط، بل عنى بالبحر كل شبها وحيرة ومشقة، وبالفلك ما فيه إيقاد البشر من فائض النور والعقل أمدهم به، وغير ذلك من المعادن المعقولات والمحسوسات، وقد تقدم أن من الناس من قال: الإشارة بالماء في نحو هذه المواضع إلى العلوم التي بها الحياة الأبدية وما في الأرض إلى النفوس التي بها تحيا الحياة الأبدية، ولما ذكر الله تعالى في الآية الأولى:
) وإلهكم إله واحد) جعل هذه الآية دلالة عليه تنبيها أن كل موجود لا ينفك من أن يكون مكوناً غير مكون، أو مكوناً من وجه مكوناً من وجه أو مكوناً وغير مكون، ومحال أن يكون كل مكون مكوناً لأن ذلك يؤدي إلى ما لا يتناهى، فإذن لابد أن تنتهي الموجودات إلى مكون غير مكون، وذلك هو الباري- عز وجل-، فنبه أن أثر الصنعة موجود في هذه الأشياء، فلابد أن تكون مكونة، وهذا هو الدلالة على وحدانيته علي طريق الجملة..
قوله - عز وجل -:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾
الآية (١٦٥) - سورة البقرة.
الند: المثل في الجوهر، وقد تقدم، والحب أصله من الحب، وبه شبه حبة القلب وحبيبه يقال على وجهين، أحدهما: أصبت حبة قلبه، نحو كبدته وفادته، والثانية أصبته بحبة القلب، نحو: رمحته وعنيته، أصبته بالعين، فقولك: حببته وأحببته هو في اللفظ فعل، وفي الحقيقة قد يكون انفعالاًَ، لأن المحب يكون منفعلاً للمحبوب، وإذا أستعمل في الله تعالى فقيل: " أحب الله فلاناً "، فليس إلا على
بالتاء، فخطاب النبي على طريق التعظيم، ومعناه: أنك مع علمك بأحوال القيامة لو رأيت لتعجبت، وقوله: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾، قيل: هو بدل من الذين، وهو ضعيف وقيل: هو مفعول الفعل المقدر للجواب، وقيل: تقديره: لأن، وقد قرئ إن مكسورة ولا يكون إلا علة والمفعول محذوف.
﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾
الآية (١٦٦) - سورة البقرة.
السبب: أصله الحبل الذي تشد به (الخيم) ويرتقي به الشجر، ثم جعل عبارة عن كل ذريعة من مواصلة وذمة، والسبب والسبيبة للشقة من الثياب تشبيهاً به في الهيئة، وبعض الصنعة، وسببته في الأصل كناية معناه: أصبت سببه، ولكنه سمى الإصبع سبابه، لكونها مشيرة بالسب، كما قيل لهامسبحة لإشاراتها بالتسبيح، وتقدير الآية: (أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ).
إذ تبرأ المتبعون من تابعهم، كقوله: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾، وقوله: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾، وقوله: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾، وكما حكى عن الشيطان: ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾، وقوله: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ﴾
﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾
الآية (١٦٧) - سورة البقرة.
الكر: هو العطف على الشيء بالذات، أو بالفعل، وعبر به عن الجبل المعقول، والكرير: تكرر الحشرجة في الصدر، والحسرة أصلها من حسرات القناع، وكأنها كشف ما غطى القصيرة من الهوى، وعلى ذلك:
تحَّلى غطاءِ الرأْسِ عني ولَمْ يَكَدْ
غطَاءُ فؤادي ينْجليِ يًستْرٍيحُ
ولما كان عند ذلك لغرض الندم والغم بما كان من الإنسان عبر به عنهما، فقيل أصابته حسرة، وقوله: كذلك أي كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وبين الله تعالى ما يظهرونه من الندم باتباع مالا يغنى عنهم من الله شيئاً وينسيهم مالا يجري نفعاً، وقوله: أعمالهم دخل فيها [الأعمال التي فعلوها] ولم يريدوا وجه الله بها، فضلت عنهم، كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾، ودخل فيها الأعمال التي فرضت عليهم، فأحلوا بها، وعلى ذلك روي أن الجنة ترفع لهم، فينظرون إليها فيقال: تلك مساكنكم لو أطعتم الله عز وجل، وترفع النار لأهل الجنة فيقال لهم: تلك مساكنكم لو عصيتم الله - عز وجل -....
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾
الآية (١٦٨) - سورة البقرة.
الحلال: من حللت العقدة، وهو الذي حل لكنه عقدة الخطر، وجل بالمكان، أي حل عقد أحماله، كقولهم: حط رحله، وألقى أرواقه وحل الدين، أي حل عقد المطالبة، وحل من إحرامه، حل ما عقده على نفسه بالإحرام، وتحلة اليمين: ما تنحل به عقدة اليمين، والإحليل: لمخرج اللبن والبول لانحلال عقدته، والطيب: ما تستطيبه الشهوة المستقيمة والعقول الصحيحة أما بالإضافة إلي الشهوة المستقيمة فهو ما يشتهي لا لاضطرار كالجرذ والفأر والحرية والدم، أو لعادة سيئة كأكل الضب، ولهذا قال الشاعر:
إنكً لوْ ذُقتَ الكسِيَّ بالأُكبادِ...
لمَاَ تركْتَ الضَّب يعدوُ بالوادِ
وكعادة المخبث والمئل إلى الذكور عن النساء، وأما بالإضافة إلى العقول الصحيحة، فما يكون متناولاً من حيث ما يجوز متبلغأ به إلى ما خلق لأجله وأن لا يقصد به شرك كما يذبح على النصب والخبيث على العكس، والحلال أعم من الطيب، والحرام أعم من الخبيثة فقد يكون حراما مالا يكون خبيثاً في نفسه بالعقل كتحريم ما يقسم بالأزلام، واستعمال الذهب والفضة، ولبس الحرير على الذكور، وجمع بين الحلال والطيب في الآية ليفيد ما استطابه الطبع وأباحه الشرع، ولا ذكر إباحة الطيب، وكان كثيرا ما يزين الشيطان لبعض الناس ما ليس بالطبع الصحيح طيباً، كعادة المخنث اتبعه بقوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ كقوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ﴾، وقد تقدم أن لا فرق بين أن يقال " اتبع فلان الهوى " وبين " اتبع الشهوة أو الشيطان أو الحياة الدنيا في أن
إذا امتْحَنَ الدُّنْيا لبيبٌ تَكَشَّفتْ....
لهُ عنْ عدًو في ثيابِ صّدِيِق.
وقول آخر:
عمْرِب لقدْ نَصَحَ الزمَانّ وإنهٌ...
لمنَ العجاَئبَ ناصحٌ لاَ يُشْفِقُ.
قوله- عز وجل:
﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ الآية (١٦٩) - سورة البقرة.
السوء والفحشاء كل قبيح من نحو الزنا، والسرقة، والسكر، والقتل، والخيانة، والكذب والحسد والجهل [وكل ما يقال له سوء] يقال له فحشُ، لكن بنظرين مختلفين، فإنه سمي سوءاً لاغتمام العاقل به، والفحشاء بأن يستفحشه، ونبه تعالى بأن الشيطان داع إلى إتيان الشر والسوء والفحش والتقول على الله عز وجل،
إن قيل: إن كان التقول على الله عز وجل بما لا يعلم من عمل
الشيطان، فكيف يصح الحكم بغالب الظن في كثير من الأحكام، فإن عامة فروع الفقه مبنية علي غلبة الظن، قيل: أما أولاً: فليس ذلك تقولاً على الله تعالى، وإنما ذاك تقول على أحكام، وقد فرق المتكلمون
عالمين بأن هذا الحكم واجب علينا في الظاهر، وهذه مسلمة قد أحكمت في أصول الفقه، وأما سؤال من سأل من المتكلمين في هذه الآية بأنه كيف يأمرنا الشيطان ونحن لا نسمع قوله ولا نرى شخصه، وما الحكمة في إيصال الله- عز وجل- أمر الشيطان إلى نفوسنا، فهل وما يجري مجراه من الأسئلة سؤال من لم يتخط المحسومات والموهومات إلى باب المعقولات، ومحال الاشتغال معه [بهذه الحرمات].
قوله - عز وجل -:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾
الآية (١٧٠) - سورة البقرة.
ذمهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الإنسان من الفكر والروية وركزه فيه من المعارف، وذلك أن الله تعالى ميز الإنسان بالفكر ليعرف به الخير من الشر في الاعتقاد والصدق من الكذب في المقال والجميل من القبيح في الفعال لم يتحر الحق والصدق الجميل، ويتجنب أضدادها،
إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله: (يعقلون، ويهتدون) وأحدهما يغنى عن الآخر؟
قيل: قد تقدم أن العاقل يقال على ضربين، أحدهما: لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف، والثاني: لمن يحصل له العلوم المكتسبة وهو المقصور ههنا، والمهتدي قد يقال لمن افتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم، فبين أنهم لا يعقلون ولا يهتدون، بعالم ووجه أخر، وهو أن يلقي ويهتدي وإن كان كثيرات ما يتلازمان، فإن العقل يزال بالإضافة إلى المعرفة، والاهتداء بالإضافة إلى العمل، فكأنه قيل: لا علم لهم صحيح ولا عمل مستقيم.
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾
الآية (١٧١) - سورة البقرة.
النداء من قولهم: ندىُّ الصوت، أي: غضُّ الصوت، وأصله من الندى، فناداه، أي دعاه بندى صوته، ولما حكى لله عنهم ما زعموا أنهم يتبعون أباءهم دل على جهلهم بأنهم كأغنام ينُعق بهم، فلا يعرفون مغزى الصوت ولا قصد المنادي، وقد تقدم الكلام في قوله، ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾،
إن قيل: كيف يكون مثلهم مثل الناعق والذين كفروا بالمنعوق به أشبه، والذي ينعق بالمنادي، والداعي أشبه قيل: التشبيه ضربان، تشبيه مفرد بمفرد وحقه أن يحمل أحدهما على الأخر [نحو زيد كأسد، وتشبيه جملة بجملة] ولا يراعي فيه مقابلة الألفاظ المفردة، فلما شبه قصة الذين كفروا في إعراضهم عن الداعي لهم إلا الحق بقصة الناعق، [قدم ذكر الناعق ليبنى] عليه ما يكون منه، ومن المنعوق به، وعلى هذا قوله ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ وقوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾ وقيل: عنى بالذين كفروا المتبوعين لا التابعين، ومعناه: مثل الدين كفروا في دعائهم أتباعهم كمثل الناعق بالغنم [الذي لا يسمع لها الصوت]....
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾
الآية (١٧٢) - سورة البقرة.
إن قيل: ما فائدة إعادة هذا المعنى وقد تقدم آنفا؟ وما الفرق بين هذا الخطاب والخطاب الأول؟ قيل في ذلك لطيفة وإشارة عجيبة، وذلك أنه حيث خاطب الناس كافة قال: ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾، فأباح لهم ذلك، ونبه أنه لم يحظر عليهم إلا تناول المحرم، وعقبه بالنهي عن اتباع الشيطان، وجعل الخطاب في هذه الأيام مخصوصاً بالمؤمنين وأمرهم أن لا يتوسعوا في تناول
ما رزقوا، بل يتحروا من الطيب تحري الناس مما في الأرض، وأنه في الأول بالتحرر عن خطوات الشيطان، وهو الارتسام له فيما يتخطى به عن المباح، وأمر ههنا بالشكر لله تعالى الذي هو أرفع منزلة في العبادة على ما تقدم ذكره، ونبه بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ إن عبادته لا تتم إلا بشكره... قوله- عز وجل:
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الآية (١٧٣) - سورة البقرة.
الإهلال: أصله وجود الهلال، ولما جرت العادة أن يكبروا عند رؤيته سمي التكبير إهلالاً، بل قيل لرفع الصوت أيضاً إهلال تشبيها بذلك حتى قيل: أهل الصبي، وأنا التهلل فظهور الهلال، فتارة يتصور لمعانه، فيقال: تهلل السحاب، وتهلل وجهه، وتارة يتصور شكله، فيقال: تهلل البعير إذا تقوس
لم ذكر تعالي بعض المحرمات وترك بعضها؟
قيل: في ذلك جوابان، أحدهما: أن المسكوت عنه هو تفصيل الميتة، وقد ذكر ههنا الميتة المستوعبة لكل ما مات روحه عن غير ذكاة، والثاني: أنه لما كان القصد في هذه الآية حكم تناول المضطر دون استيعاب المحرمات،) ذكر الكل منها وترك البعض، والباغي في الأصل الطالب لما ليس له طلب والعادي: المتجاوز لا رسم له بالشرع، وقال الحسن وقتادة والربيع وابن زيد: عنى بقوله: (غير باغ غير متناول للذة، ولا عاد في المعصية طريق المحقين، وإلى نحوه ذهب الشافعي- رحيمة الله عليه، والظاهر يشهد له، لأن قوله: (غير باغ ولا عاد) متعلق بحال الاضطرار، فكأنه قال: " من حصل له اضطرار " لا على أحد هذين الوجهين، وعلى الأول تقديره: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد فيكون غير متعلق بمقدر محذوف، ومن أنكر ذلك وقال: إنكم تأمرونه بقتل نفسه إذا خطرتم ذلك عليه، وقتل نفسه محرم عليه عاصياً كانوا أو مطيعاً، فجوابه إنا لم نأمره بذلك، بل أمرناه بأن ييخرج عن الحالة التي تكون الميتة محرمة عليه، وذلك بأن يتوب [وينزع عما هو عليه] وإلا كان متناولاً لمحظور كما أن سفره محظور،
فإن قيل: أليس من سفره طاعة؟ إنما أجل له للإضطرار.
لا للطاعة، فإذن العلة لمدير الضرورة، فيجب أن تكون مطردة، قيل: بل العلة هي الضرورة مع حصول الطاعة، فقد قال الحكماء وهو الصحيح: إن الله تعالى جعل للإنسان طيبات الرزق وبشرط الإيمان، ولهذا قال: ﴿قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، خالصة يوم أخذه فما أخذه الكفار من نعيم الدنيا، فإنما يأخذه اغتصاباً في الحقيقة، ولذلك قد تستقيم أحوالهم، والآية تقتضي أن المضطر مخير في تناول أيها يريد وهو
والصحيح أنه يجوز للعلة التي لها أجيز تناوله للجوع، وكذا الخمر إذا اضطر إليها في دواء
بحكم الأطباء أنه لا يسد غيره مسده، وأنه يفوت روحه إن لم يتناولها، قوله عليه الإسلام-، (إن الله- عز وجل لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)، فمعناه: إن قد رما فيه الشفاء غير محرم عليه، وعلى هذا نبه بالرخصة في شرب أبوال الإبل.
قوله- عز وجل:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
الآية (١٧٤) - سورة البقرة.
البطن به شبُه بطن الأمر وبطن الوادي، والبطن من العرب اعتباراً بأنهم كشخص واحد، وأن كل قبيلة منهم كعضو بطن وفخذ وكاهل، وعلى هذا الاعتبار قال الشاعر:
الناسُ جسمٌ وإمام الهُدىَ...
رأسُ وأنت العينُ في الرأسِ
وقيل: بطن إذا عظم بطنه نحو جسم وكبر، وبطنته عظمت بطنه، وسمي ما يشدَّ عليه بطاناً على بناء حرام وزمام والإبطن عرق تكشف البطن على بناء الأكحل، وأعاد الله تعالى وعيد كاتمي
ذكر من الأحكام، وما لم يقل ذلك من أهل الكتاب وتحذيراً لهذه الأمة أن يسلكوا سبيلهم وأكل النار تناول ما يؤدي إليها، وذكر الأكل لكونه المقصود الأول بتحصيل المال، وسماه بالمال الذي هو النار، وذكر في بطونهم تنبيهاً على شرههم، وتقبيحاً لتضييع أعظم النعم لأجل المطعم الذي هو أحسن متناول من الدنيا، وعلى ذلك قال الشاعر:
ودع عنك عمراً إن عمراً مسالمُ....
وهل بطنُ عمروٍ غيرُ سبرٍ لمطْعمِ؟
وقال آخر:
كُلُوا في بعض بطنكم تَعِِفًّو
وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾.
وبقوله: " ولا يكلمهم " لم يعن نفي الكلام رأسا، فقد قال: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ وقال: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ﴾، وإنما أراد كلاماً يقتضي جدوى، ولهذا قال الحسن:
معناه يغضب عليهم تنبيها أنهم بخلاف من قال فيهم: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾، وقيل: حقيقة كلمته حملته على الكلام نحو: حركته وخرجته، لأن من كلمته فقد استدعيت كلامه، فكأنه قيل: لا
وقد تقدم الكلام في الاشتراك والقليل والتزكية.
قوله - عز وجل -:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾
الآية (١٧٥) - سورة البقرة.
الضلالة والعذاب يتلازمان، وكذلك الهدى والمغفرة، لكن الضلال والهدى يقالان على الاعتبار بالدنيا، والعذاب والمغفرة على الاعتبار بالآخرة، وجلل تعاطيهم لما يؤديها إلى النار بمنزلة الصبر على النار، وهذا معنى قول الحسن: ليس صبرهم على النار، ولكن أراد ما أجرأهم على النار، وقول أبي عبيد:
إن ذلك لغة " يمانية " بمعنى الجرأة، واحتجاجه بقول الأعرابي الذي قال لخصمه:
" ما أصبرك على الله؟، فتصور المجاز بصورة الحقيقة، لأن ذلك معناه: ما أصبرك على عذاب الله، وإلى هذا يعود قول من قال: ما أعملهم بعمل أهل النار! وما ألقاهم على النار!، وقد يوصف بالصبر من لا صبر له اعتباراً بالناظر إليه وتصوراً أنه صابر، واستعماله لفظ التعجب في ذلك اعتباراً بالخلق لا بالخالق...
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾
الآية (١٧٦) سورة البقرة.
ذلك إشارة إلى.
كل ما تقدم من العذاب والحكم والضلال، أي ذلك بسبب إنزاله الكتاب
واختلافهم فيه، ويصح أن يكون نصباً، أي فعلنا ذلك " بأن الله ".
وأصل الاختلاف التخلف عن المنهج، وقيل: اختلفوا: أتوا بخلاف ما أنزل الله، وقيل: اختلفوا بمعنى خلفوا، نحو كسبوا واكتسبوا، وعملوا واعتملوا، أي صاروا خلفاً فيه نحو: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ ورثوا الكتاب، والشقاق وقد تقدم ذكره، ووصفه ببعيد تنبيهاَ على بعدهم من الحق...
قوله - عز وجل -:
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾
الآية (١٧٧) - سورة البقرة.
الرقبة: أصل العتق، ويعبر بها عن الجملة كما يعبر عنها بالرأس والظهر والرجل واليد، ويعبر بها عن المملوك، وقيل رقبتُة: إذا أصبت رقبته بها بالسلاح، وإما بالعين ناظراً إليه، ثم سمي المراعي للغير رقيباً، والخطاب في هذه الآية للكفار والمنافقين الذين أنكروا تغيير القبلة، وقيل: بل لهم وللمؤمنين، حيث قدروا أنهم نالوا البر كله بالتوجه إليها، ولما كانت القبلة أحد أركان الصلاة، والصلاة إحدى فعلات البر، بين تعالى أن ليس البر بمقصور على هذا الذي تعتبرونه، بل هو حملها.
والقبلة
والثاني: ما يتخصص به في نفسه من إقامة العبادات واستعمال الصدق والوفاء والتواضع والصبر، وقد نبه الله عز وجل- على جميع ذلك بهذه الآية، إما على الاعتقاد فبقوله: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾، وإما على ما يأخذ به الإنسان نفسه في معاشرة الناس فبقوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ إلى قوله: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾، فإنه ذكر الجود الذي هو من وجه أفضل هذه الأفعال، ومن وجه هو كل هذه الأفعال فإن الجواد كما يتبرع بماله يتورع عن مال غيره، وكما يجود بماله، يجود بجاهه وبطلاقة وجهه، وعند الحقيقة- بنفسه، ودل على ما تخصص به في نفسه بقوله: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ﴾ إلى أخر الآية، وكل ما سكت عنه فداخل تحت ما ذكره، أو منبة عليه، ونبه أن الآيتين بذلك بر، وهو المؤدي إلى النعيم المدلول عليه بقوله: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾، وبين تعالى بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ بأن الذين تحروا ذلك إدا اعتبرتهم بأفعالهم وأقوالهم فهم الذين صدقوا، وإذا اعتبرتهم بأفعالهم وأحوالهم فهم المتقون، والصدق والتقوى وإن اختلفت حقيقتاهما فهما متلازمان،
إن قيل:
ما وجه قوله- عليه السلام- لما سأله أبو ذر عن البر، وتلا عليه الآية، ولما سأله وابصة عنه: قال " ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس " الخبر قيل إن أباذر سأله عن ذات البر، فبينه بالآية، ووابصة سأله عن كيفية تحريه والاشتياق من نفسه في تعاطيه، فبين بصفته.
قيل: قد ذكر النحويون في هذا وأمثاله أنه على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ولكن وجه فائدته أنه إذا قل " زيد بار "، فإنه يعتبر في قولك: بار سيان الذات، والصورة والمختص بهامن معنى البر، وإذا قيل: " زيد هو البر "، ففيه مبالغة، وأنه صار لاختصاصه بهذا المعنى بحيث لا يرى منه إلا هذه الصورة مجردة عن العنصر الذي يجوز أن يتصور بغيره من الصور، وعلى هذا كل ما في معناه، نحو زيد أقبل وأدبر، وأكل وشربا وقوله: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ أي على حب المؤمن، فيكون مضافاً إلى الفاعل، وقيل: " على حب المال " ويكون مضافا إلى المفعول، ونبه بذلك أنه يبذله مع فرط الحاجة إليه نحو قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، وقوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وسئل- عليه السلام- أي الصدقة أفضل؟
فقال: " أنْ تتصدقَ وأنت صحيح شحيحٌ تأمل العيش وتخشى الفقر "، وقيل تقديره: على حب الإيثار، وذلك أن المحمدة التامة لم تهتز لإعطاء المال وتحب ذلك كما قال الشاعر:
ليسَ يُعطيكَ للرجاءِ والخَوْ....
فِ وِلكنِ يلدُّ طَعْمَ الْعَطَاءِ
وقيل: على حب الله أي يقصد به القربة لا طلب رياء ولا ثواب كما قال: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾
قيل: ذلك لأمرين: أحدهما اللفظ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول فيقبح، والثاني: أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة، وغير مستفاد إلا منهما، فالحكمة العقلية تقتضي العدالة دون الجود، ولما ذكر الوفاء بالعهد وهو مما يقتضي العقول المجردة، صار عطفه على الأول أحسن.
إن قيل: ولم نصب الصابرين؟ قيل: قل ذكر النحويون أن الصفات للمدح والذم إذا توالت قد يخالف بين إعرابها، وأنشدوا في ذلك:
النَّازِلين بكُلَّ معتْركٍ...
والطَّيبوُنَ مَعَاقِد الأزَر
إلي أبيات أخر.
وفائدة ذلك أنهم إذا أرادوا أن كل واحد من تلك الأوصاف يستقبل بمدح أو ذم عظيم لو تجرد عما معه خالفوا بين إعرابها تنبيهاً على هذا المعنى، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل [ومن وجه جامعاً للفضائل] إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ ولم يتم حسنها إلا به حتى روي:
" الصبْرُ خيرٌ كُلَّهُ "، قوله: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد) عن إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد، واستوعب بقوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ أنواع الصبر، لأنه إما
إن قيل: كيف قدم ههنا ذكر الآخرة وأخره في قوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ﴾؟
قيل: يجوز أن يكون ذاك مع الواو لا يقتضي الترتيب من أجل أن الكافر لا يعرف الأخرة ولا يعني بها وهو أبعد الأشياء عن الحقائق عنده أخر ذكره، في قوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ﴾.
ولما ذكر حال المؤمنين، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة وكل ما يفعله ويتحراه يقصد به وجه الله ثم أمر وللآخرة قدم ذكرها تنبيها أن مراعاة الله- عز وجل- ومراعاة الآخرة، ثم مراعاة غيرهما
إن قيل: كيف اختير الترتيب المذكور في قوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ قيل: لما كان أولى من يتفقده الإنسان بمعروفه أقاربه، ولهذا قال عليه السلام: " لا يقبل الله صدقة وذو رحم محتاج "، كأن تقديمها أولى، ثم أعقبه باليتامى، فالناس في المكاسب ثلاثة:
معيل وغير معول، ومعول معيل ومعول غير معيل، واليتيم معول غير معيل، فمواساته بعد الأقارب أولى، ثم ذكر المساكين، وهم الذين لا مال لهم حاضرا ولا غائبا، ثم ذكر ابن السبيل الذي قد يكون له مال غائب، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب، ثم ذكر الرقاب الدين لهم أرباب يعولونهم فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقرا ممن قدم عليه.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
الآية (١٧٨) - سورة البقرة.
القص: قطع الشيء على سبيل الاجتذاذ، ومنه قص شعره وقص أثره، وقص الحديث اقتطع كلاماً حادثاً حذف غيره، والقصة اسم منه، وحقيقة القصاص أن يفعل بالقاتل، والجارح مثل ما فعلاً واعتبر الشافعي ومالك صورة الفعل حتى إن من رضخ رأس غيره بالحجر كان القصاص مثله، لكن مالكاً يقول إنه يفعل به ذلك الفعل حتى يموت والشافعي يقوله: " إن لم يمت من مثل فعله قتل بالسيف "، ومن الفقهاء يعتبر المماثلة في القاتل والمقتول، فلا يقتل القاتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي، والاختلاف أنه يعتبر في بعضهم كالمستأمن والكتابة يعتبر بها عن الإيجاب، وأصل ذلك أن الشيء يراد، ثم يقال، ثم يكتب فيعبر عن المراد الذي هو المبدوء بالكتابة التي هي المنتهى إن قيل على من يتوجه هذا الوجوب؟.
قيل: على الناس كافة، فمنهم من يلزمه استيفاؤه وهو الإمام إدا طلبه الولي، ومنهم من يلزمه تسليم النفس وهو القاتل، ومنهم من يلزمه المعاونة أو الرضا به، ومنهم من يلزمه أن لا يتعدى، بل يقتص أو يأخذ الدية، والقصد بالآية منع التعدي، فإن أهل الجاهلية كانوا يتعدون في القتل، وربما يرضى أحدهم إذا قتل عبد غيره لا يقتل حر..
من القاتل، وأخوة ولي المقتول، ومعناه: من ترك له أخوه الذي هو ولى الدم شيئا من القصاص فليتبع في المطالبة بالدية المعروف، وليؤد إليه القاتل بإحسان..
إن قيل.
لم قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ ولم يقل: " فمن عفا له أخوه شيئا "؟.
قيل: العدول إلى هذا البناء للطيفة، وهي أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم واحداً، فعفا أو جماعة فعفا واحد منهم أنه يبطل حق القصاص ويعدل حينئذ إلى الدية، فقال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ ليدل على هذا المعنى، وقيل: فاتباع: هو أمر للعافي بحسن المطالبة والهاء في قوله: أخيه، يجوز أن يكون للمقتول، ويكون لولي المقتول وجعله أخاً لولي الدم لا للنسبة ولا للموالاة الدينية، ولكن للإحسان الذي أسداه إليه وأجرى العهد مجرى الخطأ في الرضا منه بالدية، وقوله: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ﴾ أي خفف عنكم إذ جعل لكم الخيار في الحكمين، وقال بعضهم لم يكن العفو في أمة قبل هذه الأمة، وقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى﴾ أي من تجاوز المشروع قاتلاً كان أو ولي المقتول فإنه معاقب..
قوله - عز وجل -:
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
الآية (١٧٩) - سورة البقرة.
قوله: ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ كقول العرب: القتل أنقى للقتل، وذلك أنه يصير سبباً للارتداع، وقال الجاحظ: تأويله أن العرب كانت تمتنع من تسليم القاتل إلى ولي المقتول خشية أن يقل عددهم، فقال الله تعالى: ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أي إذا دفعتموه كثر عددكم، كما لأن الله تعالى ينمي كل قوم كثز فيهم القتل، ولهذا كثرت العلوية وقل العباسية، ولهذا قيل: السيف منماه فما تسلط على قبيلة إلا كثر عددهم، وقيل إن في ذلك حياة القاتل في الآخرة فإنه يرجى له الغفران، قال: وعلى هذا ما روي أن
قوله- عز وجل:
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾
الآية (١٨٠) - سورة البقرة.
الخير ههنا المال قليلاً كان أو كثيراً، وقال بعض الناس: الخير لا يتناول إلا الكثير مستدلاً بأن علياَ- رضي الله عنه دخل على مولى له في موضعه، فقال: ألا أوصي وله سبع مائة أو ستمائة، فقال: لا، إنما قال- عز وجل (إن ترك خيرأ (، وليس لك مال كثيرٌ...
إن قيل: كيف سمي المال خيراً مطلقاً وقد قليل إن المال ليس خيراً مطلقاً حتى يراعي حال صاحبه فربما كان شراً له، وعلى هذا ذم الله تعالى في عام القرآن، وسماه تارة فتنة وتارة عدواً..
فيل: إن المال كما يكون خيرا قد يكون شراً، لكن جعل الله تعالى ههنا خيراً تنبيهاً على أن الوصية يستحب في المال الطيب دون الخبيث والمغصوب، فإن ذلك يجب رده إلي أربابه ومما تم بالوصية فقط، وقيل: هذه الآية منسوخة، فالإيجاب نسخ مما حمله، والوصية للوارث إيجاباً وندباً، والناسخ لها عند الشافعية أية الميراث.
قوله - عز وجل -:
﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
الآية (١٨١) - سورة البقرة.
أريد من بدل ذلك ولم يقل بدلها، وإن ما تقدم ذكر الوصية لكن يتناولها وغيرها من متعلقاتها، والهاء في " إثمه " للتبديل ومن: عام في الوصي والموصي له، والشاهد والحاكم وكل من له مدخل في ذلك إذا غير شيئاً بعدما سمعه أي علمه، فإن إثم ما يجري في ذلك راجع إليه تنبيهاً على ما قاله - عليه السلام: (من سنَّ سُنةَ سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها)
وأعظم ذلك مالا يعرف المستن جود السان لها، كمن ادعي على صاحب الشرع خبرا يتعلق به
قوله - عز وجل -:
﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
الآية (١٨٢) سورة البقرة.
جنف وخيف يتقاربان، لكن جنف استعمل للميل إلى الخير، وخيف في اليد إلى الجور، وخاف يقاربه، إلا أن أكثر ما يقال في الحاكم وخيفه أن يوصي لإنسان والمراد لغيره، كما قال طاوس: الخيف: التولج نحو أن يوصي الرجل لابن الابن ليوصل المال إلى أبيه أو لزوج ابنته ليوصله إليها، أو يخص في حيث يجب العموم، أو يعم حيث يجب الخصوص، وقوله: ﴿بَيْنَهُمْ﴾ أي بين القوم الذين لهم مدخل في ذلك من الورثة والموصى لهم، وجاز إضمارهم لدلالة الكلام على ذكرهم.
إن قيل: كيف قال: ﴿جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ والجنف هو الإثم؟ قيل: قد قال الربيع: الجنف في الخطأ، وإلا ثم في العمد، وقيل: الإثم: ما يكبر معصيته، والجنف ما دون ذلك، وخوفه هو أن يبدو له أمارة تقتضي حصول ذلك، ولا فرق بين أن يخاف منه ذلك، قبل موت الموصى فيرشده، أو بعد موته فيصلحه، وليس الإصلاح بمقصور على إيقاع الصلح دون استعمال الصلاح، بل يتناولهما، وإنما قال: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ لأنه لما خوف في الآية الأولى من تغيير الوصية بين أن النهي عن تغييره فيما لا
قوله- عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
الآية (١٨٣) - سورة البقرة.
الصوم في اللغة إمساك عما تنازع إليه النفس، ويقال ذلك في الطعام والشراب والنكاح نحو: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾، في نحو:
[خيل صيام، وأخرى غير صائمة]
وصامت الريح إدا ركدت، والشمس إذا استوت في منتصف النهار كان لها وقفة، وفى الشرع إمساك المكلف بنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن المأكل والمشرب والمنكح والأستقاء والاستمناء والسعوط، وأما الأكل على سبيل السهو لا يخرجه عن أن يكون ممسكاً حكماً، ثم النية هل يجب أن يتقدم أو يجوز الاقتران به راجع إلى اختلاف المذاهب؟ واعلم أن الإمساك عن الأطيبين هو المقصود بالصوم وما عداه فلأنه يشبهه أو يؤدي إليه...
وللصوم فائدتان:
إحداهما: قريبة، وهي أن يروض الإنسان به نفسه عما تدعوه إليه من الشهوات القبيحة، فإنه يعودها الصبر لكنها كما وصفها بقوله: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، ومتى جعلت في حجر الشرع
فالنفس راغبة إذا رغبتها....
وإذا ترد إلى قليل تقنع
ولكونه مفيدا للصبر، قال عليه السلام:: " هذا شهر الصبر "
وقال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ أي بالصوم.
والفائدة الثانية:
وهي أن فيه الاقتداء بالملأ الأعلى على قدر الوسع والتنزه عن مشاكلة البهائم التي غاية شبع البطن والفرج، ووجه ذلك أن الإنسان مركب من بدن يسوسه سوسن الحيوان وغذاؤه المطاعم، ومن روح ذي عقل غذاؤه العلم والفضائل، ومتى أكثر غداء أحدهما قوي على ما نقص غذاؤه، ولهذا قال عليه السلام: " رأس الدين الورع، وأفضل الورع قلة الطعام، ومن شبع ونام جثم على قلبه الشيطان " وقيل: " الجوع سحاب تمطر الحكمة "،
فإن قيل: فهلا أديمَ فرضُ الصوم إذا كان سبباً
إن قيل: على ماذا وقع التشبيه في قوله: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ قيل: قال بعضهم: إن ذلك على الصوم وكيفيته، لأن صوم من قبلنا لم يكن يحل لهم ألاكل بعد الرقاد، وكان على هذا في بدء الإسلام إلى أن نسخ بقوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾، وإلى هذا ذهب معاذ، وهو المروي عن ابن عباس- رضي الله عنه- وقيل: كصوم من فبلنا في كونه أياما معدودات، وذلك في كل شهر ثلاثة أيام، ثم نسخ بقوله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، وهو قول عطاء وقتادة، وردي عن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- أن للصيام ثلاثة أحوال، وذلك أن النبي- عليه السلام- لما قدم المدينة، فكان يصوم في كل شهر ثلاثة أيام، ويصوم عاشوراء، ثم فرض بعد تسعة عشر شهراَ شهر رمضان على التخيير، ثم فرضه على تضييق لمن كان مقيما صحيحاً، وقيل:
قد كان أوجب شهر رمضان على من كان قبلنا [من الأمم] فغيروا، ونقصوا، وزادوا، وهذا قول عهدته علي قائله، وقيل.
الشبه وقع لوجوب الصوم فقط، وقد تقدم أن أصول هذه العبادات لم تزل واجبة على العباد وأن النسخ على ألسنة الأنبياء في فروعها وكيفياتها وقدرها [وأزمانها]، ونبه بقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ على العلة التي لأجلها أوجب، وهي قمع الشهوة، وما لأجلها لا يجوز أن يكون الصوم مرفوعاً على أمة من الأمم، فإنه ذكر أنه سبب للتقوى، وتقوى الله عز وجل- واجبة
قوله - عز وجل -:
﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
الآية (١٨٤) - سورة البقرة.
السفر: كشف الغطاء، يقال: سفر القناع عن وجهه، والريح السحاب أو الورق، ويقال له السفير، ومنه المسفرة، وسافر، والسفر الكتاب الكاشف عن الأغراض، والسفار للبعير كالحكمة للفرس، وهو ما يسفر عنه جماحه، تطوع يفعل من الطاعة، يقال، طاع وطوع، ومنه: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ﴾ والقدرة والاستطاعة والجهد والطاعة تتقارب، وبينها فروق، فالقدرة ما يظهر من القوة بقدر العمل لا زائداً عليه ولا ناقصاً، والاستطاعة منهما ما يصير به الفعل طائعاَ له بسهولة، والوسع منها ما يسع له فعله بلا مشقة، والجهد ما يتعاطى به الفعل بمشقة، والطاقة منها بلوغ غاية المشقة.
وقول الشاعر:
كلُّ امرئٍ عنْ طوقِهِ
أي عن غاية قدرته، لأن المقاتل لا يدع غاية من القدرة لا يبذلها قبل استسلامه للموت، وقوله: ﴿أَيَّامًا﴾ يتعلق بـ كتب عليكم " أو بـ " كما كتب "، أو بالصيام، وقوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ ظاهره يقتضي أن المريض والمسافر عليهما عدة من أيام أفطر أو لم يفطر، وإليه ذهب أهل الظاهر.
وقوله: ﴿مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ عاد إلاً في عيد الفطر والأضحى والثلاثة أيام التي بعدها وقوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ ظاهره يقتضي أن المطيق له يلزمه فدية أفطر أو لم يفطر، لكن أجمعوا أنه لا يلزمه إلا مع شرط آخر فذهب الأصم إلا أن ذلك للمريض والمسافر وأن الذي يطيق الفدية منهما فأفطر، فعليه الفدية لمكان ما خفف عنه، كما جعل على المتمتع بما خفف عنه أن يهدي، وهذا ضعيف لأمرين، أحدهما: أنه لم يجر الفدية قبل ذكر ولا ما دل عليه، والثاني: أن المريض والمسافر قد أوجب عليهما عدة من أيام أخر، وذهب الشعبي وهو المروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- إلى أن الناس كانوا مخيرين في الابتداء بين أن يصوموا من غير فدية [وأن يفطروا ويقيدوا، ثم نسخ بالآية التي بعد، وتقديره: وعلى الذين يطيقونه فأفطروا إلى] وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في أصح الروايتين أن ذلك في الشيخ والشيخة الهمين والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما، فلفظ (الطاقة) ههنا ينبيء عن ذلك، فإن الطاقة هدي التي تبلغ غاية المشقة ولا يخرج عن القدرة والعجز، ورأه، فذكر أن هؤلاء الذين يبلغ بهم الصوم غاية المشقة يجوز لهم الإفطار والفدية وقرئ
قال عليه السلام: " يقول الله- عز وجل الصوم لي وأنا أجزي به "، ثم قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي: إن عرفتم ما فيه من المنفعة، وتحققتم ما يثمره لكم لم تتهاونوا في تحمله.
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
الآية (١٨٥) - سورة البقرة.
شهرة الشيء: ظهوره للكافة، وقل شهر أمره وسيفه إذا جرده والشهر مدة مشهورة والمشاهرة المعاملة به كالمعاومة والمياومة [والمسانهة] والرمض شدة وقع الشمس، وسمي رمضان لمطابقته في ابتداء موضوع الاسم له شدة الحر، لأن الشهور سميت [في الأصل] بمطابقة بعض ما عرض فيها من الأحوال في ابتداء موضوعها والإرادة أصلها من: رادَ يرُودُ إذا سعَى في مهل للطلب، ومنه الرايد، والمرود للميل، ولمعنى المهل قيل رويداً، وقد تقدم حقيقة الإرادة، والقرآن أصله من القرى، وهو ضم ما كان متفرقاً، ومنه: " ما قرأت الناقة سلاقط "، أي ما لم تضمه إلى نفسها ولم تجمعه في رحمها، ولا يتناول إلا على المنزل على محمد- عليه السلام- والكتاب عام، والفرقان قيل إنه يتناول القرآن والتوراة-
إن قيل: فلم سمي بذلك؟
(شهر رمضان) مبتدأ، وخبره الذي، ومن لم يجعل الأول منسوخاً قال: تقديره: " هو شهر رمضان " أو يكون بدلاً من الصيام، وقوله: هدىً، أي هادياً، وقال عطية بن الأسود ولابن عباس: " في نفسي شي، وهو أنه قال: (شهر رمضان) وقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، وقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾، وقد أنزل الله- عز وجل- القرآن في جميع الشهور، فقال: الليلة المباركة ليلة القدر، وليلة القدر في شهر رمضان، وقد أنزل الله القرآن جملة إلى البيت المعمور، ثم أنزل على محمد - ﷺ - الله رسلاً، وعلي هذا قوله: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾.
وقيل فيه: أي في سببه وتخصيصه بذلك وإن شاركه فيه غيره فعلى سبيل التعظيم، وعلى هذا " في ليلة القدر "، أي في سببه وتفصيله، وإليه ذهب الضحاك...
إن قيل:
إذا كان الهدى مقتضياً للبينات، فما فائدة (وبيناتٍ من الهُدَى)؟ قيل: القرآن يهدي على
إن قيل: لم أعاد ذكر الشهر، ولم يقل: " فمن شهده "؟
قيل: لأمرين: أحدهما: تعظيماً لذكره، لأن ما يعظم فد يعاد ذكره مع كل حكم يحدد له.
والثاني: ليس يحل الصوم على من كان شهد الشهر الذي أنزل فيه القرآن فقط، فلذلك أعاد ذكره...
فلم قال: (فليصمه) ولم يقل فيصم فيه؟
قيل: قد ذكر بعض النحويين أن القائل إدا قال اليوم ضربته زيداً، إنما يقال إذا استوعب اليوم لضربه، وإذا قيل: ضربت فيه، فهو أن يضرب فيه في بعض أوقاته، فنبه بقوله: (فليصمه) على الاستيعاب.
إن قيل: لم أعيد ذكر المريض والمسافر؟
قيل: إما على قول من يجعل اللحية منسوخة فليس أن حكمها مراعى في الناسخ كما هو مراعى في المنسوخ، وإن ذلك لم يرتفع بارتفاع التخيير، وأما على قول غيره فللتأكيد أولاً ولتعليق ما علق به من الحكم ثانياً، وهو قوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، وذكر الفقهاء أن إرادة اليسر هي مما رخص للمسافر والمريض، وذهب غيرهم إلى أن إرادة الله عز وجل اليسر لمن أوجب عليه الصوم عليهم كما هي للمفطر والصائم جميعاً، ففي الصوم أعظم اليسرين، وعلى هذا قال الأعرابي: " أقصد البلد المبارك لأصوم هذا الشهر المبارك "، فقيل له: أفي هذا الحر؟
فقال: " من الحرَّ أفرُّ "
وقيل لآخر: أتكدُّ نفسك في العبادة، فقال: " راحتها أريد، فإذن في إيجاب " الله تعالى الصوم
أعظم اليسرين... إن قيل: عدى أي وجه تعليله بما علل به من قوله: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾؟
قيل: بين تعالى.
أن ما أوجبه من الصوم عيناً وقضاء إرادة لتكميل العدة المقتضية للتقوى المذكورة في قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ ولم يرد به التفوه بلفظ التكبير فقط،
إن قيل: لم قال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) فأخدل الواو فيه؟ قيل:.
يجوز أن تتعلق اللام بفعل مضمر،
كأنه قيل: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أمر بما أمر، ويجوز أن يكون معطوفأ على قوله: ﴿الْيُسْرَ﴾، كأنه قيل: (يريد بكم اليسر وتكميل العدة)، فادخل فيه اللام كما أدخل في قوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ﴾.
قوله - عز وجل -:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾
الآية (١٨٦) - سورة البقرة.
إن قيل.
كيف فصل بين الآية الأولى وبين التي بعد هذه وهما في حكم رمضان بهذه الآي وهي قد اختلفت عنهما؟، قيل بل هي من تمام الآية الأولى، لأنه لما حث على تكبيره وشكره على ما قيضه لهم من إتمام الصوم، بين أن الذين تذكرونه وتشكرونه قريب منكم ومجيب لكم إذا دعوتموه، ثم تمم ما بقي من أحكام الصوم، ولم يرد بالقرب ههنا القرب المكاني، وإنما ذلك قربة تقتضيه إفضاله ووجود آثاره المشار إليها بقوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، وروي أن موسى قال: " أقريب " أنت فأنا جيك؟ أم بعيد فأناديك؟ فقال:
" لو حددت لك البعد لما انتهيت إليه، ولو حددت لك القرب لما اقتدرت عليه، وقد روي أن النبي - ﷺ - سئل عن ذلك، فأنزل الله- عز وجل- هذه الآية فبين، تعالى أفضاله على عباده، وضمن أنهم
إن قيل: قد ضمن في الآيتين أن من يدعوه يجيبه، وكم رأينا من داع له لا يجاب؟، قيل: إنه ضمن الإجابة لعباده، ولم يرد بالعباد من ذكرهم بقوله: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾، وإنما عني بهم الموصوفين...
في قوله- عز وجل- ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ لآية، ولدعائهم شرائط، وهي أن تدعو بأحسن الأسماء كما قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾، ويخلص له النية الافتقار ولا يرغب إليه فيما تنزه الأكابر عن مسئلة مثله ولا ما يستعين به على معاداته، وأن يعلم أن نعمته فيما يمنعه من دنياه كنعمته فيما أعطاه، ومعلوم أن من هذا حاله مجاب الدعوة، وأنه من جملة من وصفه النبي عليه السلام بقوله:
" رب ذي طِمْرينِ لا يؤْبهُ به لوْ أقسَمَ علَى الله لأبَّرهُ " ثم قال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ أي إذا كنت لهم بهذه المنزلة فحري أن يستجيبوا لي إدا دعوتهما وأن يؤمنوا بي - راجين رشدهم، وإنما قال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ ولم يقل ليجيبوا للطيفة، وهي أن حقيقة الاستجابة طلب الإجابة وإن كان قد يستعمل في معنى الإجابة، فبين أن العباد متى تحروا إجابته بقدر وسعهم فإنه يرضى عنهم...
إن قيل: كيف جمع بين الاستجابة والإيمان وأحدهما يغني عن الأخر؟
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
وذلك بعد الإجابة، وقد تقدمت منازلُ الإيمان.
قوله- عز وجل:
﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾
الآية (١٨٧) - سورة البقرة.
الرفث كل كلام يتضمن ذكر الجماع، وجعل كناية عنه، وعُدَّي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء والخيانة بنقض العهد، ولهذا قوبل بالوفاء الدال على التمام، والحد ما يمنع أحد الشيئين من الآخر، فتارة يتصور منه المنع، نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ﴾، وقيل للثواب حداد، وتارة تصور منه الفصل فقيل: حد الدار، وجه شبه الحد في الكلام، وقيل: حد الرأي لكونه مانعاً له ولغيره عن بواقعة مثله، وحد السيف ما يفصل بينه وبين الجانب الأخر، ثم تصور منه الدقة، فقيل: أحددت السيف، وسمي الحديد لكثرة وجود هذه الصورة فيه، والعكوف: الإقامة على الشيء والحبس عليه، فتارة يراعي منه الإقامة فلا يعدي نحو: ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾، وتارة يراعى منه الحبس
وقال الأصم:
معنى قوله: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ أي كأن يعطي كل واحد على الآخر ما يتعاطاه من الاختيارمن قولهم: لبست عليه ذيلي، وقيل: سبب نزول هذه الآية أن المباحات كانت تحظر على الصائم بعد الرقاد، فقيل: إن عمر قالت له امرأته لما راودها: قد أعفيت، فظن أنها اعتلت عليه، فواقعها، فذكر ذلك للنبي- عليه السلام- وقيل: كان شيخ من الأنصار يقال له " صرمة " قعد ينتظر امرأته لتصنع له طعاماً، فنام وترك الطعام، فرآه النبي- علية السلام- في اليوم الثاني شاحباً، فسأله، فأخبره، فأنزل الله تعالى هذه الآية والاختيان مراودة الخيانة وتخصيصه من دون قوله: (تخونون) لفائدة، وهي أن
عنى الولد به الخيط الأبيض بياض النهار، وبالخيط الأسود سواد الليل، وروي أن عدي بن حاتم عمد إلى عقالين أبيض وأسود، ثم جعل ينظر إليهما ويأكل إلا أن يتبين أحديهما ن الأخر، فأخبر النبي- عليه السلام- بالذي صنع، فقال: إنك لعريض الوساد، إنما ذاك سواد الليل بياض النهار وقول: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ تنبيه على ابتداء التحريم إلى انتهائه، وكما نهى عن المباشرة في حال الصوم نهي عنها في حال الاعتكاف وظاهر ذكر المساجد يقتضي جوار الاعتكاف في كل مسجد...
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
الآية (١٨٨) - سورة البقرة.
الإدلاء: إرسال الدلو في البئر، واستعير للتوصل إلى الشيء، وعلى هذا قول الشاعر:
فليس الرزق عن طلب حثيث....
ولكن ألق دلوك في الدلاء
وعلى هذا النحو سمي الوسيلة المانحة في قول الشاعر:
وَلي مانحٌ لمْ يُورِدِ الماءَ قَبْله...
معلَّ وأشطانُ الطَّوِيَّ كَثيرٌُ
والأكل عبارة عن الإنفاق، إذ هو أهم ما يصرف إليه المال، وأكل المال بالباطل صرفه إلى ما ينافيه الحق، وهو التبذير والإسراف قليلاً كان الإنفاق أو كثيراً، ولهذا قيل:
(رب إنفاق قليل هو إسراف، وكثير هو اقتصاد)...
، وقوله: (وتدلوا) أي لا تدلوا، وكما نهي عن تبذير الأموال نهى أن يدلي بها إلى الحكام على سبيل الرشوة، وتوصلاً إلى اقتطاع أموال الناس، وقيل: معناه: لا يأكل بعضكم مال بعض غصباً أو خيانة فيلجؤوهم إلى المرافعة إلى الحكام، فلا يحكم عليكم لعدم البينة فتستبينوا إلى أن تأكلوا فريقاً ن أموال الناس بالإثم، وقيل: من يتولى أموال
(إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن حكمت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذن منه قليلاً ولا كثيراً، فإنما أقطع له قطعة من النار) وقال: (البر ما اطمأنت إليه النفس).
قوله - عز جل:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الآية (١٨٩) - سورة البقرة.
المواقيت: جمع ميقات وهو مفعال من الوقت، والوقت والمدة والزمان تتقارب لكن المدة المطلقة أوسع هذه الألفاظ، فإنها امتداد حركة الفلك أي اتصالها من مبدئها إلى غايتها، والزمان مدة مقسومة من المدة المطلقة والوقت الزمان المفروض للعمل ومعنى مواقيت للناس أي لا يتعلق به من أمور معاملاتهم ومصالحهم، كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ ونبه بذكر الحج على ما يتعلق به من العبادات، ولكن ذكرنا
وقال الشاعر:
أتيت المروءة من بابها..
دنيوي: يتعلق بأمر المعاش كمعرفة الصنايع ومعرفة الأجرام السماوية ومعرفة المعادن والنبات وطبائع الحيوانات، وقد جعل الله تعالى لنا سبيلاً إلى معرفته على غير لسان نبيه محمد - عليه السلام -، وشرعي: وهو البر، ولا سبيل إلى أخذه إلا من جهته وهو أحكام التقوى، فلما جاءوا يسألون النبي - ﷺ - عما أمكنهم معرفته من غير جهته أجابهم ثم بين لهم أن ليس البر ترك المنهج في سؤال النبي - عليه السلام - ما ليس هو مختصا بعلم نبوته ولكن البر هو تحري التقوى، وذلك يكون بالعلم والعمل المختصين بالدين وقال بعض المفسرين إتيان البيوت من ظهورها هو أن العرب من لم يكن من الخمس إذا أحرم لم يدخل البيت من بابه بل كان يأتيه من ظهوره، فأتى رجل من باب بيته، فأنكر عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية..
وهذا عن ابن عباس وغيره وقيل: إتيان البيوت من ظهورها مخالفة الواجب في الحج وشهوره واستحلال أشهر الحرام وتحريم الحلال، المعنى بقوله: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ وكل ذلك لا يمتنع أن تتناوله الآية لكن الأليق بأول الآية ما تقدم ذكره، وقوله: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ أي تحروا في كل عمل إتيان الشيء من وجهه تنبيها أن ما يطلب من غير وجهه صعب مناله، ثم قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ حثا لنا أن نجعل تقوى الله عز وجل- شعارنا في كل ما نتحراه، فبين أن ذلك هو الذريعة إلى تحصيل الفلاح..
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾
الآية (١٩٠) - سورة البقرة.
اختلف في حكم هذه الآية، فقيل: هي ناسخة لحكم العفو ومنسوخة بقوله: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ وقيل: ليست بمنسوخة ولا ناسخة، وبيان ذلك أن من شرط الداعي إلى الحق أن يبينه ويدل عليه ويرفق، فإن اهتدى المدعو، وإلا أوعد، فإن أنجع ذلك وإلا عدل بعد إلى المحاسبة والمحاربة على ما تقتضيه السياسة، وعلى هذا قال بعضهم: " لا أستعمل سوطي ما كفاني لساني ولا سيفي ما كفاني سوطي ".
وقال الشاعر:
أناة فإن لم يغن أعقب بعدها....
وعيدا فإن لم يغن أغنت عزائمه
فكان النبي - ﷺ - أمر في أول الأمر بالرفق والأناة، وأن يقتصر على الوعظ والمجادلة الحسنة، كما قال تعالى:
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وكان يستمر على ذلك حتى عاتبه بعض أصحابها فقال يا نبي الله:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾
ثم أمر بالقتال لمن تأبى الرجوع إلى الحق بالمحاربة، وكان هذا أمرا بعد أمر حسب مقتضى السياسة الإلهية، وقوله: ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ منهم من تصور منه تولي القتال وتعاطيه في الحال، فقال: هو منسوخ بقوله: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾، (ولا تعتدوا): نهي عام في مجاوزة كل حد حده الله تعالى، كالنهي عن قتل الصبيان والنساء وقيل: " من أعطي الأمان وتحرى القتال ابتغى عرض الدنيا وطلب الرئاسة "، ونبه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ أن اعتداء مرسوم الله وتجاوز حكمه في كل أمر مذموم..
قوله- عز وجل:
﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾
الآية (١٩١) - سورة البقرة.
الثقف: الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملاً، ومنه قيل:
رجل ثقف لقف إذا كان له حذق في إدراك الشيء علماً كان أو عملا، ومنه قيل: رجل ثقف لقف إذا كان له خدمة في إدراك الشيء ومنه قيل: ثقفت الرمح، وأصل الفتنة إدخال الذهب النار للتصفية، يقال: فتنت الذهب أي اختبرته بالنار، ثم استعير لكل اختبار بأمر محض، على ذلك قوله تعالى:
وجعل الفتنة لكل أمر مكروه المحتمل، فتارة استعير للشرك، وتارة للعذاب، وتارة للاختبار، ولما كان لفظ الفتنة والقتل ههنا مبهمين، قال بعضهم: معناه أن يفتن الإنسان في دينه، فيشرك أشد أي أوخم عاقبة من أن يقتل، فإن الأذية التي تنال المقتول محدودة، والأذية التي تنال الشرك بشركه غير محدودة، وقال بعضهم: إن معناه: أن يوقع الإنسان الفتنة أشد على الناس أي أعظم ضرراً من أن يقتل في الحرم من يستحق القتل، وقال: وذلك رد على من استعظم قتل بعض المسلمين كافراً في الحرم، ولهذا قال بعده: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ وقوله ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ﴾ أمر بإخراج الكفار من مكة بدلالة قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾، وقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾ وقوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ استثناء من قوله: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾، وهذا حكم عند أكثر الفقهاء فإنه لا يقاتل في الحرم إلا من قاتل، ويؤيد ذلك قوله - عليه السلام - يوم فتح مكة: " إن مكة حرام حرمها الله - عز وجل - يوم خلق السماوات والأرض وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت حراما إلي يوم القيامة "، فهذا يدل على أن ذلك غير منسوخ كما ظنه بعض الناس، وقال الأصم: إن ثبت جوازا القتل هذا في
قوله - عز وجل:
﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الآية (١٩٢) - سورة البقرة.
الانتهاء: الانزجار، والنهي الزجر، ونهاية الشيء غايته التي ينتهي إليها، لأن لكل شيء في هذا العالم غاية إذا انتهى إليها انصرف راجعاً عنها في الكون والفساد والنهي العقل لكونه ناهيا عن القبيح، ككون العقل عاقلاً عنه، والحجر حاجرا عنه، والنهي في موضوع أهل النحو من صيغة " لا تفعل " حثاً على الشيء كان أو زجرا عنه، وفي موضوع أهل البرهان ما يقتضي الزجر عن الشيء سواء كان بلفظ " أفعل " أو " لا تفعل "، وهذا الخلاف من أجل أن النحوي يعتبر اللفظ قبل المعنى، وصاحب البرهان يعتبر المعنى قبل اللفظ، ونبه بالآية أن المنتهي عن الذنب يغفر له ما تقدم من ذنبه، وذلك عام في أمور الدنيا والآخرة إلا ما دلت الدلالة على الأخذ به من حقوق الآدميين، وعلى هذا قوله - عز وجل: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾، وقوله عليه السلام: " الإسلام يجب ما قبله "..
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾
الآية (١٩٣) - سورة البقرة.
أمر تعالى بالقتال لدفع الفتنة بعد أن يبين أنها أعظم ضررا من القتل، نحو قوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾، فقوله: ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ كقوله: ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾، وذلك إما بقتلهم أو بإسلامهم أو بانقيادهم وإعطاء الجزية حسب ما بينه الشرع، (ويكون الدين لله) قال ابن عباس: حتى يخلص التوحيد له " وحمل ذلك على مشركي العرب، لأنهم لا يقارون على جزية كما يقال غيرهم، وحمل بعضهم على الانقياد بحكم الدين في كل مكان، وقال: يجب أن يكون الحكم للإسلام في كل مكان، وعلى هذا ما روي: " الإسلام يعلو ولا يعلى "، ثم أعاد ذكر الانتهاء، فقال: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ أي لا يتجاوزون الخطر إلا مع من يتجاوزه بحسب فعله..
قوله - عز وجل:
﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ الآية (١٩٤) - سورة البقرة.
بين أن مراعاة حرمة الشهر واجبة لمن راعى حرمته، وأن من هتكها اقتص منه، وسبب نزول ذلك أن العرب فخرت بصرف النبي - عليه السلام - عام الحديبية عن البلد الحرام، وكان ذلك في ذي القعدة، فمكنه الله تعالى من دخوله في العام القابل في القعدة، وشرح معنى قوله: (لا عدوان إلا علي الظالمين) بقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا﴾.
إن قيل: كيف رخص في الاعتداء وهو ظلم وقد منع منه آنفا بقوله: (ولا تعتدوا)، قيل: الاعتداء مجاورة الحد، ومنه قيل: " عدا فلان طوره "، و " لا تعد طورك "، ثم استعير الاعتداء في الظلم من حيث
إن قيل: هل كان يجوز لو قيل: (من ظلمكم فاظلموهم)؟ قيل: لا يجوز ذلك، لأن الظلم إنما هو وضع الشيء في غير موضعه الذي يحق أن يوضع فيه، وهذا في كل حال مذموم، والاعتداء مجاوزة الحد المحدود، وذلك لا يكون مذموما، ومن قال من العرب: " من ظلمك فاظلمه "، فذلك منه انحراف وترخص في الظلم على عادتهم، وكذا قول من قال:
ألا لا يجهلن أحد علينا...
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فإن الجهل مذموم على كل حال، ولا يكاد يرد لفظ الأمر به من حكيم،
فإن قيل: فقد قال الله: ﴿ومكروا ومكر الله﴾ قيل: حقيقة المكر إظهار أمر يعتقد فيه الناظر إليه الجاهل بحقيقته اعتقادا ما يضل ما هو، وكذلك الاحتيال والخديعة والسخرية ومن قصد بشيء من ذلك أمرا قبيحا، فهو مذموم وأن قصد به فعلاً جميلاً فهو محمود، فإذن يصح أن يمدح بذلك من يتحرى مقصدا حسنا، ولهذا قال بعض العلماء: إن الله - عز وجل - يخدعنا عن النار كما يخدع الصبي أبوه عن المضار، وفي هذه الآية دلالة أن من استهلك شيئا لغيره استهلك عليه مثله، لكن مثله المستهلك قد يكون تارة حسية مكيلا كان أو موزونا أو معدودا، وتارة قيمته، وقوله: ﴿واعلموا أن الله مع المتقين﴾، تنبيه أن توفيق الله يصحب المتقي، وقد تقدم حقيقة (مع) والصحبة إذا استعملا في الباري تعالى...
﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
الآية (١٩٥) - سورة البقرة.
الهلاك انتهاء الشيء في الفساد، وله سمي الموت هلاكا، وقيل للعذاب والخوف في الفقر والبخل وما يجري مجراها مما يؤدي إلى الهلاك هلاكا، والمفازة مهلكة والتهلكة ما يؤدي إلى الهلاك، وامرأة هلوك كأنها تتهالك في مشيها إشارة إلى نحو قول الشاعر:
مريضات أدبات التهادي كأنما....
تخاف على أحشائها أن تقطعا
[وكني بالهلوك عن الفاجرة لتماثلها] والهالكي كان رجلاً حدادا من قبيلة هالك فسعت العرب كل حداد باسمه كما سمي كل بناء هاجريا، وقوله: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ﴾، قيل: معناه نحو تعلقت زيدا أو بزيد، وقيل معناه: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك، نحو قوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾، وذلك بالتعرض لما يستوخم عاقبته جهلا به، مثل الفراشة تأتي إذا رأت لهبا من السراج، فتلقي نفسها فيه، وتأولت الآية على وجهين بنظرين مختلفين..
أحدهما: أنه نهي عن الإسراف في الإنفاق، وعن التهور في الإقدام، والثاني: أنه نهي عن البخل بالمال، والقعود عن الجهاد، وكلا المعنيين يراد بها، فالإنسان كما أنه منهي عن الإسراف في
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾، وقال: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ الآية، وقال بعض الناس: " إن هذه الآية ينظر إليها علي وجهين " أحديهما: نظر المجاهد في سبيل الله بالمال، والثاني: نظر الفقيه عن المجاهد، وكلاهما صحيح بوجه، ووجه ذلك أن الفقيه من حيث أنه يحكم بالظاهر على الكافة يراعي أحوالهم، والمجاهد من حيث أنه يوفر على مراعاة الحق عن مراعاة نفسه لا يرى الإلقاء بيده إلى التهلكة إلى التهلكة إلا الإحلال بترك وظائف الحق، وإلى هذه الحالة أشار الله تعالى بقوله:
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾، الآية، وبقوله: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، أي تحروا فعل الإحسان وقد تقدم أن الإحسان هو تحري العدالة والزيادة عليها، ولهذا قال:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾، ثم نبه بإظهار محبته للمحسنين على شرف منزلتهم.
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
" الآية (١٩٦) سورة البقرة ".
قيل: قوله: ﴿وَأَتِمُّوا﴾ قيل إنه خطاب لمن خرج حاجا أو معتمرا، فأمر بأن لا يصرف وجهه حتى يقضيها، وإليه ذهب أبو حنيفة - رحمه الله - فاحتج به في وجوب إتمام كل عبادة دخل فيها [لإنسان] متنفلا، وأنه متى أفسدها وجب قضاؤها وقيل إنه خطاب لهم ولمن لم يتلبس بالعبادة وذكر لفظ الأيام تنبيه على توفية حقهما وإكمال شرائطها، ولذلك قال أمير المؤمنين:
" من إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك " وعلى هذا قوله: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، وإلى هذا ذهب الشافعي - رحمه الله واحتج به في وجوب العمرة، وإنما قال في الحج والعمرة " لله " ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى الأصنام، فخصهما بالذكر لله تعالى حثا على الإخلاص فيهما ومجانبة ذلك الاعتقاد المحظور، وظاهر قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ أن لا فرق بين أن يحصر بمكة أو بغيرها، وبعد عرفة أو قبلها بخلاف ما قال أبو حنيفة إن من أحصر بمكة أو بعد الوقوف لا يكون محصرا في الحكم، وكذلك لا فرق في [الظاهرة] بين أن يحصره عدو مسلم أو كافر كما قال الشافعي خلافا لبعضهم، وظاهره يقتضي أن
فيه قولان للشافعي، وظاهر إيجاب ما استيسر من الهدى يقتضي أن ذلك بعد الفراغ من
إن قيل: كيف قال في الحج ومهما أحرم يوم عرفة لا يمكنه صيام ثلاثة أيام في الحج، لأنة منهي عن الصوم في يوم النحر وأيام التشريق؟ قيل: الواجب على المتمتع أن يحرم بالحج على الوجه عليه صيام ثلاثة أيام، وذلك بتقديم الإحرام قبل يوم عرفة، وقد قال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام التشريق، ويحملان النهي عن الصوم فيها على غير المتمتع وقوله: ﴿إذا رجعتم إلى بلدكم﴾ [قيل: معناه إذا أخذتم في الرجوع] بعد الفراغ وقيل: ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ إلى بلدكم [وأهليكم] وإطلاق اللفظ يحتمل الأمرين جميعا، فيصح حمله عليهما، وحاضروا المسجد الحرام، قال عطاء: هم أهل الحرم والقربات التي حوله ما لم تبلغ مسافة تقصر فيها الصلاة وبه قال الشافعي وقال طاوس: أهل الحرم لا غير وقال أبو حنيفة: هم أهل المواقيت وما دونها، وقوله تعالى: (ذلك) أي الكفارة لمن لم يكن حاضري المسجد، فأما حاضروا المسجد، فلا يلزمهم، وقيل: عني بذلك التمتع أي أن الحاضرين ليس لهم أن يتمتعوا وإنما ذلك لأهل الآفاق البعيدة.
إن قيل: ما الحاجة إلى ذكر: " تلك عشرة كاملة " عقب قوله (سبعة، وثلاثة، ولا يشك على ذي أدنى بصيرة أن الثلاثة والسبعة عشرة) ولا أن ذلك يتنوع، فيكون مرة كاملة ومرة غير كاملة، لأنها إذا لم تكن كاملة لم تكن عشرة؟
قيل: قد أجيب عن ذلك بأجوبة..
الأول: أنه لما قال: (ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) كان يحتمل التخيير، وأن كل واحد منهما على الانفراد يقوم مقام الهدي فبين أن مجموعهما يدل على الهدي يقوم مقامه، والثاني: أنه
﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾
الآية: (١٩٧) سورة البقرة.
جدلُ الحبلِ فتلهُ، وبه سمي الزمامُ جديلاً، وعنه استعبر " جالت فلاناً "، ولذلك قيل: ناقضه تشبيها بنقض الحبل، وقتل فلان، يفتُلُ حبلاً "، في ذورة فلان، إذا أحتال عليه، والجدولُ: النهر الممتدُّ كالحبل المفتول، والمجدلُ: القصرُ المحكم، والجذالةُ: كل أرض صلبة، والزاد: فضل الطعام الزائد عما يكتفي به في الوقت، وقد بين الله تعالي فيما تقدم أحكام الحج وما يقع فيه من الإحصار [واستباحة] الحلق والتمتع، وبين في هذه الآية وقته الذي يصح فيه ذلك، ومن قال: أشهُرُ الحج: شوالُ، وذو القعدة، وتسع من ذي الحج عنى أن فعله يقع في هذه المدة، لأن لفظ الأشهر يقع على الاثنين، وبعض الثالث، فالفعل قد ينسب إلى مدة ممتدة ويكون واقعاً في بعضها، ولما كان فعل الحج في هذه الأشهر نسب إليها ثلاثتهن، ودلت الآية على أن الإحرام بالحج في غيرهن لا يصح لتخصيص الأشهر وهي أدنى العدد، ولقوله:
﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾، والضمير على هدا الوجه لا يقال في التواريخ إلا لأدنى العدد، كقوله: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾، ثم قال: ﴿أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾، ثم قال: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ﴾ [يعني: في الأربعة الحرم،] ويقال: لثلاث خلون، وثلاث عشر خلت، وقول مالك: إن الإحرام بالحج يصح بعد يوم العاشر بالحج مستدلاً بظاهر الآية قويَّ، ويعاضده ما روي عنه- عليه
قال: لأن الفرض لما يؤثر، كفرض الزند والقوس والسن للضب، فلما كان تأثير الفرض في نفس الشك أبلغ من تأثير السن، فجعل لما هو أوكد والرفث ههنا: قيل هو الجماع، وقيل: هو حديث الجماع، وروي عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه كان ينشد في الطواف:
إن تصدقُ الطير ننكْ لميسا...
فقيل له: أترفُثُ؟
فقال: " ليس هذا الرفث، إنما الرفث مراجعة النساء الحديث بذكر الجماع "،
إن قيل: الفسوق محظور في كل حال، فكيف خص به الحج؟ قيل: الفسوق هاهنا يعني الأشياء المحظور تعاطيها في حال، [الحج] كالصيد والطيب، واللباس، وإن لم ليكون فسقاً في غير الحج؟ قيل: تخصيص الحج به تنبيه على شرفه وعظم موقعه، كقوله: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ وإن كان ظلم النفس في كل حال
وقوله: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ حث على تقوى الله واقتناء الأعمال الصالحة، والإعراض عن الدنيا سوى ما يتوصل به إلي الآخرة...
، وقال أبو المطيع البلخي لحاتم الأصم:
" بلغني أنك تجوب ألبادية بلا زاد فقال: إنهم أجوبها بأربعة أشياء، أرى الدنيا بحذافيرها ملكاً لله، وأرى الخلق كلهم عبيداً لله، وأرى الأشياء كلها بيده، وأرى قضاءه نافذاً في كل أرض "، ، فقال: " نعم الزاد زادك يا حاتم نحوت فيما مفاوز ألآخرة "، وقول من قال: " أنزلت الآية في قوم يحجون بلا
الأول: ترك الكفر والكبائر، والثاني: ترك المحارم وأداء الفرائض اللذين يقتضيهما إلتزام الشرائع، والثالث: حفظ القلوب عن التلفت إلى الذنوب، وهو المغنى، بقول من قال: " التقوى هي التبرؤ من كل شك سوى الله تعالي، ولا يحصل الثالث إلا بحصول الثاني، ولا الثاني إلا بحصول الأول "، وعنى هاهنا الغاية، ولهذا خص أولوا الألباب بالخطاب، فاللب أشرف أوصاف العقل، وهو اسم الجزء الذي بإضافته إلى سائر أجزاء الإنسان، كلب الشيء إلى القشور، وباعتبار اللب، قيل لضعيف العقلي " يراعة "، " وقصبة "، و " منخوب " و " خاوي الصدر "، وقال- عز
وجل- ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾.
قوله - عز وجل -:
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾
الآية (١٩٨) - سورة البقرة.
فاض الإناء، انصب عن امتلاء ومنه: فاض صدره بسره، ورجل فياض سخي- تشبيها بنهر فياض، ودرع مفوضة: افتضت على لابسها كقولهم: مسنونة، وعنه استعير: " أفاض من عرفة "، و " أفاض بالقداح " و " أفاض البعير بحريه "، و " حديث مستفيض "، كقولهم: شائع وسائر، وكانت العرب تتحاشى من التجارة في الحج حتى إنهم كانوا يتجنبون المبايعة إذا دخل العشر الأواخر، وحتى سموا
﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
الآية: (١٩٩) - سورة البقرة.
روي أن قريشاً لم يكونا يقفون مع الناس بعرفة ولا يبيتون بالمزدلفة ويقولون: " نحن أهل حرم الله "، وكانوا يقفون دون عرفة فأمرهم الله تعالى أن يفيضوا مع سائر الناس، قاله ابن عباس، وعائشة، ومجاهد، والحسن، وقيل: إنه أمر جميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، أي إبراهيم، وسماه " الناس " والناس تستعمل على ضربين، أحدهما: للنوع من غير اعتبار مدح أو ذم،
والثاني: للمدح اعتبارا بموجود تمام الصورة المختصة بالإنسانية، وليس ذلك في هذه اللفظة فقط، بل في اسم كل جنس ونوع، نحو: هذا فرس، وفلان رجل، وليس هذا بفرس ولا فلان برجل، أي ليس فيه معناه الخاص بنوعه، وبهذا النظر نفى السمع والبصر عن الكفار، فعلى هذا سمى إبراهيم الناس على سبيل المدح [على وجه أخر] وهو أن الواحد يسمى باسم الجماعة تنبيهاً أنه يقوم مقامهم في الحكم، وعلى هذا قول الشاعر:
ويرى فيحْسبُهُ القتيلُ قتيلاً...
وقال: تستجمعي الخلقَ في تمثالٍ إنسانٍ
أن يجمع العالم في واحد
وعلى هذا قال تعالي: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾، وقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ﴾ أي من عرفَةَ، وقيل: من المزدلفة، وهو أقرب، لأن بعده: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾، والاستغفار، والتوبة، والإنابة، والأوبة تتقارب، لكن الاستغفار [طلب] غفر الذنب، والتوبة تركه، والإنابة: الرجوع عن الضلال إلى الهدى، والأوبة رجوع القلب إلي الله تعالى، وهذه المعاني وإن كانت متلازمة، فألفاظها اختلفت
لاختلاف النظرات، فأمر تعالى بالاستغفار له عن الاشتغال بغيره من أمور الدنيا، وبين أن الله تعالى غفور للمطيعين، رحيم بالعاصين، يدعوهم برحمته إلي بابه، ويرغبهم في جزيل ثوابه...
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾
الآية (٢٠٠) - سورة البقرة.
القضاء: فصل الأمر، والنسك أخذ النفس ببلوغ غاية العبادة، واختص في تعارف أهل الفقه بعمل الحج وبالذبيحة حتى سميت نسيكة، كما سميت قرباناً، وقولهم: إذا فعلت كذا فافعل كذا، يقال على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون " افعل " أمراً بما تقدم فعله نحو، ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا﴾ الثاني: أن يكون الأمر بشيء هو من أبعاض ذلك الفعل وفي أثنائه، نحو: " إذا صليت فاركع واسجد "، والثالث: أن يكون بعده، نحو: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا﴾ والآية، محمولة على ذلك تنبيها ففي ابتداء النسك ذكر، وهو التلبية وفي أثنائه ذكر، وهو عند المشعر والطواف، وفي انتهائه ذكر، وهو شكر الله- عز وجل- وذكره عند طواف الوداع، ولما كان الذكر ذكرين، ذكر بالقلب، وذكر باللسان تتناولهما الآية، ولما كان الإنسان لا يتشكك في أن أباه أحد أسباب وجوده، وأنه منه أوجد ولا ينسى ذكره في شيء من أحواله، وكانوا يتبجحون بمكانه، ويفتخرون بكونهم عنه، أمروا أن يذكروا الله كذكرهم آباءهم وأن يتحققوا أنه تعالى سبب وجودهما، بل سبب وجود آبائهم، وأن يفتخروا به كافتخارهم بآبائهم، وقد روي أنهم كانوا يفتخرون بأبائهم بعد فراغهم من حجهم، فأبطل الله ذلك، وعليه نبه النبي...
بقوله: " إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء، فالناس من آدم، وآدم من تراب، ولا فضل
لعربي على عجمي إلا بالتقوى "، ثم تلا قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾...
إن قيل: كيف خير بين أن يذكر كل كر الآباء وبين أن يذكر أشده ذكراً؟
قيل: لفظ أو وإن كان للتخيير، فمقتضى الكلام على إيجاب أن يكون ذكره أشد، لأنه لما نبه علي موضع نعمتهما أعنى نعمة الأب ونعمة الله- عز وجل- وشكر المنعم بقدر عظمة نعمته، وقد علم فضل نعمته تعالى على فضل نعمة الأب، فصار ذلك منبها أن ذكر الله أوجب وقوله:
﴿مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا﴾ إشارة إلى ما روي أنهم كانوا يقولون: " اللهم أكثر مالنا، وأولادنا وأنزل الغيث علينا، وأنبت مرعانا "، ولا يسألون شيئاً من أمور أخرجهم، وإنما سألوه الدنيا دون الآخرة، لأنهم عرفوها ولم يعرفوا اللآخرة، وكيف يسال الآخرة من لا يعرفها؟، وكيف يعرفها من لم يتحقق كونها؟، وكيف يتحقق كونها من لم يبصرها؟ أي لم تدركها بصيرته؟ وليس يعني بقوله: (يقول) التفوه بذلك فقط، بل صرف العناية إليها والاهتمام بها، والخلاقُ نصيب الإنسان من أفعاله المحمودة التي تكون خلقاً له، وذلك أن الفعل قد يحصل من الإنسان تخلفاً، وقد يحصل منه خلقاً وهو المحمود، وفي قوله: ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ تنبية أن الأريحية لهم صادقة صادرة عن أخلاقهم..
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
الآية (٢٠١) - سورة البقرة.
لما أجرى الله تعالى العادة أن لابد للإنسان من أخيارهم وأشرارهم من بلغه في الدنيا، صار المؤمن يطلبها كما يطلبها الكافر، لكان طلب المؤمن لها علي سبيل الغرض قدر ما يحس، وفي وقت ما يحسن، ولأجل الحاجة إليها..
قال بعض الصالحين: " اللهم وسع الدنيا عليّ، وزهذني فيها، ولا تضيقها عليَّ فترغبني فيها ".
فقوله تعالى: ﴿آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ أي مالا يستقبح عاجلاً وأجلىً ويكون ذريعة إلى المقصد، ﴿وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ أي ثواباً ورحمة وعلى هذا قال الحسن الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة: الجنة ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أي: احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى النار.
قوله- عز وجل -:
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾
الآية: (٢٠٢) - سورة البقرة.
النصيب في الأصل: المنصوب، وجعل السهم المقرر نصيباً، والنصب: رفع الشح، وبه سمي النصب، وإنصاب الحرم، ونصاب السكين، وفلان في نصاب صدق تشبيهاً بنصاب السكين، ونسب الحروف في الإعراب، ونصب الستر على التشبيه، والحساب: عنه استعير الحسبان المقارب لمعنى الظن، وحسب الذي هو معنى الكفاية بين تعالى أن من جمع بين طلب دنياه وأخراه، ولم يقتصر على طلب الدنيا الموصوفة.
بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ الآية، فقد تناول نصيبه المأمور به في قوله: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، ولم يكن كمن قال فيهم:
قوله- عز وجل -:
﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
الآية (٢٠٣) - سورة البقرة.
الأيام المعدودات عند الشافعي- رحمه الله- ثلاثة أيام بعد النخر، والمعلومات عشر ذي الحجة، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله- في إحدى الروايتين: المعدودات يوم النحر، ويومان بعده، فيوم النحر عندهما من المعلومات ومن المعدودات جميعاً، وقائمة الخلاف أن عند مالك لا يجوز النحر ثالث أيام التشريق والحشر: ضم المتفرق وسوقه، يقال: حشرتهم السنة: أي ضمتهم من النواحي إلى الحضر، واختص حشرات الأرض بصغار الدواب وسهم حشر مضموم العدد، وكذلك أذن حشر ورفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة وقيل: معنى رفع الإثم إنه خط ذنوبهما بإقامتهما الحج تعجل أو تأخر بشرط أن يكون متقياً- تنبيها أن الاعتبار بالتقوى فقط، وعلى ذلك دل قوله- عليه السلام- " من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمة " ثم قال: (واتقُو الله) متحققين أنكم إليه راجعون، وعلى أعمالكم محاسبون...
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾
الآية (٢٠٤) - سورة البقرة..
التعجب حيرة تعرض للإنسان عن جهل سبب الشيء وليس هو شي ماله في ذاته حالة، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب وإلى من لا يعرفه، ولهذا قال قوم كل شيء عجب، وقال قوم: لا شيء عجب، وحقيقة أعجبني كذا، أي ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه، والألد المايل اللديد، أي صفحة العنق، ثم يعبر به عن المتكبر كالمتصلف أي المشتكي صليفه والأصيد للبعير الذي به الصد، ولهذا قال الشاعر:
ويقًيِمُ سالفَة العْدُوَّ الأُصْيدِ
وقال:
إن الكريمٍِ منْ يلفتُ حَوْلهُ...
وإن اللئيم دائمُ الطرفٍ أقوَدُهَّ
واستعير الألد للجدل الذي لا يمكنه صرف رأسه عما عض عليه، ولما كانت الدنيا والآخرة كالمتضادين حتى قال أمير المؤمنين: [أزنها بكفتي ميزان] لا ترجع إحداهما إلا بنقصان الأخرى، وقال: قرة كالضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فمن حذق في إحديهما خرق في أخرى، ولهذا قال عليه السلام في اعتباره بأهل الدنيا: " أكثر أهل الجنة البله "، وقال في اعتباره
قوله- عز وجل -:
﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾
الآية (٢٠٥) - سورة البقرة.
السعي: مشي سريع، ومنه قيل السعي بين الصفا والمروة، فجعل مستعاراً للتصرف، ولأجله قيل لجابي الصدقة ساع، وقيل للوقيعة في الغير سعاية، وذلك كاستعارة المشي لهما في قوله ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ والنسل: مصدر نسل إذا خرج منفصلاً ومنه: نسل الوبر والريش.
والنسالة للساقط منه، ونسل إذا أسرع، قال تعالى: ﴿إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾، وسمي الولد نسلاً لكونه ناسلاً عن أبويه بين تعالي حال هذا المعجب في الدنيا المرائي المجادل بأنه إذا تولى عمن يرائي سلي في الإفسال وإهلاك الحرث والنسل وذلك معاندة لله فيما حث عليه في قوله:
إن قيل: كيف حكم تعالى بأنه لا يحب الفساد وهو مفسد للأشياء؟
قيل: الإفساد في الحقيقة إخراج الشيء من حالة محمودة لا لغرض صحيح، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى، ولا هو أمر به ولا محب له، وما يراه من فعله، [ويظهر بظاهره] فسادا فهو بالإضافة إلينا ولاعتبار ما، فأما بالنظر الإلهي فكله صلاح، ولهذا قال بعض الحكماء: " يا من إفساده إصلاح "، أي ما نظنه إفسادا لقصور نظرنا ومعرفتنا فهو في الحقيقة إصلاح وجملة الأمر أن
الإنسان هو زبدة هذا العالم، وما عداه مخلوق لأجله، ولهذا قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾، والمقصد من الإنسان سوقه إلى كماله الذي رشح له، فإذن إهلاك ما أمر بإهلاكه فلإصلاح الإنسان، وأما أمانته، فأحد أسباب حياته الأبدية، ولشرح هذه الجملة موضع أخر من التفسير..
قوله - عز وجل -:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾
الآية (٢٠٦) - سورة البقرة.
المهد معروف، وتصور منه التوطئة، فقيل لكل وطيء مهد، والمهاد جعل تارة جميعاً للمهد، وتارة اسمه للآلة، نحو فراش، وجعل جهنم مهادا لهم كما جعل العذاب مبشراً به في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وقوله: بالإثم أي سبب الإثم وقيل: دعته العزة إلى أن يأثم، كقوله: أخدني بفعل
قوله - عز وجل -:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾
الآية (٢٠٧) - سورة البقرة.
يشري يبيع ويشتري، وقد تقدم حقيقته، وحقيقة البيع والناس علي أضرب ضرب باع نفسه من الشيطان بالشهوات، فصار علقاً كل يده لا سبيل إلي الانفكاك منه، وهم المعنيون بقوله: ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وقوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾، وضرب وقع أسر الشريطان عليه، فاجتهد في تخليص نفسه منه وهو المعنى بقوله- عليه السلام: " الناس عاديان، فبانع نفسه فموبقها، ومبتاع نفسه فمعتقها "، وضرب لم يقع عليه أسر الشيطان، وقد باع نفسه من الله- عز وجل، وهو المعنى بقوله:
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾، وبين تعالى كيف اشترى أنفسهم بقوله: ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، فقول: ﴿يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ يتناول ضربين: المخلص نفسه
إنها نزلت في صهيب بن سيار، وكان قد أخذه المشركون، وقتلوا بعض من كان مده، فقال صهيب: أنا شيخ لا أنفعكم إن كنت معكم، ولا أضركم إن كنت عليكما فخذوا مالي وخلوا سبيلي، ففعلوا فلما ورد المدينة قال له أبو بكر: ربح بذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونبه بقوله:
﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾، أن الإنسان في بيع نفسه منه تعالى يدخل في ملك من هو أرأف به من نفسه أولى به من ذاته..
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾
الآية (٢٠٨) - سورة البقرة.
عنى بالسلم سلم العبد الله - عز وجل، وذلك أن الإنسان في كفره، وكفران نعمة الله كالمحارب له، ولهذا يسمى الكافر المحارب في نحو قوله: ﴿الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، وسلم العباد لله على ثلاثة أضرب، ضرب يتقدمه إلى الإيمان وهو الإسلام الذي سلم به من الله أن يراق دمه ويسلب ماله وهو المغني بقوله- عليه السلام:
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ".
واثنان بعد الإيمان، أحدهما أن يسلم من سخطه بارتسام أوامره وزواجره طوعاً أو كرهاً، والثاني: أن يكون سليماً من الشيطان وأوليائه، وسليماً فيما يجري من قضائه، وبه يحصل [دار السلام المذكورة في قوله تعالى]: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ وهذا غاية ما ينتهي إليه للعبد من المنازل الثلاث وإن كان لكل منزلة منها درجات، وهذا السلم هو المغني بقوله تعالى: ﴿﴾، وبقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ
ونبه أن اتباع الشيطان خروج عن السلم، ونبه على معاداة الشيطان وأن عدواته لا تخفى، وهذا المعنى قصده الشاعر في وصف الدنيا.
إن الليالي والأيامَ لوْ بَحثَتْ
عنْ عيبِ نفسهِمِا لمْ تكَتُم الخبَرا.
قوله- عز وجل -:
﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
الآية (٢٠٩) - سورة البقرة.
زل وزال يتقاربان، ولكن زال أبلغ، ولفظ البينات عام فيما حولنا من المعارف العقلية والسمعية، والنهي عن الزلة والقصد إلى الفعل الذي يحصل عنده الزلة، إذ الإنسان لا يقصد أن يزل، وعلى هذا إذا قيل: " لا تصلوا "، ونبه بقوله ﴿بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أن أعظم الذنبين ما كان بعد المعرفة والبينة، وفي هذا تحذير لمن يبصر عن ركوب ذنب فكأنه قيل: إذا أردتم ذنباً فاذكروا عز الله وحكمته، [ففي العلم بعزه علم بقدرته على عقاب المذنب]، وفي العلم بحكمته علم بأنه غير ظالم في عقابه وفي العلم بهذين انزجار سكن ارتكاب الذنب.
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾
الآية (٢١٠) - سورة البقرة.
قد تصور بعض.
الناس مالا يليق بصفات الله تعالى في لفظ المجيء والإتيان الذي وصف الله - عز وجل به بنفسه في هذه الآية وفي قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ وقوله: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾، وقوله: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾، وقوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾، وذلك لأمرين، أحدهما لقصورهم عن معرفة البارئ عز وجل، والثاني: لضيق مجالهم في مجاري الألفاظ ومجازها، وليس يقال الإتيان والمجئ لانتقال الحي المتحرك من مكان إلى مكان فقط، بل قد يقال لقصد القاصد بعنايته أمراً يستصلحه كقوله: أتيت المروة من بابها، [ويقال أيضاً] لاستيفاء فعل يتولاه، كقولك: أتيت على ما في الكتاب، [وقد يقال أيضا] لفعل يفعله على يد من يستكفيه [كقولك إن الأمير ناحية كذا بجيش عظيم، ومنه ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ ولما جرت العادة أن الرئيس يتولى الأمير بمن يستكفيه] تارة وبنفسه تارة، وأن لا يتولى بنفسه إلا ما كان أكبر وأعظم، فلما أراد الله تعالى أن يبين العذاب الذي لا غاية وراءه جعله منسوباً إلى نفسه وإتياناً له، وعلى هذا النحو جعل كل يستعظمه فعلاً له نحو خلق أدم بيده، وعلى هذا قوله: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾، ووجه آخر، قد أشير إليه في صدر الكتاب، وهو أن الفعل كما ينسب إلى المباشر له ينسب إلى ما هو سببه ومسهلة، نحو أن يقال: ﴿الرحمن علم﴾، وإنما علمنا من علمه النبي، وعلم النبي جبريل، وجبريل علمه الله عز
فإن قيل: هل يجوز على هذا القياس أن يقال شيء إذا عنى به عبداً؟
قيل؟ نحن إنما أجزنا إستعمال ما استعمل فيه تعالى لورود السماع به، ولولا ذلك لنزهناه عن كل وصف يطلق على البشر تفادياً من وهم بشبيه، وقوله: (وقضي الأمر) تنبيهاً أنه حينئذ لا يمكن تلافيه، وأكد ذلك بقوله: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾.
أي ما قد ملكه عباده في الدنيا من الملك، والملك والتصرف مسترد منهم يوم القيامة، وراجع إليه، ويقال: رجع الأمر إلى الأمير، أي استرد ما كان فوضه إليه، وقيل: عنى بالأمور الأرواح، وسماها أموراً من حيث إنها من الإبدعات المشار إليها بقوله: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وقوله: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ وقال: ولهذا لما سئل سكان الروح قال: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، أي هو من الإبداع الذي لا يمكن للبشر تصوره، فنبه أن الأرواح كلها مرجوعة إليه وراجعة، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، وعلى ذلك قوله: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾، ويكون رجوعها إنما بربح وغبطة، وإما بندامة وحسرة إلى أن ينشئها النشأة الأخرى على ما قضاه تعالى، وقوله: ﴿ظُلَلٍ﴾ جمع ظلة، يقال ظله وظلل وظلال، نحو خُلة وخلل وخلال، والإشارة بهدف إما إلى أمطار عذاب، كعارض عاد المذكور في قوله: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾، أو إلى أهوال القيامة، وقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ على طريق التهديد والوعيد...
﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
الآية (٢١١) - سورة البقرة.
نبه بلفظ ﴿كَمْ﴾ على كثرة ما آتاهم من الآيات، ودل بقوله: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ على إضمار بدلوا، وعلى هذا إن الحكم ليس مقصوراً عليهم، بل هو عام فيهم وفي غيرهم، ودل بقوله: ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ أن الآية من جملة نعمته، بل هي من أعظم النعم، وبقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ على نحو ما دل عليه قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ وتقدير الكلام: آتيناهم آيات هي بنعم، فبدلوها ومن يبدل نعمت الله بعد اختصاصه بها عاقبه الله عقاباً شديداً فإنه شديد العقاب، فإذن بعقاب بني إسرائيل ومن فعل فعلهم، فإنه يعاقبهم كما عاقبهم.
قوله- عز وجل:
﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
الآية (٢١٢) - سورة البقرة.
التزيين التحسين المدرك بالحس دون المدرك بالعقل، ولهذا جاء في أوصاف الدنيا دون أوصاف الآخرة، نحو: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾، واختلف في هذا التزين، فمنهم من قال الله زينه لقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾، ومنهم من قال: الشيطان زين لهم لقوله: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وروي عن الحسن: الشيطان زينها ولا يعلم أحد أذم لها ممن خلقها أو وصفها بأنها متاع قليل وأنها متاع الغرور وجمع بعض الملاحدة بين هذه الآية
، وحياة متأخر سنية وهي الموصوفة بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ والثانية: لا يعرفها إلا الذين اتقوا، فأما الذين كفروا فلا يعرفون إلا الحياة الدنيا ويجحدون الآخرة ويسخرون من الذين يؤمنون بها، فبين الله تعالى أنهم وإن سخروا من الذين آمنوا، فالذين آمنوا فوقهم، ومعنى ﴿فَوْقَهُمْ﴾ قيل هو كقوله: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ وذلك يحتمل وجهين، أحدهما أن حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا، والثاني: أن المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات، وأن الكفار في الدرك الأسفل من النار وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي كفى ما يستحق بلا إفراط ولا تفريط، " وأعطاه بغير حساب " إذا أعطاه أكثر مما يستحق وأقل مما يستحق والأول هو المقصود هاهنا، وهو المشار إليه بالإحسان، وقد فسر ذلك على أوجه لاحتمال اللفظ، وإيهامه الأول يعطيه [عطاء] أكثر مما يستحقه، الثاني: يعطيه ولا يأخذ منه، الثالث: يعطيه عطاءً لا يحويه حصر العباد،
لقول الشاعر: عطاياهُ تحْصَى قبل إحصائها القطرُ
الرابع: يعطيه بلا مضايقة، من قولهم: حاسبته أي ضايقته، الخامس: يعطيه أكثر مما يحسبه
أي يكفيه، وكل هذه الوجوه تحتمل أن يكون ذلك في الدنيا وفي الآخرة، السادس: إن ذلك إشارة إلى
توسيعه على الكفار والفساق الذين قال فيهم: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ﴾ تنبيهاً أن لا فضيلة في المال، ولا إكرام لمن يوسع عليه ما لم
ولهذا قال أمير المؤمنين: " من وسع عليه في دنياه فلم يعلم أنه مكر به فقد خدع عن عقله ".
السابع: يعطي أولياءه بلا تبعه ولا حساب عليهم فيما يعطون، وذاك أن المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلا من حيث يجب، وفي وقت ما يجب وعلى الوجه الذي يجب، ولا ينفقه إلا على ذلك، فهو يحاسب نفسه فلا يحاسب، ولهذا ما روي: " من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في القيامة "، وعلى هذا قال لسليمان: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: تحر فيما أعطيناك الوجه الذي لا تبعة فيه عليك ولا حساب، الثامن: أن الله عز وجل- يقابل المؤمني في القيامة لا بقدر استحقاقهم، بل بأكثر منه كما قال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾.
التاسع: وهو يقارب ذلك إن ذلك إشارة إلى ما روي أن أهل الجنة لا خطر عليهم، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾، وقوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، وأما تعلقه بما تقدم، فعلى بعض هذه التفاسير يتعلق بالذين كفروا، وعلى بعضه يتعلق بالذين آمنوا..
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
الآية (٢١٣) - سورة البقرة.
قال ابن عباس وأبي والسدى: " كانوا أمة واحدة في الإيمان " وقال غيرهم: " في الكفر "، وهدا الخلاف لاختلاف نظرين لابد فيهما من مقدمة تنكشف بها أوجه الخلاف، وتحقيق التأويل، وهي أن الله - عز وجل - فطر الناس فطرة ركز فيها رؤية يعرف بها بعض الأشياء اضطرارا، ومكنه أن يعرف بها البعض اكتسابا، وحبب إليه ما لم يفسد الحق من الاعتقاد دون الباطل والجميل من الفعال دون القبيح والصدق من المقال دون الكذب وإلى ذلك أشار بقوله - عز وجل:
﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾، وبقوله: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ وبقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ الآية، وبقول النبي - عليه السلام -: " كل مولود يولد على الفطرة "، ولم يخلهم في وقت من نبي يشحذ عقولهم ويعرفهم ما لا سبيل لهم إلى معرفته من دونه، وكان كلما
إن قيل: كيف كانوا أمة واحدة في الكفر وقد قيل: لا تخلو الأرض من حجة الله؟.
قيل إن من كان حجة الله - عز وجل - في مثل ذلك الوقت في حكم من لا اعتداد به في كونهم أمة لعلة الإصغاء إليه، وبين تعالى أنه بعث أنبياءه مبشرين للمحسنين ومنذرين للمسيئين، ولم يخل أحدا من أنبيائه من كتاب يرشده ويرشدهم،
إن قيل:
أليس قد قلتم: لم ينزل الكتاب من النبيين إلا على جماعة منهم؟ قيل: إن الله - عز وجل - لم يخل أحدا من الأنبياء من كتاب، إما كتاب خص هو به، وإما كتاب من كان فبله أمر بالاعتماد عليه، كالأسباط الذين كانوا أنبياء، وكتابهم كان التوراة، وعطف قوله ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ على قوله: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ﴾، وفصل بينهما بذكر اختلافهم، وأنهم لم يختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات ذما للمختلفين، فإن من شأن البينات أن ترفع الخلاف، وعلى هذا قوله: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ الآمة..
وبين سبب اختلافهم بقوله الله عز وجل - بغياً بينهم تنبيها أن ذلك كان لطلبهم زخرف الدنيا ومنازلها، فمن المفسرين من جعل قوله: (الذين أوتوا الكتاب) مخصوصا في بني إسرائيل والذين آمنوا في هذه الأمة، لقوله: {وَلَا تَكُونُوا
إن قيل: كيف قال: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، وذلك يقتضي أنه هدى بعضاً دون بعض، وحق جوده وكرمه أن يعمهم بالهدى؟ قيل: إنه قد عمهم من حيت قد أباحه لهم وقيضه، لكن لم يهتد به الكل، فإن هدايته لا يدركها إلا من جلى بصيرته، وشحذ فهمه ليعرفه، فيهتدي به، وقد قال بعض الصالحين: ما أكثر الهدى وأقل من يرى، ألا ترى أن نجوم المساء ما أكثرها، ولا يهتدي بها إلا العلماء؟
قوله - عز وجل -:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾
الآية (٢١٤) - سورة البقرة.
الزلزلة: شدة الحركة، وأصلها زل، ولزيادة المعنى زيد لفظه، وعلى هذا دل ودلدل، وما أشبهه به من المضعف مع الحرف المكرر بين تعالى أنه لا سبيل للناس كافة إلي الجنة إلا بتحمل المشاق، ولهذا
" حفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات "، فخاطب هذه الأمة بأنه محال أن ترجو تحصيل الجنة إلا بما جرى به حكم الله في الذين سلفوا، وهو أن تنالكم البأساء أي الفقر، والضراء أي المصائب، والزلزلة أي المخاوف، وبذلك أثنى على المؤمنين فقال: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ وليس ذلك في الأمور الإلهية فقط، بل في عامة الملاذ لا سبيل إلى منحة إلا بمنحة، ولا إلى لذة إلا بشدة.
ولهذا قيل: ولابْد دُون الشهدِ من أثرِ النحلِ.
وقوله: ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾، قيل معناه: " حتى يقول الرسول والمؤمنون متى نصر الله " على سبيل الإبطاء، ثم تل تداركوا، وعادوا إلى معرفتهم، فقالوا: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [قيل ليس ذلك على سبيل التضجر، بل على سبيل الدعاء والتضرع إخباراً منه تعالى على سبيل الآية لهم على سبيل الحكم، وقيل تقديره وزلزلوا حتى يقول الأتباع متى نصر الله، ويقول الرسول " ألا إن نصر الله قريب "] فجمع بين قولهم، كقولك: قال زيد وعمر وكذا وكذا الشيئين أحدهما قاله زيد والآخر قاله عمرو، وقرئ: (حتى يقول) بالرفع والنصب، ولكل واحد وجهان فأحد وجهي النصب معناه: إلى أن، والثاني معناه: كي يقول، وأحد وجهي الرفع أن يكون الفعلين ماضيين نحو: " مشيت حتى أدخل البصرة "، أي مشيت فدخلت والثاني: أن يكون ما بعد حتى لم يمض نحو: " مرض حتى لا يرجونه ".
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ الآية (٢١٥) - سورة البقرة
لما أثنى الله في غير موضع على المنفقين وحث على الإنفاق، نحو قوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ سألوا عنه ههنا -،
إن قيل: ليس جوابهم طبقة لسؤالهم فإن سؤالهم عما ينفق، والجواب عمن ينفق عليه قيل: في ذلك جوابان، أحدهما أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ينفق؟ وعلى من ينفق؟ ولكن حذف في حكاية السؤال أحدهما إيجازا، ودل عليه الجواب بقوله: ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾، كأنه قيل: المنفق هو الخير، والمنفق عليهم هؤلاء، فلفف أحد الجوابين في الآخر، وهذا طريق معروف في البلاغة، والجواب الثاني أن السؤال ضربان سؤال جدل وحقه أن يطابقه جوابه لا زائدا عليه ولا ناقصاً عنه، وسؤال تعلم، وحق المعلم أن يصير فيه كطبيب دقيق يتحرى شفاء سقيم، فيطلب ما يشفيه طلبه المريض، أو لم يطلبه فلما كان حاجتهم إلي من ينفق عليهم كحاجتهم إلى ما ينفق بين لهم الأمرين،
إن قيل: كيف خص هؤلاء النفر دون غيرهم؟
قيل: إنما ذكر من ذكر على سبيل المثال لمن ينفق عليهم لا على سبيل الحصر والاستيعاب، إذ أصناف المنفق عليهم على ما قد ذكرهم في غير هذا الموضع، ولما كان المندوب إلى الإنفاق عليهم صنفين صنف لهم فرض معين في مال الأغنياء، وصنف لا فرض لهم معيناً ذكر الأبوين والأقارب تنبيها أن حقهم واجب، وقوله: ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ أي من مال، فسمي المال خيرا تنبيها أن الذي يجوز إنفاقه هو الحلال الذي يتناوله اسم الخير، كما قال: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ ثم بين تعالي أن كل ما يفعلونه لا يخفى عليه على الوجه الذي يفعلونه، [تنبيها أنه يجازى به] نحو قوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ الآبة (٢١٦) - سورة البقرة
الكره في الإنسان يستعمل على ضربين، أحدهما ما يعاف من حيث الطبع، والثاني ما يعاف من حيث الفعل وإن مال إليه الطبع، ولهذا يصح أن يوصف الشيء بأنه مراد مكروه، والكره والكره قيل هما واحد في معنى نحو الضعف والضعف وقيل بل الكره المشقة التي يحمل عليها الإنسان بإكراه، والكره ما يتحمله بلا إكراه، من غيره، وقيل للحرب كريهة...
وعسى طمع وإشفاق، وقد يجري مجرى لعل، ويقال: هو عس بكذا، أي جدير، وأعس به، وسمي الإبل التي لا ألبان بها، وفيها طمع المعسيات من حيث أن يقال عسى أن يكون بها لبن والقتال المكتوب من حيث الظاهر مجاهدة الكفار، وقيل: عني مع ذلك مجاهدة النفس إلى الشهوة، وهي التي سماها النبي - ﷺ - الله " الجهاد الأكبر "، ونبه بقوله: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا﴾ بألطف وجه على أن ما كتب عليهم من القتال خير لهم بأوضح الأدلة وهي أنه إذا جاز أن يكون منكم كراهية لأمر وفيه الخير، فيجوز أن يكون كراهتكم لما كتب عليكم من القتال كذلك، وإذا جاز أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، فيجوز أن تكون محبتكم لما أحببتموه شراً، ثم نبه أن هذا الجائز كونه عندكم هو واجب كونه في نفسه بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي إذا كان الله - عز وجل - يعلم وأنتم لا تعلمون، وقد قضي بأن ذلك خيرا، فإنما قضي به لأنه خير، وإذا كان خيرا فيحبب أن تحبوه، ولا تكرهوه، فالخير يجب إرادته، والشر يجب كراهته، وعلى نحوه دل قوله تعالى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾
قضى الله في بعِض المكارهِ للفْتَىَ...
برُشدٍ وقي يعضِ الهَوَى مَأ يُحَاذِرُ..
قوله - عز وجل -:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
الآية (٢١٧) - سورة البقرة.
الصد ناحية الشعب، والوادي المانع للسالك وصده عن كذا، كأنما جعل بينه وبين ما يريده صدأ يمنعه، والصديد ما حال بين الجلد واللحم من القيح والدم، وقد تقدم أن زل وزال يتقارب لما كان الزوال معناه للنفي ضم إليه (ما) النافية، فصارا معا للإثبات، ولهذا لا يصح أن يقال: (مازال زيد إلا خارجأ)، كما يقال: (ما كان إلا خارجاً)، والحبط فساد يلحق الماشية في بطونها من أكل الكلأ، واستعير لفساد العمل، والسائل على ذلك قيل أهل الشرك قصدا إلى تعبير المسلمين مما استجازوه من القتل في الشهر الحرام وقيل: هم أهل الإسلام.
إن قيل: ما فائدة ذكر الشهر ثم إبدال القتال منه ولم يقل: يسألونك عن قتال في الشهر؟ قيل: في ذكر الشهر أولاً، ثم إبدال القتال منه ولم يقل: (يسألونك عن قتال في الشهر) قيل: في ذكر الشهر أولاً بنية أن السؤال عن القتال لأجل الشهر لا لغيره، ولو قيل: (يسألونك عن قتال الشهر) لكان يصح أن يفيد أن الغرض في السؤال عن القتال لا لتعظيم الشهر، بل لشيء آخر، وعلى هذا إذا قيل: " سُرق
إن قيل: لم لم يقل: القتال فيه كبير، وشروط النكرة المذكورة إدا أعيد ذكرها أن يُعاد معرفاً نحو سألتني عن رجل، والرجل كذا وكذا؟ قيل: في ذكره منكرا تنبيه أن ليس كل القتال في الشهر الحرام هذا حكمه، فإن قتال النبي- عليه السلام- لأهل مكة لم يكن هذا حكمه، وقد قال: " أحلت لي ساعة من نهار).
وقوله: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ معطوف على قوله: ﴿عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ فأعلم تعالى أن بعض القتال فيه كبير ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تنبيه أنه على الوجه الذي يفعله الكفار صد عن سبيل الله، أي عن دينه وعن نبيه، وأكثر منه عند الله وأعظم إخراج أهل المسجد [يعني].
والمؤمنين الذين هم أولياؤه، وعلى ذلك دل بقوله لهم: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ﴾، ثم بين أن النبي- عليه السلام- وأمته هم أولياؤه بقوله: ﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾، وفي ذلك تنبيه أن قتال المسلمين وقتلهم فيه ليس بكبير ولا صد سكن سبيل الله عز وجل، وبين أن الفتنة أكبر من القتل، وقد تقدم الكلام فيه، وأنه لا يرضيهم إلا ارتداء كم، ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾، ونبه بقوله: ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ أنهم لا يردونكم، لأنهم لا يستطيعون، وذلك نحو قوله: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ وعقب دلك بوعيد من يرتد، فمات على حالته، وإن أعماله المتقدمة المعمولة في سبب الدنيا والآخرة تبطل وتضمحل كما قال:
﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
الآية (٢١٨) - سورة البقرة.
الهجر.
مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن أو بالنسيان والقلب، والهاجرة الساعة التي تمنع عن السير كأنها هجرت الناس بحرها، والهجار حبل يشد به الفحل، فيصير سبباً لهجرانه الإبل، وجعل بناؤه على بناء الآلات، كالعقال والزمام، والهجر: الكلام المهجور لقبحه، وقيل: هجر فلان إذا هدى عن قصد واهجر المريض إذا هذي عن غير قصد والجهد: تحمل المشقة ومجاهدة العدو ومقاومته ببذل الجهد، وجهدت رأيي واجتهدته أتعبته بالفكر والنظر، والرجاء الوقوف على رجاء الأمل، أي ناحيتها حيث ما يتردد بين الأمل واليأس لما بين الله تعالي وجوب المقابلة ونهى عن تضييع الشهر الحرام والمسجد الحرام.
وعن تهييج الفتنة نبه على فضل من هاجر وجاهد في سبيل الله محافظة على ذلك، فمن المفسرين من حمل المهاجرة على مهاجرة الأهل والولد، كهجرة النبي- عليه السلام- وأصحابه والمجاهدة على الغزو، ومنهم من قال: عنى ذلك هجران الشهوات، ومجاهدة الهوى كما روى: (جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم) وقوله: (رجعتم من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر)، وقال في حجة الوداع: (المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، المهاجر من هجر الخطايا) وهذه المنازل الثلاث التي هي الإيمان والمهاجرة والجهاد هي المعنية بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
إن قيل: الإنسان راج لرحمة الله وإن لم يبلغ هذه المنازل، قيل: إن الذي نسميه رجاء لن لم يبلغ مثل هذه المنازل، فهو تمن على الله المعني بقوله عليه السلام: " والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى علي الله الأماني " أو رجاء لتفصيل غير مستحق، وما ذكره الله- عز وجل- هاهنا هو الرجاء المستحق الذي وصف به المؤمنين في غير موضع نحو قوله: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾...
إن قيل: لم ذكر المؤمنين برجاء الرحمة وهي لهم لا محالة؟ قيل: المؤمن وإن بذل الجهد في طاعته، فواجب أن يكون بين نظرين، نظر إلى سعة رحمة الله عز وجل، ونظر إلى ما عسى أن يقع أو وقع منه من ذنب فينتج له خوفاً...
قوله- عز وجل -:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾
الآية (٢١٩) - سورة البقرة.
الخمر: ستر الشيء وقال لما يستتر به خمار، لكن للخمار صار الخمار في التعارف لما تغطي به المرأة رأسها، واختمرت المرأة، وتخمرتُ، وخمرتُ الإناء غطيته، وكذلك خمرت العجين، وسميت الخميرة لكونها مخمورة، ودخل في خمار الناس أي في جماعتهم يسترونه، والخمار الموروث من الخمر جعل ماؤه ماء الأدواء، نحو الكباد، والصداع، وخامره الحزن إذا استولى عليه حتى سترفهمه وفكره، وبنحوه سوي غماً، وأصله من الستر، ومن الناس من جعل الخمر اسماً لدى مسكر، ومنهم من جعله
متحقق أو مظنون، والعقل يقتضي أن يتحاشى من الترام الإثم المظنون للنفع المتحقق الذي ليس بضروري، فكيف من النفع المظنون؟، ومن هذا الوجه صار الخمر فيما بين الأمم المتقدمة مترددة بين خمر، ودم، وإباحة، وحظر، وتركها عامة في العقول الراجحة لما أراد الله تبارك وتعالى تحريم الخمر على الناس لما رأى في ذلك من المصلحة، وعلم من غريزتهم التي غرزها عليها إن كثيراً منهم إذا ردع عما ألفه واستحسنه لا يكاد يرتدع ابتداء بتقبيح السكر في نفوسهم، ولكونه منافياً لذكر الله وعبادته،
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ إن قيل؟ كيف أعيد السؤال عما ينفقون وجواب بين الجوابين؟
قيل: أما الأول: فسؤال عن الجنس الذي ينفق، وعمن ينفق عليه، فبين لهم الأمران، وأما السؤال هاهنا فعن القدر المنفق، فأجيبوا بحسبه، فبين أن الذي ينفق هو العفو، وقال ابن عباس: هو الفضل عن الغني، وهو الذي قال الشاعر:
أذا أنت أعطيت الغني ثم لم تجد...
بفضل الغني ألفيت مالك حامد
وقال الحسن وعطاء:
هو القصد الذي لا إسراف فيه ولا إقتار، وقال مجاهد:
هو الصدقة المفروضة، وكل ذلك مراد، فإن أفل ما تطيب به نفس المسلم هو الصدقة الواجبة، ومن لم تطب نفسه فليس بتام الإيمان، ثم منهم من تطيب نفسه ببذل جل ماله، ومنهم من تطيب لكل ماله، كأبي بكر- رضي الله عنه- فإذن العفو متناول لما هو واجب ولما هو تبرع، وقرئ (العفو) بالرفع والنصب، وذلك لتقديرين مختلفين في ماذا، فإن ماذا تارة تقدر تقدير اسم واحد، فيكون مفعول ينفقون يحق أنه المطابق له بالنصب، وتارة يقدر تقدير اسمين مبتدأ وخبر، فيكون جوابه المطابق له رفعاً أي: " هو العفو "، وقوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ فيه حث على تجنب الخمر والميسر، وتنبيه على تحريمهما، فإن في التفكر في الدنيا والآخرة معرفتهما ومعرفة منافعهما، وأن النفع القليل في الدنيا لا يجب أن يشترى بكثير الإثم في الآخرة..
﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
الآية (٢٢٠) - سورة البقرة.
الخلط: الجمع بين أجزاء شينين، سواء " كانا مانعين، أو غير مانعين فهو أخص من المزج، يقال للصديق: الخلط، وهو دون الخليل، والخلاط وداء يخلط الجوف، وآفة تعتري العقل، والتخليط أن يخلط بالأمر ما يفسده، والإعنات من: عنت العظم عنتاً، أصابه وهي أوكسر، وقد أعنته، وكل ما يؤثم أو يشق عنت، ولما أكثر الله تعالى التحذير من مال اليتيم في نحو قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾، وقوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ الآية، تحرجوا عن تناول ماله ومخالطته، فبين تعالي أن حق الإنسان أن يتحرى الصلاح له، وأن لا ضير في مخالطته أي مصاهرته.
وسائر أنواع المخالطة، وبين أنه أخوهم، وذلك إشارة إلى نحو قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وقوله: ﴿بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، ونبه بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ أن الله تعالى لا تخفى عليه مقاصد الإنسان فيما يفعله معهم، وبين بقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ أنه لم يقصد إعناتاً فيما أوصاهم به في هذه الآيات المختلفة...
﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾
الآية (٢٢١) - سورة البقرة.
النكاح اسم للعقد، واستعير للجماع بدلالة أن عامة أسماء الجماع كنايات، وأنهم يتحاشون النكاح من التصريح بذكر الجماع، وآلاته، كما يتحاشون من إظهاره حتى سموا ذلك العضو " السوءة "، ولم يستعيروا اسم الجماع وآلاته إلا فيما يقصدون به سبعة، نحو: شَوَّرَبِهِ إذا خجله وجعله بحيث كأنه أبدى شواره، والشوار مع ذلك كناية للفرح، وبهذا يعلم أن النكاح وفي اللغة مستعار للجماع، والنهي عن نكاح المشركات عام فيمن ليس من أهل الكتابة ولم يدخل في ذلك أهل الكتاب لقوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾،
فإن قيل: فقد قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، الآية، والنكاح يجب المودة لقوله: ﴿أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، وقد نهانا عن مودتهم، فيجب أن لا نواصلهم!
قيل: المودة النهي عنها هي الدينية لا المودة النفعية أو الشهوية، فإنا إذا أوددناهم لنفع ما، فإنما نود النفع كمودتنا لذمي يعيننا على مدافعة المشركين، فقوله: ﴿يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ﴾ عنى بها المودة الدينية،
فإن قيل: ما قلت يقتضي أن يجوز نكاح المشركات؟ قيل المشرك مادام مشركاً، فنفسه مباحة، والمشركة غير مالكة لنفسها، وفي قوله: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾ إشارة مجملة إلى فضل العبد المؤمن على العبد المشرك وبيان فضيلته يحتاج إلى مقدمة، وهي أن الشيئين
إن قيل: إلى أي شيء أشار بهذا التذكر؟
قيل: إن الله عز وجل - ركز فينا بالفطرة معرفته ومعرفة ألائه، والإنسان باستفادة العلم يتذكر ما ركز فيه، فهذا معنى التذكر وقال قوم: معرفة الله عز وجل، ومعرفة الآية تذكر، ومن دفع عن قلبه الأغشية بذكر ما قال الله عز وجل له ودل عليه بقوله عز وجل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ الآية، قالوا: وقد عرفنا الطريق الذي به يتوصل إلى هذا التذكر بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
قوله - عز وجل:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾
الآية (٢٢٢) - سورة البقرة.
المحيض: وقت الحيض وموضعه، وقد قيل: يقال للحيض محيض، على أن المصدر في هذا الباب يجئ على (مفعل)، نحو: معاش ومعاد، وقول الشاعر:
لا يستطيع بها الفراد مقيلا
فالأظهر أنه مكان وإن كان قد قيل هو مصدر، وقيل ما في ترك مكال ومكيل، أي كيل وهو أيضا محتمل، والحيض هو الدم الخارج من الرحم على وصف مخصوص في وقت مخصوص ويتعلق به منع الصلاة، والصوم، وحظر الجماع، وانقضاء العدة، واجتناب دخول المسجد ومس المصحف، وقراءة القرآن، وأن تصير المرأة به في الابتداء مكلفة، والاعتزال: العدول عن الشيء، وأصله من العزل، وهو صرف العامل عن عمله، ومنه قيل الأعزل للعازل عن الحرب لعدم السلاح، وللدابة المائل ذنبها والعزلاء تأنيث الأعزل، وشبه مخرج الماء إذا فتح عن فقد سلاحه، والسماك الأعزل سمي بذلك لافتقاده الكوكب الذي يصور بصورة الرمح للسماك الأخر..
، والأذى: اسم لما ينال النفس منه
إن قيل: فأي أذى هو؟
قيل: إما باعتبار مجرد الشرع، فإثم وإما بالاعتبار الطبي، فإن الدم الذي يخرجه الرحم يفسد البدن الذي منه الحيوان، ويكون له بخارات ممرضة لأبدان متشمميها يعرض للمرض ولما كان الاعتزال قولاً مشتركا ويكنى به عن العدول عنها عند الفراغ وعن مجانبة ذلك الموضع وعن مجانبتها رأسا، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ ليدل باللفظتين الكنايتين على مجانبة مباضعتها، وعلى جواز التمتع بها منها دون الفرج المدلول عليه بقول النبي - عليه السلام: " اصنعوا كل شيء إلا الجماع " ولما كان لفظ ﴿يُطَهِّرَ﴾ يقال فيما كان طاهرا بنفسه وفيما كان يتطهر، نبه بقوله: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ أنه لم يرد إلا الطهارة عن تطهر وتؤكد ذلك قراءة من قرأ: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ فدل ذلك أن لا يصح
فقال عليه السلام:
" نعم الرجل منهم خريم " ويدل على إرادة هذا المعنى بالتطهر قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾
قوله - عز وجل:
﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ سورة البقرة الآية (٢٢٣)..
الفرق بين الحرث والزرع أن الحرث إلقاء البذور وتهيئة الأرض، والزرع مراعاته وإنباته، ولهذا قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ فأثبت لهم الحرث، ونفى عنهم الزرع، وقد جعل الله تعالى النساء محترثا للرجل، وجعل له قوة النكاح حفظا للنسل، ولولا طلب
وحرم إتيان الرجال على كل حال والنساء في محاشهن إذا لم يكن محرما ما سماه - عليه السلام - " اللواطة الصغرى " وقيل لأمير الآمؤنين: كيف ترى النساء يؤتين في أدبارهن؟ فقال: " سفلت سفل الله بك " ثم تلا قوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾، وقوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ أي: كيف وأين بعد أن لا يتجاوز به الحرث وأعاد لفظ الحرث، ولم يقل: فأتوه، ليراعى المعنى المقصود بذلك، لئلا يتوهم ما يتصوره قدم لم يتعمقوا النظر وإنما قال: " أنى " تنبيها على كذب اليهود حيث زعموا أن المرأة إذا لم تؤت مستقبلة يأتي الولد ذا خيل أي أحول وقوله عقيب ذلك: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾، هو أن الله إذا أطلق أمرا من الشهوات الدنيوية لا يخلى ذكره من الحث على مراعاة العقبى والتقوى، لئلا يلحق الإنسان غفلة عما خلق لأجله وقول عطاء: هو التسمية عند الجماع، وقول ابن عباس: هو الطلب للولد على سبيل المثال لا أنه لم يرد سوى ذلك ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ أي صائرون إليه.
واللقاء يقال في المحسوس والمعقول يقال: لقى إثماً وجهداً، قال الله - عز وجل: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾.
﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
الآية (٢٢٤) - سورة البقرة.
اليمين أصله العضو، واستعير للحلف لما جرت به العادة في تصافح المتعاقدين، وعلى هذا قال الشاعرة:
قلت كفى لك رهن بالرضى....
فوضع الكف موضع اليمين
والعرضة ما يجعل معترضاً بين شيئين، فيتصور تارة بالحائل فقيل معناه: لا تجعلوا لفظ الله مانعاً من أن تبروا وتتقوا، نحو: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى﴾ وذلك أنه كان أحدهم لا يبر، فإذا عوتب قال: حلفت، وعلى هذا قال الشاعر:
تسلف الجار شربا وهي حاتمة....
ولا يبيت على أعناقهم قسم
ولأجل ذلك قال - عليه السلام:
" إذا حلف أحدكم على شيء، فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه "، وقد تصور العرضة بصورة المبتذل، نحو: (لا تجعليني عرضة للوائم)، ومعناه: لا تجعلوا لفظ الله مبتذلا لليمين، لأن تبروا، فيكون ذلك نهيا عن كثرة الحلف المذموم بقوله: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾
فإن قيل: وما تقدير " أن تبروا " على هذا؟ قيل: يجوز أن يكون متعلقاً باليمين، وتقديره: أن لا تبروا
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ الآية، وقيل معناه: لا تجعلوا لفظ الله مبتذلاً لليمين لأن تبروا بالحلف به، وتتقوا المأثم وتصلحوا، والمعنى لا تبتذلوه لفعل الخيرات، فكيف للشر تنبيهاً أن الحلف بالله مكروه ما استغنى عنه، ونبه بقوله: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أنه عارف بالمقاصد...
قوله - عز وجل -:
﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾
الآية (٢٢٥) - سورة البقرة.
اللغو: المطروح الذي لا يفيد من الكلام، يقال: ألغى في كلامه، ولغاً، وقد يقال في غيره تشبيهاً، كقول الشاعر:
كما ألغيتُ في الديةِ ألحواراَ
ويكني باللغو عن القبيح من الكلام، وأصله من لغي العصافير، واختلف في اللغو من اليمين، فقال ابن عباس: هو الحلف بالشيء يظن أنه صادق فيه وهو بخلافه، وقال ابن جبير: هو اليمين علي الحرام لا يؤاخذ الله بتركه، وقال: هو بغضهم اليمين التي يحنثو فيها صاحبها سهوا، ً وقالت عائشه:
وإليه ذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: لغو اليمين كالغموس في أنه لا تجب فيهما الكفارة، ولكن الغموس أن يحلف ويعلم أن الأمر خلافه، فيعظم معصيته واللغو أن لا يعلم، بل يظن فلا تقع المؤاخذة به، وقوله:
﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ هو أعلم من قوله: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ وذاك أنه لما كان القلب يعبر به عن الجزء الذي به المعرفة والفكر ويجري من سائر أجزائه مجرى الراعي من المراعي، ونبه بقوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أن الاعتدال به دون غيره من الجوارح، حتى إن كل فعل لا يكون عنه وبه سهواً أو خطأ متجافى عنه، ولهذا قال- عليه السلام- " إن في الإنسان مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد "، وقال: " إذا طاب قلب المرء طاب جسده "، وقال: " إن الله تعالى لا ينظر إلي صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلي قلوبكم وأعمالكم ".
والحلم وإن كان مناً هو إمساك القوة العصبية المقتضي للعفو، وهو إذا استعمل في الله لا يراد به إلا العفو عن المذنب دون حدوت حالة وتجدد أمر عليه- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
سورة البقرة الآية (٢٢٦)..
التربص: انتظار مجئ وقت، يقال: تربصت به، وربصت به، قال الله- عز وجل: ﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾، وقيل في هذا الأمر ربصه، والفئ: الرجوع من مكان إلى مكان، ولم يسم من الظل فيأ إلا الراجع منه، وسمى العتمة فيألفيئه من قوم إلى قوم، وقول الشاعر:
أرى المالَ أفياءَ الظلالِ عشيةً
أي المال هو الفئ الذي هو بعض الظلال تنبيهاً علي ما قال الآخر:
إنما الدنيا كظل زائل.
واللإيلاء: الحلف المقتضي للتقصير في الأمر الذي يحلف عليه من قوله عز وجل: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾، ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾ وصار الإيلاء في الشرع الحلف المانع من جماع المرأة، وهو أن الرجل كان إذا لم يرد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره، يحلف أن لا يجامعها، ويتركها كذلك، لا إيماً، ولا ذات بعل، فأراد الله أن يجعل لها مخرجهاً فحكم بهذه الآية، إلا أنه اختلف في أي لفظ من الأيمان يكون الإيلاء، وعلى أي وجه يعتبر ترك جماعها، وأي يمين من الإيلاء تلزم فيه الكفارة؟ وكم مدة الإيلاء؟ وما عزم الطلاق؟ وما ألفئ؟ ومن الذي لإيلأئه حكم؟ أي امرأة لها حكم
قوله- عز جل:
﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ الآية: (٢٢٧) - سورة البقرة.
دواعي الإنسان إلى الفعل على مراتب أولها السابح، ثم الخاطر، تم التخيل والتفكر فيه، ثم الإرادة، ثم الهمة، ثم العزم، فالهمة إجماع من النفس على الأمر وإزماع عليه، والعزم هو العقد على إمضائه، ولهذا قال- عز وجل- ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾، ويقال: (مالفلان عزمه) أي عقد على إمضائه...
ويقال: المعود عزائم تصوراً أنك قد عقدت على الشيطان أو الداء أن يمضي إراداتك فيما سميته، والطلاق: تخلية عن وثاق أو داء أو انقباض وإمساك، ومنه: " طلقت المرأة عند الولادة وبالتخليه عن الوثاق شبه الطلق في العدو، ورجل طلق الوجه وطلق اليدين، وأما عزيمة الطلاق، فقد تقدمت، ونبه تعالى بقوله: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أنه عارف بضميره ومقاله في إيلائه وتطليقه...
قوله- عز وجل:
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
سورة البقرة الآية (٢٢٨)...
قال الخليل: قرأت المرأة: رأت الدم، وأقرأت: حاضت، وصارت ذات قرء، والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولما كان اسماً للأمرين الطهر والحيض المتعقب له أطلق على كل
فإن قيل: قوله- عليه السلام: (دعي الصلاة أيام إقرائك) لم يرد أيام تجدد الحيض، وإنما أراد أيام الحيض كلها، قيل: ما قلته صحيح، وإنما ذلك كقولك: " فعل كذا أيام ورود فلان، ووروده إنما كان في ساعة، فكذلك قوله: " أيام إقرائك "، والحدث القليل ينسب إلى الزمن الطويل، وإن وقع ذلك في بعضه، وقول أهل اللغة أن القرء من قرءا إذا جمع، وقارئ هم اعتبروا الجمع ومن زمن الطهر وزمن الحيض لاجتماع الدم في الرحم فقط، ومنه القراءة، وهو ضم الحروف والكلمات بالخروج من بعضها إلى بعض، يدلك على ذلك أنه لا يقال للحرف الواحد يتفوه به قراءة، و " أقرأ النجم " إذا طلع واحد وغاب آخر، وصار القرؤ مستعاراً للوقت المنتظر، ومنه قال الشاعر:
إذا هبتْ لقارئها الرياحُ
أي لوقتها المنتظر المتعين.
وقال أخر:
يا رُبَّ ذي ضغنٍ على فارضٍ....
لهُ قرؤٌ كقُرؤِ الحائضِ
أصبحت لا رجلاُ يغدُولمطلبهِ....
ولا قعيدةَ بيتٍ تُحسنُ العْمَلاَ
وبهذا النظر سمي القوم قوماً لقيامهم بالأمور، والراجل الماشي لكونه ضارباً برجله الأرض كالسائف والرامح لمن يضرب بهما، وارتحل فلان كذا لما تناوله بسعيه مما لم يسبق إليه، وترحل النهار، كقولهم: " قام قائم الظهيرة "، والمرجل، القدر المنتصب على رجلها، وجعل بناؤه بناء الآلات والدرجة والمرقاة والمنزلة تستعار للمحال الشرفية، وذاك أن الشرف المعقول يمثل بالمحسوس على
وجهين، أحدهما يعتبر على طريق العلو والسفل، فتستعمل فيه الدرجة، والمرقاه، والصعود، والانحدار، والثاني على طريق التقدم والتأخر، فيستعمل فيه السبق والتخلف والمطلقات ضربان: مدخول بها، وغير مدخول بها ولا عدة عليها لقوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾، والمدخول بها عليها العدة،
الحوامل: وعدتهن أن يضعن حملهن، واليائسات، واللائي لم يحضن، وعدتهن ثلاثة أشهر، وذوات الحيض: وعدتهن ثلاثة أقرؤ، وهذا الحكم إذا كانت امرأة حرة فأما إذا كانت أمة فقرآن، وفي الشهور على النصف من الحرة...
إن قيل: كيف استعير لفمظ الخبر للأمر في قوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾؟ قيل: لما كانت العدة تحصل من الرأي بانقضاء الأيام، نوتها أو لم تنوها، أجدت أو لم تجد صار لفظ الخبر أملك له من لفظ الأمر، ويدلك على صحة هذا الاعتبار إتيان جميع العدد بلفظ الخبر وقوله: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ﴾ عنى كتمان ما في أرحامهن من الحيض والحبل، وأنه لا يجوز أن تكون حاملاً، فتقول: ليست بحامل، أو لم تكن حاملاً، فتقول: أنا حامل، ولا أن تدعي الحيض أو تنفيه على ذلك، وذلك عام في كل ذلك، وإن مثل كل واحد من متقدمي المفسرين لشيء من ذلك، ومن قال: لا يجور أن يكون الحيض، لأن الحيض لم يخلق في الرحم، وإنما هو دم يرد إليه من جميع البدن، فعلى هذا قوله: ﴿فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ لا يكون من صلة خلق، بل يكون من صلة قوله (ولا يكتمن)، أي: لا يكتمن في أرحامهن ما خلق الله فإنه لا شك أن يحصل في الرحم خلق فيه أو لم يخلق، ونهيها عن كتمان ذلك دال على أن قولها مقبول فيما تدعي من حيضها وحملها فيما يتعلق بحقها، فإن تعلق بذلك شي، ليس من حقها، فيجور أن لا يقبل إذا اتهمت، كمن يقول: " عبدي حر " أو " امرأته طالق إن حاضت "، فقالت: " قد حضت، فمتى لم يصدقها لم يعتق عبده ولم يطلق امرأته، وقوله: ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، فليس ذلك شرطاً في أنهن إذا لم يكن مؤمنات، يجوز أن يكتمن، وإنما ذلك تنبيه أنه مناف للإيمان، وأنه ليس من فعل المؤمن، كقوله: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، وقوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ دال عي بينة مراجعتها ما دامت معتدة، ولم يعن بالرد تجديد نكاح يشارك فيه غيره في الحال، وإنما عنى الرجعة الموجبة لبقاء النكاح بلد انقضاء الحيض التي إذا لم تكن لكان يزول النكاح، وظاهر الآية أن إباحة هذه الرجعة شريطة الإصلاح، لكن لا خلاف أنه
ولكن الأنوثية نقص جعل القوه الانفعالية أنثى، والقوة الفاعلة ذكر حتى شبهوا السماء بالفحل والأرض باللقوحة، وقالوا حديد ذكر، وحديد أنثى، وقال تعالى: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾، أي أصناماً مفعولة غير فاعله، وأما فضل حقوقه عليها، فقيل: عشرة أشياء جعل الطلاق إليه من دونها، وإباحة ضربها عند النشوز، أو هجران فراشها، ووجوب إجابتها إياه دعاها إلى الفراش، والائتمار له إذا نهاها عن الخروج، وأن ميراثه منها أكثر من ميراثها منه، وأنه إذا قذفها فله إسقاط الحد باللعان، وليس لها ذلك وأن له أن يجمع بينها وبين غيرها، وليس لها أن تجمع بينه وبين غيرة، وليس لها أن تصوم تطوعاً ولا أن تحج فرضاً إلا بإذنه، وله ذلك من دون إذنها.
وإلى وهذه الجملة أشار بقوله: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ ونبه بقوله: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أنه يحكم بكل ما يشاء، فلا يغالب لعزة، ويتقن كل ما يفعله فيصيب بحكمته، وفيه وعد وإبعاد على مجازاتهما فيما يتحريانه من صلاح وفساد..
﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
الآية (٢٢٩) - سورة البقرة.
المرة: فعلة من مر يمر مراً، ومروراً، فعبر بها لكن الفعلة، وإمرار الحبل إرساله في الفتل حتى يمر مراً، ومر الشيء صار مرا أصله من الأول، وهو فيما لا يطيب أكله، كساع فيما يطيب، وهما للذهاب، والمر الذي يعمل به استعارة، والإمساك أصله من المسك وتصور منه إمساكاً للبدن، ولما يجعل فيه بعد السلخ فقيل: (أمسكت كذا) أي ضبطته ضبط ما المسك لما فيه، وكنى بالمسك
عن البخيل، والتسريج كالتطليق في أنه من: برحت الماشية، كما أن الطلاق من: " أطلقت البعير، والمعروف مالا تنكره العقول الصحيحة، وسمي الجود معروفاً لمعرفة العقول كلها حسنه.
وعلى هذا قال الشاعر:
ولمْ أر كالمعْروُفِ أما مذاقُةُ...
فحلوٌ وأما وجهُهُ فجميلُ
وقيل: الخوف هاهنا: الظن، وقيل: اليقينُ، واحتج بقول الشاعر:
ولا تدُفنني بالفلاة فإننٍي...
أخافُ إذا مامتُّ ألاً أذوقهاً
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾، فبين أن ذلك الطلاق الذي فيه المراجعة مرتان، وأصله الطلاق مرتين، نحو الخروج مرتين، ثم رفع كقوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾، وبقول: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ منهم من حمله على الطلقة الثالثة، وروى عن النبي - ﷺ - أن بعضهم سمع الآية، فقال: فأين الثالثة؟ فقال- عليه السلام: " التسريح بإحسان.
ومنهم من حمل ذلك على ترك الرجعة " والصحيح أنه محمول عليها، لأنه يكون بالرجعة ممسكاً لها، ويتركها حتى تنقضي عدتها، أو بتطليقها الطلقة الثالثة يكون سرحاً لها، لكن لما كان اللفظ متردداً بين الأمرين بين من بعد حكمها إذا طلقها ثالثة بقوله: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾.
إن قيل: كيف جعل الإمساك هاهنا الرجعة؟ قيل: لأنه ضد الطلاق، وقد كان الطلاق موجباً للفرقة بعد مضي ثلاث حيض، فسمي الرجعة إمساكاً لبقاء النكاح به.
إن قيل: كيف علق التسريح بالإحسان؟ وهل بينه وبين المعروف فرق؟
قيل: الإحسان أعم معنى من المعروف، لأن الشيء قد يكون معروفاً، أي غير منكر، ولا يكون
فذهب بعضهم إلى أنه يكره الخلع مع سلامة الحال، لأن الطلاق مكروه إذا توفرت المرأة على ما يلزم من حكم الزوجية لقوله- عليه السلام: " أبغض الحلال إلي الله الطلاق " هذا مع إمكان المراجعة والخلع الذي ترتفع المراجعة معه أولى بأن يكره، وإن خافا ألاً يقيما حدود الله جاز بلا خلاف لظاهر الآية، وإن خافت ولم يخف الزوج، فيجوز إلاً عند أهل الظاهر، وعلى ذلك دل شأن امرأة
وقال إبراهيم: " لا يجوز حتى تعصيه ولا تبر يمينه وإن خاف هو ولم يخف ولم يرها على فاحشه "، لا يحل له أخذ شيء منها بالمخالعة لقوله- عز وجل:
﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ الآية.
وذلك في الحكم سائغ وإن كان منهياً عنه، وعند مالك يرد إليها مالها، وقال الأوزاعي؟: " إذا خالع امرأته وهي مريضة، فإن ما تبدله في ثلثها إن كانت ناشزة، وإن لم يكن ناشزة رد عليها، وكان له عليها الرجعة، فأما القدر الذي يخالع عليه " فمنهم من قال: لا يجوز إلاً بأقل من الهر المسمي لقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، وذلك يقتضي التبعيض، وقال علي والحسن وابن المسيب وطاوس وابن جبير: لا يجوز بأكثر مما أعطاها لما روي أن رجلاً خاصم امرأته إلى النبي- عليه السلام، فقال: تردي إليه ما أخذت منه؟ قالت: نعم وزيادة، فقال عليه السلام: أما الزيادة فلا..
، ومنهم من أجاز بأكثر من ذلك، وهو الأظهر، وأما عند من يجور، فإن الحسن وابن سيرين قالا: لا يجوز إلا عند السلطان، وقال فقهاء الأمصار: يجوز، لأن ظاهر الآية لم يعرف، ومن قرأ (تخافا)، فخطاب لهما، لأنهما أعرف بأحوالهما من غيرهما هل يقيمان أو لا يقيمان؟
فإذا قرئ (تخافا) (٣) على ما لم يسم فاعله، فالخطاب للحاكم، والمفتي بأن لا يحل أن يحكم للزوج
إن قيل: لم رفع الجناح عنهما وذلك يجب أن يرفع عن الزوج الذي يأخده؟ قيل: لأن من الدفع ما يؤثم الأخذ والدافع كالربا، ومنه ما يؤثم أحدهما، فبين أن الجناح مرفوع عنهما، وليس ما قال الفراء أنه لا جناح على أحدهما، فنسب إليهما، كقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ﴾ بشيء، وذكر أن كل ما بينه حدود الله، ولا يجوز تعديها، فإن من تعداها ظالم يستحق ما يستحقه..
قوله- عز وجل:
﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾
الآية (٢٣٠) - سورة البقرة.
هذا الحكم متعلق بقوله: (الطلاق مرتان)، وقدم فصل بينهما بحكم الخلع وكيفية جوازه، فلما فرغ منه رجع إلى حكم الطلاق، فقال: (فإن طلقها) أي بعد الثنتين فلا تحل له أو لا يجوز أن يتزوج بها حتى تنكح زوجاً غيره، وبين أن ليس للإنسان أكثر من ثلاث تطليقات، والنكاح الذي يحلها للزوج الأول ظاهره يقتضي العقد، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وأهل الظاهر، لكن قد ورد عن النبي -عليه السلام- ما اقتضي معه الوطء حيث قال: " حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك "، وقيل: حكمة الله
- عز وجل- في تحريمها عليه إلاً بعد أن يتزوج زوجة أخر الردع إلى التسرع في الطلاق، ولهذا دعا أن يتأنى في تطبيقها، فيطلقها للعدة طلقة بعد طلقة، ونبه على ذلك بقوله: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾.
قوله - عز وجل -:
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
الآية (٢١٣) - سورة البقرة.
هذه الآية ظاهرها إعادة حكم ما تقدم، وأنه يجوز مراجعتها بعد انقضاء العدة، وقد فسرت تفسيرين، أحدهما أن الأولى حكم بجواز الرجعة بعد التطليقة والتطليقتين، وتحريم الرجعة بعد الثالثة، وهذه تقتضي جواز رجعتها ما دامت في العده لا عن الطلاق الثالث، وفيه زيادة حكم وإن كانت تقتضي بعض ما أفادت الأولى، وهي ذكر معها من الأحكام، وقوله: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، مشكل، لأن المراجعة ثابتة قبل انقضاء العدة، وظاهر هدا يقتضي أن المراجعة بعد انقضاء العدة، ووجه ذلك أن الأجل هاهنا زمان العدة لإتمام العدة، وأيضاً، فإنه يقال إدا فعلت كذا ويعني إذا خصت لا إذا فرغت منه، نحو: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾، فقوله: فبلغن أي: حضن في زمان بلوغ الأجل، وأيضاً فقولهم: (بلغ) يقال لما شارف وإن لم ينته، فيقول: إذا طلبتم وشارفن الأجل، فأمسكوهن،
إن قيل: ولم خص المشارفة، وقيل المشارفة هذا حكمه، قيل: لما كانوا يطلقون المرأة فيتركونها حتى تشارف، انقضاء
إن قيل: كيف يصح أن يعبر لكن التزويج بالإمساك؟ قيل: إنما استعمل الإمساك في هذا للتزوج، لأنه كان بعد أن كانت تحته، وقبل أن يملكها غيره، فقال: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ تنبيهاً على هذا المعنى، أو ﴿سَرِّحُوهُنَّ﴾، أي أفرجوا عنها، ولا تخطبوها، قال: والذي يدل على هذه الآية التي بعدهما، فإنها نزلت فيمن خطب امرأة كان قد طلقها تطليقها، فانقضت عدتها، فمنعت إياه، فأوصى تعالى الخاطب في هذه أنه إن أراد أن يمسمكها بإعادة نكاحها، فليستعمل المعروف، وإلا فليحلها، وجل المفيرين على المعنى الأول،
إن قيل: لم علق التسريح هاهنا بمعروف وفي الأول بإحسان؟ قيل: إنه لا أعيد ذكر الرجعة علق التسريح بالمعروف تنبيها أنه إن لم تراعوا في تسريحها الإحسان، فراعوا فيه المعروف، كما قال بعض الناس لسلطان: " إن لم تحسن فعلاً "، وقوله: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ﴾ قيل: معناه: لا تهزوا بها، ولا تحسبوها عبثاً، نحو: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾، وقيل: معناه: لا تعملوا بخلافها، فتكونوا كالهازئين بها، وقال أبو الدرداء: " كان في أول الإسلام يطلقون ويعتقون، ثم يقولون: كنا نلعب "، والإشارة بالآية إليه، وقال عليه السلام- " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد النكاح، والطلاق، والعتاق " وحث على معرفة نعمه وما أنعم عليهم بالكتاب والحكمة..
إن قيل: كيف أفرد الكتاب والحكمة عن النعمة وهي أفضل النعم وأجلها؟ قيل: لأمرين، أحدهما: أن النعمة في تعارف الخاصة والعامة هي كثرة في المال، وصحة في البدن وسائر الزين الدنيوية، ولا يعرف الكتاب والحكمة نعمه إلا أولوا الألباب، والثاني: أفردهما التخصيص والتفصيل كإفراد جبريل وميكائيل عن الملائكة.
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
الآية (٢٣٢) - سورة البقرة.
العضل المنع مع.
تضييق، يقال: عضلت الدجاجة بيضها، والمرأة بولدها، وعلى طريق الاستعارة قال:
ترى الأرض منِا بالفضاءِ مريضةَ...
معُضلةً منا بجمعٍ عرمْرمِ
ومنه: داء عضالٌ،
والعضلة الدامية، والعضلة لحم مكتنز في عصب، وبلوغ الأجل هاهنا لاستيفاء العدة ولما بين تعالى بالآيات المتقدمة ما يجب على كل واحد من الزوجين لصاحبه في النكاح، وعند المراجعة والفدية والفراق والطلاق عدل إلى بيان ما يلزم الولي، وما يحرم عليه في تزويجها وإنكاحها، وقيل: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ خطاب للأختين، وعضلها أن يراجعها إضراراً بها، والصحيح أنه خطاب للأولياء، بدلالة ما روي: أن الآية نزلت في معقل بن يسار وكانت أخته تحب ابن عم له، فطلقها طلقة فلما انقضت عدتها خطبها، وهي تريد أن ترجع إليه، فقال معقل: والله لا أزوجها أبدا، فأنزل الله تعالى هذه الآية فدعاه النبي- عليه السلام، فتلاها عليها فقال: " سمعاً لربي وطاعة " والحكم الوارد في سبب
وأما المعروف المتراضي به في قوله تعالي: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فعام في كل ما يرجع إلى العقد، لقدر الهر وما يظهر من الرعية وخلافها، وما يعاون الزوجية مما صححها، وفي كل ما يرجع إلي حقوق الزوجية، فألزم الولي أن لا يعضلها إذا تراضوا بما هو معروف، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ فخص المؤمنين بالوعظ، وهو أنه يريد حصول الاتعاظ، وليس ذلك إلا للمؤمنين، وقوله: ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ زكاة الإنسان وطهارته في حقيقة كونه بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة عظيم المثوبة، وأن يصلح في الآخرة لمجاورة الله الأعلى بل مجاورة الله- عز وجل - ولهذا قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾، وقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾، وجعل تعالى الدلالة على أن ذلك أزكى وأطهر أنه قد حكم بذلك وهو عالم بالأشياء كلها وأنتم غير عالمين بها، فإذا علم وحكم فحق عليكم أن تقبلوا منه حكمه،
إن قيل: لم قال: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ ثم قال: ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى﴾؟
قيل: في ذلك أجوبة..
أحدها:
أن كاف الخطاب مع (ذا) تارة تفيد الخطاب، فيراعى فيه المخاطبون فيثني، ويجمع، ويؤنث بحسبهم، وتارة يعتبر به الفرق بين القريب والبعيد، فليقال: (ذا) لما يتصور قريبا، و (ذاك) لما يتصور بعيدا، فلا يثنى ولا يجمع، فعلى هذا؟ (ذلك)، و (ذلكم).
قوله - عز وجل -:
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
الآية (٢٣٣) - سورة البقرة.
الرضاع أصل، وعنه استعير " لئيم راضع " لمن تنامي لؤمه وإن كان ذلك في الأصل ممن كان يرضع غنمه، لئلا يسمع صوت شخبة، لكن تعورف في اللؤم، حتى قيل: " رضع فلان أي لؤم "، وسمي الثنيتان الراضعتين، لاستعانة الصبي بهما في الرضع، (وكسوتهن) عن الكسوة استعير: اكتست الأرض بالنبات، وكسوته ثناء أو هجاء، وصار الكساء لضرب مخصوص من الثبات.
والتكليف أصله فيما جعلت به الإنسان كلفاً، وصار في التعارف لما ألزمته وأكلفته بكذا جعلته كلفاً به، والكلف بالوجه لتصوره كلفه به، والميراث أصله فيما أصبته من غيره حيا كان الموروث منه أو ميتا، لكن صار في التعارف اسماً لا يخلفه الميت من المال، والفصل ضد الوصل كالفضل، واستعماله في قطع الرطب من النبات، ومنه الفضيل، يقال: فصلت بين الكلام والعقد، وفي القضاء، وسمي الفطام فصالاً للفصل
فإن قيل: فإذا لم يكن أمرا فما وجهه؟
قيل أخبر الله تعالى أن حكم الله في ذلك أن الوالدات أحق بإرضاع أولادهن سواء كانت في حبالة الزوج أو لم تكن، فإن الإرضاع من خصائص الولادة، لا من خصائص الزوجية، ولهذا قال عليه السلام: في الأمر إنها أحق بالولد ما لم تتزوج، وإنما ذكر (كاملين) لأنه قد يقال: " فلان فعل كذا سنتين " وإن كان ذلك في سنة وبعض الأخرى، وكذا يقال: شهرين ويومين، فأريد إزالة هذه الشبهة، وقال الفقهاء: لما جعل الرضاع حولين وقال في موضع: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾، نبه على أن الولد قد يولد لستة أشهر، وفيه تنبيه على لطيفة، وهو أن الولد متى كان زمان حمله وفاصله أقل ثلاثين شهرا أضر ذلك به، فإذا ولد لسبعة أشهر لم يضره أن ينقص رضاعه عن الحولين، وجعل ابن عباس ذلك حكما شرعياً، وقال: يجب أن يكون الحمل والرضاع هذا القدر، وقوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ أي هذا التوقيت ليس بفرض، لكن لمن أراد إتمام الرضاعة، وفيه تنبيه أنه لا
يجوز تجاوز ذلك وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين ويقويه ما روي جابر أنه قال عليه السلام:
وإنما أمهات الناس أوعية...
مستودعات وللأحساب أباء
وبين تعالى أن رزق المرأة المرضعة، أي طعامها وكسوتها على الأب إذا أرضعته زوجة كانت أو مطلقة، وفيه تنبيه أن سائر نفقة الولد، على الأب لكن أجمعو أن الولد إذا كان له كفاية، فللأب أن لا ينفق عليه، وقوله: بالمعروف تنبيه، على أن النفقة بقدر اليسار والإعسار، وجعل ذلك مؤولا إليهم وإلى الحكام، ولم نجد فيه حدا لاختلاف الناس بقدر الأزمنة والأمكنة والسن وأكد ذلك بقوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ فلم يسم الفاعل، وقال في أخرى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ قيل: هذا التكليف فيه مدخل للحكام، ولغيرهم فجعل لفظه منهما في موضع، ومعناه لا يجوز تكليفه إلا وسعه، وقوله: ﴿لَا تُضَارَّ﴾ حمل على الجبر، وعلى الأمر، فأما إذا حمل على الجبر فهو تنبيه على ما بني
وقوله: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾ أي فطاما قبل الحولين وقيل: عنى بالفصال المفاصلة عن الوالدة أو الوالد إذا تراضيا بذلك وسلمه أحدهما إلى صاحبه، وعلق ذلك بالتراضي منهما والتشاور لئلا يقدم أحدهما عن غيرة إلى ما يضر بالولد، ونبه بذلك أن كل أمر مبهم العاقبة، فالوجه فيه الإقدام عليه بعد إجماع الآراء والاستشارة، وقوله: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾، أي إذا امتنعت الأم أو
قوله - عز وجل:
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
الآية (٢٣٤) - سورة البقرة.
هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ وإن كانت
وقد روت أم سلمة أن سبيعة بنت الحارث ولدت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة، فأمرها رسول الله - ﷺ - الله بأن تتزوج، واختلف في الوقت الذي يعتد به من العدة، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر " تعتد به من يوم يموت "، وعلي والحسن: " من يوم يأتيها الخبر "، وقال الشعبي: إذا قامت البينة على موته فالعدة من يوم يموت، وإلا فمن يوم يأتيها الخبر والصحيح أنه يعتبر من يوم الوفاة فيه وقع الفرقة، كعدة المطلقة وكاستحقاقها الميراث من يوم الوفاة
إن قيل: ما وجه تخصيص عدة المتوفاة بهذه المدة؟ قيل: قد ذكر الأطباء أن الولد في الأكثر إذا كان ذكرا يتحرك بعد ثلاثة أشهر وإذا كان أنثى فبعد أربعة أشهر، فجعل ذلك عدتها، وزيد عشرة استظهارا وتخصيص العشرة بالزيادة لكونها أكمل الأعداد وأشرفها لما تقدم في قوله تعالى:
الأول: تقديره: يتربصن بعدهما، وذلك عن المبرد والثاني أن الضمير في: (يذرون أزواجا) أي أزواجهم، ويتربصن عاد إلى الأزواج، والضمير إذا عاد إلى المضاف إليه كان في حكم ما عاد إلى المضاف، وذلك مثل قولهم:
(من مات وحلف يتبين الثلثين)، وذلك عن الزجاج وعلى هذا يجب أن يجوز: (صاحب الدار انهدمت)، والثالث: عدل عن الإخبار عن الأزواج، لأن المعنى عليه، والفائدة فيه والقصد إليه، وذلك عن الكسائي والفراء وأنشد في ذلك:
لعلي إن مالت بي الريح ملية....
على ابن أبي دبان أن يتندما
فسكت عن ذكر خبر لعل، والرابع: تقديره: (ويذرون أزواجا يتربصن) فيكون أزواجهم مبتدأ -، ثانيا: (ويتربصن) خبره، لكن حذف المبتدأ الثاني إيجازا لا لم يشتبه المعنى، وإنما قال عشرا ولم يقل عشرة لتغليب التأنيث التذكير في باب التاريخ، وقال بعض النحويين: إن باب التأنيث غلب في باب العدد على عكس ما عليه حكم الباب، وعلى ذلك
" فطافت ثلاثا بين يوم وليلة
﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾
الآية (٢٣٥) - سورة البقرة.
الخطبة والخطبة كلاهما من المخاطبة، إلا أن بالضم خص لموعظة، وبالكسر لطلب المرأة، وإن كان في الأصل اسما للحالة التي عليها الخاطب، والخطب: الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، والكن جعل الشيء في الكن، والأكنان مثله ولكن خص الأكنان بما تكنه الصدور، والكن ما يكنه البيت والثوب ونحوهما، وسميت المتزوجة كالمحصنة كنة، والكنانة جعبة غير مشقوقة تكن سهامها، والسر مما لم تشيعه مما في نفسك واعتبر تارة مما يستنكف من إظهاره، فسمي غشيان المرأة به، والاعتبار بذلك.
قال الشاعر:
والستردون الفاحشات ولا....
تلقاك دون الخير من ستر
وتارة اعتبر بصيانته، فسمى المصون سراً حتى قيل:
فلان في سر قومه، والعقد يقال في الحبل وفي العهد واليمين والسميط والرمل المتداخل، و " ناقة عاقد " عقدت على رحمها بمنع الفحل عن نفسها والتعريض كالكناية إلا أن التعريض أن تذكر ما يستفهم المقصود من عرضه وليس بموضوع للمفهوم عنه لا أصلا ولا نقلاً، والكناية: العدول عن لفظ إلى لفظ هو بخلف الأول ويقوم مقامه، ولهذا سمي الأسماء المضمرة في النحو الكنايات، والخوالف، والتعريض المفسح فيه هاهنا كل لفظ وإشارة تدل على النكاح لا بصريحه نحو أن يقول: أريد التزوج،
قال ابن عباس: وابن جبير والشعبي ومجاهد هو تصريح الوعد بالنكاح، وقال الحسن وجابر، الزني وقال زيد بن مسلم لا تنكحوها في عدتها، واللفظ محتمل، ولكن الأظهر ما قال ابن عباس، لأن ذلك لم يستفد إلا بهذه الآية، فأما خطر الزنى ففي كل حال، والمنع عن التزوج بالمعتدة معقول من غير هذه الآية، ويصح حملها على كل ذلك، فقد نهينا عن جميعه، وقوله ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ أي لما علم رغبتكم فيهن وخوفكم أن يسبقكم إليهن غيركم، أباح لكم التواصل إلى مرادكم بالتعريض وليس النهي عن العزم نهيا عن حكم الضمير، فقد أباح لنا التعريض فضلاً عنه، وإنما عنى بت القول، وقوله: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ أي تنقضي العدة والكتاب عبارة عن المدة المفروضة أو أريد حكم الكتاب، وقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ دل على معنيين، أحدهما: ما في قوله: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾، والثاني: ما في قوله: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، تنبيها أنه علم شرور أنفسكم، ثم حذرنا منه كقوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾، ثم رجانا غفرانه، وسكن منا بما أنبأنا من حلمه بقوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾، واللفظان: أعني ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾، وقوله، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ وصف به أولياءه في قوله: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾
﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾
الآية (٢٣٦) - سورة البقرة.
المقتر: الفقير، وأصله من ينال القتر، كما أن المترب والمرمل أصلهما من نال التراب والرمل، والقتار ما يحمله الريح من رائحة القدر على العثان والغبار، فدخل قاتر خفيف، كأنه قتر في الخفة، وذلك لقولهم: هو في الخفة هباء، والقترة ناموس الصائد اعتباراً بأنه حافظ لقتار الإنسان أي ريحه، وذلك أن الصائد يجتهد أن يخفي عن الوحش ريحه فصلاً عن شخصه لئلا يند عنه، ، وأبي قرة لحيته صغيرة الجرم خبيثة الأثر، وتسميتها بذلك على حسب اعتقادهم أن الحية كلما ازدادت سنا وخبثا صغرت جرماً وجسماً ولهذا قال الشاعر:
ذاهيةٌ تصغزُّ منها الأنامَلُ
وقال: دُوَيهيةٌ تصفَرُّ منها الأناملُ
فأتى بلفظ التصغيير لما أراد تعظيم الوصف، وكثرة الماس والمماسة في الكناية عن الجماع حتى صار كالصريح، والمتعة اسم لكل ما فيه تمتع أو انتفاع قدراً من الزمان، وعلى ذلك قوله: ﴿وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾، وقول الشاعر:
'نما نعْمَةُ المرءِ مُتعةٌ...
وحَيَاةُ المرءِ ثوبٌ مُستعارُ
إن قيل: ما في قوله ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ يقتضي الشرط، وذلك يوجب أن رفع الجناح عن المطلق بشرط عدم المماسة وعدم الفرض، ومعلوم أن الجناح مرفوع عن المطلق، مسها، أولم يمسها، فرض أولم يفرض، فما وجه ذلك؟ قيل: القصد بالآية أن الجناح مرفوع بإعطاء المتعة، فكأنه قيل: لا جناح في طلاقها إذا متعها، ودل على ذلك بقوله: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾، وقد علم أن الجناح غير مرفوع عمن لم تمتع إذا طلقها قبل الفرض والمسيس، وقوله: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ أي قدر ما يحتمل حالاهما...
إن قيل: ما وجه تخصيص المحسنين في هذه الآية، والمقتر في قوله: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، وهلا دل ذلك على أنه غير واجب إن كانت الواجبات من المشروعات لا يختلف فيها المتقي والمحسن وغيرهما، قيل: قد نظر بعض الناس هذا النظر، وقال: لما كان الإحسان قد يكون لما يريد على الواجب، وقد خص بذلك المحسنين دل على أن ذلك حق على المعروف لا إيجاب، وقال أكثرهم: إن ذلك للمحسنين والمتقين لا لتخصيص الإيجاب، بل للتأكيد، وأنه من تمام الإحسان والتقوى، كما أن قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ ليس بتخصيص أنه لا يهدي به إلا المتقين، لكن يبينه على أن الاهتداء به من تمام التقوى.
﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
الآية: (٢٣٧) - سورة البقرة.
النصف كل واحد من الجزئين المتساويين من مقدار واحد، وتصور هذه القسمة المستوية، فسمي العدالة نصفاً والنصف بين المسنة، والصغيرة كأنها هي التي استوفت نصف العمر والناصف الخادم المبالغ في الخدمة كأنه ينصف صاحبه أي في الخدمة بقدر ما يستوفي عنه من المنفعة، والنصيف للخمار بين الصغيرة والكبيرة، والمنصف ما أعيد إلى النصف بالصبح، والنصيف ضرب من المكيال، لكونه عادمها، أو كونه بين بين...
(والذي بيده عقدة النكاح)، قيل: هو الولي الذي كان ما لكان للعقد في الأصل وقيل الزوج الذي هو مالك للعقد في الحال، وهو أولى، لأن الولي يملك العقد، والزوج هو الذي يملك العقدة لأن العقدة اسم للمفعول كضحكه وهزأه، وعفو المرأة أن تترك الهر أو تسامح، وعفو الزوج أن يوفيها كله أو فضلاً عما تستحقه من النصف فإن قيل جعل الذي بيده عقدة النكاح للولي، فكيف يصح منه العفو عما تستحقه المرأة، قيل: قد قال الشافعي: إن ذلك مخصوص في الصغيرة إذا كان وليها أباها أو جدها...
إن قيل: العفو في الترك لا في الإعطاء، والزوج هو المعطي، فكيف يصح منه العفو؟
قيل: إن ذلك في العفو عن الشيء لا في العقوبة، وقد يقال: عفي فلان بكذا إذا بذل، والصداق المفروض تستحق المرأة أخذه بالعقد، فإن أخذبه، وإلا ففيي حكم المأخوذ، فإذا عفي به كملا، فكأنه قد عفي عنه، ودل قوله تعالى: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أن المرأة متى فرض لها بمثل العقد، ثم طلقت قبل الدخول، فلها نصف المفروض بخلاف ما قال أبو حنيفة أن المفروض يسقط وتجب المتعة، وقوله: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا﴾ وأن كان بالقصد الأول حثاً للزوجين على التسامح خطاب عام لهما ولكافة الناس وحث
قوله - عز وجل -:
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾
الآية: (٢٣٨) - سورة البقرة.
الحفظ والتعقد والتعهد والرعاية والحماية والصيانة متقاربة، لكن الحفظ أعلم ذلك، والتفقد حفظه، أي تفقد وكأنه مطلب في كل حال، بل فقد إشفاقاً عليه، والتعهد تجديد العهد به حالاً فحالاً، والرعاية حفظ ما به قوامه، كرعي الغنم للحماية حفظه عما يريده بسوئه..
، والصيانة: صيونة بما تقيه، والوسط معروف يقال بوسط فلان القوم سبطهم، وقد تصور الوسط على وجهين، محمود ومذموم، فاستعمل فيهما، أما المحمود فالمصون من الإفراط والتفريط، كالعدل، ولهذا قيل للعدل الوسط والسواء والنصف، وأما المذموم، فيتصور شيء له طريقان: محمود، ومذموم، فالسالك من الطرف المحمود إلى الطرف المذموم إذا انتهى إلى النصف، فقد فارق المذموم، فكنى به عن الذم، وأما أصل " القنوت " القيام على سبيل الخضوع، ولما كان الخضوع في يكون بالدعاء والتضرع، وبالإمساك عن الكلام، ويخفض الصوت، وغض البصر، وبذل المال فنبه بكل واحد من ذلك وسمي الدعاء بعد الركوع قنوتاً، والصلاة الوسطى الظهر عن زيد بن ثابت، وابن عمر كأنها اعتبرت بالنهار، وكونها في وسطه، والمغرب عن قبيصة بن دويت، لكونها وسطا بين الركعتين والأربع اللتين بنى عليهما عدد الركعات، والصبح عن جابر، لكونها بين صلاة الليل والنهار، قيل: ولهذا قال: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ أي صلاته، فخصها بالذكر، لكثرة الكسل عنها، إذ قد تحتاج إلى القيام إليها من لذيذ النوم، ولهذا زيد في أذانه: (الصلاة خير من النوم)، وقيل: هو العصر فيما
علياً عن الصلاة الوسطى، فقال: كنا نرى أنها صلاة الفجر، حتى سمعت رسول الله - ﷺ - يوم الخندق
يقول: " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم أو قبورهم ناراً "، وروي البراء أنه كان يقرأ: " حافظوا على الصلوات وصلاة العصر "، ثم نسخ بقوله: الوسطى، وفائدة تخصيصها بالذكر، لأن وقتها في أثناء الأشغال العامة الناس بخلاف سائر الصلوات التي يكون فراغ ما إما قبلها، أو بعدها، ولذلك توعد النبي - ﷺ - بتركها، فقال: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله "، واستدل بهذه الآية بعض الشافعية أن الوتر ليس بواجب، لأنه لو كان واجباً لكان أعداد الواجبات ستة، فلم يكن لها وسطى، وقال بعض المتأخرين: الصلاة الوسطى إشارة إلى النوافل المشروعة بين المكتوبات إما قبلها، وإما بعدها وإما قبلها وبعدها، وقال بعضهم:
عنى بالصلوات أنواعها كلها، فرائضها ونوافلها المؤقتة، والمشروعات عند أسبابها كالخسوفين، والاستسقاء، والنذر، فأمر تعالى بالمحافظة على جميعهما، ثم قال: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ أن الفرائض، ومعنى الوسطى: الشريفة، فخصها بالذكر مع دخولها في العموم، ثم أعقبه بقوله: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ وبقوله: (فإن خفتم) - تنبيها أن فعلها واجب بحسب الإمكان في جميع الأحوال، والمحافظة عليها مراعاة وقتها وتوفية شرائطها في أدائها كما ذكر في إقامتها في قوله: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾.
وهلا أفرد عن ذلك؟ فإن إفراد كل باب من الحكم أحسن في الترتيب من خلط بعضه ببعض، قيل: أما أولانا: فآيات القرآن منزلة حسب الحاجات، ولهذا قال الكفار:
﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ أعلمهم أنه فعل ذلك ليقوى عليه الصلاة والسلام- على تلقينه وتلقنه فقال: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾، ثم إن الله تعالى لا يخلي شيئاً يذكره مما تعلق بالأحكام الدنيوية إلا ويقرنه بحكم أخروي لينبههم إلى مراعاة الآخرة في جميع أحوالهم وأعمالهم، وأنها هي المقصودة بالقصد الأول وسائر ما يتحرى، فلأجلها، على أن ما يرونه موجود هاهنا ومحفوظ، وأبلغ وأحسن مما راعاه أصحاب القوانين، لأنه لما حثهم على العفو ورغبهم في المحافظة عي الفضل، عرفهم أن السلوك إلى التخصيص بذلك هو المحافظة على الصلوات في كل حال، فإن الصلاة هي الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر، كما قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، ثم صرف الكلام إلى ذكر ما كان بصدده، فتممه، وهذا النحو من جنس ما يسمى بـ التفات المعدود في بديع الكلام..
قوله تعالى:
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾
" الآية (٢٣٩) - سورة البقرة..
الركوب: كون الشيء فوق أخر، يقال لكل مركوب ركوب، وخص الراكب في تعارف العرف يمتطي البعير، وسمى المطية ركاباً، وما يجعل الراكب رجله فيه ركاب، وأركب المهر، بحيث يركب، وتعورف المركب، والمركب فيمن ركب فرس غيره، وفيمن يعجز عن الركوب من قوله: ثم الطيور المركبا والركبة: بهذا الاعتبار سميت، وقيل: " فرس أركب، أي " عظيم الركبة، وركبته: أصبت ركبته،
نساء رجال، كما يقال: رجالُ رجالٍ، أمر تعالى بفعل الصلاة على الوجه الممكن.
وعلى هذا دل قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وعلى هذا قوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ وجعل بعضهم الذكر هاهنا مخصصاً بالصلاة، وجعله بعضهم عاماً فيه وفي غيره من الأذكار، وحث على ذكره والصلاة كيفما يقتضيه ما علم من الأحكام وسائر العلوم.
قوله- عز وجل:
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
الآية: (٢٤٠) سورة البقرة.
عامة المفسرين على أن قوله تعالى:
﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ أمر من الله عز وجل- بأن يوصي الرجال للزوجات أن تعمر بعد وفاتهم حولاً، وقالوا: اقتضت الآية ثلاثة أحكام: عدة سنة ونفقتها، وسكناها في تركة زوجها مادامت معتدة، وكونها ممنوعة من الخروج، فنسخ منها ما زاد على أربعة أشهر وعشر بالآية المتقدمة، ونسخ وجوب الوصية لها ما به الميراث، ولم يثبت نسخ للخروج، فصار دلك ثابتاً في العدة الثانية، وقال بعض المتأخرين:
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ مبتدأ، وما بعده إلي قوله: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ في صلته وفي قوله: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ في موضع الخبر، ودخول الفاء فيه لكون المبتدأ موصولا، نحو: " الذي يأتيني فله درهم "، وهذا الوجه صحيح من وجه، حيث اللفظ وعلى ما عليه الحكم، لكن عامة السلف في تفسيرها على ما تقدم، ويوضح ذلك أن امرأة أتت النبي - ﷺ -، فذكرت أن بنياً لها توفي عنها زوجها اشتكت عينها، وهي تريد أن تكحلها، فقال رسول الله - ﷺ - الله: " فقد كانت إحداكن تلبث سنة، ثم ترمي ببعرة عند رأس الحول، فهلا أربعة أشهر وعشراً "
وذكر رواية بنت أبي سلمة أن المرأة كانت إذا توفى بها زوجها دخلت خيشاً، ولبست شرشابها، ولا تمس طيبا حتى تمر سنة، ثم تؤتى بدابة، حمار أو شاة أو طير، فتقتص له، فعل ما يقتض شيئاً إلامات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها، ثم تراجع ما شاءت من طيب أو غيره..
إن قيل: لم قال في هذه الآية، وفيما قبلها: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾؟، فرفع الجناح عن الرجال فيما فعلن، وذلك يقتضي أن يزر أحدنا وزر الآخرة، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾.
أحدهما: أن النساء لما كن تابعات للرجال، وتحرر أمرهم، صار الجناح في كثير مما يفعلن راجعاً إليهم إذا لم ينهوهن، ولهذا قال: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ والتاني: أن ما يشير إليه، فإنهن يفعلن في أنفسهن هو أمر يتعلق بالرجال، فلا يمكنهن أو يساعدوهن وكل موضع اجتمع مذكر ومؤنث أو مخاطب أو غائب، فالحكم في اللفظ للمذكر والمخاطب دون المؤنث والغائب، فلهذا قال: عليكم إن قليل: لم قال هاهنا ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾، وقال فيما قبله (بالمعروف)، وقال هاهنا: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، وفي الأول: (والله بما تعملون خبير)؟
قيل: إن " من " والباقي مثل هدا الموضع يتقاربان حكماً، وإن كانا يختلفان من حيث العربية تقديرا، فقوله: ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ إباحة لجنس الأفعال المعروفة، أي المباحة لجنسه، وقوله: (بالمعروف) في موضوع الحال، وهو إباحة لما فعلته على شريطة تحري المعروف وقال ههنا: لما ذكر ما هو تعريض التغيير أو غيره على التفسير المتأخر، قال: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ تنبيها أنه تعالى قادر على تغيير ما يغير غير لاحق به مضرة من مخالفتكم له، ولا منفعة في موافقتكم إياه أمره وحكمته في تغييره، وقال في الحكم المقرر عليهم على التأييد، (والله بما تعلمون خبير) - تنبيهاً أن من قصر فيما رسمه، فمجازى به..
قوله- عز وجل:
﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ - الآية: (٢٤١) - سورة البقرة
إن قيل: ما وجه تكرير.
" ذلك " وتخصيص " المتقين "؟
قيل: من المفسرين من جعل هذا المتاع للمطلقات عامة على سبيل الاستحباب، لا على الإيجاب،
قوله- عز وجل:
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ الآية: (٢٤٢) سورة البقرة.
نبه أنه كما بين لكم هذه الأحكام يبين لكم سائر الآيات العقلية والسمعية لتكونوا أقرب إلى استعادة العمل المكتسب وقد تقدم أن أمير المؤمنين قال: العقل عقلان: مطبوع ومسموع ولا يصلح أحدهما إلا بالآخر، فالأول هو الذي يتعلق به صحة التكليف المتناهية بقوله عليه الصلاة والسلام:
" إن الله لما خلق العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك بك أخذ، وبك أعطي ".
قوله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾
الآية: (٢٤٣) - سورة البقرة.
رأيت: تتعدى نفسه دون الجار، لكن لما استعير قولهم ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ لمعنى: (ألم تنظر) عدى تعديته وفائدة استعارته أن النظر قد يتعرى عن الرؤية، فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له، وقل ما استعمل دلك في غير التقرير، ولا يقال: رأيت إلى كذا، وكما أن الرؤية ضربان، رؤية بصر، ورقية بصيرة، كذا أيضا النظر والإبصار، وألوف جمع ألف كشخوص، وعيون وقيل جمع ألف كحمول، وحلوم، وروي في الخبر أن قوماً من بني إسرائيل خرجوا من ديارهم- تفاديا من الطاعون فأماتهم الله، ثم أحياهم ليعرفهم عيانا تحقيق مادل عليه قوله: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ وقوله: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾ وقوله: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ
ألم تر أن جمع القوم يخشى..
وأن حريم واحدهم مباح
ومن جعله جمع ألف، فنظر إلى نحو قولهم: " لن يعجز القوم إذا تعاونوا " ومن جعله جمع ألف، فقد قيل: كان عددهم أربعة آلاف عن السدي، وقيل، كانوا أكثر من عشرة آلاف عن ابن عباس والحسين والضحاك، وهو الأصح، لأن ذلك جميع للكثير ولو كانوا أقل من عشرة لقتل آلاف، وقيل: معنى أماتهم: ذللهم تذليلاً يجري مجرى الموت فلم تغن عنهم كثرتهم وتظاهرهم من شيئاً، ثم أحياهم، أي أعانهم وخلصهم ليعرفوا قدرة تعالى في أنه يذل من يشاء، ويعز من يشاء، وتسمية الشدائد موتاً، لكونها أعظم الموتين، كما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت..
إنما الميت ميت الأحياء
وقيل: أشد من الموت ما يتمنى له الموت، وقيل: عنى بالموت الجهل، والحياة العلم، وقال ابن عباس في قوله: ﴿أو من كان ميتا فأحييناه﴾ أي: جاهلاً فعلمناه كما يحيا الجسد بالروح، ووصل ما أراهم من الآية العظيمة من إحيائهم بذكر ماله عليهم من النعمة وقلة شكرهم له..
، وقوله:
إن قيل: لم أعيد ذكرا الناس ولم يقل: (ولكن أكثرهم)؟
قيل: لأن الناس في الأول عام لكون نعمته على جميعهم، وفي الثاني خاص للمكلفين، لأنه لا يلزم شكرهم غيرهم، فكأنه قيل: ذو فضل على جميع الناس، ولكن أكثر المكلفين لا يشكرون..
إن قيل: لم خص النبي - ص - الله بهذا الخطاب، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ وقال: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾؟
قيل: لأن ذلك لما كان من الاعتبارات التي تخفي إلا على ذوي البصائر من الأنبياء ومن يدانيهم في العلم ولم تكن من المحسوسات المشاهدة، وخصه بالخطاب، وفي الآية الأخرى ونظائرها لما كانت من الأمور المحسوسة عمهم بالخطاب.
قوله - عز وجل:
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ سورة البقرة الآية (٢٤٤)..
قل: تقديره (وقيل لهم بعد ذلك: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، ولفظ الحكاية مقدر، وقيل: إن ذلك خطاب منه تعالى لهذه الأمة، وأنه لما قرر بالآية المتقدمة في أنفسهم أن الفرار لا يزيد في الأجل، حثهم بهذه على المجاهدة في سبيله، ولم يعن الأعداء المجاهدين فقط بل عناهم وأقرب الأعداء إلى الإنسان وأصعبها دفاعاً وأكثرهم أذى الهوى المدلول عليه بقوله عليه الصلاة والسلام: " جهادك هواك "،
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى..
فكيف بمن يرمي وليس برامي
وعلى هذا قولخ - عز وجل: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾، وقوله ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾.
قوله - عز وجل:
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ الآية (٢٤٥) - سورة البقرة.
القرض: القطع بالناب، والمقراض، واستعير لصنعة الشعر استعارة اللوك والمضغ في نحو قول بعضهم:
" جزيتك ضعف الود " أي مثلي ودك في القدر، وضعفا الشيء مثله ثلاث مرات، إلا أنه إذا قيل: ضعفان، فقد يطلق على الاثنين المثلين في القدر من حيث أن كل واحد يضعف الآخر كما يقال الزوجان، ويكون كل واحد زوجاً للآخر..
إن قيل: الضعف والضعف يشتركان في الاشتقاق، قيل: كلاهما اعتبر فيه معنى المماثلة في القدر، إلا أنه جعل الضعف لما يزاد عليه، والضعف لما ينقص منه، واستعمل فيهما أضعفت، وضعفت، وإن كان التشديد في الضعف أكثر، وضاعفت في الضعف لا غير، وفرق بينهم تضاعف وتضعف، فقال التضعيف لما جل مثلين، والمضاعفة لما زيد عليه أكثر من ذلك، ولهذا قال أكثرهم (فيضاعفه) بالألف، ولما حث الله على المجاهدة في سبيله وذلك ببذل المال والبدن والنفس سمى ذلك قرضاً كما سماه بيعاً واشتراء في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ الآية وسماه إحساناً في قوله: (واحسنوا) كل ذلك استعطافاً لعبده واستلطافاً، وسمع أعرابي قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ فقال " أعطانا فضلاً، وسألنا منه قرضاً ليرد إلينا أكثر وأوفر منه، إنه لكريم " وسمع ذلك أبو الدحداح، فسأل النبي - ﷺ إن تصدقت بحديقتي أفلي مثله في الجنة؟ قال: نعم.
قال: ومعي أم الدحداح ودحداح؟ قال: نعم، وكان له حديقتان، فتصدق بأفضلهما..
قيل: استعمال ذلك فيه كاستعمال الجود، وقد قال أبو الدرداء " أقرض من عرضك ليوم فقرك " وفي قوله: ﴿حُسْنًا﴾ إشارة إلى كل ما يصون الإفضال عما يشينه من منة ومراءاة وغير ذلك وقوله ﴿يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ قيل: " يسلب تارة، ويعطي تارة "، ونحوه نظر من قال: فكيف يوفيه وثانية هاديه، وقيل: يسلب قوماً ويعطي قوماً، ونحوه نظر الشاعر في قوله:
ويسلب قوما ويثري آخرين..
به الله من ذا يستعمر وباري
وقيل: يقتر ويوسع، وقيل: يقبض الصدقات ويخلف البدل مبسوطاً أن كثيراً، وقيل: يضيق صدور قوم ويشرح صدور آخرين، كقوله: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾، وقوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ وقد تقدم الكلام فيه، وذكره ها هنا توعد..
قوله - عز وجل:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ الآية: (٢٤٦) - سورة البقرة.
قوله عز وجل:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى الملأ جماعة شريفة، وذلك اعتبار بالامتلاء كأنهم يملون العين رواء ومنه قيل: شاب مالئ العين، ومالأته: عافيته: أي صرت من ملائه أي جمعه، كقولك: شايعته أي: صرت من شيعته، وفلان ملئ بكذا من الامتلاء، وعلى الوفاء، وهو تمام العهد، واشتقاق
وقال الشاعر:
" فقلنا أحسني ملأ جهينا "، فكأنه سمي الخلق بذلك لكونه مليا باراً، في ذاته وعلى ذلك قال الشاعر:
كل امرئ يبدي الذي في خلقه
وقال: كل امرئ راجع يوماً بشهية
والملك لمن جمع أربعة معان:
" العلم، والقدرة، والسياسة، وعدداً يسويهم "، وبيان ذلك أن الأمر بالعلم مدبر، وبالقدرة ينفذ، وبالسياسة ينظم، وبالجمع بحفظ، ولهذا كان الله الملك الحق، ومن عدله فكالظل له، ولهذا قال: " السلطان ظل الله في الأرض " أي خليفته، ومحفوظة كالظل الذي يظل، ولا يصح استحقاقه إلا لمن قام بحقه على مقتضى الشرع ولأجل تعذر القيام بذكره التسمية به، لأن المتسمي بالملك ما لم يوف حقه لابس ثوبي زور، وتكلف للناس التقول به وسألهم إياه الملك ليقابلوا معه لعلمهم أن منزلة الملك من الرعية منزلة الرأس من الجسد الذي لا قوام له إلا به.
كأن الخلق ركب في مثال..
له جسد وأنت عليه رأس
وقوله: (يقاتل) متى جزم، فجواب، وإذا رفع فاستئناف، وقرئ (يقاتل) على وصف الملك، وقوله: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ أي: هل طمعتم في أنفسكم أن تقوم بذلك وأن لا تجن؟ قالوا: وما لنا ألا نقاتل؟ أنكروا أن يكون منهم تضجيع في قتال أعدائهم، فجعل حجتهم شيئين هما غاية ما يحنق، وهو انزعاجهم عن مقارهم الذي هو شريك القتل، وقيل الولد الذي هو أصعب على الإنسان من قتل نفسه، وفي حكاية ذلك إشارة إلى ذمهم من وجهين أحدهما أنهم قالوا: أن تكلفوا، وقد قيل: فلما قام الإنسان بواجب التزامه، ابتدأ ولهذا لما روجع النبي - ﷺ - في الحج، فقيل: ألعامنا هذا؟ أم للأبد؟
قال: بل للأبد
إن قيل: لم أدخل (أن) في قوله: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ﴾ ولم يدخله في قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ﴾؟
قيل: إن قولك (مالك، ومالنا) تجئ مرة للإنكار وعليه قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ﴾ في موضع الحال نحو قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ والثاني بمعنى: (ما منع) وعليه هذه الآية، فلابد إذن من " أت لا " تقديره: (ما منعنا من ترك القتال قال أبو العباس: " ما: نفي ها هنا، كأنه قيل: ليس لنا أن لا نقاتل " وقال الأخفش: أن زائدة، ويجوز أنه أدخل (أن) في قوله: ألا نقاتل لكون القتال مستقبلاً، ولم يدخل في قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ﴾ لكونه حالاً، لأن " أن " لأحد المعدومين..
قوله - عز وجل:
﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ الآية (٢٤٧) - سورة البقرة.
كان بنو إسرائيل اعتقدوا أن الملك يستحق بالوراثة وكثرة المال، وكان فيهم أسباط ملوك، فلما أنبأهم نبيهم أن الله بعث لهم طالوت ملكاً، ولم يكن من بيت الملك، ولا كان ذا مال، استعظموا، فراجعوه وقالوا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ وكان ذلك منهم خطأ من وجهين:
لما قال الشعر:
وما الحسبُ المورُوُث لا در درهُ..
بمحتسِب إلا بِآخِر مُكْتَسبِ
إذَا الُغضْنُ لم يُثمْر وإن كَان شُعبةًَ..
منَ الثمراتِ اعتدهْ الناسُ في الْحَطَبِ
وقال بعض الملوك:
إن ولد مني جاهل فعدوه حماراً، وإياكم أن تراعوا نسبه، فتفوضوا الأمر إليه، وتعتمدوا في المملكة عليه، والثاني: أن المال ليس بضروري في الملك وأعيان الخلفاء الراشدين والأمراء العادلين كأن عناهم القناعة دون الثروة، فبين تعالى بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ أن فيه الخصال التي هي قانون في استحقاق الملك وبيانه أن الملك يستحق في أن يكون الإنسان من عنصر صالح سواء كان من بيت الملك قيل أو لم يكن.
، وأن يكون ذا علم بسياسة نفسه وأهله من رعيته، وأن يكون في جسمه كامل الخلقة، شديد القوة، ذا سلامة من العاهات الشائنة، وذكر أنه قد آتاه كل ذلك، ثم قال: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ تنبيهاً أنه هو المختص بإيتاء الملك لعلمه يمن يستحقه، ولذلك أمرنا بالاستسلام له في ذلك، فقال: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ فقرن ذلك بالأمور التي يختص هو بها، وهي: إخراج الحي من الميت والميت من الحي، وإيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، وإعطاء الرزق، ثم قال: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي الذي أعطاه الملك هو ذو سعة في المال، وعالم بالأشياء - تنبيهاً أنه إن احتاج إلى المال في ملكه حوله، وقوله: ﴿عَلِيمٌ﴾ أي عالم بمن يؤتيه الملك، كقوله: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.
﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ الآية (٢٤٨) - سورة البقرة.
البقية من البقاء، والبقاء ثبات الشيء على حالته الأولى، لكن البقية صارت لبعض حمله لم يتعين حكمه بتعين المحمولات، فاستعمل فيما يحمل على الظهر، وفي الماء إلي في السحاب، والولد الذي تحمله المرأة في البطن، وتعورف في البرق، وتسميته بذلك استصحاباً لحمل الأم أياً، أو لأنه يحمل باليد لصغره، وخص الحمالة بما يحمل به السيف على بناء العلاقة، والمحمل لما تركته الناس، وخص الحمالة بالفتح لما يتحمله قوم من الدية والحميل تارة استعمل في الكفيل، وهو بمعنى فاعل، وتارة في المحمول من بلد إلى بلد، فسمى الغريب، وعثاء السيل به والحملوة من الإبل لما يحمل عليه وعلى ما ساقويه وركوبه وذكر منهم ما خص الله به " طالوب " من كرامته وما هو آية من الله - عز وجل - كالمعجزة لملكه، واختلف في التابوت فمنهم من قال: كان منحوتاً من الخشب فيه شيء مسمى بالسكينة تسكن بها قلوب القوم الذي كان معهم وبقايا رضاض اللوح الذي كان فيه التوراة، وقنا كان علي [عجلة بين ثورين] يسوقهما الملائكة، وقيل: بل الملائكة تحمله في الهواء وهم يرونه، وقيل كان هذا التابوت مع يوشع، ففقد في التيه، ثم رده الله عز وجل: إلى طالوت، وقيل: بل كان قد سلبته العمالقة، فدفنوه في منزله، وإلى هذا ذهب عامة الصحابة والتابعين فيما دل عليه ظاهر قولهم حتى قال مجاهد: السكينة شيء كان له رأس كرأس هره، وله جناحان، وقال بعض المفسرين: التابوت
﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ الآية: (٢٤٩) - سورة البقرة.
الجند يقال للعسكر اعتباراً بالغلظة من الجند، أي الأرض الغليظة ثم يقال: لكل مجتمع جند، نحو: (الأرواح جنود مجندة.. )، والغرف تناول الماء، ويقال للمعترف غرفة، وللمرة غرفة، والغريف الماء المعرض للاغتراف، وتصور منه الرفع، فسمي العلية غرفة تشبيهاً بالمغترف، وبهذا النظر سمي مشربة، وسمي الغمام مادام عرفه كأنه لرطوبته معترف، وجوز الطريق وسطه، و (جاز منه) كأنه عبر الجوز، فكثر حتى صار الجايز لما لا يكره، وعلى نحوه قيل سائغ، وهو من ساغ الطعام في الحلق، وجاوز، وتجاوز استعير له هذا البناء، لتصور المكان متباعداً عن الإنسان تباعد لإنسان عنه، ولهذا قيل: سافر وتباعد والفئة فرقة من قولهم: فاءت رأسه، وقد تقدم أن أسماء الفرق كثيراً ما تشتق من الألفاظ المقتضية للقطع كالصرمة، والقطيع والطامة، وما القوة بالمحمول، ويستعمل في قوة الحيوان، وأكثر ما يقال في الأثقال الجسيمة، وإذا قيل في غيرها، فعلى التشبيه، وروي في الخبر أن طالوت لم يكن يثق بقومه، فأراد أن يمتحنهم، وكان قد سار بهم مفازة لم يجدوا فيها ماء، فانتهوا إلى نهر من الأردن وفلسطين، فامتحنهم به..
قيل: يجوز أن يكون الله تعالى ألقى ذلك في روعه كإلقاء الوحي في روع أم موسى، ويجوز أن يكون قد أخبره نبي زمانه عن الله، ويجوز أنه نسبه إلى الله لما قصد به وجهه وإن لم يكن الله قد أخبره به، كقوله: ابتلانا الله بكذا، وبين تعالى أن أكثرهم لم يأتمروا له، وقال بعضهم: " إن ذلك جعله الله مثالاً لهم "، ومثلاً مضروباً للدنيا وأتباعها وأن من يتناول منها قدر ما يتبلغ به اكتفى واستغنى وسلم منها ونجا، ومن تناول منها فوق ذلك ازداد عطشاً، وعلى هذا قيل: " الدنيا كالماء المالح "، من ازداد منها شرباً ازداد عطشاً، وإلى هذا أشير في الخبر المروي " أن الله - عز وجل - إذا سأله عبد شيئاً من عروض الدنيا أعطاه، وقال له: خذه وضعفه حرصاً " وإياه عني النبي - عليه الصلاة والسلام بقوله: (لو أن لابن آدم واديين ذهب، ابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ يجوز أن يكون معطوفاً على (هو ومعه) من صلة (آمنوا)، ويجوز أن يكون: (الذين آمنوا، ومعه) خبره، وهو الأجود، لأن الأظهر في قوله: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا﴾ إن ذلك حكاية عمن شربوا، وإليه ذهب ابن عباس والسدي وقالا: " هم أهل الكفر لا الذين آمنوا "، وقال الحسن وقتادة وابن زيد: " الذين قالوا: " لا طاقة لنا " هم المؤمنون " وقوله: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ ظن ها هنا هو المفسر باليقين عند أهل اللغة، وهو المعرفة الحاصلة عن امارة قومه، ويدل على ذلك استعمال أن المشددة أو المخففة منها، نحو: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى﴾ وإذا أريد الشك، استعمل معه (إن) التي تصحب المعدومين من الفعل، وقوله: (من) يجوز أن يكون استفهاماً، وأن يكون خبراً وإن كان معنى الاستفهام يعود إلى معنى الخبر، ولكن متى قدر استفهاماً نصب فيه إذا حذف عنه من، وإذا قدرته خبراً وجرت، وسكن منهم بأن عرفهم أن لا اعتبار بكثرة العدد وقلته وأحالهم على معرفتهم بالأعداد القليلة الغالية الكثيرة، وقد تقدم الكلام في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾..
﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ الآية (٢٥٠) - سورة البقرة.
البرز: المكان المرتفع، وبرز " حصل فيه "، وصار عبارة عن الظهور، وقيل للمشهور بالفضل: برز، و " امرأة برزة " قيل عفيفة، لأن رفعة المرأة بالعفة، لأن لفظ البرزة اقتضى ذلك، والأكثر أن البرزة هي التي لا تستقر، والفرغ: خلو المكان لما فيه، وخلو ذي الشغل من شغله، وسمي فرغ الدلو فرغاً باعتبار انصباب الماء عنه، وضربه ضربة مفرغة لدم البدن، والثبات: اللزوم في المكان، وعنه استعير قول ثابت، أي صحيح لا يبطل، وفلان ثبت المقام لمن لا يبرح موقفه في الحرب منهزماً، ونصر الله عنده قد يكون بزيادة قوته وجرأته، وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائه، وغير ذلك، ولم يعن أنهم رغبوا إلى الله عز وجل - في ذلك بالقول فقط، فالقول ليس بمغن ما لم يعاضده فعل، ولا الفعل بمغن ما لم تعاضده النية، فالمعنى لما برزوا رغبوا إلى الله بمقالهم واجتهادهم ونياتهم أن يمدهم بالصبر، وتثبيت القدم والنصرة على الكفرة..
قوله تعالى:
﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ الآية (٢٥١) سورة البقرة.
الهزم: دفع الشيء لليابس حتى يتحطم، كهزم الشن، وهزم الرعد مشبه به لصوت تكسره، وقيل أصابته هازمة دمر أي داهية كاسرة كقولهم فاقرة، والمهزام ما يحرك به للجمز والهمز يقاربه في الأمرين الكسر، والصوت والدفع صرف الشيء من مكان إلى مكان، أو عن حالة إلى حالة، ودافعت فلاناً ودفعته أزعجته، وفلان مدفع مزعج عن مكانه أو بستانه، ووصف السيل الكبير بالدفاع، لدفع بعضه بعضاً، بين تعالى أنه جمع لداود - عليه السلام - الملك والحكمة والنبوة، وهي أعظم فضيلة، إذ
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وقال لموسى عليه الصلاة والسلام: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا﴾ وقال: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ لقوله ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ فالكتاب: الأحكام، والميزان: العدالة، ومعنى الحكمة قد تقدم أنها معرفة حقائق الأشياء وحقيقتها إنما هي لله عز وجل، وإذا استعمل في غيره، فمبلغ ذلك تقدم طاقة البشر، وهي أعم من النبوة، فكل نبي حكيم، وليس كل حكيم نبياً، وقوله: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ إشارة إلى العلوم النبوية التي لا وصول إليها إلى بالوحي، وفي قوله تعالى:
﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ﴾ تنبيه على فضيلة الملك، وأنه لولاه لما استتب أمر العالم، ولهذا قال الدين والملك مقترنان، وتوأمان لا يفترقان، ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر، لأن الدين أس، والملك حارس، ومالا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، وعلى ذلك قوله: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ﴾ الآية
إن قيل: على أي وجه دفع الله الناس ببعضهم؟ قيل: على وجهين أحدهما: دفع ظاهر، والثاني دفع خفي، قال: فالظاهر، ما كان بالسواس الأربعة الذين هم الأنبياء، والملوك، والحكماء والوعاظ، فسلطان الأنبياء على الكافة خاصهم، وعامهم، وظاهرهم، وباطنهم، وسلطان الملوك على ظواهر الكافة دون الباطن وسلطان الحكماء على الخاصة دون العامة، وسلطان الوعاظ على بواطن العوام وأما الدفع الخفي فسلطان العقل، فالعقل يدفع عن كثير من المقابح، وهو السبب في التزام حكم السلطان الظاهر، وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾
إن قيل: ما فائدة ذلك بعد قوله: آنفاً ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾؟
قوله - عز وجل:
﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ الآية: (٢٥٢) - سورة البقرة.
إن قيل: ما فائدة قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ في هذا الموضع؟ وهل خفي ذلك عليه حتى يذكره به؟ وما تعلق ذلك بما قبله؟
قيل: يجوز أن يكون تقديره (وإنك لمن المرسلين بها)، لكن لفظة بها إيجاز، أو يجوز أن تكون الآية متقدمتين محذوفتي النتيجة على تقدير: إذا كان حال المرسلين وأممهم ما نتلوه عليك، وأنت مرسل إلى قومك كما أرسل المرسلون إلى قومهم، فلا عجب أن تجري مع قومك مجرى أمرهم مع قومهم، والإشارة بذلك إلى معنى قوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ وقوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾.
إن قيل ما فائدة اقتران التلاوة بالحق؟
قيل: قوله: بالحق في موضع الحال، كأنه قال: وهو الحق، وعلى تحمل عندي قوله: رب أحق بالحق.
﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾
الآية: (٢٥٣) - سورة البقرة.
إن قيل: على أي وجه تفضيل بعضهم على بعض؟
أبتخصيص بعضهم بمنحة؟ كقولك: " فضلت فلاناً في العطاء؟ أو بالحكم والقول "، كقولك: " فضلت زيداً على عمرو في العلم "؟ قيل: بالأمرين جميعاً، فإن الله تعالى جعل لمن رشحه للنبوة فضائل خصه بها، ابتداء وفضائل هداه إليها ليصيبها، فما خصهم به أن جعل كل واحد في نفسه وأخلاقه معرى من عاهة تشينه، وأيده بأنواع كرامات وزيادة معاون تشرح صدره، وحدد عليه في كل وصايا تسدده، وعاتبه في أذى زلة ظهر منه، فهذا التفضيل الذي جعله ابتداء، وأما تفضيله لهم بالحكم، فعلى حسب ما يظهر من أفعالهم، فمعلوم أنه ليس حظ يونس - عليه الصلاة والسلام - حيث حذر نبينا - عليه الصلاة والسلام أن يكون مثله في الصبر بقوله:
﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ كحظ الذين حثه على الاقتداء بهم في قوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، فالتفضيل يحصل بالأمرين، وللتفاضل بينهم قال عليه الصلاة والسلام: " فضلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وختم بي النبيون، وأرسلت إلى الناس كافة "..
وهذا حكم في الملائكة بقوله: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾، وقوله: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ قيل إشارة إلى النبي - ﷺ - الله،
فإن قيل: ولمَ لَمْ يصرح بذكره أو بوصفه، كما فعل بموسى وعيسى؟ قيل: تقدم أن مورد كلام الله تعالى مورد خطاب الناس فيما بينهم، ولما كان المستحسن في بعض المواضع أن يذكر الممدوح المخاطب تعريضاً، فيكون أبلغ من التصريح لما جرى من عادتهم أن مدح المواجهة هجاء، والثناء في الوجه قبيح، وتارة لأن الإطراء قد يدعو إلى الغفلة، وتارة لكون الممدوح بذلك المدح مستغني به عن ذكره كما قال الشاعر:
وإني في بنى ثنائِكَ جاهداً..
وقدْ علمتْ أضعافَ ذاَكَ الْخلائِقُ
كمنْ قَالَ إن الثلجَ أبْيضُ باردُ..
وأنًَّ شهاب النارِ أحمُر حارقُ
وَهَذَا وهَذَاَ بينانِ كلاهُمَا..
لمِنْ هُو رائِي ولمنْ هُو ذَائقُ
وروح القدس إشارة إلى ما خص به عيسى مما كان يحي به الموتى ملكاً، أو قوة، أو اسماً من أسمائه أو علماً، وقد فسر بكل ذلك، وسمي جبريل - عليه السلام - روح القدس، والروح الأمين في قوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ﴾ وفي قوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ﴾.
قيل: ذكر تعالى أنه لو شاء أن لا يقتتلوا الفعل، ولكن أراد ذلك لأنهم اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فكانت الحكمة تقتضي أن يؤمر المؤمنون بقتال الكافرين، ففي قوله: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ حذف على سبيل الاختصار تقديره " لكن شاء فإنهم اختلفوا، أو الاختلاف كالسبب لتلك المشيئة،
فإن قيل: وما معنى تكرير: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾؟
قيل: أما الأول: فلأنه أمرهم بالاقتتال، لأنهم اختلفوا، وفي الثاني: ذكر أنه لو شاء لم يكن منهم اقتتال على وجه لا بعده ولا قبله، أما لأنه لم يكن يعطيهم القوة أو يميتهم قبل القتال، أو كان يمنعهم بمرض أو بسبب من الأسباب، ويجوز أن يريد بالاقتتال الأول: الاختلاف المؤدي إلى الاقتتال على طريقة ما يقال بين القوم، اقتتال: أي اختلاف يؤدي إلى ذلك، والمعنى لو شاء الله ما اختلفوا وكانوا أمة واحدة، كقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ وقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الآية..
وبالاقتتال الثاني حصول المحاربة بينهم..
إن قيل: ما الفرق بين المشيئة والإرادة؟
قيل: أكثر المتكلمين لم يفرقوا بينهما وإن كانتا في أصل اللغة، وفي الحقيقة مختلفتين وذلك أن المشيئة أصلها من شيء، والشيء اسم للموجود، والمشيئة قصد إلى اتخاذ الشيء، ثم يقال: شاء الله كذا أي أوجده بعد أن لم يكن موجوداً، وقال بعضهم: الشيء والشاء من أصل واحد، وقلب الفعل، واستدل
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الآية: (٢٥٤) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في معنى البيع والشراء، وإن كل واحد منهما يوضع موضع الآخر، ومبايعة الولاية من ذلك، والبيعة يجوز أنها سميت بذلك نظراً إلى نحو معنى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية، كأنه الحالة التي يتبع الإنسان نفسه فيها من الله فسمي المكان الذي يحصل ذلك فيه بها، والخلل انفراج الشيئين، يقال: خللته: أي أصبت خلله، فاستعير منه الخليل، إما لتخلل كل واحد منهما قلب الآخر كما قيل: الحبيب لوصول كل واحد منهما إلى حبة قلب الآخر..
قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني.....
وبذا سمي الخليل خليلاً
أو لأنه تخلل أحوال الآخر، وعرف سرائره، ولهذا قيل أطلعته على عجزي، وتحرى فيهما عرقين في البطن، وبهذا النظر قال الشاعر:
لا تكتمن ذاك الطبيبا....
ولا الصديق سرك المكتوما
أو لاعتبار افتقار كل واحد منهما إلى الآخر، وبهذا النظر قيل: الصديق للإنسان ضروري، وقوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ على الاعتبار الأخير، وهو افتقاره إلى الله - عز وجل - في كل حال، كما أخبر عن موسى بقوله: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ وبهذا الفقر أشرف غنى،
حث الله تعالى المؤمنين على ما رزقهم من النعمى النفسية والبدنية والخارجة، وإن كان الأظهر في التعارف وإنفاق المال، لكن قد يراد به بذلك النفس والبدن في مجاهدة العدو والهوى وسائر العبادات كما تقدم في قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا﴾ ولما كانت الدنيا دار اكتساب وابتلاء، والآخرة دار ثواب وجزاء، بين أن لا سبيل للإنسان إلى تحصيل ما ينتفع به في الآخرة ابتداء، وذكر هذه الثلاثة لأنها أسباب اجتلاب المنافع المقصود إليها أحدها المعاوضة، وأعظمها المبايعة، والثاني: ما يناله بالمودة، وهو المسمى الصلات والهدايا، والثالث: ما يصل إليه بمعاونة الغير، وذلك هو الشفاعة فبين تعالى أن من لم يكتسب في الدنيا ما ينتفع به في الآخرة لم يحصل له ذلك في الآخرة، وعلى هذا قال: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ وقوله ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ﴾ ﴿وَلَا خِلَالٌ﴾ وفي الآية قول آخر وهو أن الناس في عبادة الله تعالى على ثلاثة أضرب، سابق حصل له منزلة الخلة، والمحبة المقصود إليها بنحو قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ وغيره من الآيات التي تجري مجراها، وهو الذي يعبد الله لا لرغبته، ولا رهبة، ولا لطلب مثوبة، ومقتصد حصل له منزلة المبايعة المذكورة في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾ وفي قول النبي - ﷺ -:
عدالة بين الإنسان ونفسه، وعدالة بينه وبين الناس، وعدالة بينه وبين الله تعالى، كذلك للظلم ثلاثة في مقابلتها وأعظم العدالة ما بين الإنسان وبين الله وهو الإيمان، وأعظم الظلم ما في مقابلته وهو الكفر، فلذلك قال: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أي هم المستحقون إطلاق هذا الوصف عليهم بلا مثوبة..
إن قيل: كيف تعلق قوله: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ بما قبله؟
قيل: لما نفى أن يكون للكفار شيء مما ذكره في الآخرة، بين أن ذلك ليس بظلم منه لهم، لكن هم الظالمون إذ هم الذين خسروا أنفسهم..
إن قيل:
كيف نظم هذه الآية مع التي قبلها؟
قيل: لما بين في الأولى أن منهم من آمن ومنهم من كفر، خوف المؤمنين أن يتحروا ما يخشى منه
قوله - عز وجل:
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ الآية: (٢٥٥) - سورة البقرة.
قد تقدم أنواع الحياة، وأن أشرفها الحياة الأبدية في الآخرة، وإذا وصف الباري - عز وجل - بها، فمعناه الدائم الذي لم يزل ولا يزال، ولا يصح عليه الموت بوجه، والتحية بذل الحياة فإذا قيل.
" حياك الله "، فمعناه: خولك الحياة، وكذا إذا قيل: " حياك فلان " غير أن الأول إعطاء بالفعل، والثاني بالقول وكذلك التسليم إعطاء السلامة على أحد الوجهين، والقيوم فيعول، وقال: فيعال، وكذلك واوه لأن الواو والياء إذا اجتمعا والأولى ساكنة، قبلت الواو ياء، وعلى ذلك " ديار " ولو كان فعلها لقيل قوام، ودوار " يقال قام كذا " أي دام، وقام بكذا، أي حفظه، والقيوم في وصفه تعالى هو الدائم الحافظ للعالم وجواهره وأعراضه، والقصد بمعناه إلى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ ومن قال: القيوم بالشيء: العالم به، فصحيح أيضا، لأن حفظ الشيء يقتضي المعرفة به، ولهذا قيل للمعرفة الحفظ، ولضدها النسيان، وأصل النسيان الترك، والأخذ يعبر به عن الاستيلاء على الشيء والقهر يقال: أخذته الحمى، وفلان مأخوذ ومقهور، والسنة: عبارة عن الفتور والغفلة، والنوم يفسر على أوجه كلها صحيح، الأول: أنه استرخاء أعصاب الدماغ برطوبة البخار الصاعد إليه، وذلك بالنظر الطبي، والثاني: أن يتوفى الله النفس من غير موت، وهو الذي قال: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ وقيل: ترك الروح: استعمال الحواس من خارج إجماماً لها، وسئل بعض
إذا أيقظتك حروب العدا....
فنبه لها عمراً ثم نم
﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ قيل: الماضي، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ المستقبل، وقيل على العكس من ذلك، وهذا الاختلاف لاختلاف تصور ما اعتبر به الخلف والقدام، ولهذا يقال: خلفت كذا لما قضيته، وخلفي كذا لما لم تفعله بعد، وعلى ذلك قيل: وراءهما: الخلف والقدام، وقيل: ﴿ما بين أيديهم﴾: الدنيا، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ الآخرة، وقيل بالعكس من ذلك، وقيل: ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾: المحسوس، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ المعقول، وقيل: ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ المحسوس والمعقول، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ الغيوب التي لا سبيل للإنسان إلى معرفتها، والكرسي في تعارف العامة اسم لما يقعد عليه، وهو في الأصل منسوب إلى الكرسي أي الملبد، والكراسة للمتكرسة من الأوراق، والكروس، للمتراكب بعض أجزاء رأسه على بعض لكبره، والكرياس: الكنيف المكرس بالفناء إلى السطح، وروي ابن عباس: أن الكرسي: العلم، وليس ذلك بتعبد من حيث الاشتقاق نسبة إلى الأوراق التي تثبت فيها العلوم، كقولك: كراسي، وقيل: كرسيه: أصل ملكه، وكراسي القوم معتمدهم، وأنشد:
تخفُّ بهمْ بيضُ الوُجُوهِ وَعصْبةُ....
كراسيُّ بالأحْداثِ حينَ تثوُبُ
فقال: " وما يؤمنك إن أخبرتك أن تكفر؟ سماء تحت أرض، وأرض فوق سماء، مطويات بعضها فوق بعض، يدور الأمر بينهن "، والخبر الأول يدل أن جوهر الكرسي والسماء أشرف مما عرفناه، والخبر الأخير يدل على أن الفلك كروي، وما روى أن الكرسي موضع القدمين، وأن له أطيطا كأطيط الرحل الحديد فصحيح، ومعناه لا يخفي على من عرف الله عز وجل - وعرف الأجرام السماوية
إن قيل: كيف خص بملكه ما في السماوات والأرض، وذلك يوهم أن ليس له السماوات والأرض؟
قيل: لم يرد بقوله (في السماوات والأرض) معنى الشيء في الوعاء وفي المكان، وإنما يريد ما تركب منه السماوات والأرض من الجواهر والصور والأعراض والصنع، فصار ذلك من وجه أبلغ من قولك (له السماوات والأرض)، إذ قد يحصل للمالك ما ليس بمصنوعه، على أنا لو نظرنا من حيث
﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾، وقوله: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ نفى تعالى عنا الإحاطة بشيء من علمه، وكيف يمكن لنا ذلك، وقد علم أن المحيط بنا علماً، كما قال - عز وجل: ﴿قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ ومن المحال أن يكون المحيط بكل شيء يحيط به شيء، وقوله: ﴿مِنْ عِلْمِهِ﴾ على وجهين: أحدهما مما يعلمه، وهو ويكون العلم مضافاً إلى الفاعل، والثاني: أن يعلمه الخلق ليكون مضافاً إلى المفعول به، أي لا يحيطون أي يعلموه تنبيهاً أن معرفته على الحقيقة متعذرة، بل لا سبيل إليها، وإنما غايتها أن يعرف الموجودات، فيتحقق أن ليس إياها، ولا شيئاً منها، ولا شبيهاً بها،
" تجلى لعباده في القرآن من غير أن يروه، وأراهم نفسه من غير أن يتجلى لهم "، وقوله: ﴿إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ أي: إلا بما شاء أن يقفهم عليه من القليل الذي قال: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ثم أكد بما فيه عليه بقوله: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ بقوله: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ أي إذا كان علمه ومملكته وقدرته محيطة بهذه الأشياء والإنسان بعض هذه الأشياء، فكيف تصح إحاطته بمن هو محيط بهذه الأشياء وهو يعجز عن الإحاطة بها، والعلي هو القاهر فوق عباده، وقيل: العلي عن النظير، وقيل: القادر على حفظه، وقيل: القائم به، وكل ذلك راجع إلى التنبيه على قدرته وسلطانه وأن ما عداه مستحقر بالإضافة إليه.
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ الآية: (٢٥٦) - سورة البقرة.
الغي كالجهل، إلا أن الجهل يقال اعتباراً بالاعتقاد والغي اعتباراً بالأفعال، ولهذا يقال: الجهل بالعلم، والغي بالرشد، ويقال لمن أصاب رشد، ولمن أخطأ غوى، وعلى هذا قال الشاعر:
ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
والطاغوت وزنه (فعلوت)، نحو جبروت وأصله طغووت، لكن قلب لام الفعل نحو: صاعقة وصاعقة، ثم قلب الواو ألفاً لتحركه وانفتاح ما قبله، ويسمى كل ما يصرف عن الله عز وجل - طاغوتاً وشيطاناً كان أو إنساناً، ولهذا روي عن عمر ومجاهد وقتادة أنه الشيطان، وعن ابن جبير أنه الكاهن، وعن أبي العالية أنه الساحر، وعن غيرهم أنه صنم، وقيل: هو المارد من الناس والجن، وكلهم صارفون للإنسان عن طريق الحق، وقد تقدم أن النهي عن أتباع الطاغوت والشيطان، وإبليس والهوى
﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾، كقوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ وعلى ذلك حث بقوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ﴾ وقوله: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ والكره يقال على ضربين: أحدهما أن يكون مفسراً من خارج، وذلك على أحد الأوجه الثلاثة، إما بأن يهدد بالضرب أو يضرب حتى يفعل، وإما أن تؤخذ يده فيفعل بها، فيكون في هذا كلالة، وإما أن يدعوه من يزينه في عينه، والثاني: ما يكون مفسراً من داخل، وذلك إما بخوف يستشعره، وإما بهوى يغلبه، وقد روعي كل ذلك في تفسير الآية، فقيل فيه أوجه:
الأول: إن ذلك حث على أن لا يحمل الإنسان على الدين بالقسر، بل يعرض عليه الإسلام عرضاً ويعرف فضله، فإن قبل: وإلا ترك؟ قيل: وهذا حكم كان في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بسورة براءة، وذلك عن السدي، وابن زيد، والثاني: نحو ذلك، غير أنه خص بمن قبل منهم الجزية دون مشركي العرب، وذلك عن الحسن، وقتادة، والضحاك، وعلى هذين معناه: أمن، والثالث: أن قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ﴾ لا اعتبار بالإكراه في الأحكام الدنيوية، فالمكره على الإسلام، وغير المكره سيان بعد أن يلتزما..
الخامس: لا اعتداد في الآخرة بما يفعل الإنسان في الدنيا من الطاعة كرهاً، وكرهاً، فإن الله يعتبر السرائر ولا يرضى إلا الإخلاص، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
" الأعمال بالنيات " وقال: " أخلص يكفك القليل من العمل ".
السادس: ليس يحمل الإنسان على أمر مكروه في الحقيقة بما يكلفهم الله، بل يحملون على نعيم الأبد، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " عجب ربكم من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ".
السابع: أن الله تعالى ليس بمكره على الجزاء، بل يفعل ما يشاء بمن يشاء على ما يشاء، والاستمساك طلبك إلى الغير ليمسك كالاستحفاظ والاستنصار، و ﴿بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ مستعارة للعبد المركون إليه كالحبل في نحو:
أخذت بحبل من حبال محمدٍ....
أمنتُ به من طارق الحدثان
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم....
شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
فقول من قال: العروة الوثقى الإسلام، وقول من قال: " لا إله إلا الله، وقول من قال: الثواب: الجنة، فنظرات منهم إلى مبتدى الدين ومنتهاه، وكله صحيح.
قوله - عز وجل:
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ الآية - (٢٥٧) - سورة البقرة
الولي: كون الشيء بجنب الآخر، ويعتبر ذلك تارة بالمكان، فيقال له الولاية وتارة بالنصر فيقال له الولاء والموالاة، لكن الولاء على ضربين باعتبار نسبة الأعلى إلى الأسفل، وضرب باعتبار نسبة الأسفل إلى الأعلى، ولهذا يقال للخادم والمخدوم مولى، وولي، لأن كل واحد منهما يوالي الآخر الخادم بالطاعة والنصيحة، والمخدوم بالإشفاق، والكناية، وقال: أهل اللغة: المولى المالك، والمملوك والمعتق والمعتق والناصر والمنصور وابن العم والحليف والجار والقيم، وأخذوا في كل ذلك المتطابقين، لكون كل واحد مهما موالياً للآخر بوجه..
﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ فلم يعد فقد البصر عمى.
بالإضافة إلى فقد البصيرة، وقوله: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ وقوله: ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ وقوله: ﴿مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ يعني بذلك كلا النورين والظلمتين،
إن قيل: وهل هذا النور موهبة أو مكتسب؟
قيل: لا شك في كونه موهبة، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ لكن فيه للاكتساب حظ، فإن ابتداء ما يحصل ذلك للإنسان كشررة، متى لم ترع همدت، وإذا روعيت زادت، كما قال: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ بين تعالى إن الله عز وجل - يوالي المؤمنين بأن يوفقهم ويهديهم، وهم يوالونه بأن يشكروه ويعبدوه، كما قال تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ فهو يخرجهم من الجهل والكفر إلى العلم والإيمان والثواب والكافرون، يواليهم الشيطان في إخراجهم إلى أضداد ذلك
إن قيل: لم قال: أولياؤهم وما يفعل بهم الطاغوت هو بالمعاداة أشبه منه بالموالاة؟
قيل: لعمري إن ذلك نهاية المعاداة وتسميته بالموالاة أولى لمقابلة اللفظ، وثانياً: لتحريهم ما يقع بوفاقه، وميلهم إلى حزبه، فجعله موالاهم في اللفظ لا في الحقيقة، ألا ترى أنه قال: {أَلَمْ
إن قيل: فكيف قال ها هنا: ﴿أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ وقال في آخر ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾.
قيل: إن من وليه الشيطان، فلا ولي له، ولا فرق بين أن يقال: وليه من نصره، وبين أن يقال: لا ولي له، وقول من قال: الله ولي المؤمنين بتوفيقه وعصمته، ومن قال بإقامة البرهان لهم، ومن قال بنصرته على عدوهم، وإظهار دينهم على دين مخالفيهم، من قال بثوابهم، فكله صحيح ومراد، لأن ذلك متلازم، وإنما اختلفت العبارات عليهم بحسب النظرات ونحو ذلك في استعمال النور والظلمة في العلم والجهل والإيمان والكفر..
قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ الآية.
إن قيل: كيف؟ قال (يخرجونهم من النور إلى الظلمات) وقد قلت: النور: العلم والإيمان، والكفار لم يكونوا في هذا النور، والإخراج عن الشيء يعد لكون فيه، قيل: إن الله تعالى خلق الإنسان على فطرة، ركز فيه العلم والإيمان بالقوة، وهو المعنى بقوله: (فطرة الله)، و (صبغة الله)، وقول النبي- عليه الصلاة والسلام: " كل مولود يولد على الفطرة "، والإنسان متى أهلك نفسه وأفسدها بالهوى والتدليس بالجهالات، فقد أخرج من النور إلا الظلمة، وقال الحسن إخراجه إياهم منعهم من الدخول فيه كقوله:
إن قيل: لم قال: يخرجونهم بلفظ الجمع؟
قيل: قد قال بعضهم: الطاغوت يقع على الواحد والجمع كالفلك، ووجه ذلك من حيث المعنى أن الطاغوت إشارة إلى المضلات من الشيطان والهوى وسائر ما يضل، وقد قال بعض الحكماء ما هو كالتفسير، لذلك إنه متى يخالف العقل والهوى شيئا ما، أعنى: مؤلماً- جميلاً وملذاً فضيحاً، يبادر الملك إلى نصرة العقل، فيصير من حزبه، والشيطان إلى نصرة الهوى، فيصير من جنده وإن استشار صالحاً من عباد الله، أشار عليه بمقتضى العقل، وإن استشار شريراً أشار عليه بمقتضى الهوى، ولذلك قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾
قيل: لما قرر عظمته بالآية المتقدمة، بين في هذه أن الذي له العظمة هو مولى المؤمنين تشريفاً لهم، وتعظيمه لمكانتهم، وأن الشيطان مولى الكافرين تدليلاً لهم، فقد قالت العرب:
" أشرف الموالي لي أشرفهم سيداً، أكرم السائلين أكرمهم مسؤولاً ".
وعلى هذا قال الشاعر:
يضع الزيارة حيث لا يزري بنا...
شرف المزور ولا بحسب الزور
قوله- عز وجل:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
الآية: (٢٥٨) - سورة البقرة.
المحاجة: المقاومة في إظهار الحجة، أي محجة الرشد، والشمس اشتق عنها شمس فلان إذا نفر تشبيها بالشمس التي لا يمكن أن يقبض عليها، وعلى ذلك قوله:
كالشمس ضوؤها قريب ولكن في تناولها بُعْدُ وقيل: شمس إذا عادى..
وذاك أن حقيقة المعاداة تنافر طبع المتعاديين بعضلها من بعض من عداه إذا تجاوزه، والشمسة في القلادة تشبيها في الحسن والهيئة، والبهت أن تفعل بالإنسان ما يحيره، وسمي الكذب المستقبل به الإنسان بهتانا، لتحير صاحبه فيه..
والذي حاج إبراهيم في ربه، قيل كان نمرود بن كنعان، وكان قد ملك الدنيا، ويقال: إنه ما
إن قيل: ما الذي ادعى هذا الكافر؟
ادعى نفي الخالق؟ أم ادعى لنفسه الربوبية؟ أم الأمرين؟ فإن ادعى الربوبية، فعلى أي وجه ادعى، فبعيد أن يزعم من وجد بعد أن لم يكن أنه موجد الخلائق...
قيل: قد ذكر المخلصون في ذلك وجهين، أحدهما: أن هذا الكافر نمرود، وكان الناس حينئذ يعظمون ملكهم حتى كانوا يسمونه الرب والإله، ولهذا قيل: (الله رب الأرباب وإله الآلهة)، وكانوا يدعون له أفعالاً ألاهية تقصر قدر البشر عنها، وقد حكى الفرس عن ملوكهم شيئاً كبيراً من ذلك كما ادعوا لكن خسرو أنه ألجأة عدو له إلى سفح جبل، فحملته الملائكة، وأن شابور لما حارب التنين، فأظلم عليه الدنيا، أنزل عليه نارا، فصارت على عرف فرسه، فاستضاء بها حتى قتل التقين، وكان نمرود لما طغى سام الناس أن يعبدوه عبادتهم لله، إذ هو بزعمهم سايسهم، وملكهم، وربهم، وإلأههم، فهذاك أحد الوجهين، والثاني: أنه كان يذهب مذهب من يقول بالحلول، أن الباري- تعالي عن ذلك- يحل في أشخاص الأئمة حسب ما ادعى بعض المتنصرة وبعض المتشيعه الملحدة، وكان نمرو يدعي الربوبية على أحد هذين الوجهين، لا أنه ينكر رب العزة...
فإن المحكي عنه ليس بأكثر من ادعى إبراهيم دعوى، فعارضه بمثلها فانتقل إلى دعوى أخرى، وإن كان ما ذكره إبراهيم ثانية حجة، فهلا كان يعكس عليها ويقول: فليأت ربك بشمس من المغرب، فإن الآتي بها من المشرق حتى كان لا يبهت، قيل: قد تقدم أن ما يمكنه الله عن الأمم لا يكاد يستوفي القصة من أولها إلى آخرها، بل يورد نكتة، ويشير إليها إشارة وهو لم يستوف ذكر ما حاجه به كله، وقد تقدم أن نمرود لم يدع أني شخص وحشي موجد السماوات والأرض، وإنما كان ذلك على أحد الوجهين المتقدم ذكرهما، وكان قد ادعى أن كل ما هو داخل تحت قدرته، فهو أو مثله أو قريب منه داخل تحت قدرتي، فقال إبراهيم: ربي الذي يحي ويميت فقال أنا أحي وأميت، فأخرج رجلين من الحبس، فخلى أحدهما، وقتل الآخر، فقال: هذا أحياه وهذا أماته، وقد كان إبراهيم يمكنه أن يزيد أن الذي ادعاه لربه ليس هو الجنس الذي ادعيته لكن عدل إلى فعل ليس في طرق البشر هو ولا قريب منه ولا ما يشاركه اسما، مقال، قد ثبت باتفاق أن الله يحرك الشمس من المشرق، فحرك أنت تحريكاً من المغرب، فلم يجد شيئا يدعيه كما ادعي في الأحياء والإماتة، فبهت حينئذ، وظهر عجزه إذ لم يكن من جنس إطلاع الشمس وإغرابها شي ممكن للملوك كما ادعي الإحياء والإماتة، ولم يمكنه أن يعكس ذلك، فقد كان أقر بالباري، وإنما كان يدعي أنه يفعل فعله،
إن قيل: أليس العدول من حجة إلى حجة يعده أهل الجدل انقطاعاً؟ فما وجه ما فعل إبراهيم؟
قيل: أما أولاً، فما ذكره إبراهيم كان معارضة، وذاك أن الكافر ادعي أن في وسعه أن يفعل كل جنس من الفعل يفعله الباري- عز وجل، وذلك ادعاء حكم موجب كلي، والكلي ينقض بالجزئي، نحو أن يقال: كل إنسان كاتب، فمتى وجد إنسان شرير كاتب فقد ظهر كدبه، وللمعارض إذا أراد المناقضة أن ينتقل عن مثال خفي إلى مثال جلي، ولا يكون ذلك منه انتقالاً، وهذا باب قد أحكمه أهل الجدل، على أن ذلك لو كان ابتداء حجة، لم يكن على شرط أهل النظر بمذموم، فالحجج الجدول عليما ضربان.
إن قيل: أليس قلت: إن الملك اسم لما فيه العدالة، فكيف يصح أن يقال ذلك لما يتوارد للكافر؟
قيل: إن الملك الحقيقي الذي يجوز للإنسان المتسمي به هو ذاك لكن الناس يستعملونه فيمن يتسلط على الناس على أي وجه كان فتسمية الله تعالي إياه بذلك إنما هو على زعمه، وزعم أتباعه، كقوله: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ فسماه عزيزاً لا بالحقيقة لكن على ما كان يتسمى به...
إن قيل: كيف قال: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، والظالم أولى بأن يُهدى؟
قيل: قد تقدم أنواع الهداية وأحوالها، وأنه قد يراعى في إطلاقها مبدؤها تارة، فتستعمل في الجميع الذي يمكنهم الاهتداء، وعلى ذلك قال ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾، ومرة يعتبر منتهاها الذي هو الاهتداء، فيقال: " هدي الله المؤمنين "، وعلى هذا قوله تعالي: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ فقوله: ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، أي: لا يقبلون منه هدايته لهم، وإذا لم يقبلوا منه لم يعطهم، وإذا لم يعطهم فهو لم يهدهم، وأيضا فالظلم هاهنا مناف للهداية، فإنه جحود ألاء الله، والامتناع من قبولها والهداية تقتضي تحري العدالة، فإذا الهداية والظلم
إن قيل: لم أفرد النور وجمع الظلمة، قيل: لما كان النور عبارة عن الحق، والحق من حيث ما هو حق شي واحد لا يتنافى ولا يتناقض، والباطل من حيث ما هو باطل يتضاد ويتعاند صار فيه كثرة، ولهذا شبه الحق بالمقرطس من المريء في أنه واحد واحد، والخطأ ما عداها وهو كثير بلا نهاية، فلذلك أفرد النور وجمع الظلمة...
قوله تعالي:
﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
الآية (٢٥٩) - سورة البقرة.
الخو: خلو الوعاء، يقال: خلت الدار، تخوي خواء، وخوي النجم وأخوى إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيهاً بذلك، وأخوي أبلغ من خوي، كما أن أسقي أبلغ من سقى، وخوي جوف فلان خوي، والتخوية: ترك ما بين الشيئين خالياً...
والعرش: ما ارتفع من البناء، ويقال ذلك للسقف والسطح، وسمي السرير به تشبيهاًَ، أو عبر به عن أمر الإنسان، وقيل: استوى عرشه، وتل عرشه، والتعريش بناء ذلك وبه شبهه تعريش الكرم، وسمي المعررش منه عريشاً، وقيل: عرش الحمار إذا رفع رأسه وجعله كعرش، وعرشان الفرس شعر عرفه تشبيها بعريش الكريم...
والعام: مدة تعوم الشمس في أفلاكها المختصة بها، وذلك اعتبارا بنحو ما قال- عز وجل- ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ والاعتيام اختيار الشيء، وأصله أن يسير الإنسان كسابح فيه يتناول ما يريد.
وكنت في نعمائه سابحاً..
والحمار سوي للونه اعتباراً بعامة جنسه، لأن الوحشيات منها، وكثيرا من الإنسيات حمر، فسمي بذلك كما سمي العجم حمراً، والعرب سوداً، لكون أكثرهم كذلك، وحمار السرج، والحمارة لحجر عظيم تشبيها بالحمار في المهيئة، والحمرة: طائر أحمر اللون، وحمارة القيظ، أشد ما يكون حراً تشبيهاً بالجمر المتوقد لوناً، والنشز من نشزك الثوب، ونشز الريح العرف، وقاره تعدي نشر، ومصدره الناشر كقوله تعالي ﴿يين بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾، وتارة لا يعدي، ومصدره النشور، كقوله- عز وجل- ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾، ويقال: أنشره، كأنه جعل له نشراً، كقولك: (أسقاه: حبال له سقياًَ، ونشر الخشب، تشبيهاً بذلك، لجعل أجزاء الخشب منشورة، وإذا قرئ " ننشزها " فمعناه: نرفعها من النشز، أي المرتفع من الأرض، ومنه نشوز المرأة أن تطيح ببصرها إلى بشر صارفة له عن زوجها.
كقول الفرزدق:
إدا جلست عند الإمام كأنها
بها رفقة من ساعة يستحيلها
إذا الليل عن نشز تخلى رميته
بأمثال أبصار النساء القواري
قوله: " لم يتسنه ": أي لم يتغير بمرور السنين عليه، وذلك من لغة من يجعل المحذوف من السنة الهاء (سينهه وسانهه)، وقيل هو من " سانيت "، والهاء للاستراحة، وعلى هذا يجب أن يحذف إذا وصل الكلام كذا، على قول من قال: المسنون: المتغير، ويقال: يتسنى، وأصله يتسنن فعلت تخفيفاً، كقوله:
" تطنيت، وتعضيت، وتسريت "
إن قيل: ها الذي شبه بالذي مر على قرية؟ وعلى ماذا عطف؟ قيل: قد قال بعضهم: إن ذلك متعلق بما بعده، وهو قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾ ﴿كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾، ودلك بعيد لفضل " وإذ " بينهما، وقيل: الكاف زائدة، وليس بشيء والوجه أن الكاف ههنا ليس للتشبيه المجرد بل هو للتحديد والتحقيق كما هو في قولك الاسم كزيد وعمر وعلي أنه وإن جعل للتشبيه، فعلى سبيل المثل والمشبه غير مذكور، كما أنه غير مذكور في قولهم كالمهورة إحدى خدمتيها، ويحتمل أن تكون الآية من كلام إبراهيم معطوف على ما تقدم، وهو أنه لما قال للكافر: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾، قال له بعد: ﴿أوَ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾، أي إن كنت تحي فأحي كما أحيا الله وصفه في هذه الآية..
ويحتمل أن تكون آية مستأنفة، وضرب الله مثلين لشيئين أحدهما في ادعاء الربوبية، وهو ما تقدم، والثاني في إنكار البعث، وهو هذه، ويكون في قوله: ﴿كَالَّذِي﴾ في موضع الجر على ما تقدم،
فإن قيل: فهل في تخصيص القصة الثانية بحرف التشبيه، وإخلاء الأولى منه فائدة؟
قيل: بلى، فإن ادعاء الربوبية إنما قل في الناس، حتى إنه لم يعهد ذلك إلا في نفس أو نفسين وقال: (ألم ترى إلى الذي) والتشكل في الإحياء، من الجم الغفير، فنبه بقوله: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ﴾ تنبيهاً أنه نظر إليه وإلى مثاله، وجعل نالك مثلاً لمن نحى نحوه كقولك للكافر: كفلان، فتأتي بواحد على سبيل المثال، ولما ذكر تعالي إخراجه المؤمنين من الظلمات إلى النور، جعل اعتبار ذلك هذين، كأنه قال اعتبران تثبيت إبراهيم وإخراجه له من ظلمه الكفر إلى الإيمان مما جعلت له من الحجج، وإن شئت فيمن أخرجته من شبهة البعث بما جعلت، له من العيان، والذي مر على القرية، قيل كان عزيزاً عن قتادة والربيع، وقيل: " كان أرمنينا عن وهب، وروي أنه مات ضحى وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام، وقيل له: كم لبثت؟
قال: لبثت يوما، فلما نظر إلى الشمس قال: أو بعض يوم، وقيل: بدأ تعالي بعينيه، فنفخ فيهما، ثم بعظامه، فأنشزها، ثم وصل بعضها ببعض، فنظر إلى حماره، وأجزاؤه تجئ من سهل وجبل، حتى اجتمعت فاتصل بعملها بعضها، وكسى لحمه، وجرى فيه الروح، فقام ينهق، فقال: أعلم: أي اعترفت بقدرة الله تعظيماً لف، ومن قال: أعلم، فقد قليل: هو من قول الله عز وجل- له، وقيل: هو من قوله وقد خاطب به نفسه على طريق التبكيت، وقال بعض الناس بعزوه إلي بعض الأئمة أن الإشارة بالإحياء والإماتة إلى العلم والجهل، ومعنى القرية الرجال، بدلالة قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾، وقوله: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ وقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾، وجعل الخوى حلواً ينم
قوله- عز وجل: -
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
الآية (٢٦٠) - سورة البقرة.
الاطمئنان: السكوت، واطمأن، وتطامن يتقاربان لفظاً ومعنى من مكان مطمئن...
قيل: ويدل على ذلك أنه قال في مكان أخر (مخبتين)، والمخبت: المطمئن من الخبت، أي المطمئن من الأرض، وطار، وطير، نحو راكب وركب، و " تطايروا " أي تفرقوا، استعارة وفجر مستطير، وغبار مستطار، خولف بين بيانهما لاختلاف التصورين في كون الفجر فاعلاً والغبار مفعولاً وفرس مطار يقالك للسريع، ويقال لجديد، الفؤاد كأنه أطير فلبه، كقولهم شهم ومروع وقوله: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ﴾ أي ما يدمن أفعاله وصرته أصوره، أي أملته وصرته: قطعته صورة صورة، وقيل: صرت، وصرت: لغتان، والصوار سمي اعتباراً بالقطع كالقطيع والصرمة والصور النخل الصغار، إما لانقطاعها عن لحوق الكبار، أو كأنها مقطوعة في نفسها، والصور قيل: سمي لأن فيه صور الناس
أمره أن يأخذ أربعة طيور، فيضعهن على أربعة جبال ومعنى لجزء واحد منها، ثم يدعوها فتجتمع لديه، فأشار إلى أنه كاجتماع هذه الطيور لديك كذلك يجتمع من الجوانب الأربع الأموات قال، ولو كان (فصرهن) قطعهن، لما قال: إليك لأن ذلك لا تعدي بالباء..
إن قيل: لم لما سأله إبراهيم، أراد ذلك على أقرب الوجوه لما سأله عزير، أماته مائة عام حتى تفرقت أوصاله ونخرت عظامه.
قيل قد ذكر بعض الصوفية أن إبراهيم كان خليلا فمجاز له أن ينبسط لما سلف له من قدم صدق، فلما سأله ذلك، أعطاه سؤله، في الوقت على أقرب الوجوه ولم يكن العزير من الخلة ما يجوز هذا الانبساط قلما أقدم أبلاه الله تعالى في نفسه، وأراه ذلك في ذاته، ولأن إبراهيم تضرع وسأل وقال أرني، وغيره أخرج الكلام مخرج المنكر المتعجب من قدرة الله عز وجل وقال: (أني يحي) ولا يخفى ما بين اللفظين من الضراعة والغلظة، ولهذا ختم آية عزير بقوله: ﴿أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وآية إبراهيم بقوله ﴿وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ وقال الأصم: تفهموا عن الله حجج
إن قيل إن كان إبراهيم في هذه الحال شاكا في البعث فلم لما قيل له ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى﴾، والشاك في الشيء لا يجوز أن يكون مؤمنا به وإن كان موقنا فلا معنى لقوله: ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ فلا اضطراب للقلب مع اليقين، فإذا هذا قول متناقض قيل: إن إبراهيم كان موقنا بالبعث أنه كائن للاستدلال أولاً، وللوحي ثانيها وإنما التمس غاية التفسير وهو العيان الذي تنقطع عنده الخواطر كلها، فالخاطر ضربان، خاطر في ثبوت الشيء ونفيه، وخاطر في كيفية ثبوته، والأول يزول بالخبر والثاني لا يزول إلا بالعيان، وهذا هو حال إبراهيم وقيل: اليقين ثلاثة أضرب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين فعلم اليقين: ما وصول إلينا على سنة رسول الله - ﷺ - وعين اليقين: ما وصل إلينا بأنوار هدايته، وحق اليقين: ما اجتمع فيه الأمران، وبه تزول عوارض الخواطر عن جملته وتفاصيله وقيل: إن إبراهيم كان طلب كذلك لأن قومه سألوه وذلك كما قيل في سؤال موسى، حيث قال: ﴿أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ وقيل، إن نمرود كان ممن يعتمد المحسوس، ولما قال له إبراهيم: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ قال له: أرأيت ذلك بحاستك؟ فعدل إلى غيره من الحجج إذ لم يكن يمكنه أن يدعي عيان ذلك ثم سأل الله بعد ليريه ليمكنه أن يخبر به، وقيل: إن إبراهيم أحب أن يريه الله إحياء نفسه معراة من الأصل والزنا والفحش والحرص فبين الله أن ذلك لا سبيل إليه بأدلة الإنسان في هذا العالم، ومخلوق خلقه للتكليف، وأمره أن يأخذ أربعة من الطير، نسرا: إشارة إلى طول الأمل، وطاوسا: إشارة إلى زينة الدنيا، وغرابا: إشارة إلى الفحش النفسي، وديكا: إشارة إلي الحرص، وقال: قطعهن ووزعهن على جبال، ثم صرهن، فقد عادت إليك إشارة إلى أن هذه القوى وإن اجتهدت في إفنائها، فلا سبيل إلى إزالتها مادامت في دار الدنيا، وقيل: إن إبراهيم لما رشد
" والله أعلم بالصواب "..
إن قيل: ما معنى قول النبي - ﷺ - في هذه الآية: " نحن أحق بالشك من إبراهيم ".
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ الآية (٢٦١) - سورة البقرة.
يقال النبت لما له نمو في أصل الحلقة يقال تنبت الصبي والشعر والسن وفلان حسن النية ويستعمل النبات فيما له ساق، وما ليس له ساق وإن كان في التعارف قد يختص بما لا ساق له، وأنبت الغلام إذا راهق، كأنه صار ذا نبتة وفلان في منبت خير كناية عن الأصل، والسنبلة فيعلة من السبل يقال: أسبل الزرع، وسنبل، من أصله السبيل وقد تقدم أن سبيل الله ليس بمقصور على الجهاد، بل هو لكل ما يتوصل به إلى الله عز جل، والمائة عدد معروف يقال: أماءت الدراهم وألفت وإمايتها وألفتها..
إن قيل: كيف تعلق هذه الآية بما قبلها؟ قيل: إن ذلك متعلق بقوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ وما بينه وبين هذه الآية، اعتراضات مرغبة للإنسان في فرضه من حث على قناعة هي أس الجود، وذكر عظمة المستقرض وإرشاد لمن يستقرض منهم، وبين في يده أن فرضه هو الإنفاق في سبيله وأن مضاعفته هو بأن يجعل للواحد سبع مائة وأنه يضاعف مع ذلك لمن يشاء مضاعفة لا يضبط عدها، ولا يعرف حدها..
إن قيل:
كيف قال في موضع: " يضاعف "، وفي موضع: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ وقال هاهنا ما يدل على أنه يحادي بواحد سبع مائة، قيل: في ذلك طريقتان: إحداهما أن الخيرات تختلف باختلاف العالمين واختلاف نياتهما والثاني: أن تختلف باختلاف الأعمال فالأول: هو أن الناس فيما يتحرونه من أفعال الخير بالقول المجمل ثلاثة أضرب على ما قصد تعالى من ظالم ومقتصد وسابق أما الظالم: فالمتحري للخير مخافة سلطان ومذمة إنسان وتخويف عالم إياه من النار ونحو
، وأما المقتصد: فالمتحري للخير مخافة عقاب الله ورجاء ثوابه من حيث ما قد تحقق وعده ووعيده، وأما السابق: فالمتحري للخير قصدا لوجه الله خالصا وثوابهم يختلف باختلاف مقاصدهم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في السابقين حاكيا عن الله عز وجل - (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) الخبر.
والثاني.
وهو أن يختلف باختلاف الأعمال وبيان ذلك أن السخاء أفضل أفعال العباد بدلالة قول النبي - ﷺ -: " السخاء شجره من أشجار الجنة، أغصانها متدليات في الدنيا فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى الجنة، والبخل شجرة من أشجار النار، فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار "
وقيل لبعض الحكماء:
" أي شيء من أفعال العباد أشبه بفعل الله "؟
فقال: " السخاء، وأفضل الجود ما كان عن ضيق "..
ليس العطاء من الفضول سماحة...
حتى تجود وما لديك قليل
وقد علم أن أصحاب النبي - ﷺ - كانوا مضيفين سيما في ابتداء الإسلام وأفضل الإنفاق ما يقصد به وجه الله لعز وجل -، وأفضل ما يقصد به وجهه ما يجعل في سبيل الله، وأفضل سبيل ينفق فيه ما كان أكثره غنى، وقد علم أنه لا جهاد أكبر من جهاد النبي - ﷺ - ولا قوم أكفر ممن كان يحاد بهم ولا زمان أحوج إلى محاربتهم من زمانه وكل وأحد من هذه الخصال يجري مجرى فعل يستحق مثوبة محددة، فعظم الله تعالى أمر الإنفاق في سبيله في زمانه، وجعل له من الثواب ما لم يجعل لغيره من الأعمال، ووجه ثالث وهو أن الإنسان متى تحرى فعل الخير على ما يجب وكما يجب يدعوه ذلك إلى أن يزيد في فعل الخير فلا يزداد، حتى إنما يصير مثل ملك فيه الفضيلة وبازدياده في الإيمان وفعل الخيرات يزداد ثوابه، فحيث ما ذكر التضعيف، فأشار إلى الحالة الأولى وحيث ما ذكر عشرة أمثالها وسبعمائة فإلى الأحوال المتوسطات وحيث ما ذكر، ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فإلى المنتهيات والغايات وأنها لا يحصرها عدد كما قال: عليه الصلاة والسلام: " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ".
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ الآية (٢٦٢) - سورة البقرة.
المن على ضربين: أحدهما ما يوزن به والأكثر منا بالتخفيف، والثاني قدر الشيء ووزنه، ومنه المنة، فإنها تستعمل على ضربين، أحدهما: اسما للعطية - لكونها ذات قدر بالإضافة إلى سائر الأفعال، وذلك لما تقدم أنفاً في صفة الجود وأنه أشرف فضيلة، والثاني: اسما لقدر العطية عند معطيها واعتداده بها، وهو المنهي عنه بقوله ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾، وقوله - عليه الصلاة والسلام: " والامتنان بالمعروف فإن ذلك مما يبطل الشكر ويمحق الأجر "، وقيل: " تعداد المنة من ضعف المنة "، والمنة تهديه للصنيعة، وللعطيه متى استعظمها المعطى فشكر منه، ومتى استعظمها المعطى، فهدم منه، فقوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ يجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر أي الذين مثل إنفاقهم كمثل حبة منهم الذين ينفقون أموالهم، ويكون قوله: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ في موضع الحال ويجوز أن يكون " الذين " هذا يفسر " الذين " المتقدم ويكون الذين ابتداء وما بعده خبرا، وقوله: ﴿وَلَا أَذًى﴾ الأظهر الأكثر أنه معطوف على قوله: " منا "، وهو أعم منه لأن كل من أذى، وليس كل أذي منا، وقيل: هو أن يظهر المسئول تبرما بالسائل، نحو أن يقول: " أراحني الله منك "، أو: " من أبلاني بك " فعلى هذا قوله: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ استئناف، وقوله: ﴿لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا﴾ تام، وقوله: " ولا أذى لهم " كلام مستأنف من صفة المعطى كأنه قيل: " الذين ينفقون ولا يمنون، ولا ينادون بالإنفاق، فإن تمام فضيلة المنفق في سبيل الله أن يصير سلس الطبع بالعطاء، مستلذاً، يصرف المال إلي الوجوه المحمودة "، كما روى أن من الرجل محموداً حتى يكون ما ينفق في سبيل الله أحب إليه مما تركه، وروي هشام بن عروة عن النبي - ﷺ - من أعطى عطية وهو طيب النفس بها بورك فيها للمعطي والمعطى ".
ليْس يعُطيك للرَّجاءٍِ وَالخوْ...
فِ ولكنْ يلذُّ طعْم العطاءِ
والبخيل يتألم بما يعطي غيره، فضلاً عما يعطيه هو، ولهذا قيل أن " الحر يعطي واللئيم يألم إسته ".
وقوله: ﴿أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ضمن ضمان يلي، وفي يؤمن إخلافه وإفلاسه، وقوله: ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ليس يراد به الخوف في الآخرة فقط، بل يريد مع ذلك الخوف الذي ابتلى به أبناء الدنيا الذين ينفقون بما في أيديهم دون ما في يد الله - عز وجل -، ويجوز أن يكون قوله: ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من: " خفت على فلان " أي أشفقت عليه أي: لا إشفاق عليهم لما هم فيه من النعيم ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، فعلى هذا قوله ﴿أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ إلى أخر الآية، ذكر مالهم من الثواب ويجوز أن تكون الآية كلها وصفاً للإنفاق في سبيل الله وبيان ذلك أن حق المنفق في سبيل الله أن تطيب به نفسه، وأن لا تتعقبه بالمن وأن لا تشفق من فقر تناله من بعد، بل تثق بكفاية الله - عز وجل -، ولا يحزنون إن يناله فقر، وبين تعالى أن ما تقدم ذكره من مجازاة واحد بسبع مائة هو لن هذا وصفه..
قوله - عز وجل:
﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ الآية: (٢٦٣) - سورة البقرة...
الغنى: فقد الحاجة، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس واختلاف نظرهم فمنهم من يرى الغنى كثرة عرض الدنيا، حصلت معه الحاجة أو لم تحصل ومنهم من عده القناعة وإليه يوجه قوله عليه الصلاة والسلام: " الغنى غنى النفس " ومنهم من لا يعده إلا ارتفاع الحاجة وقال: " لا غنى
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم...
ويرمي النوى بالمقترين المراميا..
وأما الغناء فللتشبيه على نحو نظر من قال " الغناء غذاء الأرواح، كما أن الطعام غذاء الأشباح، وقال ببعضهم: " من مدح الغناء إنما مد الغناء وقصر الغنى تفضيلاً للمدود "، فقد حصل له منفعة ليست في شيء من اللذات، وذاك أن اللذات الحسنة أربع، أكل، وشرب، ونكاح، وغناء..
، وكل يوصل إليه بتعب إلا الغناء، واختلف في قوله: ﴿مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ﴾.
فمنهم من قال: خطاب للمسئول ومعناه: لأن تبذل للسائل قولاً حسناً، وتغفر له أن ذاك بمراجعة وإلحاف خير من أن تعطيه وتمتن عليها، كقول الشاعر:
ومنعك للندى بجميل قول
أحبُّ إلي من بذل ومنة
وقيل: معنى المغفرة الترك، أي الاقتصار على القول الحسن، وترك الصدقة خير من صدقة هكذا، وقيل معناه: وإن تسأل الله الغفران لتقصيرك في إعطائه، وقيل: معناه ستر الخلة عليه، وقيل: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ وسلامة من المعصية خير من المعصية خير من صدفة هكذا، فإن هذه الصدقة فيها
لأن أرجي عند العرى بالخلق.... وأجتزى من كثير الزاد بالعلق
خير وأكرم لي من أن ترى نعم.... معقودة للئام الناس في عنقي..
وقيل: معناه: لأن تنال أيها السائل قولاً معروفا من المسئول ومغفرة من الله خير من صدقة هكذا..
ومنهم من قال: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ خطاب للمسئول، أي: " لتقل قولا حسنا في رده، ومغفرة خطاب للسائل " أي: اغتفر رده لك ولا تثقلن قلبك عليه، ونبه بقوله: ﴿وَاللَّهُ غَنِيٌّ﴾ أن استقراضه ليس بحاجة به، بل لحاجة المقرض إلى الثواب، وبقوله " حليم "، أنه ليس يجب أن يغتر المذنب بتأخير العقوبة عمن قصر في الإنفاق أو في المنة على السؤال أو في سؤاله وليس بأهله..
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ الآية: (٢٦٤) - سورة البقرة.
التراب أصل في بابه، وترب يخصص بالتراب، وعبر به عن الفقر، وأترب صار ذا تراب، وعبر به عن المختص بالمال الكثير، فكأنه عبر عن المال بالتراب كما عبر بالثرى، وقول الشاعر في مخاطبة الدلو:
" واغترفي من تربها الأدق "
تصور منه معنى ترب وأترب، ففسر مرة بأنه دعاء عليها، كأنه قال: تربت فلا تخرجين إلا ترابا، ومرة بأنه دعاء لها، والمعنى أتربت، فأخرجت ماء كثيرا، والترب للذة على بناء القبل والقرن أي المقابل والمقارن، وكأنه الواقع مع غيره في التراب عند الولادة، وقيل معنى الترب الملاعب مع غيره بالتراب في الصغر، كقوله:
كما قسم الترب الصبي المقابل
والتريبة لعظم الصدر، حيث التفت عظام كأنها أتراب أي لدات، ولهذا قيل لها أتراب بلفظ الجمع، والوابل الذي يبل الأرض، أي يأتيها بالوبل، ويقال للمطر وابل ويرعى وبيل للنبات اليابس الذي يأتيه المطر، فيصير أذى للغنم وهو الذي يقال له النشر، ومنه اشتق الوبال وعنه استعير " أخذه أخذا وبيلا "، ويقال للعصا الثقيلة، وبيله الصلد، والصلت، والصلب تتقارب، لكن الصلد
، وصفوان: أبلغ من الصفات، وهو كل حجر صاف من التراب، وواحده قيل: صفوانه: نحو سعدان وسعدانة، ومرجان ومرجانة، وقيل واحد، وجمعه صفوان، نحو كروان وليعظم الله تعالى فتح المنة، أعاد ذلك في معارض من الكلام، فأثنى على تاركها أولاً، وفضل المنع على عطية يتبعها المن..
ثانيا: وصرح بالنهي عنها بالياء، وخص الصدقة بالنهي إذ كان المنة فيها أعظم وأشبع ولكون ذلك فظيعا مستبشعا قال عليه الصلاة والسلام: " ثلاثة لا يجدون ريح الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة خمس مائة عام: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان "، وقوله: ﴿كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ﴾ في موضع الحال للمؤمنين، لا تبطلوها مثل منفق ماله مرائيا - تنبيها أن إنفاق الممتن كإنفاق المرائي الكافر بالله لأنه قال: ﴿كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ﴾، وذلك كله من صلة " الذي " وقد عظم مزاياه حتى جعل المرائي بفعل الخير شرا من تاركه - سيما في العبادات، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - " المتشبع بما لم ينل كلابس ثوبي زور " تنبيها أنه كاذب بمقاله وفعاله، وشبه المرائي بصفوان وماله بتراب، وإنفاقه بالوابل وبين أن إنفاق هذا المرائي مع كون الإنفاق في نفسه شيئا نافعاً لم يفده إلا زوال ترابه، كما أن المطر الذي أتى على الصفوان مع كون المطر نافعا في نفسه لم يفده إلا زوال ثراه وقال تعالى في ضياع أعمال الكافر: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾، وفي الآيتين دلالة أن
وهذا ظاهر، وقوله: ﴿لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ﴾ راجع - إلى قوله: كالذي، أي المرائي بإنفاق ماله، لا يقدر يوم القيامة على اجتناء ثمرة ما اكتسبوا
فإن قيل: وكيف يجوز أن يكون ﴿لَا يَقْدِرُونَ﴾ فعلا للذي والذي هو فعلاً للواحد؟ قيل: قد يقدر أن الذي قد يقع على الجمع، وأنه إذا أريد به الجمع، فقيد يخبر عنه كما يخبر عن الواحد وقوله: ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾.
قد تقدم أن الهداية على أربعة أضرب هداية بالفطرة وهداية ببعث الرسل وهما عامان لكل مكلف، وهداية بالتوفيق لمن يستحق الاهتداء وهداية هي ثواب الآخرة، وهاتان لا تكونان للكافر
قوله - عز وجل:
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ الآية (٢٦٥) - البقرة
يقال: ربوة، وربوة، وربوة وربا حصل في ربوة، وسميت الربوة رابية كأنها ربت بنفسها في مكان بسيط ويقال لكل ما زاد وعلا ربا، ومنه الربوا والطل أثر الندى، والطلل: الأثر الباقي مما بلي، وطلت الأرض، أصابها طل، نحو وبلت، ومطرت وطل دمه: ترك أثره، وعلى ذلك ما قيل: إن سألتك بمرشكرها وشبرك أفشأت تطلها وتضهلها، وقيل: للشجر طل وندى لأنه من النبت والنبت منهما وبالعكس من ذلك قيل للندى والمطر شحم لأنهما يؤديان إليه بين تعالى أن المنفق ما له في سبيل الله ينبغي أن يكون قاصدا به الوجهين اللذين لأجلهما أوجب على الناس الزكاة، أحدهما ابتغاء
أنها لا تنفك من وابل وطل وعلى هذا قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة... خضراء جاد عليها مسبل هطل
إن قيل: ما وجه قوله تعالى: ﴿فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾ والضعف يقال في عدد ما يصح أن يوجد نصفه ولم يجرها هنا ذكر عدد ولا ما يقتضي عدداً، قيل: إنه لما كان لكل قطعة أرض قدر من الريع لا يكاد يزيد عليه بين تعالى أن دخل هذه الجنة ضعفا ما يقتضي مثلها من الأرضين..
إن قيل: لم قال: ﴿وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؟ فجمع جمع القلة؟ قيل: تنبيها أن ذلك الفعل لا يكاد يوجد إلا في قليل من الناس، فصار في تخصيص الأنفس إشارة إلي نحو قوله - عز وجل - ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ ولهذه النكتة - قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ قال: عليه الصلاة والسلام لأصحابه: " الشرك أخفى فيكم من دبيب النملة على الصفاة في الليلة الظلماء "، تنبيهاً أنه قل ما ينفك عمل من رياء وإن قل.
وبين تعالى بقوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أنه لا يخفي عليه شيء من أسرار العباد..
قوله - عز وجل:
﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ الآية (٢٦٦) - سورة البقرة.
النخيل: سمي بذلك لأنه منخول الأشجار وصفوها وذاك أنه أكرم ما ينبت، لكونه مشبها بالحيوانات في الاحتياج، الأنثى منها إلى الفحل في التلقيح وأنه إذا قطع رأسه لم يثمر بعده.
والعصر مصدر " عصرت العنب "، وسمى أخر النهار ومدة من الزمان عصرا كأنه مدة عصرت، فجمعت، وقيل للعطية عصر تشبيها بعصر الريح السحاب، وسمى الإلجاء عصرا والاعتصار
الالتجاء، والمعصر سحاب ذات عصر للمطر، وامرأة فوق الكاعب معصر لكونها ذات عصر أي زمان
مطيات السرور فوق عشر...
إلى عشرين ثم في المطايا
والإعصار: أصله مصدر أعصر، فسمى به الريح والاحتراق مطاوعة حرق، وجرح الثوب أن تحرقه الدق، وحرق البعير حك إحدى نابيه بالأخرى، وريش حرق كالمنقطع بالإحراق، والحرقة احتراق البدن بحرارة فيه والحراق معروف، والحرقات سفن يرمى عنها بالنيران، ضرب الله مثلا لأعمال المنافق والمرائي، وأن لها في الدنيا شارة ونضارة، فإذا احتاج إليها وجدها باطلة، كمن له جنة هكذا يعتمدها، فلما اختل حاله، وكثر عياله، وانقضى شبابه، بقى خاليا عنها وعلى هذا دل ما روى أن عمر - رضي الله عنه قال: " إني لأجد في نفسي من هذه الأشياء "، وكان في القوم ابن عباس فقال: هذا مثل ضربه لمن يعمل عمره كله بعمل أهل الخير حتى إذا كان في آخر أيامه، وفي أحوج ما يكون إلى الخير، ختم عمله بعمل أهل الشقاء، فبطل ما عمل، وقيل: إن ذلك مثل ليس للمال فقط
إن قيل: كيف قال: " أيود " وهو مستقبل، ثم قال: " وأصابه الكبر "، فأتى بلفظ ماضي؟
قيل: قد قال الفراء: لما كان يود يتلقى مرة بأن يكون، ومرة بلو كان، جاز أن يقدر أحدهما مكان الآخر، لإنفاق المعنى، فكأنه قيل " أيود أحدكم لو كان له جنة، وأصابه الكبر "،
إن قيل: ولم قال: " وأصابه الكبر " ولم يقل: " وكبر "؟ في قوله: " وأصابه الكبر تنبيه على معنى التأثير والنكاية فيه، كقول الشاعر:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى..
قوله - عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ الآية: (٢٦٧) - سورة البقرة.
الطيب يقال تارة باعتبار الحاسة، وباعتبار العقل تارة، والخبيث في نقيضه، والأظهر أن المعني به هاهنا المعقول الذي هو الحلال، فقد روي: " ثلاث إذا كن في التاجر طاب كسبه، لا يعيب إذا اشترى، ولا يمدح إذا باع، ولا يكذب " وروي: لا يحلف.
" إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه "، وأصل التيمم قصد اليم أي لجة البحر، ثم صار في التعارف القصد نحو، ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، ويممته وأممته، قيل هما واحد وقال الخليل: أممته: قصدته من أمامه ويممته: قصدته من أي جهة كان والإغماض والتغميض غض البصر ويستعمل في الترخص كالإغضاء ذكر تعالى فيما تقدم فضل النفقة في سبيله، وحث عليها وقبح المنة، ونهى عنها وحث في هذا أن يكون الإنفاق من طيبات الكسب قيل: من أجوده، بدلالة ما روي أنه لما أمر بالصدقة، جاء قوم من أهل المدينة من صدقة التمر بالحشف ومن الطعام بالزوان فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل الطيبات تتناول مع ذلك الحلال وحقيقة الطيب من الكسب ما ليس فيه ارتكاب محظور واكتساب محجور، بل منح العقل والشرع تناوله ودخل في قوله: " ما كسبتم " كل ما يناله الإنسان بريح أو أجرة عمل، وفي قوله ﴿وَمِمَّا أَخْرَجْنَا﴾ أنواع الحبوب والثمار والمعادن، وتخصيص المكتسب دون الموروث لأن الإنسان مما يكتسبه أضن منه مما يرثه، فإذا الموروث معقول من فحواه
إن قيل؟ ما فائدة: لكم؟
قيل: تنبيه أن المقصود بإتخاذ هذه الأشياء نفعنا ليبلغنا بها إلى سعادة الدارين، كقوله
إن قيل: لم قال: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ﴾ ولم يقل: (ولا تنفقوا الخبيث) مع أن اللفظ كان أوجز؟
قيل: لأن القبيح من الإنسان أن يقصد الخبيث أي الرديء من جملة ما في يده فيخصه بالإنفاق في سبيل الله، فأما إنفاق الرديء لمن ليس له غير ذلك، أو لمن لا يقصده خصوصا فغير مذموما.
قوله - عز وجل:
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾
الآية: (٢٦٨) - سورة البقرة.
الفقر أربعة: فقر الحسنات في الآخرة، وفقر القناعة في الدنيا، وفقر المقتني، وفقرها جميعا والغني بحسبه، فمن حصل له في الدنيا فقد القناعة والمقتني فهو الفقير المطلق على سبيل الذم، ولا يقال له غني بوجه وهو المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام " كاد الفقر أن يكون كفراً "، ومن فقد
ولهذا قال: قد يكثر المال والإنسان مفتقر،
وقيل لبعضهم: أفلان غني؟ فقال: لا أدري غناه، ولكنه كثير المال، ومن فقد القنية دون القناعة، إنه يقال له فقير وغني، وكلاهما يقالان على طريق المدح، فقد قيل: ليس الغني بكثرة العرض وإنما الغني غني القلب "، والمشهور من الفقر عند العامة الحاجة وأصله كثير الفقار ومن قولهم: فقرته نحو كبدته، وبطنته، وبهذا النظر سمى الحاجة والداهية فاقرة، نحو: ﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾، الفحش والفحشاء كل منكر من المقال والفعال وإن كان قد خصها بعضهم هاهنا بالبخل، كقول شاعر:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي... عقيلة مال الفاحش المتشدد
فقوله: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾، قيل: عنى فقر الآخرة وهو أن يخيل إليه أن لا جزاء ولا شُكوراً وقيل هو بأن يخوفه، الفقر في آخر عمره.
إن قيل: على أي وجه يتصور وعد الشيطان؟
قيل: إن ذلك تسليط النفس ووساوسه ولهذا قال هاهنا في الشيطان: ﴿وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ قال في غيرها: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ لما جريا مجرى واحدا،
إن قيل:
من حق مقابلة اللفظ في قوله ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ أن يقول (والله يعدكم الغنى)، ويأمركم بالمعروف أو بالبر فليست المغفرة مقابلة للفقر ولا الفضل للفحشاء وإن كان مقابلاً به، فلم لم يذكر في: (الله يأمركم)، والله يأمركم والله في الحقيقة يأمر فأما الشيطان فهو المسؤول الموسوس؟
قيل: قابل الفقر بالمغفرة والفضل، والفضل أعم من الغنى، لأنه يتناوله وغيره، فبين أنه يعد بالغنى وزيادات فضل فأتى في مقابلة وعد الشيطان بالمغفرة، أنه يغفر مع ذلك انقيادكم للشيطان، وسائر الذنوب ولما كان أمر الشيطان بالفحشاء إنما هو لأجل وعده بالفقر لأن من خاف بخل بماله، والبخل سبب ارتكاب سائر الفواحش ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام: " وأي داء أدوى من البخل؟ "، صار مستغنى أن يذكر في مقابله: ﴿وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ بما ذكر من قوله: ﴿مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا﴾ لأن أمر الله تعالى بالخيرات والحسنات معلوم وإنما المجهول أمر الشيطان، إذ كان أمره يخفى على الجهال وإنما يعرفه أولوا الألباب..
﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾
الآية (٢٦٩) - سورة البقرة.
قد تقدم أن الحكمة معرفة الموجودات، وفعل الخيرات بقدر طاقة البشر، وذاك عام فيما يدرك بالعقل وبالوحي، وإن كان قد خص في بعض المواضع بما يدرك بالعقل في نحو قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، فقول ابن عباس: " الحكمة هاهنا: علم القرآن ناسخه، ومحكمه، ومتشابهه "
وقول ابن زيد: " إنها علم آياته وحكمه ومتشابه " وقول السدى أنها النبوة، وقول إبراهيم: إنها الفهم، وقول غيرهم إنها الخشية كلها صحيح وإشارة إلى أبعاضها، ومن قال: عنى بالخير الجنة ومن قال: هو العلم الظاهر والباطن فصحيح، والحكيم يقال بمعنى الفاعل والمفعول نحو: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ أي محكم ثم بين أن حقيقة ذلك لا يتذكرها إلا أولوا الألباب وقد تقدم حقيقة اللب وماله من المزية على مقتضى لفظ العقل، وإليه أشير بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ وأما من قال: " كل مكلف ذو لب " حاصل له فبعيد عن معرفة حقيقته وما تقدم يغني عن بسط القول فيه هاهنا.
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾
الآية (٢٧٠) - سورة البقرة.
إن قيل: كيف قال: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾، ثم قال ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾، ثم رجع إلى ذكر النفقة، وذلك كلمات متباينة في النظم متفاوتة في السرد؟ قيل: بل ذلك في نهاية حسن النظم، فإنه تعالى لما بين فضل الإنفاق في سبيله وحث عليه حذرنا من الجنوح إلي الشيطان وإلى شرور النفس، وحثنا على الاعتماد على الحق بقوله: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ الآية، ثم بين بقوله: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾ أن ذلك أمر يعرفه المتخصص بالحكمة التي يؤثر الله بها من يشاء، ثم رجع إلي ذكر النفقة وبين أن ذلك موضوع عند من لا يسهو أولا ينسى، وصار ذلك الحكمة مع كونه متعلقا بما تقدم كالاستطراد والتنويه بذكرها والحث على معرفتها والتخصيص بها..
إن قيل: ما وجه تعقيب الإنفاق بالنذر ووجه الآيتين بقوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ بعدهما؟
قيل: النذر عقد الإنسان على نفسه فعل البر بشرط أو بغير شرط، ولما كان فعل الخيرات ضربين مفروغا منه ومعزوما عليه بين أن كلا الأمرين لا يخفى عليه وذلك كلام متضمن للوعد والوعيد، وقال بعضهم: ليس النذر هاهنا ما يلتزمه الإنسان بالتطوع فقط، بل كل ما التزمه بالعقل أو بالشرع فنذر، وقيل الإشارة بالنذر إلى التطوع وبالإنفاق إلى الواجب، ثم بين أن من ظلم نفسه بتقصيره فيما يلزمه من ذلك أو ظلم غيرة، فماله أنصار وهو جمع نصير نحو: شريف، وأشراف،.
وفي ذلك تنبيه على ما قال:
﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾
﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ الآية (٢٧١) - سورة البقرة.
خفي الشيء صار في خفية، والخفاء ما يستر به كالغطاء، وخفيته: أزلت خفاءه وذلك إذا أظهرته، وأخفيته أوليته ما دون القوادم من الريش..
، قال الخليل: لأنها تخفى إذا وقع الطائر قد أثني الله تعالى على إبداء الصدقات بقوله: ﴿فَنِعِمَّا هِيَ﴾، وقال ابن عباس: هذا في صدقة التطوع فأما الفرض، فإظهاره أفضل، لئلايتهم، وقال الحسن وقتادة: إخفاء جميعه أفضل ومن الناس من يحتج بذلك في جواز إعطاء الصدقات في الصامت والناطق الفقراء دون الإمام، لقوله: ﴿وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ﴾، وقال بعضهم: ليس القصد بذلك إعطاء الفقراء يدا بيد، بل القصد إخفاؤه، فإنك إن آتيت الساعي فقد أتيتهم لأن يده يدهما في الحكم، وبين أن إخفاء الصدقة أحمد، لأن قوله: " خير " إن جعلته في تقدير " افعل " فتفصيله ظاهر، وإن جعلته في تقدير: " فعل "، فالخير أبلغ معنى من مقتضى نعم، ولا قال في الإخفاء " فهو خير لكم "، فأكده بلكم، ثم قال: ﴿وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ﴾، ولم يصف الإبداء بذلك، ثم قال: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ تنبيها أنه إن أخفى لا يخفى عليه ولا يضل عنه ويؤكد فضل إخفائه قوله عليه الصلاة والسلام " سبعة يظلهم الله في ظل عرشه.
، ، وذكر رجلا تصدق بصدقة أخفاها حتى لا تعلم شماله ما تصدقت به يمينه.. "، وقوله: ﴿فَنِعِمَّا هِيَ﴾ قرئ مكسور النون والعين وكسر النون
إن قيل: ولم قال: ﴿وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾؟ فأدخل فيه من قبل (قد): قال بعضهم: من زائدة وقيل تنبيها أنه لا يكفر جميع المعاصي لأنه يكفر الصغائر بشرط اجتناب الكبائر عند قوم ويكفر الكل عن المسلمين بشروط اجتناب الكفر إن شاء عند قوم..
﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ الآية: (٢٧٢) - سورة البقرة.
إن قيل: ما وجه أتباع هذه الآية لما تقدم؟
قيل: روى عن النبي - ﷺ - إنه والمؤمنين تحرجوا من مواساة الكافرين ومواصلة أقاربهم منهم، حتى إن النبي - ﷺ - سأله يهودي فقال: لاحق لك وإن " أسماء بنت أبي بكر " امتنعت من مواساة جدها وامرأته، وإن الأنصار امتنعوا من الإنفاق على أصهارهم من الكفار فأنزل الله تعالى ذلك تنبيها أن ليس عليك هداهم وأن يهتدي الكافر وإنما عليك أن تهديهم أي تدعوهم إلي الهدى على الوجه المأمور به - تنبيهاً أنه لا يجب أن تمتنع من مواساتهم لذلك، ومن الناس من قال: هذا كان عاما في جميع الصدقات، فرضها ونفلها ثم نسخت الفريضة بقوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ الآية ومنهم من قال: هو مخصوص في النافلة دون الواجبة، وإليه ذهب ابن عمر والحسن، وروي أبو حنيفة أنه لما أنزل الله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ تصدق الناس على الكفار من غير الفريضة، وقيل عنى بالهداية الغنى، أي ليس عليك أن تهديهم، وإنما عليك مواساتهم، فإن الله يغني من يشاء وتسمية الغنى، هداية على طريقة العرب في نحو قولهم:
" ومن يغو لا يعدم على الغي لائما "
وقيل: ليس لقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ تعلق بالإنفاق، وإنما هو تسلية للنبي -ص-، وتنبيه أنك وإن أمرت أن تكثر حثهم على الإنفاق فليس يرجع عليك ملامة في تقصيرهم، كقوله: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ وقوله: ﴿وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾، وقوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ وقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ كقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ وقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ وقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي: أهل دينكم.
قال سفيان بن عيينة:
بين أن ما تنفقوا من صدقة فلأنفسكم وقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ يعني: أهل دينكم تنبيها أن حكم الفرض من الصدقة بخلاف حكم التطوع، فإن الفرض لأهل دينكم دون الكافرين، وقال غير معناه: ما تنفقونه فإنه يحصل لكم ثوابه سواء أوصلتم إلى مؤمن أو كافر، وقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ قيل: هي جملة في موضع الحال، كأنه قال:
إن قيل ة ما معنى قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ وهذا معناه كمعنى قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ ما ذكره النبي - ﷺ - حيث يقول: " اللهم اجعل لمنفق خلفاً، ولممسك تلفاً "، ويعني به المنفق حيت ما يجب، وكما يجب، لا المنفق في عبارة وخسارة، وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، وهو تعالى يجعل لكم بالواحد سبع مائة، كما ذكره في الآية المتقدمة، والوجه هاهنا قيل معناه القصد والجهة، وقيل معناه القصد به الذات نحو النفس، ومعناه: يقصد به ذات الله، لا طلب جزاء، ولا خوف عقاب، ولا غير ذلك من الوجوه التي يقصدها أبناء الدنيا بالإنفاق...
قوله - عز وجل -:
﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾
الآية: (٢٧٣) - سورة البقرة.
العفة: حبس النفس لكن فضول الشهوات الرديئة من المأكل، والمنكح، والاقتصار علي البلغة التي لابد من المشار إليها بقوله تعال: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى﴾.
" أريع من جاوزهن، ففيه الحساب: ما سد الجوعة، وكف العطشة، وستر العورة "، أكن البدن "...
ويدخل في العفة الجود، لأنه قد قيل: الجود ضربان: أن يكون بما في يدك متبرعاً، وأن يكون عما في يد غيرك متورعاً، والزهد يقاربه إلا الزهد، يقال اعتبارا بترك عرض الدنيا، والعفة تقال اعتباراً بحبس النفس عن الشهوات، وتتلازمان، والعفافة بقية ما في الضرع كأنه قدر يمكن التعفف به، والإلحاف استشعار المسألة والاستقصاء فيها وتذرعها، يقال: لحفته: أي ألبسته إلحافا ككسوته، أي ألبسته كساءً، والوسم والسيما تتقاربان لكن الوسم علامة محسوسة كسمة البعير، والسيما علامة متفرسة، وأصلها من السوم أي طلب الكلا، وطلب المبيع، وسوم الماشية أن تطلب لها المرعى وإن كان قل يستعمل في إرسالها.
إن قيل: بم يتعلق قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾؟
قيل: هو على ما ذكر سنين بدل من قوله: ﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾، فقد ذكر أنه يعني بأنفسكم أهل دينكم، فصار الفقراء بعضهم، فصح أن يبدل منه بدل البعض من الكل، وقيل: يتعلق بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾، أي ما تنفقون لهم إلا تقرباً إلي الله عز وجل-، فمعلوم أن من خص بنفقته هؤلاء، فإنه لم يقصد إلا وجه الله، وقيل: ذلك يتعلق بفعل مضمر يدل علي: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾، أو بقوله: ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾، أي يوف إليكم، ويوسع لأجل الفقراء إشارة إلى ما قال - عليه الصلاة والسلام: " إنما تنصرون بضعفائكم وتمطرون وترزقون ".
، وقوله: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ أي: ذهابا لمنع العدو إياهم، وقيل، لمنع الله لهم وإلزامهم أنفسهم المرابطة في سبيله، ولم ينف عنهم القدرة، ولكن بين أن إيمانهم وأحوالهم تمنعهم عن الإخلال وكما هم بصدده، كقولك: " أمرني الأمير بكذا، فلا أستطيع أن أخل به "، وقوله تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ﴾، أي الجاهل بحالهم، وقيل: إن ذلك فيمن له استغناء في الظاهر وبه فقر في الباطن أو فقر إلى الله لمعرفته بحقائق الأمور، وقوله: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾، أي تتفرس فيهم أحوالهم، وذلك مما يدل على أن للفراسة حكما صادقاً، وعليه دل قوله تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ وقوله: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ﴾، وقوله عليه الصلاة والسلام: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله "
إن قيل: ما وجه ذكر ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ في ثلاثة مواضع متقاربة وتعليق كل واحد بحكم غير حكم الآخر.
قيل: إنه بين أولاً ما ابتغى به الإنسان وجه الله، فنفعه راجع إلى نفسه، وبيم في الثاني أنه وإن لم يقصد به وجه الله خالصاً، بل قصد به طلب ثواب، أو اتقاء من نار، أو غير ذلك من وجوه المصالح، فله ما قصده، وآتاهم الثواب في الثالث، حيث ذكر الانفاق للفقراء الذين أحصروا،
(أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت).
قوله- عز وجل:
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
الآية (٢٧٤) - سورة البقرة.
قد تقدم أن إنفاق الأموال عند بعضهم ليس إنفاق المقتنيات فقط، بل كل ما خص الله به الإنسان من النفس والبدن في العبادة والعلم والجاه وغير ذلك، لكن الأظهر أنه إنفاق المقتنيات وروي أنه لما نزل ذلك، كان مع أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - أرنعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا وبدرهم علانية، فقيل له في ذلك، فقال: " أردت أن أستوجب من الله ما وعد به الذين يفعلون ذلك "، والإنفاق في سبيل الله ضربان ضرب ظاهر وهو الصدقة على الفقراء، وضرب غير ظاهر، وهو الإنفاق في المباحات إذا كان متناولا حيث يجب ومنفقا على ما يجب وكما يجب، وقد نقدم ما قال بعضهم أن مباحات الأولياء كلها فرائض، فعنى بقوله: علانية ما عرفه الناس أنه صدقة، وبالسر مالا يعرفه صدقة إلا أولوا البصائر، وإلى هذا أشار من قال إنها نزلت، في النفقة على الخيل فإن الإنفاق على الخيل في الظاهر ليس بقربة وقوله: ﴿بِاللَّيْلِ﴾ إشارة إلى نحو ما روي أن بعض الأنصار نزل به ضيف، وكان عنده طعام طفيف فقدمه إليه في الظلمة بالليل يري أنه يؤاكله وهو يؤثر به حتى أثنى الله عليه، والقصد بالآية في الجملة نفقة من لا يرائي أن لا يداحي وإنما يقصد به مرضاة الله فقط..
﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ الآية (٢٧٥) - سورة البقرة.
الخيط: الضرب على غير استقامة كخبط البعير بيده، والرجل الشجر بعصاه، وقيل لمس الشيطان الإنسان الخبط والتخبط لكون أفعال المتخبط على غير استقامة، والخباط سمة على غير استواء والسلف من الأفعال المضايقة) ويراعى سببه معنى التقدم، يقال: أصم سالفه، والسالفة من الإنسان لتقدمها علي ما دونها من الأعضاء إدا اعتبر من الأعلى، وأسلفته في المال، وسلافة الخمر صفوها الذي يتقدم خروجه من العصير، والعود الرجوع، وأصله من العود، فعاد رجع إلي عوده، أي أصله، وسمي البعير المسن عوداً، لأنه لما كان غاية سنها ذلك كأنه عاد إليه، وبيان ذلك أن الغرض والغاية بالذات شيء واحدا لأن الغاية هي بلوغ الغرض، وكان عرض الإنسان بناء دراما، فبناها علي ما بوأها عال بفعله إلى غرضه، فبناها على ما نواها الذي كان منه، وعلى هذا سمي الثوب لكونه ثابياً إلى ما كان الغرض من الغزل، وبهذا النظر قال: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ فسمي انتهاء الإنسان الذي هو الهرم " أرذل العمر "، وعلى هذا قال: ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ فسمي ذلك رجوعاً لما كان الغرض من الإنسان تلك الغاية، وفي العادة عادة، لكونها معاداً للإنسان فيما يتعاطاه أو لكونها عائدا إلى الإنسان، ولهذا قال: إن التخلق يأتي دونه الخلق وهو يقال...
للبربط عود للمتحرية عود.
الآية الثالثة، وقال بعض الفقهاء: البيع والربا لفظان عامان نظرا منهم إلى مقتضى، وقال بعضهم: هما مجملان، نظرا منهم إلى اعتبار شرائط فيهما لم تكن العرب تعتبرها، فصارت الأعراب لا تعرفها من دون المراجعة إلى صاحب الشرع، وكلا القولين صحيح بنظر ونظر، فإنهما عامان من وجه، ومجملان من وجه، ولذلك وصفهما الشافعي بالصفتين، فظن كثير من أصحابه أن قوله اختلف في ذلك، وردي في تفسير الآية أن المربى يقوم من قبره يوم القيامة مجنوناً، وأنه في المحشر يصرع ويوطأ بالأرجل إلى أن يحاسب الله الخلائق، ثم يدخل النار، وفي قراءة ابن مسعود: " لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم "، وقيل: معناه: من سوى بينهما يخرج في الآخرة من حد الأبرار إلى حال الدين اتبعهم الشيطان وكانوا من الغاوين، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾، وقيل: هو تشبيه من لم يفرق بين البيع والربا مع شدة تضادهما وتباين ما بينهما في أن البيع سبب العدل والعمارة للعالم، والربا سبب الجور وخراب العالم فنبه أن قبح الربا مركوز في العقول، بحيث أنما من سوى بينه وبين البيع فقد بلغ به الجهل إلى حد الجنون، وقوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾، أي من انتهى بعد الوعظ، فما أخذه من قبل ملكه، لا اعتراض عليه، ولكن أمره في الآخرة إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه، وقيل: بل معناه: لا يؤخذ به في الدنيا ولا في الآخرة، ومعنى: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ على طريق الوعد له والسكون منه وأنه قد خرج من حزب الشيطان إلى حزب الله، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾.
قبل الله أومن قبل ذاته، وقال الجبائي: " لو كان الشيطان يتخبطه بمسه لوجب أن يخبط كل واحد، فقد ثبتت عداوته للصالحين، ولوجب أن يسلب الإنسان ما في داره من أثاثه ومتاعه، فكان يحمل متاعهم إلى المسئ الكاذب "، وقال أبو هاشم: " لو قدر على ذلك لقدر على الصوت الرفيع، فكان يفشي سر المؤمنين ويضرب بينهم "، فنقول وبالله التوفيق، إن أول ما في قولهم هذا إبطالهم لنحو ما حكي عن أيوب: ﴿مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾، وعن موسى: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾، ولا يكذبهما تعالى فيما، وقال: ﴿للانسان عدو﴾، وقال مخبرا عن الشيطان: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ واستثنى الله تعالي أولياءه بقوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾، هذا مع غيره من الآيات الباهرة الظاهرة،
فإن قيل: على أي وجه يكون سلطانه؟.
والثاني: بدخوله في خلال جسده، وإياه عنى بقوله: ﴿الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام: " الشيطان يجري من أبن أدم مجرى دمه "، وما قالوه من أن، الشيطان لو قدر على خبط الإنسان لسرق ثيابه فلجهلهم بأمر الشيطان وجهة عداوته للإنسان وخصائص فاعله إلا أننا نرى أنما الحيات والعقارب تعادينا ولا تسرق أمتعتنا، وقد تقدم في ذكر السحر أن السحرة والشيطان لا يمكنها أن تفعل كل فعل كما ظنته المعتزلة، ولا أن تؤثر في كل واحد، وإنما تقدر على أفعال مخصوصة في أقوام ضعاف القلوب ومختلي العقول قليلي العبادة، وإذا أثرت تأثيراً ضعيفاً، ويقوى ذلك مما روي في قصة خالد بن الوليد أنه لما وجهه النبي - ﷺ - لهدم العزى تصور أنه خيال كان يفزع منه غيره إذا أبصره ويدبر عنه، فأقدم خالد لقوة قلبه وشدة شكيمته في الدليل، فهدمه، وإلى تخويف الشيطان الإنسان يرجع قوله مخبراً عن قوم هود: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ ولولا تلبيس الشيطان عليهم لما أقاموا على عبادة أجسام أموات وأشباح جماد، وقد وصف الله سبحانه ضعف سلطان الشيطان علي المؤمن فقال: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية...
، واستبعاد المعتزلة تأثير الشيطان، إنما هو لخروجهم بتحديقهم عن حد العامة في التزام ما تلزمهم الشريعة الإقرار به، وقصورهم بسوء تصورهم وفساد طريقتهم عن إدراك حقائق ما ورددت ما به الشريعة حسب ما أدركه الحكماء الذين وصفهم الله بقوله: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ فصاروا في كثير من ذلك كما قالوا: " لا مال أبقيت، ولا حرك أبقيت ".
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾
الآية (٢٧٦) - سورة البقرة.
الحق نقصان الشيء حالاً فحالاً بحيث تخفى تفاصيله، يقال: محقه، فالمحق ومنه قيل: المحاق لآخر الشهر، وتربية الصدقات في الدنيا أن يثمر مال صاحبها، وذلك أدنى عنى النفس، ويدخر له لواحد سبع مائه ثم قد يزيد زيادة بلا حساب كما وعد، وعلى هذا ما روي لكن النبي - ﷺ -.
" إن الله يقبل الصدقات، ولا يقبل منها إلا الطيب، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصليه، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد ".
قيل: ما الفرق بين الربا والبيع وكل واحد منهما أخذ ربحا على رأس المال؟
قيل: الفرق بينهما ظاهر، وذاك أنه قد تقدم أن الناس متفتقر بعضهم إلي بعض وإن كل واحد، قائم بأمر آخرين، فلو أمروا أن لا يأخذ بعضهم ربحاً على رأس ماله، لرغبوا عن التجارة لضياع سعيهم، فكان يتعذر لأحدنا أن يتحصل له في حالة واحدة أشياء محمولة من آفاق متباينة، والبائع يأخذ ما يأخذه من غير عوض ولا سعي، بل بتضييق فضلات ماله على المحتاجين من حيث لا يلحقه ضرر، فصار ذلك منه أكل مال الناس بالباطل المنهي عنه بقوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ ولأنها المواساة واجبة بالشرع والعقل، فلو أبيح للناس الربا هو الشح الذي جبلوا عليه لأدى إلى سد باب المعروف وإلى أن لا يوقي الإنسان شع نفسه المذكور في قوله: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
قال جعفر:
" لأن المستقرض لا يأتيك إلا وهو محتاج، والصدقة ربما وقعت في يد الغني "
إن قيل: لما قال: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ ولم يقل: كل كافر وهو تعالى لا يحبهما جميعا؟
قيل هو تنبيها على معنى لطيف، وهو أن الربا يدعو الإنسان إلى ترك الصدقة والزكاة وترك مواساة الناس والى أن يأخذ مال الغير بالباطل، كما أن فعل الصدقة يدعو إلي الاستكثار من الخير، ولهذا قيل: عودا مرا ما اعتاد، ومتى تعود الإنسان فعل الشرور يصير ذلك مانعا له عن الخيرات ومن الصدقة التي تطهر النفس فنبه الله بقوله: ﴿لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ أن المرابي يؤدي به رباه إلى أن يصير كفارا أثيما وهما بناءان للمبالغة فإذا صار كذلك، فإنه لا يكاد يتوب، وإذا لم يتب لم يحبه الله المحبة التي وعد بها التوابين في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ فلهذا وجه تخصيص بناء المبالغة في ذلك.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ الآية: (٢٧٧) - سورة البقرة.
قد تقدم أن الإيمان في الأصل هو التصديق، ولا يكون التصديق إلا عن تحقيق، والتحقيق يقتضي العلم، فإذاً: الإيمان مقتض للعلم، وهو وإن كان في التعارف للعلم والعمل بحسبه، ففي الأصل، للاعتقاد النفسي، ولهذا قيل ما جاء الإيمان في القرآن إلا مقرونا بالعمل الصالح، ومما يؤكد ذلك خبر جبريل لما سأل النبي - ﷺ - عن الإيمان لم يذكر النبي - ﷺ - الله في تفصيله شيئا من الأعمال، فإذا قول من قال: ليست الأعمال البدنية من الإيمان فصحيح على وجه، وقول من قال: هي من الإيمان فصحيح على وجه، ولكن لا يعتد بعلم لا يضامه العمل، وما أصدق في ذلك قول الشاعر:
لا يطمع المرء أن تجتاب غمرته... بالقول إلا له جسرا له العمل
وأتبع قوله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإن كانا غير خارجين عن عمل الصالحات تخصيصا لهما لكون إحداهما أشرف العبادة البدنية، والأخرى العبادة المالية، وفائدة تعقيب أية الربا بهذه الآية تنبيه على منافاة ما يستحق بهذه الأعمال وما يستحق بتعاطي الربا..
قوله - عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
الآية (٢٧٨) سورة البقرة.
أمر تعالى بالاقتصار من الربا على رأس المال بقوله: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾، وقيل معناه:
قوله - عز وجل:
﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ الآية (٢٧٩) - سورة البقرة.
الحرب معلوم، والحرب السلب لكون ذلك واقعا فيها، وسمي بعض آلاتها الحربة والأصل في الحربة اسم الفعلة.
والتحريب إثارتها والمحراب: قيل سمي لكونه موضع محاربة النفس والشيطان، وتسمية أشرف البقاع بالمحراب تشبيه لمحراب الصلاة بالإضافة إلى غيره من الأمكنة، والحرباء: دويبة تتلقى الشمس كأنها تحاربها والحرباء: مسمار تشبيها بالدويبة في الهيئة كقولهم: ضبة وكلب تشبيها بالضب والكلب.
ومعنى الآية: إن لم تفعلوا أمر الله ولم تنقادوا له بعد، يزول الأمر بتركه فأنتم في حكم المحاربين.
قال ابن عباس: يقتضي ذلك أن المربي يستتاب فإن تاب وإلا قوتل، ولا يقتضي كفرهم، فإن المحاربة قد تطرق على ما دون الكفر كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، اتفق الفقهاء أن ذلك حكم المسلمين، ونبه بقوله: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ أن من ترك ذلك، فلابد أن يرد إليه رأس المال لا يظلمهم الناس بأن يفوزوا بأصول مالهم، ولا يظلمونهم بأن يأخذوا زيادة على أصل مالهم، وقرئ (فأذنوا) أي: أعلموا ذلك غيركم وذلك يقتضدي معنى (فأذنوا) لأنه لا يكون الإنسان مؤذنا حتى يكون آذنا.
وفي قوله: (ولا تظلمون) ما دل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام - " مطل الغنى ظلم " وقوله إلى الواحد يحل عرضه وعقوبته فإحلال عرضه التغليظ عليه بالمطالبة وعقوبته حبسه.
إن قيل: كيف قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ثم قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؟
قيل: سماهم مؤمنين لإقرارهم بالإيمان ثم بين بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أن من شرط الإيمان التزام أحكامه، فإن (فإن كنتم مؤمنين) فلابد من التزام ذلك، وقيل: معناه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قولا التزموا ذلك إن كنتم مؤمنين فعلا وهذا يرجع إلى الأول، وقال مقاتل: معنى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إذ كنتم مؤمنين ووجه قوله: إن (إن) مترددة فيما يتحقق وقوعه، وفيما لا يتحقق، و (إذ): تقال فيها كان
﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
الآية (٢٨٠) - سورة البقرة.
كان هاهنا بمعنى وقع، أي وإن وقع معسر، وقيل: هي ناقصة وتقديره وإن كان ذو عسرة غريماً لكم، فحذف الخير لكون المعنى مفهوما، وهذا أجود، فإن التامة أكثر ما يعلق بها الأحداث دون الأشخاص، نحو: كان الخروج كقولك: اتفق للخروج، ولا تقول كان زيد، وأنفق زيد، وقيل: قراءة أبي: (وإن كان ذا عسرة).
وقوله: فنظرة إلى ميسرة) أي: فعليكم انتظار، فقرأ الحسن: (فنظرة) بسكون الظاء.
وقرئ مناظرة نحو: فاقرة، وكاذبة.
واختلف هل يجب الانتظار في رأس مال الربا أو في كل دين؟ فمنهم من قال: النص يقتضي ذلك في كل، فإنه تمم حكم الربا، ثم ذكر اعتبار من عليه دين ربا كان أو غيره، وهو قول ابن عباس، والضحاك، والحسين.
ويؤكد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " من أنظر معسرا كان في ظل الله، أو في كنف الله يوم القيامة. "، وقال عليه الصلاة والسلام: " من شدد على امرئ في التقاضي إذا كان معسرا، شدد الله عليه في قبره. "
وقال شريح وإبراهيم، وروى عن ابن عباس أن ذلك في الربا خاصته والتصدق على المعسر ترك رأس المال عليه، نحو قوله في القصاص.
﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾، وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ أي تتصدقوا، فأدغم، وقرئ: (تصدقوا) بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاء ين بدلالة الأخرى عليه، وقرئ: (ميسرة) بضم السين، وذلك لغتان نحو: مشربة، ومشربة وقرئ مجاهد (ميسرة)، ولم يجوزه البصريون لعدم مفعل في كلامهم، وذكر الكوفيون ألفاظا يسيرة من ذلك ليوم ردع أو فعال مكرم.
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
الآية (٢٨١) - سورة البقرة.
قال ابن عباس.
هي أخر آية نزلت من القرآن، فقال جبريل للنبي - ﷺ -: " ضعها في رأس الثمانين والمائتين من سورة البقرة، وقد تقدم الكلام في الفرق بين ": (اتقوا الله)، (واتقوا ربكم)، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ﴾ وما يجري مجراه؟ ومعنى الرجوع فليس على تصور رجوع إلي مكان بعد المقارنة كيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾، وإنما ذلك رجوع، إما على ما ذكرنا في العود آنفا وإما على تصور خلقه أبانا المشار إليه بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ وعلى هذا: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾، وقوله: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، وقوله: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ وتوفية كل نفس ما كسبت جزاءها، إن خيرا فخيرا، وإن شراً فشرا، كقوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ الآية وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، أي: لا ينقص ثوابهم، ولا يزاد عقابهم..
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ الآية (٢٨٢) سورة البقرة..
دنت الرجل: أخذت منه ديناً، وأدنته: جعلته دينا، وذلك بأن تعطيه دينا، والتداين والمداينة تدافع ذلك والبخس والنخس يتقاربان، لكن النخس أن يصيب بدنه، أي مكان كان والبخس أن يصيب عينه، وعنه استعير بخس حقه، كقولهم عور حقه، وتباخسوا في البيع تغابنوا كأن كل واحد يبخس صاحبه عما يريده منه باحتياله، والسفه خفة في العقل ومقتضياته، ولهذا يقال: " سفيه الرأي " وسفيه اللسان " و " زمام سفيه " على التشبيه..
والسآمة ملك يورث الضجر، والصغر خلاف الكبر، وأصله أن يستعمل في المقدار، ثم يستعمل في الأحوال، ومنه صغر صغرا أو صغارا إذا تحاقر لاحتمال ضيم والقسط النصيب على سبيل العدالة،
فإن قيل: فإذا كان القسط ما يقول، فكيف قيل: قسط إذا جار؟
قيل: معنى قسط أخذ قسط غيره وذلك عدل، فصار قسط وأقسط في التناول والمناولة، كقولهم عطاء، وأعطى..
إن قيل: لم قال: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾، وتداينتم ينبئ عن الدين والمدين والتداين يقال في
إن قيل: جمع بين لفظ (الله) ولفظ (الرب) في قوله: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾؟ قيل: إن لفظ الله يقال اعتبارا بالوله إليه أو العبادة له، ولفظ " الرب " يقال اعتبارا بكونه تعالى مربيا لعباده ومنعما عليهم، وقد تقدم أن الإنسان يعرف الله ربا قبل أن يعرفه معبودا وذلك بمعرفة نعمه يتوصل إلي معرفة فجمع هاهنا بين اللفظين، كأنه قال: " اتقوه معتبرين بذاته ومعتبرين بنعمه "، وأما تقديم لفظ (الله) على (الرب) فقد تقدم في بيان قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ولأن مراقبة ذاته تعالى أبلغ وأشرف من اعتبار نعمه فكأنه قيل: " إن لم تلاحظوه، فلاحظوا نعمه اللازمة لكم "، وقوله: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾ أي مبذرا لقوله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ وقيل: عنى بالسفيه النساء، وبالضعيف الصغير وبالذي لا يستطيع أن يمل هو المغلوب على عقله، ومنهم من حمل السفيه والضعيف على شيء واحد، وقال أو زائدة، وذلك ظاهر الفساد في اللغة وقوله: ﴿وَلِيُّهُ﴾ أي: ولي أحد هؤلاء الثلاثة، ولا يجوز أن
وقوله: ﴿بِالْعَدْلِ﴾ حث على تحريه لصاحب الحق وللمولى عليه، وقوله: ﴿شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ قال بعضهم: تقتضي هذه الإضافة الإيمان والحرية والبلوغ لتخصيص الرجال ويقتضي " من ترضون من الشهداء " العدالة، لأن المقصد من الاستشهاد إقامة الشهادة، أما شهادة العبيد والصبيان، وشهادة النساء في غير، وشهادة الأعمى والفاسق وغير ذلك من أحكام الشهادة، فكتب الفقه به أولى، وقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ أي وليشهد رجل وامرأتان وقوله: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ أي تذكر الأخرى إذا نسيت وقال سفيان بن عينية: يجعلها كذكر في الحكم..
إن قيل: ما وجه قوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ﴾ وذلك يقتضي أن يكون القصد بالاستشهاد الضلال قيل: قد قال سيبويه في ذلك: لما كان الضلال سبب الأذكار وهو متقدم عليه صار لتعلق كل واحد منهما بالآخر في حكم واحد، قال: ومثل ذلك من قال أعددت هذا الخشب ليميل الحائط فأدغمه قال الفراء: تقديره: فتذكرها إن ضلت لكن لما قدم أن - فتح فصار متعلقا بما قبله: وهذا طريق في مسائل، وقرأ حمزة (أن تضل)، وقرئ (أن تضل) من أضللت، لتقارب ضل وأضل تقارب نسيت وأنسيت وقيل: (أن تضل) أي تضيع شهادتها ما لم تضامها الأخرى إشارة إلى ما فاله عليه الصلاة والسلام: " أما نقصان عقلهن فشهادتهن على النصف من شهادة الرجال " وقوله: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ قال قتادة والربيع: " إذا ما دعوا لتحمل الشهادة "، وقال مجاهد: لإقامتها، وقيل: لهما، وهو الصحيح، وقال بعضهم: لا يجوز أن تكون للتحمل، لأنه حينئذ لا يكون شاهدا، وهذا سوء تصور منه ألا ترى أنه قال: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾؟
يشهد على سامع حتى على ناقة.
قيل وقوله: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ قرئ بفتح الراء " لا يضارر " بأن يدعي وهو مشغول، عن ابن مسعود ومجاهد، وقيل: ة هو يضار، أن: لا يمتنع الكاتب من الكتابة، والشهيد من، إقامة الشهادة عن الحسين وقتادة وابن زيد، لئلأ يؤدي إلي أبطال الحقوق، وقوله: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ خطاب للجميع على سبيل الوعيد، وقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ إعادة للوصية،
إن قيل: كيف قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وكرر لفظ (الله) ثلاث متواليات ولم يعدل إلى الكناية، وهل ذلك في استقباح خط الإعادة لولا شرف لفظ (الله).
كقول الشاعر: " فما للنوى جد النوى قطع النوى "
حتى قيل: " سلط الله على هذا البيت شاة ترعى منه النوى "،
وكقول الأخر:
بجهل كجهل السيف والسيف منتضي...
وحلم كحلم السيف والسيف مغمد
فاسترذل البيت لإعادة لفظ " السيف " مراراً...
، قيل: إن ذلك بعيد عن الآية، فإن البيت الأولى استقبح لا لإعادة النوى فقط، بل له، ولأن قول " جذ النوى قطع النوى " بمنزلة واحدة، ولهذا الباب
فأما البيت الثاني: فهو جملة واحدة، لأن قوله: كجهل السيف في موضع لقوله: يجهل، وكذلك قوله: " والسيد مغمد " جاء لقوله: الحلم للسيف، وعلى قول الآخر:
" لا أري الموت يسبق والموت شيء "
فإن قوله: (يسبق الموت) " مفعول ثان " لقوله: (لا أرى)، والكلام كله جملة واحدة، وهذا ظاهر...
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾
الآية (٢٨٣) - سورة البقرة.
الرهن: حبس السلعة بحق، ثم يستعمل في غيره على طريق التشبيه واؤتمن: أخذه واستوفاة كقولهم اكتحل واغتسل إذا استوفى ذلك وقيل: رهن، ورهن، ورهن فرهن، نحو ثمر، ورهن على التخفيف قيل: رهان، كقولهم: ثمار، وكلاب، وقال بعضهم: ليس الرهان إلا في المخاطرة، وحكم الرهن ثابت في الحضر والسفر عند عامة الفقهاء، وبعضهم خص حكمه بالسفر عند عدم الكاتب، وقرأ ابن عباس: (فلم تجدوا كتابا.. ) أي صحيفة ودواتا، وقوله: " فرهان " أي فليدفع رهانا، أو فليوجد رهانا، واشتراط كونها مقبوضة تنبيه أن الرهن لا يثبت حكمه ما لم يكن مقبوضا لأمرين..
أحدهما: أن ذلك معطوف على الشهادة فكما أن الشرط في الشهادة معتبر كذلك هاهنا والثاني: أن حكم الرهن مأخوذ من هذه الآية وقد أجازه بهذه الصفة، فيجب أن تعتبر الصفة فيه وأما حكم ما يجوز رهنه وما لا يجوز، وما يصححه ويفسده، فكتب الفقه أولى به وقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ يحث من يؤتمن على حفظ الأمانة كقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، وحذر غاية التحذير بقوله: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾، وقوله: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ خطاب لمن عليه الحق، وللشاهد جميعا، لأن الشهادة إعلام، ويقال للإقرار شهادة، ولهذا قال تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾، وكما أن كتمان الشهادة محرم فما هو منه بسبب
قوله - عز وجل:
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الآية (٢٨٤) - سورة البقرة.
قد تقدم ما هو جواب عن سؤال من قال: لم قال الله: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ودلالة خطابه تقتضي أن ليس له السماوات والأرض، وقال بعض الصوفية في قوله: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ تنبيه أنه لا يجب الاشتغال بهما، بل يجب الاشتغال بمن أوجدهما وملكهما - تنبيها أن من تركها وأقبل عليه ملكه إياهما وما هو أفضل منهما، وإياه قصد بقوله: ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾،
إن قيل: ما وجه نظم هذه الآية مع ما قبلها؟ قيل: إنه لما فرغ من حكم الإيمان والعبادة والأحكام المذكورة في هذه السورة، ختمها بالموعظة ونبه على وجوب تفويض الأمر إليه، ولما كانت حقيقة العبادة متعلقة بالقلب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " أخلص يكفك القليل من العمل "، وهو أحد ما أفاد قوله - عليه الصلاة والسلام: " البر ما اطمأن إليه
إن قيل: هذه الآيات تقتضي أن يكون الإنسان مؤاخذا بما تتحرك به الخواطر، وقول النبي - عليه الصلاة والسلام ينافيه في الظاهر " إن الله تجاوز عن أمتي عما حدثت به أنفسها " وكذلك قوله: من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه..
قيل: قد تقدم إن أول ما يعرض من حديث النفس السابح ثم الخاطر، ثم الإرادة والهم، ثم العزم وأن السابح والخاطر متجافي عنهما بكل وجه وأنه متى صار نية، فذلك عمل مأخوذ به وعلى هذا قال تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾، وألهمه متى كانت من وسوسة الشيطان وتصدي الإنسان لدفعها وقمعها فهو المتجافي عنها بل هو الموعود بالإثابة على دفاعها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: " جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم "، ومتى كانت نفس وإجماع من النفس، فذلك فعل منه، ولذلك قال بعض الصالحين: " عليكم
﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ الآية (٢٨٥) - سورة البقرة.
إن قيل: لم لم يذكر هاهنا اليوم الآخر، وقد ذكره في قوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ﴾ الآية؟
قيل: لأمور: أحدها أنه نبه عليه بذكرها في غيرها، والثاني: أن الإيمان بكتبه ورسله مقتض للإيمان باليوم الآخر أظهر عند المؤمنين من أن يحتاج إلى ذكره مفصلاً، ألاً ترى أنه قال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ فاقتصر على ذلك ولم يصفه بما وصف به المؤمنين بقوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ تنبيها على أن ذلك بحيث يستغنى عن ذكرها وهذا الجواب علي قراءة من وقف على فوله: ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾...
والرابع: إن في قوله: ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ دلالة على إيمانهم باليوم الآخر، وقال بعضهم: إنما أفرد إيمان اللنبي - ﷺ -، فقال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ ثم قال: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾، تنبيهاً على شرف إيمانه - عليه الصلاة والسلام-، وأنه سابق لإيمانهم، وأن لا واسطة بمنه- عليه الصلاة والسلام-، وبين الإيمان كما بين إيمان المؤمنين وبين الإيمان به واسطة، وقرأً " ابن عباس " وكتابه "، قال: وهو أبلغ، لقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾، ولأن الكتاب للجنس، ولأنه ليس مع
وإذا كانت الأنبياء على الحق، فلا يعاند بعضهم بعضاً، إذ لا معاندة في الحق...
إن قيل: لم قال: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ وبين تستعمل في شيئين فصاعداً، فكيف قال: ﴿بَيْنَ أَحَدٍ﴾؟ أيتناول الجنس على طريق الجملة والتفصيل ولذلك لا يستعمل إلاً في الاستفهام والنفي فنبه بذكره هاهنا أنه لا يفرق بينهم لأعلى طريق الجملة وعلى طريق التفصيل.
وقال في الكفار: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾
وقاله: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أي سمعنا قولك، وأطعنا أمرك بخلاف من قال: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ وقوله: ﴿غُفْرَانَكَ﴾، أي " أنزل غفرانك "، أو نسألك غفرانك، واغفر لنا غفرانك، وكل ذلك متقارب، " واليك المصير " اعتراف بما وعدهم بقوله: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
الآية: (٢٨٦) - سورة البقرة.
القدرة والجهد والاستطاعة قد تقدم الكلام فيها، وكسبت واكتسبت قل يجريان مجرى واحداً، ويقال لما أخذته لنفسك ولغيرك كسبت، ولهذا قد يُعدى إلى مفعولين، فيقال: " كسبت فلاناً كذا "، واستقبح " اكتسبته كذا "، والاكتساب لا يقال وإلا لما استفدته لنفسك، فكل إكتساب كسب، وليس كل كسب اكتساباً، ولهذا انظائر فيه اللغة نحو: " خبر، وطبخ، وشوي " إذا فكل ذلك لنفسه أو فعله لغيره، ويقال: " اختبز، واطبخ، واشتوى " إدا فعل ذلك لنفسه..
والإصر: الثقل وأصله من أصره إذا وعطفه، وقيل للعهد والرحم وكل ما يوجب عليك حماية ما إصر وكل آصر عاطف لمن مر به "، والإصار كساء يجعل فيه حشيش، فيثنى على السنام بين الله تعالى أنه كلف عبده دون ما تنوء به قدرته، فإن الوسع هو القدرة على أكثر قدر المكلف، وقوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ قيل: عنى بالكسب ما عمله من الخير، وبالاكتساب ما عمله من الشر، وقيل: عنى بالكسب ما يفعله الإنسان من فعل خير وجلب نفر من حيثما يجوز إلى غيره، والاكتساب ما يحصله،
لنفسه من نفع يجوز تناوله، فنبه أن ما يفعله الإنسان من نفع غيره فله الثواب، وليس عليه فيه الحساب، وأن ما يحصله لنفسه وإن كان متناولً من حيثما يجوز على الوجه الذي بجوز.
فعليه فيه الحساب يؤيده ما ذكرنا من الفرق بين كسب واكتسب، وقوله: ﴿الَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ فإنه عنى النسيان الذي هو الترك أو ذهاب الذكر الذي الإنسان سببه لقلة مراعاته، وكذا الخطأ إنما أدار به ما يكون سبب حصوله، وقد تقدم الكلام في حقيقيهما.
وقوله: ﴿مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ يعني: ما يثقل
إن قيل: ما الفرق بين العفو والغفران والرحمة؟ وما وجه هذه الترتيب؟
قيل: العفو: إزالة الذنب بترك عقوبته، والغفران ستر الذنوب، وكشف الإحسان الذي غطى به، والرحمة إفاضة الإحسان عليه، وقد علم أن الثاني أبلغ من الأول، والثالث أبلغ من الثاني...
وقوله: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ كقوله: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وقوله: ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ فنصرة الله للمؤمنين على وجهين أحدهما: من حث الحجة، وقد فعل.
والثاني: من المداولة التي قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ وهذا هو المسؤول أن يجعل لنا عليهم دولة، ولا يجعل لهم علينا دولة، ووجه ثالث وهو أن الله قد نصر المؤمنين كافة حجة وملجأ، ومعونة وظهوراً على الدين كله لكن قد يلحق المسلم غلبة من جهة كافر، وهو المشار إليه بقول أمير المؤمنين - رضي الله عنه: " إن للباطل جولة ثم يضمحل "، فكأن الاستعاذة بالله أن يقينا من هذه الجولة من الكفار..
" تم بحمد الله تفسير سورة البقرة "
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: تفسير الراغب الأصفهاني(من أول سورة آل عمران - وحتى الآية ١١٣ من سورة النساء)
تحقيق ودراسة: د. عادل بن علي الشِّدِي
دار النشر: دار الوطن - الرياض
الطبعة الأولى: ١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]