ﰡ
مكية، ستون آية، ثمانمائة وثماني عشرة كلمة، ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا
الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي في أقرب أرض العرب منهم- وهي أطراف الشام- فالروم: اسم قبيلة وسميت باسم جدها، وهو روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وسمي عيصو: لأنه كان مع يعقوب في بطن فعند خروجهما تزاحما، وأراد كل أن يخرج قبل أخيه فقال عيصو ليعقوب: إن لم أخرج قبلك خرجت من جنب أمي فتأخر يعقوب شفقة لها، فلذا كان أبا الأنبياء، وعيصو أبا الجبارين. وَهُمْ أي الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي من بعد مغلوبهم سَيَغْلِبُونَ (٣) فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ،
وسبب نزول هذه الآية أنه كان بين فارس والروم قتال، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم، لأن فارس كانوا مجوسا أميين والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل الكتاب، فبعث كسرى جيشا إلى الروم، واستعمل عليهم رجلا يقال له: شهريار، وجعل قيصر جيشا، واستعمل عليهم رجلا يدعى: بخنس فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أقرب الشام إلى أرض العرب، فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك المسلمين بمكة، فشق عليهم، وفرح به كفار مكة، وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون، وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم. فنزلت هذه الآية، فخرج أبو بكر الصدّيق إلى كفار مكة، فقال: فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا، فو الله لتظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا صلّى الله عليه وسلّم. فقال له أبيّ بن خلف الجمحي: كذبت يا أبا فضيل. فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله. فقال له: اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه، فناحبه على عشر قلائص، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر به أبو بكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البضع ما بين
الثلاث إلى التسع» «١». فزايده في الخطر ومادده في الأجل، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين، ومات أبيّ من جرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياه في أحد بعد
وقرئ «غلبت» على البناء للفاعل و «سيغلبون» على البناء للمفعول. والمعنى: أن الروم غلبت على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها ففتحوا بعض بلادهم، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل غلبة الروم على فارس ومن بعدها فكل من كون الروم مغلوبين أولا وغالبين آخرا، ليس إلا بأمر الله تعالى وقضائه. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ أي ويوم إذ يغلب الروم على فارس يفرح المؤمنون بتغليب الله من له كتاب على من لا كتاب له، ويفرحون بغلبتهم المشركين ببدر.
قال السدي: فرح النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك. والجار والمجرور متعلق ب «يفرح» يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ أي ينصر من عباده على عدوه من ضعيف وقوي. وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) أي وهو تعالى المبالغ في الغلبة والمبالغ في الرحمة وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه، أي وعدهم الله بالنصر وبالفرج وعدا، لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ أيّ وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لاستحالة الكذب عليه تعالى. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (٦) وعده تعالى بنصرهم ووعد الله لا خلف فيه، يَعْلَمُونَ أي أكثرهم ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم، ولا يعلمون باطنها، وهي مضارها ومتاعبها وفناؤها، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أي وهم جاهلون بأمر الآخرة تاركون لعملها ولا يعلمون أن الدنيا مجاز إلى الآخرة أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ! فلو تكفروا في أنفسهم لعلموا وحدانية الله، وصدقوا بالحشر. أما دلالة الإنسان على الوحدانية، فلأن الله خلقهم على أحسن تقويم ولنذكر من حسن خلقهم جزءا من ألف جزء، وهو أن الله تعالى خلق للإنسان معدة فيها غذاؤه لتقوى به أعضاؤه ولها منفذان أحدهما لدخول الطعام فيه. والآخر: لخروجه منه، فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرة، وتمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجا صالحا، ثم يخرج من المنفذ الآخر، وخلق تحت المعدة عروقا دقاقا، صلابا كالمصفاة، فينزل منها الصافي إلى الكبد، وبنصب الثفل إلى الأمعاء ويكون مع الغذاء المتوجه من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقق، وينذرف في العروق الدقاق المذكورة، وفي الكبد يستغنى عن ذلك الماء فيتميز
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنها اسم «كان»، و «السوأى» خبرها، وهي جهنم، أي ثم كان آخر أمر الذين عملوا السيئات نار جهنم. وقرأ الباقون بنصب «عاقبة» على أنها خبر «كان»، واسمها «السوأى» تأنيث الأسوأ، أو أن كذبوا أي ثم كان تكذيبهم واستهزاؤهم آخر أمر الذين أشركوا بالله وعملوا الفعلة السوأى، وهي اسم النار- كما تقدم- أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) بدل من «السوأى». وقيل: «كذبوا» إلخ تفسير ل «أساءوا»
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشئهم من النطفة، ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت بالبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) إلى موقف الحساب والجزاء. وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة. والباقون
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم، وفي آخر القوم أعرابي فقال: يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «يا أعرابي إن في الجنة نهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة»
«١».
وروي أن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع، بعث الله تعالى ريحا تحت العرش فتقع في تلك الأشجار، فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ بالبعث بعد الموت فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) أي لا غيبة لهم عن العذاب ولا فتور له عنهم، أما من يؤمن ويعمل السيئات فليس دائم الحضور في العذاب، وليس من المحبورين غاية الحبور في رياض بل له منزلة بين المنزلتين، فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) أي نزهوه تعالى عن صفات النقص، وصفوه بصفات الكمال في هذه الأوقات، واحمدوه وإنما خصّ بعض الأوقات بالأمر بالتسبيح، لأن الإنسان لا يمكنه أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لكونه محتاجا إلى تحصيل مأكول ومشروب، وملبوس، ومركوب، وكما أن العبد ينزه الله في أول النهار، وآخره، ووسطه فإن الله يطهره في أوله- وهو دنياه- وفي آخره- وهو عقباه- وفي وسطه- وهو حالة كونه في قبره- وقوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كلام معترضين بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه لطيفة، وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه بيّن لهم أن تسبيحهم الله لنفعهم لا لنفع يعود على الله، فعليهم أن يحمدوا الله إذا سبحوه، ثم إن التنزيه المأمور به يشمل التنزيه بالقلب، وهو الاعتقاد الجازم واللسان- وهو الذكر- الحسن، وبالأركان- وهو العمل الصالح- فالإنسان إذا اعتقد شيئا ظهر من قلبه على لسانه، وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحواله، وأفعاله،
واللسان، ترجمان الجنان، والأركان، برهان اللسان، لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان، وهي مشتملة على الذكر باللسان، والقصد بالجنان: وهو تنزيه في التحقيق، فيجب حمل التسبيح على كل ما هو تنزيه،
وقال بعضهم: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، ويقال: يخرج اليقظان من النائم، والنائم من اليقظان، فإحياء الميت عنده تعالى كتنبيه النائم، وإماتة الحي كتنويم المنتبه.
وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبوستها وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الإخراج تُخْرَجُونَ (١٩) من قبوركم.
وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء وَمِنْ آياتِهِ الدالة على أنكم تبعثون أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ فإنا خلقنا من نطفة وهي من الغذاء، وهو من النبات، وهو من التراب. ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) أي ثم بعد أطوار كثيرة فاجأتم وقت كونكم بشرا تتمتعون على وجه الأرض.
وَمِنْ آياتِهِ الدالة على البعث والجزاء: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ أي لأجلكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم أَزْواجاً أي إناثا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي لتميلوا إليها، وتطمئنوا بها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ أي بين المرأة والزوج مَوَدَّةً أي محبة وَرَحْمَةً أي شفقة ويقال: مودة للصغير على الكبير ورحمة للكبير على الصغير. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في خلقهم من تراب، وخلق أزواجهم من جنسهم وإلقاء المودة والرحمة بينهم لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) فيما خلق الله.
وَمِنْ آياتِهِ الدالة على أمر البعث: خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من حيث إن خلقهما وما فيهما ليس إلا لمعاش البشر ومعاده، وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي لغاتكم العربية، والفارسية، وغير ذلك. والأصح أنه اختلاف كلامكم، فإن الأخوين إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر وَأَلْوانِكُمْ ببياض الجلد وسواده، وتوسطه. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في خلق السموات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢).
وقرأ حفص وحده بكسر اللام، أي لآيات عظيمة في أنفسها، كثيرة في عددها للمتصفين بالعلم. والباقون بفتح اللام في ذلك دلالة على كمال وضوح الآيات على أحد من الخلق كافة.
وَمِنْ آياتِهِ الدالة على القدرة والعلم: مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ فالنوم بالنهار مما تعدّه العرب نعمة من الله، ولا سيما في أوقات القيلولة في البلاد الحارة وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ فيهما. وهذا إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه، إِنَّ فِي ذلِكَ أي في الليل والنهار لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) سماع تفهم حيث يستدلون بذلك على شؤونه تعالى. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ، أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته تعالى: إراءتكم للبرق خَوْفاً للمسافر من المطر أن يبل ثيابه وَطَمَعاً للمقيم في المطر أن يسقي حروثه، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون. فَيُحْيِي بِهِ أي بذلك الماء الْأَرْضَ بالنبات
فقالوا: بلى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا تبدلوا دين الله- كما قاله مجاهد وإبراهيم- وقيل: أي لا تغير للوحدانية حتى إن سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون: الله. لكن الإيمان الفطري غير كاف. ذلِكَ أي لزوم دين الله الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الحق الذي لا عوج فيه وَلكِنَّ
أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (٣٠) أن ذلك هو الدين الحق، فيصدون عنه صدودا
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي أقيموا وجوهكم للدين مقبلين عليه، وَاتَّقُوهُ من مخالفة أمره بل داوموا على العبادة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١)، أي ولا تشركوا بعد الإيمان وهاهنا وجه آخر وهو أن الله أثبت التوحيد الذي هو خروج عن الإشراك الظاهر بقوله تعالى:
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وأراد الله إخراج العبد عن الشرك الخفي بقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي لا تقصدوا بعملكم إلا وجه الله، ولا تطلبوا إلا رضا الله، ثم أبدل الله قوله: مِنَ الْمُشْرِكِينَ قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أي اختلفوا فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم.
وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا» بألف، أي تركوا دينهم الذي أمروا به، وَكانُوا شِيَعاً أي وصاروا فرقا فيما يعبدونه، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) أي وإذا أصاب كفار مكة شدة دعوا ربهم برفع الشدة مقبلين إليه بالدعاء، ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ أي من الضر رَحْمَةً أي خلاصا إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي الكفار بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) ويقول: تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني بفلان وبسبب الصنم الفلاني، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فاللام للعاقبة فَتَمَتَّعُوا يا أهل مكة: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) عاقبة تمتعكم.
وقرئ بالياء على أن «تمتعوا» فعل ماض وقرئ وليتمتعوا أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) أي هل أنزلنا على أهل مكة كتابا، فذلك الكتاب يدل على الأمر الذي بسببه يشركون ف «أم» بمعنى الهمزة فقط عند الكوفيين، وبمعنى بل والهمزة عند البصريين كما هو شأن «أم» المنقطعة. وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً من صحة وسعة فَرِحُوا بِها بطرا لا شكرا، فإن قيل لك: الفرح بالرحمة مأمور به في قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: ٥٨]، وهاهنا ذمهم الله على
الفرح بالرحمة، فكيف ذلك؟ قلت: هناك فرحوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى وهاهنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من الله، وهو كما أن الملك لو حطّ عند أمير رغيفا على السماط، أو أمر غلمانه بأن يحطوه عنده، ففرح ذلك الأمير به ولو أعطى الملك فقيرا غير ملتفت إليه رغيفا فرح به، ففرح الأمير بكون ذلك الرغيف من الملك، وفرح الفقير بكون ذلك رغيفا، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي شدة ضيق بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بشؤم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أي ييأسون من رحمة الله غير صابرين بها.
وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر، ويضيقه لمن يشاء اختبارا هل يصبر أم يجزع؟ إِنَّ فِي ذلِكَ أي التوسيع والتضييق لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة. فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ من الصلة والصدقة وسائر
وقرأ نافع «لتربوا» بتاء الخطاب وسكون الواو، أي لتصيروا ذوي زيادة. وقرأ ابن كثير «وما أتيتم» بقصر الهمزة، أي وما جئتم به من إعطاء عطية. واختلف العلماء فيمن وهب وهبة يطلب عوضها وقال:
إنما أردت العوض، فإن كان مثله ممن يطلب العوض من الموهوب له، فله ذلك عند مالك رضي الله عنه وذلك كهبة الفقير للغني، وهبة الخادم لصاحبه، وهبة الشخص لمن فوقه ولأميره. وقال أبو حنيفة: لا يكون له عوض إذا لم يشترط. وهذان القولان جاريان للشافعي رضي الله عنهم. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) أي وما أعطيتم من صدقة تطوع إلى المساكين تبتغون وجهه تعالى، فأولئك هم الذين أضعفت صدقاتهم في الآخرة بكثرة الثواب، ويحفظ أموالهم في الدنيا وبالبركة لها اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ نسما في بطون أمهاتكم، ثم أخرجكم وفيكم الروح ثُمَّ رَزَقَكُمْ إلى الموت ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء مدتكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث بعد الموت، هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ أي هل من آلهتكم يا أهل مكة من يقدر أن يفعل من ذلك شيئا؟ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) أي لا تصفوه تعالى بالإشراك.
وقرأ حمزة والكسائي بتاء الخطاب
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي تبين الفساد في البر والبحر كالجدب وكثرة الحرق، والغرق، وموت دواب البر والبحر، وقلة اللؤلؤ بسبب كسب الناس المعاصي.
قال الضحاك: كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة، وكان ماء البحر عذبا، وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار، وصار ماء البحر ملحا زعاقا «١»، وقصد الحيوانات بعضها بعضا، لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي بعض جزاء الذين عملوا، فإن تمامه في الآخرة.
وقرأ قنبل «لنذيقهم» بالنون لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) عما كانوا عليه قُلْ يا محمد لأهل مكة: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كقوم ونوح وعاد وثمود ليشاهدوا
يا أكرم الرسل سُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
أي جاء كل رسول قومه بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك فكذبوهم، انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
أي أهلكنا الذين كذبوهم، كانَ حَقًّا
أي واجبالَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
(٤٧) أي وكان الانتقام حقا، فلم يكن ظلما، ثم استأنف الله بقوله تعالى: لَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
، وهذا بشارة لمن آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ويقال نصر المؤمنين: كان واجبا علينا وهذا تأكيدا لبشارة، لأن كلمة «على» تفيد معنى اللزوم فإذا قال حقا أكد ذلك المعنى، والنصر: هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة والكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له. اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً أي فترفع سحابا ثقالا بالمطر الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ أي فينشر الله السحاب كمال الانتشار متصلا بعضه ببعض تارة في جو السماء كيف يشاء، سائرا، وواقفا، ومطبقا، وغير مطبق وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي ويجعل الله السحاب قطعا تارة أخرى فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من خلال السحاب فَإِذا أَصابَ أي الله بِهِ أي بالودق مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي أراضيهم، إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) أي يفرحون بمجيء الخصب وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩)، أي وإن الشأن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبل الاستبشار لآيسين من المطر، فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ من النبات والأشجار والثمار، فالرحمة: هي المطر، وأثرها هو النبات.
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١)، أي وبالله لئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفا، فرأوا الزرع مصفرا بعد خضرته لصاروا من بعد صفرته يكفرون بنعمته تعالى السالفة، فَإِنَّكَ يا أشرف الخلق لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي لا تجزع ولا تحزن على عدم إيمانهم، فإنهم موتى صم عمي. ومن كان كذلك لا يهتدي، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) أي إذا أعرضوا مدبرين عن الحق وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي ليس شغلك هداية العميان إلى الحق.
قبوله فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) أي مطيعون اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي من أصل ضعيف هو النطفة، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ أي من بعد كونه جنينا وطفلا مولودا، ورضيعا، ومفطوما قُوَّةً أي حالة البلوغ والشباب، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً للكهولة وَشَيْبَةً- وهو بياض الشعر الأسود- أي فإن ذلك الضعف والقوة والشباب والشيبة ليس طبعا بل هو بمشيئة الله تعالى وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) فالترديد في الأطوار المختلفة من أوضح دلائل العلم والقدرة، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي توجد القيامة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ أي يحلف الكافرون بالله ما لَبِثُوا في القبور غَيْرَ ساعَةٍ، أي غير قدر ساعة كَذلِكَ أي مثل ذلك الصرف كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥)، أي يصرفون من الحق إلى الباطل، ومن الصدق إلى الكذب. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ من الملائكة والإنس: لَقَدْ لَبِثْتُمْ في القبور فِي كِتابِ اللَّهِ أي بحسب ما علمه الله وقدره إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ من القبور فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم توعدون في الدنيا والذي أنكرتموه، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) أنه حق ولا تقرون بوقوعه فتستعجلون به استهزاء، وتطلبون الآن تأخير الساعة، فصار مصيركم إلى النار فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا.
وقرأ الكوفيون «لا ينفع» بالياء التحتية، أي فيوم القيامة لا ينفع الذين أشركوا اعتذارهم في إنكارهم له وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)، أي لا يطلب منهم إزالة العتب من التوبة كما طلبت منهم في الدنيا لأنها لا تقبل منهم وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي وبالله لقد بينا لهم في هذا القرآن كل حال وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كأنها في غرابتها مثل وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ يا أشرف الخلق بِآيَةٍ من آيات القرآن الناطقة بأمثال ذلك لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (٥٨) أي ما أنتم يا معشر المؤمنين إلا كاذبون ويقال: ولئن
وهذا إشارة إلى وجوب مداومة النبي صلّى الله عليه وسلّم على الدعاء إلى الإيمان فإنه لو سكت لقال الكافر: إنه منقلب الرأي لا ثبات له، والله أعلم بالصواب.