تفسير سورة الرّوم

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة الروم من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

٣٠ شرح إعراب سورة الرّوم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣)
قال أبو جعفر:
هذه قراءة أكثر الناس، وروي عن أبي عمرو وأبي سعيد الخدري أنهما قرءا الَم غَلبَتِ الرُّومُ «١» وقرءا سَتُغْلَبُونَ «٢»، وحكى أبو حاتم أن عصمة روى عن هارون أن هذه قراءة أهل الشام، وأحمد بن حنبل يقول: إن عصمة هذا ضعيف، وأبو حاتم كثير الرواية عنه والحديث يدلّ على أن القراءة غُلِبَتِ بضم الغين وكان في هذا الإخبار دليل على نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن الروم غلبتها فارس فأخبر الله جلّ وعزّ أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، وأن المؤمنين يفرحون بذلك لأن الروم أهل كتاب فكان هذا من علم الغيب الذي أخبر الله جلّ وعزّ به مما لم يكن وأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يراهنهم على ذلك، وأن يبالغ في الرهان ثم حرم الرهان ونسخ بتحريم القمار وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ زعم الفراء «٣» أن الأصل من بعد غلبتهم فحذفت التاء كما حذفت في قوله: وَأَقامَ الصَّلاةَ [النور: ٣٧]، وهذا غلط لا يخفى على كثير من أهل النحو لأن «أقام الصلاة» مصدر حذف منه لاعتلال فعله فجعلت التاء عوضا من المحذوف، و «غلب»، ليس بمعتل ولا حذف منه شيء وقد حكى الأصمعي: طرد طردا وحلب حلبا وغلب غلبا فأيّ حذف في هذا، وهل يجوز أن يقال: في أكل أكلا وما أشبهه حذف منه.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤]
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)
فِي بِضْعِ سِنِينَ حذفت الهاء من بضع فرقا بين المذكّر والمؤنّث، وفتحت النون من سنين لأنه جمع مسلّم، ومن العرب من يقول في بضع سنين كما يقول: من غسلين
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ٣١٩.
(٢) انظر البحر المحيط ٧/ ١٥٧.
(٣) انظر معاني الفراء ٢/ ٣١٩.
178
وإن جاز فجمع سنة بالواو والنون والياء والنون، لأنه قد حذف منها شيء فجعل هذا الجمع عوضا، وكسرت السين وكانت مفتوحة في سنة لأن الكسرة جعلت دليلا على أنه جمع على غير ما يجب له. هذا قول البصريين، ويلزم الفراء أن يضمّها إلّا أنّه يقول:
الضمّة دليل على الواو، وقد حذف من سنة واو في أحد القولين ولا يضمها أحد علمناه. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ويقال: من قبل ومن بعد، وحكى الكسائي عن بعض بني أسد. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ «١» الأول مخفوض منون والثاني مضموم بلا تنوين. وحكى الفراء «٢»، «من قبل ومن بعد» مخفوضين بغير تنوين، وللفراء في هذا الفصل من كتابه في القرآن أشياء كثيرة، الغلط فيها بيّن فمنها أنه زعم أنه يجوز «من قبل ومن بعد» كما قال الشاعر: [مجزوء الكامل] ٣٣٢-
إلّا علالة أو بداهة سابح نهد الجزاره «٣»
وكما قال: [المنسرح] ٣٣٣-
يا من رأى عارضا أكفكفه بين ذراعي وجبهة الأسد «٤»
والغلط في هذا بيّن لأنه ليس في القرآن لله الأمر من قبل ومن بعد ذلك، فيكون مثل قوله: «بين ذراعي وجبهة الأسد» ألا ترى أنك تقول: أخذته بنصف وربع الدرهم، ولا يجوز أخذته بنصف وربع، وتقول: قطع الله يد ورجل زيد.
ولا يجوز يد ورجل، على أنّ هذا أيضا ليس بكثير في كلام العرب وإنما يحمل كتاب الله على الكثير والفصيح، ولا يجوز أن يقاس عليه ما لا يشبهه، ولو قلت:
اشتريت دار وغلام عمرو، لم يجز عند أحد علمناه ومن ذلك أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد وأنت تريد الإضافة وهذا نقض الباب كلّه لأن الضمّ إنما كان فيه لعدم الإضافة وإرادتها، فإذا خفضت وأنت تريدها تناقض الكلام وإنما يجوز «من قبل ومن بعد» على
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٢٠.
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٢٠.
(٣) الشاهد للأعشى في ديوانه ص ٢٠٩، والكتاب ١/ ٢٣٧، وخزانة الأدب ١/ ١٧٢، والخصائص ٢/ ٤٠٧، وسرّ صناعة الإعراب ١/ ٢٩٨، وشرح أبيات سيبويه ١/ ١١٤، وشرح المفصل ٣/ ٢٢، والشعر والشعراء ١/ ١٦٣، ولسان العرب (جزر)، و (علل) و (بده)، والمقاصد النحوية ٣: ٤٥٣، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ٢/ ٦٢٦، ورصف المباني ٣٥٨، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٨، والمقتضب ٤/ ٢٢٨ والمقرب ١/ ١٨٠.
(٤) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٢١٥، والكتاب ١/ ٢٣٩، وخزانة الأدب ٢/ ٣١٩، وشرح شواهد المغني ٢/ ٧٩٩، وشرح المفصل ٣/ ٢١ والمقاصد النحوية ٣/ ٤٥١، والمقتضب ٤/ ٢٢٩، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١/ ١٠٠، وتخليص الشواهد ٨٧، وخزانة الأدب ١٠/ ١٨٧، والخصائص ٢/ ٤٠٧، ورصف المباني ص ٣٤١، وسرّ صناعة الأعراب ٢٩٧، وشرح الأشموني ٢/ ٣٣٦، وشرح عمدة الحافظ ٥٠٢، ولسان العرب (بعد) و (يا).
179
أنهما نكرتان. قال أبو إسحاق: والمعنى من متقدّم ومن متأخّر، ومنها أنه شبّه من قبل ومن بعد بقولهم: من عل، وأنشد: [الرجز] ٣٣٤-
إن تأت من تحت أجئها من عل «١»
وليس من قبل ومن بعد من باب من عل. قال سيبويه «٢» : ولم يسكنوا من الأسماء ما ضارع المتمكّن ولا ما جعل في موضع بمنزلة غير المتمكّن. فالمضارع «من عل» حرّكوه لأنهم يقولون: من عل فأما التمكّن الذي جعل بمنزلة غير المتمكن فقولهم: أبدأ بهذا أول ويا حكم، أفلا ترى أن سيبويه لحذفه قد فصل بين «من عل» وبين «أول» ثم جاء الفراء فجمع بينهما، وأنشد الذي ذكرناه، وأنشد:
[الطويل] ٣٣٥-
فو الله ما أدري وإنّي لأوجل على أيّنا تعدو المنيّة أوّل «٣»
فخلط الجميع في الباب وجاء بهما في «قبل وبعد» وأحدهما مخالف لقبل وبعد.
فأما الكلام في قبل وبعد على مذهب سيبويه وعلى مذهب البصريين إنّ سبيلهما أن لا يعربا لأنهما قد كانتا حذف منهما المضاف إليه والإضافة فصارتا معرفتين من غير جهة التعريف فزال تمكّنهما فلم يخليا من حركة لأنهما قد كانتا معربتين فاختير لهما الضم لأنه قد يلحقهما بحقّ الإعراب الجرّ والنصب فأعطيتا غير تينك الحركتين فضمّتا إلّا أن أبا العباس محمد بن يزيد قال: لمّا كانتا غايتين أعطيتاه ما هو غاية الحركات. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ في معناه قولان: أحدهما أنهم فرحون بغلبة الروم فارس لأن الروم أهل كتاب فهم إلى المسلمين أقرب من الأوثان، والقول الآخر وهو أولى أنّ فرحهم إنما هو لإنجاز وعد الله جلّ وعزّ إذ كان فيه دليل على النبوة لأنه أخبر جلّ وعزّ بما يكون في بضع سنين فكان فيه.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٦]
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦)
مصدر مؤكّد. قال أبو إسحاق: ويجوز وَعْدَ اللَّهِ بالرفع بمعنى ذلك وعد الله.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وهم الكفار وهم أكثر.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٧]
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثم بيّن ما يجهلونه بقوله: وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «هم» الأول ابتداء والثاني ابتداء ثان والجملة خبر الأول، وفي الكلام معنى التوكيد،
(١) الرجز بلا نسبة في معاني الفراء ٢/ ٣١٩، وتهذيب اللغة ٢/ ٢٤٤، ولسان العرب (بعد).
(٢) انظر الكتاب ٣/ ٣١٩.
(٣) مرّ الشاهد رقم (١٤).
ويجوز أن يكون «هم» الثاني بدلا من الأول كما تقول: رأيته إياه، وفي الكلام أيضا معنى التوكيد.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٨]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨)
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ اللام للتوكيد، والتقدير: لكافرون بلقاء ربّهم على التقديم والتأخير وعلى هذا تقول: إنّ زيدا في الدار لجالس، ولو قلت: إنّ زيدا لفي الدار لجالس، لجاز، فإن قلت: إنّ زيدا جالس لفي الدار. لم يجز لأن اللام إنما يؤتى بها توكيدا لاسم إنّ وخبرها، فإذا جئت بهما لم يجز إن تأتي بها وكذا إن قلت: إنّ زيدا لجالس لفي الدار لم يجز.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٩]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)
وَأَثارُوا الْأَرْضَ لأن أهل مكة لم يكونوا أصحاب حرب.
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٠]
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ «١» اسم كان وذكرت لأن تأنيثها غير حقيقي. السُّواى خبر كان ومن نصب عاقِبَةَ جعل «السّوأى» اسم كان، وروي عن الأعمش أنه يقرأ ثمّ كان عاقبة الذين أساؤا السّوء «٢» برفع السوء. أَنْ كَذَّبُوا في موضع نصب، والمعنى: لأن كذّبوا.
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٢]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢)
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (يبلس) «٣» بفتح اللام والمعروف في اللغة أبلس الرجل. إذا سكت وانقطعت حجّته ولم يؤمّل أن تكون له حجة، وقريب منه تحيّر، كما قال الراجز:
٣٣٦-
قال: نعم أعرفه وأبلسا «٤»
(١) انظر تيسير الداني ١٤١، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٠٦.
(٢) انظر البحر المحيط: ٧/ ١٦٠. [.....]
(٣) انظر البحر المحيط ٧/ ١٦٠، ومعاني الفراء ٢/ ٣٢٣.
(٤) الرجز للعجاج في ديوانه ١/ ١٨٥، ولسان العرب (بلس) والتنبيه والإيضاح ٢/ ٢٦٢، وتهذيب اللغة ١٢/ ٤٤٢، وتاج العروس (بلس) و (عجنس) و (كرس) و (وكف)، وجمهرة اللغة ٧١٩، وأساس البلاغة (بجس)، وبلا نسبة في لسان العرب (صلب)، ومقاييس اللغة ٥/ ١٦٩، والمخصّص ١/ ١٢٦، وتاج العروس (صلب)، وتهذيب اللغة ١٠/ ٥٣. وقبله:
«يا صاح هل تعرف رسما مكرسا»
وقد زعم بعض النحويين أنّ «إبليس» مشتقّ من هذا وأنه أبلس أي انقطعت حجّته، ولو كان كما قال لوجب أن ينصرف وهو في القرآن غير منصرف فاحتجّ بعضهم بأنه اسم ثقل لأنه لم يسمّ به غيره.
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٣]
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ قيل: يعني بشركائهم ما عبدوه من دون الله جلّ وعزّ. وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ قالوا: ليسوا بآلهة.
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٥]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا سمعت أبا إسحاق يقول: معنى «أمّا» دع ما كنّا فيه وخذ في غيره، وكذا قال سيبويه: إنّ معناها مهما يكن من شيء أي مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنّا فيه. الَّذِينَ آمَنُوا في موضع رفع بالابتداء فَهُمْ ابتداء ثان وما بعده خبر عنه والجملة خبر «الذين». قال الضحاك: فِي رَوْضَةٍ في جنة. والرياض الجنات. وقال أبو عبيدة: الروضة ما كان في تسفّل فإن كان مرتفعا فهو ترعة، وقال غيره:
أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في موضع مرتفع غليظ، كما قال الأعشى: [البسيط] ٣٣٧-
ما روضة من رياض الحزن معشبة «١»
إلّا أنه لا يقال: لها روضة إلّا إذا كان فيها نبت فإن لم يكن فيها نبت وكانت مرتفعة فهي ترعة وقد قيل في الترعة غير هذا. قال الضحّاك: «يحبرون» يكرمون.
حكى الكسائي حبرته أي أكرمته ونعمته. قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: هو مشتق من قولهم: على أسنانه حبرة أي أثر فيحبرون أي يتبيّن عليهم أثر النعيم، الحبر مشتقّ من هذا.
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٧]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧)
أهل التفسير على أنّ هذا في الصلوات. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: حقيقته عندي فسبّحوا الله في الصلوات لأن التسبيح يكون في الصلاة، وعن
(١) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٠٧، ولسان العرب (تدع)، و (هطل)، و (حزن)، وتهذيب اللغة ٢/ ٢٦٦، وتاج العروس (حزن)، وعجزه:
«خضراء جاد عليها مسبل هطل»
عكرمة أنه قرأ فسبحان الله حينا تمسون وحينا تصبحون «١» وهو منصوب على الظرف، والمعنى: حينا تمسون فيه وحينا تصبحون حتى يعود على حين من نعمته شيء، ومثله في القرآن يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: ٤٨] قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: حروف الخفض لا تحذف ولكن تقدّر فيه الهاء فقط.
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٨]
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨)
وَلَهُ الْحَمْدُ ويجوز النصب على المصدر.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أَنْ في موضع رفع بالابتداء، وكذا أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً روي عن ابن عباس المودّة حبّ الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٢]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢)
بيّن جلّ وعزّ آياته الدالة عليه بخلق السّموات والأرض واختلاف اللسان في الفم واختلاف اللغات واختلاف الألوان والصور على كثرة الناس فما تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر، فهذا من أدلّ دليل على المدبّر والباري لأن من صنع شيئا غيره لم يكن فيه هذا التفريق.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٥]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أي تقوم بلا عمد بقدرته، وجعله أمرا مجازا كما يقال: هذا أمر عظيم.
وفي معنى يَسْمَعُونَ قولان: يقبلون مثل قوله: سمع الله لمن حمده، والآخر
(١) انظر البحر المحيط ٧/ ١٦٢، ومختصر ابن خالويه ١١٦.
أنّ منهم من كان إذا تلي القرآن وهو حاضر سدّ أذنيه لئلّا يسمع فلمّا بيّن جلّ وعزّ الدلالة عليه قال: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم، وأجمع القراء على فتح التاء هاهنا في «تخرجون» واختلفوا في التي في «الأعراف» فقرأ أهل المدينة وَمِنْها تُخْرَجُونَ [الأعراف: ٢٥]، وقرأ أهل العراق بالفتح، وإليه يميل أبو عبيد والمعنيان متقاربان إلّا أن أهل المدينة فرقوا بينهما لنسق الكلام، فنسق الكلام في التي في «الأعراف» بالضم أشبه إذ كان الموت ليس من فعلهم، فكذا الإخراج والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم فالفعل بهم أشبه.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٦]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦)
قال أبو الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة» «١» قال أبو جعفر: المعنى كلّ من في السّموات والأرض له مطيعون طاعة انقيادهم على ما شاء من صحّة وسقم وغنى وفقر، وليست هذه الطاعة التي يجازون عليها.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٧]
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وقد ذكرناه. وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي ما أراده جلّ وعزّ كان، وقال الخليل رحمه الله: المثل الصفة.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٨]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨)
شُرَكاءَ في موضع رفع ومِنْ زائدة للتوكيد. فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ مبتدأ وخبر وليست سواء هاهنا التي تكون ظرفا. تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ نصب بالفعل والكاف والميم في موضع خفض، وهي أيضا في موضع رفع في التأويل كما تقول: عجبت من ضربكم عمرا. ويجوز من ضربكم عمرو لأن المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول به، وتقول: عجبت من وقع أنيابه بعضها على بعض، وإن شئت رفعت لأن أنيابه في موضع رفع في التأويل إلّا أن الرفع في الظاهر قبيح عند الكوفيين، فإن قلت: عجبت من وقعها بعضها على بعض، حسن الرفع عند الجميع كَذلِكَ الكاف في موضع نصب، والتقدير: نفصّل الآيات تفصيلا كذلك.
(١) انظر تفسير القرطبي ١٤/ ٢٠، و ١٥/ ٢٣٩.

[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٩]

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ جمع هوى لأنّ أصله فعل.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٠]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي اجعل جهتك للدين. حَنِيفاً على الحال. قال الضحاك: «حنيفا» مسلما حاجا. قال وفِطْرَتَ اللَّهِ دين الله. قال أبو إسحاق: «فطرة الله» نصب بمعنى اتّبع فطرة الله، قال: لأن معنى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اتبع الدين واتبع فطرة الله. قال محمد بن جرير: «فطرة» مصدر من معنى فأقم وجهك لأن معنى ذلك فطر الله الناس على ذلك فطرة. وقد ذكرنا فطرة الله بأكثر من هذا في «المعاني»، والحديث «كل مولود يولد على الفطرة»، وقول الفقهاء فيه. وقد قيل: معناه يولد على الخلقة التي تعرفونها، وقيل: معنى فطرة الله التي فطر الناس عليها أي اتّبعوا دين الله الذي خلق الناس له. وسمّيت الفطرة دينا لأن الناس يخلقون له قال جلّ وعزّ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] واحتجّ قائل بقوله جلّ وعزّ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: ٧].
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣١]
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ منصوب على الحال. قال محمد بن يزيد: لأن معنى «فأقم وجهك» : وفأقيموا وجوهكم. وهو قول أبي إسحاق واحتج بقوله جلّ وعزّ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١]، وقال الفراء «١» : المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين ورد أبو العباس قول من قال: التقدير لا يعلمون منيبين لأن معنى منيبين راجعون فكيف لا يعلمون راجعين، وأيضا فإن بعده وَاتَّقُوهُ وإنما معناه فأقيموا وجوهكم واتّقوه وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٢]
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ تأولته عائشة رضي الله عنها وأبو هريرة وأبو أمامة رحمهما الله على أنه لأهل القبلة، وقال الربيع بن أنس: الذين فرقوا دينهم أهل الكتاب. وفارقوا دينهم تركوا دينهم الذي يجب أن يتبعوه، وهو التوحيد. وَكانُوا شِيَعاً أي فرقا. كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قيل: هم فرحون لأنهم لم يتبيّنوا الحق
(١) مرّ في إعراب الآية ٩: مريم.
وعليهم أن يتبيّنوه، وقيل: هذا قبل أن تظهر البراهين، وقول ثالث أنّ العاصي لله جلّ وعزّ قد يكون فرحا بمعصيته، وكذلك الشيطان، وقطّاع الطريق وغيرهم، والله أعلم.
وزعم الفراء «١» أنه يجوز أن يكون التمام «ولا تكونوا من المشركين» ويكون المعنى «من الذين فارقوا دينهم» وَكانُوا شِيَعاً على الاستئناف، وأنه يجوز أن يكون متصلا بما قبله، قال أبو جعفر: إذا كان متصلا بما قبله فهو عند البصريين على البدل بإعادة الحرف كما قال جلّ وعزّ: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف: ٧٥] ولو كان بلا حرف لجاز.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٣]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣)
دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ على الحال، وعن ابن عباس أي مقبلين إليه بكلّ قلوبهم.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٤]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤)
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ لام كي، وقيل: هي لام أمر فيه معنى التهديد، كما قال جلّ وعزّ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: ٢٩] وكما تقول «٢» : كلّم فلانا حتى نرى ما يلحقك منّي وكذا فَتَمَتَّعُوا، ودلّ على ذلك فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٥]
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً استفهام فيه معنى التوقيف. قال الضحّاك: «سلطانا» أي كتابا، وزعم الفراء أن العرب تؤنّث السلطان، وتقول: قضت به عليك السلطان. فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث جائز عندهم لأنه بمعنى الحجّة. وقولنا سلطان معناه صاحب سلطان أي صاحب الحجّة إلّا أن محمد بن يزيد قال غير هذا فيما حكى لنا عنه علي بن سليمان قال: سلطان جمع سليط كما تقول:
رغيف ورغفان، فتذكيره على معنى الجميع وتأنيثه على معنى الجماعة.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٦]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦)
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ التقدير عند سيبويه قنطوا فلهذا كان جواب الشرط.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٨]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨)
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ تأوله مجاهد وقتادة على أنه قريب الرجل، وجعلا صلة
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٢٥.
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٢٥.
الرحم فرضا من الله جلّ وعزّ حتى قال مجاهد: لا يقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة، وقيل: ذو القربى القربى بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحقّه مبيّن في قوله جلّ وعزّ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى [الأنفال: ٤١]، «وابن السبيل» الضيف فجعل الضيافة فرضا، فَأُولئِكَ مبتدأ وهُمُ مبتدأ ثان الْمُضْعِفُونَ خبر الثاني والجملة خبر الأول، وفي معنى المضعفين قولان: أحدهما تضاعف لهم الحسنات والآخر أنه قد أضعف لهم الخير والنعيم أي هم أصحاب أضعاف، كما يقال:
فلان مقو أي له أصحاب أقوياء، ويقال: فلان رديء مردئ أي هو رديء في نفسه وأصحابه أردياء.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤١]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١)
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ في معناه قولان: أحدهما ظهر الجدب في البر أي في البوادي وقرأها: وفي البحر أي في مدن البحر مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] أي ظهر قلّة الغيث وغلاء السعر بما كسبت أيدي الناس من المعاصي لنذيقهم عقاب بعض الذي عملوا ثم حذف. والقول الآخر: أنّ معنى ظَهَرَ الْفَسادُ ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم فهذا هو الفساد على الحقيقة. والأول مجاز إلّا أنه على الجواب الثاني يكون في الكلام حذف واختصار دلّ عليه ما بعده.
ويكون المعنى ظهرت المعاصي في البر والبحر فحبس الله عنهم الغيث وأغلى سعرهم ليذيقهم عقاب بعض ما عملوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وروى داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس «لعلهم يرجعون» لعلهم يتوبون.
فأما قوله جلّ وعزّ: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ فقد ذكرنا قول العلماء فيه أنه أن يهدي الرجل إلى الرجل الهدية يريد عليها المكافأة ولا يريد الثواب فذلك مباح إلّا أنه لا يثاب عليه لأنه لم يقصد به ثواب الله جلّ وعزّ غير أنّ الضحاك قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك خاصة بقوله جلّ وعزّ: لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: ٦] وقد قيل: معنى وما آتيتم من ربا هو الربا الذي لا يحلّ، وقال قائل هذا القول: معنى فلا يربو عند الله فلا يحكم به لآخذه لأنه ليس له وإنما هو للمأخوذ منه. وتثنية الربا ربوان، كذا قول سيبويه «١»، ولا يجوز عند أصحابه غيره. وسمعت أبا إسحاق يقول: وذكر قول الكوفيين- لا يكفيهم في قولهم ربيان أن يخطئوا في الخطّ فيكتبوا الربا بالياء حتى يخطئوا في التثنية واستعظم هذا، وقد قال الله جلّ وعزّ: لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ، فهذا
(١) انظر الكتاب ٣/ ٤٢٨.
أبين أنه من ذوات الواو، وأن القول كما قال أبو إسحاق.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٣]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣)
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي لا يردّه الله جلّ وعزّ عنهم فإذا لم يردّه لم يتهيّأ لأحد دفعه، ويجوز عند غير سيبويه «١» «لا مردّ له» وذلك عند سيبويه بعيد إلّا أن يكون في الكلام عطف. يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ الأصل يتصدّعون أدغمت التاء في الصاد لقربها منها، ويقال: تصدّع القوم، إذا تفرقوا ومنه اشتق الصّداع لأنه يفرق شعب الرأس.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
كانَ حَقًّا عَلَيْنا
خبر كان. صْرُ الْمُؤْمِنِينَ
اسمها، ولو كان في غير القرآن لجاز رفع حقّ ونصب نصر، لأن حقّا، وإن كان نكرة، فبعده علينا، ولجاز رفعهما على أن تضمر في كان والخبر في الجملة. وفي الحديث: «من ردّ عن عرض صاحبه ردّ الله عنه نار جهنّم ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
»
«٢».
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٨]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨)
وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً جمع كسفة وهي القطعة، وفي قراءة الحسن وأبي جعفر وعبد الرحمن الأعرج. كسفا «٣» بإسكان السين، وهو أيضا جمع كسفة كما يقال: سدرة وسدر، وعلى هذه القراءة يكون المضمر الذي بعده عائدا عليه أي فترى الودق يخرج من خلال الكسف لأن كلّ جمع بينه وبين واحده «الهاء» لا غير، التذكير فيه حسن، ومن قرأ كسفا فالمضمر عنده عائد على الحساب، وفي قراءة الضحاك فترى الودق يخرج من خلله «٤» ويجوز أن يكون خلال جمع خلل.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)
(١) انظر الكتاب ١/ ١٠٤.
(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٦/ ٤٥٠، والترمذي في سننه رقم (١٩٣١)، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣/ ٥١٧، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦/ ٢٨٤.
(٣) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٥٠٨. وتيسير الداني ١٤٢.
(٤) انظر إعراب الآية ١٢ من سورة الروم.
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ قد ذكرناه، وكان أبو إسحاق يذهب إلى أنه على التوكيد، ويقول: إنّ قول قطرب التقدير من قبل التنزيل خطأ لأن المطر لا ينفك من التنزيل، وأنشد: [الطويل] ٣٣٨-
مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت أغاليها مرّ الرّياح النّواسم «١»
فأنّث المرّ، لأنّ الرياح لا تنفكّ منه، ولأن المعنى تسفّهت أعاليها الرياح، فكذا معنى: «من قبل أن ينزل عليهم المطر» من قبل المطر. ويقال: آثر وإثر. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ لا يجوز فيه الإدغام لئلا يجمع فيه ساكنان.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥١]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا قيل: التقدير فرأوا الزرع مصفرّا، وقيل: فرأوا السحاب، وقيل فرأوا الريح، وذكّرت الريح لأنها للمرسل منها، وقال محمد بن يزيد لا يمتنع تذكير كلّ مؤنث غير حقيقي نحو أعجبني الدار، وما أشبهه لَظَلُّوا قال الخليل رحمه الله: معناه ليظلّنّ. قال أبو إسحاق: وجاز هذا لأن في الكلام معنى المجازاة.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ جعلوا بمنزلة الموتى والصمّ، لأنهم لا ينتفعون بما يسمعون. وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ قال الفراء»
: ويجوز من ضلالتهم بمعنى وما أنت بمانعهم من ضلالتهم، وعن بمعنى وما أنت بصارفهم عن ضلالتهم.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ قال عطية عن ابن عمر رحمه الله قال: قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ضعف» فقال لي مِنْ ضَعْفٍ «٣» وقرأ عيسى بن عمر مِنْ ضَعْفٍ، وقرأ الكوفيون مِنْ ضَعْفٍ وهو المصدر، وأجاز النحويون منهم من ضعف، وكذا كلّ ما كان فيه حرف من حروف الحلق ثانيا أو ثالثا. قال أبو إسحاق:
تأويله الله الذي خلقكم من النطفة التي حالكم معها الضعف ثم جعل من بعد الضعف الشبيبة.
(١) مرّ الشاهد رقم ١٤١. [.....]
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٢٦.
(٣) انظر تيسير الداني ١٤٢.

[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٥]

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ وليس في هذا ردّ لعذاب القبر إذ كان قد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من غير طريق أنه تعوّذ منه، وأمر أن يتعوّذ منه. من ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود قال: سمع صلّى الله عليه وسلّم أمّ حبيبة تقول: اللهمّ أمتعني بزوجي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سألت الله في آجال مضروبة وأرزاق مقسومة ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنّم أو عذاب القبر» «١» في أحاديث مشهورة. وفي معنى ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ قولان: أولهما أنّه يريد لا بدّ من خمدة قبل يوم القيامة ولحق الفناء الذي كتب على الخلق من رحم ومن عذّب فعلى هذا قالوا ما لبثنا غير ساعة لأنهم لم يعملوا مقدار ذلك، والقول الآخر أنهم يعنون في الدنيا لزوالها وانقطاعها وإن كانوا قد أقسموا على غيب وعلى غير ما يدرون قال الله جلّ وعزّ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي كذلك كانوا يكذبون في الدنيا، وقد زعم جماعة من أهل النظر أن القيامة لا يجوز أن يكون فيها كذب لما هم فيه، والقرآن يدل على غير ذلك. قال الله جلّ وعزّ: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ وقال جلّ ثناؤه يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة: ١٨].
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٦]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦)
وردّ عليهم المؤمنون فقالوا: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ قال أبو إسحاق: أي في اللّوح المحفوظ وحكى يعقوب عن بعض القراء «إلى يوم البعث» «٢» فهذا ما فيه حرف من حروف الحلق.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٧]
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ لمّا ردّ عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ولا حالهم حال من يستعتب فيرجع.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٨]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨)
(١) أخرجه مسلم في صحيحه- القدر- ٣٢، ٣٣.
(٢) انظر المحتسب ٢/ ١٦٦.
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يدلّهم على ما يحتاجون إليه.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٦٠]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ في موضع جزم بالنهي فأكّد بالنون الثقيلة فبني على الفتح، كما يبنى الشيئان إذا ضمّ أحدهما إلى الآخر الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ في موضع رفع، ومن العرب من يقول الذّون في موضع الرفع.
Icon