ﰡ
﴿يا أيها الذين آمنوا أَوْفُواْ بالعقود﴾ يقال وفى بالعهد وأوفى به والعقد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التلكيف أو ما عقد الله عليكم وما تعاقدتم بينكم والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه وأنه كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل وهو قوله ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام﴾ والبهيمة كل ذات أربع قوائم في البر والبحر وإضافتها إلى الأنعام للبيان وهي بمعنى من كخاتم فضة ومعناه البهيمة من الأنعام وهي الأزواج الثمانية وقيل بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوهما ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ آية تحريمه وهو قوله ﴿حرمت عليكم الميتة﴾ الآية ﴿غَيْرَ مُحِلّي الصيد﴾ حال من الضمير في لكم أي أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين
المائدة (١ _ ٢)
الصيد ﴿وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾ حال من محلى الصيد كأنه قيل أحللنا لك بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يضيق عليكم والحرم جمع حرام وهو المحرم ﴿إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ من الأحكام أو من التحليل والتحريم
﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله﴾ جمع شعيرة وهي اسم ما أشعر أي جعل شعاراً وعلماً للنسك به من مواقف الحج ومرامي الجمار والمطاف والمسعى والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الاحرم والطواف والسعي والحلق والنحر ﴿وَلاَ الشهر الحرام﴾ أي أشهر الحج ﴿وَلاَ الهدى﴾ وهو ما أهدي إلى البيت وتقرب به إلى الله تعالى من النسائك وهو جمع هدية ﴿وَلاَ القلائد﴾ جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو عروة مزادة أو لحاء الشجر أو غيره ﴿ولا آمين البيت الحرام﴾ ولا تحلوا قوماً قاصدين المسجد الحرام وهم الحجاج والعمار وإحلال هذه الأشياء أن يتهاونوا بحرمة الشعائر وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج وأن يتعرضوا للهدى بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله وأما القلائد فجاز أن يراد بها ذوات القلائد وهي البدن وتعطف على الهدى للاختصاص لانها أشرف الهدى كقوله وجبريل وميكال كأنه قيل والقلائد منها خصوصاً وجاز أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي أي ولا تحلوا قلائدها فضلاً أن تحلوها كما قال وَلاَ يبدين زينتهن فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها ﴿يَبْتَغُونَ﴾ حال من الضمير في آمين ﴿فَضْلاً مّن رَّبِّهِمْ﴾ أي ثواباً ﴿ورضوانا﴾ وأن يرضى عنهم أي لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم تعظيماً لهم ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾ خرجتم من الإحرام ﴿فاصطادوا﴾ إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم بقوله غير محلي الصيد وأنتم حرم ﴿ولا يجرمنكم شنآن قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ﴾ جرم مثل كسب في تعديته إلى مفعول واحد واثنين تقوم جرم ذنباً نحو
المائدة (٢ _ ٣)
﴿وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان﴾ على الانتقام والتشفي أو البر فعل المأمور والتقوى ترك المحظور والإثم ترك المأمور والعدوان فعل المحظور ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى ولك إثم وعدوان فيتناول بعمومه العفو والانتصار ﴿واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن عصاه وما اتقاه
ثم بين ما كان أهل الجاهلية يأكلونه فقال ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ أي البهيمة التي تموت حتف أنفها ﴿والدم﴾ أي المسفوح وهو السائل ﴿وَلَحْمَ الخنزير﴾ وكله نجس وإنما خص اللحم لأنه معظم المقصود ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ أي رفع الصوت به لغير الله وهو قولهم باسم اللات والعزة عند ذبحه ﴿والمنخنقة﴾ التي خنقوها حتى ماتت أو انخنقت بالشبكة أو غيرها ﴿والموقوذة﴾ التي أثخنوها ضرباً بعصا أو حجر حتى ماتت ﴿والمتردية﴾ التي تردت من جبل أو في بئر فماتت ﴿والنطيحة﴾ المنطوحة وهي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح ﴿وَمَا أَكَلَ السبع﴾ بعضه ومات بجرحه ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح والاستثناء يرجع إلى المنخنقة وما بعدها فإنه إذا أدركها وبها حياة فذبحها وسمى عليها حلت ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت
المائدة (٣ _ ٤)
يوم بعينه وإنما معناه الآن وهذا كما تقول أنا اليوم قد كبرت تريد الآن وقيل أريد يوم نزولها وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ﴿يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ يئسوا منه أن يبطلوه أو يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأن الله تعالى وفى بوعده من إظهاره على الدين كله ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ﴾ بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار وانقلابهم مغلوبين بعد ما كانوا غالبين ﴿واخشون﴾ بغير ياء في الوصل والوقف أى أخلصوا إلى الخشية ﴿اليوم﴾ ظرف لقوله ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ بأن كفيتكم خوف عدوكم وأظهرتكم
﴿يسألونك﴾ في السؤال معنى القول فلذا وقع بعده ﴿مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ كأنه قيل يقولون لك ماذا أحل لهم وإنما لم يقل ماذا أحل لنا حكاية لما قالوا لأن يسألونك بلفظ الغيبة كقولك أقسم زيد ليفعلن ولو قيل لا فلن وأحل لنا لكان صوابا وماذا متبدا وأحل لهم خبره كقولك أي شيء أحل لهم ومعناه ماذا أحل لهم من المطاعم كأنهم حين تلى عليهم ما حرم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم منها فقال ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ أي ماليس بخبيث منها أو هو كل مالم يأت تحريمه في كتاب الله أو سنة أو إجماع أو قياس ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ﴾ عطف على الطيبات أي أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف أو تجعل ماشرطية وجوابها فكلوا ﴿مّنَ الجوارح﴾ أي الكواسب للصيد من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي
المائدة (٤ _ ٦)
من الكلب لأن التأديب في الكلاب أكثر فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه أو لأن السبع يسمى كلباً ومنه الحديث اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فأكله الأسد ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ﴾ حال أو استئناف ولا موضع له وفيه دليل على أن كل آخذ علما على ألا يأخذه إلا من أقتل أهله علماً وأنحرهم دوابه فكم من آخذ من غير متقن قد ضيع أيامه وعض عند لقاء التحارير أنامله ﴿مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله﴾ من التكليب ﴿فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ الإمساك على صاحبه أن لا يأكل منه فإن أكل منه لم يؤكل إذا كان صيد كلب ونحوه فأما صيد البازي ونحوه فأكله لا يحرمه وقد عرف في موضعه والضمير في ﴿واذكروا اسم الله عَلَيْهِ﴾ يرجع إلى ما أمسكن على معنى وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته أو إلى ما علمتم من الجوارح أي سموا عليه عند إرساله ﴿واتقوا الله﴾ واحذروا مخالفة أمره في هذا كله ﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ إنه محاسبكم على أفعالكم ولا يلحقه فيه لبث
﴿اليوم﴾ الآن ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ كرره تأكيداً للمنة ﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ﴾ أي ذبائحهم لأن سائر الأطعمة لا يختص حلها بالملة ﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ فلا جناح عليكم أن تطعموهم لأنه لو كان حراماً عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم اطعامهم ﴿والمحصنات من المؤمنات﴾ هى الحرائر أو العفائف وليس هذا بشرط لصحة النكاح بل هو للاستحباب لأنه يصح نكاح الإماء من المسلمات ونكاح غير العفائف وتخصيصهن بعث على
﴿يا أيها الذين آمنوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ﴾ أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله فَإِذَا قرأت
المائدة (٦)
القرآن أي إذا أردت أن تقرأ القرآن فعبر عن إرادة الفعل بالفعل لأن الفعل مسبب عن الإرادة فأقيم المسبب مقام السبب لملابسة بينهما طلباً للإيجاز ونحوه كما تدين تدان عبر عن الفعل الابتدائي الذي هو سبب الجزاء بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه وتقديره وانتم محدثون عن ابن عباس رضى الله عنهما أو من النوم لأنه دليل الحدث وكان رسول الله ﷺ والصحابة يتوضئون لكل صلاة وقبل كان الوضوء لكل صلاة واجباً أول ما فرض ثم نسخ ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق﴾ إلى تفيد معنى الغاية مطلقاً فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فما فيه دليل على الخروج فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ لأن الإعسار علة الإنظار وبوجود الميسرة تزول العلة ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظراً في الحالتين معسراً وموسراً وكذلك أتموا الصيام إلى الليل لو دخل الليل
علمت أن أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ مسح على القدمين وإنما أمر بغسل هذه الأعضاء ليطهرها من الأوساخ التي تتصل بها لأنها تبدو كثيرا والصلاة
المائدة (٦ _ ٨)
ثيابه وإن الصلاة متعمماً أفضل من الصلاة مكشوف الرأس لما أن ذلك أبلغ في التعظيم ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا﴾ فاغسلوا أبدانكم ﴿وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مّنْكُمْ﴾ قال الرازي معناه وجاء حتى لا يلزم المريض والمسافر التيمم بلا حدث ﴿من الغائط﴾ المكان المطمئن وهو كتابة عن قضاء الحاجة ﴿أَوْ لامستم النساء﴾ جامعتم ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءَ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ في باب الطهارة حتى لا يرخص لكم في التيمم ﴿ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ وليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمته فيثيبكم
﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ بالإسلام ﴿وميثاقه الذى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أي عاقدكم به عقداً وثيقاً وهو الميثاق الذي اخذه على المسليمن حين بايعهم رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره فقبلوا وقالوا سمعنا واطعنا وقيل هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان ﴿واتقوا الله﴾ في نقض الميثاق ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ بسرائر الصدور من الخير والشر وهو وعد ووعيد
﴿يا أيها الذين آمنوا كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط﴾ بالعدل ﴿وَلاَ يجرمنكم شنآن قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾ عدي يجرمنكم بحرف الاستعلاء مضمناً معنى فعل يتعدى به كأنه قيل ولا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ أي العدل أقرب إلى التقوى نهاهم أوّلاً أن تحملهم البغضاء على ترك العلد ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله تعالى ﴿هو أقرب للتقوى﴾ وإذا كان وجوب العدل مع الكفار بهذه الصفة من القوة فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه ﴿واتقوا الله﴾ فيما أمر ونهى
المائدة (٨ _ ١٢)
﴿إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ وعد ووعيد ولذاذكر بعدها آية الوعد وهو قوله تعالى
﴿وعد الله الذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ وعد يتعدى إلى مفعولين فالأول الذين آمنوا والثاني محذوف استغني عنه بالجملة التي هي قوله ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
والوعيد وهو قوله ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتِنَا أولئك أصحاب الجحيم﴾ أى لا يفارقونها
﴿يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ﴾ روي أن رسول الله ﷺ أتى بني قريظة ومعه الشيخان أبو بكر وعمر والختان يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما
﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً﴾ هو الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها ولما استقر بنوا إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى اريحاء أرض الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقا لهم إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم وأمر الله موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل لهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسوا فرأو أجراماً عظيمة وقوة وشوكة فهابوا ورجعوا فحدثوا قومهم وقد نهاهم أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوقنا ويوشع بن نون وكانا من النقباء ﴿وَقَالَ الله إِنّى مَعَكُمْ﴾ أى ناصركم ومعينكم وتقف هنا
المائدة (١٢ _ ١٤)
بين أحد منهم ﴿وعزرتموهم﴾ وعطمتوهم أو نصرتموهم بأن تردوا عنهم اعدائهم والعزر في اللغة الردّ ويقال عزرت فلاناً أي أدّبته يعني فعلت به ما يردعه عن القبيح كذا قاله الزجاج ﴿وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ بلا مَنٍّ وقيل هو كل خير واللام في ﴿لأُِّّكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سيئاتكم﴾ جواب للقسم وهذا الجواب سادّ مسد جواب القسم والشرط جميعاً ﴿وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ﴾ أي بعد ذلك الشرط المؤكد المتعلق بالوعد العظيم ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾ أخطأ طريق الحق نعم من كفر قبل ذلك فقد ضل سواء السبيل أيضاً ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم
﴿فبما نقضهم ميثاقهم﴾ ما مريد لإفادة تفخيم الأمر ﴿لعناهم﴾ طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ يابسة لا رحمة فيها ولا لين قسيّة حمزة وعلي أي رديئة من قولهم درهم قسى أى ردئ ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مواضعه﴾ يفسرونه على غير ما أنزل وهو بيان لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير وحيه ﴿وَنَسُواْ حَظَّا﴾ وتركوا نصيباً جزيلاً وقسطاً وافياً ﴿مّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ من التوراة يعنى إن تركهم واعارضهنم عن التوراة إغفال حظ عظيم أو قست قلوبهم وفسدت فحرفوا التوراة وزلت أشياء منها عن حفظهم عن ابن مسعود رضى الله
ومن في قوله ﴿وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم﴾ وهو الإيمان بالله والرسل وأفعال الخير يتعلق بأخذنا أي وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم فقدم على
المائدة (١٤ _ ١٧)
الفعل الجار والمجرور وفصل بين الفعل والواو بالجار والمجرور وإنما لم يقل من النصارى لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصر الله وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله ثم اختلفوا بعد نسطورية ويعقوبية وملكانية أنصاراً للشيطان ﴿فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فأغرينا﴾ فألصقنا وألزمنا من غرى بالشئ إذا لزمه ولصق به ومنه الغراء الذي يلصق به ﴿وبينهم﴾ بين فرق النصارى المختلفين ﴿العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة﴾ بالأهواء المختلفة ﴿وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ أي في القيامة بالجزاء والعقاب
﴿يا أهل الكتاب﴾ خطاب لليهود والنصارى والكتاب للجنس
﴿يَهْدِي بِهِ الله﴾ أي بالقرآن ﴿مَنِ اتبع رضوانه﴾ ومن آمن منهم ﴿سبل السلام﴾ أو الله ﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بإرادته وتوفيقه ﴿وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾
﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مَرْيَمَ﴾ معناه بت القول على أن الله هو المسيح لا غير قيل كان في النصارى قوم يقولون ذلك أو لأن مذهبم يؤدي إليه حيث إنهم اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً﴾ فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئاً ﴿إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وأمه ومن في الأرض جميعا﴾ رأى إن أراد أن
المائدة (١٧ _ ١٩)
على المسيح وأمه إبانة أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما وبينهم والمعنى أن من اشتمل عليه رحم الأمومية متى يفارقه نقص البشرية ومن لا حت عليه شواهد الحدثية أنى يليق به نعت الربوبية ٨ ولو قطع البقاء عن جميع ما أوجد لم يعد نقص إلى الصمدية ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أي يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى بلا ذكر كما خلق عيسى ويخلق من ذكر من غير أنثى كما خلق حواء من آدم ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم أو يخلق كما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة له فلا اعتراض عليه لأنه الفعال لما يريد ﴿والله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
﴿وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ أي أعزة عليه كالابن على الأب أو أشياع ابني الله عزير والمسيح كما قيل لأشباع أبي خبيب وهو عبد الله بن الزبير الخبيبيون كما كان يقول رهط مسيلمة نحن أبناء الله ويقول أقرباء الملك وحشمه نحن أبناءالملوك أو نحن أبناء رسل الله ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ أي فإن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم تعذبون بذنوبكم بالمسخ والنار أياماً معدودة على زعمكم وهل يمسخ الأب ولده وهل يعذب الوالد ولده بالنار ثم قال رداً عليهم ﴿بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ أي أنتم خلق من خلقه لا بنوه ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ﴾ لمن تاب عن الكفر فضلاً ﴿وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ﴾ من مات عليه عدلاً ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير يا﴾ فيه تنبيه على عبودية المسيح لأن الملك والنبوة متنافيان
﴿يا أهل الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ محمد عليه السلام ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ أي الشرائع وحذف لظهوره أو ما كنتم تخفون وحذف لتقدم ذكره أو لا يقدر المبين ويكون المعنى يبذل لكم البيان وهو حال أي مبيناً لكم ﴿على فترة من الرسل﴾ متعلق بجاءكم على جاءكم فى حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي وكان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة أو خمسمائة سنة وستون سنة ﴿أَن تَقُولُواْ﴾ كراهة أن تقولوا ﴿مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ﴾ والفاء في ﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ﴾ متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا فقد جاءكم ﴿بَشِيرٌ﴾ للمؤمنين ﴿وَنَذِيرٌ﴾ للكافرين والمعنى الامتنان عليهم بأن الرسول بعث اليهم حين انطمست آثار الوحى وكانوا أحوج ما يكونون إليه ليهشوا إليه ويعدوه أعظم نعمة من الله وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غفلتهم
المائدة (١٩ _ ٢٤)
﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فكان قادراً على إرسال محمد عليه السلام ضرورة
﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء﴾ لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء ﴿وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً﴾ لأنه ملكهم بعد فرعون ملكه وبعد الجبابرة ملكهم ولأن الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء وقيل الملك من له سكن واسع فيه ماء جار وكانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية وقيل من له بيت وخدم أو لأنهم كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله فسمى انقاذهم ملكا ﴿وآتاكم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن العالمين﴾ من فلق البحر وإغراق العدوا وإنزال المن والسلوى وتظليل الغمام ونحو ذلك من الأمور العظام أو أراد عالمي زمانهم
﴿يا قوم ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ أي المطهرة أو المباركة وهي
﴿قالوا يا موسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ﴾ الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد ﴿وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا﴾ بالقتال ﴿حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا﴾ بغير قتال ﴿فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا﴾ بلا قتال ﴿فَإِنَّا داخلون﴾ بلادهم حينئذ
﴿قَالَ رَجُلاَنِ﴾ كالب ويوشع ﴿من الّذين يخافونَ﴾ الله ويخشونه كأنه قيل رجلان من المتقين وهو فى محل الرفع صفة لرجلان وكذ ﴿أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا﴾ بالخوف منه ﴿ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب﴾ أي باب المدينة ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالبون﴾ أي انهزموا وكانت الغلبة لكم وإنما علما ذلك بإخبار موسى عليه السلام ﴿وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ إذ الإيمان به يقتضي التوكل عليه وهو قطع العلائق وترك التملق للخلائق
﴿قالوا يا موسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا﴾ هذا نفي لدخولهم في المستقبل على وجه التوكيد ﴿أَبَدًا﴾ تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول ﴿مَّا دَامُواْ فِيهَا﴾ بيان للأبد ﴿فاذهب أنت وربك﴾
المائدة (٢٤ _ ٢٧)
من العلماء من حمله على الظاهر وقال إنه كفر منهم وليس كذلك إذ لو قالوا ذلك اعتقاداً وكفروا به لحاربهم موسى ولم تكن مقاتلة الجبارين أولى من مقاتلة هؤلاء ولكن الوجه فيه أن يقال فاذهب أنت وربك يعينك على قتالك أو وربك أى وسيدك وهو
﴿قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ﴾ لنصرة دينك ﴿إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى﴾ وهو منصوب بالعطف على نفسي أو على اسم إن أي إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه أو مرفوع بالعطف على محل ان واسمها أو على الضمير في لا أملك وجاز للفصل أي ولا يملك أخي إلا نفسه أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي وأخي كذلك وهذا من البث والشكوى إلى الله ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة وكأنه لم يثق بالرجلين المذكورين كل الوثوق فلم يذكر إلا النبي المعصوم أو أراد ومن يؤاخيني على ديني ﴿فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين﴾ فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما وعدتنا وتحكم عليهم بما هم أهله وهو في معنى الدعاء عليهم أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كفوله ونجنى من القوم الظالمين
﴿قال فإنها﴾ أى الأرض المقسدة ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ لا يدخلونها وهو تحريم منع لا تحريم تعبد كقوله وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع والمراد بقوله كتب الله لكم أي بشرط أن تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل فإنها محرمة عليهم أو المراد فإنها محرمة عليهم ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ فإذا مضى الأربعون كان ما كتب فقد سار موسى عليه السلام بمن بقي من بني إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتحها وأقام فيها ما شاء الله ثم قبض وأربعين ظرف التحريم والوقف على سنة أو ظرف ﴿يَتِيهُونَ فِى الأرض﴾ أي يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً أربعين سنة والوقف على عليهم وإنما عوقبوا بالحبس لاختيارهم
أمر الله تعالى مححد ﷺ أن يقص على حاسديه ما جرى بسبب الحسد ليتركوه ويؤمنوا بقوله ﴿واتل عَلَيْهِمْ﴾ على أهل الكتاب ﴿نبأ ابني آدم﴾ ومن صلبه هابيل وقابيل أو هما رجلان من بنى إسرائيل ﴿بالحق﴾ نبأ ملتبسا
المائدة (٢٧ _ ٣١)
بالصدق موافقاً لما في كتب الأولين أو تلاوة ملتبسة بالصدق والصحة أو واتل عليهم وأنت محق صادق ﴿إِذْ قَرَّبَا﴾ نصب بالنبأ أي قصتهما وحديثهما في ذلك الوقت أو بدل من النبأ أي اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف ﴿قُرْبَاناً﴾ ما يتقرب به إلى الله من نسيكة أو صدقة يقال قرب صدقة وتقرب بها لأن تقرب مطاوع قرب والمعنى إذ قرب كل واحد منهما قربانه دليله ﴿فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا﴾ قربانه وهو هابيل ﴿وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر﴾ قربانه وهو قابيل رُوي أنه أوحى الله تعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها إقليما فحسده عليها أخاه وسخط فقال لهما آدم قربا قرباناً فمن أيكما قبل يتزوجها فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعده بالقتل وهو قوله ﴿قَالَ لأقْتُلَنَّكَ﴾ أي قال لهابيل ﴿قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾ وتقديره قال لم تقتلني قال لأن الله قبل قربانك ولم يقبل قرباني فقال إنما يتقبل الله من المتقين وأنت غير
﴿لَئِن بَسَطتَ﴾ مددت ﴿إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ﴾ بماد ﴿يَدَىِ﴾ مدني وأبو عمرو وحفص ﴿إِلَيْكَ لأِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين﴾ قيل كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكن تحرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأن الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت وقيل بل كان ذلك واجباً فإن فيه إهلاك نفسه ومشاركة للقاتل فى اثمه وإنما قتله فتكاً على غفلة منه إنّي أخاف حجازى وأبو عمرو
﴿إني أريد﴾ مدني ﴿أَن تَبُوءَ﴾ أن تحتمل أو ترجع ﴿بِإِثْمِى﴾ بإثم قتلي إذا قتلتني ﴿وَإِثْمِكَ﴾ الذي لأجله لم يتقبل قربانك وهو عقوق الأب والحسد والحقد وإنما أراد ذلك لكفره برده قضية الله تعالى أو كان ظالماً وجزاء الظالم جائز أن يراد ﴿فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين﴾
﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ فوسعته ويسرته من طاع له المرتع إذا اتسع ﴿فَقَتَلَهُ﴾ عند عقبة حراء أو بالبصرة والمقتول ابن عشرين سنة ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين﴾
﴿فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأرض لِيُرِيَهُ﴾ أى الله أو الغراب ﴿كيف يواري سوأة أخيه﴾
عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده
﴿مِنْ أَجْلِ ذلك﴾ بسبب ذلك وبعلته وذلك إشارة إلى القتل المذكور قيل هو متصل بالآية الأولى فيوقف على ذلك أي فأصبح من النادمين لأجل حمله ولأجل قتله وقيل هو مستأنف والوقف على النادمين ومن يتعلق بكتبنا لا بالنادمين ﴿كتبنا على بني إسرائيل﴾ خصهم بالذكر وإن اشترك الكل في ذلك لأن التوراة أول كتاب فيه الأحكام ﴿أَنَّهُ من قتل نفسا﴾ الضمير للشأن ومن شرطية ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ بغير قتل نفس ﴿أَوْ فَسَادٍ فِى الأرض﴾ عطف على نفس أي بغير فساد في الأرض وهو الشرك أو قطع الطريق أو كل فساد يوجب القتل ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً﴾ أي في الذنب عن الحسن لأن قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله عليه والعذاب العظيم ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك ﴿ومن أحياها﴾ ومن استنفذها من أسباب الهلكة من قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾ جعل قتل
﴿إنما جزاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي أولياء الله فى الحديث يقول
المائدة (٣٣ _ ٣٨)
الله تعالى من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ﴿وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً﴾ مفسدين ويجوز أن يكون مفعولاً له أي للفساد وخبر جزاء ﴿أَن يُقَتَّلُواْ﴾ وما عطف عليه وأفاد التشديد الواحد بعد الواحد ومعناه أن يقتلوا من غير صلب إن أفردوا القتل ﴿أَوْ يُصَلَّبُواْ﴾ مع القتل إن جمعوا بين القتل وأخذ المال ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم﴾ أن أخذوا المال ﴿من خلاق﴾ حال من الأيدي والأرجل أي مختلفة ﴿أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض﴾ بالحبس إذا لم يزيدوا على الإخافة ﴿ذلك﴾ المذكور ﴿لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدنيا﴾ ذل وفضيحة ﴿وَلَهُمْ فِى الآخرة عَذَابٌ عظيم﴾
﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾ فتسقط عنهم هذه الحدود
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله﴾ فلا تؤذوا عباد الله ﴿وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة﴾ هي كل ما يتوسل به أي يتقرب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك السيئات ﴿وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً﴾ من صنوف الأموال ﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ وأنفقوه ﴿لِيَفْتَدُواْ بِهِ﴾ ليجعلوه فدية لأنفسهم ولو مع ما في حيزه خبر إن ووحد الراجع في ليفتدوا به وقد ذكر شيئان لأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قيل لِيَفْتَدُواْ بِذَلِكَ ﴿مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فلا سبيل لهم إلى التجاة بوجه
﴿يُرِيدُونَ﴾ يطلبون أو يتمنون ﴿أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مقيم﴾ دائم
﴿والسارق والسارقة﴾ ارتفعا بالابتداء والخبر محذوف تقديره وفيما يتلى عليكم السارق والسارقة أو الخبر ﴿فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾ أي يديهما والمراد اليمينان بدليل قراءة عبد الله بن مسعود ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط لأن المعنى والذي سرق والتى سرقت
المائدة (٣٨ _ ٤١)
فاقطعوا أيديهما والاسم الموصول يضمن معنى الشرط وبدأ بالرجل لأن السرقة من الجراءة وهي في الرجال أكثر وأخر الزاني لأن الزنا ينبعث من الشهوة وهي في النساء أوفر وقطعت اليد لأنها آلة السرقة ولم تقطع آلة الزنا تفادياً
﴿فَمَن تَابَ﴾ من السرقة ﴿مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ سرقته ﴿وَأَصْلَحَ﴾ برد المسروق ﴿فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ يقبل توبته ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ يغفر ذنبه ويرحمه
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ يا محمد أو يا مخاطب ﴿أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُعَذّبُ مَن يَشَاء﴾ من مات على الكفر ﴿وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ﴾ لمن تاب عن الكفر ﴿والله على كُلّ شَىْء﴾ من التعذيب والمغفرة وغيرهما ﴿قَدِيرٌ﴾ قادر وقدم التعذيب على المغفرة هنا لتقدم السرقة على التوبة
﴿يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر﴾ أى لاتهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر أي في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة المشركين فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم يقال أسرع فيه الشيب أى وقع فيه سريعاً فكذلك مسارعتهم في الكفر وقوعهم فيه أسرع شى اذا وجدوا فرصة لم يخطئوها ﴿مِنَ الذين قَالُواْ﴾ تبيين لقوله الذين يسارعون فى الكفر ﴿آمنا﴾ مفعول قالوا ﴿بأفواههم﴾ متعلق بقالوا أي قالوا بأفواههم آمنا ﴿وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ في محل النصب على الحال ﴿وَمِنَ الذين هَادُواْ﴾ معطوف على من الذين قالوا أي من المنافقين واليهود ويرتفع {سماعون
المائدة (٤١ _ ٤٣)
عن مواضعه التي وضعه الله فيها فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا موضع يحرفون صفة لقوم كقوله لم يأتوك أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم يحرفون والضمير مردود على لفظ الكلم ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا﴾ المحرف المزال عن مواضعه ويقولون مثل يحرفون وجاز أن يكون حالاً من الضمير في يحرفون ﴿فَخُذُوهُ﴾ واعلموا أنه الحق واعملوا به ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ﴾ وأفتاكم محمد بخلافه ﴿فاحذروا﴾ فإياكم وإياه فهو الباطل رُوي أن شريفاً زنى بشريفة بخيبر وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطا منهم ليسألوا رسول الله ﷺ عن ذلك وقالوا إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به ﴿وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ﴾ ضلالته وهو حجة على من يقول يريد الله الإيمان ولا يريد الكفر ﴿فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً﴾ قطع رجاء محمد ﷺ عن إيمان هؤلاء ﴿أُوْلَئِكَ الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ عن الكفر لعلمه منهم اختيار الكفر وهو حجة لنا عليهم أيضاً {لَهُمْ فِى الدنيا
﴿سماعون لِلْكَذِبِ﴾ كرر للتأكيد أي هم سماعون ومثله ﴿أكالون للسحت﴾ وهو كل مالا يحل كسبه وهو من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة وفي الحديث هو الرشوة في الحكم وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام وبالتثقيل مكي وبصري وعلي ﴿فَإِن جاؤوك فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ قيل كان رسول الله ﷺ مخيراً إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم بينهم وقيل نسخ التخيير بقوله وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله ﴿وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً﴾ فلن يقدروا على الإضرار بك لأن الله تعالى يعصمك من الناس ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط﴾ بالعدل ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ العادلين
﴿وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله﴾ تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدعون الإيمان به فيها حكم الله حال من التوراة وهي مبتدأ وخبره عندهم ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك﴾
عطف على يحكمونك أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به ﴿وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين﴾ بك أو بكتابهم كما يدعون
﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى﴾ يهدي للحق ﴿وَنُورٌ﴾ يبين ما استبهم من الأحكام ﴿يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ﴾ انقادوا لحكم الله فى التواة وهو صفة أجريت للنبيين على سبيل المدح وأريد باجرائها التعريض باليهود لأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾ تابوا من الكفر واللام يتعلق بيحكم ﴿والربانيون والأحبار﴾ معطوفان على النبيون أي الزهاد والعلماء ﴿بِمَا استحفظوا﴾ استودعوا قيل ويجوز أن يكون بدلاً من بها في يحكم بها ﴿من كتاب الله﴾ من للنبيين والضمير في استحفظوا للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً ويكون الاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه أو للربانيون والأحبار ويكون الاستحفاظ من الأنبياء ﴿وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء﴾ رقباء لئلا يبدل ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس﴾ نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل خشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد ﴿واخشون﴾ في مخالفة أمري وبالياء فيهما سهل وافقه أبو عمرو وفى الوصل ﴿ولا تشتروا بآياتي﴾ ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله﴾ مستهيناً به ﴿فأولئك هم الكافرون﴾ قال ابن عباس رضى الله عنهما من لم يحكم جاحداً فهو كافر وإن لم يكن جاحداً فهو فاسق ظالم وقال ابن مسعود رضى الله عنه هو عام في اليهود وغيرهم
﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا﴾ وفرضنا على اليهود في التوراة ﴿أَنَّ النفس﴾
المائدة (٤٥ _ ٤٨)
لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت وقوله ﴿أن النفس بالنفس﴾ يدل على أن المسلم يقتل بالذمي والرجل بالمرأة والحر بالعبد نصب نافع وعاصم وحمزة المعطوفات كلها لعطف على ما عملت فيه أن ورفعها عليٌّ للعطف على محل أن النفس لأن المعنى وكتبنا عليهم النفس بالنفس اجراء لكتبنا مجرى قلنا ونصب الباقون الكل ورفعواالجروح والأذن بسكون الذال حيث كان نافع والباقون بضمها وهما لغتان كالسحت والسحت ﴿فَمَن تَصَدَّقَ﴾ من أصحاب الحق ﴿به﴾ بالقصاص وعفا عنه ﴿فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ فالتصدق به كفارة للمتصدق بإحسانه قال عليه السلام من تصدق بدم فمادونه كان كفارة له يوم ولدته أمه ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون﴾ بالامتناع عن ذلك
﴿وقفينا﴾ معنى قفيت الشئ بالشئ جعلته في أثره كأنه جعل في قفاه يقال قفاه يقفوه إذا تبعه ﴿على آثارهم﴾ على آثار النبيين الذين أسلموا ﴿بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ مصدقا﴾ هو حال من عيسى ﴿لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة وآتيناه الإِنجيل فيه هُدىً ونورٌ ومُصَدَّقاً لَّما بين يديه من التوراة﴾ أي وآتيناه الإنجيل ثابتا فيه هدى ونور ومصدقا افنصب مصدقاً بالعطف على ثابتاً الذي تعلق به فيه وقام مقامه فيه وارتفع هدى ونور بثابتاً الذي قام مقامه فيه
﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ﴾ وقلنا لهم احكموا بموجبه فاللام لام الأمر وأصله الكسر وإنما سكن استثقالاً لفتحة وكسرة وفتحة وليحكم بكسر اللام وفتح الميم حمزة على أنها لام كي أي وقفينا ليؤمنوا وليحكم يجوز أن يحمل على الجحود في الثلاث فيكون كافراً ظالماً فاسقاً لأن الفاسق المطلق والظالم المطلق هو الكافر وقيل ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر بنعمة الله ظالم في حكمه فاسق في فعله
﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب﴾ أي القرآن فحرف التعريف فه للعهد ﴿بالحق﴾ بسبب الحق وإثباته وتبيين الصواب من الخطأ ﴿مُصَدّقاً﴾ حال من الكتاب ﴿لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ لما تقدمه نزولاً وإنما قيل لما قبل الشئ هو بين يديه لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه ﴿مّنَ الكتاب﴾ المراد به جنس الكتب المنزلة لأن القرآن مصدق لجميع كتب الله فكان حرف التعريف فيه للجنس ومعنى تصديقه الكتب موافقتها في التوحيد والعبادة وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يوحى إليه أنه لا إله
المائدة (٤٨ _ ٥٠)
إلا انا فاعبدون ﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ وشاهداً لأنه يشهد له بالصحة والثبات ﴿فاحكم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله﴾ أي بما في القرآن ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق﴾ نهى أن يحكم بما حرفوه وبدلوه اعتماداً على قولهم ضمّن ولا تتبع معنى ولا تنحرف فلذا عدى بعن فكأنه قيل
﴿وَأَنِ احكم﴾ معطوف على بالحق أي وأنزلنا إليك الكتاب بالحق وبأن احكم ﴿بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ واحذرهم أَن يفتنوك﴾ أى يصرفوك وهو مفعلول له أي مخافة أن يفتنوك وإنما حذره وهو رسول مأمون لقطع أطماع القوم ﴿عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ عن الحكم بما أنزل الله اليكم وأرادوا غيره ﴿فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ أي بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك وهذا الإبهام لتعظيم التولي وفيه تعظيم الذنوب فإن الذنوب بعضها مهلك
﴿أفحكم الجاهلية يبغون﴾ يطلبون وبالتالى شامى يخاطب
المائدة (٥٠ _ ٥٣)
بني النضير في تفاضلهم على بني قريظة وقد قال لهم رسول الله ﷺ القتلى سواء فقال بنو النضير نحن لا نرضى بذلك فنزلت وسئل طاوس عن الجرل بفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية وناصب أفحكم الجاهلية يبغون ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾ مبتدأ وخبره وهو استفهام في معنى النفي أي لا أحد أحسن ﴿مِنَ الله حُكْماً﴾ هو تمييز واللام في ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ للبيان كاللام فى هيت لك أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يتبينون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكماً منه وقال أبو علي معنى لقوم عند قوم لأن اللام وعند يتقاربان في المعنى
ونزل نهيا عن موالاة أعداء الدين ﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاءَ﴾ أي لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين ثم علل النهي بقوله ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ وكلهم أعداء المؤمنين وفيه دليل على أن الكفر كله ملة واحدة ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ من جملتهم وحكمه حكمهم وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ لا يرشد الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة
﴿فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ نفاق ﴿يسارعون﴾ حال أو مفعول ثانٍ لاحتمال أن يكون فترى من رؤية العين أو القلب ﴿فِيهِمْ﴾ في
﴿ويقول الذين آمنوا﴾ أي يقول بعضهم لبعض عند ذلك ويقول بصري عطفاً على أن يأتي يقول بغير واو شامي وحجازي على أنه جواب قائل يقول فماذا يقول المؤمنون حينئذ فقيل يقول الذين آمنوا ﴿أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾ أي أقسموا لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم
المائدة (٥٣ _ ٥٥)
ومعاضدوكم على الكفار وجهد أيمانهم مصدر في تقدير الحال أي مجتهدين في توكيد أيمانهم ﴿حَبِطَتْ أعمالهم﴾ ضاعت أعمالهم التي عملوها رياء وسمعة لا إيماناً وعقيدة وهذا من قول الله عزوجل شهادة لهم بحبوط الأعمال لهم وتعجيباً من سوء حالهم ﴿فَأَصْبَحُواْ خاسرين﴾ في الدنيا والعقبى لفوات المعونة ودوام العقوبة
﴿يا أيها الذين آمنوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾ من يرجع منكم عن دين الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر يرتدد مدني وشامي ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ يرضى أعمالهم ويثني عليهم بها ويطيعونه ويؤثرون رضاه وفيه دليل نبوته عليه السلام حيث أخبرهم بما لم يكن فكان وإثبات خلافة الصديق لأنه جاهد المرتدين وفي صحة خلافته وخلافة عمر رضى الله عنهما وسئل النبى ﷺ عنهم فضرب على عاتق
عقب النهي عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تحب موالاتهم بقوله ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا﴾ وإنما يفيد اختصاصهم بالموالاة ولم يجمع الولي وإن كان المذكور جماعة تنبيهاً على أن
المائدة (٥٥ _ ٥٩)
الولاية لله أصل ولغيره تبع ولو قيل إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع ومحل ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة﴾ الرفع على البدل من الذين آمنوا أو على هم الذين أو النصب على المدح ﴿ويؤتون الزكاة﴾ والواو في ﴿وَهُمْ راكعون﴾ للحال أي يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة قيل إنها نزلت فى على رضى الله عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأنه كان مرجاً في خنصره فلم يتكلف لخلعه كثير عمل يفسد صلاته وورد بلفظ الجمع وإن كلان السبب فيه واحداً ترغيباً للناس في مثل فعله لينالوا مثل ثوباه والآية تدل على جواز الصدقة في الصلاة وعلى أن الفعل القليل لا يفسد الصلاة
﴿ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا﴾ يتخذه ولياً أو يكن ولياً ﴿فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون﴾ من إقامة الظاهر مقام الضمير أي فإنهم هم الغالبون أو المراد بحزب الله الرسول والمؤمنون صأى ومن يتولهم فقد تولى حزب الله واعتضد بمن لا يغالب وأصل الحزب القوم يجتمعون الأمر حزبهم أي أصابهم
وروي أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزل ﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً﴾ يعني اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً لا يصح أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء بل يقابل ذلك بالبغضاء والمنابذة {مِنَ الذين أُوتُواْ
﴿وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة اتخذوها﴾ أي الصلاة أو المناداة ﴿هُزُواً وَلَعِباً ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾ لأن لعبهم وهزوهم من أفعال السفهاء والجهلة فكأنهم لا عقل لهم وفيه دليل على ثبوت الأذان بنصب الكتاب لا بالمنام وحده
﴿قل يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ﴾ يعني هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالله وبالكتب
المائدة (٥٩ _ ٦٣)
المنزلة كلها ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون﴾ وهو عطف على المجرور أى وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وما أنزل وبأن أكثركم فاسقون والمعنى أعاديتمونا لأنا اعتقدنا توحيد الله وصدق أنبيائه وفسقكم لمخالفتكم لنا في ذلك ويجوز أن يكون الواو بمعنى مع أى وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله مع أنكم فاسقون
﴿قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عِندَ الله﴾ أي ثواباً وهو نصب على التمييز والمثوبة وإن كانت مختصة بالإحسان ولكنها وضعت موضع العقوبة كقوله ﴿فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وكان اليهود يزعمون أن المسلمين مستوجبون للعقوبة فقيل لهم ﴿مَن لَّعَنَهُ الله﴾ شر عقوبة في الحقيقة من أهل الإسلام في زعمكم وذلك إشارة إلى المتقدم أي
﴿وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ﴾ الباء للحال أي دخلوا كافرين وخرجوا كافرين وتقديره ملتبسين بالكفر وكذلك قد دخلوا وهم قد خرجوا ولذا دخلت قد تقريباً للماضي من الحال وهو متعلق بقالوا آمنا أي قالوا ذلك وهذه حالهم ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ﴾ من النفاق
﴿وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ﴾ من اليهود ﴿يسارعون فِي الإثم﴾ الكذب ﴿والعدوان﴾ الظلم أو الإثم ما يختص بهم والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم والمسارعة فى الشئ الشروع فيه بسرعة ﴿وَأَكْلِهِمُ السحت﴾ الحرام ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ لبئس شيئاً عملوه
﴿لولا﴾ هلا وهو تخصيض
المائدة (٦٣ _ ٦٥)
﴿ينهاهم الربانيون والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ هذا ذم للعلماء والأول للعامة وعن ابن عباس رضى الله عنهما هي أشد آية في القرآن حيث أنزل تارك النهي عن المنكر منزلة مرتكب المنكر فى الوعيد
﴿وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ روي أن اليهود لعنهم الله لما كذبوا محمد عليه السلام كف الله ما بسط عليهم من السعة وكانوا من أكثر الناس مالاً فعند ذلك قال فخاص يد الله مغلولة ورضي بقوله الآخرون فأشركوا فيه وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ولا يقصد المتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط حتى إنه يستعمل في ملك يعطي ويمنع بالإشارة من غير استعمال اليد ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزلاً لقالوا ما أبسط يده بالنوال وقد استعمل حيث لا تصح اليد يقال بسط البأس كفيه في صدري فجعل للبأس الذي هو من المعاني كفان ومن لم ينظر في علم البيان يتحير في تأويل أمثال هذه الآية وقوله غلت أيديهم دعاء عليهم بالبخل ومن ثم كانوا أبخل خلق الله أو تغل في جهنم فهي كأنها غلت وإنما ثنيت اليد في بل يداه مبسوطتان وهي مفردة في يد الله مغلولة ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه فغاية ما يبذله السخي أن يعطيه بيديه ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ تأكيد للوصف بالسخاء ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم﴾ من اليهود ﴿مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً﴾ أي يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود وكفراً بآيات الله وهذا من إضافة الفعل إلى السبب كما
﴿ولو أن أهل الكتاب آمنوا﴾
برسول الله عليه السلام وبما جاء به مع ما عددنا من سيئآتهم ﴿واتقوا﴾ أي وقرنوا إيمانهم بالتقوى ﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم﴾ ولم نؤاخذهم بها ﴿ولأدخلناهم جنات النعيم﴾ مع المسلمين
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل﴾ أي أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله ﷺ ﴿وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبِّهِمْ﴾ من سائر كتب الله لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم وقيل هو القرآن ﴿لأَكَلُواْ مِن فوقهم﴾ يعنى الثمار من فوق رءوسهم ﴿وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ يعني الزروع وهذه عبارة عن التوسعة كقولهم فلان في النعمة من فرقه إلى قدمه ودلت الآية على أن العمل يطاعة الله تعالى سبب لسعة الرزق وهو كقوله تعالى ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مِّنَ السماء والأرض﴾ ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ من حيث لا يحتسب﴾ ﴿فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا﴾ الآيات
﴿يا أيها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من رّبِّكَ﴾ جميع ما أنزل إليك وأي شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه ﴿وإن لّم تفعل﴾ وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك ﴿فما بَلَّغْتَ رسالته﴾ رسالاته مدني وشامي وأبو بكر أي فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالة ولم تؤد منها شيئاً قط وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض فإذا لم تود بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لكونها في حكم شيء واحد لدخولها تحت خطاب واحد والشئ الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ مؤمناً به غير مؤمن قالت الملحدة لعنهم الله تعالى هذ كلام لا يفيد وهو كقولك لغلامك كل هذا الطعام فإن لم تأكله فإنك ما أكلته قلنا هذا أمر بتبليغ الرسالة في المستقبل أي بلغ ما أنزل إليك من ربك في المستقبل فإن لم تفعل أي إن لم تبلغ الرسالة في المستقبل فكأنك لم تبلغ الرسالة أصلاً أو بلغ ما أنزل إليك من ربك الآن ولا تنتظر به كثرة الشوكة والعهدة فإن لم تبلغ كنت كمن لم يبلغ أصلاً أو بلغ ذلك غير خائف أحداً فإن لم تبلغ على هذا الوصف فكأنك لم تبلغ الرسالة أصلاً ثم قال مشجعاً له في التبليغ ﴿واللهُ يعصمك من النّاسِ﴾
يحفظك منهم قتلاً فلم يقدر عليه وإن شج في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته أو نزلت بعدما أصابه ما أصابه
﴿قل يا أهل الكتاب لستم على شيءٍ﴾ على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لبطلانه ﴿حتّى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم مّن رَّبِّكمْ﴾ يعني القرآن ﴿وليزيدنّ كثيراً مّنهم مّآ أنزل إليك من رّبّك طغياناً وكفراً﴾ إضافة زيادة الكفر والطغيان إلى القرآن بطريق التسبيب ﴿فلا تأس على القوم الكافرين﴾ فلا تتأسف عليهم فإن ضرر ذلك يعود إليهم لا إليك
﴿إنَّ الّذين آمَنُوا﴾ بألسنتهم وهم المنافقون ودل عليه قوله لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا امنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ﴿والذين هادوا والصابئون والنّصارى﴾ قال سيبويه وجميع البصريين ارتفع الصابئون بالابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها كأنه قيل إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى ﴿من آمن باللهِ واليومِ الآخر وعمل صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون﴾ والصابئون كذلك أي من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم فقدم وحذف الخبر كقوله... فمن يك أمسى بالمدينة رحله... فإني وقيار بها لغريب...
أي فإني لغريب وقيار كذلك ودل اللام على أنه خبر إن ولا يرتفع بالعطف على محل إن واسمها لأن ذا لا يصح قبل الفراغ من الخبر
﴿لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل﴾ بالتوحيد ﴿وأرسلنا إليهم رسلاً﴾ ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم ﴿كلّما جآءَهُم رسول﴾ جملة شرطية وقعت صفة لرسلا
المائدة (٧٠ _ ٧٣)
والراجع محذوف أي رسول منهم ﴿بما لا تهوى أنفسهم﴾ بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع وجواب الشرط محذوف دل عليه ﴿فريقاً كذَّبُوا وفريقاً يقتلون﴾ كأنه قيل كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه وقوله فريقاً كذبوا جواب مستأنف لقائل كأنه يقول كيف فعلوا برسلهم وقال يقتلون بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل وتنبيهاً على أن القتل من شأنهم وانتصب فريقا وفريقا على أنه مفعول كذبوا ويقتلون وقيل التكذيب مشترك بين اليهود والنصارى والقتل مختص باليهود فهم قتلوا زكريا ويحيى
﴿وحسبوا ألا تكون فتنة﴾ حمزة وعلى وأبو عمرو وعلى أن أن مخففة من الثقيلة أصله أنه لا تكون فخففت إن وحذف ضمير الشأن ونزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم فلذا دخل فعل الحسبان على أن التي هي للتحقيق ﴿فتنةٌ﴾ بلاء وعذاب أي وحسب بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل وسد
﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربّي وربّكم﴾ لم يفرق عيسى عليه السلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب ليكون حجة على النصارى ﴿إنّه من يشرك بالله﴾ في عبادته غير الله ﴿فقد حَرَّمَ اللَُّه عليهِ الجنّةَ﴾ التي هي دار الموحدين أى حرمه دخولها ومنعه منه ﴿ومأواه النَّارُ﴾ أي مرجعه ﴿وما للظّالمين﴾ أي الكافرين ﴿من أنصَارٍ﴾ وهو من كلام الله تعالى أو من كلام عيسى عليه السلام
﴿لقد كفر الذين قالوآ إن الله ثالث ثلاثةٍ﴾ أي ثالث ثلاثة آلهة والإشكال أنه تعالى قال في الآية الأولى لقد كفر الذين قالوا إن الله
المائدة (٧٣ _ ٧٦)
هو المسيح ابن مريم وقال في الثانية لقد كفر الذين قالوآ إن الله ثالث ثلاثة والجواب أن بعض النصارى كانوا يقولون كان المسيح بعينه هو الله لأن الله ربما يتجلى في بعض الأزمان في شخص فتجلى في ذلك الوقت في شخص عيسى ولهذا كان يظهر من شخص عيسى أفعال
﴿أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه﴾ ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه وفيه تعجيب من إصرارهم ﴿والله غفورٌ رّحيمٌ﴾ يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم
﴿مّا المسيح ابن مريم إلاّ رسولٌ﴾ فيه نفي الألوهية عنه ﴿قد خلت من قبله الرسل﴾ صفة الرسول أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله وإبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الموتى لم يكن منه لأنه ليس إلها بل الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده كما أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى وخلقه من غير ذكر كخلق آدم من غير ذكر وأنثى ﴿وأمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ أي وما أمه أيضاً إلا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم ووقع اسم الصديقة عليهم لقوله تعالى ﴿وصدقت بكلمات ربها وكتبه﴾ ثم أبعدهما عما نسب إليهما بقوله ﴿كانا يأكلان الطّعام﴾ لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام
﴿قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعاً﴾ هو عيسى عليه السلام أي شيئاً لا يستطيع أن يضركم
المائدة (٧٦ _ ٨٠)
بمثل ما يضركم به الله من البلاء والمصائب في الأنفس والأموال ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب لأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبتخليقه تعالى فكأنه لا يملك منه شيئاً وهذا دليل قاطع على أن أمره منافٍ للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته ﴿والله هو السّميعُ العليمُ﴾ متعلق بأتعبدون أي أتشركون بالله ولا تخشونه وهو الذي يسمع ما تقولونه ويعلم ما تعتقدونه
﴿قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم﴾ الغلو مجاوزة الحد فغلو النصارى رفعه فوق قدره باستحقاق الألوهية وغلو اليهود وضعه عن استحقاق النبوة ﴿غير الحقِّ﴾ صفة لمصدر محذوف أي غلوا غير الحق يعني غلواً باطلاً ﴿ولا تتّبعوآ أهوآءَ قومٍ قد ضلُّوا من قبلُ﴾ أي أسلافكم
﴿لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم﴾ قيل إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة ولما كفر أصحاب عيسى بعد المائدة قال عيسى اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ﴿ذلك بما عصوا وّكانوا يعتدون﴾ ذلك اللعن بعصيانهم واعتدائهم
ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله ﴿كانوا لا يتناهون﴾ لا ينهي بعضهم بعضاً ﴿عن مّنكرٍ فعلوه﴾ عن قبيح فعلوه ومعنى وصف المنكر يفعلوه ولا يكون النهي بعد الفعل أنهم لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه أو عن مثل منكر فعلوه أو عن منكر أرادوا فعله أو المراد لا ينتهون عن منكر فعلوه بل يصرون عليه يقال تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه ثم عجب من سوء فعلهم مؤكداً لذلك بالقسم بقوله ﴿لبئس ما كانوا يفعلون﴾ وفيه دليل على أن ترك النهي عن المنكر من العظائم فيا حسرة على المسلمين في اعراضهم عنه
﴿ترى كثيراً مِّنهم يتوّلّون الّذين كفروا﴾ هم منافقو أهل الكتاب كانوا يوالون المشركين ويصافونهم {لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن
المائدة (٨٠ _ ٨٣ عليهم أي موجب سخط الله ﴿وفي العذاب هم خالدون﴾ أي في جهنم
﴿ولو كانوا يؤمنون باللهِ﴾ إيماناً خالصاً بلا نفاق ﴿النبي﴾ أى محمد ﷺ ﴿ومآ أنزل إليه﴾ يعني القرآن ﴿ما اتّخذوهم أوليآء﴾ ما اتخذوا المشركين أولياء يعني أن موالاة المشركين تدل على نفاقهم ﴿ولكن كثيراً مّنهم فاسقون﴾ مستمرون في كفرهم ونفاقهم أو معناه ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله وبموسى وما أنزل إليه يعني التوراة ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون ولكن كثيراً منهم فاسقون خارجون عن دينهم فلا دين لهم أصلاً
﴿لَتَجِدَنَّ أشدّ النّاس عداوة لّلّذين آمنوا اليهودَ﴾ هو مفعول ثان لتجدن وعداوة تمييز ﴿والّذين أشركوا﴾ عطف عليهم ﴿ولتجدنّ أقربهم مّودّةً لّلّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى﴾ اللام تتعلق بعداوة ومودة وصف اليهود بشدة الشكيمة والنصارى بلين العريكة وجل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين ونبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على المشركين ﴿ذلك بأنّ منهم قِسّيسينَ ورهباناً﴾ أي علماء وعباداً ﴿وأنّهم لا يستكبرونَ﴾ علل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين بأن منهم قسيسين ورهباناً وأن فيهم تواضعاً واستكانة واليهود على خلاف ذلك وفيه دليل على أن العلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير وإن كان علم القسيسين وكذا علم الارخرة وإن كان في راهب والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني
﴿وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ﴾ وصفهم برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن كما روي عن النجاشي أنه قال لجعفر بن أبي طالب حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون وهم يقرءونه عليهم هل في كتابكم ذكر مريم قال جعفر فيه سورة تنسب إلى مريم فقرأها إلى قوله ذلك عيسى ابن مريم وقرأ سورة طه إلى قوله هل أتاك حديث موسى فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
المائدة (٨٣ _ ٨٦)
وهم سبعون رجلاً حين قرأ عليهم سورة يس فبكوا تفيض من الدمع تمتلئ من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أى تسيل من أجل البكاء ومن فى مما عرفوا لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق وكان من أجله ومن في من الحق لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا أو للتبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنَة ﴿يقولون﴾ حال من ضمير الفاعل فى عرفوا ﴿ربنا آمنا﴾ بمحمد ﷺ والمراد إنشاء الإيمان والدخول فيه ﴿فاكتبنا مع الشّاهدين﴾ مع أمة محمد عليه السلام الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة لتكونوا شهداء على الناس وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك
﴿وما لنا لا نؤمن بالله﴾ إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين وقيل لما رجعوا إلى قومهم لا موهم فاجابوهم بذلك وما لنا مبتدأ وخبر ولا نؤمن حال أي غير مؤمنين كقولك مالك قائماً ﴿وما جآءنا﴾ وبما جاءنا ﴿من الحقِّ﴾
﴿فأثابهم الله بما قالوا﴾ أي بقولهم ربنا آمنا وتصديقهم لذلك ﴿جنّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وذلك جزآء المحسنين﴾ وفيه دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان كما هو مذهب الفقهاء وتعلقت الكرامية في أن الإيمان مجرد القول بقوله بما قالوا لكن الثناء بفيض الدمع فى السباق والإحسان في السياق يدفع ذلك وأنى يكون مجرد القول إيماناً وقد قال الله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين نفى الإيمان عنهم مع قولهم آمنا بالله لعدم التصديق بالقلب وقال أهل المعرفة الموجود منهم ثلاثة أشياء البكاء على الجفاء والدعاء على العطاء والرضا بالقضاء فمن ادعى المعرفة ولم يكن فيه هذه الثلاثة فليس بصادق فى دعواه
﴿والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم﴾ هذا أثر الرد في حق الأعداء والأول أثر القبول للأولياء
ونزل فى جماعة من الصحابة رضى الله عنهم حلفوا أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويقوموا الليل ويصوموا
المائدة (٨٧ _ ٨٩)
النهار ويسيحوا في الأرض ويجبّوا مذاكيرهم ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ﴿يا أيها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّباتِ مآ أحلّ الله لكم﴾ ما طاب ولد من الحلال ومعنى لا تحرموا لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً
﴿وكلوا ممّا رزقكم الله حلالاً طيّباً﴾ حلالاً حال مما رزقكم الله ﴿واتّقوا الله﴾ توكيد للتوصية بما أمر به وزاده توكيداً بقوله ﴿الّذي أنتم به مؤمنون﴾ لأن الإيمان به يوجب التقوى فيما أمر به ونهى
﴿لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم﴾ اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم وهو أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن وكانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظن أنه قربة فلما نزلت الآية قالوا فكيف أيماننا فنزلت وعند الشافعي رحمه الله ما يجري على اللسان بلا قصد ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان﴾ أي بتعقيدكم الأيمان
المائدة (٨٩ _ ٩١)
أن يعطيهم بطريق التمليك وهو لكل أحد نصف صاع من بر أو صاع من شعير أو صاع من تمر وعند الشافعي رحمه الله مد لكل مسكين ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أهليكم﴾ أى غذاء وعشاء من بر إذ الأوسع ثلاث مرات مع الإدام والأدنى مرة من تمر أو شعير ﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ عطف على إطعام أو على محل من أوسط ووجهه أن من أوسط بدل من إطعام والبدل هو المقصود في الكلام وهو ثوب يغطي العورة وعن ابن عمر رضى الله عنه إزار وقميص ورداء ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ مؤمنة أو كافرة لإطلاق النص وشرط الشافعى رحمة الله الإيمان حملاً للمطلق على المقيد في كفارة القتل ومعنى أو التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ إحداها ﴿فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ﴾ متتابعة لقراءة أبيّ وابن مسعود كذلك ﴿ذلك﴾ المذكور ﴿كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ وحنثتم فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأن الكفارة لا تجب بنفس الحلف ولذا لم يجز التكفير قبل الحنث ﴿واحفظوا أيمانكم﴾ فبروا فيها ولا تحنثوا إذا لم يكن الحنث خيراً أو ولا تحلفوا أصلاً
﴿يا أيها الذين آمنوا إِنَّمَا الخمر والميسر﴾ أي القمار ﴿والأنصاب﴾ الأصنام لأنها تنصب فتعبد ﴿والأزلام﴾ وهي القداح التي مرت ﴿رِجْسٌ﴾ نجس أو خبيث مستقذر ﴿مِّنْ عَمَلِ الشيطان﴾ لأنه يحمل عليه فكأنه عمله والضمي في ﴿فاجتنبوه﴾ يرجع إلى الرجس أو إلى عمل الشيطان أو إلى المذكور أو إلى المضاف المحذوف كأنه قيل إنما تعاطى الخمر والميسر ولذا قال رجس ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أكد تحريم الخمر والميسر من وجوه حيث صدر الجملة بإنما وقرنهما بعبادة الأصنام ومنه الحديث شارب الخمر كعابد الوثن وجعلهما رجا من عمل الشيطان ولا يأنى منه إلا الشر البحت وأمر بالاجتناب وجعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خساراً
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة﴾ ذكر ما يتولد منهما من الوبال
المائدة (٩١ _ ٩٤)
وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة وخص الصلاة من بين الذكر لزيادة درجتها كأنه قال وعن الصلاة خصوصاً وإنما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أو لا ثم أفردهما آخراً لأن الخطاب مع المؤمنين وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر وإظهار أن ذلك جميعاً من أعمال أهل الشرك فكأنه
﴿وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا﴾ وكونوا حذرين خاشعين لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ عن ذلك ﴿فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين﴾ أي فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه
ونزل فيمن تعاطى شيئاً من الخمر والميسر قبل التحريم ﴿ليس على الذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ﴾ أي شربوا من الخمر وأكلوا من مال القمار قبل تحريمهما ﴿إذا ما اتقوا﴾ الشرك ﴿وآمنوا﴾ بالله ﴿وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ بعد الإيمان ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ الخمر والميسر بعد التحريم ﴿وآمنوا﴾ بتحريمهما ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ سائر المحرمات أو الأول عن الشرك والثاني عن المحرمات والثالث عن الشبهات ﴿وَأَحْسَنُواْ﴾ إلى الناس ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾
ولما ابتلاهم الله بالصيد عام الحديبية وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم فيستمكنون من صيده أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم نزل ﴿يا أيها الذين آمنوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم﴾ ومعنى يبلوا بختبر وهو من الله لإظهار ما علم من العبد على ما علم لا لعلم مالم يعلم ومن للتبعيض إذ لا يحرم كل صيد أو لبيان الجنس ﴿لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب﴾ ليعلم الله خوف الخائف منه بالامتناع عن
المائدة (٩٥)
أنه ليس من الفتن العظام وتناله صفة لشئ
﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تَقْتُلُواْ الصيد﴾ أي المصيد إذ القتل إنما يكون فيه ﴿وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾ أي محرمون جمع حرام كردح في جمع رداح في محل النصب على الحال من ضمير الفاعل في تقتلوا ﴿وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً﴾ حال من ضمير الفاعل أى ذاكرا لا حرامه أو عالماً أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه فإن قتله ناسياً لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فهو مخطئ وإنما شرط التعمد في الآية مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ لأن مورده الآية فيمن تعمد فقد رُوي أنه عَنَّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فقلنه فقيل له إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت ولأن الاصل فعل المتعمدة والخطأ ملحق به للتغليظ وعن الزهري نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ ﴿فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ﴾ كوفي أي فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد وهو قيمة الصيد يقوم حيث صيد فإن بلغت فيمته ثمن هدي خيّر بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد وبين أن يشترى يقيمته طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً وعند محمد والشافعي رحمهما الله تعالى مثله نظيره من النعم فإن لم يوجد له نظير من النعم فكما مر فجزاء مثل على الإضافة غيرهم وأصله فجزاء مثل ما قتل أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ثم أضيف كما تقول عجبت من ضرب زيداً ثم من ضرب زيد مِنَ النعم حال من
الثلاثة يختار فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير فإذا كان شيئاً لا نظير له قُوِّم حينئذ ثم تخير بين الطعام والصيام ففيه بنو عما في الآية ألا ترى إلى قوله أو كفارة طَعَامُ مساكين أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً كيف خير بين الأشياء الثلاثة ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم ﴿هَدْياً﴾ حال من الهاء في به أي يحكم به في حال الهدى ﴿بالغ الكعبة أو﴾
صفة لهديا لأن إضافته غير حقيقية ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالمحرم فأما التصدق به فحيث شئت وعند الشافعي رحمه الله فى الرحم ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ﴾ معطوف على جزاء ﴿طَعَامٌ﴾ بدل من كفارة أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام أو كفارة طعام على الإضافة مدني وشامي وهذه الإضافة لتبيين المضاف كأنه قيل أو كفارة من طعام ﴿مساكين﴾ كما تقول خاتم فضة أي خاتم من فضة ﴿أو عدل﴾ وقرئ بكسر العين قال القراء العدل ما عدل الشئ من غير جنسه كالصوم والإطعام والعدل مثله من جنسه ومنه عدلا الحمل يقال عندي غلام عدل غلامك بالكسر إذا كان من جنسه قان أريد أن قيمته كقيمته ولم يكن من جنسه قيل هو عَدل غلامك
﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر﴾ مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل ﴿وَطَعَامُهُ﴾ وما يطعم من صيده والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده ﴿متاعا لَّكُمْ﴾ مفعول له أي أحل لكم تمتيعاً لكم ﴿وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ وللمسافرين والمعنى أحل لكم طعامه تمتيعاً لتُنّائكم يأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزودونه قديداً كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر﴾ ما صيد فيه وهو ما يفرخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كالبط فإنه يرى لأنه يتولد في البر والبحر له مرعى كما للناس متجر ﴿مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾ محرمين ﴿واتقوا الله﴾ في الاصطياد في الحرم أو في الإحرام ﴿الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ تبعثون فيجزيكم على أعمالكم
﴿جَعَلَ الله الكعبة﴾ أي صير ﴿البيت الحرام﴾ بدل أو
المائدة (٩٧ _ ١٠١)
عطف بيان ﴿قِيَاماً﴾ مفعول ثانٍ أو جعل بمعنى خلق وقياما حال ﴿لِلنَّاسِ﴾ أي انتعاشاً لهم في أمر دينهم ونهوضا إلى أعراضهم في معاشهم ومعادهم لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وأنواع منافعهم قبل لو تركوه عاماً لم ينظروا ولم يؤخروا ﴿والشهر الحرام﴾ والشهر الذي يؤدي فيه الحج وهو ذو الحجة لأن في اختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأناً قد علمه الله أو أريد به جنس الأشهر الحرم وهو رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ﴿والهدى﴾ ما يهدى إلى مكة ﴿والقلائد﴾ والمقلد منه خصوصاً وهو البدن فالثواب فيه أكثر وبهاء الحج معه أظهر ﴿ذلك﴾ إشارة إلى جعل الكعبة قياماً أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره ﴿لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا في الأرض وأن الله بكل شيء﴾ أي لتعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السموات وما في الأرض وكيف لا يعلم وهو بكل شيء عليم
﴿اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ لمن استخف بالحرم والإحرام ﴿وَأَنَّ الله غَفُورٌ﴾ لآثام من عظم المشاعر العظام ﴿رحيم﴾ بالجانى الملتجئ إلى البلد الحرام
﴿وما عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ﴾ تشديد في إيجاب القيام بما أمر به وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط ﴿والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ فلا يخفى عليه نفاقكم ووفاقكم
﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب﴾ لما أخبر أنه يعلم ما يبدون
كانوا يسألون النبى ﷺ عن أشياء امتحانا فنزل ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عَنْ أَشْيَاءَ﴾ قال الخليل وسيبويه وجمهور البصريين أصله شيئاء بهمزتين بينهما ألف وهي فعلاء من لفظ شيء وهمزتها الثانية للتأنيث ولذا لم تنصرف كحمراء وهي مفردة لفظاً جمع معنى ولما استثقلت الهمزتان المجتمعتان قدمت الأولى التي هي لام الكلمة فجعلت قبل الشين فصار وزنها لفعاء والجملة الشرطية والمعطوفة عليها أي قوله ﴿إِن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم﴾
صفة لأشياء أي وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة فى زمان الوحى وهو مادام الرسول بين أظهركم تبدلكم تلك التكاليف التي تسوؤكم أي تغمكم وتشق عليكم تؤمرون بتحملها فتعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها ﴿عَفَا الله عَنْهَا﴾ عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها ﴿والله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ لا يعاقبكم إلا بعد الإنذار
والضمير في ﴿قَدْ سَأَلَهَا﴾ لا يرجع إلى أشياء حتى يعدى بعن بل يرجع إلى المسألة التي دلت عليها لا تسألوا أي قد سأل هذه المسألة ﴿قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ﴾ من الأولين ﴿ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا﴾ صاروا بسببها ﴿كافرين﴾ كما عرف في بنى إسرائيل
﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ﴾ كان أهل الجاهلية إذا
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول﴾ أي هلموا إلى حكم الله ورسوله بأن هذه الأشياء غير محرمة ﴿قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا﴾ أي كافينا ذلك حسبنا مبتدأ والخبر ما وجدنا وما بمعنى الذى والواو فى ﴿أولو كان آباؤهم﴾ للحال قد دخلت عليها همزة الإنكار وتقديره أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم ﴿لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ أي الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدى وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة
﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم﴾ انتصب أنفسكم بعليكم وهو من أسماء الأفعال أي الزموا إصلاح أنفسكم والكاف والميم في عليكم في موضع
المائدة (١٠٥ _ ١٠٦)
جر لأن اسم الفاعل هو الجار والمجرور لا على وحدها ﴿لاَ يضركم﴾ رفع على الاستئناف أو حزم على جواب الأمر وإنما ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد ﴿مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم﴾ كان المؤمنون تذهب أنفسهم
روي أنه خرج بديل مولى عمرو بن العاص وكان من المهاجرين مع عدى وتمام وكانا نصرانيين إلى الشام فمرض بديل وكتب كتاباً فيه ما معه وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهل هـ ومات ففتشا متاعه فأخذا إناء من فضة فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى رسول الله ﷺ فنزل ﴿يا أيها الذين آمنوا شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان﴾ ارتفع اثنان لأنه خبر المبتدأ وهو شهادة بتقدير شهادة بينكم شهادة اثنين أو لأنه فاعل شهادة بينكم أي فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان واتسع في بين فأضيف إليه المصدر وإذا حضر ظرف للشهادة حين الوصية بدل منه وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية لأن حضور الموت من الأمور الكائنة وحين الوصية بذل منه فيدل على وجود الوصية ولو وجدت بدون الاختيار لسقط الابتلاء فنقل إلى الوجوب وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل ﴿ذوا عدل﴾ صفة لاثنين ﴿مِّنكُمْ﴾ من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت ﴿أو آخران﴾ عطف على اثنان ﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ من الأجانب ﴿إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض﴾ سافرتم فيها وأنتم فاعل فعل يفسره الظاهر ﴿فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت﴾ أو منكم من المسلمين ومن غيركم من أهل الذمة وقيل منسوخ إذ لا يجوز شهادة الذمي على المسلم وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾ تقفونهما
المائدة (١٠٦ _ ١٠٨)
أمانتهما وهو اعتراض بين يقسمان وجوابه وهو ﴿لاَ نَشْتَرِي﴾ وجواب الشرط محذوف أغنى عنه معنى الكلام والتقدير إن ارتبتم في شأنهما فحلفوهما ﴿بِهِ﴾ بالله أو بالقسم ﴿ثَمَناً﴾ عوضاً من الدنيا ﴿وَلَوْ كَانَ﴾ أي المقسم له ﴿ذَا قربى﴾ أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو كان من نقسم له قريباً منا ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله﴾ أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها ﴿إنّآ إذاً﴾ إن كتمنا ﴿لَّمِنَ الآثمين﴾ وقيل إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين وإن أريد الوصيان فلم ينسخ تحليفهما
﴿فَإِنْ عُثِرَ﴾ فإن اطلع ﴿على أَنَّهُمَا استحقا إثما﴾ فعلا ما أوجب إثماً واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين ﴿فآخران﴾ فشاهدان آخران ﴿يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ﴾ أي من الذين استحق عليهم الإثم ومعناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته وفي قصة بديل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين حلف رجلا من ورثته إنه إناء صاحبهما وإن شهادتهما احق من شهادتهما ﴿الأوليان﴾ الأحقان بالشهادة لقرابتهما أو
﴿ذلك﴾ الذي مر ذكره من بيان الحكم ﴿أدنى﴾ أقرب ﴿أَن يَأْتُواْ﴾ أي الشهداء على نحو تلك الحادثة ﴿بالشهادة على وَجْهِهَا﴾ كما حملوها بلا خيانة فيها ﴿أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم﴾ أي تكرر أيمان شهود آخرين بعد أيمانهم فيقتضحوا بظهور كذبهم ﴿واتقوا الله﴾ في الخيانة واليمين الكاذبة ﴿واسمعوا﴾ سمع قبول وإجابة ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ الخارجين عن الطاعة فإن قلت ما معنى أو هنا قلت معناه ذلك أقرب من أن يؤدّوا الشهادة بالحق والصدق إما لله أو لخوف العار والافتضاح برد الأيمان وقد احتج به من يرى رد
المائدة (١٠٩ _ ١١١)
اليمين على المدعي والجواب أن الورثة قد ادّعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما فأنكرت الورثة فكانت اليمين على الورثة لإنكارهما الشراء
﴿يوم﴾ منصوب باذكروا أو احذروا ﴿يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ ما الذي أجابتكم به أممكم حين دعوتموهم إلى الإيمان وهذا السؤال توبيخ لمن انكرهم وماذا منصوب بأجبتم نصب المصدر على
﴿إِذْ قَالَ الله﴾ بدل من يوم يجمع ﴿يا عيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى والدتك﴾ حيث طهرتها واصطفيتها على نساء العالمين والعامل في ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ﴾ أي قويتك نعمتي ﴿بِرُوحِ القدس﴾ بجبريل عليه السلام أيد به لتثبت الحجة عليهم أو بالكلام الذي يحيا به الدين وأضافه إلى القدس لأنه سبب الطهر من أوصام الآثام دليله ﴿تُكَلّمُ الناس فِى المهد﴾ حال أي تكلمهم طفلاً إعجازاً ﴿وَكَهْلاً﴾ تبليغاً ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ﴾ معطوف على إذ أيدتك ونحوه وإذ تخلق وإذ تخرج وإذ كففت وإذ أوحيت ﴿الكتاب﴾ الخط ﴿والحكمة﴾ الكلام المحكم الصواب ﴿والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ﴾ تقدر ﴿مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير﴾ هيئة مثل هيئة الطير ﴿بِإِذْنِى﴾ بتسهيلي ﴿فَتَنفُخُ فِيهَا﴾ الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه وكذا الضمير في ﴿فَتَكُونُ طَيْراً بإذني﴾ وعطف ﴿وتبرئ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي﴾ على تخلق ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى﴾ من القبور أحياء ﴿بِإِذْنِي﴾ قيل أخرج سام ابن نوح ورجلين وامرأة وجارية ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إسرائيل عَنكَ﴾ أي اليهود حين هموا بقتله ﴿إِذْ جئتهم﴾ ظرف لكففت ﴿بالبينات فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ساحر حمزة وعلي
﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ﴾ ألهمت ﴿إِلَى الحواريين﴾ الخواص أو الأصفياء
المائدة (١١١ _ ١١٥)
﴿أن آمنوا﴾ أي آمنوا ﴿بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون﴾ أي اشهد بأننا مخلصون من أسلم وجهه
﴿إذ قال الحواريون﴾ أى اذكروا إذ ﴿يا عيسى ابن مَرْيَمَ﴾ عيسى نصب على اتباع حركته حركة الابن نحو يا زيد بن عمرو ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ هل يفعل أو هل يعطيك ربك إن سألته فاستطاع وأطاع بمعنى كاستجاب وأجاب هل تستطيع ربك على أي هل تستطيع سؤال ربك فحذف المضاف والمعنى هل تسأله من غير صارف يصرفك عن سؤاله ﴿أَن ينزل علينا﴾ ينزل مكي وبصري ﴿مَآئِدَةً مِّنَ السمآء﴾ هي الخوان إذا كان عليه الطعام من مادَه إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليها ﴿قَالَ اتقوا الله﴾ في اقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ إذ الإيمان يوجب التقوى
﴿قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا﴾ تبركاً ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ ونزداد يقيناً كقول إبراهيم عليه السلام ولكن ليطمئن قلبى ﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ أي نعلم صدقك عياناً كما علمناه استدلالاً ﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين﴾ بما عاينا لمن بعدنا ولما كان السؤال لزيادة العلم لا للتعنت
﴿قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم﴾
﴿قَالَ الله إِنّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ بالتشديد مدني وشامي وعاصم وعد الإنزال وشرط عليهم شرطاً بقوله ﴿فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ﴾ بعد إنزالها منكم ﴿فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَاباً﴾ أي تعذيباً كالسلام بمعنى التسليم والضمير في ﴿لآَّ أُعَذِّبُهُ﴾ للمصدر ولو أريد بالعذاب
المائدة (١١٥ _ ١١٨)
ما يعذب به لم يكن بد من الباء ﴿أَحَداً مِّنَ العالمين﴾ عن الحسن أن المائدة لم تنزل ولو نزلت لكانت عيداً إلى يوم القيامة لقوله وآخرنا والصحيح أنها نزلت فعن وهب نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة عليها كل طعام إلا اللحم وقيل كانوا يجدون عليها ما شاءُوا وقيل كانت تنزل حيث كانوا بكرة وعشياً
﴿وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله﴾ الجمهور على أن هذا السؤال يكون في يوم القيامة دليله سياق الآية وسباقها وقيل خاطبه به حين رفعه إلى السماء دليله لفظ إذ ﴿قَالَ سبحانك﴾ من أن يكون لك شريك ﴿مَا يَكُونُ لِي﴾ ما ينبغي لي {أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ
﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ أى ماأمرتهم إلا بما أمرتنى به ثم فسرما أمر به فقال ﴿أَنِ اعبدوا الله رَبّي وربكم﴾ فإن مفسرة بمعنى أي ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ رقيباً ﴿مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ مدة كوني فيهم ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ الحفيظ وَأَنتَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ من قولي وفعلي وقولهم وفعلهم
﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ قال الزجاج علم عيسى عليه السلام أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر فقال في جملتهم إن تعذبهم أي إن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك الذين علمتهم جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك وأنت العادل في ذلك فإنهم قد كفروا بعد وجوب الحجة عليهم وإن تغفر لهم أي لمن أقلع منهم وآمن فذلك تفضل منك وأنت عزيز لا يمتنع عليك ما تريد حكيم في ذلك أو
المائدة (١١٩ _ ١٢٠)
عزير قوي قادر على الثواب حكيم لا يعاقب إلا عن حكمة وصواب
﴿قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾ برفع اليوم والإضافة على أنه
﴿للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ﴾ عظم نفسه عما قالت النصارى إن معه إلهاً آخر ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من المنع والإعطاء والإيجاد والإفناء نسأله أن يوفقنا لمرضاته ويجعلنا من الفائزين بجناته صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الأنعام (١ _ ٢)