تفسير سورة الممتحنة

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات: (١- ٣) [سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ».
النداء للمؤمنين جميعا، الذين كانوا فى مواجهة المشركين من قريش وأحلافهم، حيث كانوا يتربصون بالنبي وبالمؤمنين، ويكيدون لهم، ويستعدون ضعاف الإيمان عليهم، ويجذبونهم إليهم بالوعد وبالوعيد..
890
وقد كشف الله سبحانه للمؤمنين عن وجه هؤلاء المشركين، وأنهم أعداء الله وأعداء الذين آمنوا.. فمن كان مؤمنا بالله حقّا كان على ولاء لله وللمؤمنين به، الأمر الذي لا يتفق معه الولاء والمودة لأعداء الله وأعداء المؤمنين..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» فإن من يتصف بالإيمان، لا تبقى له هذه الصفة، إذا هو كان على ولاء ومودة، لمن كان عدوّا لله وعدوا للمؤمنين، أولياء الله..
وقوله تعالى: «تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» هو جملة حال من فاعل الفعل:
«لا تَتَّخِذُوا» أو هو صفة لأولياء..
والإلقاء بالمودة، بذلها فى صورة رسائل، أو هدايا، أو عواطف من الحب والود، مع بعد الشقة النفيسة، التي ينبغى أن تكون بين المؤمنين بالله والكافرين به، أو بعد الشقة المكانية حيث المؤمنون فى المدينة، والمشركون فى مكة.. ولهذا عدّى الفعل بالياء، لتصمنه معنى تبعثون إليهم بالمودة، مع إفادته معنى السر والخفاء حيث تلقى إليهم المودة فى كلا الحالين فيتلقفونها من غير أن يراها أحد.
وقوله تعالى: «وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» أي أنكم تلقون إلى عدوّ الله وعدوكم بالمودة، فى حال قد كفر فيها هذا العدو بما جاءكم من الحق، الذي نزل به القرآن الكريم، وتلاه عليكم رسول الله.. بل ليس هذا فحسب، إنهم «يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ» أي مع كفرهم بالحق الذي آمنتم به- وهذا وحده كاف لقطع كل ولاء بينكم وبينهم، فإنهم- مع هذا- يخرجون الرسول، ويخرجونكم من دياركم وأهليكم لا لجناية جناها الرسول أو جنيتموها أنتم عليهم، إلا أنكم آمنتم بالله ربكم.. فتلك هى جنايتكم عند القوم.. إنهم يعادونكم لإيمانكم بالله.. فقوله تعالى:
«وَإِيَّاكُمْ» معطوف على «الرسول» أي يخرجون الرسول ويخرجونكم.
891
قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي» - هو تعقيب على قوله تعالى: «أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ» - أي إن كان إيمانكم هذا صادقا، وكانت هجرتكم خالصة لوجه الله، تريدون بها جهادا فى سبيله وابتغاء مرضاته.. وفى هذا إلفات للمسلمين إلى هذا الإيمان الذي فى قلوبهم، وإلى تمحيصه من شوائب النفاق، حتى يكون إيمانا حقّا.. فهذا الإيمان الحق من شأنه ألا يقيم بينكم وبين أعداء الله وأعداء المؤمنين مودة.. أما إذا كان إيمانكم على غير تلك الصفة، فهو ليس الإيمان الذي خرج به النبي والمؤمنون من ديارهم، وليس هو الإيمان الذي يجعل من المشركين عدوا للمؤمنين..
فهل أنتم مؤمنون حقا؟ فإن كنتم مؤمنين حقا، فلا تتخذوا عدوا الله وعدو المؤمنين أولياء.
وفى التعبير عن إخراج المشركين للنبى والمؤمنين، بالفعل المضارع الذي يفيد تجدّد الزمن حالا بعد حال، للإشارة إلى أن المشركين ما زالوا على موقفهم من النبي والمؤمنين، وأنه لو عاد النبي والمؤمنون إلى ديارهم بمكة لأخرجهم المشركون منها، بما يلاحقونهم به من أذى وضر.. كما أن المشركين لم يزل هذا موقفهم من المؤمنين الذين كانوا فى مكة، ولم تتح لهم فرصة الهجرة لسبب أو لآخر..
ويحوز أن يكون قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي».
يجوز أن يكون منصلا بقوله تعالى: «لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ».. ويكون ما بينهما اعتراض يراد به الكشف عن وجه أعداء الله وأعداء المؤمنين، وما يرمون به النبي والمؤمنين من أذّى متلاحق..
وقوله تعالى: «تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ»
892
هو استفهام إنكارى، أي أبعد هذا الذي علمتم أو تعلمون من أمر القوم- أبعد هذا تسرون إليهم بالمودة؟ أي تبادلونهم المودة فى ستر وخفاء «وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ».. فإنه لا يخفى على الله خافية فى الأرض ولا فى السماء:
«سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» (١٠: الرعد) وإن إسراركم هذه المودة لدليل على أنها أمر تنكرونه أنتم، وينكره المؤمنون عليكم، وإنه لو كان غير منكر لأعلنتموه.. فإخفاء هذه المودة التي بين بعض المؤمنين وبين المشركين شاهد على أنها مما يعاب على المؤمن، ومما ينبغى ستروه وإخفاؤه، وحسب الأمر شناعة ألا يكون له وجه يظهر به فى الناس، فإن ظهر كان فضيحة لصاحبه!! وقوله تعالى: «وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» الضمير فى «يفعله» يعود إلى هذا الإسرار المودة.. أي ومن يفعل هذا الإسرار بالمودة، فقد ضل سواء السبيل، لأن الإسرار بها- كما قلنا- دليل على نكرها وبشاعتها.. وإذا امتنع الإسرار بها، فقد أصبح من المستبعد إعلانها إلّا إذا كان ذلك عن كفر صريح، وردّة عن الإيمان.. فهذا شأن آخر غير شأن المؤمنين.
قوله تعالى:
«إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» «إِنْ يَثْقَفُوكُمْ» : أي يظفروا بكم، وينتصروا عليكم، ومنه قوله تعالى: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (٥٧ الأنفال)
893
والثّقاف: ما يثقّف به الرمح، أي يعدّل ويقوّم، والمراد بثقف القوم هنا التمكن منهم، كما يتمكن الثقاف من الرمح. والخطاب هنا للمؤمنين الذين بينهم وبين المشركين مودة.. أي أن هؤلاء المشركين الذين توادّونهم أيها الموادون لهم من المؤمنين- إن يظفروا بكم فى حرب بين المؤمنين وبينهم، لن يبقوا على هذا الود الذي تحسبونه قائما بينكم وبينهم، بل إنهم سيكونون لكم فى تلك الحال أعداء، يبسطون إليكم أيديهم بالأذى، وألسنتهم بالسوء، بل إنهم ليفعلون بكم أكثر من هذا، وهو حملكم على أن تعودوا إليهم كفارا.. فهذا هو الذي يقطع عداوتهم لكم..
وفى قوله تعالى: «يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً» - إشارة إلى أن هذه المودة التي بين بعض المؤمنين والمشركين، هى التي تخفى هذه العداة التي فى صدور المشركين لهم- فإذا أمكنت الفرصة المشركين منهم، ظهرت هذه العداوة الكامنة..
وفى قوله تعالى: «وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» - بعطف الفعل الماضي على فعل المستقبل «يبسطوا» - فى هذا إشارة إلى أن هذه الرغبة، أي رغبة المشركين فى أن يكفر المؤمنون- هى رغبة قديمة، من يوم أن آمن هؤلاء المؤمنون.. إنها رغبة لم تنقطع بالهجرة، ولا بالمودّة التي تجرى بينهم وبين هؤلاء المؤمنين، بل هى قائمة فى صدور المشركين، لن تموت أبدا إلا بعودة المؤمنين كفارا..
قوله تعالى:
«لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»
894
أي أنه- أيها المؤمنون- لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم الذين أمسكوا بشركهم، فقد أصبحتم فى حزب الله، وظلّوا هم فى حزب الشيطان، ولن يجتمع حزب الله وحزب الشيطان، ولن يتبادلوا المنافع بينهم.. فليس فى جانب المشركين إلا السوء والضلال.. وكما فرق الإيمان بينكم وبين أرحامكم وأولادكم المشركين فى الدنيا، كذلك يفرق بينكم وبينهم يوم القيامة.. فأنتم فى رحمة الله ورضوانه، وهم فى سخط الله وعذابه..
قيل إن هذه الآيات نزلت فى حاطب بن أبى بلتعة- وهو صحابىّ ممن شهد بدرا- وكان ذلك بعد صلح الحديبية، وبعد أن نقضت قريش شروط الصلح التي صالحها عليها النبي يومئذ.. وكان النبىّ يعدّ العدّة لفتح مكة، ويتجهز لهذا فى سر وخفاء، حتى لا تعلم قريش، وتستعد للحرب..
وكان حاطب بن أبى بلتعة حين هاجر من مكة قد خلّف بعض أهله بها، ولم يكن له فى مكة عصبية تحمى أهله المخلفين هناك، من أذى قريش، فأراد أن يصطنع عند قريش يدا ينتفع بها أهله عندهم، فبعث إليهم برسالة مع امرأة من مكة كانت قد وفدت إلى المدينة، فلما قفلت راجعة إلى مكة، أعطاها «حاطب» رسالة إلى قريش، يعلمهم فيها أن النبي يعد العدة لحربهم، وأوصى المرأة أن تخفى الرسالة، وأن تكتم أمرها، لقاء مال أعطاها إياه.. فلما أخذت المرأة طريقها إلى مكة، جاء خبر السماء إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بما كان من هذا الحدث، فبعث النبي بجماعة من أصحابه فيهم على بن أبى طالب رضى الله عنه، يتبعون المرأة، ويأخذون الرسالة التي معها.. فلما جىء بالرسالة إلى النبي، دعا إليه حاطبا، وسأله عن أمر هذه الرسالة، فاعترف بها، واعتذر للنبى صادقا، بأنه لم يرد بهذا كيدا للمسلمين، ولا ممالأة للمشركين، وإنه ليعلم أن الله سيؤيد النبي بنصره، وأنه لن يغنى عن قريش أي تدبير يدبرونه
895
فصدقه النبي، وقبل ما اعتذر به، وردّ عمر بن الخطاب حين قال: ألا أضرب عنقه يا رسول الله، بقوله- صلوات الله وسلامه عليه: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد عفوت عنكم» وهكذا أعفا النبي عن هذا الصحابي الذي شهد بدرا، ثم تنزلت آيات الله فى مواجهة هذه الحادثة، فكان منها هذا الدرس الخالد للمسلمين، يقيم لهم دستورا حكيما، يحرس إيمانهم من أن تفسده مشاعر المودة بينهم وبين أعداء الله وأعداء المؤمنين بالله.
الآيات: (٤- ٩) [سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٤ الى ٩]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
896
التفسير:
قوله تعالى:
«قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»..
الأسوة: القدوة، وهى من التأسىّ بمن هو فى مقام الفضل والإحسان، فى الأمر الذي يتأسى به فيه.. وقد غلب على الأسوة أن تكون فى الأمور الحسنة، وفى وصفها بالحسنة هنا، تأكيد لتلك الصفة الغالبة عليها، فقد يتأسّى المرء بما هو غير حسن، وهو فى ظنه أنه حسن..
وفى تأسّى المؤمنين بإبراهيم عليه السلام، وبالمؤمنين معه وهم الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين، الذين جاءوا بعد إبراهيم- وسمّوا هؤلاء مع إبراهيم، لأنهم كانوا جميعا على دين الله الذي آمن به، كما كان معظم الأنبياء من ذريته- وفى أخذهم الموقف الذي وقفه إبراهيم ومن معه من الأنبياء والمؤمنين- من قومهم، إذ تبرءوا من أقوامهم، ومما يعبدون من دون الله، وكفروا بهم وبمعبوداتهم وأظهروا لهم العداوة، وجاهروهم بها، وأنها عداوة دائمة حتى يؤمن هؤلاء الكافرون بالله وحده لا شريك له، فإن آمنوا انقطعت هذه العداوة، وقام مقامها الحب الذي بين المؤمنين والمؤمنين- فى هذا التأسّى توجيه للمؤمنين إلى ما ينبغى أن يكون عليه إيمانهم.
فهذا هو الإيمان، الذي يخلى قلب المؤمن من كل مشاعر الودّ والمحبة
897
لمن حادّ الله وكفر به.. «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» (٢٢: المجادلة)..
وقوله تعالى: «إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» - هو استثناء من التأسّى بإبراهيم عليه السلام، فى هذا الموقف الذي وقفه من أبيه، والذي كان موضع عتاب من الله سبحانه وتعالى لخليله إبراهيم عليه السلام.. ومع هذا، فقد كان استغفار إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه، إذ قال لأبيه: «سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» (٤٧: مريم).. وقد كان إبراهيم بهذا الاستغفار يطمع فى أن يهدى الله أباه إلى الإيمان، ولكن أباه كان عند الله من الكافرين..
فلما تبين لإبراهيم هذا من أبيه، تبرأ منه كما تبرأ من قومه الكافرين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (١١٤: التوبة)..
وقوله تعالى: «وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» هو حال من فاعل مقول القول: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ».. أي والحال أنى لا أملك لك من الله من شىء.
وقوله تعالى: «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»..
هو من قول إبراهيم والذين معه، فى مواجهة أقوامهم، إذ قالوا لهم:
«إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» ويكون قوله تعالى:
898
«إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ» - كلام معترض، خاص بمقولة إبراهيم لأبيه، والتي لم يشاركه فيها الذين آمنوا معه..
قوله تعالى:
«رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»..
هو من مقول قول إبراهيم والذين معه.. وهو دعاء يتجهون به إلى الله سبحانه وتعالى ألا يجعلهم فتنة للذين كفروا بمعنى ألا يغرى بهم الذين كفروا، فتشتد عداوتهم لله، وتغلظ فتنتهم، وضلالهم، بسبب العناد الذي يحملهم على ألا ينظروا إلى ما فى أيدى المؤمنين من هدى وإيمان..
وبهذا يشتد غضب الله عليهم، وتنزل نقمته بهم، وكأنّ المؤمنين بهذا هم الذين ساقوهم إلى هذا الكفر الغليظ، وهذا من شأنه أن يدخل فى شعور المؤمنين بأنهم بإيمانهم قد حملوا الكافرين على أخذ طريق غير طريق المؤمنين.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان قوم نوح: «أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» (١١١: الشعراء) ويقول سبحانه على لسانهم أيضا:
«فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» (٢٧: هود).. ويقول سبحانه على لسان المشركين الذين كذبوا رسول الله: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ» (١١: الأحقاف).
واليهود، كانوا قبل مبعث النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ينتظرون بعثته، فلما سبقهم الأنصار إلى الإيمان به، حملهم الحسد على أن يكذّبوا برسول الله، بل ويكيدوا له، ويؤلبوا المشركين على حربه..
899
وفى هذا يقول الله تعالى فيهم: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (٨٩: البقرة) ويجوز أن يكون المعنى على طلب المؤمنين الحماية من الله سبحانه وتعالى لهم، من أن يفتنوا فى دينهم، بما يرميهم به الذين كفروا من مكاره، وما يسوقون إليهم من أذّى..
ويجوز كذلك أن يكون المعنى متضمنا الوجهين معا، وهو ألا يكون المؤمنون فتنة للكافرين، وألا يكون الكافرون فتنة للمؤمنين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» (٢٠: الفرقان) وفى قوله تعالى: «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» - إشارة إلى قدرة الله وعزّته التي يعزّ بها المؤمنين، ويحميهم من أذى الكافرين، حتى لا يفتنوا فى دينهم.. وعزّة الله عزّة قائمة على الحكمة، فكل ما يصدر عن قوة الله، وعزته، هو عن حكمة محكمة، لا عن هوّى، وتسلط، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
قوله تعالى:
«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» هو توكيد للدعوة التي دعى إليها المؤمنون ليتأسّوا بإبراهيم والذين معه، بعد أن تبين لهم موقف إبراهيم، ومن معه، من أقوامهم.. فقد دعى المؤمنون أولا إلى التأسى بإبراهيم ومن معه قبل أن يعرفوا الوجه الذي يتأسّون به منهم، فلما تبيّن لهم هذا الوجه، وهو موقفهم المجانب لقومهم، المتبرئ منهم ومن كفرهم- حسن أن يدعى المؤمنون بعد هذا دعوة مجدّدة إلى ما دعوا إليه أولا، حيث عرفوا موضع الأسوة فى إبراهيم ومن معه.. ولهذا جاءت الدعوة
900
الثانية مؤكّدة بمؤكدين.. اللام، وقد.. «لَقَدْ» : على حين جاءت الدعوة لأولى مؤكدة بمؤكد واحد: «قد»..
والجملة الخبرية هنا، وهناك، مراد بها الطلب، أي الأمر بالتأسى، لا مجرد الخبر.. أي تأسّوا أيها المؤمنون بإبراهيم والذين معه، وقفوا من قومكم موقفهم من أقوامهم.. فذلك التأسى هو شأن من كان يرجو الله واليوم الآخر، حيث يكون ولاؤه لله وللمؤمنين، ذلك الولاء الذي يقضى بأن يقطع كلّ ولاء مع المشركين والكافرين، ولو كانوا آباء، أو أبناء..
قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» أي ومن يعرض عن موالاة الله والمؤمنين، ويؤثر موالاة أهله، وعشيرته من المشركين- «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» - الذي لا ينفعه ولاء من والاه، ولا يضره عداوة من عاداه..
إنه سبحانه هو الغنى غنى مطلقا عن كل ما فى هذا الوجود، لأنه موجود بكمالاته كلها قبل أن يوجد هذا الوجود.. وهو سبحانه «الحميد» الذي يحمد لعباده المؤمنين إقبالهم عليه، وموالاتهم له، وإن كان فى غنى عن هذا الإيمان، وهذا الولاء.. فذلك الحمد، هو فضل، وإحسان منه، إلى عباده المؤمنين المحسنين..
قوله تعالى:
«عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فى الآية الكريمة عزاء للمؤمنين عن هذه القطيعة التي تقع بينهم وبين ذوى قراباتهم وأصدقائهم من المشركين، وإنه لكيلا تبلغ هذه القطيعة مداها، وتأخذ مكانا متمكنا فى النفوس، وتنبت فى صحرائها أشواك الضغينة والحقد التي لا يمكن اقتلاعها.. جاءت الآية الكريمة، لتقيم المسلمين على قطيعة موقوتة مع أهليهم، وعلى جفاء يرتقب له اليوم الذي ينتهى فيه، وذلك أن كثيرا
901
من هؤلاء المشركين لم يقع اليأس بعد من دخولهم فى الإسلام، وأن كثيرا منهم سيدخل فى دين الله، ويجاهد مع المجاهدين فى سبيل الله.. ويومئذ يلتقى الأهل جميعا على الأخوة فى الله، كما التقوا من قبل على الأخوة فى القرابة والنسب..
وقوله تعالى: «عسى» الذي يدل على الرجاء، هو منظور فيه إلى المؤمنين، وما ينبغى أن يساق إلى قلوبهم من مشاعر الرجاء والأمل، حيث يقيمهم هذا الشعور من أهلهم المشركين، فى مقام بين اليأس والرجاء، فى أن تجمعهم يوما جامعة تؤلف بينهم.. وبهذا الشعور يقتصد المبالغون فى العداوة لأهليهم، كما يقتصد المتراخون فى قطع حبال الود معهم.
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ قَدِيرٌ» - إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من قدرة على أن يفتح قلوب هؤلاء المشركين للإيمان، وأنه سبحانه قادر على أن يجعل من العداوة القائمة بين المؤمنين وهؤلاء المشركين، رحمة ومودة..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - إشارة إلى ما عند الله سبحانه من مغفرة ورحمة لمن جاوز الحدّ فى العداوة، أو غلبته حال من الولاء لأهله، فإن أبواب المغفرة والرحمة مفتحة لكل من يتجه إلى الله طالبا مغفرته ورحمته..
كما أن مغفرة الله ورحمته تنال هؤلاء المشركين، إذا هم دخلوا فى دين الله، وعندئذ يغفر لهم ما كان منهم من أذى وضرّ للنبى والمؤمنين، ويلحقهم بركب المؤمنين الذين سبقوهم إلى الإيمان..
قوله تعالى:
«لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» القسط: العدل، والقسطاس: الميزان الذي يوزن به..
902
والمقسط: العادل، الذي يقيم ميزان العدل.. والقاسط: الظالم، الجائر.. يقال:
أقسط، أي عدل، وقسط: أي جار وظلم..
والآية الكريمة تدعو إلى هذا المبدأ العام الذي قامت عليه الشريعة السمحاء، من الإخاء الإنسانى، القائم على العدل والإحسان.. وأن هذه القطيعة التي فرضها الإسلام على المسلمين فيما بينهم وبين أهلهم من المشركين- إنما هى قطيعة لقوم قطعوا أرحام قومهم، وقاتلوهم، وأخرجوهم من ديارهم.. إنهم فى حال حرب، معهم لم تنته بعد، وأن المشركين ما زالوا ينتظرون الفرصة التي تمكنهم من المؤمنين.. وفى موالاة المؤمنين لهم توهين للمؤمنين، وتمكين للمشركين من مقاتلهم..
فإذا لم يكن من قوم عداوة بادية للمؤمنين، أو قتال لهم، أو مساندة لمن قاتلهم- فإن موقف المؤمنين من هؤلاء القوم، ينبغى أن يقوم على السماحة، وعلى العدل والإحسان.. «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»..
وفى قوله تعالى: «وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» تضمين للفعل معنى الإحسان، بمعنى وتحسنوا إليهم، بالعدل الذي تقيمون ميزانه بينكم وبينهم.. هذا، ويرى كثير من المفسرين أن هذه الآية منسوخة بآية السيف.. وإنه لا معتبر لهذا الرأى الذي يعمّى ويشوش على سماحة هذه الشريعة، وإنسانيتها.. وممّن سفّه هذا الرأى الإمام الطبري فى تفسيره، فرضى الله عنه.
قوله تعالى:
«إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»
903
أما هؤلاء الذين قاتلوا المؤمنين فى الدين، أي من أجل الدين، وأخرجوهم من ديارهم، وظاهروا، أي أعانوا على إخراجهم- أما هؤلاء، فهم الذين ينهى الله المؤمنين عن تولّيهم لهم، أي موالاتهم وبرّهم، والإحسان إليهم، ووصل حبال المودة بهم.
«وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ» أي يقيم ولاء معهم، ويبقى على صلة بهم «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» أي الذين اعتدوا على حق الله، وظلموا أنفسهم بما حملوها من أوزار.
الآيات: (١٠- ١٣) [سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١٠ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
904
التفسير «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
هذه الآية والآيات التي بعدها، تبيّن حكم ما يقع بين المسلمين والمشركين من أمور تتصل بتنفيذ صلح الحديبية الذي عقده النبي معهم.. فهذا الصلح قد قضى بأنه إذا جاء إلى المسلمين من أسلم من المشركين، ردّه المسلمون إليهم، ومن جاء إلى المشركين من عاد إلى الشرك لم يرده المشركون إليهم.. وقد قبل النبي هذا الشرط، لأن من دخل فى الإسلام، إنما دخل بعد ابتلاء وتمحيص، فهو حيث كان، فى حصانة من أن تغيره الأحوال والأحداث.. وأما من كان مؤمنا، ثم عاد إلى الكفر، فإن الإمساك به فى مجتمع المؤمنين بعد هذا، إنما هو تمسك بعضو فاسد فى جسد سليم..
وهذا الشرط خاص بالرجال دون النساء.
وقد كان من مقتضى هذا، أن تكون بين المؤمنين والمشركين شبه صلة فى حدود تنفيذ أحكام هذا الصلح، بعد أن دعا الإسلام المؤمنين إلى قطع كل ولاء بينهم وبين هؤلاء المشركين.
وفى هذه الآية الكريمة، بيان لحكم من جاء من مجتمع المشركين من النساء، مؤمنات مهاجرات.. فهذا الحكم يقضى بأن يمتحن المؤمنون هؤلاء المؤمنات فى إيمانهن، حتى يتبين لهم صدق إيمانهن، وأنهن إنما هاجرن فرارا بدينهن من أن
905
يفتّن فيه، لا فرارا من زوج، ولا رغبة فى زواج، ولا طمعا فى مأرب من مآرب الحياة.. فإذا تبين أنهن على الإيمان.. كان على المؤمنين أن يؤو وهن إليهم، وأن يمسكوا بهن فى مجتمع المؤمنين، وألّا يرجعوهن إلى الكفار.. وذلك لأمرين:
أولهما. أن النساء لم يدخلن فى الشرط الذي اشترط فيه المشركون على المسلمين أن يردوا إليهم من أتاهم مؤمنا من المشركين.. فهذا شرط خاص بالرجال، دون النساء..
وثانيهما: أن النساء لا يصبرن طويلا على موقع الفتنة من المشركين، ولا يحتملن ما يحتمل الرجال من بلاء فى سبيل العقيدة التي يعتقدنها، إنهن أسرع تحولا، وأقل ثباتا وصبرا من الرجال، وإن كان فى بعض النساء ما لأقوى الرجال من عزيمة وثبات، إلا أن النساء فى مجموعهن دون الرجال فى هذا المقام..
وفى قوله تعالى: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ» - إشارة إلى أن الامتحان الذي يمتحن به المؤمنون المؤمنات المهاجرات إليهن- هو امتحان لا يكشف إلا عن ظاهر الحال منهن.. أما ما فى القلوب وما تكنّ الصدور، فعلمه عند الله سبحانه وتعالى.. وأنه يكفى فى هذا الامتحان أن تشهد ظواهر الأحوال ما يدل على إيمان هؤلاء المؤمنات، أما ما فى القلوب فأمره إلى الله..
وقوله تعالى: «وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» أي وردّوا إلى الكفار أيها المؤمنون ما أنفقوا على هؤلاء المؤمنات من مهور.. بمعنى أن المؤمنة التي كانت متزوجة من مشرك ثم جاءت مهاجرة إلى المؤمنين، يجب على المؤمنين، بعد امتحان إيمانها أن يمسكوها عندهم، وأن يردّوا إلى زوجها المشرك، ما كان قد أمهرها إياه، فذلك المهر هو ما يمسك به زوجها المشرك منها، وقد فرق الإسلام بينها وبينه، فأصبحت بإسلامها محرمة عليه.
906
وهذه الفرقة بين المؤمنة وزوجها المشرك، قد جاءت من جهة المرأة، وكأنها بهذا هى التي رغبت فى المفارقة، فكان عليها- والأمر كذلك- أن تردّ إليه ما أخذت منه من صداق..
روى أن جميلة امرأة ثابت بن قيس، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، لا أجد فى ثابت بن قيس عيبا من خلق أو إيمان، ولكنى لا أجد فى طوقى مجاراته.. فسألها الرسول الكريم: هل تعيد إليه حائطه (أي بستانه) الذي جعله صداقا لها، إذا هو طلقها؟ فقالت نعم، فأمر النبي بردّ الحائط إلى ثابت، وتطليقها» فهذا أشبه بالفرقة الواقعة من المرأة، تخرج من عصمة زوجها المشرك، بدخولها فى دين الله..
وفرق واحد هنا، وهو أنها لا تحمل بدخولها فى دين الله غرما، فلا تردّ ما أمهرها به زوجها المشرك من مالها هى، بل يتحمل ذلك عنها المسلمون الذين هاجرت إليهم، وحلّت بينهم..
وقوله تعالى: «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» أي أن هذه الفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها المشرك، تعتبر طلاقا بائنا، يحلّ للمسلم بعد هذا، زواجها، بعد انقضاء عدتها، وبعد إيتائها المهر المناسب لها..
وقوله تعالى: «وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» العصم: جمع عصمة، وهى ما يعتصم به، وهى كناية عن رباط الزوجية، الذي يربط كلّا من الزوجين بصاحبه، ويعتصم به.
والكوافر: جمع الكافرة. وقد جمعت جمع تكسبر، ولم نجمع جمع المؤنث السالم «الكافرات» استخفافا بهن، وعزلا لهن عن مجتمع العقلاء،
907
إذ قد اغتال الكفر الذي لبسهنّ، معلم الإنسانية فيهن.. وهذا من شأنه أن يهوّن على الأزواج المؤمنين فراق مثل هؤلاء الكوافر.
ولهذا جاء النهى للمؤمنين أن يمسكوا بما فى أيديهم من روابط الزوجية بينهم وبين نسائهم المشركات، بل إن عليهم أن يقطعوا حبل الزوجية معهن، كما يقول سبحانه: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ» (٢٢١: البقرة) قوله تعالى: «وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا» أي اطلبوا أيها المؤمنون من المشركين مهور نسائكم المشركات اللائي فرّق الإسلام بينكم وبينهن، كما يطلب منكم المشركون مهور نسائهم اللائي هاجرن إليكم مؤمنات، «ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» - هذا ما قضى به الله سبحانه من التفرقة بين المؤمنات المهاجرات وأزواجهن المشركين، وبين المؤمنين، وزوجاتهم المشركات، ومن ردّ ما أنفق المشركون على زوجاتهم المؤمنات، وما أنفق المؤمنون على زوجاتهم المشركات- هذا كله هو حكم الله يحكم به بينكم «وَهُوَ الْعَلِيمُ» بما يقضى به، وبما فيه الخير لكم، «الحكيم» الذي يضع الأمور بحكمة فى أعدل موضع وأحكمه.
قوله تعالى:
«وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» أي وإن فاتكم أيها المؤمنون شىء من مهور أزواجكم الماثلات إلى الكفار، المنحازات إلى جبهتهن، بمعنى أنه إذا طلقتم أزواجكم المضافات إلى المشركين، ولم يردّ المشركون عليكم ما أنفقتم من مهورهن، ثم كانت منكم معاقبة للمشركين، ومقابلتهم بالمثل، فلم تردوا عليهم ما أنفقوا على زوجاتهم المهاجرات إليكم- إذا كان ذلك، فآتوا- أيها المؤمنون- الذين ذهبت أزواجهم منكم
908
بالطلاق من أجل شركهن- آتوهم مثل ما أنفقوا، أي مثل ما قدموا لهن من مهور..
وفى التعبير عن فرقة المشركات لأزواجهن المؤمنين بالذهاب فى قوله تعالى:
«ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ» - إشارة إلى أن هؤلاء الزوجات إنما هن شىء قد ضلّ، وذهب فى متاهات الحياة، فلا تأس عليه نفس، ولا يحزن له قلب.
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» - هو تعقيب على هذه الأحكام، وأنها يحب أن تقوم عند المؤمن فى ظل من تقوى الله، حتى لا يقع فيها جور، أو انحراف عن ميزان العدل والإحسان..
وفى قوله تعالى: «الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» - إلفات للمؤمنين إلى أنهم فى هذا المقام، إنما يقيمون أمورهم على ميزان الإيمان، الذي فرق بينهم وبين المشركين، وهم لهذا مطالبون بأن يحضروا إيمانهم هذا كلّ تصرف يكون بينهم وبين المشركين، من أخذ أو إعطاء..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هذا بيان لما يقوم عليه إيمان المؤمنات، سواء بايعن الرسول بيعة حضور، أو غيبة، بمعنى أن هذه البيعة هى بيعة الإسلام للنساء، وما يفترض عليهن من فرائض.. وذلك:
- «أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً». أي يخلصن إيمانهن لله، ويخلين قلوبهن من كل معبود سواه..
909
- «وَلا يَسْرِقْنَ..- «وَلا يَزْنِينَ..- «وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ.. خشية الفقر- «وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ» والبهتان، هو الباطل، الفاسد من العمل، كالزور من الكلام.. والمراد به هنا، هو ولادة الأبناء منهن من غير آبائهن..
وفى تصوير المولود من غير أبيه، بأنه «بهتان» - تنفير من هذا المولود، وإثارة لمشاعر الخوف منه، والكراهية له وفى وضع هذا «البهتان» بين يدى المرأة ورجليها- إزعاج لها، وإقلاق لمشاعرها أن تسكن إلى هذه الجريمة البشعة التي تعيش معها، كما يعيش القتيل بين يدى قاتله..
وما بين يدى المرأة ورجليها، هو بطنها الذي يحمل هذا البهتان، ويعيش فيه تسعة أشهر ملتصقا بالمرأة، هاتفا بها فى كل لحظة، إنى هنا! إن ذلك- إذا علمت المرأة المؤمنة أنه بهتان- لا يدع لها لحظة من الاستقرار والسكون، فى يقظة أو منام، الأمر الذي يدعوها إلى التفكير الطويل قبل أن تضم فى كيانها هذا البهتان! وأن تنسبه كذبا وافتراء إلى فراش الزوجية.
وقوله تعالى: «وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ» - المعروف ما يقوم عليه إيمان المؤمن- ذكرا، أو أنثى- فيما قدر عليه، ووسعته نفسه.. من طاعة الرسول، وامتثال أمره، واجتناب نهيه..
والعصيان يقع على الأمر والنهى معا..
فعصيان الأمر عدم امتثاله.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى على لسان موسى
910
لأخيه هرون: «أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟» (٩٣: طه) وعصيان النهى إتيان المنهىّ عنه.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى»..
وعصيان آدم، هو أكله من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها فى قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» (١٩: الأعراف) وفى قوله تعالى: «فِي مَعْرُوفٍ» وفى تقييد عدم العصيان بما هو معروف- إشارة إلى أن العصيان لا يكون عصيانا إلا فيما عرف لهنّ من أمر أو نهى، وهذا يعنى أن غير المعروف لهن من أحكام الشريعة، من أوامر ونواه، هو معفوّ عنه، وهذا يعنى أن على الرسول أن يبلغ رسالة ربه كاملة إليهن.
وقوله تعالى: «فَبايِعْهُنَّ» أي اقبل إيمانهن، واعتبرهن فى جماعة المؤمنين، لهن ما للمؤمنين، وعليهن ما عليهم..
وقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» أي ادع الله لهن بالمغفرة لما سلف منهن من ذنوب قبل الإسلام.. من شرك، أو سرقة، أو زنى، أو إتيان ببهتان افترينه بين أيديهن وأرجلهن.. «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» أي واسع الرحمة والمغفرة، فيغفر لهن ذنوبهن جميعا التي كانت منهن قبل الإسلام، مهما عظمت أو كثرت.. وبهذه المغفرة العامة الشاملة يدخلن الإسلام طاهرات من كل ذنب، مبرات من كل إثم، وبهذا العفو العام يبدأن صفحة جديدة نقية، مع الحياة الجديدة التي ولدن بها فى الإسلام.. وهذا من شأنه أن يقوّى من عزائمهن على الاحتفاظ بنقاء هذه الصفحة وصفائها.
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ»
911
الذين غضب الله عليهم، هم اليهود، وإنه حيث ذكر غضب الله فى القرآن على قوم، أو جماعة- فالمقصود به اليهود والتولي: من الولاء، والمولاة..
وبهذه الآية الكريمة تختم السورة، وبهذا الختام يلتقى ختامها مع بدئها حيث بدئت بنهي المؤمنين عن موالاة أعداء المؤمنين من الكفار والمشركين..
ثم كان ختامها دعوة من الله إلى مجانبة الذين غصب الله عليهم، وهم اليهود..
وبهذا لا يكون للمؤمنين ولاء مع جميع أهل العداوة لله وللمؤمنين.
وفى قوله تعالى: «قوما» بالتنكير، إشارة إلى ازدراء هؤلاء القوم، وهوانهم، وأنهم- حيث كانوا- هم فى صغار وذلة وهوان..
وحسبهم صغارا وذلة وهوانا، أن يصحبهم غضب الله فى كل زمان ومكان..
ثم إن فى هذا التنكير دلالة على أن وصف القوم بغضب الله عليهم، يكشف عن وجه هؤلاء القوم، ويقوم شاهدا عليهم، إذ ليس هناك من وقعت عليه لعنة الله غيرهم.. فالصفة قرينة دالة على الموصوف، إذ كانت مقصورة عليه..
قوله تعالى:
«قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» - إشارة إلى موقف اليهود من الحياة الآخرة، وأنهم فى شكّ منها وفى يأس من لقائها، فهم- مع إيمانهم بالله- على عقيدة بأن لا بعث بعد الموت، وأن الناس إنما يوفّون جزاءهم فى هذه الحياة الدنيا.. ولهذا فإنهم يستنفدون كلّ جهدهم فى العمل لما يبنى حياتهم الدنيوية، دون أن تكون منهم لفتة إلى ماوراء هذه الحياة..
912
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ».. (٣٢: الجاثية).. هذا هو المعتقد الغالب على اليهود، فيما يتصل بالبعث، وبالحياة الآخرة، وإن كانت شريعتهم التي جاءهم بها موسى، تدعو إلى الإيمان بالحياة الآخرة، وإلى العمل لها، ولكن القوم يتأولون نصوص الشريعة، ويلوونها مع أهوائهم، حتى كانت الحياة الآخرة عندهم أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة.
وقوله تعالى: «يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ» بدلا من أن يقال كفروا بالآخرة، أو كذبوا بها، للإشارة إلى ما عندهم من علم بالآخرة، وبما يكون فيها من حساب وجزاء، وأنه علم نظرىّ، ميئوس من وقوع المعلوم منه، وتحققه.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، فى تصوير هذا المفهوم الذي يقوم عند اليهود للبعث وللحياة الآخرة.. إنه انتظار لغائب لا يرجى له إياب، فوقع اليأس من لقائه..
وفى قوله تعالى: «كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» أي أن يأس اليهود من لقاء الآخرة، هو أشبه بيأس الكفار من أن يلتقوا يوما بموتاهم الذين أودعوهم القبور..
فاليهود ينظرون إلى الآخرة، نظرة الكفار إلى الأموات فى القبور..
إن كلّا منهم ينظر إلى شىء.. ولكن هذا الشيء- فى زعمهم- لن يلتقوا به أبدا.. الآخرة فى زعم اليهود، والأموات فى زعم الكفار.. وكلا الزعمين باطل، فاليهود سيلتقون بالآخرة، وإن كرهوا، والكفار سيلتقون بموتاهم وإن يئسوا..
913
٦١: سورة الصّفّ
نزولها: مدنية.
عدد آياتها: أربع عشرة آية.
عدد كلماتها: مائتان وإحدى وعشرون كلمة.
عدد حروفها: تسعمائة حرف.
مناسبتها لما قبلها
كانت السورة السابقة «الممتحنة» حديثا متصلا إلى المؤمنين، وما ينبغى أن يكون عليه موقفهم من المشركين، والذين يكيدون للإسلام والمسلمين، وأن هذا الموقف يقتضيهم أن يقطعوا ما بينهم وبين هؤلاء وهؤلاء من صلات القربى والمودة، وأن يجعلوا ولاءهم خالصا لدين الله والمؤمنين بالله- وهذه حال من شأنها أن تكشف عن ضعف بعض النفوس التي لا تحتمل هذه التجربة، ولا تصبر على هذا الامتحان، وهنا تكثر الأقوال التي يدّعى أصحابها دعاوى تحدّث عن موقفهم من المشركين، والمنافقين، على حين أن حالة أفعالهم أو ما فى قلوبهم، تخالف هذه الأقوال.. فكان أن بدأت سورة (الصف) بالتسبيح بحمد الله الذي هدى المؤمنين إلى الإيمان، ثم ببيان المنهج الذي ينهجه المؤمنون، كى يبقى هذا الإيمان سليما قوبا فى صدورهم..
وأساس هذا المنهج هو الأفعال لا الأقوال.. الأفعال التي تصدر عن قلب مؤمن، وعن مشاعر مستجيبة لهذا الإيمان، لا الأقوال التي لا يصدّقها العمل، ولا يزكيها الإيمان.. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ»..
وهكذا تبدأ سورة «الصفّ» فتتصل هذا الاتصال الوثيق بسورة «الممتحنة» قبلها.
914
Icon