تفسير سورة المزّمّل

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة المزمل مكية وآيها تسع عشرة أو عشرون.

(٧٣) سورة المزمل
مكية، وآيها تسع عشرة أو عشرون
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢)
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أصله المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف بها فأدغم التاء في الزاي وقد قرئ به، وب «المزمل» مفتوحة الميم ومكسورتها أي الذي زمله غيره، أو زمل نفسه، سمي به النبي عليه الصلاة والسلام تهجيناً لما كان عليه فإنه كان نائماً، أو مرتعداً مما دهشه من بدء الوحي متزملاً في قطيفة أو تحسيناً له. إذ
روي: أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي متلففاً بمرط مفروش على عائشة رضي الله تعالى عنها فنزلت.
أو تشبيهاً له في تثاقله بالمتزمل لأنه لم يتمرن بعد في قيام الليل، أو من تزمل الزمل إذا تحمل الحمل أي الذي تحمل أعباء النبوة.
قُمِ اللَّيْلَ أي قم إلى الصلاة، أو داوم عليها فيه، وقرئ بضم الميم وفتحها للإتباع أو التخفيف.
إِلَّا قَلِيلًا.
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ٣ الى ٥]
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥)
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ الاستثناء من اللَّيْلَ ونِصْفَهُ بدل من قَلِيلًا وقلته بالنسبة إلى الكل، والتخيير بين قيام النصف والزائد عليه كالثلثين والناقص عنه كالثلث، أو نِصْفَهُ بدل من اللَّيْلَ والاستثناء منه والضمير في مِنْهُ وعَلَيْهِ للأقل من النصف كالثلث فيكون التخيير بينه وبين الأقل منه كالربع، والأكثر منه كالنصف أو للنصف والتخيير بين أن يقوم أقل منه على البت وأن يختار أحد الأمرين من الأقل والأكثر، أو الاستثناء من إعداد الليل فإنه عام والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا اقرأه على تؤدة وتبيين حروف بحيث يتمكن السامع من عدها من قوله ثغر رتل ورتل إذا كان مفلجاً.
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا يعني القرآن فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة ثقيل على المكلفين سيما على الرسول صلّى الله عليه وسلم إذ كان عليه أن يتحملها ويحملها أمته، والجملة اعتراض يسهل التكليف عليه بالتهجد، ويدل على أنه مشق مضاد للطبع مخالف للنفس، أو رصين لرزانة لفظه ومتانة معناه، أو ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفية للسر وتجريد للنظر، أو ثقيل في الميزان أو على الكفار والفجار، أو ثقيل تلقيه
لقوله عائشة رضي الله تعالى عنها: رأيته عليه الصلاة والسلام ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقاً.
وعلى هذا يجوز أن يكون صفة للمصدر والجملة على هذه الأوجه للتعليل مستأنف، فإن التهجد يعد للنفس ما به تعالج ثقله.

[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ٦ الى ٧]

إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧)
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ إِن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة من نشأ من مكانه إذا نهض وقام قال:
نشأنا إلى خوص برى نهيا السُّرَى وَأَلْصِقَ مِنْهَا مُشْرِفَاتِ القَمْاحِدِ
أو قيام الليل على أن ال ناشِئَةَ له أو العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث، أو ساعات الليل لأنها تحدث واحدة بعد أخرى، أو ساعاتها الأول من نشأت إذا ابتدأت. هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي كلفة أو ثبات قدم، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وَطْئاً بكسر الواو وألف ممدودة أي مواطأة القلب اللسان لها، أو فيها أو موافقة لما يراد منها من الخضوع والإِخلاص. وَأَقْوَمُ قِيلًا أي وأسد مقالاً أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدوء الأصوات.
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا تقلباً في مهماتك واشتغالاً بها فعليك بالتهجد، فإن مناجاة الحق تستدعي فراغا. وقرئ «سبخاً» أي تفرق قلب بالشواغل مستعار من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه.
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ٨ الى ٩]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ودم على ذكره ليلاً ونهاراً، وذكر الله يتناول كل ما يذكر به من تسبيح وتهليل وتمجيد وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم. وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا وانقطع إليه بالعبادة وجرد نفسك عما سواه، ولهذه الرمزة ومراعاة الفواصل وضعه موضع تبتلاً.
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ خبر محذوف أو مبتدأ خبره: لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ وقرأ ابن عامر والكوفيون غير حفص ويعقوب بالجر على البدل من ربك، وقيل بإضمار حرف القسم وجوابه لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ. فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا مسبب عن التهليل، فإن توحده بالألوهية يقتضي أن توكل إليه الأمور.
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١)
وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ من الخرافات. وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمرهم إلى الله فالله يكفيكهم كما قال:
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ دعني وإياهم وكل أمرهم فإن بي غنية عنك في مجازاتهم. أُولِي النَّعْمَةِ أرباب التنعم، يريد صناديد قريش. وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا زماناً أو إمهالاً.
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٢ الى ١٤]
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤)
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا تعليل للأمر، والنكل القيد الثقيل. وَجَحِيماً.
وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ طعاماً ينشب في الحلق كالضريع والزقوم. وَعَذاباً أَلِيماً ونوعاً آخر من العذاب مؤلماً لا يعرف كنهه إلا الله تعالى، ولما كانت العقوبات الأربع مما تشترك فيها الأشباح والأرواح فإن النفوس العاصية المنهمكة في الشهوات تبقى مقيدة بحبها والتعلق بها، عن التخلص إلى عالم المجردات متحرقة بحرقة الفرقة متجرعة غصة الهجران معذبة بالحرمان عن تجلي أنوار القدس، فسر العذاب بالحرمان عن لقاء الله تعالى.
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ تضطرب وتتزلزل ظرف لما في إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا من معنى الفعل.
وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً رملاً مجتمعاً كأنه فعيل بمعنى مفعول من كثبت الشيء إذا جمعته. مَهِيلًا منثوراً من هيل هيلاً إذا نثر.
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٥ الى ١٦]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا يا أهل مكة. شاهِداً عَلَيْكُمْ يشهد عليكم يوم القيامة بالإِجابة والامتناع.
كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني موسى عليه الصلاة والسلام ولم يعينه لأن المقصود لم يتعلق به.
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ عرفه لسبق ذكره. فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا ثقيلاً من قولهم طعام وبيل لا يستمرأ لثقله، ومنه الوابل للمطر العظيم.
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٧ الى ١٩]
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ أنفسكم. إِنْ كَفَرْتُمْ بقيتم على الكفر. يَوْماً عذاب يوم. يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً من شدة هوله وهذا على الفرض أو التمثيل، وأصله أن الهموم تضعف القوى وتسرع الشيب، ويجوز أن يكون وصفاً لليوم بالطول.
السَّماءُ مُنْفَطِرٌ منشق والتذكير على تأويل السقف أو إضمار شيء. بِهِ بشدة ذلك اليوم على عظمها وأحكامها فضلاً عن غيرها والباء للآلة. كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا الضمير لله عز وجل أو لليوم على إضافة المصدر إلى المفعول.
إِنَّ هذِهِ أي الآيات الموعدة. تَذْكِرَةٌ عظة. فَمَنْ شاءَ أن يتعظ. اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي يتقرب إليه بسلوك التقوى.
[سورة المزمل (٧٣) : آية ٢٠]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ استعار الأدنى للأقل لأن الأقرب إلى الشيء أقل بعداً منه، وقرأ ابن كثير والكوفيون وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب عطفاً على أَدْنى. وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ويقوم ذلك جماعة من أصحابك. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلا الله تعالى، فإن تقديم اسمه مبتدأ مبنياً عليه يُقَدِّرُ يشعر بالاختصاص ويؤيده قوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي لن تحصوا تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات. فَتابَ عَلَيْكُمْ بالترخص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة فيه كما رفع التبعة عن التائب. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل، عبر عن الصلاة بالقرآن كما عبر عنها بسائر أركانها، قيل كان التهجد واجباً على التخيير المذكور فعسر عليهم القيام به فنسخ به، ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس، أو فاقرؤوا القرآن بعينه كيفما تيسر عليكم. عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى استئناف يبين حكمة أخرى مقتضية للترخيص والتخفيف ولذلك كرر الحكم مرتباً
257
عليه وقال: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ والضرب في الأرض ابتغاء للفضل المسافرة للتجارة وتحصيل العلم وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ المفروضة. وَآتُوا الزَّكاةَ الواجبة. وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يريد به الأمر في سائر الانفاقات في سبل الخيرات، أو بأداء الزكاة على أحسن وجه، والترغيب فيه بوعد العوض كما صرح به في قوله: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت أو من متاع الدنيا، وخَيْراً ثاني مفعولي تَجِدُوهُ وهو تأكيد أو فصل، لأن أفعل من كالمعرفة ولذلك يمتنع من حرف التعريف، وقرئ «هو خير» على الابتداء والخبر. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في مجامع أحوالكم فإن الإِنسان لا يخلو من تفريط. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المزمل رفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة».
258
Icon