تفسير سورة القيامة

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها أربعون

الصحف، ثم ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ يعنى تذكرة بليغة كافية، مبهم أمرها في الكفاية فَمَنْ شاءَ أن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينه فعل، فإنّ نفع ذلك راجع إليه. والضمير في إِنَّهُ وذَكَرَهُ للتذكرة في قوله فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ وإنما ذكر لأنها في معنى الذكر أو القرآن وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعنى: إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه. لأنهم مطبوع على قلوبهم. معلوم أنهم لا يؤمنون اختيارا هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه، فيؤمنوا ويطيعوا، وحقيق بأن يغفر لهم إذا آمنوا وأطاعوا. وروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو أهل أن يتقى، وأهل أن يغفر لمن اتقاه» «١» وقرئ: يذكرون. بالياء والتاء مخففا ومشددا.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المدثر أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وكذب به بمكة» «٢».
سورة القيامة
مكية، وآياتها ٤٠ [نزلت بعد القارعة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦)
(١). أخرجه لترمذى والنسائي وابن ماجة والطبراني في الأوسط وابن عدى والحاكم وأحمد وأبو يعلى والبزار كلهم من رواية سهل بن إبراهيم العطفى عن ثابت عن أنس رضى الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال في هذه الآية «قال الله تعالى: أنا أهل أن أتقى- إلى آخره» قال الترمذي والطبراني وابن عدى: تفرد به سهل. ورواه الحكيم الترمذي في السابع والسبعين بعد المائة، بلفظ «قال: هو أهل أن يتقى. فمن اتقى فهو أهل أن يغفر له» وله شاهد من رواية عبد الله قال سمعت ثلاثة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا هريرة وابن عمر وابن عباس رضى الله عنه يقولون: سئل رسول الله ﷺ عن قوله تعالى فذكره.
(٢). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.
657
إدخال «لا» النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم. قال امرؤ القيس:
لا وأبيك أبنة العامرىّ لا يدّعى القوم أنّى أفرّ «١»
وقال غوثة بن سلمى:
ألا نادت أمامة باحتمال لتحزننى فلا بك ما أبالى «٢»
وفائدتها توكيد القسم، وقالوا إنها صلة مثلها في لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ وفي قوله:
في بئر لا حور سرى وما شعر «٣»
واعترضوا عليه بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوّله، وأجابوا بأنّ القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض، والاعتراض صحيح، لأنها لم تقع مزيدة إلا في وسط الكلام، ولكن الجواب غير سديد. ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته. والوجه أن يقال: هي للنفي. والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له يدلك عليه قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إنّ إعظامى له بإقسامى به كلا إعظام، يعنى أنه يستأهل فوق ذلك. وقيل إن «لا» نفى لكلام
(١). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٦٩٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢).
إذا نادت أمامة باحتمال لتحزننى فلا بك ما أبالى
فسيرى ما بدا لك أو أقيمي فأيا ما أتيت ففي نقالى
لغوثة بن سلمى بن ربيعة، يقول: إذا أظهرت أمامة محبوبتى أمارات الارتحال عنى لتحزننى، فأطلق النداء على ذلك مجازا. ويروى «ألا» بدل «إذا» ولا زائدة قبل القسم، لأن المعنى فبحقك وحياتك ما أبالى ولا أحزن، وحسن زيادتها: أنها في الغالب مسلطة على دعوى الخصم نافية لها، وفي القسم بمحبوبته على عدم المبالاة ببعدها عنه نوع تهكم بها. وقيل: المعنى فلا يقع ما أبالى على الدعاء، وهذا إنما يظهر على رواية: فلا بك ما أبالى، وأصله يكن، أى: يحصل، فحذفت النون عند الجزم تخفيفا. وما موصولة. ويروى: فآبك، أى: أبعدك الله: دعاء أيضا. والتقالى: التباغض، أى: فسيرى ما دام يظهر لك المسير، أو أقيمى، فهما منك سواء، وأى شيء تفعلينه فهو ناشئ عن تباغض بيني وبينك، ومع ذلك لا أعتنى بشأنك لأنى مشغول بأهم منك: وهو موت أقاربه، والتفت إليها بالخطاب ليصدعها بالجواب.
(٣).
في بئر لا حور سرى وما شعر بافكه حتى إذا الصبح حشر
«لا» زائدة بين المضاف والمضاف إليه شذوذا. والحور- بالضم-: الهلكة جمع حائر أى هالك، كبزل وبازل، ونزل ونازل. وقيل: الحور بمعنى الهلاك، وجمعه: أحور، أى: سرى في بئر هلاك وما درى بذلك. وقوله «بافكه» يجوز تعلقه بشعر، ويجوز تعلقه بسرى، وشبه سبب الهلاك بالبئر على طريق التصريح التحير والضرر بالوقوع في كل، ولذلك قال: سرى، وهو يناسب الظلمة والحيرة، لأنه بمعنى سار ليلا. والافك: الباطل، واستعار الصبح الحق على طريق التصريحية، وحشر: أضاء واتضح، فحينئذ تبين كذبه، أى: دام على كذبه حتى ظهر الحق
658
وردّ له قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث فقيل: لا، أى ليس الأمر على ما ذكرتم، ثم قيل:
أقسم بيوم القيامة. فإن قلت: قوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ والأبيات التي أنشدتها: المقسم عليه فيها منفي، فهلا زعمت أنّ «لا» التي قبل القسم زيدت موطئة النفي بعده ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف هاهنا منفيا، كقولك لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، لا تتركون سدى؟
قلت: لو قصر الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول ماغ، ولكنه لم يقصر. ألا ترى كيف لقى لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ بقوله لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وكذلك فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ بقوله إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وقرئ: لأقسم، على أنّ اللام للابتداء. وأقسم خبر مبتدإ محذوف، معناه: لأنا أقسم. قالوا: ويعضده أنه في الإمام بغير ألف بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ بالنفس المتقية التي تلوم النفوس فيه أى في يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى أو بالتي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان. وعن الحسن: إن المؤمن لا تراه إلا لائما نفسه، وإنّ الكافر يمضى قدما لا يعاتب نفسه «١». وقيل: هي التي تتلوّم يومئذ على ترك الازدياد إن كانت محسنة.
وعلى التفريط إن كانت مسيئة. وقيل: هي نفس آدم، لم تزل تتلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة. وجواب القسم ما دل عليه قوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وهو لتبعثن. وقرأ قتادة: أن لن نجمع عظامه، على البناء للمفعول. والمعنى: نجمعها بعد تفرقها ورجوعها رميما ورفاتا مختلطا بالتراب، وبعد ما سفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض. وقيل إن عدى ابن أبى ربيعة ختن الأخنس بن شريق «٢» وهما اللذان كان رسول الله ﷺ يقول فيهما: «اللهم اكفني جارى السوء» «٣» قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أو من به أو يجمع الله العظام، فنزلت بَلى أوجبت ما بعد النفي وهو الجمع، فكأنه قيل بَلى نجمعها. وقادِرِينَ حال من الضمير في نجمع، أى: نجمع العظام قادرين على تأليف جميعها وإعادتها إلى التركيب الأول، إلى أن نسوى بنانه أى: أصابعه التي هي أطرافه، وآخر ما يتم به خلقه. أو على أن نسوى بنانه ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت، فكيف بكبار العظام. وقيل: معناه بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوى أصابع يديه
(١). قوله: «وأن الكافر يمضى قدما لا يعاتب» في الصحاح مضى قدما- بضم الدال-: لم يعرج ولم ينثن اه. (ع)
(٢). قوله «ختن الأخنس بن شريق» في الصحاح «الختن» بالتحريك: كل من كان من قبل المرأة مثل الأب والأخ، وعند العامة: ختن الرجل زوج ابنته. (ع)
(٣). ذكره الثعلبي والبغوي، والواحدي بغير إسناد. [.....]
659
ورجليه، أى نجعلها مستوية شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار لا تفرق بينها، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال، والبسط والقبض، والتأتى لما يريد من الحوائج. وقرئ قادرون، أى: نحن قادرون، بَلْ يُرِيدُ عطف على أَيَحْسَبُ فيجوز أن يكون مثله استفهاما، وأن يكون إيجابا على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر. أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: يقدم الذنب ويؤخر التوبة. يقول: سوف أتوب، سوف أتوب: حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله وأسوإ أعماله يَسْئَلُ سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة في قوله أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ونحوه: ويقولون متى هذا الوعد.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٧ الى ١٥]
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١)
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)
بَرِقَ الْبَصَرُ تحير فزعا، وأصله من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره. وقرئ:
برق من البريق، أى لمع من شدة شخوصه. وقرأ أبو السمال: بلق إذا انفتح وانفرج. يقال:
بلق الباب وأبلقته وبلقته: فتحته وَخَسَفَ الْقَمَرُ وذهب ضوؤه، أو ذهب بنفسه. وقرئ:
وخسف على البناء للمفعول وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ حيث يطلعهما الله من المغرب. وقيل:
وجمعا في ذهاب الضوء «١» وقيل: يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار. وقيل يجمعان ثم يقذفان في البحر، فيكون نار الله الكبرى الْمَفَرُّ بالفتح المصدر، وبالكسر:
المكان. ويجوز أن يكون مصدرا كالمرجع. وقرئ بهما كَلَّا ردع عن طلب المفرّ لا وَزَرَ لا ملجأ، وكل ما التجأت إليه من جبل أو غيره وتخلصت به فهو وزرك إِلى رَبِّكَ
خاصة يَوْمَئِذٍ
مستقرّ العباد، أى استقرارهم، يعنى: أنهم لا يقدرون أن يستقرّوا إلى غيره وينصبوا إليه. أو إلى حكمه «٢» ترجع أمور العباد، لا يحكم فيها غيره، كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ أو إلى ربك مستقرّهم، أى: موضع قرارهم من جنة أو نار، أى: مفوض ذلك إلى مشيئته، من شاء أدخله
(١). قوله «وقيل وجمعا في ذهاب الضوء» لعله: وقيل جمعا. (ع)
(٢). قوله «وينصبوا إليه أو إلى حكمه» في الصحاح «نصب القوم» : ساروا يومهم، وهو سير لين، ونصب الرجل- بالكسر- نصبا: تعب. (ع)
الجنة ومن شاء أدخله النار بِما قَدَّمَ
من عمل عمله
وَبما أَخَّرَ
منه لم يعمله أو بما قدم من ماله فتصدق به، أو بما أخره فخلفه. وبما قدم من عمل الخير والشر، وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة فعمل بها بعده. وعن مجاهد: بأوّل عمله وآخره. ونحوه: فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه بَصِيرَةٌ
حجة بينة وصفت بالبصارة على المجاز، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً أو عين بصيرة. والمعنى أنه ينبأ بأعماله وإن لم ينبأ، ففيه ما يجزئ عن الإنباء، لأنه شاهد عليها بما عملت، لأنّ جوارحه تنطق بذلك يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها. وعن الضحاك: ولو أرخى ستوره، وقال: المعاذير الستور، واحدها معذار، فإن صح فلأنه يمنع رؤية المحتجب، كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب. فإن قلت: أليس قياس المعذرة أن تجمع معاذر لا معاذير؟ قلت: المعاذير ليس بجمع معذرة، إنما هو اسم جمع لها، ونحوه: المناكير في المنكر.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١٦ الى ٢٥]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)
الضمير في بِهِ
للقرآن، وكان رسول الله ﷺ إذا لقن الوحى نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى أن يتمها، مسارعة إلى الحفظ وخوفا من أن يتفلت منه، فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضى إليه وحيه، ثم يقفيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه. والمعنى: لا تحرّك لسانك بقراءة الوحى ما دام جبريل صلوات الله عليه يقرأ لِتَعْجَلَ بِهِ
لتأخذه على عجلة، ولئلا يتفلت منك. ثم علل النهى عن العجلة بقوله إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
في صدرك وإثبات قراءته في لسانك فَإِذا قَرَأْناهُ
جعل قراءة جبريل قراءته: والقرآن: القراءة فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
فكن مقفيا له فيه ولا تراسله، وطأ من نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ، فنحن في ضمان تحفيظه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ إذا أشكل عليك شيء من معانيه، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعا، كما ترى بعض الحراص على العلم، ونحوه وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، كَلَّا ردع لرسول الله ﷺ عن عادة العجلة وإنكار لها عليه، وحث على الأناة والتؤدة، وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله
661
بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ كأنه قال: بل أنتم يا بنى آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ وقرئ بالياء وهو أبلغ. فإن قلت: كيف اتصل قوله لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلى آخره، بذكر القيامة؟ قلت: اتصاله به من جهة هذا للتخلص منه، إلى التوبيخ بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة. الوجه: عبارة عن الجملة «١». والناضرة:
من نضرة النعيم إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول. ألا ترى إلى قوله إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ، إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم، فإنّ المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا «٢» إليه:
محال، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بى، تريد معنى التوقع والرجاء. ومنه قول القائل:
وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعما «٣»
وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم، ويأوون إلى مقائلهم. تقول:
عيينتى نويظرة إلى الله وإليكم، والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه، والباسر: الشديد العبوس، والباسل: أشد
(١). قال محمود: «الوجوه كناية عن الجملة، وقدم إلى ربها ليفيد الحصر... الخ» قال أحمد: ما أقصر لسانه عند هذه الآية، فكم له يدندن ويطبل في جحد الرؤية ويشقق القباء ويكثر ويتعمق، فلما فغرت هذه الآية فاه:
صنع في مصادمتها بالاستدلال، على أنه لو كان المراد الرؤية لما انحصرت بتقديم المفعول، لأنها حينئذ غير منحصرة على تقدير رؤية الله تعالى، وما يعلم أن المتمتع برؤية جمال وجه الله تعالى لا يصرف عنه طرفه، ولا يؤثر عليه غيره، ولا يعدل به عز وعلا منظورا سواه، وحقيق له أن يحصر رؤيته إلى من ليس كمثله شيء، ونحن نشاهد العاشق في الدنيا إذا أظفرته برؤية محبوبه لم يصرف عنه لحظه، ولم يؤثر عليه، فكيف بالمحب لله عز وجل إذا أحظاه النظر إلى وجهه الكريم، نسأل الله العظيم أن لا يصرف عنا وجهه، وأن يعيذنا عن مزالق البدعة ومزلات الشبهة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(٢). قوله «لو كان منظورا إليه» عدم كونه منظور إليه تعالى مبنى على مذهب المعتزلة، وهو عدم جواز رؤيته تعالى. ومذهب أهل السنة جوازها. ويجوز أن يكون تقديم المفعول هنا للاهتمام بذكر المنظور إليه، الذي يقتضى النظر إليه نضرة وجوه الناظرين، لا للاختصاص. (ع)
(٣). يقول: وإذا رجوت مكارمك زدتني نعما فالنظر إليه كناية عن ذلك. ويجوز أن المعنى: بمجرد نظري إليك تجيبني فوق مسئولى، ولا تحتاج إلى التصريح بالطلب. ومن ملك: تمييز مقترن بمن. والبحر دونك: جملة اعتراضية أو حالية، أى: أقل منك في الخيرات والمكارم.
662
منه، ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه تَظُنُّ تتوقع أن يفعل بها فعل هو في شدّته وفظاعته فاقِرَةٌ داهية تقصم فقار الظهر، كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠)
كَلَّا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك، وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين. والضمير في بَلَغَتِ للنفس وإن لم يجر لها ذكر، لأنّ الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها، كما قال حاتم:
أماويّ ما يغنى الثّراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر «١»
وتقول العرب: أرسلت، يريدون: جاء المطر، ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء التَّراقِيَ العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال. ذكرهم صعوبة الموت الذي هو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها: وقال حاضر وصاحبها- وهو المحتضر- بعضهم لبعض مَنْ راقٍ
أيكم يرقيه مما به؟ وقيل: هو من كلام ملائكة الموت: أيكم يرقى بروحه؟
ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وَظَنَّ المحتضر أَنَّهُ الْفِراقُ أنّ هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة وَالْتَفَّتِ ساقه بساقه والتوت عليها عند علز «٢» الموت. وعن قتادة:
ماتت رجلاء فلا تحملانه، وقد كان عليهما جوالا. وقيل: شدّة فراق الدنيا بشدّة إقبال
(١).
أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
أماوى إن المال غاد ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر
وقد علم الأقوام لو أن حاتما أراد ثراء المال كان له وفر
لحاتم الطائي، والهمزة النداء ومأوى: مرخم، أصله: ماوية، اسم أمه وهي بنت عفير، وكانت تلومه. وأصله:
نسبة للماء، لأنها تشبهه في اللين والرقة والصفاء والثراء. والثروة: الغنى. والحشرجة: تردد صوت النفس في الصدر. والضمير النفس وإن لم تذكر ادعاء لشهرتها. روى أنه لما احتضر أبو بكر رضى الله عنه قالت له عائشة لعمرك ما يغنى... البيت» فقال: لا تقولي هذا يا بنية وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ وهي قراءة منسوبة إليه وكرر نداء ماوية التقريع، وغاد ورائح: آت وذاهب. وقوله «من المال» أى من آثاره، ولو كفت «علم» عن العمل في المفعول وعبر عن نفسه بالظاهر، لأن هذا الكلام تتحدث به نفوس الأقوام، فاعتبر صدوره منهم.
وثراه المال: الغنى به، أو جمعه. والوفر: الزيادة والمال الكثير.
(٢). قوله «علز الموت» هو كالرعدة تأخذ المريض. (ع)
الآخرة، على أن الساق مثل في الشدّة. وعن سعيد بن المسيب: هما ساقاه حين تلفان في أكفانه الْمَساقُ أى يساق إلى الله وإلى حكمه.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣١ الى ٣٥]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى يعنى الإنسان في قوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ألا ترى إلى قوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً وهو معطوف على يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أى: لا يؤمن بالبعث، فلا صدق بالرسول والقرآن، ولا صلى. ويجوز أن يراد: فلا صدق ماله، بمعنى: فلا زكاه. وقيل: نزلت في أبى جهل يَتَمَطَّى يتبختر. وأصله يتمطط، أى:
يتمدد، لأنّ المتبختر يمدّ خطاه. وقيل: هو من المطا وهو الظهر، لأنه يلويه. وفي الحديث:
«إذا مشت أمتى المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد جعل بأسهم بينهم» «١» يعنى: كذب برسول الله ﷺ وتولى عنه وأعرض، ثم ذهب إلى قومه يتبختر افتخارا بذلك أَوْلى لَكَ بمعنى ويل لك، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)
فَخَلَقَ فقدر فَسَوَّى فعدل مِنْهُ من الإنسان الزَّوْجَيْنِ الصنفين أَلَيْسَ ذلِكَ الذي أنشأ هذا الإنشاء بِقادِرٍ على الإعادة. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه
(١). أخرجه الترمذي وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى. وابن عدى من رواية موسى بن عبيدة عن عبد الله ابن دينار عن ابن عمر. وموسى ضعيف. وروى الترمذي أيضا والبزار عن محمد بن إسماعيل عن أبى معاوية عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن دينار نحوه. قال الترمذي: ليس له أصل. وإنما المعروف حديث موسى بن عبيدة.
وقال البزار: لا نعلم أحدا تابع عليه محمد بن إسماعيل وإنما يعرف عن موسى. واختلف فيه على يحيى بن سعيد.
فرواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة عنه عن عبيد عن خولة بنت قيس. ورواه الطبراني في الأوسط من رواية ابن لهيعة عن عمارة بن خزيمة عن يحيى بن بخنس مولى الزبير عن أبى هريرة. ورواه الأصبهانى في الترغيب من طريق فرج بن فضالة عن يحيى بن بخنس مرسلا.
Icon