تفسير سورة الأنفال

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمال للسورة
هذه السورة مدنية وآياتها خمس وسبعون. وهي تتضمن فيضا حافلا زخيرا من الأحكام والمواعظ والمشاهد. أولها الكلام عن الأنفال، وهو عنوان السورة. ويراد بالأنفال الغنائم. ونعرض لبيان ذلك من حيث أنواعه وأحكامه وأقوال العلماء فيه.
وتتضمن السورة ذكر المؤمنين الذين توجل قلوبهم بذكر الله، وسماع آياته البينات، والذين يقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة.
وتتضمن كذلك بيانا بحال المؤمنين لما اختلفوا فيما يفعلونه في المشركين ذوي الشوكة، هل يقاتلونهم في بدر أو يكفون عن قتالهم ويكتفون بأخذ العير الموقرة بأموال قريش. ثم كتب الله التوفيق للمؤمنين الراغبين في الجهاد ؛ إذ قاتلوهم وانتصروا عليهم بعون الله وتعزيزه لهم. وفي ذلك ما يؤكد للمسلمين طيلة الدهر أن النصر بيد الله وحده يؤتيه من يشاء من عباده العاملين المخلصين ﴿ وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ﴾.
ويأمر الله في السورة عباده المؤمنين أن يثبتوا في ساحة الجهاد وهم يواجهون أعداء الله فلا يولون الأدبار ؛ فإنه لا يولي الكافرين دبره عند اللقاء إلا من باب بالغضب من الله وكان مأواه جهنم. ولما أظهر الله المؤمنين في بدر وأظفرهم على المشركين بين لهم أن ما تحصل لهم من النصر على عدوهم لم يكن بقوتهم واقتدارهم بل كان بمشيئة الله وفضله وامتنانه ؛ إذ كتب النصر لعباده المؤمنين الصابرين، على ضعف عدتهم وقلة عددهم.
ويحذر الله في السورة عباده المؤمنين من كل فتنة لا تقتصر في الإصابة والإضرار على الظالمين وحدهم. ولكنها تصيب الظالمين والمؤمنين على السواء فما ينجو منها أحد. وثمة تفصيل في السورة لهذا المعنى نعرض له في حينه إن شاء الله.
وفي السورة تذكير من الله لعباده المؤمنين بحالهم في مكة ؛ إذ كانوا قلة وكانوا مستضعفين، ثم أيدهم الله بتكثيرهم وجعلهم آمنين بعد أن كانوا خائفين. إلى غير ذلك من وجوه النعمة والرزق الذي من الله به على المؤمنين الصابرين. فعليهم بذلك أن يذكروا تلك النعم ولا ينسوها، ويبادروا دائما بطاعة الله وشكره على مننه وإفضاله.
وفي السورة بيان لمكر الكافرين وكيدهم للرسول صلى الله عليه وسلم وتمالئهم عليه وتشاورهم فيما بينهم بشأنه، هل يحبسونه فلا يخرج، أو يقتلونه، أو يخرجونه خارج مكة. ثم وقع رأيهم وكيدهم على ابتغاء قتله عليه السلام، لكنهم خابوا وخسروا وباءوا بالفشل والخزي، فقد نجي الله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم في حدث إعجازي جلل ومذهل. حدث ينطق في صدع وجهار أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه ﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾.
وتكشف السورة عن تواطؤ الكافرين جميعا على النيل من الإسلام والمسلمين ؛ فهم يتمالئون في كل زمان ليكيدوا للإسلام كيدا، وينفقون في سبيل هذه الغاية الخبيثة الأموال الهائلة. لكنهم سوف يبرءون في النهاية بالخزي والفشل في هذه الدنيا ثم يفضون في الآخرة إلى جهنم وبئس المصير.
ويأمر الله المؤمنين بقتال المشركين حتى تكون كلمة الإسلام هي العليا، ويكون منهج الله هو المسيطر والنافذ في العالم دون غيره من الملل والمذاهب الفاسدة الضالة. وإذ ذاك تنتهي ويعم الأمن ويشيع الرخاء في العالم كله، وهو قوله :﴿ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴾.
وفي السورة تشريع للغنية بتخميسها. وهو أن يكون خمسها لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وأربعة الأخماس الأخرى للمقاتلين.
وفي السورة وصف للظروف النفسية والواقعية التي سبقت غزوة بدر الكبرى. وبذلك فإن الله يأمر عباده المؤمنين بالثبات عند لقاء العدو، وليذكروا الله ذكرا كثيرا ليكونوا من المفلحين. ويحذرهم دائما من التنازع والشقاق والخصام فيما بينهم لما في ذلك من مدعاة لزوال شوكتهم وبأسهم وانهيارهم بالكلية.
وفي السورة تنديد بالخيانة ونقض العهود إلا أن يخاف المسلمون من غدر المعتدين الظالمين. فإن خافوا خيانتهم وغدرهم نبذوا إليهم عهدهم وميثاقهم، بإعلامهم جهارا وعلانية أنهم نقضوا العهد معهم.
ويأمر الله المسلمين بإعداد القوة لمقاتلة المشركين المعتدين ما استطاعوا إلى الإعداد سبيلا.
وتبين تفضيلا تأويل قوله :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾ كيلا يكون بعد ذلك مجال لمتحذلق متأول كذوب، أو مفتر مغرض منافق، أو منتفع دجال مريب، يحمل هذه الآية غير ما تحتمل.
ويأمر الله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يحرض المؤمنين على قتال المشركين الظالمين المتربصين، الذين يعتدون على المسلمين في دينهم بالفتنة، وفي أموالهم وثرواتهم بالنهب والسلب، وفي أوطانهم وبلادهم وبالاغتصاب والاحتلال، وفي كراماتهم وشرفهم بالامتهان والإذلال.
وفي السورة تشريع لمسألة الأسرى نعرض لها بالتبيين إن شاء الله.

بيان تفصيلي للسورة
بسم الله الرحمان الرحيم
قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ١ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ٢ الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ٣ أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ﴾.
في سبب نزل هذه الآية روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم اله تعالى العدو فانطلقت طائفة في أثارهم يهزمون ويقتلون، وأقبلت طائفة على العسكر يحزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فزلت :﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ﴾ الآية.
وروي الإمام احمد أيضا عن أبي أمامة قال : سألت عبادة عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء ؛ أي عن سواء١.
إذ تبين ذلك، فإنه رب سائل يسأل عن مثل هذا الاختصام على المال والغنيمة بين الرعيل الأول، أو الصفوة الأولى من المسلمين وهم الصحابة. ولا داعي للاستغراب أو العجب، وإذا تذكرنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر من البشر وإن كانوا كراما عظاما مميزين في عطائهم وإخلاصهم وجزيل فضلهم وصنيعهم. فهم بشر تسري فهن طبائع الأناسي المخاليق. لا عجب ولا الحالة هذه أن تتجلى فيهم ظواهر الآدمية الأساسية كالرغبة في الامتلاك، والخصام من أجل تحصيله. ومثل هذه الظواهر والخصال الخليقة لا ينجو منها كائن عاقل إلا أن يكون مميزا بنبوة أو وحي، أو كان من جنس الملائكة النورانيين. أما غير هؤلاء من بن آدم ؛ فإنهم قد جيء بهم على هذه الطبيعة ذات الاستعداد المزدوج من السمو في مدارج الكمال وجنوح النفس لأخذ بحظها من الدنيا كالمال ونحوه. ومع ذلك كله فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظيم فضلهم وروعة صنيعهم وهائل تضحياتهم وكامل إيثارهم يظلون الصفوة المفضلة التي تأتي في المقدمة من سلم البشرية.
وإذا ما قورنت بالصحابة بقية الناس من سائر البشر، كان البون بين الفريقين كالبون بين المشرقين. فلا مجال بعد ذلك لمتعثر أفاك أن يفتري الكذب والغمر على خير طائفة أقلتها هذه الأرض. لا جرم أن طائفة الصحابة نجوم الدنيا/ فيستضاء بنورهم وعلمهم طوال هذا الزمان بالرغم من افتراء الكاذبين والحاقدين والحاسدين.
أما الأنفال، فهي جمع نفل بالتحريك، ومعناه الغنية والهبة. والنفل : الزيادة على الواجب، وهو التطوع. والنافلة معناها الغنيمة والعطية٢. ومعنى الآية : يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي اغتنمتها أنت وأصحابك يوم بدر لمن هي، فقل هي لله ولرسوله. أي أن حكمها مختص بالله ورسوله، فيأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته. والرسول صلى الله عليه وسلم من جهته يمتثل أمر الله فيها. فليس الأمر في قسمتها مفوضا إلى رأي أحد منكم.
ولا ينبغي التساؤل في هذا الصدد –كما يتساءل كثير من خصوم الإسلام والمارقين- عن طبيعة المنطق الذي يجوز بمقتضاه اغتنام أموال الكافرين في الحرب. وجواب ذلك أن الكافرين أهل الفساد وباطل، وهم بكفرهم وتمردهم على منهج الله الحق، سادرون في غيهم وظلمهم في هذه الدنيا. وهم بأموالهم يتقوون على الإفساد وإشاعة الخراب والشر، ويزدادون به قدرة على الإيذاء والإضرار بالعباد ؛ لأنهم عاتون ظالمون لا تأخذهم في البشرية رحمة ولا عدل ولا لين. فلزم بذلك أن يجردوا من الأسباب التي تمكنهم من إشاعة الفتن والمصائب والمخاوف والفوضى بين الشعوب. وأبزر سبب في هاتيك الأسباب، الأموال وهي سبيل التعزيز والتقوية للظالمين المفسدين في الأرض. وعلى هذا لا غرابة في تقدير المنطق السليم ان تنتزع أموال هؤلاء الذين يؤذون البشر ويعتدون على الناس بقوتهم وكل طاقاتهم العقلية والمادية، وفي طليعتها المال الذي يوطئ لهم سبيل الظلم والعدوان ؛ فلا غضاضة بذلك في انتزاع هذه الوسيلة إذهابا لكيد الظالمين المعتدين، وإخمادا لمكرهم أن يمس العالمين.
قوله :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ﴾ أي خافوا الله بطاعة أوامره واجتناب معاصيه ﴿ وأصلحوا ذات بينكم ﴾ أي أصلحوا حال ما بينكم. أو أصلحوا ما بينكم من الحال حتى تكون حال ألفة وحبة واتفاق وليس حال ما تخاصم واستياب وتشاح. ﴿ وأطيعوا الله ورسوله ﴾ أي انتهوا أيها الذين طلبتهم الأنفال، إلى أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أفاءه عليكم ؛ فقد بين الله لكم وجوه ما أفاءه عليكم وكيفية تقسيمه ؛ فأطيعوا والتزموا ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي إن كنتم مصدقين رسول الله فيما أتاكم به من عند الله ؛ فسلموا لله ولرسوله فيما حكم في الأنفال.
١ تفسير ابم كثير جـ ٢ ص ٢٨٣ وأسباب النزول للنيسابوري ص ١٥٥..
٢ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٦٠..
قوله :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾ ذلك وصف لحقيقة المؤمن ؛ فإنه يبادر بطاعة الله ورسوله ولا ينثني أو يتردد في التزام شرع الله وأحكامه سواء في الغنائم أو غيرها. والمؤمن شديد الوجل ( الخوف ) من الله. فإذا ذكر الله في موعظة من عقابه أو وعيده أو عظيم سلطانه وجبروته وجلت قلوب المؤمنين وانقادت لجلا الله فرقا من غضبه وعذابه.
قوله :﴿ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ﴾ إذا تلين آيات القرآن الحكيم بمعانيه الكبيرة، وبجرسه المؤثر النفاذ، وإيقاعه الرائع الموحي ؛ ازدادت قلوب المؤمنين تصديقا على تصديق وخشية فوق خشية، وغمرت صدورهم بهجة عاطرة ندية من الانشراح والحبور والإثلاج.
قوله :﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ وهذه صفة ظاهرة لأهل الإيمان ؛ فهم على الدوام متوكلون على الله مفوضون الأمر الله. وتلك صفة المؤمن إذا اضطلع بما عليه من واجبات وأسباب فوض أمره بعد ذلك إلى ربه ؛ فهم سبحانه عليه الاعتماد والتكلان.
قوله :﴿ الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ﴾ وهذه كذلك صفة من صفات المؤمنين الظاهرة. وهي أنهم يؤدون الصلوات المفروضة أداء تاما قويما، وينفقون مما رزقهم الله من الأموال في وجوه الطاعات والبر، كالزكاة المفروضة، وصدقات التطوع، والنفقة على ن تجب لهم النفقة، وبذل المال في وجوهه الواجبة والمسنونة ؛ كالجهاد والحج والاعتمار والإنفاق على المساجد وبناء الطرق والجسور تيسيرا للمسلمين وتحقيقا لمصالحهم.
قوله :﴿ أولئك هم المؤمنون حقا ﴾ الإشارة إلى المتصفين بالصفات المتقدمة. وهو مبتدأ، وخبره ﴿ هم المؤمنون حقا ﴾ أي هؤلاء هم الكاملون إيمانا. وهم الذين استحقوا الإيمان بحق فأحقه الله لهم. نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا منهم.
قوله :﴿ لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ﴾ هؤلاء الذين وصفه الله بصفات المؤمنين ﴿ لهم درجات عند ربهم ﴾ أي رفيع المراتب في الجنة. ولهم أيضا ﴿ مغفرة ﴾ إذ يمحو الله لهم الخطايا، ويعفو لهم عن الذنوب بالتغطية والستر، ولهم كذلك ﴿ رزق كريم ﴾ وهو ما أعده الله للمؤمنين في الجنة من هنيء العيش وطيب المقام حيث المآكل والمشارب والأمن والراحة والسكينة والطمأنينة١.
١ تفسير الطبري جـ ٩ ص ١١٩- ٢١٢ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٨٦ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ١٢٢- ١٢٥..
قوله تعالى :﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ٥ يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم يظنون ٦ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلمته ويقطع دابر الكافرين ٧ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ﴾.
الكاف في قوله :﴿ كما ﴾ للتشيبه، وفيها ثلاثة أوجه : الأول : أنها في موضع نصب صفة لمصدر محذوف دل عليه الكلام. وتقديره : قل الأنفال ثابتة لله والرسول ثبوتا كم أخرجك ربك.
الثاني : أنها صفة لمصدر محذوف وتقديره : يجادلونك جدلا كما أخرجك.
الثالث : أنها وصف لقوله :﴿ حقا ﴾ وتقديره : أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك١.
واختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله :﴿ كما أخرجك ربك ﴾ فقد قيل في معنى ذلك : إن الله تعالى يقول : كما أنكم لما اختلفتم في المغاني وتخاصمتم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم وجعلها إلى قسم الله ورسوله فقسمها بينكم على التسوية والعدل ؛ لكون ذلك هو المصلحة الكاملة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج لقتال ذات الشوكة، وهم النفير الذين حرجوا لإحراز عيرهم والقتال دون أصنامهم وشركهم، فكان عاقبة كرههم للقتال أن قدره الله عليكم فجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد فكتب لكم فيه النصر والخير ﴿ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ وقيل : معنى ذك : كما أخرجك ربك يا محمد من بيتك بالحق على كره من فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ؛ فهم يجادلونك فيه بعدما تبين لهم٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨٣..
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ص ٢٨٦ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ١٢٢..
قوله :﴿ يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون ﴾ جملة ﴿ يجدلونك ﴾ في محل نصب على الحال. وتفصيل المعنى : أنه لما ندب الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى العير، وفاتتهم العير، وأمرهم الله بقتال المشركين من غير استعداد ولا كثير أهبة، شق ذلك عليهم وقالوا : لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا له عدته ؛ فهم بذلك يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ في الحق ﴾ أي في القتال ﴿ بعد ما تبين لهم ﴾ أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بشيء إلا بإذن الله. وقيل : بعد ما تبين لهم ان الله وعدهم إما الظفر بالعير أو بالمشركين من أهل مكة. فإذا فاتت العير فلابد بعد ذلك من لقاء أهل مكة والظفر بهم. والمراد من ذلك، الإنكار لمجادلة المسلمين. وهم في مجادلتهم هذه ﴿ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ﴾ أي أن هؤلاء الذين يجادلون في لقاء العدو، إذا دعوا للقائهم من أجل القتال، كأنما يساقون إلى الموت، من فرط كراهيتهم لقتالهم ﴿ وهم ينظرون ﴾ أي يشاهدون أسباب الموت ولا يشكون فيها ؛ فهم يعلمون أن ذلك واقع بهم لا محالة.
قوله :﴿ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ﴾ إذ متعلقة بفعل مقدر، وتقديره : واذكر يا محمد ؛ إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنهم لكم. وإحدى الطائفتين في محل نصب مفعول به ثان للفعل يعد. والمفعول الأول الكاف والميم في قوله :﴿ يعدكم ﴾ وأنها لكم، بدل اشتمال من إحدى١ ؛ أي اذكروا أيها القوم إذ يعدكم الله أن تظفروا بإحدى الفريقين، وهما فرقة أب سفيان والعير التي معه، وفرقة المشركين الذين نفروا من مكة لمنع عيرهم ﴿ أنها لكم ﴾ أي أن تظفروا بما فيها من غنيمة. لكنكم أنتم تودون أن تظفروا بالطائفة الضعيفة التي ليس لها شوكة ؛ أي قوة او سلاح وهي طائفة العير، دون جماعة قريش الذين جاءوا لقتالكم.
قوله :﴿ ويريد الله أن يحق الحق بكلمته ويقطع دابر الكافرين ﴾ يريد الله أن يظهر الإسلام ﴿ بكلمته ﴾ أي بأمره إياكم أن تقاتلوا الكافرين، وأنتم تريدون الغنيمة والمال ﴿ ويقطع دابر الكافرين ﴾ أي يريد الله أن يجب٢ أصل هؤلاء المشركين جبا، فيقضي عليهم بالكلية. والدابر معناه المتأخر. وقطع الدابر يعني الإتيان على الجميع، فما يقتل الأخير من القيوم إلا بعد أن يقتل القوم جميعا.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨٣..
٢ يجب، جبا وجيايا؛ أي يقطع قطعا. ومنه حديث: (إن الإسلام يجب ما قبله) أي قطع ويمحو ما كان قبله من الكفر والذنوب. ويقال: جب الخصية: استأصلها. انظر المعجم الوسيط جـ ١ ص ١٠٤..
قوله :﴿ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ﴾ أي ليظهر الله دين الإسلام. وذلك هو تحقيق الحق ﴿ ويبطل الباطل ﴾ أي يمحقه ويزيله ولو كره ذلك الذين أجرموا من الكفار١.
١ الكشاف جـ ٢ ص ١٤٥ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٣٧٠ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ١٢٦..
قوله تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين ٩ وما جعله الله إلا بشرى ولنطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ﴾.
روي الإمام احمد في سبب نزول هذه الآية عن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال :( اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام ؛ فلا تعبد في الأرض أبدا ) قال : فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبه فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه ثم قال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك ؛ فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ التقوا فهزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا فقال أبو بكر : يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما ترى يا بان الخطاب ) قال : قلت : والله ما أرى ما أرى أبو بكر. ولكني أرى أن تمكنني من فلان –قريب لعمر- فأضرب عنقه ؛ حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد، قال عمر : فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت : ما يبكيك أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. قال النبي صلى الله عليه وسلم :( للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة ) لشجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم. وأنزل الله عز وجل :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾ فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء ؛ فقت منهم سبعون وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهمشت البيضة١ على رأسه وسال الدم على وجهه. وعن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر :( اللهم أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد ) فاخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك فخرج وهو يقول ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) رواه النسائي عن عبد المجيد الثقفي٢.
وقوله :﴿ إذ تستغيثون ﴾ بدل من ( إذ ) في قوله : إذ يعدكم٣ ؛ أي يستجيرون بربكم من عدوكم وتطلبون منه الغوث والنصر ﴿ فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ ومردفين، في موضع جر صفة لألف. وقيل : حال من ضمير ممدكم ؛ أي استجاب الله لاستغاثتكم ودعائكم فأمدكم بألف من الملائكة متتابعين ؛ أي فرقة بعد فرقة فيردف بعضهم بعضا ويتلو بعضهم بعضا.
١ البيضة: الخوذة. وبيضة القوم: حوزتهم وحماهم. وبيضة الدار: وسطها. انظر المعجم الوسيط جـ ١ ص ٧٩..
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ص ٢٨٩..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٤٨..
قوله :﴿ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله ﴾ أي لم يجعل الله إرداف الملائكة بعضها بعضا وتتابعها لتصير مددا لكم في الحرب ﴿ إلا بشرى ﴾ أي بشارة لكم تبشركم بنصر الله لكم على أعدائكم وكيما تسكن قلوبكم بجيأتهم إليكم غوثا فتوقن بنصر الله.
وذلك هو شأن الإنسان. فما يدرك بحسه حتى يزداد يقينا وتثبيتا، مع اليقين الكامل والمطلق أنه ﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ أي أن النصر من عند الله يكتبه لعباده المؤمنين العاملين المخلصين. وأولئك الذين يجازيهم الله بالنصر والتوفيق ما داموا صادقين مخلصين، وعلى منهج الله وحده سائرين، وعليه سبحانه معتمدين متوكلين، ومثل هذه الفئة المؤمنة الصادقة لا جرم أن يكتب الله لها النصر إذا استوفت واجباتها من الإعداد الديني والنفسي والمادي ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. تلك هي الفئة المؤمنة في كل زمان إذا استوفت ما عليها من الواجبات، وأدت ما في ذمتها من حقوق الله والبعاد، واستعدت للقاء العدو ما أمكنها من استعداد المادة والحس –وإن كان دون استعداد الكافرين- فإن الله جلت قدرته يكتب لهم النصر بعونه ومشيئته إنجازا لوعده القائم الدائم ﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ وقوله سبحانه :﴿ ولينصرن الله من ينصره ﴾ قوله :﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾ أي أن الله لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب. بل إنه عز وهلا القاهر فوق عباده، لا يهز عليه أن يقهر قاهر ولا يغلبه غالب. وهو كذلك ﴿ حكيم ﴾ أي فيما يفعل وفي تدبيره للكون والكائنات. فلا ينصر قوما أو يخذل آخرين إلا عن حكمة١ يعلمها هو. ولا ينصر المؤمنين أو يصرف عنهم النصر في بعض الأحيان إلا عن إرادته الربانية وحكمته الإلهية، فهو أعلم بمن يستحق النصر أو يستوجب الهزيمة٢.
١ الحكمة، تعني العدل والحلم والنبوة والقرآن والإنجيل، وأحكمه، أي أتقنه، فاستحكم ومنعه عن الفساد. انظر القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٠٠..
٢ تفسير الطبري جـ ٩ ص ١٢٧، ١٢٨ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٩٠، ٢٩١..
قوله تعالى :﴿ إذ يغشيكم النعاس أمنة وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ١١ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ١٢ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ١٣ ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ﴾ النعاس مفعول به ثان. أمنة منصوب على أنه مفعول لأجله١.
يذكر الله المؤمنين بما أنعم به عليهم من إلقاء النعاس عليهم ليأمنوا، وليجدوا في أنفسهم الراحة والسكينة مما أصابهم من خوف لما رأوه من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فغشاهم النعاس، أي ألقوه عليهم ﴿ أمنة ﴾ ليكون لهم من الله أمانا فيرقدون ساكنين مطمئنين وقد ذهب عنهم الخوف من عدوهم. مع أنه النعاس إنما يغشى الآمن الذي لا يخاف، لكن ذلك قد حصل للمؤمنين في الليلة التي كان القتال من غدها فكان النوم في مثل هذه الساعات المخوفة الحرجة أمرا عجيبا. ولكن الله الذي سلم وكتب للمؤمنين النصر هو الذي ربط جأشهم وامتن عليهم بالصبر واشتداد العزم، فوق ما غشيهم من النعاس ليأمنوا. وفي هذا أخرج الحافظ أو يعلي عن علي رضي الله عنه قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح.
قوله :﴿ وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ﴾ أنزل المطر على المسلمين يوم بدر ليتطهروا من حدث الجنابة أو دونها. فلما أصابهم الغيث من السماء اغتسلوا وتطهروا بعد أن كان الشيطان قد وسوس لهم بما يحزنهم أو يثير في نفوسهم القلق والتوجس، مما حاق بهم من الحرج وشدة العطاش وقلة العدد والعدة واستئثار المشركين بالماء دون المسلمين. لذلك قد ربط الله على قلوبهم بالأمن والتثبيت ؛ إذ أنزل عليهم المطر من السماء ليشربوا ويتطهروا وليمحق الله من نفوسهم ﴿ رجز الشيطان ﴾ وهي وسوسته٢، وكذلك ليربط على قلوبهم فينشر فيها الطمأنينة والثبات.
قوله :﴿ ويثبت به الأقدام ﴾ كان بينهم وبين عدوهم رملة لا يمشون عليها ولا تجوزها دوابهم إلا بجهد ومشقة ؛ إذ كانت تسوخ فيها الأرجل والأقدام، ولما أنزل الله لهم المطر اشتدت لهم الأرض وتلبدت، فباتت صلبة متماسكة، فمشى عليها الناس والدواب من غير مشقة ولا حرج مما زادهم أمنا وتثبيتا، وأمدهم بقوة مستجدة من الصبر ورباطة الجأش وشدة العزم على ملاقاة العدو.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٨..
٢ المهج الوسيط ج، ١ ص ٣٣٠..
قوله :﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ﴾ أوحي الله إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصرة نبيه ودينه والمؤمنين ﴿ أنى معكم ﴾ أي أنصركم وأؤيدكم، أو أتي مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم. ويقويه قوله :﴿ فثبتوا الذين آمنوا ﴾ أي اشددوا وأورهم وقووا عزائمهم. وقيل : كثروا سوادهم. وقيل : قاتلوا منعهم المشركين. وقيل : كان الملك يسير أما الصف في صورة الرجل وهو يخاطب المسلمين قائلا لهم : سروا فإن الله ناصركم، ويظن المسلمون أنه منهم. وذكر أن بعض المسلمين سمع قائلا من الملائكة يقول : أقدم حيزوم. وهم اسن لفرس من خيل الملائكة.
قوله :﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ أي سأملأ قلوب الكافرين فرقا ورعبا منكم حتى ينهزموا ويولوا الأدبار ويبوءوا بالتقهقر والعار.
قوله :﴿ فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ﴾ اختلفوا في تأويل الضرب فوق الأعناق، فقيل : معناه : اضربوا الأعناق. وقيل : فوق الأعناق يعني الرؤوس أي اضربوا الرؤوس. وقيل : اضربوا على الأعناق ؛ لأن على وفوق متقاربات في المعنى. والصواب ضرب ذلك كله. سواء فيه الجماجم والرؤوس والأعناق مما فيه إثخان ومقتلة. والواجب أن يقال : إن الله أمر بضرب رؤوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم.
قوله :﴿ واضربوا منهم كل بنان ﴾ أي اضربوا منهم كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم. وذلك على سبيل المبالغة في القتل والإثخان كسرا لشوكة الكفر وإذهابا لسطوة الظلم والظالمين. والبنان جمع بنانة ؛ وهي أطراف الأصابع لليدين والرجلين١.
١ المصباح المنير جـ ١ ص ٧٠..
قوله :﴿ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ﴾ ذك، في موضع رفع مبتدأ. والتقدير ذلك الأمر. أو خبر مبتدأ. وتقديره : الأمر ذلك١.
و ﴿ شاقوا الله ورسوله ﴾، مجاز ؛ أي شاقوا أولياء الله، ودين الله. وشاقوا، من الشقاق والمشاقة ؛ أي الخلاف والعداوة. و ﴿ شاقوا الله ورسوله ﴾، يعني فارقوا أمر اله ورسوله وعصوهما وأطاعوا أمر الشيطان. وقيل : شاقوا بمعنى جانبوا وصاروا في شق المؤمنين. والشق معناه الجانب٢.
والمقصود أن الأمر بضرب الكافرين فوق الأعناق وضرب كل بنان منهم إنما كان جزاء لهم بشقاقهم الله ورسوله، وهو مخالفتهم أمرهما، ومجانبتهم دينهما، واصطفافهم في شق مخالف لشقهما، وهو شق الظلم والظالمين. الشق المغاير لشق المؤمنين الصادقين.
قوله :﴿ ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ﴾ ذلك تهديد من الله للذين يشاقون الله ورسوله ؛ أي يخالفون عن أمر الله وأمر رسوله الكريم، ويفرقون طاعتهما ليسيروا في طريق الشيطان حيث الضلال والباطل تهديد لهم من الله بشديد العقاب في الدنيا ؛ إذا يستحقون فيها التقتيل لظلمهم وفسادهم، وفي الآخرة يكبكبون في النار على وجوههم داخرين مقبوحين خزايا.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨٥..
٢ القاوس المحيط ج، ٣ ص ٢٥٩ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص١٤٠ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ١٣٣..
قوله :﴿ ذالكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ﴾ ذلكم، خبر مبتدأ مقدر، وتقديره : والأمر ذلكم. وأن للكافرين معطوف على ﴿ ذالكم ﴾ وتقديره : والأمر أن للكافرين عذاب النار١ والمراد بالكلام هنا التوبيخ لهؤلاء الكافرين المشتاقين لله ورسوله ؛ أي هذا هو العقاب الذي عجله الله لكم في الدنيا وضرب فوق الأعناق، وضرب لكل بنان بأيدي المؤمنين ﴿ فذوقوه ﴾ فهو العاجل لكم، غير ما أعده الله لكم من العذاب الآجل يوم القيامة٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨٥..
٢ تفسير الرازي جـ ١٥ ص ١٤٠ والكشاف جـ ٢ ص ١٤٨ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٩٧ والطبري جـ ٩ ص ١٣٣..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ١٥ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ﴾ الزحف، المشي. تزحف إليه أي تمشي. والتزاحف : التداني والتقارب. وقيل : الزحف معناه المشي قليلا قليلا. وأصل الزحف للصبي أن يزحف على استه قبل أن يقوم، وشبه الزحف في الحرب بزحف الصبي ؛ إذ يذهب كل واحد من الطائفتين إلى صاحبتها للقتال فيمشي كل واحد منهما مشيا رويدا رويدا إلى الفئة الأخرى قبل التداني للحرب١.
ذلك تحريض من الله للمؤمنين حال القتال على أن لا يفورا بل يثبتوا ويقبلوا على لقاء العدو شجعانا بواسل لا يعطفهم عن ذلك جبن ولا تخاذل ولا خور، فيقول : إذا كنتم متزاحفين بعضكم إلى بعض، وأنتم يقترب ويتداني بعضكم من بعض للقاء في ساحة القتال فحذار أن تولوهم ظهورهم فتولوا منهزمين. بل اثبتوا فإن الله معكم، يثبتكم تثبيتا، وينصركم عليهم. وعلى هذا فإن الفرار يوم الزحف من غير سبب مشروع كبيرة من الكبائر التي وقع عليها التغليظ والنكير من الله ورسوله ؛ فقد روي البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اجتنبوا السبع الموبقات ) قيل : يا رسول الله وما هن ؟ قال :( الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتوالي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ).
واختلف العلماء هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر، أم هو عام في كل الزحزف إلى يوم القيامة ؟ فقد قيل : إن ذلك مخصوص بأهل بدر ؛ فلم يكن لهم أن يفروا ؛ إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم. وفي هذا القول نظر، وهو ضعيف ؛ فقد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، ولم يكونوا يرون أن يكون قتال بل ظنوا أنها العير فقط. وقالوا : إن حكم الآية هنا منسوخ بآية الضعف وسيأتي بيانها فيما بعد إن شاء الله. وبقي حكم الفرار من الزحف ليس بكبيرة، وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم.
وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية باقية إلى يوم القيامة ؛ فهي بذلك محكمة غير منسوخة بشرط الضعف الذي بينه الله في آية أخرى وهي ﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ أما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من مثليهم. فإن كان العدو أكثر من مثلي المسلمين جاز لهم الفرار ما لم يبلغ عددهم اثني عشر ألفا. فإن بلغ اثني عشر ألفا لم يحل لهم الفرار، وإن زاد عدد المشركين على مثليهم. وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة ) وبذلك فإن الصواب تحريم الفرار يوم الزحف في كل الأزمان على ما بيناه أنفا. فإن الفرار لا يجترئ عليه إلا الخائرون الخاسرون الذين يؤثرون أنفسهم على الإسلام والمسلمين والذين يرضون لأنفسهم الدنية، والاستخذاء ليكونوا مع الجبناء والرعناء وهم يأخذون في التسلل أو الهروب في خسة ومهانة فينجون بأنفسهم وحدهم تاركين إخوانهم المسلمين من خلفهم يقاتلون وحدهم العدو المتربص الظالم.
١ تفسير الرازي جـ ١٥ ص ١٤١ ومختار الصحاح ص ٢٦٩..
قوله :﴿ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ﴾ التحرف للقتال هو الكر بعد الفر ؛ إذ يخيل المتحرف لعدوه أنه منهزم ثم يباغته الهجوم. وهذا من باب الخداع والمكايدة في الحرب، فالحرب خدعة، أو هو التحرف من جانب إلى جانب في المعركة طلبا لمكابد الحرب وخداعا للعدو.
أما المتحيز ؛ فهم من التحيز، ومعناه التنحي. فالمتنحي عن جانب ينفصل عنه ويميل إلى غيره. فالمتحيز إلى فئة هو الذي يفر من هنا حيث لقاء العدو إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه. أو هو المتحيز إلى فئة ( جماعة ) من المسلمين غير الجماعة التي في مواجهة العدو.
وجملة القول : أن الفرار أو الانهزام من مواجهة العدو يوم الزحف حرام إلا في حالتين : الحالة الأولى : أن يكون ﴿ متحرفا لقتال ﴾. وهو أن يتخيل إلى عدوه أنه منهزم ثم ينعطف ( ينثني ) عليه على سبيل الخدع والمكايدة.
الحالة الثانية : أن يكون ﴿ متحيزا إلى فئة ﴾ وقلنا : التحيز بمعنى التنحي عن جانب إلى آخر حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الأمام الأعظم، دخل في هذه الرخصة.
وفي هذا الصدد أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : كنت في سرية من سرايا رسول صلى الله عليه وسلم فحاص١ الناس حيصة فكنت فمين حاص فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قال : لو دخلنا المدينة ثم بينا. ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا. فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال :( من القوم ؟ ) فقلنا : نحن الفرارون. فقال : لا بل أنتم العكارون، أنا فئتكم وأنا فئة للمسلمين ) فأتيناه حتى قبلنا يده، ومعنى قوله :( العكارون ) أي العطافون.
وكذلك قال عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) في أبي عبيدة لما قتل على الجسر بأرض فارس لكثرة الجيش من ناحية المجوس. فقال عمر : لو تحيز إلي لكنت له فئة.
وعلى هذا إذا كان الفرار عن غير سبب من هذه الأسباب فإنه حرام. بل إنه كبيرة من الكبائر. ولهذا قال سبحانه في حق الفار من غير سبب :﴿ فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم ﴾ أي فقد رجع بغضب من الله، ومأواه ومنقلبه الذي يصير إليه يوم معاده هو جهنم ﴿ وبئس المصير ﴾ أي بئس الموضع والمآل الذي يؤول إليه يوم القيامة٢.
١ حاص، حيصا. أي عدل وحاد. وحاص القوم: جالوا جولة يطبلون الفرار والمهرب. انظر المعجم الوسيط جـ ١ ص ٢١١..
٢ الكشاف جـ ٢ ص ١٤٩ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ١٤٢ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٩٤..
قوله تعالى :﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ١٧ ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ﴾ أي لم تهزموا قريشا هذه الهزيمة المشهودة ولم يقتلوا صناديدهم بحولكم وقوتكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم، بل الله أظفركم عليهم ومكنكم منهم، ﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ فهو سبحانه يكتب النصر لمن يشاء من عباده. وقيل : إن الله قتلهم بالملائكة الذين أمد بهم المسلمين. أما قوله :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي ﴾ فقد اختلف العلماء في المراد بالرمي على عدة أقوال :
منها : أن هذا كان يوم أحد حين رمي أبي بن خلف بالحربة في عنقه فكر أبي منهزما، فقال له المشركون : والله ما بك من بأس. فقال : والله لو بصق علي –يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- لقتلني، أليس قد قال : بل أنا أقتله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوعد أبي بن خلف في مكة بالقتل. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بل أنا أقتلك ) فمات عدو الله من ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرجعه إلى مكة بموضع يقال له ( سرف ). وقد ذكر عن ابن شهاب أنهل ما كان يوم أحد أقبل أبي مقنعا في الحديد على فرسه يقول : لا نجوت إن نجا محمد، فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فاعترض له رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا طريقه فاستقبله مصعب ابن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل مصعب بن عمير وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم، وفي ذلك نزل قوله :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾ لكن الصواب نزل الآية عقيب بدر وليس في أحد.
ومنها : أن هذا كان يوم بدر ؛ فقد روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه يوم بدر فقال :( يا رب إن تهلك هذه العصابة فلت تعبد في الأرض أبدا ) فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فارم بها وجوههم، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين. وذكر أنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته فرماهم بالقبضة من التراب وقال :( شاهت الوجوه ) ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله. ولهذا قال : وما رميت إذ رميت ولاكن الله رمى } أي أن الله هو الذي أوصل ذلك إليهم فأذلهم وأخزاهم به وليس أنتم وما تملكونه من العدة والعتاد.
ومنها : أن ذلك كان في حصب ( حصى ) رماه رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه المشركين يوم حنين، ولم يبق في ذلك اليوم أحد إلا وقد أصابه من ذلك.
ومنها : أن المراد هم السهم الذي رمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خبير فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه. وهذا أيضا بعيد والصحيح أن الآية كانت يوم بدر ؛ لأن السورة بدرية، وذلك أن جبريل عليه السلام قال للرسول صلى الله عليه وسلم :( خذ قبضة من التراب ) فاخذ من التراب فرمى بها وجوه المشركين. وهو ما بيناه في القول الثاني١.
قوله :﴿ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ﴾ وليبلي من البلاء، وهو هنا بمعنى النعمة. لا جرم أن النعمة من أشد ما يبتلي به الإنسان فيعلم أن سيشكر أن يكفر ؛ أي لينعم الله على المؤمنين ورسوله الكريم بالظفر فينصرهم عليهم نصرا ظاهرا عزيزا ﴿ إن الله سميع عليم ﴾ أي أن الله سميع لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ إذ يناشد ربه ويدعوه في تضرع وتذلل أن يعلك عدوه وعدوهم. وهو سبحانه عليم بما فيه صلاحهم وبما تستقيم عليه أحوالهم ؛ فهو سبحانه محيط علمه بكل شيء.
١ تفسير القرطبي جـ ٧ ص ٣٨٥ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٩٥ وأسباب النزول للنيسابوري ص ١٥٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٩٨..
قوله :﴿ ذالكم وأن الله موهن كيد الكافرين ﴾ الإشارة في قوله :﴿ ذلكم ﴾ إلى قتل المشركين وانهزامهم، وإلى ابتلاء المؤمنين البلاء الحسن بالظفر بهم والانتصار عليهم. ومع ذلك كله اعلموا أيها الناس أن الله ﴿ موهن ﴾ أي مضعف مكر الكافرين ليرتد مكرهم وخبثهم إلى نحورهم فيذلوا إذلالا.
قوله تعالى :﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ﴾ ذكر أن المستفتح أبو جهل، فقد قال حين التقى بالقوم يوم بدر : اللهم أينا كان أقطع للرحم وأتانا بما لم نعرف فأحنه١ الغداة وكان استفتاحا منه. فنزلت ﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ﴾ ٢.
وقيل : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصر الله وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين، فقال الله :﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ﴾.
١ أحنه: بمعنى أهلكه من الإحنة، بالكسر. وه الحقد والغضب. أحن، من المؤاحنة وهي المعاداة. انظر القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٩٧ والمعجم الوسيط جـ ١ ص ٨ والكشاف جـ ٢ ص ١٥٠..
٢ أخرجه الإمام أحمد بن عبد الله بن ثعلبة..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ٢٠ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ٢١ *إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ٢٢ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ﴾ هذا الخطاب للمؤمنين، إذ أمرهم الله بطاعته وطاعة رسوله الكريم فيما أمرهم به وما نهاهم عن التوالي عنه وهو الإعراض عنه. وكذلك عليهم أن يلتزموا طاعة نبيهم دو مخالفة أو إدبار ﴿ وأنتم تسمعون ﴾ أي تسمعون الآيات البينات وما يتندى فيها من ظواهر الإعجاز المثير، وتسمعون ما يصدر عن نبيكم من أوامر ونواه وحجج.
قوله :﴿ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ﴾ المراد بهم المنافقون أو المشوكون أو اليهود، أو جمع هؤلاء ؛ فإنهم يسمعون بآذانهم ولا يفضي السماع إلى قلوبهم ؛ فلم يتعظوا بما سمعوا ولم يدكروا، فكأنهم لم يسمعوا البتة، فهم والذين لم يسمعوا البينات والحقائق سواء. والأصل في أولي الفطر السليمة والطبائع التي لم تفسدها أفاعيل الشياطين من الجن والإنس أن يبادروا فيستجيبوا لكلمات الله. الكلمات الباهرات العذاب، ذلت الروعة الجلية النفاذة إلى أعماق الكينونة والقلوب. لكنهم لما لم يستجيبوا إلى كلمات الله الندية البالغة، استبان أنهم قوم ( بور ) لا خير فيهم ولا جدوى من وعظهم أو سماعهم فكأنهم لم يسمعوا بحال.
قوله :﴿ إن شر الدواب عند الله الصم والبكم الذين لا يعقلون ﴾ الدواب، جمع دابة وهي ما دب على الأرض. وكل حيوان في الأرض دابة. وهي تطلق على الذكر والأنثى١ والصم جمع أصم، وهو من الصمم. وهو آفة في الأذن تحول دون السمع. والبكم جمع أبكم وهو الأخرس بين البكم٢، فقد سبه الله هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ويغمضون أعينهم عن آيات الله وما فيها من الدلائل والبينات ثم لم يؤمنوا ولم يتعظوا –بالدواب، وهي البهائم التي تمشي على الأرض بدبيبها الثقيل الذي ينبئ بحيوانيتها وانتفاء فمهما وإدراكها.
هؤلاء الظالمون المظلون الذين استكبروا عن آيات الله ومنهجه، لهم أكبر شرا في الأرض مما سواهم من الدواب العجماوات ؛ لأنهم صم وبكم لا يسمعون الحق ولا يتدبرونه ولا يتعظون به فهم بذلك كالأنعام بل هم أضل.
١ المصباح المنير جـ ١ ص ٢٠١..
٢ مختار الصحاح ص ٦٢..
قوله :﴿ ولو علم الله فلهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ﴾ ذلك إخبار من الله أن هؤلاء الظالمين المضلين لا خير فيهم، فإنهم الختم الذي غشي قلوبهم صاروا غير مستعدين لاستقبال الحق والهداية والاستماع لآيات الله في تدبر وادكار. ولو كان الله يعلم أنهم يصلحون بما يأتيهم من الحجج والآيات لأسمعهم سماع تفهم وقبول. ولو أن الله أسمعهم ما انتفعوا بما سهوا. وهو قوله :﴿ لتولوا وهم معرضون ﴾ أي لأدبروا معاندين جاحدين مستكبرين عن الحق بهد ما ظهر لهم واضحا بلجا. وقيل : كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : احي لنا قصيا ؛ فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك. فقال له هز وجل :﴿ ولو أسمعهم ﴾ أي كلام قصي ﴿ لتولوا وهم معرضون ﴾ ١.
١ تفسير البغوي جـ ٢ ص ٢٤٠ والنبيان جـ ٥ ص ٩٨، ٩٩ والبحر المحيط جـ ٤ ص ٤٨٠..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقبله وأنه إليه تحشرون ﴾.
ذلك نداء كريم ومؤثر من الله رب العالمين للناس أن يستجيبوا لله ولرسوله الأمين. واستجابتهم تعني امتثالهم لأوامر الله وطاعته والمبادرة إلى طاعة الرسول الكريم إذا دعاهم لما يحييهم ؛ أي ينشر فيهم الحياة الكريمة الهانئة الفضلى. وذلك بالقرآن الذي جاء يحمل للبشرية خير الدنيا والآخرة. القرآن الكلام الرباني المعجز الذي حوى في كلماته وعباراته كل معاني الخير والصلاح، وكل أسباب النجاة التي تفضي بالبشرية إلى الأمن والاستقرار والسلامة في هذه الدنيا، وإلى الفوز بالجنة، والمنجاة من النار يوم القيامة. لا جرم أن القرآن والإسلام هما الملاذ الوحيد للبشرية في كل مكان وزمان كيما تأمن من البلايا والقواصم والويلات في الدار الآخرة التي تتهاوى فيها جسوم الكافرين والظالمين والجاحدين وأبدانهم في قلب الجحيم التي تتهاوى فيما جسون الكافرين والظالمين والجاحدين وأبدانهم في قلب الجحيم لتذوق وبال أمرها من التنكيل والهوان، فضلا عن الشرور والكوارث النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تتجرعها هذه البشرية في حياتها الدنيا ما دامت عاتية عن ذكر الله متمردة على منهجه الحكيم القويم. وبذلك فإن القرآن والإسلام حياة للناس. حياة أيما حياة. حياة راغدة كريمة فضلى تجد فيها البشرية أمنها وسعادتها واستقامتها، وهي تمضي على طريق الله سالمة آمنة مجانبة لكل ظواهر الضلال والباطل كالشرور والمفاسد والأوضار التي ما زالت تتجرع مرارتها الخليقة في هذه الدنيا لعتوها وإدبارها عن منهج الله والاستعاضة عنه بقوانين البشر. قوانين الشرك والإفك والباطل.
قوله :﴿ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ﴾ وهذه الآية تحمل عدة وجوه، منها : أن الله يفرق بين المرء وقلبه بالموت فلا يمكنه بعد ذلك أن يستدرك ما فات. والمراد المبادرة بالتوبة من المعاصي والذنوب قبل فوات الأوان بالموت.
ومنها : أن الله يبدل قلب الإنسان من حال إلى حال. وقد سمي قلب الإنسان بهذا الاسم لتقلبه ؛ فهو بذلك قلب. أي يتقلب من حال إلى حال. والله جل وعلا مقلب القلوب من حال الأمن إلى حال الخوف، ومن حال الخوف إلى حال الأمن. وقيل : لما خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدو أعملهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه. بأن يبدلهم بعد الخوف أمنا وشجاعة، ويبدل عدوهم من الأمن خوفا ورعبا. وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ وأنه إليه تحشرون ﴾ وذلك تخويف للبشرية كلها يستوي فيها المؤمنون والكافرون. وذلك أن الله جامع الناس يوم القيامة فمجازيهم على أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وفي التعبير بالحشر ما يثير في النفس الخوف من ذلك اللقاء الجامع الحاشد ليعادوا المرء مع نفسه الحساب فيتعظ ويزدجر١.
١ التبيان للطبرسي جـ ٥ ص ١٠١، ١٠٢ وتفسير البغوي جـ ٢ص ٢٤٠..
قوله تعالى :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ المراد بالفتنة هنا البلية. وقيل : الهرج ؛ وهو الاختلاط والقتل١، وقيل : الضلالة أو عدم إنكار المنكر، أو التلهي بالأموال والأولاد. وقيل : الفتنة، ظهور البدع. وقيل : افتراق الكلمة، وأن يختلف الناس اختلافا كبيرا فيخالف يعضهم بعضا. وقيل مجموع ذلك كله. وهذا الخطاب ظاهره العموم باتقاء الفتنة وهو مجانبتها والحذر منها على اختلاف معانيها وصورها ؛ فإنها إذا نزلت لا تختص بالظالم وحده ولكنها تعم الصالح والطالح. وقد ذكر عن ابن عباس قال : أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب. فقد جاء في البخاري والترمذي أن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم اله بعذاب من عنده. وفي مسلم من حديث زينب بنت جحش : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال :( نعم إذا كثر الخبث ) والخبث، بفتحتين، معناه النجس. والمراد به هنا كثرة الذنوب٢ روي أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي ؛ من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به ) وفي الخبر :( إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه. فإذا فعلوا ذلك عذاب الله العالمة والخاصة ).
وقال المفسرون : نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه : تقوا فتنة تصيب الظالم وغير الظالم. وقال السحن البصير : نزلت الآية في علي وعمار وطلحة والزبير ( رضي الله عنهم ). قال الزبير : لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرٍدانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، يعني ما كان يوم الجمل. وقال السدي ومقاتل الضحاك وقتادة : هذا في قوم مخصوصين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم الفتنة يوم الجمل.
قوله : واعلموا أن الله شديد العقاب } ذلك تهديد للذين لا يتقون الله، لا في أنفسهم ولا في دينهم ولا في المسلمين ؛ فهم يهلكون أنفسهم بإيقاعها في المعاصي والآثام ؛ إذ لا يأتمرون بأوامر الله، فلا يأمرون الناس بالمعروف ولا يعظونهم أو ينبهونهم، ولا يرغبونهم في دين الله وفعل الخيرات، ولا ينهونهم عن المنكر، ولا يحذرونهم منه تحذيرا، ولا يبصرونهم بعواقبه البئيسة الوخيمة. وكذلك لا يتقون الله في المسلمين ؛ إذ يثيرون بينهم الاختلافات ويفتعلون بينهم المشكلات والقضايا من غير داع ولا جدوى إلا العبث وفساد القصد والفتنة وإشاعة الهرج والفوضى. وفي ذلك من خبيث المقاصد وسوء النوايا وفظاعة الأفعال المريبة الشريرة ما يستوجب أن يحيق العذاب الشديد من الله بأولئك الذين لا يرعون للإسلام والمسلمين أيما اعتبار أو اهتمام إلا الرغبة في الكيد والتدمير. أولئك الذين لا يبتغون ولا يرومون في الحياة إلا قضاء حاجاتهم ومصالحهم وشهواتهم وأهوائهم الذاتية بأي سبيل أو أسلوب.
١ القاموس المحيط ص ٢٦٨..
٢ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٢١٤..
قوله تعالى :﴿ واذكروا إذ أنتم مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطبيات لعلكم تشكرون ﴾ ذلك خطاب للمؤمنين المهاجرين. فالله يذكرهم ؛ إذ كانوا قلة مستضعفين في مكة ف ابتداء الإسلام، وكانوا مقهورين أذلة، والدنيا من حولهم تموج بالظلم والكفر ﴿ تخافون أن يتخطفكم الناس ﴾ التخطف، معناه الانتزاع والأخذ بسرعة. وذلك تصوير كاشف أبلج لحال المسلمين في مكة، إذ كانوا في غاية القلة والذلة والخوف، والمشركون من حولهم يتربصون بهم تربصا، ويوشك أن يميلوا عليهم ميلة واحدة فيبددوهم أو يستأصلوهم. لكن الله سلم فصان المسلمين ورعاهم، ورد عنهم سطوة الكافرين الظالمين وكيدهم. وهو قوله :﴿ فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات ﴾ فقد جعل الله لكم مأوى آمنا حريزا تثوبون إليه وتسكنون فيه هي المدينة ﴿ وأيدكم بنصره ﴾ أي قواكم بالنصر الذي كتبه لكم في بدر. وأحل كم الغمائم المستفادة من الكافرين الظالمين الذين لا يستحقون المال. بل يجب تجريدهم من المال إلا ما يسد خلتهم ( حاجتهم ). وما فوق حاجتهم من أموال طائلة كاثرة إنما يستعملونه في الإفساد والكيد والخيانة والدسائس وإشاعة الشرور والرذائل والفوضى في الأرض.
إن هؤلاء الضالين الذين يعيثون في الدنيا الخراب والفساد والفتن أحرى أن لا يملكوا المال فيتمكنوا به من الإيذاء والتخريب وافتعال المكائد والمؤامرات بين الشعوب والأمم. إن من دواعي المنطق أن تصان هذه الأموال بأيدي المؤمنين السائرين على منهج الله الحق، ومنهج الإسلام ؛ فهم المؤتمنون على البشرية في صونها ورعايتها وتكريمها وإشاعة الرحمة والحق فيها. لا جرم أن الإسلام والمسلمين أحرص من في الدنيا طرا على الرحمة بالخليقة، وعلى دفع الأذى والشر عنها لتعيش آمنة سالمة مطمئنة.
فلا ينبغي في ضوء هذا التصور السليم أن تضل الأموال بأيدي الأشرار من البشر، أولئك الضالعون في الظلم والرجس والتخريب. بل ينبغي أن تنتزع منهم هذه الأموال انتزاعا لتصان في أيدي المؤمنين الحقيقين المؤتمنين على البشرية في أموالها وكراماتها وأوطانها وأديانها.
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون ﴾ نزلت هذه الآية في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه أي أنه الذبح. ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه. وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه فمكث كذلك تسعة أيام حتى كاد يخر مغشيا عليه من الجهد، حتى أنزل الله توبته على رسوله فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه وأردوا أن يحلوه من السارية فحلف لا يحله منها إلا رسوله الله صلى الله عليه وسلم بيده : فخله. فقال يا رسول الله : إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة. فقال :( يجزيك الثلث أن تصدق به ) ١.
على أن الأمانة تعم كل وجوه الواجبات وما يناط بالمؤمن أن يفعله سواء في ذلك الصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك من ضروب الطاعات والعبادات، قال ابن عباس في الأمانة : هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله والأعمال التي ائتمن عليها العباد. وذلك يتضمن بعمومه كل ما لزم الإنسان أداؤه، من صون لمال، وأداء لدين، وبذل لزكاة، ورعاية لوطن، ورعي لزوجة وولد، وإنجاز لوجيبة أو أعمال، في غير ما غش ولا تهاون ولا انتقاص. كل ذلك أمانات تناط بالمرء كيما يؤديها على خير أداء ويرعاها تمام الرعاية. وإذا لم يكن على هذه الحال من تمام الأداء وكامل الرعاية كان من المفرطين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم.
قوله :﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أي تعلمون أنها أمانة، أو تعلمون أن ما فعلتم من الإشارة إلى الحلق خيانة٢.
١ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٠٠وأسباب النزول للنيسابوري ص ١٥٧..
٢ تفسير البغوي جـ ٢ص ٢٤٢ والبحر المحيط جـ ٤ ص ٤٨٦..
قوله تعالى :﴿ واعلموا أنما أمولاكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ﴾ الفتنة هي المحنة والاختبار والإثم والعذاب. والمراد أن سبب الوقوع في ذلك كله ما ذكر في الآية من الأموال والأولاد. وقد قيل : هذا في أبي لبابة ؛ لأن أمواله وأولاده كانوا في بني قريظة، فقال ما قاله لهم خوفا على أمواله وأولاده، فكانوا سببا في وقوعه في الفتنة وهي الإثم والعذاب أو البلاء والمحنة. وقيل : الآية تعم كل من يفتنون بالأموال والأولاد من الناس، وقد روي عن السيدة عائشة ( رضي الله عنها ) أن النبي صلى الله عليه وسلم أي بصبي فقبله وقال :( أما إنهم مبخلة مجبنة، وإنهم لمن ريحان الله عز وجل ).
وفي الآية تحذير بالغ من الله بعباده من فتنة المال والولد ؛ فإن هذين الصنفين يأتيان في الأوج من زهرة هذه الدنيا. وهما تهواهما الطبائع وتمي إليهما النفوس ميلا عظيما ؛ فهما رأس الافتتان، وأول ما تفتر أمامهما الهمم والعزائم تتضاءل إزاءهما الإرادات والطاقات. بل إنهما طريق الغواية التي تؤز الأعصاب وتستهوي القلوب فتجنح للاستزادة من المال وإيثار الولد على غيره.
إن في الآية هذه تحذيرا ينتبه به المؤمن الحريص كيلا يضل أو يزل أو يفتتن فيبوء بالسقوط في زمرة الخاسرين والهالكين. وللمرء في استعصامه واستمساكه دون السقوط في الفتنة عرض من الله كبير.
وشتان شتان ما بين فتنة الدنيا من مال وولد، وعطاء الله الكريم الذي جعله الله عوضا لمؤمنين المخبتين الصابرين على البلاء والمحن، الناجين من حبائل١ الشيطان والفتن. وهو قوله سبحانه :﴿ وأن الله عنده اجر عظيم ﴾ ٢.
١ الحبائل: الأسباب. انظر القاموس المحيط ص ١٢٦٨..
٢ تفسير البغوي جـ ٢ص ٢٤٣ والبحر المحيط جـ ٤ ص ٤٨٦..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ﴾.
يخاطب الله عباده المؤمنين الذين صدقوا الله ورسوله، مبينا لهم أنهم إن اتقوا الله بطاعته، وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وترك خيانته وخيانة رسوله وخيانة الأمانات ؛ فإنه سبحانه يجعل لهم ﴿ فرقانا ﴾ أي مخرجا من كل سوء ومكروه. أو مما يحيق بهم من الرزايا والنوائب والمصائب، كقوله تعالى :{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ٢ يزقه من حيث لا يحتسب ؛ وقيل : المراد بالفرقان، النجاة. وقيل : الفصل بين الحق والباطل.
قوله :﴿ ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ﴾ أي أن الله يمحو عنكم ما سلف من الذنوب والمعاصي فيغطيها ويسترها عليكم سترا فلا يحاسبكم بها، وهو سبحانه المتفضل على عباده بمننه الكثيرة عليهم. قوله تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوا أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾.
روي في سبب نزول هذه الآية أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يأمر به قومك ؟ قال :( يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني ) فقال : من أخبرك بهذا ؟ قال :( ربي ) قال : نعم الرب ربك، فاستوص به خيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنا أستوصي به ؟ ! بل هو يستوصي بي خيرا ) فنزلت :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾ الآية.
وعن ابن عباس أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل. فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح. قالوا : أجل ادخل. فدخل معهم، فقال : انظر في شأن هذا الرجل، والله ليوشكن ان يؤاتيكم في أموالكم بأمره. فقال قائل : احسبوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قلبه من الشعراء زهير والنابغة. إنما هو كأحدهم، فصرخ عدو الله الشيخ النجدي. فقال : والله ما هذا لكم رأي. والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم. قالوا : فانظروا في غير هذا. فقال قائل : أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه ؛ فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه، واسترحتم وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي. ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأحذ القلوب ما تسمع من حديثه. والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجمعن عليكم، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا : صدق والله. فانظروا رأيا غير هذا. فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، ما أرى غيره. قالوا : وما هو ؟ قال ؟ نأخذ من كل قبيلة غلاما وسطا شابا نهدا١ ثم يعطي كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربوه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها. فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. فقال الشيخ النجدي : هذا والله الرأي. القول ما قال الفتى، لا أرى غيره، فترقوا على ذلك وهم مجمعون له. قال : فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك بالخروج وأنزل عليه بعد قدومه المدينة، الأنفال ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ ٢.
١ النهد: الشاب القوي الضخم. نهد فلان لعدوه نهدا؛ أي صمد له وشرع في قتاله. وناهد عدوه؛ أي ناهضه في الحرب. انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩٥٧..
٢ تفسير الطبري جـ ٩ص ١٤٩..
قوله :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ من المكر، وهو الخداع، وأن تصرف غيرك عن مقصده بحيلة١، أو هو التدبير في الأمر خفية. والمراد به هما : التدبير وإخفاء المكائد. والمكر من الله هو مجازاتهم بما يستحقونه من العذاب في مقابلة مكرهم وتمالئهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دينه وعى المسلمين.
وقوله :﴿ ليثبتوك ﴾ أي ليحبسوك أو يسجنوك. وقيل : ليوثقوك أو ليشدوك وثاقا.
قوله :﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ أي ان المشركين يخفون المكايد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدينه وللمسلمين، وهم لا ينثنون في كل آن عن التمالؤ عليهم لإبادتهم واستئصالهم إن استطاعوا. وذلك هو ديدن الكافرين من أعداء الله ورسوله والمؤمنين، لم يبرح طبائعهم المريضة الكيد للإسلام وأهله ؛ فإنهم إنما يكرهون في الحياة الإسلام والمسلمين أيما كراهية ؛ فهم بذلك يتربصون هم الإذلال والنوازل، ويجهدون بغير انقطاع أن يفتي الإسلام من الدنيا فناء، وأن يبدد المسلمون في الأرض تبديدا. لكن الله العلي القدير يمكر بهؤلاء الظالمين المجرمين ؛ إذ يخفي لهم ما أعداه من العذاب البلايا وسوء المصير. وهو سبحانه ﴿ خير الماكرين ﴾ أي أن مكره أشد نفاذا وأعظم تأثيرا من مكر العباد، ويضاف إلى ذلك أن مكر لله لا يكون إلا بالحق والعدل ولا يصيب إلا من كان مستحقا للجزاء.
١ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٨١..
قوله تعالى :﴿ وإذ تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ٣١ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ٣٢ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ نزلت في النضر بن الحارث، كان قد ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار. ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن، فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس، جلس فيه النظر فحدثهم من أخبار أولئك. ثم يقول : بالله أينا أحسن قصصا أنا أو محمد ؟ ! ١.
والأساطير، جمع أسطر وسطور وأسطار. والأساطير جمع الجمع ؛ لأن مفرد الأسطر والسطور : سطر. وقيل : مفرد الأساطير، الأسطورة. والمعنى الأحاديث لا نظام لها، جمع إسطار وإسطير بكسرهما وأسطور٢ وكذلك قال الكافرون الضالون. فقد ﴿ قالوا قد سمعنا ﴾ أي سمعنا ما تتلوه علينا يا محمد. قولون ذلك، مستكبرين معاندين غير عابئين. وقالوا أيضا :﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا ﴾ وذلك عند ظالم وتبجح لئيم وإفراط في التخريص والادعاء المغالي ؛ فهم موقنون من أنفسهم أنهم عاجزون عن محاكاة القرآن. وقالوا كذلك :﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ أي أن هذا القرآن ما هو ما سطره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم فهو بذلك من البشر وليس من طريق الوحي. ذلك هو زعم الأفاكين الخراصين من الناس. لا جرم أن ذلك عناد وباطل تجتره حناجر المكابرين الخراصين من أعداء الله ودينه. أولئك الذين أبوا إلا الاستكبار والجحود من غير تبصر ولا روية ولا منطق سليم إلا الرغبة الرعناء في امتطاء الحماقة والشطط لمحاكاة الكتاب الكريم المعجز. مع أنهم كابروا معاندين وهم يلهثون لمضاهاة القرآن واصطناع بعض عبارات من مثله فأنكصهم العجز والقصور وأجاءهم الفشل إلى هاوية الخزي والانتكاس لا يلوون على غير الهزيمة التامة والخور الفاضح.
١ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٠٤..
٢ القاموس المحيط جـ ٢ ص ٤٩..
قوله :﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ الحق، منصوب، على أنه خبر كان. ومبتدأه الضمير ( هو ) ١ والقائل ذلك أبو جهل. وقيل : النضر بن الحارث، قال ذلك اجتراء وعنادا وعلى سبيل الحجود والتهكم. يعني : إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا يا ربنا على إنكاره بإمطارنا بحجارة السجيل كما فعلت بأصحاب الفيل أو بعذاب غيره أليم.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨٩..
قوله :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ اللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيب المشركين وأنت مقيم بين أظهرهم غير مستقيم. قال ابن عباس في هذا الصدد : لم يعذب أهل قرية حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم منها والمؤمنون ويلحقوا بحيث أمروا. وأيضا ﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ والاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهر المشركين ؛ أي وما كان الله معذب المشركين وفيهم من يستغفره من المسلمين. فلما خرجوا عذبهم الله يوم بدر وغيره١.
وقيل : الاستغفار راجع إلى المشركين ؛ أي وما كان الله معذبهم وهؤلاء المشركون يستغفرون ربهم، يقولون : يا رب غفرانك.
١ الكشاف جـ ٢ ص ١٥٥ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٣٩٨، ٣٩٩ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ١٥٢ وفتح القدير جـ ٢ ص ٣٠٦..
قوله تعالى :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ٣٤ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ أي : وما يمنع هؤلاء المشركين من أن يعذبهم الله وهم لا يستغفرونه من كفرهم، ويصدون المؤمنين بالله ورسوله عن المسجد الحرام. فهم مستحقون من كفرهم، ويصدون المؤمنين بالله ورسوله عن المسجد الحرام. فهم مستحقون للعذاب بما ارتكبوه من القبائح والموبقات.
قوله :﴿ وما كانوا أولياءه إلا المتقون ﴾ أي كيف لا يعذب الله هؤلاء الظالمين الذين يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عام الحديبية وكانوا يقولون : نحن ولاة البيت فنصد من نشاء وندخل من نشاء ﴿ وما كانوا أولياءه ﴾ أي أن هؤلاء المشركون الظالمين ليسوا هم أهل المسجد الحرام ولا يستحقون أن يكونوا ولاة أمره وأربابه ﴿ إن أولياءه إلا المتقون ﴾ أي ليس أولياءه وأهل غير النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين يتقون الله والذين هم على جادة الصواب. فهم مجانبون للضلال والظلم والباطل، مستمسكون بالحق والعدل. أما الكفرة الظالمون ؛ فإنهم غير مؤتمنين على صوت بيوت الله أو رعايتها وولاية شؤونها. كما قال سبحانه :﴿ وما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ وكيف وا لهفي والمسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين أسير يهود ؛ إذ أطبقوا عليه إطباقا فحالوا بينه وبين المسلمين أن يدخلوه أو يصلوا فيه. سبحانك اللهم إن هذا لهو الجور المبين والظلم الفادح العظيم.
قوله :﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ أي أن أكثر هؤلاء الضالين الخاطئين ضالعون في الجهالة والعمه، فلا يعلمون الحق ولا يفقهون على الصواب، ولا يمضون على جادة الصراط. وذلك هو شأن البشرية في غالب أزمانها وأحوالها وشعوبها، فإن الأكثرين من الناس قد غشيت بصائرهم العماية والتضليل والوهم، فلم يهتدوا سبيلا. وأسباب ذلك متعددة، وفي طليعة ذلك إغراء الشياطين من الإنس الذين يضلون الناس والذين يزينون لهمن مجانبة الحق والهداية والتزام الطاعات، وكذلك يزينون لهم فعل المحظورات جريا وراء الملذات والشهوات.
قوله :﴿ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ﴾ المكاء : الصفير. مكا يمكو مكوا ومكاء ؛ أي صفر بفيه١. أما التصدية : فهي التصفيق. يقال : صدى يصدي تصدية ؛ إذا صفق بيديه٢. فقد كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون، وهم يظنون سفها أن ذلك عبادة. وقيل : كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا به على الرسول صلاته. أو على سبيل الاستهزاء بالمؤمنين٣. وفي ذلك رد على الصوفيين الذين يرقصون ويصفقون وهم يتغشاهم الغثيان وفقدان الوعي لفرط ما يمسهم من هوس. لا جرم أن ذلك منكر وجهالة تبرأ منهما ملة الإسلام. هذا الدين البين الحنيف الذي بني على التوحيد والعلم وفطانة العقل ونباهته والذي يحول بين أهله وبين الخدر والغثيان وهوسات العقل.
قوله :﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ أي ذوقوا إيلامه بالحس بسبب جحودكم وعصيانكم. والمراد بالعذاب هنا : ما توعدهم به من القتل والأسر والإذلال في بدر٤.
١ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٣٩٤ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ١٦٤..
٢ مختار الصحاح ص ٣٦٠ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ٦٤..
٣ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٠٧..
٤ تفسير الطبري جـ ٩ ص ١٥٨، ١٥٩ والكشاف جـ ٢ ص ١٥٦..
قوله تعالى :﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ٣٦ ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ﴾.
ذلك نذير من الله للكافرين الذين يجمعون الأموال الطائلة الكاثرة لإنفاقها في سبيل الشيطان من اجل الصد عن دين الله، ولحمل الناس على الشرود والنفور من دعوة الحق. إن ذلك لهو ديدن الكافرين في كل زمان. أولئك الحاقدون الماكرون المتربون الذين دأبهم الخيانة والتآمر في الظلام، فهم قليلا ما يهجعون أو يغفلون عن الكيد للإسلام وأهله. لقد شغلهم الحقد وكراهيتهم لهذا الدين العظيم. ومن أجل ذلك فقد تنادوا لجمع أموالهم كيما تصرف في وجوه الشر والعدوان والتنكيل بالمسلمين وإبادة الإسلام كله لكي يستحيل إلى أثر بعد عين.
ذلك هو شأن الكافرين في كل زمان ؛ فهم في عهد النبوة، من الطور الأول من أطوار الإسلام قد تنادوا لجمع أموالهم كيما تنفق فيما يتهدد الإسلام والمسلمين بالإبادة والزوال. ثم ما لبث الكافرون والظالمون المتربصون –على مر الزمن- يتواصون فيما بينهم على ضرب الإسلام وتدميره واستئصاله أو إضعافه وتشويهه والتحريض على كراهيته ومجانبته البتة. وهم في ذلك ينفقون المقادير الهائلة من الأموال لتحقيق هذه الغاية الخبيثة الظالمة.
وفي زمننا العجيب هذا، زماننا المحفل بالويلات والملمات والنكبات والخيانات تلتئم قوى الشر والباطل والعدوان من مختلف الملل والمذاهب والنحل وهي تأتمر بالإسلام لنسفه من القواعد نسفا، أو لتحويله إلى دين ممزق مصطنع أشتات من المواعظ الفاترة الباهتة، ويأمرون بالمسلمين لإضعافهم وتمزيقهم وكسر شوكتهم ليكونوا أشباحا من الأناسي المتهافت المضطرب. الأناسي الذين ينسلخون عن دينهم انسلاخا ليرضوا بدلا منه بالتبعية للطغاة والظالمين. التبعية في كل مناحي الفكر والثقافة والتصور والسلوك للمتربصين الماكرين من استعماريين وصليبيين ووثنيين وملحدين وماسونيين وصهيونيين وغيرهم. أولئك الذين ما فتئوا على الدوام ينفقون الأموال الكبيرة من أجل هذه الغاية.
قوله :﴿ فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ﴾ أي سيقع منهم هذا الإنفاق ثم تكون عاقبة إنفاقهم حسرة عليهم ؛ أي ندامة لما بذلوه من جهود مضنية. وما قدموه من أموال كاثرة لا تحصى. ثم بعد ذلك كله لسوف تبوء أساليبهم وخططهم بالخزي والفشل. وذلك على الرغم مما يصيب المسلمين في كثير من الأحيان من تقهقر وما يصيب الإسلام كذلك من انحسار وتشويه وإساءة. لكن كل هذه الحيل والمؤامرات لسوف تفضي إلى التبدد والانكشاف والاضمحلال بعد أن يأذن الله بالنصر لعباده المؤمنين الصابرين. وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر اله ورحمته وتوفيقه، ويرتد سهم التآمر والخيانة إلى نحور المجرمين الظالمين فيبؤوا بالهزيمة والخذلان والعار.
قوله :﴿ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ﴾ هذه عاقبة الكافرين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين، فيبيتون لهم المؤامرات والخيانات والمكائد والدسائس من اجل إضعافهم أو القضاء عليهم، فعاقبتهم الخسران والخزي والبوار، سواء في هذه الدنيا التي تكتب الله فيه النصر للمؤمنين المخلصين، أو في الآخرة ؛ إذ يحشر هؤلاء المجرمون إلى جهنم وبئس المصير.
قوله :﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم ﴾ هؤلاء المجرمون الخبيثون الذين ينفقون أموالهم للصد عن دين الله وإضعاف المؤمنين، يحشرهم الله يوم القيامة ليفرق بينهم وبين المؤمنين الصادقين الذين آمنوا بالله ورسالاته وكتبه وأنبيائه. يفرق الله بين الصنفين تفريقا مميزا فيسكن المؤمنين الجنة. أما المجرمون الخائنون فينزلهم النار ؛ إذ يجعل بعضهم فوق بعض ﴿ فيركمه جميعا ﴾ أي يجعلهم ركاما كأنما هم كثبان مركوم من الحجارة والتراب المتراكم بعضه فوق بعض. وفي ذلك بيان واضح ومستفيض لحال الكافرين المجرمين الضالعين في العدوان على المسلمين، وهم يتكبكبون في جهنم فيركم بعضهم فوق بعض زيادة في المهانة والزراية والتحقير. لا جرم أن هؤلاء الذين كادوا للإسلام والمسلمين، والذين بذلوا الأموال الهائلة في وجوه الظلم والباطل والتآمر على دين الله في كل مكان، هم الذين خسروا أنفسهم فباءوا بالخزي وسوء المصير. وهو قوله سبحانه :﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ ١.
١ تفسير الطبري جـ ٩ ص ١٦٠، ١٦١ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ١٦٥- ١٦٧..
قوله تعالى :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين ﴾ ذلك تكليف من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ الكافرون هذا المعنى سواء بهذه العبارة أو غيرها، وهو أنهم إن كفوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه والمسلمين، وعن قتالهم وإيذائهم واليد لهم فيدخلوا في دين الإسلام ﴿ يغفر لهم ما قد سلف ﴾ أي يغفر الله لهم ما سبق أن فعلوه من الكفر والمعاصي. وفي هذا ما يدل على أن الإسلام، يجب ما كان قلبه من الكفر والخطايا والذنوب جميعا، مما اقترافه الكافرون قبل أن يسلموا.
ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أيضا أن ينذر قومه عاقبة الرجوع إلى الكفر ؛ فغنهم إن عادوا ﴿ فقد مضت سنت الأولين ﴾ وذلك وعيد وتهديد من الله للذين يعودون للكفر بعد أن ارتدوا عن الإسلام، أنهم ستمضي فيهم سنة الله في الانتقام منهم ومجازاتهم بالإهلاك والخزي بعد أن يجعل الله النصر والنجاة لعباده المؤمنين الصابرين.
قوله تعالى :﴿ وقتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الذين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ٣٩ وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ﴾ يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يقاتلوا الكفار الظالمين الذين يصدون عن دين الله ويبغون في الأرض بغير الحق ويشيعون الفوضى والفساد والمنكرات والرذائل في البلاد، والذين يحادون الله والمؤمنين، فيأبون للإسلام ورسالته العظيمة ونظامه الحق أن يشيع بين الناس.
من أجل ذلك يوجب الله على عباده المؤمنين الصادقين الذين التزموا منهجه وشرعه أن يقاتلوا هؤلاء الأشرار المفسدين الذين يصدون عن الحق كيلا يذيع أو ينتشر وذلك بكل الأساليب والمعوقات المادية والنفسية والفكرية. أولئك مجرمون عتاة لا تجدي معهم الحكمة أو المنطق، ولا ينفعهم النصح أو الإفاضة في البيان والاحتجاج. فلا مناص مع هؤلاء المستكبرين المفسدين إلا أن يقاتلهم المؤمنون فيهزموهم ويذلوهم ويسكتوا فيهم صوت الشر والظلم والفساد ﴿ حتى لا تكون فتنة ﴾ أي يجب قتالهم من اجل أن ينتهي الفتنة ؛ أي لا يفتن مسلم عن دينه. فإذا ما شاع الحق والأمن والعدل من خلال الإسلام ؛ زالت كل بواعث الفتنة التي يخشى معها على الناس من الانحراف عن دنيهم. لا جرم أن سطوة الكفر وعتو الكافرين إذ تسلطوا على رقاب المسلمين أن يكون ( عتوهم ) مدعاة كبرى للفتنة وزحزحة المسلمين عن دنيهم رويدا رويدا.
إن الناس إذا أظلهم الكفر بسطوته العاتية وكلكله الثقيل وطغيانه البشع ؛ فغنهم لا محالة واقعون في الفتنة، وآخذون في الانسلاخ والتحلل من تعاليم الإسلام شيئا فشيئا. لذلك أمر الله أن يقاتل المؤمنون الكافرون ما دامت الفتنة قائمة ويخشى معها على العباد من مجانة الحق والسقوط في الباطل تحت مختلف الضواغط والأسباب والمغريات وتحت مطرقة الفتنة الخبيثة على اختلاف صورها وأساليبها من ترغيب وترهيب وإغواء وإغراء.
قوله :﴿ ويكون الدين كله لله ﴾ أي يكون دين الله الحق وهو الإسلام ظاهرا على الملل كافة ومسيطرا على المبادئ والعقائد والأديان جميعا. وإذ ذاك يستحوذ الإسلام على الواقع البشري كله بنظامه الوارف الظليل وعقيدته الكريمة المرغوبة السمحة، فتفيض على الدنيا شآبيب الرحمة ونسائم الأمن والسعادة وتنمحي من وجه الأرض كل أثارة من أثارات التهديد والوجل، أو الغواية والإفساد والفتنة.
قوله :﴿ فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير ﴾ أي إن كف الظالمون عن كفرهم وطغيانهم فإن الله بصير بأعمالهم، مطلع على سرائرهم وأخبارهم.
قوله :﴿ وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ﴾ ذلك تهديد من الله للكافرين، أنهم إن أعرضوا عن دين الله وظلوا سادرين في غيهم وعدوانهم فاعلموا أيها المؤمنون أن الله سيجعل الغالبة لكم ؛ فهو سبحانه ﴿ مولاكم ﴾ أي ناصركم، وهو سبحانه ﴿ نعم المولى ونعم النصير ﴾ لله جل وعلا خير معين ونصير لعباده المؤمنين الصابرين. وما على المؤمنين المخلصين بعد ذلك إلا أن يثقوا كامل الثقة بالله، وأن يركنوا تمام الركون إلى جنابه العظيم بعد أن يأخذوا بالحيطة وأوفي الأسباب. سواء في ذلك الأسباب المادية أو المعنوية. وبعد ذلك فإن الله محقق لهم الغلبة والنصر١.
١ البحر المحيط جـ ٤ ص ٤٩٤، ٤٩٥ والتبيان للطوسي جـ ٥ ص ١٢١ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ٢٤٨..
قوله تعالى :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقي الجمعان والله على كل شيء قدير ﴾ الغنيمة هي ما أخذه المسلمون من أموال أهل الحرب الكافرين بقتال. أما الفيء : فهو ما أخذه المسلمون منهم بغير قتال. فهما بذلك معنيان مختلفان. وقيل : إنهما اسمان مترادفان لمعنى واحد. والمعنى المراد في هذه الآية : أن كل شيء يأخذه المسمون من الكافرين عنوة وقهرا فهو من الغنيمة. وهذا العموم مخصص بالأسارى ؛ فإن الخيرة فيهم إلى الأمام ليرى فيهم ما هو أنفع للمسلمين بعد التشاور مع أهل الحل والعقد من المسلمين.
وقد بينا في آيات سابقة أن إباحة الغنائم للمسلمين ليس المراد منها إثراء الغانمين ليكونوا من أهل الثورة واليسار. وليس ذلك إذعانا لهوى النفس التي تميل لاحتواء المال وتكثره. ولا مجرد الكراهية الهوجاء للمالكين من غير المسلمين. ولكن المراد من تجريد الكافرين من أموالهم وإباحتها للمسلمين عقب الحرب إنما هو إضعاف شوكة الكفر والكافرين وتحطيم الوسيلة الأساسية الكبرى التي يعتمد عليها الكافرون العتاة في محاربة دين الله وصد الناس عن منهجه سبحانه. المراد أن تتبدد القدرة المؤثرة الأولى التي يستمد منها الطغاة والظالمون قوتهم واقتدارهم على الحيلولة بين الإسلام والبشرية. والإسلام هو دين الإنسانية كافة، يثير فيها الأمن والرخاء والاستقرار وينشرون في ربوعها الخير والود والرحمة، ويشيع في أجوائها كل ظواهر الإخاء والتعاون والتعارف والتحرر من ربقة الظلم والظالمين.
إذا تبين ذلك فإنه لا يعادي الإسلام بعد ذلك إلا مارقون جبابرة، أو طغاة متمردين غلاط لا يرضون البشرية إلا تتيه في الظلام والباطل. وسبيل المجرمين الظالمين إلى بلوغ مآربهم في الإفساد والتخريب هو المال ؛ فلزم بذلك انتزاع هذه الوسيلة الكبيرة من أيداهم ؛ ليظلوا ضعافا خزايا عاجزين بعد ذلك عن إفساد البشرية أو إشاعة التخريب والفتنة فيها، وعاجزين كذلك عن التلويح بقتال الحق وأهله فضلا عن اصطفافهم مع الظالمين والمفسدين في كل مكان أو زمان.
على أن الغنيمة تقسم خمسة أخماس : أربعة أخماس منها للمجاهدين الذين قاتلوا فأخذوا الأموال، والخمس الخامس يقسم على خمسة أصناف، وذلك في قوله :﴿ لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ أما ما نسب إلى الله من حصة في الخمس، فإنما هو افتتاح للكلام على سبيل التبرك. وليس المراد من ذلك أن سهما منفردا من الغنيمة لله. فالله جلت قدرته غني عن المال والعالمين، وهو سبحانه يملك الدنيا والآخرة وله ملكوت كل شيء.
أما الخمسة الآخرون الذين يقسم الخمس بينهم فهم :
أولا : الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فإن سهمه يصرف في مصالح المسلمين. وقيل : إن سهم الله ورسوله واحد ؛ فهو يصرف في المصالح العامة كبناء المساجد والقناطير والجسور وإعمار الطرق. وفي أرزاق القضاة والجند. وغير ذلك من وجوه الإصلاح.
ثانيا : ذوو القربى ؛ والمراد بهم موضع خلاف ؛ فقد قيل : قريش كلها. وقيل : هم بنو هاشم وبنو المطلب، وهو قولب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وآخرين. وقيل : هم بنو هاشم خاصة. وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم.
ثالثا : اليتامى، جمع يتيم ؛ وهو الصغير المسلم الذي مات أبوه، وكان فقيرا.
رابعا : المساكين ؛ وهم أهل الفاقة الذين أسكنهم الضيق والعوز عن تحصيل ما يحتاجونه.
خامسا : ابن السبيل ؛ وهو المسافر البعيد عن أهله وماله. فهؤلاء الذين يصرف فيهم خمس الغنيمة.
قوله :﴿ إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على بعدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ﴾ أي اقبلوا هذا التقسيم للغنائم إن كنتم مؤمنين. فالمؤمنون مستسلمون لله، خاضعون لجلاله، مذعنون لأوامره، لا يترددون ولا ينثنون عن شرعه بل يتقبلونه بأحسن القبول من غير امتعاض ولا تسخط. وكذلك اقبلوا شرع الله في الغنائم إن كنتم آمنتم بما ﴿ أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ﴾ والمراد قوله :﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ فقد أنزل الله عليهم حكمه في الأنفال التي أخذوها من المشركين ﴿ يوم الفرقان ﴾ يعني يوم بدر. فقد فرق الله في هذا اليوم العظيم المشهود بين الحق والباطل ﴿ يوم التقى الجمعان ﴾ وهما حزب الله، وحزب الشيطان ؛ فكان أن كتب الله النصير والغلبة للفئة المؤمنة المخلصة الصابرة وهم حزب الله.
قوله :﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ الله جل شأنه قادر على أن يظهر عباده المؤمنين على أعدائهم ؛ إذ يكتب لهم العزة والنصر بالرغم من بساطة قوتهم المادية، وقلة عددهم١.
١ التبيان للطوسي جـ ٥ ص ١٢٥ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ٢٤٩- ٢٥١ والبحر المحيط جـ ٤ ص ٢٩٧- ٢٩٩..
قوله تعالى :﴿ إذ أنتم بالعداوة الدنيا وهم بالعداوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ﴾.
﴿ إذ ﴾، بدل من قوله :﴿ يوم الفرقان ﴾ ﴿ والركب ﴾ اسم للجمع وليس بجمع تكسير لراكب١.
ذلك تذكير من الله لعباده المؤمنين بلقاء أعدائهم المشركين في بدر ؛ أي اذكروا إذ أنتم نزول ﴿ بالعداوة الدنيا ﴾ أي بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة، والدنيا تأنيث الأدنى ﴿ وهم بالعدة القصوى ﴾ يريد أعداءهم المشركين ؛ إذ كانوا بشفير الوادي الأقصى من المدينة. والقصوى تأنيث الأقصى. وإذ ذاك كان الركب وهم أبو سفيان وأصحابه والعير التي معه ﴿ أسفل منكم ﴾ أي في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر على عدة أميال من بدر.
قوله :﴿ ولو تواعدهم لاختلفتم في الميعاد ﴾ وذلك أن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير، وخرج الكفار ليمنعوها فالتقى الجمعان على غير ميعاد. ولو أنهم تواعدوا قبل ذلك على الاجتماع ثم علم المسلمون كثرة المشركين وقتلهم هم لخالفوا موعدهم معهم، فما اجتمعوا وما التقوا. لكن الله جل وعلا قدر لهم أن يتلاقوا ﴿ ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾ أي ليقضي أمرا من نصر دينه وإعزاز كلمته وهدم الكافرين وإذلالهم. وقيل : أي كان أمرا مقدرا في الأزل.
قوله :﴿ ليهلك من علك عن بينة ويحيي من حي عن بينة ﴾ أي ليقتل من قتل من الكافرين عن بيان من الله رآه، وحجة قامت عليه وإعذار بالرسالة. وكذلك ليعيش من عاش عن بيان من الله وإعذار، ليس لأحد عليه حجة. وقيل : معناه الكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه. ويؤمن من آمن على مثل ذلك. وبذلك فإن الهلاك معناه الكفر، والحياة معناها الإيمان.
قوله :﴿ وإن الله سميع عليم ﴾ الله سميع لما يقول الناس، مؤمنين وكافرين، وهو كذلك عليم بما تخفيه صدورهم من المكنون والنوايا٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨٨..
٢ البحر المحيط جـ ٤ ص ٥٠٠، ٥٠١ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ٢٥٢..
قوله تعالى :﴿ إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور ﴾ ﴿ وإذ ﴾ في موضع نصب بفعل مقدر، وتقديره : واذكر إذ يريكم الله١ والمخاطب هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد تظاهرت الروايات أنها رؤيا منام. فقد روي الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الكفار قليلا فأخبر بها أصحابه فاشتد أزرهم٢، وقويت عزائمهم، وازدادت في نفوسهم الشجاعة والاستبسال واليقين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عقب النتباهه من المنام :( أبشروا لقد نظرت إلى مصارع القوم ). والمراد بالقلة في الآية : ضعف القوم واستيئاسهم وأنهم مهزومون مصروعون فتكون الغلبة للمؤمنين قوله :﴿ ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ﴾ أي لو أراكم المشركين كثيرا لخارت عزائمكم، وانهارت قواكم، وأخذكم اليأس والخور، ﴿ ولتنازعتم ﴾ أي اختلفتم. والتنازع في الأمر معناه الاختلاف الذي يحول به كل واحد نزع صاحبه عما هو عليه. والمقصود : أنه لاضطراب أمركم واختلفت كلمتكم ﴿ ولاكن الله سلم ﴾ أي سلمكم من الفشل ومن المخالفة فيما بينكم. وقيل : سلمكم من الهزيمة.
قوله :﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ أي يعلم ما تخفيه صدوركم من الجراءة والخور، أو الصبر والجزع.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨٨..
٢ الأزر: القوة. انظر مختار الصحاح ص ١٤..
قوله تعالى :﴿ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ﴾ الضميران الكاف والهاء مفعولان. والمعنى :﴿ وإذ يبصركم الله إياهم { قليلا ﴾ أي قللهم في أعينكم تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتزدادوا يقينا فتحملوا عليهم بجراءة وجد. قال ابن مسعود ( رضي الله عنه ) : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة. فأسرنا رجلا منهم. فقلنا له : كم كنتم ؟ قال ؟ ألفا.
وكذلك قلل الله المسلمين في أعين الكافرين. وهو قوله :﴿ ويقللكم في أعينهم ﴾ حتى قال قائل من المشركين عن المسلمين : إنما هم أكلة جزور.
على أن الغرض من تقليل الكافرين في أعين المسلمين ظاهر. أما الغرض من تقليل المسلمين في أعين الكافرين : فوجهه أن الله قللهم في أعين الكافرين قبل اللقاء ؛ كيلا يبالوا بهم فيجترؤوا عليهم. ثم كثرهم الله بعد ذلك لتفجأ كثرتهم المشركين فيبهتوا ويهابوا فتميد شوكتهم ويفل جمعهم فيولوا الأدبار بعد ما رأوا ما لم يكن في حسبانهم.
قوله :﴿ ليقضي الله أمر كان مفعولا ﴾ تكررت هذه الآية ؛ فقد ذكرت في الآية المتقدمة. والمقصود من ذكرنا هنا البيان من الله أنه قلل عدد المؤمنين في أعين المشركين ليصير ذلك سببا في أن لا يبالغ المشركين في تحصيل الاستعداد والحذر. وذلك سيفضي إلى هزيمتهم وإعزاز الإسلام والمسلمين.
قوله :﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ مصير الأمور كلها إلى الله يوم القيامة. وحينئذ يجازي الله العباد بما علموا من إحسان وإساءة١.
١ الكشاف جـ ٢ ص ١٦١ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ١٧٥، ١٧٦ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ١٠، ١١..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ٤٥ وأطيعوا الله ورسوله ولا تتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ﴾ هذا بيان من الله لعباده المؤمنين ؛ إذ يأمرهم بالثبات عند لقاء العدو. فما يحل لهم أن يفروا من وجه العدو الظالم ولا يضطربوا وينثنوا أو يتخاذلوا وتلين قناتهم. بل عليهم أن يستبسلوا في المواجهة والقراع، وأن يقاتلوا أعداء الله مع شجاعة وحماسة وجراءة.
إنه ما يجوز للمسلمين. بحال أن يتملكهم الجبن والذعر عند اللقاء في الحرب فيولوا الأدبار ؛ فإنه لا يولي دبره عند لقاء العدو. إلا كل خائر جبان، غير خليق باحتسابه في فئة المؤمنين الصادقين. بل إن المؤمنين الصادقين أوفياء ثابتون على الحق، ماضون على أمر الله ودينه، لا تزعزعهم جحافل الكافرين الأنداد مهما جمعوا وأعدوا وكادوا. ومن أكرم ما يرد في هذا الصدد ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله ابن أبي أوفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال :( يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسألوه الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم :( اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم ) وفي الخبر عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تتمنوا لقاء العدو واسألوه الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، واذكروا الله، فإن صخبوا وصاحوا فعليكم بالصمت ). وعن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا قال : إن الله يحب الصمت عند ثلاث : عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة ).
وقد أمر الله المسلمين عند لقاء العدو أن يذكروا الله كثيرا لكي يكونوا من الفالحين الفائزين بالنصر في الدنيا ورضوان الله في الآخرة.
أما ذكر الله عند لقاء : فهو أن يكونوا في كل أحوال القتال ذاكرين الله بألسنتهم معلنين الطاعة والضراعة والإخبات. وأن يذكروه بقلوبهم خاشعين مستسلمين وهم يستنصرونه ويدعونه أنه يظهرهم ويخذل عدوهم.
قوله :﴿ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ يأمر الله عباده المؤمنين بطاعته سبحانه فيما أمرهم به، وأن ينتهوا عما زجرهم عنه. وكذلك أمرهم بطاعة رسوله الأمين، المبلغ بالصدق عن ربه. ويحذر الله جل وعلا عباده المؤمنين من التنازع، وهو الاختلاف ؛ فإن الاختلاف يثير التنافر والمباغضة في القلوب، ويفضي إلى الفرقة والشقاق والتبدد وزوال الشوكة. وهو قوله :﴿ فتفشلوا ﴾ منصوب بأن المضمرة بعد الفاء، وقيل : منصوب بالفاء في جواب النهي ؛ أي فتضعفوا وتجبنوا. والفشل معناه الجبن في الحرب ﴿ وتذهب ريحكم ﴾ أي تذهب قوتكم وبأسكم فتضعفوا ويدخلكم الوهن والاضطراب.
قوله :﴿ واصبروا إن الله مع الصابرين ﴾ أمر الله المؤمنين بالصبر في كل المواطن، وخاصة موطن الحرب ؛ فالمؤمنون وهم يواجهون العدو في حرب ضارية ضروس، مأمورون بالصبر والثبات، وأن لا ينهزموا، أو يفروا، أو يولوا الأدبار١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣١٦ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ١٧٦ والكشاف جـ ٢ص ١٦٢ والنسفي جـ ٢ ص ١٠٦ وفتح القدير جـ ٢ ص ٣١٥..
قوله تعالى :﴿ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورياء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط ٤٧ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم وإني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ٤٨ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ﴾ المراد بالذين خرجوا من ديارهم بطر : قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير، فقيل لهم : إن العير قد نجت فارجعوا، فقال أبو جهل مستكبرا مختالا : لا والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، وتنحر الجزر، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، وتتحدث العرب بمكاننا فيها ويهابوننا أبدا. لكن ذلك قد انعكس عليهم وبالا وهزيمة ؛ فلقوا مصيرهم الأليم من القتل والذل والصغار مما كانوا يجهلونه ؛ حين مضوا إلى مصارعهم تائهين واهمين.
وفي ذلك درس عظيم ومؤثر ما كان لفئة من المؤمنين طيلة الدهر أن تنساه وهو درس الاغترار والاستكبار والمضي في صلف وتيه وعجب. وإنما ينبغي للمؤمنين على الدوام أن يحسبوا لكل حدث أو خطب أو مواجهة أو صراع ما يستوجبه من تمام التقرير والاهتمام والحساب ؛ حتى لا يقع المسلمون في الهزيمة والانتكاس نتيجة غرورهم وقلة مبالاتهم. وههنا يحذر الله عباده المؤمنين من مثل هذا المصير الأليم الفاضح إذ يقول :﴿ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورياء الناس ويصدون عن سبيل الله ﴾ بطرا، مصدر في موضع الحال١. والبطر بمعنى الأشر، بالفتح. وهو الغلو في المرح والزهو. وبطر النعمة ؛ أي استخفها فكفرها٢، فقد خرج المشركون من مكه برئاسة أكابرهم من صناديد الكفر كأبي جهل وأصحابه، وهم بطرون يراءون الناس. وهو من الرئاء. ومعناه إظهار الجميل مع أن الباطن قبيح، أو هو إظهار الطاعة مع إبطان المعصية.
وذلك هو شأن الكافرين الذين خرجوا من مكة، وكل الذين يخرجون لملاقاة الإسلام والمسلمين في كل مكان وزمان، فغنما يخرجون ليبتغوا السمعة والذكر، لا يحفزهم إلى ذلك إخلاص لله ولا طلب لرضوانه. وإنما يحفزهم الخيلاء والغرور والمفاخرة بالأموال وكثرة العدد وقوة السلاح. وهم فوق ذلك ﴿ يصدون عن سبيل الله ﴾ أي يضلونهم عن دين الله ويغوونهم، ويصطنعون العراقيل والمعوقات والفتن التي تحول بين الناس وهذا الدين العظيم المبارك.
قوله :﴿ والله بما تعملون محيط ﴾ أي أن الله عليم بمقاصد هؤلاء الأشرار الأشقياء وما تنثني عليه صدورهم من حقد وسوء، وما يبيتونه للمسلمين من خبيث المكائد والمؤامرات والفتن. الله عليم بذلك كله وهو سبحانه لا محالة مجازيهم أشد الجزاء في الآخرة حيث جهنم وبئس القرار، فضلا عن مجازاتهم في الدنيا بالخزي والتنكيل.
١ البيان لاين الأنباري جـ ١ص ٣٨٩..
٢ مختار الصحاح ص ٥٥ والمعجم الوسيط جـ ١ ص ٦١..
قوله :﴿ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ﴾.
روي عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه، رأيته في صورة رجل من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشطان للمشركين : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم. فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين، وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده فولى مدبرا هو وشيعته : فقال الرجل : يا سراقة تزعم أنك لنا جار. قال : غني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب }، وذلك حين رأى الملائكة١. لقد زين الشطان للمشركين أعمالهم في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصد عن دين الله بكل وسائل الإغراء والترهيب والفتنة. ووسوس لهم بإيحائه الموهم المرجف أنهم لن يغلبوا ما داموا يركنون إليه وإلى جنوده من الشياطين. فما أن تلاقى الفريقان ورأى إبليس الملائكة ﴿ نكص على عقبيه ﴾ أي رجع وحجم وولى مدبرا هو وجنوده وتبرأ من المشركين ؛ إذ بطل كيده حين نزلت جنود الله.
١ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ١٤..
قوله :﴿ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ﴾ المنافقون : هم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر. أما الذين في قلوبهم مرض : فيراد بهم الشاكون وضعاف الإيمان الذين لم تشرح صدورهم بالإيمان فهم على حرف ؛ لأنهم حديثو عهد بالإسلام. فهم بذلك دون المنافقين. والمراد أن هؤلاء جميعا قالوا عند التقاء الصفين ﴿ غر هؤلاء دينهم ﴾ أي غر هؤلاء المسلمين الذين يقاتلون المشركين، من أنفسهم دنيهم وهو الإسلام. يعنون أن المسلمين قد اغتروا بدينهم وأنهم يتقون به فيستطيعون هزم خصومهم وهم الأكثرون الأقوياء.
قال ابن عباس في هذه الآية : لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين، وقلل المشركون في أعين المسلمين. فقال المشركون : غر هؤلاء دينهم. وإنما قالوا ذلك من قتلهم في أعينهم فظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك. فقال الله :﴿ ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ﴾ أي من يسلم أمره إلى الله ويثق به تمام الثقة ويركن إليه تمام الركون ؛ فلسوف ينصره ويرعاه ؛ لأن الله عزيز ؛ أي قوي الجلال والسلطان، لا يغلبه شيء ولا يقهره قاهر. فمن استجار بجنابه ؛ حفظه وكفاه. وهو كذلك ﴿ حكيم ﴾ فلا تصدر أفعاله وأوامره وزواجره وأقداره إلا عن حكمة، فينصر من يستحق النصر، ويخذل من لا يستحق غير ذلك١.
وذلك أمر من الله لعباده المؤمنين بان يديموا التوكل على الله وحده دون أحد من خلقه ؛ فإن الله حافظهم وجاعل الغلبة لهم.
١ الكشاف جـ ٢ ص ١٦٣ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ١٦ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣١٨..
قوله تعالى :﴿ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ٥٠ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظالم للعبيد ﴾ أي لو عاينت يا محمد هؤلاء الكفرة وهم تتوفاهم الملائكة ؛ لرأيت ما يروع القلب ويرعب الوجدان مما يجده هؤلاء العصاة المجرمون من فظاعة التنكيل والإيلام حال انتزاع أرواحهم ؛ إذ الملائكة ﴿ يضربون وجوههم وأدبارهم ﴾ والمراد بأدبارهم استاههم. على أن انتزاع الأرواح من الكافرين في ذاته غاية الإيلام والفظاعة، ثم يضاف إلى ذلك ضربهم على وجوههم واستاههم زيادة في الإيجاع والتنكيل. وعن الحسن البصري قال : قال رجل : يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك١. قال ( ذاك ضرب الملائكة ).
قوله :﴿ وذوقوا عذاب الحريق ﴾ وهذا قول الملائكة للظالمين الخاسرين لدى انتزاع أرواحهم من أجسادهم بغلظة وفظاظة، فضلا عن ضربهم بمقامع الحديد المحماة على وجوههم واستاههم. لا جرم أن ذلك تفظيع لحال هؤلاء الأشقياء سواء كان ذلك في الدنيا ؛ إذ تنتزع الملائكة أرواحهم بقسوة، أو كان في يوم القيامة حيث الويل واشتداد الأهوال وعظائم الأمور ! نسأل الله العفو والنجاة والرحمة في المقامين.
١ الشراك: سير النعل الذي على ظهر القدم. انظر المصباح المنير جـ ١ ص ٣٣٣..
قوله :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظالم للعبيد ﴾ ذلك، في محل رفع مبتدأ. وخبره محذوف تقديره جزاؤكم أو ﴿ بما قدمت أيديكم ﴾ هذا من قبل الملائكة للكافرين الخاسرين عند الموت ؛ إذ يقولون لهم : هذا العذاب جزاء لكم بسبب ما اكتسبتموه من الآثام والأوزار وبما اجترحتموه من الخطايا وعصيان الملك الجبار. وهو سبحانه أعدل العادلين لا يظلم الناس مثقال ذرة١.
١ الكشاف جـ ٢ص ١٦٣ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ١٧..
قوله تعالى :﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله شديد العقاب ﴾ الكاف في قوله :﴿ كدأب ﴾ صفة لمصدر محذوف. وتقديره : فعلنا ذلك بهم فعلا مثل عادتنا في آل فرعون١. والدأب معناه العادة والشأن٢. أي فعلنا بهؤلاء المكذبين الكفرة من الصلي بالنار والضرب على الوجوه والاستاه عند انتزاع أرواحهم كالذي فعلناه بآل فرعون. أولئك الأشقياء العتاة الذين عاثوا في الأرض الفساد والخراب ﴿ فأخذهم الله بذنوبهم ﴾ أي أهلك الله آل فرعون والذين من قبلهم من الأمم الظالمة التي عتت عن أمر الله، وأبت إلا الركون لأهوائهم والشياطين فضلوا ضلالا بعيدا. أولئك جميعا قد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. والله جلت قدرته منتقم جبار. وهو القوي الشديد المحال الذي لا يغلبه غالب ولا يند عن سلطانه وجبروته مدبر أو هارب.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٩٠..
٢ مختار الصحاح ص ١٩٦..
قوله تعالى :﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ٥٣ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ﴾.
﴿ ذلك ﴾، إشارة إلى ما حل بالظالمين جميعا من عقوبة الهلاك والتدمير ؛ فقد فعل الله بهم ذلك بأنهم غيروا ما انعم الله عليهم ؛ إذ ابتعث فيهم رسله يحلمون لهم البينات والدلائل فجحدوا وكذبوا وعتوا عتوا كبيرا. أو أنهم جوزوا هذا الجزاء الأليم ؛ لأنهم غيروا وبدلوا نعمة الله عليهم. وأنعم الله عليهم كثيرة، فمنهما : نعمة الأمن والخصب والسعة والعافية. فالله لم يذهب النعمة عن هؤلاء الفاسقين، ولم يبدلها بالنقمة حتى يبدلوا هم ما بهم من حال إلى حال أسوأ. وذلك كتغير قريش حالهم من مجرد الشرك وعبادة الأصنام إلى ما هو أعتى، كالصد عن دين الله ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه من المؤمنين، وإلحاق الأذى والشر بهم وتكذيب الكتاب الحكيم والاستهزاء به.
وكذلك الأمم الظالمة، ومن ورائها الدول المغالية في الظلم والعدوان، والموغلة في تدمير القيم والمرواءت، والتي تعيث في الدنيا الفساد والفتن، والتي تتجرع من دواهيها وويلاتها الشعوب الملظومة المغلوبة كل ألوان الشقاء والحرمان والاغتصاب.
إن هذه الأمم العاتية الجاحدة وفي طليعتها القيادات الضالعة في الرجس والعدوان واستعباد الشعوب وظلمهما لا بد أن تحيق بها دائرة الهون والتداعي. وأن تزلزلها الضربات الإلهية المقدورة. وعندما يأذن الله بذلك ينزل بساحتهم البلاء ويأخذهم العذاب في هذه الدنيا من حيث لا يحتسبون. فإن الله عزيز منتقم يأخذ الظالمين المتجبرين وهو لهم بالمرصاد.
قوله :﴿ وأن الله سميع عليم ﴾ الله سميع لما يقول المبطلون الظالمون، وما يهذون به من ضلال وإشراك وكفران. وهو كذلك عليم بما يفعله هؤلاء الأشقياء المقبوحون من تضليل البشرية وصدها عن منهج الله، واصطناعها الأكاذيب والافتراءات والشبهات من حول هذا الدين الحق.
قوله :﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم ﴾ أي فعل الله بهؤلاء المشركين ما فعله من تعذيب بالقتل والإذلال بسبب جحودهم نعمة الله، كشأنه سبحانه في عقاب الظالمين الجاحدين في كل زمان ؛ فقد أخذ آل فرعون والذين من قبلهم فأهلك بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالريح العاصفة المدمرة. ثم أغرق آل فرعون وأوقع بهم أشد العذاب. وذلك كله بسبب جحودهم نعمة ربهم على اختلاف هذه النعم. سواء في ذلك نعمة الهداية والدين. أو نعمة الدنيا كالأموال والأولاد والرخاء والأمن والسعة١.
١ الكشاف جـ ٢ص ١٦٣ والبيضاوي ص ٢٤٣ والنسفي جـ ٢ ص ١٠٨ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ١٧، ١٨..
قوله تعالى :﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ٥٥ الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ٥٦ فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يتذكرون ﴾ أي أن شر ما دب على الأرض منا الكائنات والبرية عند الله أولئك الذين كفروا بربهم ؛ فجحدوا وحدانيته، وكذبوا رسله المبعوثين لهم هداة ورحمة، ورفضوا منهج الله الكريم الهادي.
أولئك ﴿ الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ﴾ لقد نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا المشركين بالسلاح والرأي وظاهروهم على المسلمين. ثم اعتذروا قائلين : نسيبا. فعاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم ثانية فنقضوا عهدهم معه يوم الخندق. والمراد بهم بنو قريظة وبنو النضير ؛ فقد كانوا يعاهدون النبي صلى الله عليه وسلم على الموادعة والصلح ثم لم يلبثوا أن ينقضوا العهد معه كلما لاحت لهم فرصة للنقض.
قوله :﴿ وهم لا يتقون ﴾ أي لا يخافون مما فعلوه من الجحود والتكذيب والخيانة أن تجتاحهم النوائب والمحن من الله فتهلكهم إهلاكا. ولا غرو فغن الذين مردوا على التدسس والغدر وخيانة العهود والمواثيق لا يملكون زمام أنفسهم المبتذلة الشوهاء وهم ينزلقون سراعا نحو المخالفات والمعاصي بالرغم من يقينهم المسبق أن ما اجترحوه سيفضي بهم إلى المهاوي والمهالك.
قوله :﴿ فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ﴾ ﴿ تثقفنهم ﴾ أي تظفر بهم من الثقف وهو الإدراك والأخذ والظفر١.
والمعنى : فإما تلقين في الحرب هؤلاء الذين عاهدتهم فنقضوا عهدك مرة بعد أخرى من قريضة ونظرائهم فتأسرهم وتظفر بهم ﴿ فشرد بهم خلفهم ﴾ وهو من التشريد ؛ أي التطريد والتبديد والتفريق ؛ فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا ظفر بالذين ينقضون العهد من هؤلاء الخائنين أن ينكل بهم تنكيلا ويثخن فيهم القتل إثخانا يخيف الذين من ورائهم من أتباعهم وأعوانهم الظالمين كيلا يجترءوا على مثل ما اجترأ عليه هؤلاء الغادرون من الخيانة ونقص العهود.
قوله :﴿ لعلهم يذكرون ﴾ أي لكي يتعظون بما فعلت بهؤلاء من التنكيل والإثخان في القتل فيحذروا نقص العهود معك مخافة أن ينزل بهم ما نزل بهؤلاء الناقضين٢.
١ تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري جـ ٩ ص ٨٣ أساس البلاغة للزمخشري ص ٩٦ وتاج العروس جـ ٦ ص ٥٢..
٢ تفسير الرازي جـ ١٥ ص ١٨٩ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٣٠ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ١٨، ١٩ والكشاف جـ ٢ ص ١٦٤..
قوله تعالى :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يجب الخائنين ٥٨ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ﴾ تأويل هذه الآية : أنك إن خشيت يا محمد من عدو لك بينك وبينه عهد أن ينكث عهده وينقص ميثاقه فيغدر بك غدرا وخيانة ﴿ فانبذ إلهم على سواء ﴾ أي فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل أن تقاتلهم أنك قد فسخت ما بينك وبينهم من عهد أو ميثاق لما ظهر منهم من أمارات الغدو والخيانة تلوح لك ؛ وذلك حتى تصير أنت وإياهم على سواء في العلم بأنك محار بلهم، فتبرأ من التلبس بالخيانة أو الغدر ﴿ إن الله لا يحب الخاسرين ﴾.
وبعبارة أخرى : فإنه إذا خيف من العدو أن ينقض عهده مع المسلمين لما تبدي من آثار الغش والغدر وعلائم النكث والغدر، جاز المسلمين أن ينبذوا إليهم عهدهم ؛ أي يطرحوه لهم. وذلك أن يخبروهم إخبارا مكشوفا جليل أنهم قطعوا ما بينهم وبينهم من عهد، حتى يستووا جميعا في العلم بانقطاع العهد بينهم، وأنهم كلهم باتوا الآن في احتراب فيما بينهم. لا جرم أن هذه ظاهرة بلجة من ظواهر العدل المطلق الذي يتجلى في هذا الدين العظيم. الذين الذي يأبى الغدر أو الغش أو الخيانة في كل الأحوال والظروف حتى في زمن الحرب، حيث المخاطر والأهوال والأحوال العصيبة الرهيبة التي تحدق بالمسلمين والتي يشتد فيها الحذر والوجل. فإن الإسلام بالرغم من ذلك كله يندد بالغدر والخيانة في كل الأحوال والوجوه، سواء في السلم أو الحرب. في مقابلة المسلمين أو الكافرين وهو كذلك يأمر أمرا جازما بدوام التلبس بفضائل الخلق الكريم وروائع القيم الرقية كالصدق والوفاء والحياء والمروءة وغير ذلك من وجوه الخلق الرفيع الذي لا يتجلى بمثل هذا القدر المطلق البالغ إلا في الإسلام.
قوله :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ﴾ أي ليس الكافرين فائتين ولا منفلتين من إدراكهم والظفر بهم ؛ فغنهم لا يعجزون الله إذا أراد أن يهلكهم أو يبددهم سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة ؛ فإن الله إذا جاء أجله لهو قادر على أخذهم والتنكيل بهم، فهم غير معجزين ولا هاربين من قدره ولا من إحاطته١.
١ الكشاف جـ ٢ ص ١٦٥ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ٢٠، ٢١..
قوله تعالى :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ﴾ أمر الله بالإعداد للحرب بمختلف آلاتها ووسائلها من أجل أن يقاتل بها المسلمون أعداءهم من الكافرين على اختلاف مللهم الضالة. على أن الأمر بالإعداد إنما يكون في حدود الطاقة المقدورة للمسلمين ؛ لأنه ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ وهو هنا قوله :﴿ ما استطعتم من قوة ﴾ وهذا يدل على وجوب الإعداد بأقصى ما يستطيعه الإنسان. فإن أعد ما دون طاقته كان مقصرا ولم تبرأ ذمته من فريضة الإعداد للجهاد.
أما القوة المبينة في الآية : فغنها تفيد بإطلاقها كل وجوه الآلات للحرب، وكل ما يلزم لقتال الظالمين من وسائل ومعدات. على أن آلات الحرب على اختلاف صورها وضروبها تقوم في الأغلب على فن الرمي كيفما كان شكله أو كيفيته. سواء في ذلك الرمي البدائي القديم بالقوس، أو الرمي المتطور في الزمن الراهن بالقذائف النارية المندفعة بقوتها الهائلة سواء في البر أو البحر أو الجو ؛ فغن ذلك كله أساسه الرمي حيث القوة الدافعة التي تقذف بالأداة لتدمير الهدف المراد.
وفي التركيز على القتال بالرمي أخرج مسلم عن أبي علي ثمامة بن شفي أخي عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر :﴿ واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ).
قوله :﴿ ومن رباط الخيل ﴾ الرباط، اسم للخيل التي تربط في سبيل الله. وقيل : الرابط بمعنى المرابطة وهي ملازمة ثغر العدو. وقيل : الرابط، الخيل الخمس فما فوقها١.
وفي قوله :﴿ ومن قوة من رباط الخيل ﴾ ما يثير البهر والإعجاب لكمال هذا الكتاب الحكيم الذي يتسم بسمو المستوى سواء في جمال النظم، أو كمال المغنى، يستبين ذلك جليا إذا أدركنا شمول المراد بالإعداد سواء كان ذلك في الأزمنة الفائتة التي يناسبها الإعداد برباط الخيل. فقد كانت الخيل العنصر الأهم في عناصر الحرب وآلاتها في الزمن السابق، وكان المتقاتلون إنما يعولون عليها أبلغ تعويل فيما تقتضيه طبيعة الظروف الماضية. لكن إطلاق القوة في الآية هنا يعم كل وجوه الآلات للحرب. بما يشمل الوسائل القتالية المتطورة تطورا مذهلا في عصرنا الراهن. وهذا هو شأن القرآن في علو مستواه ؛ إذ يخاطب أذهان البشرية وآفاقها في كل زمان حتى يظل القرآن إلى أبد سابقا للأذهان والآفاق، محيطا بالأدهار والأزمنة جميعها، وذلكم الإعجاز.
قوله :﴿ ترهبون به عدو الله وعدوكم ﴾ أي تخيفون بقوة السلاح والمرابطة أعداء الله وأعداءكم ؛ فهم مشتركون في العداوة. فمن عادي دين الله وأهله من المسلمين لا جرم أنه معاد لله سبحانه. وهؤلاء كثيرون منتشرون في كل بقاع الأرض التي يعيث فيها الظالمون الجناة أبشع صنوف الإفساد والتخريب. وهم بعدوانهم وطغيانهم ومجاوزتهم كل حسبان ومعقول لا تجدي معهم المجادلات والمحاورات القائمة على المنطق الهادئ المعقول. ولا تردعهم أساليب الموادعة واللين. إنما يردعهم التخويف بقوة السلاح على اختلاف أنواعه وضروبه، وذلك هو ديدن الأشرار الظالمين من شياطين البشر الذين لا يصيخون إلا لما يروعهم ترويعا ويرهبهم ترهيبا. وذلك بوسائل القتال الفتاكة التي تثخن هؤلاء المجرمين إثخانا يفضي إلى خزيهم وإخراسهم.
قوله :﴿ وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ﴾ والمراد بالذين من دونهم موضع خلاف ؛ فقد يقل : إنهم المنافقون. وقيل : إنهم فارس والروم. وقيل : اليهود. والراجح أن المراد عموم من لا تعرف عداوته من أصناف البشر المحفل بالحقد من الذين تتقاطر قلوبهم كراهية للإسلام والمسلمين ؛ فهم على مر الزمن يتربصون بهم المهالك والدوائر ويكيدون لهم المكائد والمؤامرات في كل الأحيان. وهذا ديدن الخصوم المبغضين للمسلمين منذ أن أشرقت شمس الإسلام على الدنيا حتى يومنا هذا والأعداء اللد يعقدون المؤتمرات والمؤامرات تدمير هذا الدين القويم وأهله.
قوله :﴿ وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف لكم ﴾ أي ما أنفقتم من مال في شراء أسباب الجهاد وآلة الحرب أو غير ذلك من النفقات التي تقتضيها مصالح العساكر والجند من الطعام واللباس والدواء، فإن ذلك كله يخلفه الله على عباده المنفقين في الدنيا مع ما يدخره لهم في الآخرة من عظيم الأجر والتكريم والرضوان.
قوله :﴿ وأنتم لا تظلمون ﴾ أي لا يضيع الله أجر من أنفق منكم. بل إن الله يخلفكم من جزيل العطاء والمثوبة عوضا عما أنفقتموه.
١ مختار الصحاح ص ٢٢٩ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ١٩٢..
قوله تعالى :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ٦١ وإن يريدون أن يخادعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ٦٢ وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ﴾.
﴿ جنحوا ﴾، من الجنوح وهو الميل١ والسلم، بفتح السين. وقيل بالكسر. والسلم والسلام بمعنى المصالحة والمهادنة. والسلم مؤنثة، لذلك قال :﴿ لها ﴾ والمعنى : إن مال الكافرون إلى مسالمتكم ومتاركة الحرب ؛ إما بدخولهم الإسلام، أو بإعطاء الجزية، أو بالموادعة، أو نحو ذلك من أسباب الصلح ﴿ فاجنح لها ﴾ أي فمل إليها وابذل للكافرين الجانحين ما مالوا إليه من المصالحة.
وقد اختلفوا في نسج هذه الآية ؛ فقد قيل : نسخها قوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ وقوله أيضا :﴿ وقاتلوا المشركين كافة ﴾ وقيل : نسخت سورة براءة كل موادعة حتى يقولوا لا إله إلا الله فيسلموا، والناسخ هو قوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ﴾ إلى قوله :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾. وقتال ابن عباس : الناسخ لهذه الآية هو قوله تعالى :﴿ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم ﴾.
وقيل : ليست هذه الآية منسوخة بل هي محكمة، والمراد به قبول الجزية من أهل الجزية، وقد قبلها منهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر ومن بعده من الأئمة ؛ إذ صالحوا كثيرا من أهل العجم على ما أخذوه منهم، وترموهم وشأنهم من حيث عبادتهم وطقوسهم وشعائرهم الدينية. وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بعد أن أظفره الله بهم.
على أن المسلمين إن كانت لهم مصلحة في الموادعة والصلح بما يحقق لهم المنفعة ويدفع عنهم ضرر ؛ فلا بأس أن يبادر المسلمون بالمصالحة عند الحاجة ؛ فقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عنهم معه. واختلفوا في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة عام الحديبية، فقد قيل : كانت أربع سنين. وقيل : كانت ثلاثا. وقيل : كانت عشرا. وذهب الإمام الشافعي إلى أنه لا يجوز أن يهادن المسلمون المشركين أكثر من عشر سنوات على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية. وذكر عن الإمام مالك أنه تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث، وإلى غير مدة.
وإذا حاقت بالمسلمين الخطوب والمخاطر، واستحوذ عليهم العدو الغادر، وضاقت بهم الدنيا، وكانوا قلة، ورأوا أنه لا حيلة لهم في مواجهة العدو لقوته وضعفهم ؛ جاز لهم حينئذ أن يبدلوا له المال لموادعته ومهانته حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
أما المشركين من غير أهل الكتاب فما ينبغي أن يقبل المسلمون منهم غير الإسلام أو القتال ؛ لأن هؤلاء المشركين الذين يقدسون الأوثان، أو الذين يعتنقون المادية المحضة فلا يعترفون بإلهية ولا دين، لا جرم أنهم جناة في حق أنفسهم وفي حق عقولهم التي عطلوها تعطيلا. فما كان لهم بذلك أن يستأهلوا من تكريم ؛ فلا تؤخذ منهم جزية، ولا ينبغي لهم الصلح أو المهادنة إلا الإسلام ؛ لأنه مبعث الهداية والترشيد والخير للإنسانية جمعاء. بخلاف أهل الكتاب ؛ إذ جعل الله لهم بعضا من اعتبار بقبول الجزية منهم وتركهم وما يدينون.
أما المسلمون إذا كانوا كثيرا، وكانت جموعهم بأعدادها وأجيالها تملأ بقاع الأرض –كحالهم في هذا العصر- فإنه ما ينبغي لهم أن يهادنوا أئمة الظلم والظلمات أو يوادعوهم ما دام هؤلاء الظالمون قد بلغوا على المسلمين ؛ فسلبوا ديارهم وأوطانهم، وأذلوا شعبوهم وأجيالهم، واغتصبوا أموالهم وخيرات بلادهم، وداسوا شرفهم وكراماتهم، وبدلوا دينهم وثقافتهم وقيمهم تبديلا. إنه لا مساغ البتة –والحال على ما هو عليه من التعس والعار والذلة- أن يهادن المسلمون أعداء الله. بل على المسلمين في كل أنحاء العالم أن يلتئموا جميعا ليكونوا أمة واحدة متآزرة متعاونة، يشد بعضها بعضا ؛ فيواجهوا بوحدتهم والتئامهم وقوتهم وعقيدتهم عدو الله وعدوهم في حرب حامية مستعرة، مهما عظم فيها البذل والتضحيات. حتى يكتب الله للمؤمنين العاملين الثابتين النصر ؛ فتخفق راية الإسلام فوق ربوع البلاد وفيها فلسطين والقوقاز وسمرقند وأثيوبيا والأندلس.
قوله :﴿ وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ﴾ أي فوض الأمر إلى الله، ليكون لك خير معين ومجير، ولكي يقويك وينصرك على الأعداء الظالمين إذا عدلوا عن الوفاء بالعهد فنقضوه، والله جل وعلا عالم بما يخفيه العباد من نوايا، وسامع لما يصدر عنهم من أقوال سواء في الخير أو الشر والكيد والتآمر ؛ فالله محيط بذلك كله ليجازي الأشرار والمتربصين وأعداء دينه ما ينبغي لهم من سوء الحساب.
١ المصباح المنير جـ ١ ص ١٢١..
قوله :﴿ وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله ﴾ أي إن أراد المشركون أن يصالحوك على سبيل المخادعة ؛ فقد وجب قبول ذلك الصلح ؛ لأن الحكم إنما يبني على الظاهر وليس الباطن. فلا تخف من إبطانها المكر في جنوحهم إلى السم، فالله كافيك وعاصمك من مكرهم وكيدهم وخداعهم.
قوله :﴿ هو الذين أيدك بنصره وبالمؤمنين ﴾ الله جل وعلا هو الذي قواك بنصره إياك على أعدائك. وقواك كذلك بالمؤمنين وهم الأنصار.
قوله :﴿ وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ﴾ ألف بمعنى جمع. من الألفة وهي الاجتماع والالتئام. تألف فلانا وائتلفه ؛ أي استماله. وألف الشيء ؛ وصل بعضه ببعض. وألف قلبه ؛ أي استماله١.
لقد جمع الله بين قلوب العرب بعد أن كانت متنافرة متباغضة. وبعد أن كانوا على العصيبة الجاهلية المقيتة، المبينة على محض التعصب السخيف، التعصب للعائلة والعشيرة في كل الأحوال، سواء في الحق أو الباطل. لقد جمع الله بين الناس في زمن ما كان يشيع فيه غير الحمية الظالمة المجانبة لأبسط بدهيات المنطق أو التفكير السليم، والتي لا تعبأ بالحق أو الصدق أو العدل أيما إعباء. حتى إذا جاء الإسلام العظيم بعقيدته الكريمة الحليمة السمحة، وتشريعه الواسع الميسور، اجتمع الناس ليكونوا أمة واحدة متساندة متعاونة منسجمة تجمعها عقيدة التوحيد الخالص، ويوحدها الشعور الفياض بالإيمان بالله وبصدق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وهكذا يجمع الله بين الناس عقب تنافرهم وتناحرهم والتجافي بينهم. يجمعهم على العقيدة وحدها دون غيرها من الأسباب. ولن يستطيع أيما أحد أن يؤلف بين قلوب العباد مهما بذل من الأسباب لتحقيق هذا المقصود. وهو قوله :﴿ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ﴾ أي لو بذلت للتأليف بين قلوب العرب ملء الأرض من المال والذهب والعروض ؛ لما جمعت بين قلوبهم بهذا السبب، ولما استطعت أن تبدد من قلوبهم رواسب المحبة الجاهلية وآثار التعصب الغاشم المنكود. ولا يغرن أحدا ما تتظاهر به الأمم فيما بينها من التئام وانسجام ؛ فليس ذلك إلا الظاهر المموه المصطنع القائم على الأثرة المطلقة والتقديس الأكبر للأهواء والشهوات ومختلف المنافع الدنيوية العاجلة. ثم لا يلبث هؤلاء المتظاهرون أن يأتي عليهم الانهيار والدمار، أو التبدد والزوال ولو بعد حين.
قوله :﴿ ولكن الله ألف بينهم ﴾ الله وحده الذي يجمع بين قلوب العباد لتكون متوادة متؤتلفة. وذلك بدينه الأكرم. دين الإسلام الذي جاء ليشيع المودة والرحمة بين الناس ولينشر في القلوب رباط المحبة والتآلف كيما يكون الناس جميعا على قلب رجل واحد فلا يجمعهم غير شعار العقيدة جامع. ولا يؤثر فيهم غير إحساس الإسلام. فلا يستجيبون بعد ذلك لنداءات الضلال والباطل. النداءات الظالمة المريبة التي يهتف بها الضالون المظلون من شياطين البشر. أولئك الذين تنثني صدورهم على الكيد للبشرية ليضلوها ضلالا، وليودوا بها متاهات الضياع والفساد والخسران.
قوله :﴿ إنه عزيز حكيم ﴾ الله قوي لا يقهره شيء، بل إنه هو الذي يقهر كل أحد. وهو الذي يقهر أعداءه أعداء الدين من المخادعين والخائنين. وهو كذلك حكيم يعلم ما ينبغي أن تكون عليه الأفعال والأحكام والأمور٢.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٢٤..
٢ تفسير الرازي جـ ١٥ ص ١٩٣- ١٩٦ والكشاف جـ ٢ ص ١٦٦ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ٢٥، ٢٦ وتفسير البيضاوي ص ٢٤٤ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١١٠..
قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ٦٤ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ٦٥ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ روي عن ابن عباس قوله : أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثون رجلا، ثم إن عمر أسلم فصاروا أربعين، فنزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ ١. وروي عن عبد الله بن مسعود قال : ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر. فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه. وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة.
و ﴿ حسبك الله ﴾، يعني كافيك الله وناصرك ومؤيدك، ﴿ ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ من، في محلها وجهان، هما الرفع والنصب. أما الرفع : فهو بالعطف على لفظ الجلالة ﴿ الله ﴾ أي حسبك الله وحسبك المؤمنون، بمعنى : كفاتك الله وكفاك المؤمنون. وأما النصب : فهو على أن الواو بمعنى مع وما بعده منصوب. كما تقول : حسبك وزيدا درهم. والمعنى : كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصرا٢.
ذلك تحريض من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه على قتال الأعداء ومناجزتهم في شجاعة واستبسال لا يثنيهم عن ذلك تخاذل ولا خور. ويخبرهم إخبارا لا ريب فيه أنه كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم بالرغم من كثرة أعدادهم وجموعهم وعظيم قوتهم، في مقابلة قلة المسلمين أو ضعف طاقتهم المادية ؛ فإنه في كل الأحوال، الله ينصر جنده المؤمنين الصابرين الثابتين على الحق، وعلى منهجه الحكيم ما داموا غير مفرطين ولا مقصرين، وقد أعدوا للقتال وما وسعهم الإعداد، وتهيأوا لهذه الوجيبة العظيمة ما استطاعوا.
قوله :﴿ ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ أي الله كافيك، والمؤمنين كافوك، أو حسبك الله وحسبك المهاجرين والأنصار. وعلى المعنى الآخر، أن الله كافيك وكافي من تبعك.
١ أسباب النزول للنيسابوري ص ١٦٠..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٩١ والكشاف جـ ٢ ص ١٦٧..
قوله :﴿ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ﴾ ﴿ حرض ﴾، من التحريض وهو الحث والإحماء١ يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحث المؤمنين ويحضهم حضا على قتال الأعداء في شجاعة وإقدام ؛ فلا يجبنوه ولا ينثنون ولا يتخاذلون ولا يولون الأدبار عند اللقاء ؛ فإنه لا يولي دبره عند اللقاء خائرا إلا الأنذال والخاسرون. ومن أجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على القتال وعند مواجهة عدوهم. ونظير ذلك ما قاله لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في أعدادهم وجموعهم :( قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض ).
قوله :﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ ذلك تبشير من الله للمؤمنين بالنصر إن واجه الواحد منهم العشرة من الكافرين. لسوف ينصر الله المؤمنين على قلتهم إن كانوا صابرين ثابتين محتسبين. ثم نسخ هذا التكليف وبقيت البشارة وذلك أنه شق عليهم حين فرض الله عليهم أن لا يفر الواحد منهم من العشرة من الكافرين في القتال. وروي عن ابن عباس قال : لما نزلت ﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ﴾ شق ذلك على المسلمين حتى فرض الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ثم جاء التخفيف فقال :﴿ الآن خفف الله عنكم ﴾ إلى قوله :﴿ يغلبوا مائتين ﴾ وروي البخاري نحوه. وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال : كتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين. ثم خفف الله عنهم فقال :﴿ لآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ فلا ينبغي لمائة أن يفروا من مائتين.
وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس : نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفا. فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن يفروا من عدوهم. وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم.
قال القرطبي في ذلك : حديث ابن عباس يدل على أن ذلك فرض. ولما شق ذلك عليهم حط الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين. فخفف عنهم وكتب عليهم ألا يفر مائة من مائتين ؛ فهو على هذا القول تخفيف لا نسخ. وهذا حسن٢.
قوله :﴿ بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ أي بسبب أن الكافرين سخفاء، وأنهم تافهون أشقياء يقاتلون في سبل الشيطان، ويموتون من أجل الباطل ؛ حيث الأهواء والشهوات والسفاسف الرخيصة، غير عابئين بمرضاة الله ولا مكترثين بأيما احتساب للثواب عنده ؛ فلا يستحقون بذلك من الله نصرا. إنما النصر للمؤمنين الذين يقاتلون على بصيرة طلبا لمرضاة الله وسعيا لنشر الحق والعدل وإشاعة الفضيلة والرحمة بين الناس.
وقد بينا آنفا أن الله خفف عن المسلمين في عدد الذين يتوجب عليهم الثبات عند اللقاء فلا يفرون ؛ فأوجب عليهم أن لا يفر الرجل من الرجلين، وأن تصبر العشرة للعشرين، والمائة للمائتين، فإنهم ؛ إن أعدوا وصبروا وتوكلوا على الله، فإن الله ناصرهم، وهازم عدوهم٣.
١ مختار الصحاح ص ١٣٠..
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٤٢ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٤٥..
٣ الكشاف جـ ٢ ص ١٦٧ وتفسير النفسي جـ ٢ ص ١١٠ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ٢٨..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٥:قوله :﴿ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ﴾ ﴿ حرض ﴾، من التحريض وهو الحث والإحماء١ يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحث المؤمنين ويحضهم حضا على قتال الأعداء في شجاعة وإقدام ؛ فلا يجبنوه ولا ينثنون ولا يتخاذلون ولا يولون الأدبار عند اللقاء ؛ فإنه لا يولي دبره عند اللقاء خائرا إلا الأنذال والخاسرون. ومن أجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على القتال وعند مواجهة عدوهم. ونظير ذلك ما قاله لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في أعدادهم وجموعهم :( قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض ).
قوله :﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ ذلك تبشير من الله للمؤمنين بالنصر إن واجه الواحد منهم العشرة من الكافرين. لسوف ينصر الله المؤمنين على قلتهم إن كانوا صابرين ثابتين محتسبين. ثم نسخ هذا التكليف وبقيت البشارة وذلك أنه شق عليهم حين فرض الله عليهم أن لا يفر الواحد منهم من العشرة من الكافرين في القتال. وروي عن ابن عباس قال : لما نزلت ﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ﴾ شق ذلك على المسلمين حتى فرض الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ثم جاء التخفيف فقال :﴿ الآن خفف الله عنكم ﴾ إلى قوله :﴿ يغلبوا مائتين ﴾ وروي البخاري نحوه. وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال : كتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين. ثم خفف الله عنهم فقال :﴿ لآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ فلا ينبغي لمائة أن يفروا من مائتين.
وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس : نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفا. فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن يفروا من عدوهم. وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم.
قال القرطبي في ذلك : حديث ابن عباس يدل على أن ذلك فرض. ولما شق ذلك عليهم حط الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين. فخفف عنهم وكتب عليهم ألا يفر مائة من مائتين ؛ فهو على هذا القول تخفيف لا نسخ. وهذا حسن٢.
قوله :﴿ بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ أي بسبب أن الكافرين سخفاء، وأنهم تافهون أشقياء يقاتلون في سبل الشيطان، ويموتون من أجل الباطل ؛ حيث الأهواء والشهوات والسفاسف الرخيصة، غير عابئين بمرضاة الله ولا مكترثين بأيما احتساب للثواب عنده ؛ فلا يستحقون بذلك من الله نصرا. إنما النصر للمؤمنين الذين يقاتلون على بصيرة طلبا لمرضاة الله وسعيا لنشر الحق والعدل وإشاعة الفضيلة والرحمة بين الناس.
وقد بينا آنفا أن الله خفف عن المسلمين في عدد الذين يتوجب عليهم الثبات عند اللقاء فلا يفرون ؛ فأوجب عليهم أن لا يفر الرجل من الرجلين، وأن تصبر العشرة للعشرين، والمائة للمائتين، فإنهم ؛ إن أعدوا وصبروا وتوكلوا على الله، فإن الله ناصرهم، وهازم عدوهم٣.
١ مختار الصحاح ص ١٣٠..
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٤٢ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٤٥..
٣ الكشاف جـ ٢ ص ١٦٧ وتفسير النفسي جـ ٢ ص ١١٠ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ٢٨..

قوله تعالى :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ٦٧ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ٦٨ فكلوا مما غنمتم حلالا طبيا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ﴾ روي الإمام أحمد عن أنس ( رضي الله عنه ) قال : استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأساري يوم بدر. فقال :( إن الله قد أمكنكم منهم ) فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم. ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس ) فقام عمر فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم. فاعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم. فقال للناس مثل ذلك. فقام أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) فقال : يا رسول الله ترى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء. قال : فذهب عن وجه رسوله الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء. قال : وأنزل الله ﴿ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ﴾ ١ وعلى هذا نزلت الآية يوم بدر عتابا من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقوله :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾ ﴿ يثخن ﴾، يبالغ في قتل المشركين. وهو من الإثخان، ومعناه كثره القتل والمبالغة فيه ؛ من قولهم : أثخنته الجراحات إذا أوهنته حتى تثقل عليه الحركة. وأثخنه المرض إذا أثقله٢. والمعنى : ما كان ينبغي لكم وما استقام أن تأسروا المشركين في بدر ثم تفادوهم بالمال قبل أن تثخنوا فيهم. وهو أن تبالغوا في قتلهم لإضعافهم وكسر شوكتهم كيلا يستطيعوا بعد ذلك أن يقاتلوكم ﴿ تريدون عرض الدنيا ﴾ أي تبتغون بمفاداتهم بالمال منافع الدنيا وهو ما فيها من مال ومتاع ﴿ والله يريد الآخرة ﴾ أي يريد الله لكم ما هو خير لكم وأنفع وأدوم ؛ وهي الآخرة بنعيمها وجناتها وما فيها من رضوان الله ورحماته العاطرة الورود.
قوله :﴿ والله عزيز حكيم ﴾ أي إذا ابتغيتم الدار الآخرة فسوف لا يظهر عليكم الأعداء ؛ لأن الله قوي لا يقهره ولا يغلبه غالب. وهو كذلك حكيم في تدبير أمر الخلق والعباد ؛ فلا يعتور تدبيره ولا تصرفه شيء من خلل أو اضطراب.
١ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٢٥ وأسباب النزول للنيسابوري ص ١٦٠..
٢ مختار الصحاح ص ٨٢ والكشاف جـ ٢ ص ١٦٨..
قوله :﴿ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ﴾ ﴿ كتاب ﴾ مرفوع بالابتداء، و ﴿ من الله ﴾، صفة له. و ﴿ سبق ﴾ صفة أخرى لكتاب. أو حال من المضمر الذي في الظرف. وخبر المبتدأ الذي هو كتاب محذوف. وتقديره : لولا كتاب بهذه الصفة لمسكم١.
أما كتاب الله السابق ففي المراد فه عدة أقوال :
القول الأول : إن الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب بالذات وقيل : عموم الذنوب. وذلك لما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر في أهل بدر :( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم ؟ ).
القول الثني : إن الكتاب السابق هو ألا يعذبهم الله وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
القول الثالث : إن الكتاب السابق هو ألا يعذب الله أحدا بذنب آتاه وهو جاهل.
القول الرابع : إن الكتاب السابق هو مما قضى الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر.
القول الخامس : إنه ما سبق من إحلال الغنائم ؛ فغنها كانت محرمة على ما قبلنا.
القول السادس : إن هذه المعاني جميعها داخلة في عموم اللفظ٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٩٢..
٢ تفسير القرطبي جـ ٨ ص ٥٠ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ٣٣..
قوله :﴿ فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ﴾ أباح بذلك أكل الغنائم المأخوذة من المشركين في الحرب. وقد تكلمنا سابقا عن حكمة الإسلام في أخذ الأموال من المشركين في الحرب، وأن الغرض من ذلك إضعاف الأشرار المفسدين في الأرض، وكسر شوكة الظلم والظالمين، الذين يسعون في الأرض خرابا وفسادا ؛ فهم إنما يستطيعون الإفساد والتخريب بما لديهم من أسباب، يأتي في أهمها وفي طليعتها المال، الذي يستطيع به الظالمون الغاشمون من تقوية أنفسهم ليجترءوا على محاربة الله ورسوله والمؤمنين، وعلى القدرة على صد الإسلام بمختلف الوسائل في التشويه والتشكيك. فيما ينبغي لهؤلاء الضالين المفسدين في الأرض أن يؤتمنوا على الأموال ؛ لأنهم ضالعون في البغي والشر ؛ فهم غير موثوق بهم. إنما الذين يوثق بهم ويؤتمنون على الأموال وغيرها من الأمانات على اختلافهم، هم المسلمون الصادقون وحدهم ؛ فهم أجدر أن يمسكوا بالمال ليجعلوه في وجوه الخير والبر والصلاح.
قوله :﴿ واتقوا الله إن الله غفور رحيم ﴾ أي خافوه باجتناب نواهيه والانزجار عما حذر منه وحرمه عليكم. وفي كل الأحوال فإن الله بعباده لذو مغفرة للناس على تقصيرهم ؛ إذ يمحو عنهم الخطايا والذنوب ويستر عليهم الزلات والعيوب. وهو سبحانه ﴿ رحيم ﴾ الرحيم : الكثير الرحمة١، لا جرم أن الله بالغ الرحمة بالخلق، عظيم الصفح عما يجترحونه في ك الآناء من الخطايا والسيئات. وهو سبحانه بفضله وسعة امتنانه يتجاوز عن مساءات المسيئين، وعن زلات أهل الزلل٢.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٣٤٧..
٢ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ٣٤..
قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي قل من في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتيكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ٧٠ وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ﴾.
جاء في البخاري عن أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه. فقال :﴿ لا والله لا تذرون درهما ﴾ وذكر أن فداء كل واحد من الأساري كان أربعن أوقية إلا العباس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أضعفوا الفداء على العباس ) وكلفه أن يفدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بم الحارث. فادى عنهما ثمانين أوقية، وعن نفسه ثمانين أوقية، وأخذ منه عشرون أوقية وقت الحرب. وذلك أنه كان أحد العشرة الذين ضمنوا الإطعام لأهل بدر. فبلغت النوبة إليه يوم بدر فاقتتلوا قبل أن يطعم، وبقيت العشرون معه فأخذت منه وقت الحرب، فأخذ منه يومئذ مائة أوقية وثمانون أوقية. فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : لقد تركتني ما حييت أسأل قريشا بكفي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( أين ذهب الذي تركته عند امرأتك أم الفضل ؟ ) فقال العباس : أي ذهب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنك قلت لها : لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث فهو لك ولولدك ). فقال : يا ابن أخي : من أخبرك بهذا ؟ قال :( الله أخبرني ) قال العباس : أشهد أنك صادق. وما علمت أنك رسول الله قط إلا اليوم. وقد عملت أنه لم يطعك عليه إلا عالم السرائر. أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله. وكفرت بما سواه، وأمر ابني أخويه فأسلما ؛ ففيهما نزلت ﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ﴾ وكان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة وكان رجلا قصيرا وكان العباس ضخما طويلا. فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له :( لقد أعانك عليه ملك ) ١.
ومعنى الآية : قل يا محمد لمن في يديك وفي أيدي أصحابك من أسرى المشركين الذين أخذ منهم ما أخذ من الفداء : إن يعلم الله في قلوبكم إسلاما يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء، ويؤتكم أزيد من ذلك، أنه يغفر لكم ما جنيتموه واجترمتموه من الخطايا ومن إشراككم بالله وقتالكم النبي وأصحابه. والله عز وعلا غفار للذنوب والخطايا، وهو سبحانه رحيم بالعباد أن يعاقبهم على المعاصي بعد التوبة.
١ تفسير القرطبي جـ ٨ ص ٥٢، ٥٣ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ٣٥ وأسباب النزول للنيسابوري ص ١٦٢..
قوله :﴿ وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا من قبل فأمكن منهم ﴾ أي وإن كان هؤلاء الأساري فيما أظهروه لك من الإسلام يريدون الخداع والارتداد والنكث بما بايعوك عليه من الإسلام، والجنوح لدين آبائهم من الوثنية والشرك ؛ فقد كانوا من قبل بدر من الخائنين ؛ إذ كانوا مشركين، وكانوا يمكرون بك ويقاتلونك والذين آمنوا معك. لكن الله بعد ذلك أمكن منهم ؛ إذ أظهركم عليهم وأظفركم بهم.
قوله :﴿ والله عليم حكيم ﴾ الله يعلم ما تصير إليه أمور العباد وما يصلح عليه أمرهم، وهو حكيم فيما قضى به وأمر. فما من أمر أو زجر أو نهي او تشريع إلا ويصدر عن حكمة بالغة فيها الخير للعباد١.
١ الكشاف جـ ٢ ص ١٦٨، ١٦٩ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١١٢ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ٣٥، ٣٦..
قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بضع والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ٧٢ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾.
هذا بيان من الله بأصناف المؤمنين ؛ إذ قسمهم إلى ثلاثة أصناف وهم :
الصنف الأول : المهاجرون، الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لينصروا الله ورسوله وإقامة دينه وترسيخ منهجه في الأرض. وبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم. وذلك كله مقتضى قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾.
الصنف الثاني : الأنصار. وهم المسلمون من أهل المدينة الذين أووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا الله ورسوله بالقتال مع المؤمنين المهاجرين لصد الشرك والمشركين. وكلا هذين الصنفين من المؤمنين ﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ أولاء من الولاية. وقيل : المراد بها هنا الميراث. وهو قول ابن عباس. وبذلك جعل الله سبب الإرث الهجرة والنصرة دون القرابة ؛ فالقريب الذي آمن ولم يهاجر ؛ فإن ما كان يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر. فكانوا بذلك يتوارثون إرثا مقدما على القرابة حتى نسخ الله ذلك بآية المواريث وبقوله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم إلى ببعض ﴾.
وقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عبد الله البجلي ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة ).
وقيل : المراد بالولاية النصرة والمعونة. والمقصود أن المسلمين جميعا إخوة، سواء فيهم المهاجرون والأنصار. فهم يد واحدة على الأعداء. وهذا هو الراجح والصواب ؛ فإن لفظ الولاية غير مشعر بمعنى الميراث بل إنه مشعر بالقرب والمناصرة. وذلك هو شأن المؤمنين الصادقين في كل زمان ؛ فغنهم إخوان متناصرون ومتآزرون.
الصنف الثالث : وهم المؤمنون الذين لم يهاجروا لب أقاموا في بواديهم وفي مكة. وهم المعنيون بقوله :﴿ والذين آمنوا ولم يهاجروا ﴾.
قوله :﴿ ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ﴾ أي هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا معكم ولم يفارقوا دار الكفر إلى دار الإسلام ؛ فإنه ليس لكم أيها المؤمنون المهاجرون ﴿ من ولايتهم من شيء ﴾ يعني من نصرتهم وإعانتهم أو ميراثهم ﴿ حتى يهاجروا ﴾ فإن هاجروا من دار الكفر إلى دار الإسلام ؛ كان لهم ما للصنف الأول وهم المؤمنون المهاجرون.
قوله :﴿ وإن استنصركم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ أي إن طلب هؤلاء الأعراب الذين آمنوا ولم يهاجروا –النصرة منكم في قتال عدو لهم في الدين فانصروهم ؛ فغنه واجب عليكم نصرهم ؛ لأنهم إخوانكم في الدين، أما إن طلبوا منكم النصرة في قتال قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق أو مهادنة إلى مدة معلومة، فلا تخفروا١ ذمتهم، ولا تنقضوا أيمانكم معهم.
قوله :﴿ والله بما تعلمون بصير ﴾ وهذا تحذير من الله للمؤمنين أن يتعدوا ما شرعه لهم وأوجبه عليهم.
١ تخفروا ذمتكم: تنقضوا عندكم. أخفره: نقض عهده. انظر مختار الصحاح ص ١٨٢..
قوله :﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بضع ﴾ أي أن الكافرين بعضهم أعوان بعض وأنصاره. وبعضهم أحق ببعض من المسلمين. فبعضهم أحق ببعض في النصرة والعون وفي الميراث، هم أحق ببعضهم في ذلك من قرابتهم من المسلمين. وبذلك قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم ويتعاملون تبعا لملتهم. وعلى هذا لا يكون مؤمنا من كان مقيما بدار الحرب ولم يهاجر. وقد ذكر أن الرجل كان ينزل بين المسلمين والمشركين، يقول إن ظهر هؤلاء كنت معهم. وإن ظهر هؤلاء كنت معهم، فأبى الله عليهم ذلك. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :( أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين ) ثم قال :( لا يتراءى نارهما )، وأخرج أبو داود عن حبيب بن سليمان بن سمرة بن جندب قال : ما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من جامع المشرك وسكن معه فغنه مثله ).
وفي انقطاع الولاية بمعنى الميراث، بين المسلم والكفار أخرج الحاكم في مستدركه عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرا، ولا كافرا مسلم ) ثم قرأ :﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾. وفي المسند والسنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يتوارث أهل ملتين شتى ).
قوله :﴿ إلا تفعلوه تكن فتنة في ارض وفساد كبير ﴾ ﴿ تكن ﴾، تامة بمعنى : تقع. وهي لا تفتقر إلى خبر. وفتنة مرفوعة به ارتفاع الفاعل بفعله١. يعني إذا لم تفعلوا ما أمرتكم بع من التعاون بينكم، والنصرة على الدين ﴿ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾ والمراد بالفتنة هنا، اختلاط المسلمين بالكافرين في الوقت الذي يكون فيه البأس والشوكة للكفر والكافرين، لا جرم أن ذلك سبب كبير وجد خطير يفضي في الغالب بالمسلمين تحت سطوة الشرك أن يصيروا مشركين، أو يتبدل فيهم كثير من سمات الإسلام بقيمه وأخلاقه وخصاله ؛ فيكونوا نظراء الكافرين أنفسهم. وذلك هو شأن المسلم الذي يستظل بظل الكفر والكافرين إذا لم يجد لنفسه من حوله من صحبة المسلمين من يؤنسه ويذكره بأمور دينه، فلسوف تجتاحه محاذير التفكك والانحلال من ربقة الإسلام شيئا فشيئا. وتلكم فتنة كبيرة. وذلكم فساد عريض. لكن المسلم إذا بات في بلده وأهله غير آمن على نفسه من عدوان الظالمين المتسلطين من حكام المسلمين. الحكام الطغاة المجرمين الذين يسوسون المسلمين بالقهر والقسر والطغيان، ويحكمون بغير ما أنزل الله ؛ فلا حرج عليه عندئذ وفي مثل هذا الظرف العجيب الغريب الذي يهجر فيه المسلم بلده ليأوي إلى ديار الكافرين حيث الأمن والاستقرار. والمسلم في ذلك إنما يختار لنفسه أهون الضررين٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٩٢..
٢ تفسير الرازي جـ ١٥ ص ٢١٩ وتفسير البيضاوي ص ٢٤٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١١٣ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٥٦، ٥٧..
قوله تعالى :﴿ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأوليك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله إن الله بكل شيء عليم ﴾ أي الذين آمنوا بالله ورسوله من بعد الحديبية وبيعة الرضوان ؛ فهؤلاء أقل رتبة ممن هاجر الهجرة الأولى ؛ لأن الثانية وقع فيها الصلح وهدأت الحرب مدة عامين ثم كان فتح مكة. وفي الحديث :( لا هجرة بعد الفن ) فمن آمن وهاجر بعد ذلك ؛ فإنه يلتحق بالمؤمنين وهم المهاجرين السابقون. وهذا معنى قوله :﴿ فأولئك منكم ﴾ أي في النصر والموالاة ؛ فهم بذلك منكم في الولاية ؛ إذ يجب لهم عليكم من الحق والنصرة في الدين مثل الذي يجب لكم عليهم ولبعضكم على بعض.
وقوله :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ وليس المراد بأولي الأرحام خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة ؛ وإنما يدلون بوارث كالخالة والخال، والعمة، وأولاد البنات، وأولاد الأخوات ونحوهم. بل إن الآية عامة تشمل جميع القرابات. وفيهم ذوو الأرحام بالاسم المخصوص، على الخلاف في توريث هؤلاء. وفي الجملة : فغن أولي القرابات أولى بالتوارث. وهذا نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة.
أما ﴿ أولوا الأرحام ﴾، وهم من لا سهم لهم في الكتاب الحكيم وليسوا بعصبة كأولاد البنات، وأولاد الأخوات، وبنات الأخ، والعمة، والخالة، والعم أخ الأب للأم، والجد أبي الأم، والجدة أم الأم، ومن أولى بهم، ففي توريث هؤلاء خلاف ؛ فقد قيل : لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام. وهو قول المالكية والشافعية، وقد روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر، وهو رواية عن علي، وهو قول مكحول والأوزاعي. ووجه هذا القول : الاستناد إلى قوله :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى بعض ﴾ وهذا مجمل فيما حصلت فيه الأولوية. فلما قال بعدها :﴿ في كتاب الله ﴾ كان معناه في الحكم الذي بينه الله في سورة النساء ؛ فصارت هذه الأولوية مقيدة بما بينه الله من أحكام ذكرها في كتابه الحكيم. وهذه الأحكام هي ميراث العصبات دون غيرها ؛ فلزم بذلك ألا تتعدى المراد من هذا المجمل إلى توريث دوي الأرحام.
وذهب آخرون من أهل العلم إلى توريث أولي أرحام. وهو قول الحنيفة، وأحمد وإسحاق، وقال به من الصحابة : عمر بن الخطاب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وعائشة، وعلي في رواية عنه.
واحتجوا بظاهر هذه الآية :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ﴾ وقوله تعالى :﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ واسم القرابة يشمل بإطلاقه ذوي الأرحام.
واحتجوا من السمة بما أخرجه أبو داود والدارقطني عن المقدام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من ترك كلا فإلي، ومن ترك مالا فلورثته ؛ فأنا وارث من لا وارث له ؛ أعقل عنه وأرثه ؛ والخال وارث من لا وارث له ؛ يعقل عنه ويرثه ).
وروي الدارقطني عن طاووس قال : قالت عائشة ( رضي الله عنها ) :( الله مولي من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له ). وروي عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الخال وارث ).
واستدلوا بالمعقول على توريث أولى الأرحام فقالوا : إن ذوي الأرحام أولى بالتوريث من المسلمين ؛ لأنهم قد اجتمع لهم سببان وهما القرابة والإسلام، فأشبهوا تقديم الأخ الشقيق على الأخ للأب ؛ فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام.
قوله :﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ اله عليم بالأشياء، ما ظهر منها وما بطن. وهو سبحانه أعلم بما ينفع الناس وما يصلح عليه حالهم من أحكام وتشريع. وما شرعه الله لعباده لهو الحق والصواب. وليس فيه شيء من البعث او الباطل١.
١ تفسير الرازي جـ ١٥ ص ٢٢١ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٣٠ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٥٩، ٦٠ وبداية المجتهد جـ ٢ ص ٣١١..
Icon