إذ مدار أمرها على التبسّط في البلاد، والتسلط على العباد، والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة، وهم ضعفاء ملجأون إلى واد لا نفع فيه. قال البيضاوي.
وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحات، فلم يؤمنوا فأُهلِكوا، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بأن دمرهم بلا سبب، أو: من غير إعذار، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث ارتكبوا ما أدى إلى تدميرهم.
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا بالكفر والمعاصي السُّواى أي: العقوبة السوأى، والأصل: ثم كان عاقبتهم، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم، وهو إساءتهم. والمعنى:
أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثم كان عاقبتهم في الآخرة العقوبة التي هي أسوأ العقوبات، وهى النار التي أُعدت للكافرين. لأجل أَنْ كَذَّبُوا أو: بأن كذَّبوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على صدق رسله، أو: على وحدانيته.
وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ حيث قابلوها بالتكذيب، أو: غفلوا عن التفكر فيها. أو: ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة السّوآء أن طبع اللهُ على قلوبهم، حتى كذّبوا بالآيات، واستهزءوا بها. أو: ثم كان عاقبة الذين فعلوا الفعلة السوأى، وهو أن كذّبوا واستهزءوا، أن يلحقهم ما تعجز عنه نطاق العبارة، فخبر كان، على هذا: محذوف للتهويل.
و (أن كذبوا) : بيان، أو: بدل من السوأى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: السير إلى الله على أقسام: سَيْرُ النفوس: بإقامة عبادة الجوارح لطلب الأجور، وسَيْرُ القلوب:
بجَولاَنها في ميادين الأغيار، للتبصر والاعتبار طلباً للحضور، وسير الأرواح: بجولان الفكرة في ميادين الأنوار طلباً لرفع الستور ودوام الحضور، وسير الأسرار: الترقي في أسرار الجبروت، بعد التمكن من شهود أنوار الملكوت على سبيل الدوام. قال القشيري: سَيْرُ النفوس في أوطان الأرض ومناكبها لأداء العبادات، وسَيْرُ القلوب بجَوَلاَن الفكْر في جميع المخلوقات، وغايته: الظَّفَرُ بحقائق العلوم التي تُوجبُ ثلج الصدور- ثم تلك العلوم على درجات- وسَيْرُ الأرواح في ميادين الغيب: بِنَعْتِ خَرْقِ سُرَادِقَات الملكوت. وقُصَاراه: الوصولُ إلى ساحل الشهود، واستيلاء سلطان الحقيقة. وسَيْرُ الأسرار: بالترقي- أي: الغيبة- عن الحِدْثان بأَسْرها، والتحقق، أولاً، بالصفات، ثم بالخمود، بالكلية، عمَّا سوى الحق. هـ.
وقال في قوله: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى: من زَرَعَ الشوكَ لم يحصدُ الوَرْدَ، ومَنْ استنبت الحشيش لم يقطف البهار، ومَنْ سَلَكَ سبيل الغيّ لم يَحْلُلْ بساحة الرشد. هـ.
ثم ذكر شأن البعث الذي هو عاقبة المسيء والمحسن: فقال:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١١ الى ١٦]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦)
328
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئهم، ثُمَّ يُعِيدُهُ يحييهم بعد الموت، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء بالثواب والعقاب. والالتفات إلى الخطاب للمبالغة في إثباته. وقرأ أبو عمرو وسهل وروح:
بالغيب، على الأصل. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ: ييأس ويتحير الْمُجْرِمُونَ المشركون يُقال: ناظرته فأبلس، أي: أُفْحِمَ وأَيِسَ من الحجة، أو: يسكتون متحيرين، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ التي عبدوها من دون الله شُفَعاءُ يشفعون لهم ويجيرونهم من النار، وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ جاحدين لها، متبرئين من عبادتها، حين أيسوا من نفعها. أو: كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتها.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي: المسلمون والكافرون، بدليل قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ، أي: بستان ذي أزهار وأنهار، وهي الجنة. والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه، يُحْبَرُونَ: يُسرّون، يقال: حبره، إذا سرّه سروراً تهلّل به وجهه، وظهر فيه أثره.
ووجوه المسار كثيرة، فقيل: يُكرمون، وقيل: يُحلّون. وقيل: هو السماع في الجنة. قاله غير واحد. قال أبو الدرداء: كان عليه الصلاة والسلام يذكَّر الناس بنعيم الجنان فقيل: يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال:
«نعم، إنَّ فِي الجنْة لنَهَراً حَافَتاهُ الأبْكَار مِنْ كُل بَيْضَاءَ خَمْصانة، يَتَغَنيْنَ بأصْواتٍ لَمْ تَسْمَعِ الخلائِقُ بمِثْلها قَطُّ، فَذلك أفْضَلُ نعيم أهل الجنّة.» قال الراوي: فسألت أبا الدرداء: بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح إن شاء الله
«١».
والخمصانة: المرهفة الأعلى، الضخمة الأسفل. هـ. انظر الثعلبي. وذكر غيره أن هذا السماع يكون في نُزْهَةٍ تكون لأهل الجنة على شاطئ هذا النهر، وقد ذكرناها في شرحنا الكبير على الفاتحة.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ بالبعث فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ:
مقيمون، لا يغيبون عنه. عائذاً بالله من غضبه.
329
الإشارة: من اعتمد على غير الله، أو ركن إلى شيء سواه، فهو مجرم عند الخصوص، وذلك الشيء الذي ركن إليه صنم في حقه، يتبرأ منه يوم القيامة، ويُبلس من نفعه، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ: الآية.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فريقٌ هم أهل الوصلة، وفريق هم أهل القطعة، فريق في المنة، وفريق في المحنة، فريق في السرور، وفريق في الثبور، فريقٌ في الثواب، وفريق في العقاب، فريق في الفراق، وفريق فى التلاق. قاله القشيري. وإذا كان الأمر هكذا، فَجِدَّ، أيها المؤمن، في طاعة مولاك، وأَكْثِرْ من ذكره، صباحاً ومساء، وليلاً ونهارا لتنال ذلك الوعد، وَتَنْجَو من الوعيد، كما أبان ذلك بقوله:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٧ الى ١٩]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)
قلت:
«فسبحان» : مصدر لمحذوف، أي: سبحوا سبحان. و (حين) : متعلق بذلك المحذوف، وجملة: (وله الحمد) : معترضة بين معطوفات الظروف. و (في السموات) : حال من الحمد، أي: وله، على عباده، الحمد كائناً في السموات.. الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: فَسُبْحانَ اللَّهِ أي: فسبّحوا الله ونزّهوه تنزيهاً يليق به في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته، وتجدد فيها نعَمه، وهي حِينَ تُمْسُونَ تدخلون فى السماء، وَحِينَ تُصْبِحُونَ تدخلون في الصباح. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: وله، على المميّزين كلّهم، من أهل السموات والأرض، أن يحمدوه، وَعَشِيًّا أي: وسبحوه عشياً آخر النهار، وَحِينَ تُظْهِرُونَ تدخلون في وقت الظهيرة.
قال البيضاوي: وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن آثار العظمة والقدرة فيهما أظهر، وتخصيص الحمد بالعشي- الذي هو آخر النهار، من عشى العين إذا نقص نورها- والظهيرة- التي هي وسطه لأن تجدد النعم فيها أكثر. ويجوز أن يكون عَشِيًّا معطوفا على حِينَ تُمْسُونَ، وقوله: وَلَهُ الْحَمْدُ.. إلخ- اعتراضاً. وعن ابن عباس: الآيةُ جامعة للصلوات الخمس، (تُمسون) : صلاتا المغرب والعشاء، (تصبحون) : صلاة الفجر، (وعشياً) : صلاة العصر، (وتُظهرون) : صلاة الظهر
«١». ولذلك زعم الحسن أنها مَدَنِيَّةٌ لأنه كان يقول:
330
كان الواجب عليه بمكة ركعتين، في أي وقت اتفقت، وإنما فرضت الخمس بالمدينة. والأكثر على أنها فرضت بمكة. هـ.
ثم ذكر وجه استحقاقه للحمد والتنزيه بقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، الطائر من البيضة، والإنسان من النطفة، أو: المؤمن من الكافر، والعالم من الجاهل. وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، البيضة من الطائر، والنطفة من الإنسان، أو: الكافر من المؤمن، والجاهل من العالم. وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها بيبسها، وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ، والمعنى: أن الإبداء والإعادة متساويان في قدرة مَن هو قادر على إخراج الحي من الميت، وعكسه.
رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنه إن رسول الله ﷺ قال:
«من قرأ فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ.. إلى الثلاث آيات، وآخر سورة الصافات: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ.. إلخ.. دُبُرَ كُلّ صلاة، كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء، وقطر الأمطار، وورق الأشجار، وتراب الأرض. فإذا مات أجرى له بكل لفظ عشر حسنات في قبره» «١» نقله الثعلبي والنسفي. وعنه- عليه الصلاة والسلام:
«مَن قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ.. إلى قوله:
وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته في يوْمِهِ، ومن قاله حين يُمْسِي أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ» «٢». رواه ابو داود.
وقال الضحاك: من قال: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ.. إلخ كان له كعدل مائتي رقبة من ولد إسماعيل. هـ.
زاد كعب: ولم يفته خَيْرٌ كان في يومه، ولا يدركه شر كان فيه. وإن قالها فى المساء فكذلك. وكان إبراهيم الخليل عليه السلام يقرأها ست مرات في كل يوم وليلة. هـ.
الإشارة: أما وجه الأمر بالتنزيه حين المساء والصباح فلأنَّ المجوس كانوا يسجدون للشمس في هذين الوقتين تسليماً وتوديعاً، فأمر الحق تعالى المؤمنين أن ينزهوه عمن يستحق العبادة معه، وأما العشي فلأنه وقت غفلة الناس فى جمع حوائجهم، وأما وقت الظهيرة فلأن جهنم تشتعل فيه كما في الحديث، وأمر بحمده والثناء عليه في كل وقت لما غمره من النِعَم الظاهرة والباطنة.
قال القشيري: فمن كان صباحُه بالله بُوركَ له في يومه، ومن كان مساؤه بالله بورك له في ليلته، وأنشدوا:
| وإنَّ صَبَاحاً نلتقي في مسائه | صَبَاحٌ على قلب الغريب حبيب «٣» |
331
الإشارة: أصل نشأة البشرية من الطين، وأصل الروح من نور رب العالين. فإذا غلبت الطينة على الروح جذبتها إلى عالم الطين، فكان همها الطين، وهوت إلى أسفل سافلين، فلا تجد فكرتها وحديثها، في الغالب، إلا في عالم الحس، ويكون عملها كله عَمَلَ الجوارح، يفنى بفنائها. وإذا غلبت الروح على الطينة وذلك بدخول مقام الفناء، حتى تستولي المعاني على الحسيات. وتنخنس البشرية تحت سلطان أنوار الحقيقة، جذبتها إلى عالم الأنوار والأسرار، فلا تجد فكرتها إلا في أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وعملها كله قلبي وسري، بين فكرة واعتبار، وشهود واستبصار، يبقى مع الروح ببقائها، يجري عليها بعد موت البشرية، ويبعث معها، كما تقدم في الحديث: (يموت المرء... ) إلخ.
قال القشيري: يقال: الأصل تُربة، ولكن العِبرَة بالتربية لا بالتربة. هـ. قلت: إذ بالتربية تغلب الروح على البشرية، ثم قال: اصطفى الكعبة، فهي خير من الجنة، مع أن الجنة جواهر ويواقيت، والكعبة حجر ومدر، أي:
كذلك المؤمن الكامل، وإن كان أصله من الطين، فهو أفضل من كثير من العوالم اللطيفة. ثم قال في قوله تعالى:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً.. الآية: رَدَّ المِثْلَ إلى المِثْل، وربط الشكلَ بالشكل، وجعل سكونَ البعض إلى البعضِ، وذلك للأشباح والصُّورَ، والأرواح صحِبت الأشباح كرهاً لا طوعاً، وأما الأسرار فمُعْتَقَةٌ، لا تساكن الأطلال، ولا تتدنس بالأغيار. هـ.
قلت: وكأنه يُشير إلى أن المودة التي انعقدت بين الزوجين إنما هي نفسية، لا روحانية، ولا سرية إذ الروح والسر لا يتصور منهما ميل إلى غير أسرار الذات العلية إذ محبة الحق جذبتها عن الميل إلى شيء من السّوى.
واختلف الصوفية: هل تُخِلُّ هذه المودة التي بين الزوجين بمحبة الحق، أم لا؟ فقال سهل رضي الله عنه: لا تضر الروح لقوله صلى الله عليه وسلم:
«حبب إلي من دنياكم ثلاث..» «١» فذكر النساء، إذا كان على وجه الشفقة والرحمة، لا على غلبة الشهوة. وعلامة محبة الشفقة: أنه لا يتغير عند فَقْدها، ولا يحزن بفواتها. وهذا هو الصحيح. والله تعالى أعلم.
«٢»
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٢ الى ٢٥]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥)
333
قلت: (يُريكم البرق) : فيه وجهان، أحدهما: إضمار
«أن» كما في حرف ابن مسعود، والثاني: تنزيل الفعل منزلة المصدر، كما قيل في قولهم، في المثل:
«تَسْمعَ بالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ من أن تراه». أي: إن تسمع، أو: سماعك.
و (خوفا وطعما) : مفعولان له على حذف مضاف، أي: إرادة خوف، وإرادة طمع، أو: على الحال، أي: خائفين وطامعين. و (إذا دعاكم) : شرطية، و (إذا)، الثانية فجائية، نابت عن الفاء. و (من الأرض) : يتعلق بدعاكم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنْ آياتِهِ الدالة على باهر قدرته خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قال القشيري: السموات في علوِّها، والأرض في دنوِّها، هذه بنجومها وكواكبها، وهذه بأقطارها ومناكبها، هذه بشمسها وقمرها، وهذه بمائها ومدرها، واختلاف لغات أهلها في الأرض، واختلاف تسبيح الملائكة- عليهم السلام- الذين هم سكان السماء. هـ. وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ باختلاف اللغات، وبأجناس النطق وأشكاله، وَأَلْوانِكُمْ، كالسواد والبياض وغيرهما، حتى لا تكاد تجد شخصين متوافقين إلا وبينهما نوع تخالف في اللسان واللون، وباختلاف ذلك وقع التعارفُ والتمايز، فلو توافقت وتشاكلت لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت المصالح. وفي ذلك آية بينة، حيث وُلدوا من أب واحد، وهم على كثرتهم متفاوتون. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ بفتح اللام وكسره
«١». ويشهد للكسر قوله تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ
«٢».
قال القشيري: واختصاص كلِّ شيء من هذه ببعض جائزات حكمها شاهدٌ عَدْلٍ، ودليلٌ صِدْقٍ، يناجي أفكار المستيقظين، وتنادي على أنفسها: أنها، بأجمعها، بتقدير العزيز العليم. هـ.
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، أي: منامكم بالليل، وابتغاؤكم من فضله بالنهار، أو: منامكم في الزمانين، وابتغاؤكم من فضله فيهما، وهو حسن لأنه إذا طال النهار يقع النوم فيه، وإذا طال الليل يقع الابتغاء فيه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبر، بآذان واعية. قال القشيري:
غَلَبةُ النوم لصاحبه من غير اختيار، وانتباهُه بلا اكتساب، يدلُّ على موته ثم بَعْثِهِ، ثم في حال منامه يرى ما يسرُّه وما يضرُّه يدل على حاله في قبره. الله أعلمُ كيف حاله، في أمره، فيما يلقاه من خيره وشره. هـ.
«٣»
334
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، أي: خوفاً من الصواعق، وطمعاً في الغيث، أو: خوفاً للمسافر وطمعاً للحاضر، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً مطراً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: يتفكرون بعقولهم.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ بغير عمد وَالْأَرْضُ على ماء جماد بِأَمْرِهِ أي: بإقامته، أو: تدبيره وقدرته. ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ للبعث دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ من قبوركم. وسبك الآية: ومن آياته قيام السماوات والأرض، واستمساكها بغير عمد، ثم إذا دعاكم دعوة واحدة، يا أهل القبور، خرجتم بسرعة.
وإنما عطف هذا بثم بياناً لعِظَم ما يكون من ذلك الأمر، وإظهار اقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور، قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر، كقوله: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ
«١».
تنبيه: عبّر عن مودة الزوجين بيتفكرون لأن المودة قلبية، لا تُدْرَكُ إلا بتفكر القلب، وعبّر عن خلق السموات والأرض واختلاف الألسن والألوان بالعالِمين لأن أمر ذلك يدركه كل أحد، ممن له عقل أو علم، وعبّر عن النوم واليقظة بيسمعون لأن من كان في الغفلة لا يسمع أمثال هذه المواعظ، وإنما يسمعها مَنْ كان متيقظاً، وعبّر عن إظهار البرق، وإنزال المطر، وإحياء الأرض، بيعقلون لأن أمر البرق وما معه يبصره كل من له مسكة من عقل سليم، ويعلم أنه من الله بلا واسطة. والله تعالى علم.
الإشارة: ما نُصِبَتْ هذه الكائنات لتراها، بل لترى فيها مولاها، فما هذه الأكوان الحسية إلا تجليات من تجليات الحق، ومظاهر من مظاهره، وأنوار من أنوار ملكوته، متدفقة من بحر جبروته. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. لكن لا يعرف هذا إلا العارفون بالله، وأما غيرهم فحسبهم أن يستدلوا على عظمة خالقها، وباهر قدرته وحكمته، فيقوي إيمانهم ويشتد إيقانهم.
قال في الإحياء: وبحر المعرفة لا ساحل له، والإحاطة بكنْه جلال الله مُحال، وكلما كثرت المعرفة بالله سبحانه، وبأفعال مملكته، وأسرار مملكته، وقويت، كثر النعيم في الآخرة وعَظُم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحَسُن. وقال أيضاً، في كتاب شرح عجائب القلب: ويكون سعة ملك العبد في الجنة بحسب سعة معرفته بالله، وبحسب ما يتجلى له من عظمة الله سبحانه، ومن صفاته وأفعاله. هـ.
ومن آياته خلق سماوت أرواحكم، وأرض نفوسكم، لتقوم الأرواح بشهود عظمة الربوبية، والنفوس بآداب العبودية، واختلاف ألسنتكم فبعضها لا تتكلم إلا في الفَرْق، وبعضها إلا في الجمع. وألوانكم بعضها ظهر فيها
335
كَذلِكَ، أي: مثل هذا التفصيل البديع، نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون في ضرب الأمثال، ويعرفون حكمها وأسرارها، فلما لم ينزجروا أضرب عنهم، فقال: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشرك أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أي: تبعوا أهواءهم، جاهلين، ولو كان لهم عِلْمٌ لَرُجِيَ أن يزجرهم، فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟ اي: لا هادي له قط، وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يمنعونهم من العذاب، أو: يَحْفُظونهم من الضلالة، أو: من الإقامة فيها.
الإشارة: ما قيل في الشرك الجلي يجري مثله في الشرك الخفي فأن الحق تعالى غيور، لا يُحب العمل المشترك، ولا القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يُقبل عليه، وأنْشَدُوا
«١» :
لِي محْبوبٌ إنما هُوَ غَيُور يُطلُّ في القَلبِ كَطَيرٍ حَذُور ذَا رَأَى شَيئًا امتَنَع أَنْ يَزُورْ فكما أنك لا ترضى من عبدك أن يُحب غيرك، ويخضع له، كذلك الحق تعالى لا يرضى منكُ أن تميل لغيره. قال القشيري: قوله: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ: أشدُّ الظلم متابعةُ الهوى لأنه قريب من الشِّرْكِ.
قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ
«٢»، ومن اتَّبع هواه خالف رضا مولاه، فهو، بوضع الشيء في غير موضعه، صار ظالماً، كما أن العاصي، بوضع المعصية في موضع الطاعة، صار ظالماً، كذلك بمتابعة هواه، بَدَلاً عن موافقة ومتابعة رضا مولاه، صار في الظلم متماديا. هـ.
ثم أمر بالتوحيد الخالص، المقصود من ضرب المثل، فقال:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
338
قلت: (حنيفاً) : حال من (الدين)، أو: من الأمور، وهو ضمير (أقم)، و (فطرة) : منصوب على الإغراء.
يقول الحق جلّ جلاله، لنبيه صلى الله عليه وسلم، أو: لكل سامع: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي: قوّم وجهك له، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ عنه يميناً ولا شمالاً. وهو تمثيلٌ لإقباله على الدين بكُلِّيته، واستقامته عليه، واهتمامه بأسبابه فإنَّ من اهتم بالشيء توجه إليه بوجهه، وسدّد إليه نظره، حَنِيفاً أي: مائلاً عن كل ما سواه من الأديان، فِطْرَتَ اللَّهِ أي: الزموا فطرة الله. والفطرة: الخلقة: أَلاَ ترى إلى قوله: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ؟ فالأرواح، حين تركيبها في الأشباح، كانت قابلة للتوحيد، مُهَيَّأَةً له، بل عالمة به بدليل إقرارها به في عالم الذر، حتى لو تُركوا لَما اخْتَارُوا عليه ديناً آخر، ومَن غوى فإنما غوى منهم بإغواء شياطين الإنس والجن. وفي حديث قدسي:
«كُلٌّ عِبَادي خَلَقْتُ حنيفاً، فاجتالتَهُمْ الشّيَاطِينُ عنْ دِينهمْ، وأمَرُوهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي غيري» «١»، وفي الصحيح:
«كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَد على الفطرة، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصّرَانِهِ أوْ يُمجِّسَانِهِ» «٢» قال الزجّاج: معناه: أن الله تعالى فطر الخلق على الإيمان به، على ما جاء في الحديث:
«إن الله عز وجل أخرج من صلب آدم ذريته كالذرّ، وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم، فقالوا: بلى» «٣»، وكل مولود فهو من تلك الذرية التي شهدت بأن الله تعالى رَبُّهَا وخالقها. هـ. قال ابن عطية: الذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة: أنها الخِلقة والهيئة في نفس الطفل، التي هي مهيئة لمعرفة الله والإيمان به، الذي على الإعداد له فطرَ البشر، لكن تعرض لهم العوارض على حسب ما جرى به القدر، ولا يلزم من الإعداد وجعله على حالة قابلة للتوحيد ألا يساعده القدر، كما في قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
«٤»، أي: خلقهم معَدين لذلك، فأمر من ساعده القدر، وصرف عن ذلك من لم يُوفق لما خلق له. هـ.
فقوله في الحديث:
«كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَد عَلَى الفِطْرَةِ» أي: على القابلية والصلاحية للتوحيد، ثم منهم من يتمحض لذلك، كما سبق في القدر، ومنهم من لم يوفق لذلك، بل يخذل ويُصرف عنه لما سبق عليه من الشقاء.
وقال في المشارق: أي: يخلق سالماً من الكفر، متهيئاً لقبول الصلاح والهدى، ثم أبواه يحملانه، بَعْدُ، على ما سَبق له في الكتاب. هـ. قال ابن عطية: وذِكْرُ الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. ثم قال: وقد فطر الله
339
الخلق على الاعتراف بربوبيته، ومن لازم ذلك توحيده، وإن لم يُوَفِّقُوا لذلك كُلُّهم، بل وَحِّدَه بعضُهم، وأشرك بعضهم، مع اتفاق الكل على ربوبيته ضَرُورَة أن الكلَّ يشعر بقاهر له مدبر. قال في الحاشية: والحاصل: أنه تعالى فطر الكل في ابتداء النشأة، على الاعتراف بربوبيته، ولكن كتب منهم السعداء موحدين، وكتب الأشقياء مشركين، مع اعتراف الجميع بربوبيته، ولم يوفق الأشقياء لكون الربوبية تستلزم الوحدانية، فأشركوا، فناقضوا لازم قولهم. هـ.
وهذا معنى قوله تعالى: الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، أي: خلقهم في أصل نشأتهم عليها، لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي: ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تُغير. وقال الزجاج: معناه: لا تبديل لدين الله، ويدل عليه قوله: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: المستقيم، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ حقيقة ذلك. حال كونكم.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي: راجعين إليه، فهو حال من ضمير: الزموا. وقوله: وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ: عطف على الزموا. أو: على (فأقم) لأن الأمر له- عليه الصلاة والسلام- أمرٌ لأمته، فكأنه قال: فأقيموا وجوهكم، منيبين إليه، وَاتَّقُوهُ أي: خافوا عقوبته، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي: أَتْقِنُوهَا وأدّوها في وقتها، وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ممن يشرك به غيره في العبادة.
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ: بدل من
«المشركين» بإعادة الجار، أي: لا تكونوا من الذين جعلوا دينهم أدياناً مختلفة باختلاف ما يعبدونه لاختلاف أهوائهم. وقرأ الأَخَوَان: (فارقوا) أي: تركوا دين الإسلام الذي أُمروا به، وَكانُوا شِيَعاً أي: فرقاً، كل فرقة تشايع إمامها الذي أضلها، أي: تشيعه، وتقوي سواده، كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ مسرورون، ظناً بأنه الحق، ثم يبدو لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لم يكونوا يحتسبون. والعياذ بالله.
الإشارة: الفطرة التي فَطَر الله الأرواحَ عليها هى معرفة العيان لأنها كلها كانت عارفة بالله لصفائها ولطافتها، فما عاقها عن تلك المعرفة إلا كَثَافَةُ الأبدان، والاشتغالُ بحظوظها وهواها، حتى نسيت تلك المعرفة. وفي ذلك يقول ابن البنا في مباحثه
«١» :
| وَلَمْ تَزَلْ كُلُّ نُفُوسٍ الأَحْيَا | لأمَةً درَّاكة للأشيَا |
| وَإِنَّمَا تَعُوقُها الأبدَان | وَالأَنْفُسُ النُّزَّعُ والشَّيطَان |
| فَكُلُّ مَنْ أذاقهم جهادَه | أظهرَ لِلْقَاعِدِ خَرقَ العادة |
340
قال بعضهم: إنما حجب الله عنها تلك العلوم غيرة أن تكشف سر الربوبية فيظهر لغير أهله، قال القشيري:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ أي: أَخِلْصْ قَصْدَك إلى الله، واحفَظْ عهدك معه، وأَفْرِدْ عملك، في سكناتِك وحركاتك وجميع تصرفاتِك، له. حَنِيفاً أي: مستقيماً في دينه، مائلاً عن غيره، مُعْرِضاً عن سواه. والزَمْ (فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها)، ثم ذكر ما تقدم لنا. ثم قال: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إلى الله بالكلية، من غير أن تبقى بقية، متصفين بوفائه، منحرفين بكل وجهٍ عن خلافه، مُتَّقينٍ صغير الإثم وكبيره، وقليله وكثيره، مقيمين الصلاة بأركانها وسننها وآدابها جهراً، متحققين بمرعاة فضلها سِراً.
وقال في قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ: أقاموا في دنياهم في دار الغفلة، وعناد الجهل والفترة، فركنوا إلى ظنونهم، واستوطنوا مركب أوهامهم، وثَمِلُوا بِسُكْرِ غَيِّهِمْ، وظنوا أنهم على شيء، فإذا انكشف ضبابُ وقتهم، وانقشع سحابُ هجرهم، انقلب فرحُهم تَرَحاً، واستيقنوا أنهم كانوا في ضلالة، ولم يعرجوا إلا في أوطان الجهالة. هـ.
ثم ذكر حال أهل الغفلة، فقال:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦)
قلت: (إِذَا هُمْ) : جواب (إن). و (إذا) الفجائية، تَخْلُفُ الفاء، لتآخيهما في التعقيب.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ كمرض، وفقر، وشدة، أو غير ذلك، دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ راجعين إِلَيْهِ من دعاء غيره. ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً خلاصاً من الشدة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ شركاً جلياً أو خفياً، أي: فاجأ بعضهم الإشراك بربهم الذي عافاهم، لِيَكْفُرُوا إما: لام كي، أو: لام الأمر للوعيد والتهديد، أي: أشركوا كي يكفروا بِما آتَيْناهُمْ من النِعَم، التي من جملتها: نجاتهم وخلاصهم من كل شدة، فَتَمَتَّعُوا بكفركم قليلاً أمر تهديد، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال تمتعكم.
341
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً حجّة على عبادة أصنامهم، فَهُوَ يَتَكَلَّمُ، وتكلمه مجاز، كما تقول: كتابه ناطق بكذا، وهذا مما نطق به القرآن، ومعناه: الشهادة، كأنه قال: يشهد بصحة ما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ، فما:
مصدرية، أي: بصحة كونهم بالله يشركون، أو: موصولة، أي: بالأمر الذي بسببه يشركون.
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي: نعمة من مطر، أو: سعة رزق، أو: صحة، فَرِحُوا بِها فرح بَطَرَ وافتخار وغفلة. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بلاء من جدب، أو ضيق، أو مرض، بِما بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من المعاصي، أي: بشؤمها، إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ ييأسون من رحمة الله، وفرجِهِ بعد عسره. يقال:
قَنِطَ يَقْنَطُ، كفرح يفرح، وكعلم.
الإشارة: الواجب على المؤمنين أن يتخلقوا بضد ما تخلق به الكافرون فإذا مسهم ضر أو شدة، توجهوا إلى الله، إما بالتضرع والابتهال عبودية، منتظرين ما يفعل الله، وإما بالصبر، والرضا، والسكون تحت مجاري الأقدار.
فإذا جاء الفرج والنعمة شكروا الله وحمدوه، ونسبوا الفرج إليه وحده، فإن كان وقع منهم سبب شرعي لم يلتفتوا إليه قط إذ لا تأثير له أصلاً، وإنما الفرج عنده لا به، فلا يقولوا: فلان ولا فلانة، وإنما الفاعل هُوَ الله الواحد القهار.
وهذا الشرك الخفي مما ابتلى به كثير من الناس، علماء وصالحين، وخصوصاً منهم من يتعاطى كتب الفلسفة، كالأطباء وغيرهم، إذا أصابهم شيء فزعوا، فإذا فَرَّجَ عنهم قالوا: فلان داوانا، وفلان فرَّج عنا، والدواء الفلاني هو شفاني، فتعالى الله عما يشركون. فليشدّ العبدُ يده على التوحيد، ولا يرى في الوجود إلا الفرد الصمد، الفعّال لما يريد.
ومن أوصاف أهل الغفلة: أنهم، إذا أصابتهم نعمة، فرحوا وافتخروا بها، وإذا أصابتهم شدة قنطوا وأيسوا من روح الله، والواجب: ألا يفرح بما هو عارض فانٍ، ولا ييأس من روح الله عند الشدة، بل ينتظر من الله الفرج، فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً، إن مع العسر يسرا. قال تعالى: مَآ أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ..
«١» الآية.
وبالله التوفيق.
ثم برهن على توالى النعم والمحن على العبد، مادام فى دار الدنيا، فقال:
342
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي: يضيق على من يشاء، فينبغي للعبد أن يكون راجياً ما عند الله، غير آيس من روح الله إذ دَوَامُ حَالٍ من قضايا المحال، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيستدلون بها على كمال قدرته وحكمته، ولا يقفون مع شيء دونه. قال النسفي: أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه القابض الباسط، فما لهم يقنطون من رحمته؟ وما لهم لا يرجعون إليه، تائبين من معاصيهم، التي عوقبوا بالشدّة من أجلها، حتى يعيد عليهم رحمته؟
ولما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم، أتبعه ذكر ما يحب أن يفعل وما يجب أن يترك، يعني: عند البسط فقال: فَآتِ ذَا الْقُرْبى أعطِ قريبك حَقَّهُ من البر والصلة مما بسط عليك. وَأعط الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ حقهما من الصدقة الواجبة أو التطوعية، حسبما تقتضيه مكارم الأخلاق. والخطاب لمن بسط عليه، أو: للنبى- عليه الصلاة والسلام، وغيره تبع. ذلِكَ أي: إيتاء حقوقهم الواجبة، والتطوعية، خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي: ذاته المقدسة، أي: يقصدون، بمعروفهم، إياه، خالصاً. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل خير، قد حَصَّلوا، بما بسط لهم، النعيم المقيم.
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي: وما أعطيتم من مال لتأخذوا من أموال الناس أكثر منه، كَيْفِيَّةً أو كَمِّيَّةً، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ ولا يبارك فيه، بل يُسحته ويمحقه، ولو بعد حين. وهذه صورة الربا المحرمة إجماعاً، وقيل: وما أعطيتم من هدية لتأخذوا أكثر منها، فلا يربو عند الله، لأنكم لم تقصدوا به وجه الله.
وهذه هدية الثواب، جائزة، إلا في حقه- عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ
«١». وقرأ ابن كثير:
«أتيتم» بالقصر، بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. وقرأ نافع
«٣» :
«لتُرْبُوا» بالخطاب، أي: لتصيروا [ذَوِي]
«٢» ربا، فتزيدوا فى أموالكم.
343
وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ صدقة، تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ تبتغون به وجهه خالصاً، لا تطلبون به زيادة، ولا مكافأة، ولا سمعة، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي: ذوو الأَضْعَافِ من الحسنات، من سبعمائة فأكثر. ونظير المُضْعِفِ: المقوي، والموسر، لذي القوة واليسار. والالتفات إلى الخطاب في (أولئك... ) إلخ في غاية الحسن لما فيه من التعظيم، كأنه خاطب الملائكة وخواص الخلق تعريفاً بحالهم، وتنويهاً بقدرهم، ولأنه يفيد التعميم، كأنه قيل: مَنْ فَعَلَ هذا فسبيله سبيل المخاطبين المقبول عليهم. ولا بد من ضمير يعود إلى
«ما» الموصولة، أي:
المضعفون به. أو: فَمُؤْتُوه أولئك هم المضعفون. وقال الزجاج: أي: فأهلها هم المضعفون، أي: يضاعف لهم الثواب، من عشر إلى سبعمائة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: البسط والقبض يتعاقبان على العبد تَعَاقُبَ الليل والنهار. فالواجب على العبد: الرجوعُ إلى الله في السراء والضراء، فالبسط يشهد فيه المنّة من الله، ومقتضى الحق منك الحمدُ والشكر. والقبض يشهده من الله امتحاناً وتصفية، ومقتضى الحق منك الصبرُ والرضا، وانتظار الفرج من الله فإن انتظار الفرج، مع الصبر، عبادة. قال القشيري: الإشارة إلى ألا يُعلِّق العبدُ قلبَه إلا بالله لأن ما يسوءهم ليس زواله إلا من الله، وما يسرهم ليس وجودُه إلا من الله. فالبسطُ، الذي يسرهم ويؤنسهم منه، وجوده، والقبض، الذي يسوءهم ويوحشهم منه، حصولُه. فالواجب: لزوم [عهوده بالإسرار]
«١»، وقطعُ الأفكار عن الأغيار. هـ.
وقال في قوله: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ: القرابة على قسمين قرابةُ النسب وقرابةُ الدين، وهي أمسُّ، وبالمواساة أحقّ. وإذا كان الرجلُ مشتغلا بالعبادة، غيرُ متفرَغ لطلب المعيشة، فالذي له إيمان بحاله، وإشرافٌ على وقته، يجب عليه أن يقوم بشأنه، بقدر ما يمكنه، مما يكون له عونٌ على طاعته، مما يشوش قلبه، من حديث عياله، فإن كان اشتغال الرجل بشيء من مراعاة القلب فحقّه آكد، وتَفَقُّدَه أوْجَب، ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، والمريدُ هو الذي يُؤْثِرُ حقَّ الله على حظِّ نَفْسِه. فإيثارُ الإخوان، لمن يريد وجه الله، أتمُّ من مراعاة حال نفسه، فهمّه بالإحسان لذوي القربى والمساكين يتقدم على نظره لنفسه وعَيْلَتِهِ، وما يهمه من نصيبه. هـ.
وقال في قوله: يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ: لا تستخدم الفقير بما تُريده به من رفق، بل أفضل الصدقة على ذي رَحمٍ كاشح، أي: قاطع حتى يكون إعطاؤُه لله مجرداً عن كل نصيبٍ لَكَ. فهؤلاء هم الذين يتضاعِفُ أجِرْهم بمجاهدتهم [لنفوسهم]
«٢»، حيث يخالفونها، وفوزهم بالعِوَضِ من قِبَل الله. ثم الزكاة هي التطهير، فتطهيرُ المال
344
قال الورتجبي: إن الله غلب الإنسانية على الكون طاعةً ومعصية، فإذا رزق الإنسان الطاعة صلح الأكوان ببركتها، وإذا رزق المعصية فسد الحدثان بشؤم معصيته لأن طاعته ومعصيته من تواثير
«١» لطفه وقهره، عَلاَ بنعت الاستيلاء على الوجود، فإذا فسادها يؤثر في بَرِّ النفوس وبحار القلوب، ففساد بَرَّ النفوس: فَتْرَتُهَا عن العبودية، وفساد بحر القلب: احتجابه عن مشاهدة أنوار الربوبية. هـ.
قلت: وقد يقال: ظهر الفساد في بر الشريعة بذهاب حَمَلَتِهَا، ومن يحفظها، ويذب عنها، وفي بحر الحقيقة بقلة صدق من يطلبها، وغربة أهلها، واختفائها حتى اندرست أعلامها، وخفي آثارُها، والبركة لا تنقطع. وذلك بسبب ما كسبت أيدي الناس من إيثار الدنيا على الله ليذيقهم وبال القطيعة لعلهم يرجعون إليه، إما بملاطفة الإحسان، أو بسلاسل الامتحان.
قال في لطائف المنن: سأل بعضُ العارفين عن أولياء العدد، هل ينقصون؟ فقال: لو نقص منهم واحد ما أرسلت السماء قَطْرَهَا، ولا أنبتت الأرض نباتها، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم، ولا بنقص إمدادهم، ولكن إذا فسد الوقت كان مراد الله وقوع اختفائهم، مع وجود بقائهم. فإذا كان أهل الزمان مُعْرضين عن الله، مؤثرين لما سوى الله لا تنجح فيهم الموعظة، ولا تميلُهم التذكرة، لم يكونوا أهلاً لظهور أولياء الله تعالى فيهم، ولذلك قالوا:
أولياء الله عرائس، ولا يَرَى العرائسَ المجرمون. هـ.
قال القشيري: (قل سيروا) بالاعتبار، واطلبوا الحقَّ بنعت الافتكار، وانظروا: كيف كان حال من تقدمكم من الأشكال والأمثال؟ وقيسوا عليها حُكْمَكم في جميع الأحوال، (كان أكثرهم مشركين) : كان أكثرهم عدداً، ولكن أقل في التحقيق وزنا وقدرا. هـ.
ثم أمر بالتأهب ليوم المعاد، وبه يندفع عن الخلق الفساد، فقال:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٣ الى ٤٥]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥)
347
يقول الحق جلّ جلاله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ أي: قوّمه وَوَجّهّه لِلدِّينِ الْقَيِّمِ البليغ في الاستقامة، الذي لا يتأتى فيه عوج ولا خلل. وفيه، من البديع، جناس الاشتقاق. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمتُه تبع، أو: لكل سامع.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ وهو البعث، لا مَرَدَّ لَهُ أي: لا يقدر أحد على رده، ومِنَ اللَّهِ: متعلّق بيأتي، اي:
من قبل أن يأتي من الله يوم لا يردّه أحد، أو بمرد لأنه مصدر، أي: لا مرد له من جهة الله، بعد أن يجيء لتعلق الإرادة به حينئذٍ. يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتصدّعون، فأدغم التاء في الصاد. وفي الصحاح: الصدع: الشق، يقال صدعته فانصدع، أي: انشق. وتصدّع القوم: تفرقوا. هـ. أي: يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير.
ثم أشار إلى غِنَاهُ عنهم، فقال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وبال كفره، لا يحمله عنه غيره. وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي: يسوون لأنفسهم في قبورهم، أو: في الجنة ما يسوي لنفسه الذي يمهد فراشه ويُوطئه لئلا يصيبه في مَضْجَعِهِ ما ينغص عليه مَضْجَعَهُ. وتقديم الظرف في الموضعين للاختصاص، أي: فلا يجاوز عمل أحد لغيره.
ثم علل ما أُمر به من التأهب، فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أظهر في موضع الإضمار، أي: ليجزيهم ليدل على أنه لا ينال هذا الجزاءَ الجميلَ إلا المؤمن لصلاح عمله. أثابه ذلك مِنْ فَضْلِهِ أي: بِمَحْضِ تفضله إذ لا يجب عليه شيء، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ، بل يبغضهم ويمقتهم، وفيه إيماء إلى أنه يحب المؤمنين، وهو كذلك، ولا سيما المتوجهين.
الإشارة: أمر الحق تعالى بالتوجه إليه، والتمسك بالطريق التي تُوصل إليه، قبل قيام الساعة لأن هذه الدار هى مزرعة لتك الدار، فمن سار إليه هنا وعرفه عرفه في الآخرة، ومَن قعد هنا مع هواه، حتى مات جاهلاً به بُعِثَ كذلك، كما هو معلوم. ولا يمكن التوجه والظفر بالطريق الموصلة إليه تعالى إلا بشيخ كامل، سلك الطريق وعرفها. ومن رام الوصول بنفسه، أو بعلمه، أو بعقله انقطع لا محالة. قال القشيري: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ: أَخْلِص قصْدَك، وصِدْقَ عَزْمِكَ، بالموافقة للدين القيِّم، بالاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع.
ومَنْ لم يتأدب [بمَنْ]
«١» هو إمامُ وقته، ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته كان خُسْرانُه أتَمَّ من ربْحه، ونقصانُه أَعَمَّ من نفعه. هـ.
348
الإشارة: الله الذي يُرسل رياح الواردات الإلهية، فتنزعج سحاب الآثار عن عين الذات العلية، فتبقى شمس العرفان، ليس دونها سحاب، فيبسطه في سماء القلوب كيف يشاء، فيقع الاحتجاب لبعضها، ويصرفه عمن يشاء فيقع التجلي والظهور، ويجعله كسفاً لأهل الاستشراف، فتارة ينجلى عنهم سحب الآثار، فيشاهدون الأنوار، وتارة تغطيهم سُحب الآثار، فيشاهدون الأغيار، فترى مَطَرَ خَمْرَةِ الفناءِ تخرج من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده، إذا هم يستبشرون بأنوار معرفته وأسرار ذاته. وقد كانوا قبل ذلك مبلسين، آيسين حين كانت نفوسهم غالبةً عليهم. فانظر كيف أحيا أرض قلوبهم بعد موتها بالجهل والغفلة. وهذا مثال من كان منهمكاً ثم سقط على شيخ ذي خمرة أزلية، فسقاه حتى حَيِيَ بمعرفة الله.
قال القشيري: الله الذي يرسل رياح عَطْفِه وجُودِه، مبشراتٍ بجوده ووَصْله، ثم يُمْطِر جود غيثه على أسرارهم، ويطوي بساطَ الحشمة عن مناجاة قربه، ويضرب قبابَ الهيبة بمشاهد كَشْفِه، وينشر عليهم أزهار أُنْسِه، ثم يتجلَّى لهم بحقائق قُدْسِه، ويسقيهم بيده شراب حُبِّه. وبعد ما محاهم عن أوصافهم أصحاهم، لا بهم، ولكنْ بِنَفْسه. والعبارات عن ذلك خُرْسٌ، والإشارات، دونه، طُمْسٌ.
وقال في قوله تعالى: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ.. الآية: يحيي الأرض بأزهارها وأنوارها عند مجيء أمطارها، ليُخرجَ زَرْعَها وثمارَها، ويحيى النفوس بعد تفريقها، ويوفقها للخيرات بعد فترتها، فتعمر أوطان الوفاق بصدق إقدامهم، وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم، وتحيي القلوبُ، بعد غفلتها، بأنواع المحاضرات، فتعود إلى استدامة الذكر بحُسْنِ المراعاة، ويهتدي بأنوار أهلها أهلُ العصر من أهل الإرادات، ويحيي الأرواح بعد حجْبتَها بأنوار المشاهدات، فتطلع شموسُها من بُرْجِ السعادة، ويتصل، بمشامِّ أسرار الكافة نسيمُ ما يُفيض عليهم من الزيادات، فلا يبقى صاحبُ نَفَسٍ إلا حَظِيَ منه بنصيب، ويُحْيي الأسرارَ بأنوار المواجهات. وما كان لها إلا وَقْفَةٌ في بعض الحالات، فتنتفي، بالكلية، آثارُ الغَيْرِيَّةِ، ولا يَبْقَى في الديار ديَّار، ولا من سكانها آثار، وسَطَواتُ الحقائق لا تثبت لها ذَرَّةٌ من صفات الخلائق هنالك الولاية لله الحق.. انتهى المراد منه، مع زيادة بيان.
ثم ذكر الجوائح، وما ينشأ من أهل الغفلة عند ظهورها، فقال:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)
352
قلت: اجتمع القسم والشرط، فذكر جواب القسم وأغنى عن جواب الشرط. والضمير في (رأوه) : يعود على النبات المفهوم مما تقدم من أحياء الأرض، أو: على السحاب.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالله لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً عاصفة على ما نبت في الأرض من الزروع وسائر الأشجار، الذي هو أثر رحمة الله، فَرَأَوْهُ أي: ما نبت في الأرض، مُصْفَرًّا يابساً لَظَلُّوا أي:
ليظلون مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد اصفراره يَكْفُرُونَ، ويقولون: ما رأينا خيراً قط، فينسون النعم السابقة بالنقم اللاحقة. وهذه صفة أهل الغفلة، وأما أهل اليقظة فيشكرون في أوقات النعم، ويصبرون ويرضون في أوقات النقم، وينتظرون الفرح بعد الشدة، واليسر بعد العسر، غير [قَانِطِينَ]
«١» ولا ضَجِرين. أو: ولئن أرسلنا ريحاً لتعذيبهم، فرأوا سحابة صفراء، لأنَّ اصفراره علامة على أنه لا مطر فيه، لظلوا، أي: للجوا من بعد ذلك على كفرهم وطغيانهم لانهماكم.
قال البيضاوي: وهذه الآية ناعية على الكفار، لقلة تثبتهم، وعدم تدبرهم، وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم، وسوء رأيهم، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله، ويلتجئوا إليه بالاستغفار، إذا احتبس القطر عنهم، ولا ييأسوا من رحمته، وأن يبادروا إلى الشكر واستدامة الطاعة، إذا أصابهم برحمته، ولم يبطروا بالاستبشار، وأن يصبروا على بلائه إذا ضرب زروعهم بالاصفرار، ولم يكفروا نعمه. هـ.
قال النسفي: ذمهم الله تعالى بأنهم، إذا حبس عنهم المطر، قنطوا من رحمته، وضربوا أذقانهم على صدورهم، مبلسين، فإذا أصابهم برحمته، ورزقهم المطر، استبشروا، فإذا أرسل الله ريحاً فضرب زروعهم بالصفار ضجّوا، وكفروا بنعمه، وهم في جميع هذه الأحوال على صفة مذمومة، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله، فقنطوا، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها، ففرحوا وبطروا، وأن يصبروا على بلائه، فكفروا. هـ.
وهذه حال من مات قلبه، قال تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي: موتى القلوب، وهؤلاء في حكم الموتى فلا تطمع أن يقبلوا منك، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ أي: لا تقدر أن تُسْمِعَ من كان كالأصم دعاءك إلى الله، او: لا يقدرون أن يسمعوا منك، إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فإن قلت: الأصم لا يسمع مقبلاً أو مدبراً، فما فائدة التخصيص؟ قلت: هو إذا كان مُقبلاً يفهم بالرمز والإشارة، فإذا ولّى فلا يفهم، ولا يسمع، فيتعذر إسماعه بالكلية. قاله النسفي.
353
مما يسلي عن رَوْعِ الشيب، ما أنشد القائل:
| لاَ يَرُوعُكِ الشِّيبُ يَا بِنْتَ | عَبْدِ الله، فالشَّيبُ حُلْة وَوَقاَرُ |
| إِنَّمَا تَحْسُنُ الرّياض إذا م | اضحكت في خِلاَلِهَا الأَزْهَارُ |
ثم قال تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ مِنْ ضعفٍ، وقوةٍ، وشباب، وشيبة، وَهُوَ الْعَلِيمُ بأحوالهم، الْقَدِيرُ على تدبيرهم فيصيرهم إلى ذلك. والترديد في الأحوال أبين دليل على وجود الصانع العليم القدير.
وفي
«الضعف» : لغتان الفتح والضم
«١». وهو أقوى سنداً في القراءة، كما روي ابن عمر. قال: قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من ضَعف»، فأقرأني:
«من ضُعْفٍ» «٢».
الإشارة: إذا كُثف الحجاب على الروح، وكثرت همومها، أسرع لها الضعف والهرم، وإذا رقّ حجابها، وقلّت همومها قويت ونشطت بعْد هرمها، ولا شك أن توالي الهموم والأحزان يهرم، وتوالي البسط والفرح ينشط، ويرد الشباب فى غير إِبَّانِهِ، والعارفون: فرحهم بالله دائم، وبسطهم لازم إذ لا تنزل بساحتهم الهموم والأحزان، وإنما تنزل بمن فقد الشهود والعيان كما قال في الحِكَم.
قال القشيري
«٣» : خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، أي: ضعف عن حال الخاصة، ثم جعل من بعد ضعف قوة بالوصول إلى شهود الوجود القديم، ثم من بعد قوة ضعفاً بالرجوع إلى المسكنة، أي: في حال البقاء، قال صلى الله عليه وسلم:
«اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين» «٤» هـ
«٥».
ثم ذكر أهوال البعث، فقال:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)
355
قلت:
«لبثوا» : جواب القسم على المعنى، وإلا لقيل: ما لبثنا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، أي: القيامة. وسميت بذلك لأنها تقوم آخر ساعة من ساعات الدنيا، ولأنها تقوم في ساعة واحدة، وصارت عَلَماً لها بالغلبة، كالنجم للثريا، فإذا قامت يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ يحلف الكافرون: ما لَبِثُوا في قبورهم، أو: في الدنيا، غَيْرَ ساعَةٍ، استقلُّوا مدّة لبثهم في القبور، أو: الدنيا، لشدة هول المطلع، أو: لطول مقامهم في أهوالها، أو: ينسون ما لبثوا، أو: يكذبون. كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ، أي: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الصدق والتصديق، أو: عن الحق حتى يروا الأشياء على غير ما هي عليه، ويقولون: ما هِيَ إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ، أي: حَصَّلوا العلم بالله والإيمان بالبَعْثِ، وهم الملائكة والأنبياء، والمؤمنون: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ في علم الله المثبت في اللوح، أو: في حكم الله وقضائه، أو: القرآن، وهو قوله تعالى:
«ومن ورائهم برزخ..» إلخ، أي: لقد مكثتم مُدَّةَ البرزخ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ، ردّوا عليهم ما قالوه، وحلَّفُوهم عليه، وأطلعوهم على حقيقة الأَمر، ثم وَبَّخُوهُمْ على إنكار البعث بقولهم: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم تنكرونه، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ في الدنيا أنه حق لتفريطكم في طلب الحق، واتباعه. والفاء جواب شرط
«١» مُقَدَّر، ينساق إليه الكلام، أي: إن كنتم منكرين للبعث فهذا يومه.
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ
«٢» الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا، مَعْذِرَتُهُمْ: اعتذارهم، والمعذرة: تأنيثها مجازي، فيجوز التذكير والتأنيث، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: لا يقال لهم: أَرْضُوا رَبَّكُمْ بالتوبة، ولا يُدْعَوْنَ إلى استرضائه، يقال:
استعتبني فلان فأعْتَبْتُهُ، أي: استرضاني فأرضيته.
الإشارة: كل من قصر في هذه الدار، وصرف أيام عمره في البطالة، يقصر عليه الزمان عند موته، ويرجع عنده كأنه يوم واحد، فحينئذٍ يستعتب فلا يُعتب، ويطلب الرجعى فلا يُجاب، فلا تسأل عن حسرته وخسارته، والعياذ بالله، وهذا كله مبين فى القرآن، كما قال تعالى:
356
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: بيَّنا لهم فيه من كل مثل، ينبؤهم عن التوحيد والمعاد، وصدق الرسل، وغير ذلك، مما يحتاجون إلى بيانه، وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ من الآيات الدالة على صدقك، أو: القرآن. لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ مزورون. وإسناد الإبطال إلى الجميع، مع أن المجيء بالحق واحد مراعاة لمن شايعه معه من المؤمنين، أو: ولقد وصفنا كلّ صفة، كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كقصة المبعوثين يوم القيامة، وما يقولون، وما يُقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم، ولا يُسمع من استعتابهم، ولكنهم لقسوة قلوبهم، إذا جِئْتَهُمْ بآية من آيات القرآن، قالوا: جئتنا بزور باطل. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، أي: مثل ذلك الطبع- وهو الختم- يطبعُ الله على قلوب الجهلة الذين عِلَمَ اللهُ منهم اختيارَ الضلال، حتى سمّوا المحققين مبطلين، وهم أغرقُ خلق الله في تلك الصفة.
فَاصْبِرْ على أذاهم وعداوتهم، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك، وإظهار دين الإسلام على كل دى، ن حَقٌّ لا بد من إنجازه والوفاء به، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ لا يحملَنَّك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفّة والعجلة في الرد عليهم، أو: لا يحملنَّك على الخفة والقلق فزعاً مما يقولون فإنهم ضُلاَّل، شاكّون، لا يستغرب منهم ذلك. وقرأ يعقوب: بسكون النون على أنه نون التوكيد الخفيفة.
الإشارة: قد بيَّن الله في القرآن ما يحتاج السائرون إليه، من علم الشريعة والطريقة والحقيقة، لمن خاض بحر معانيه وأسراره. ولئن جئتهم بآية، من غوامض أسراره ليقول أهل الجمود: هذا إلْحَاد وباطل. فاصبر إن وعد الله بالنصر لأوليائه حق، ولا يحملنك على العجلة من لا يقين عنده. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم.