تفسير سورة سورة الروم من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الروم
آياتها ستون وهي مكية
ﰡ
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ويحيي بن يعمر وقتادة قال ابن شهاب بلغنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين وهم بمكة قبل أن يخرج رسول الله صلى الله عليه سلم فيقولون تشهدون أنهم أهل الكتاب وقد غلبتهم المجوس وأنكم تزعمون ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل على نبيكم فكيف غلبت المجوس الروم وهم أهل الكتاب فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم ﴿ آلم ١غلبت الروم٢ ﴾
﴿ في أدنى الأرض ﴾ أي أدنى أرض العرب منهم لأنها الأرض المعهودة عندهم أو في أدنى أرضهم من العرب واللام بدل من الإضافة قال عكرمة هي أذرعات وكسكر وقال مجاهد أرض الجزيرة وقال مجاهد الأردن وفلسطين ﴿ وهم ﴾ أي الروم﴿ من بعد غلبهم ﴾ مصدر مبني للمفعول أي من بعد أن غلبوا على صيغة المجهول ﴿ سيغلبون ﴾ على فارس
﴿ في بضع سنين ﴾ البضع ما بين الثلاث إلى السبع وقيل ما بين الثلاث إلى التسع وقيل ما دون العشرة وقال الجوهري تقول بضع عشر رجلا فإذا جاوزت العشرين لا تقول بضع وعشرون وهذا يخالف ما جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الإيمان بضع وسبعون شعبة " .
قال البغوي : كان بين فارس والروم قتال فكان المشركون يودون غلبة فارس على الروم لأن أهل فارس كانوا مجوسا أميين والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس لأنهم كانوا أهل كتاب فبعث كسرى يعني برويز بن هرمز بن نوشيروان جيشا إلى الروم واستعمل عليهم رجلا يقال له شهر يزاد وبعث قيصر جيشا وأمر عليهم رجلا يقال له يحيس فالتقتا بأذرعان الشام وبصرى ( وهو أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم ) فغلب فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة فشق ذلك عليهم وفرح به كفار مكة وقالوا للمسلمين إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا أهل فارس على إخوانكم من الروم فإن قاتلتمونا لنظهرن عليكم فأنزل الله تعالى هذه الآية فخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الكفار فقال فرحتم بظهور إخوانكم فوالله ليظهرن الروم على فارس على ما اخبرنا بذلك نبينا فقال أبي بن خلف الجمحي كذبت فقال أنت أكذب يا عدو الله فقال إجعل بيننا وبينك أجلا أناجئك ( والمناجئة المراهنة ) على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهر الروم على فارس غرمت وإن ظهر فارس على الروم غرمت ففعلوا وجعل الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ( وذلك قبل تحريم القمار ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزائده في الخطر وماده في الأجل " فخرج أبو بكر فرأى أبيا فقال لعلك ندمت قال لا أزائدك في الخطر وامادك في الأجل فجعل مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين وقيل إلى سبع سنين قال قد فعلت فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه وقال إني أخاف أن تخرج من مكة فأقسم لي كفيلا فكفل له عبد الله بن أبي بكر ابنه فقال لا والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه ثم خرج إلى أحد فرجع أبي بن خلف إلى مكة فمات بمكة من جراحته التي جراحه النبي حين بارزه فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين من مناجئتهم وقيل كان يوم بدر قال الشعبي لم يمض تلك المدة مدة عقد المناجئة بين أهل مكة وصاحب قمارهم أبي بن خلف والمسلمين وصاحب قمارهم أبي بكر الصديق ( وكان ذلك قبل تحريم القمار ) حتى غلبت الروم وفارس وربطوا خيولهم بالمدائن وبنو للرمية فقمر أبو بكر أبيا وأخذ مال الخطر من ورثتة وجاء به وحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" تصدق به " وأخرج الترمذي من حديث أبي بكر نحوه.
مسألة :
قال أبو حنيفة : العقود الفاسدة كعقد الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار مستدلا بقصة أبي بكر ولأن أموال الكفار غير معصوم يجوز أخذها ما لم يكن غدرا بعد الاستئمان.
قال البغوي : وكان سبب غلبة الروم على فارس على ما قال عكرمة أن شهر يزاد بعدما غلب الروم ولم يزل يطيئهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج فبينا أخوه فرخان جالس على سريره يشرب فقال لأصحابه لقد رأيت أني جالس على سرير كسرى فبلغت حكمته كسرى فكتب الى شهر يزاد إذا أتاك كتابي فابعث إلي رأس فرخان فكتب إليه أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان وإن له نكاية وصوتا في العدو فلا تغفل فكتب إليه أن في رجال فارس خلقا منه فعجل إلي برأسه فكتب فغضب كسرى ولم يجبه وبعث بريدا إلى أهل الجيش إني قد نزعت منكم شهر يزاد واستعملت عليكم فرخان ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة أمر فيها بقتل شهر يزاد فقال إذا ولى فرخان الملك وانقاد له أخوة فأعطه الصحيفة فلما قرأ شهر يزاد الكتاب قال سمعا وطاعة ونزل عن سريره وجلس فرخان ودفع الصحيفة فقال أتوني بشهر يزاد فقدمه ليضرب عنقه فقال لا تعجل علي حتى أكتب وصيتي قال نعم فدعى بالسقط وأعطاه ثلاث صحائف وقال كل هذا راجعت فيك كسرى وأنت تريد أن تقتلني بكتاب واحد فرد الملك إلى أخيه فكتب شهر يزاد إلى قيصر ملك الروم أن لي إليك حاجة لا يحملها البريد ولا يبلغها الصحف فالقني ولا تلقني إلا في خمسين روميا فإني ألقاك في خمسين فارسيا فأقبل قيصر في خمسين روميا وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق وخاف أن يكون قد مكر حتى أتاه عيون له أنه ليس معه إلا خمسون رجلا ثم سقط لهما وألقيا في قبة ديباج ثم ضربت لهما ومع كل واحد منهما سكين فدعوا بترجمان بينهما فقال شهر يزاد إن الذين خرجوا مدائنات أنا أخي بكيدنا وشجاعتنا وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت ثم أمر أخي أن يقتلني فقد خلقنا جميعا فنحن نقاتله معك فقال قد أصبتما ثم استأثر أحدهما على صاحبه أن السر بين إثنين فإذا جاوزهما فشا فقتلا الترجمان معا بسكينهما فأدليت الروم على فارس عند ذلك فابتغوهم فقتلوهم ومات كسرى وجاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ففرح هو ومن معه فذلك قوله ﴿ آلم غلبت الروم في أدنى الأرض ﴾ الآية.
وقرئ غلبت بالفتح على صيغة المعروف وسيغلبون بالضم ومعناه أن الروم غلبوا على أرض فارس والمسلمون سيغلبونهم وفي السنة التاسعة من غلبة الروم غزاهم المسلمون وفتحوا بعض بلادهم وعلى هذا يكون الغلب مصدرا مبنيا للفاعل مضافا إلى الفاعل ويؤيد هذه القراءة ما أخرج الترمذي عن أبي سعيد قال لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت ﴿ ألم غلبت الروم ﴾ بنصر الله بفتح الغين واخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه وهذه قراءة شاذة والأولى هي المتواترة ولعل النبي صلى الله عليه وسلم لما غلب الروم على فارس علم بالوحي الغير المتلو أنه غلبت اليوم الروم على فارس في أدنى الأرض وهم أي الروم من بعد ان غلبوا على الفارس سيغلبهم المؤمنون فقرأ على ما رواه الترمذي عن أبي سعيد بفتح الغين من غلبت على البناء وسيغلبون على البناء للمفعول والله أعلم ﴿ لله الأمر من قبل ﴾ أي قبل غلبة الروم على فارس حين كونهم مغلوبين ﴿ ومن بعد ﴾ أي بعد غلبهم عليهم حين كونهم غالبين ليس شيء منهما إلا بقضائه وقدره هذه الجملة تعليل لقوله سيغلبون ﴿ ويومئذ ﴾ أي يوم إذا كان الغلبة للروم ﴿ يفرح المؤمنون ﴾
﴿ بنصر الله ﴾ من له كتاب على من ليس وظهور صدقهم فيما أخبروا به المشركين وغلبتهم في رهانهم وازدياد يقينهم وثباتهم في دينهم قال السدي فرح النبي صلى الله عليه وسلم بظهورهم على المشركين يوم بدر وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك قال جلال الدين المحلي فرح المسلمون بذلك وعلموا به يوم وقوعه يوم بدر بنزول جبرئيل بذلك فيه مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه هذه الجملة معطوفة على قوله :﴿ وهم من بعد غلبهم سيغلبون ﴾ ﴿ ينصر من يشاء ﴾ فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى ﴿ وهو العزيز ﴾ ينتقم من عبادة بتسليط غيرهم عليهم تارة ﴿ الرحيم ﴾ ويرحمهم ويتفضل عليهم بنصرهم أخرى.
﴿ وعد الله ﴾ أي وعد الله وعدا مصدر مؤكد لنفسه لاما قبله وهو قوله وهم من بعد غلبهم سيغلبون في معنى الوعد ﴿ لا يخلف الله وعده ﴾ لامتناع الكذب عليه ﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ يعني كفار مكة ﴿ لا يعلمون ﴾ وعده ولا صحة وعده لجهلهم وعدم تفكرهم
﴿ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ﴾ يعني أمور معاشهم كيف يكتسبون وكيف يتجرون وكيف يزرعون ونحو ذلك ﴿ وهم عن الآخرة ﴾ التي هي المستقر أبدأ ﴿ هم غافلون ﴾ لا تخطر ببالهم هم الثانية تكرير للأولى أو مبتدأ وغافلون خبره والجملة خبر الأولى والرابطة إعادة لفظ المبتدأ نحو ﴿ الحاقة ما الحاقة ﴾ وهو على الوجهين مناد على تمكن غفلتهم عن الآخرة وهذه الجملة محققة لمضمون الجملة السابقة بدل من قوله لا يعلمون تقريرا وتشبيها لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها دون العلم بجميعها فإن من العلم بظاهر معرفة حقائقها وصفاتها وخصائصها وأفعالها وأسبابها وكيفية صدورها منها وكيفية صدورها منها وكيفية التصرف فيها ولذلك نكر ظاهرا وأما باطنها أنها مجاز إلى الآخرة ووصلة على نيلها وأنموذج لأحوالها وإشعارا بأنه لا فرق بين عدم العلم والعلم الذي يختص بظاهر الدنيا
﴿ أولم يتفكروا ﴾ الهمزة للتوبيخ والواو للعطف على محذوف تقديره أقصروا نظرهم على ظاهر من الحياة الدنيا ولم يتفكروا ﴿ في أنفسهم ﴾ أي لم يحدثوا التفكر فيها حتى يظهر لهم بعض بواطنها أو المعنى أولم يتفكروا في أمر أنفسهم فإنها أقرب إليهم من غيرها والمرأة يجتلي فيها للمستبصر ما يجتلي له في الممكنات بأسرها فإن الإنسان عالم صغير حتى يعلموا ويقولوا ﴿ ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ﴾ أي ما خلقها باطلا عبثا بغير حكمة بالغة بل خلقها مقرونة مصحوبة بالحكمة ﴿ وأجل مسمى ﴾ يعني ما خلقها للخلود بل لأجل معين ينتهي عنده وبعده قيام الساعة وقت الحساب والثواب والعقاب قال الله ﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ﴾ يدل على أن تركهم غير راجعين عبث فمن تفكر في نظام السماوات والأرض وما بينهما يحكم أن خالقه حكيم والحكيم لا يفعل العبث والحكمة في خلقها معرفة الخالق وصفاتها ولولا البعث والنشور والثواب والعقاب يستوي العارف والكافر فمن تفكر فيها يكتسب العلم بالآخرة فلا يكون من الغافلين ﴿ وإن كثيرا من الناس ﴾ يعني كفار مكة لأجل غباوتهم وعدم تفكرهم ﴿ بلقاء ربهم ﴾ أي بجزائه عند انقراض الدنيا ﴿ لكافرون ﴾ أي لجاحدون يحسبون أن الدنيا أبدية ولا بعث ولا حساب.
﴿ أولم يسيروا ﴾ الهمزة للإنكار والتوبيخ وإنكار النفي إثبات وتقرير الواو للعطف على محذوف تقديره ألم يخرج أهل مكة من ديارهم ولم يسيروا ﴿ في الأرض فينظروا ﴾ منصوب في جواب النفي ﴿ كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ﴾ من الأمم كيف في محل النصب على أنه خبر كان قدم عليه لما صدر الكلام والجملة في محل النصب على أنه مفعول لينظروا يعني أنهم قد ساروا في أسفارهم ونظروا إلى آثار الذين كذبوا الرسل من قبلهم فدمروا على تكذيبهم ﴿ كانوا أشد منهم قوة ﴾ كعاد وثمود وغيرهم فإن القرون الماضي كانوا أشد قوة وأطول أعمارا وأكثر آثارا من القرون التالية هذه الجملة مع ما عطف عليه مستأنفة في جواب ﴿ كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ﴾ ﴿ وأثاروا الأرض ﴾ مع ما عطف عليه عطف على كانوا أي قلبوا وجهها لاستنباط المياه واستخراج المعا دن وكربوها للزرع وغير ذلك ﴿ وعمروها ﴾ أي الأرض عمارة ﴿ أكثر مما عمروها ﴾ منصوب على أنه صفة مصدر محذوف يعني عمروها عمارة أكثر من عمارة أهل مكة إياها فإنهم في واد غير ذي زرع لا تبسط لهم في غيرها وفيه تهكم بهم حيث كانوا مفترين بالدنيا مفتخرين بها وهم أضعف حالا في الدنيا فإن مدارها على التبسط في البلاد والتسلط على العباد والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة وهم ضعفاء ويلجؤون إلى واد لا نفع لها ولولا رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن والشام لماتوا جوعا ﴿ وجاءتهم رسلهم بالبينات ﴾ عطف على ﴿ كانوا أشد منهم قوة ﴾ ﴿ فما كان الله ليظلمهم ﴾ معطوف على جملتين محذوفتين معطوفتين على جاءتهم تقديره جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم فدمرهم الله في الدنيا فما كان ليظلمهم أي ما كان صفة الله ظلمهم فإن اللام لام الجحود وأن بعدها مقدرة يعني ما كان صفة الله أن يفعل بهم ما يفعل الظلمة من التعذيب بغير جرم ولا تذكير ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ حيث فعلوا ما أدى إلى تدميرهم
﴿ ثم ﴾ أي بعد التدمير في الدنيا عطف على جملة مقدرة وهي فدمرهم الله ثم ﴿ كان عاقبة ﴾ قرأ أهل الحجاز والبصرة بالرفع على أنه اسم كان وخبره ما بعده أو محذوف كما سنذكر وأهل الكوفة والشام بالنصب على انه خبر كان والاسم أن كذبوا ﴿ الذين أساؤوا ﴾ من الأعمال تقديره ثم كان عاقبتهم فوضع المظهر موضع المضمر للدلالة على بعض ما يقتضي تلك العاقبة ﴿ السوأى ﴾ تأنيث أسوأ كالحسنى تأنيث أحسن يعني الخصلة التي تسوءهم أو عقوبة هي أسوأ العقوبات أو هو مصدر كالبشرى نعت به مبالغة قبل السواء اسم من أسماء جهنم كما أن الحسنى اسم من أسماء الجنة ﴿ أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون ﴾ عطف على كذبوا وأن كذبوا مع ما عطف عليه منصوب على العلية لقوله :﴿ فكان عاقبة الذين أساؤوا السوأى ﴾ تقديره لان كذبوا وجاز أن يكون بدلا أو عطف بيان السوأى يعني ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب يعني حملهم تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله.
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ذلكم الران الذي ذكر الله في كتابه :( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) رواه أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم وجاز أن يكون مع ما عطف عليه خبر كان والسوأى مصدر أساءوا أو مفعوله والمعنى ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة أن طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا بآيات الله ويجوز أن يكون السوأى مصدرا ومفعولا للفعل وإن كذبوا تابعا لها بدلا أو عطف بيان والخبر محذوف للإبهام والتهويل تقديره ثم كان عاقبة الذين فعلوا السيئات أي التكذيب جهنم وما لا يعرف ما أعد لهم من العذاب فيها وجاز أن يكون مفسرة للإساءة فإن الإساءة إذا كانت مفسرة بالتكذيب والاستهزاء كانت متضمنة لمعنى القول.
﴿ الله يبدؤا الخلق ﴾ أي يخلقهم ابتداء ﴿ ثم يعيده ﴾ أي الخلق يبعثهم بعد الموت ﴿ ثم إليه ترجعون ﴾ فيجزيهم بأعمالهم قرأ أبو بكر بالياء للغيبة لان الضمير عائد إلى الخلق والباقون بالتاء إلتفاتا من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المقصود
﴿ ويوم تقوم الساعة ﴾ ظرف متعلق بقوله ﴿ يبلس المجرمون ﴾ والجملة معطوفة على قوله :﴿ الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ﴾ قال قتادة والكلبي أي ييئسون من كل خير وقال مجاهد يفتضحون وقال الفراء ينقطع كلامهم وحجتهم في القاموس البلس محركة من لا خير عنده والمبلس الساكت على ما فيه نفسه وأبلس يئس وتحيروا منه إبليس أو هو أعجمي وقال الجزري في النهاية الملبس الساكت من الحزن أو الخوف والإبلاس الحيرة.
﴿ ولم يكن لهم من شركائهم ﴾ أي من الذين أشركوهم بالله سبحانه في العبادة على زعم أنهم يشفعون لنا عند الله فهم لا يكونون لهم ﴿ شفعاء ﴾ يجيرونهم من عذاب الله أورد بصيغة الماضي لتحقق وقوعه ﴿ وكانوا بشركائهم كافرين ﴾ أي يجحدون بآلهتهم حين يئسوا منهم وقيل معناه كانوا في الدنيا بسبب شركائهم كافرين بالله تعالى
﴿ ويوم تقوم الساعة ﴾ ظرف متعلق بيتفرقون ﴿ يومئذ ﴾ بدل من يوم تقوم الساعة أو تأكيد له أي يوم إذا كانوا مبلسين وكانوا بشركائهم كافرين ﴿ يتفرقون ﴾ قال مقاتل يتفرقون بعد الحساب سيق المؤمنون إلى الجنة والكافرين إلى النار ثم لا يجتمعون أبدا ثم فصله بقوله ﴿ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة ﴾.
﴿ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة ﴾ أي أرض ذات أزهار وأنهار من رياض الجنة ﴿ يحبرون ﴾ قال ابن عباس يكرمون وقال مجاهد وقتادة ينعمون وقال أبو عبيدة يسرون والحبرة السرور وقيل الحبرة كل نعمة حسنة والتخبير التحسين وفي النهاية للجزري الحبرة بالفتح النعمة وسعة العيش والحبرة بالكسر وقد يفتح الجمال والهيئة الحسنة وفي القاموس نحوه وفي حديث أبي موسى لو علمت أنك يا رسول الله تسمع لقرءاتي لحبرتها لم تحبيرا أي حسنت صوتي بها قال البغوي وقال الأوزاعي عن يحيي بن كثير يحبرون هو السماء في الجنة وكذا أخرج هناد والبيهقي عن يحيي بن كثير في هذه الآية وقال الأوزاعي إذا اخذ في السماع لم تبق شجرة في الجنة إلا ورقت وقال ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سماوات صلاتهم وتسبيحهم وأخرج ابن عسا كر عن الأوزاعي في هذه الآية قال هو السماع إذا أراد أهل الجنة أن يطربوا أوحى الله تعالى الى رياح يقال لها العفافة فدخلت في أجام قضيب اللؤلؤ الرطب فحركته فضرب بعضه بعضا فتطرب الجنة فإذا طربت لم يبق شجرة في الجنة إلا ورقت وأخرج الطبراني والبيهقي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما من عبد يدخل إلا أن تجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور العين يغنيان بأحسن صوت سمعه الإنس والجن وليس بمزمار الشيطان ولكن بتحميد الله وتقديسه " وأخرج البيهقي عن ابن عباس أنه سئل في الجنة غناء قال من مسك عليها يمجدون الله تعالى بصوت لم يسمع الأذن مثله قط قلت : الطرب بالشعر والغناء في الدنيا لا يحصل إلا بذكر المحبوب بكلام موزون في صوت حسن موزون ولا شك أن الناس إذا فازوا برؤية جمال الله سبحانه ولا جمال فوق جماله فلا محبوب لهم غيره فيطربون بسماع ذكره بصوت حسن موزون وفي بعض الأحاديث أن الحور العين يغنين لأزواجهن بأصوات ما سمعها أحد قط فيكون مما يغنين :
نحن الخيرات الحسان *** أزواج قوم كرام
ومما يغنين :
نحن الخالدات فلا نموتن *** نحن الآمنات فلا نخافن
*** نحن المقيمات فلا نطحن ***
كذا أخرج الطبراني عن ابن عمر مرفوعا وأخرج الطبراني والبيهقي وابن أبي الدنيا عن أنس نحوه وعن ما لك بن دينار عند أحمد في الزهد يقول الله لداود عليه السلام مجدني بذلك الصوت الحسن فيندفع داود بصوت ستقرع نعيم أهل الجنة وعن أبي هريرة عند الأصبهاني مرفوعا أن الله تعالى ليوصي إلى شجرة الجنة أن اسمعي عبادي الذين شغلوا أنفسهم عن المعازف والمزامير بذكري فيسمعهم بأصوات ما سمع الخلائق مثلها قط بالتسبيح والتقديس وفي الباب أحاديث كثيرة وأخرج الحكيم في نوادر الأصول عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيين قال يا رسول الله ما الروحانيون ؟ قال قراء أهل الجنة " وأخرج د ينودي عن مجاهد قال ينادي مناد يوم القيامة إن الذين كانوا ينزهون أصواتهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان قال فيحلهم الله في رياض من مسك فيقول للملائكة أسمعوا عبادي تحميدي وتمجيدي وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وروى الديلمي عن جابر بن عبد الله مرفوعا مثله ﴿ وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ﴾ أي البعث والقيامة ﴿ فأولئك في العذاب محضرون ﴾ مدخلون لا يغيبون عنه.
﴿ فسبحان الله ﴾ مصدر لفعل محذوف تقديره فسبحوا الله سبحانا حذف الفعل وأضيف المصدر على المفعول والفاء للسببية والتفريغ على ما سبق من صفاته تعالى من الإبداء والإعادة وغيرها والمراد بالتسبيح الصلاة يعني صلوا لله ﴿ حين تمسون ﴾ أي حين تدخلون في المساء صلاة المغرب شكرا لما أنعم الله من تمام النهار بالسلامة والنعمة والدخول في الليل للسكون والراحة بدأ بذكر صلاة المغرب لتقدم الليل على النهار في اعتبار الشهور والأيام ﴿ وحين تصبحون ﴾ شكرا لما أنعم الله عليه من تمام الليل بالسلامة والراحة والدخول في النهار لكسب المعاش والمعاد ذكر صلاة الصبح بعد المغرب لمقابلة الصباح بالمساء
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خص هذه الأوقات لما تظهر فيها قدرته وتتجدد نعمته ولما يحدث فيها من الشواهد الناطقة بتنزيهه واستحقاقه الحمد والشكر ممن له تميز من أهل السماوات والأرض ذكر في هذه الآية أربعا من الصلوات الخمس وقيل :﴿ حين تمسون ﴾ إشارة إلى المغرب والعشاء جميعا أخرج ابن جرير والطبراني والحاكم قول ابن عباس أن الآية جامعة للصلوات الخمس حين تمسون كناية عن المغرب والعشاء جميعا وقال البغوي قال نافع بن الأزرق لابن عباس هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال ابن عباس نعم وقرأ هاتين الآيتين وقال جمعت هذه الآية الصلوات الخمس ومواقيتها.
عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قال حين يصبح وحين يمسي ﴿ سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض عشيا وحين تظهرون ﴾ إلى قوله :﴿ وكذلك تخرجون ﴾ أدرك ما فاته في يومه ذلك ومن قالهن حين يمسي أدركه ما فاته في الليلة " رواه أبو داود وعنه عليه السلام :" من سره أن يكتال له بالقفيز الأوفى فليقل فسبحان الله حين تمسون " الآية رواه الثعلبي من حديث أنس بسند ضعيف جدا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر " متفق عليه وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت احد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا احد قال مثل ما قال أو زاد عنه " متفق عليه وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " متفق عليه وعن جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة من عندها ( وكان اسمها برة ) فخرج وهي في المسجد فرجع بعدما تعالى النهار وقال ما زلت في مجلسك هذا منذ خرجت بعد ؟ قالت نعم فقال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بكلماتك لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته " رواه مسلم وعن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أفضل الكلام أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " وفي رواية " أحب الكلام إلى الله أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيتهن بدأت " رواه مسلم وعن أبي ذر قال :" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل ؟ قال ما أصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده " رواه مسلم وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة " رواه الترمذي
﴿ وله الحمد في السموات والأرض ﴾ قال ابن عباس أي يحمدون أهل السماوات والأرض ويصلون له الجملة حال من الله أو معترضة ﴿ وعشيا ﴾ أي آخر النهار عن عشى العين إذا نقص نورها عطف على يصبحون يعني صلوا صلاة العصر صلاة الوسط ولما كان ذلك وقت اشتغال الناس بأمور الأسواق قدم ذكرها على ذكر الظهر اهتماما يعني لا بد لكم من الاشتغال بالصلاة حين اشتغال الناس بأمور كيلا تكونوا من الذين لا يلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ﴿ وحين تظهرون ﴾ أي تدخلون في الظهيرة يظهر عليكم صولة الشمس ويذكركم حر نار جهنم وحر ذكائها يوم القيامة
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خص هذه الأوقات لما تظهر فيها قدرته وتتجدد نعمته ولما يحدث فيها من الشواهد الناطقة بتنزيهه واستحقاقه الحمد والشكر ممن له تميز من أهل السماوات والأرض ذكر في هذه الآية أربعا من الصلوات الخمس وقيل :﴿ حين تمسون ﴾ إشارة إلى المغرب والعشاء جميعا أخرج ابن جرير والطبراني والحاكم قول ابن عباس أن الآية جامعة للصلوات الخمس حين تمسون كناية عن المغرب والعشاء جميعا وقال البغوي قال نافع بن الأزرق لابن عباس هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال ابن عباس نعم وقرأ هاتين الآيتين وقال جمعت هذه الآية الصلوات الخمس ومواقيتها.
عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قال حين يصبح وحين يمسي ﴿ سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض عشيا وحين تظهرون ﴾ إلى قوله :﴿ وكذلك تخرجون ﴾ أدرك ما فاته في يومه ذلك ومن قالهن حين يمسي أدركه ما فاته في الليلة " رواه أبو داود وعنه عليه السلام :" من سره أن يكتال له بالقفيز الأوفى فليقل فسبحان الله حين تمسون " الآية رواه الثعلبي من حديث أنس بسند ضعيف جدا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر " متفق عليه وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت احد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا احد قال مثل ما قال أو زاد عنه " متفق عليه وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " متفق عليه وعن جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة من عندها ( وكان اسمها برة ) فخرج وهي في المسجد فرجع بعدما تعالى النهار وقال ما زلت في مجلسك هذا منذ خرجت بعد ؟ قالت نعم فقال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بكلماتك لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته " رواه مسلم وعن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أفضل الكلام أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " وفي رواية " أحب الكلام إلى الله أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيتهن بدأت " رواه مسلم وعن أبي ذر قال :" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل ؟ قال ما أصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده " رواه مسلم وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة " رواه الترمذي
﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة ﴿ ويخرج الميت من الحي ﴾ النطفة والبيضة من الحيوان أو يعقب الحياة بالموت وبالعكس ﴿ ويحي الأرض ﴾ بالنبات ﴿ بعد موتها ﴾ أي يبسها ﴿ وكذلك ﴾ أي مثل ذلك الإخراج ﴿ تخرجون ﴾ من قبوركم أحياء بعد الموت فلم تنكرونه بعد ما تشاهدون نظيره فهي تعليل للبعث قرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء البناء للفاعل والباقون بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول.
﴿ ومن آياته ﴾ أي من آيات قدرته تعالى على البعث ﴿ أن خلقكم ﴾ أي خلق أدم ﴿ من تراب ثم إذا انتم بشر تنتشرون ﴾ إذ للمفاجأة مضاف إلى الجملة والعامل فيه معنى المفاجأة والمعنى ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض بعدما كنتم جمادا بلا حس وحركة
﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم ﴾ من للابتداء لأن حواء خلقت من ضلع أدم وسائر النساء منه نطف الرجال أو للبيان لأنهن من جنسهم لا من جنس آخر ﴿ أزواجا لتسكنوا إليها ﴾ لتميلوا إليها وتألفوا لها فإن الجنسية علة الضم والاختلاف سبب التنافر ﴿ وجعل بينكم ﴾ أي بين الرجال والنساء أو بين أفراد الجنس ﴿ مودة ورحمة ﴾ بواسطة الزواج حال الشبق وغيرها بخلاف سائر الحيوانات نظما لأمر المعاش أو بأن تعيش الإنسان موقوف على التعاون المحوج إلى التواد والتراحم ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾في عظمة الله وقدرته فيعلمون ما في ذلك من الحكم ومن التناسل.
﴿ ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم ﴾ أي لغاتكم بأن علم كل صنف لغة وألهمه وأقدره عليها أو أجناس نطقكم وأشكاله وكيفيات أصواتكم بحيث لا يكاد يلتبس صوت أحد بغيره ﴿ وألوانكم ﴾ أي ألوان الجلد من السواد والبياض وغيرها أو مشخصات الأعضاء وهيئاتها وألوانها وجلاها بحيث لا يلتبس أحد بغيره ﴿ إن في ذلك لآيات للعالمين ﴾ لا يكاد يخفى على عاقل من ملك أو إنس أو جن وقرأ حفص بكسر اللام خصهم بالذكر لأنهم أحقاء بالمعرفة قال الله تعالى :﴿ وما يعقلها إلا العالمون ﴾
﴿ ومن آياته منامكم بالليل والنهار ﴾منامكم في زمانين لاستراحة القوى النفسانية وقوة القوى الطبيعية ﴿ وابتغاؤكم ﴾ المعاش والمعاد ﴿ من فضله ﴾ في كلا الزمانين أو المعنى منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف وضم بالزمانين والفعلين بعاطفين إشعارا بأن كلا من الزمانين وإن خص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة ويؤيده سائر الآيات الواردة فيه ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ﴾ سماع تفهم واستبصار فإن الحكمة فيه ظاهرة.
﴿ ومن آياته يريكم البرق ﴾ مقدر بأن أو الفعل فيه نزل منزلة المصدر كقوله تسمع للمعيدي خير من أن تراه أو صفة لمحذوف تقديره آية يريكم بها البرق ﴿ خوفا ﴾ من الصاعقة وفي حالة السفر ﴿ وطمعا ﴾ في الغيث إذا كنتم في منازلكم ونصبهما على العلة لفعل يلزم المذكور فإن إراءتهم يستلزم رؤية إلى البرق الخوف أو الطمع أو الفعل مذكور بحذف المضاف أي لإراءة خوف وطمع أو بتأويل الخوف والطمع بالإخافة والأطماع كقولك فعلته رغما للشيطان أو على الحال مثل كلمته شفاها ﴿ وينزل من السماء ماء ﴾ مطرا ﴿ فيحيي به الأرض ﴾ بالإنبات ﴿ بعد موتها ﴾ أي يبسها ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾ أي يستعملون عقولهم فيدركون كمال قدرة الصانع وحكمته
﴿ ومن آياته أن تقوم السماء والأرض ﴾ أي يبقيان في حيزيهما ﴿ بأمره ﴾ أي بإقامته لهما وارادته ببقائهم ﴿ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ﴾ الجملة معطوفة على أن تقوم بتأويل المفرد كأنه قال ومن آياته قيام السماء والأرض ثم خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة وثم لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه قوله من الأرض قال البغوي أكثر العلماء على أنه متعلق بتخرجون وقال البيضاوي هذا لا يجوز لان ما بعد إذا لا يعمل فيما قبله بل متعلق بقوله دعاكم كقوله دعوته من أسفل الوادي أخرج ابن عساكر عن زيد بن جابر الشافعي في قوله تعالى :﴿ واستمع يوم يناد المناد مكان قريب٤١ ﴾ قال يقف إسرافيل على صخرة بيت المقدس فيقول يا أيها العظام النخرة والجلود المتمزقة والأشعار المتقطعة إن الله يأمرك أن تجتمع لفصل الحساب وإذا الثانية للمفاجأة ولذلك ناب مناب الفاء في جواب الأولى ظرف مضاف إلى الجملة والعامل فيه معنى المفاجأة تقديره ففجأتم وقت خروجكم.
﴿ وله من في السموات والأرض ﴾ ملكا وخلقا ﴿ كل ﴾ أي كل واحد منها ﴿ له قانتون ﴾ مطيعون قال الكلبي هذا خاص بمن كان منهم مطيعا والصحيح أنه عام لبيان قهرمانه والمراد الانقياد في الأوامر التكوينية قال ابن عباس كل مطيع له في الحياة والموت والبعث ونحو ذلك وإن عصوا في العبادة
أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال تعجب الكفار من إحياء الموتى ﴿ وهو الذي يبدؤا ثم يعيده ﴾ بعد الإهلاك ﴿ وهو ﴾ الإعادة وتذكير الضمير لتنكير الخبر أو الإعادة بمعنى أن يعيد ﴿ أهون عليه ﴾ الجملة حال من فاعل يعيد أو معطوفة على ما سبق قال الربيع بن خيثم والحسن وقتادة والكلبي أهون بمعنى هين ولا شيء على العزيز وبجبئ إفعل بمعنى الفعيل وهو رواية العوفي عن ابن عباس قال مجاهد وعكرمة وهو أهون على طريق ضرب المثل أي هو أيسر عليه على ما يقع في عقولكم فإن في عقول الناس الإعادة أهون من الإنشاء وقيل هو أهون عليه عندكم وقيل هو يعني العود أهون على الخلق فإنهم في العود يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم من ان يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء وهذا معنى رواية حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ﴿ وله المثل الأعلى ﴾ أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يساويه أو بدانيه كما لقدرة العامة والحكمة التامة قال ابن عباس هي أنه ليس كمثله شيء واخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم انه قال قتادة في قوله تعالى :﴿ وله المثل الأعلى ﴾ قال شهادة أن لا إله إلا الله قلت : أراد به الوصف بالوحدانية ﴿ في السموات والأرض ﴾ يصف به ما فيهما نطفا ودلالة ﴿ وهو العزيز ﴾ الغالب في ملكه وخلقه القادر على كل شيء لا يعجزه شيء من الإبداء والإعادة ﴿ الحكيم ﴾ الذي يجري الأفعال على ما يقتضيه الحكمة.
أخرج الطبراني هم ابن عباس قال كان أهل الشرك يلبون اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملكت فنزلت ﴿ ضرب لكم مثلا من أنفسكم. . . ﴾
﴿ ضرب ﴾ الله أي بين ﴿ لكم ﴾ أيها المشركون ﴿ مثلا ﴾ كائنا ﴿ من أنفسكم ﴾ أي شبها منتزعا من أحوالكم فإنها من أقرب الأمور إليكم وهو ﴿ هل لكم من ما ملكت أيمانكم ﴾ أي من مماليككم ﴿ من شركاء ﴾ لله ( في ما رزقناكم ) من الأموال وغيرها ﴿ فأنتم ﴾ وهم ﴿ فيه سواء ﴾ في التملك والتصرف يتصرفون فيه كتصرفكم ﴿ تخافون ﴾ أن تتصرفوا فيها دونهم ﴿ كخيفتكم أنفسكم ﴾ أي أمثالكم في الحرية والاستفهام للإنكار يعني ليس الأمر كذلك وإنها معادة لكم مع أنهم بشر مثلكم فكيف تجوزون كون الحجارة التي هي أعجز المخلوقات شركاء لخالق الأرض والسماوات ﴿ كذلك ﴾ أي تفصيلا مثل ذلك التفصيل ﴿ نفصل الآيات ﴾ نبينها فإن التمثيل ما يكشف المعاني ويوضحها ﴿ لقوم يعقلون ﴾ أي يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال وأخرج جويبر مثل ما اخرج الطبراني في سبب نزول الآية عن داود بن أبي هند عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه عليهم السلام.
﴿ بل اتبع ﴾ إضراب من مضمون الكلام السابق يعني ليس الله شريك بل اتبع ﴿ الذين ظلموا ﴾ أنفسهم بتعريضها للعذاب بالإشراك بالله ﴿ أهواءهم ﴾ في الشرك ﴿ بغير علم ﴾ حال من فاعل اتبعوا يعني جاهلين بما يحب عليهم ﴿ فمن يهدي ﴾ أي إياه الفاء للسببية والاستفهام للإنكار إذا اتبعوا أهواءهم ولم يقبلوا هدى الله فلا أحد يهديهم وضع المظهر يعني قوله ﴿ من أضل الله ﴾ موضع الضمير إشعارا بأن الله أضلهم فمن يقدر على هدايته ﴿ وما لهم من ناصرين ﴾ يخلصونهم عن آفاتها.
﴿ فأقم ﴾ الفاء للسببية يعني لما ثبت وحدانيته تعالى وظهر أن المشركين إنما اتبعوا أهواءهم جاهلين فأقم أنت ﴿ وجهك ﴾ أي أخلص بوجهك ﴿ للدين ﴾ أي للإسلام ﴿ حنيفا ﴾ مائلا إليه مستقيما عليه غير ملتفت عنه إلى غيره ﴿ فطرت الله ﴾ منصوب على الإغراء أي إلزموا فطرة الله أي خلقته والمراد به دينه يعني الإسلام كذا قال ابن عباس وجماعة من المفسرين فالآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بتبعيته فالآية بمنزلة التأكيد أو التفسير لما قبله سماه فطرة لكونه لازما لكل مخلوق كما يدل عليه قوله :﴿ التي فطر الناس عليها ﴾ خلقهم مستعدين لها متمكنين على إدراكها وقيل المراد به العهد المأخوذ من آدم وذريته بقوله :﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ قالوا كل مولود في العالم مولود على ذلك الإقرار وهو الحنيفة التي وقعت الخلقة عليها وقد مر ما ورد في هذا الباب في تفسير هذه الآية في سورة الأعراف عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم قرأ ( فطرت الله التي فطر الناس عليه لا تبديل لخلق الله ) متفق عليه يعني كل مولود يولد في مبدأ الخلقة على الجبلة السليمة والطبع المهيأ لقبول الحق فلو ترك عليها لاستمر على لزومها لان هذا الدين مركوز في العقول السليمة حسنه وإنما يعدل عنه من يعدل لآفة من الآفات كتقليد الآباء قوله تعالى ﴿ لا تبديل لخلق الله ﴾ الظرف المستقر خبر الله والجملة الخبرية معناه النهي يعني لا تبدلوا دين الله قال مجاهد وإبراهيم النخعي إلزموا فطرة الله واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك وقيل فطرة الله منصوب على المصدرية لفعل دل عليه ما بعده يعني فطر الله الناس فطرة التي فطرهم عليها حكي عن عبد الله بن مبارك قال معنى الحديث " كل مولود يولد على الفطرة " أي على خلقته التي جبل عليها في علم الله من السعادة أو الشقاوة وكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر الله عليها وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها وعلى هذا معنى قوله تعالى :﴿ لا تبديل لخلق الله ﴾ يعني ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة لا يتبدل فلا يكون الشقي سعيدا ولا السعيد شقيا عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فوالذي لا إله إلا غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " متفق عليه وهن أبي الدرداء قال :" بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكر ما يكون إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعتم بجبل زال عن ماكنه فصدقوه وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوه فإنه يصير إلى ما جبل عليه " رواه أحمد والمعنى على هذا التأويل أن الله فطر كلا على فطرة لا يتبدل وقد فطرك ومن معك سعداء فأقم وجهك للدين كأنه تعليل وتشجيع على الإخلاص وجاز أن يكون فطرة الله على هذا التأويل منصوبا تقدير ملتزمين فطرة الله التي فطركم عليها فوضع الظاهر يعني لفظ الناس موضع الضمير إشعارا بان الناس كلهم مفطورون على فطرة غير تاركوها فأنتم أقيموا وجوهكم للدين قال عكرمة ومجاهد يعني لا تبدلوا خلق الله والمراد منه تحريم إخصاء البهائم ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى الدين المأمور بالإقامة على التأويل الأول ﴿ الدين القيم ﴾ المستقيم الذي لا إعوجاج فيه ﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ يعني كفار مكة ﴿ لا يعلمون ﴾ استقامة لعدم تدبرهم.
﴿ منيبين إليه ﴾ أي راجعين إليه من أناب إذا رجع مرة بعد أخرى وقيل معناه منقطعين إليه من غيره من الناب منصوب بفعل مقدر وهو كونوا بدليل عطف لا تكونوا عليه أو حال من الضمير في الزموا أو ملتزمين الناصب المقدر لفطرت الله أو في أقم لأن الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأمته صدرت بخطاب الرسول لتعظيمه كما في قوله تعالى ﴿ يأيها النبي إذا طلقتم النساء ﴾ يدل على قوله﴿ واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم ﴾
﴿ من الذين فرقوا دينهم ﴾ بدل من المشركين يعني تفرقوا واختلفوا فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم
قرأ حمزة والكسائي فارقوا يعني تركوا دينهم الذي أمروا به ﴿ وكانوا شيعا ﴾ فرقا تشايع كل إمامها الذي اخترع لهم دينا قيل المراد به أهل البدع من هذه الأمة حيث تركوا دين الحق وأتبعوا أهواءهم وأطلق عليهم لفظ المشركين لكونهم ممن اتخذ إليه هواه عن عبد الله بن عمر وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة قيل من هي يا رسول الله ؟ قال ما أنا عليه وأصحابي " رواه الترمذي ﴿ كل حزب ﴾ منهم ﴿ بما لديهم ﴾ من الاعتقاد ﴿ فرحون ﴾ مسرورون ظنا بأنهم على الحق روى الدارمي عن إبراهيم بن إسحاق عن ابن المبارك عن الأوزاعي قال قال إبليس لأوليائه من أي شيء تأتون بني آدم ؟ فقالوا من كل شيء فقال فهل تأتونهم من قبل الاستغفار ؟ فقالوا هيهات ذاك شيء قرن بالتوحيد قال لأبثن فيهم شيئا لا يستغفرون منه قال فبث فيهم الأهواء
﴿ وإذا مس الناس ﴾ يعني كفار مكة ﴿ ضر ﴾ قحط وشدة ﴿ دعوا ربهم منيبين إليه ﴾ راجعون إليه من دعاء غيره ﴿ ثم إذا أذاقهم منه رحمة ﴾ خلاصا من الشدة أو خصبا ورحمة ﴿ إذا فريق منهم بربهم يشركون ﴾ فاجاء فريق منهم بالإشراك بربهم الذي عافاهم ونسبوا معافاتهم إلى غيره عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال : قال أصبح من عبادي مؤمن وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب " متفق عليه وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما أنزل الله من السماء بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزل الله الغيث فيقول بكوكب كذا وكذا " رواه مسلم
﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾ اللام فيه للعاقبة وقيل للأمر بمعنى التهديد لقوله تعالى :﴿ فتمتعوا ﴾ غير أن فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ﴿ فسوف تعلمون ﴾ عاقبة تمتيعكم
﴿ أم أنزلنا عليهم سلطانا ﴾ أم منقطعة بمعنى بل والهمزة والاستفهام للإنكار عطف على ﴿ كل حزب بما لديهم فرحون ﴾ وجاز أن يكون متصلة معطوفة على مقدر تقديره أيشركون بلا حجة ﴿ أم أنزلنا عليهم سلطانا ﴾ قال ابن عباس يعني حجة وعذرا وقال قتادة كتابا وقيل ذو سلطان يعني ملكا معه برهان أو رسولا مؤيدا بالمعجزة ﴿ فهو يتكلم ﴾ نطقا أو دلالة كقوله تعالى :﴿ كتابنا ينطق عليكم بالحق ﴾ ﴿ بما كانوا به يشركون ﴾ أي بإشراكهم وصحته أو بالأمر الذي بسببه يشركون به وبألوهيته والاستفهام في أم أنزلنا للتقرير يعني حمل المخاطب على الإقرار بأنهم يشركون بلا حجة
﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة ﴾ نعمة من صحة وسعة ﴿ فرحوا ﴾ بطروا بها بسببها ﴿ وإن تصبهم سيئة ﴾ شدة ﴿ بما قدمت أيديهم ﴾ أي بشؤم معاصيهم ﴿ إذا هم يقنطون ﴾ فأجاءوا القنوط من رحمته وهذا خلاف وصف المؤمن فإنه يشكر عند النعمة ويرجو ربه عند الشدة ويصبر ويحتسب
﴿ أولم يروا ﴾ الاستفهام للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره ألم يتفكروا ولم يعلموا ﴿ إن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾ أي يضيق فمالهم بطروا في السراء ولم يشكروا وقنطوا في الضراء ولم يرجعوا إلى الله راجين مغفرته بالندم والتوبة وترك المعصية ولم يصبروا ولم يحتسبوا كالمؤمنين ﴿ إن في ذلك ﴾ القبض والبسط ﴿ لآيات لقوم يؤمنون ﴾ يستدلون بهما على كمال القدرة والحكمة
﴿ فآت ﴾ الفاء للسببية يعني إذا عرفت أن قبض الرزق والبسط من الله تعالى فآت :﴿ ذا القربى ﴾ مصدر بمعنى القرابة ﴿ حقه ﴾ من البر والصلة والنفقة الواجبة بقوله تعالى :﴿ وعلى الوارث مثل ذلك ﴾ وقد مر بحث نفقة المحارم في تفسير تلك الآية في سورة البقرة ﴿ والمسكين وابن السبيل ﴾ المسافر الذي ليس معه ماله وكان له مال في وطنه آتهم حقوقهم من مال الزكاة ابتغاء مرضات الله ورجاء من فضله في الدنيا والآخرة ﴿ ذلك ﴾ الإيتاء ﴿ خير ﴾من إيثار اللذات لأنفسهم ﴿ للدين يريدون وجه الله ﴾ أي ذاته أو جهته يعني يقصدون به رضاءه ويرجون ثوابه دون من يؤتى رياء وسمعة ﴿ وأولئك ﴾ عطف على الموصول أو على ذلك ﴿ هم المفلحون ﴾ دون غيرهم فإنهم إشتروا بالدنيا الفانية العقبى الباقية
﴿ وما آتيتم ﴾ بالمد عند الجمهور يعني ما أعطيتم أكلة الربا ﴿ من ربا ﴾ زيادة محرمة في المعاملة أو عطية مباحة من هدية أو هبة يتوقع بها مزيد مكافأة وعلى هذا التأويل سمى العطية بالربا باسم المطلوب وهو الزيادة وقرأ ابن كثير ما آتيتم في الموضعين مقصورا أي ما جئتم به من إعطاء زيادة محرمة أو عطية مباحة يتوقعون بها مزيد مكافأة ﴿ ليربوا ﴾ قرأ أهل المدينة ويعقوب بالتاء للخطاب مضمومة والباء مضمومة وإسكان الواو أي لتربوا أنتم وتصيرون ذا زيادة ﴿ في أموال الناس ﴾ أي أموال المعطين أو المعطى لهم وقرأ الباقون ليربوا بالياء التحتانية المفتوحة وفتح الواو أي ليزيدوا في أموالهم ﴿ فلا يربوا عند الله ﴾ فلا يزيدوا عنده ولا يبارك فيه قال البغوي اختلفوا في معنى الآية فقال سعيد بن جبير ومجاهد وطاووس وقتادة وأكثر المفسرين هو الرجل يعطي غيره العطية ليثبت أكثر منها وهذا جائز حلال ولكن لا يثاب عليه يوم القيامة وهو معنى قوله لا يربوا عند الله وكان هذا حراما على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى :﴿ ولا تمنن تستكثر٦ ﴾ وقال الضحاك هو الرجل يعطي قريبه أو صديقه لتكثير ماله ولا يريد وجه الله وقال الشعبي هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله التماس عونه لا لوجه الله فلا يربوا عند الله لأنه لا يريد به وجهه قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم :" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينحكها فهجرته إلى ما هاجر إليه " متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب ﴿ وما آتيتم من زكاة ﴾ أي ما أعطيتم من صدقتا أو فعلتم أداء الزكاة ﴿ تريدون ﴾ به ﴿ وجه الله ﴾ ذاته أو ثوابه ورضاءه ﴿ فأولئك ﴾ يعني الذين يؤتون الزكاة ﴿ هم المضعفون ﴾ أي الذين يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى ما لا نهاية له ويضاعف لهم أموالهم ببركة الزكاة أو المعنى هم ذووا الإضعاف من الثواب نظيره المقوى والموسر لدي القوة واليسار وتغييره عن سنن المقابلة وعبارة ونظما للمبالغة والالتفات فيه للتعظيم كأنه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريقا لحلهم أو للتعميم كأنه قال من فعل ذلك فأولئك هم المضعفون والراجع منه محذوف إن جعلت ما موصولة تقديره المضعفون به وقال الزجاج تقديره فأهلها هم المضعفون.
﴿ الله ﴾ مبتدأ وما بعده خبره ﴿ الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم ﴾ أي ممن أشركتموها بالله من الأصنام وغيرها والاستفهام للإنكار أي ليس شيء منها ﴿ من يفعل من ذالكم من شيء ﴾ ذكر الله سبحانه لوازم الألوهية وأثبتها لنفسه ونفاها عن غيره مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شريكا فقال ﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالتاء الفوقانية والباقون بالياء التحتا نية وجاز أن يكون الذي خلقكم صفة لله وهل من شركائكم خبره من الرابط من ذلكم لأنه بمعنى من أفعاله تقديره الله الذي خلقكم هل من شركائكم من يفعل شيئا من أفعاله من الأولى والثانية تفيد أن شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال مزيدة لتعميم النفي وكل منها مستقلة لتعجيز الشركاء
﴿ ظهر الفساد في البر والبحر ﴾ كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق والقتال والجدال ومحق البركات والظلم وكثرة المضار والأمراض والضلال والرياح المفسدة في البحار ومصادمة الدواب في البحار وقال البغوي أراد بالبر البوادي والمفاوز وبالبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة انه قال العرب يسمي المصر بحرا يقول أجدبت البر وانقطعت مادة البحر وقال عطية وغيره البر ظهر الأرض من الأمصار وغيرها والبحر هو البحر المعروف وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر فتخلوا جواف الأصداف لأن الصدف إذا جاع المطر ترتفع إلى وجه البحر وتفتح فاه فما يقع في فيه من المطر صار لؤلؤا وقال ابن عباس ومجاهد الفساد في البر قتل ابن آدم أخاه وفي البحر غصب الملك الجابر السفينة اخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال ﴿ ظهر الفساد في البر ﴾ بقتل قابيل أخاه وفي البحر بأن ملك عمان جلندي كان يأخذ كل سفينة غصبا وقال الضحاك كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان ماء البحر عذبا وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم قتل قابيل وهابيل أقشرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا أجاجا وقصد الحيوان بعضه بعضا ﴿ بما كسبت أيدي الناس ﴾ أي بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه يعني وقع القحط والجدب بمكة بشؤم معاصي أهلها حتى أكلوا العظام والجيف ليذيقهم قرأ قنبل بالنون على التكلم والباقون بالياء ﴿ بعض الذي عملوا ﴾ أي بعض جزائه فإن تمام الجزاء في الآخرة واللام للعلة أو العاقبة﴿ لعلهم يرجعون ﴾ أي لكي يرجعوا من أعمالهم الخبيثة متعلق بقوله ليذيقهم قال قتادة امتلأت الأرض ظلما وضلالة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث رجع راجعون من الناس.
﴿ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ﴾ أي من قبلكم لتروا منازل الذين ظلموا خاوية ﴿ كان أكثرهم مشركين ﴾ الجملة حال بتقدير قد أو استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لظهور الشرك وغلبته فيهم أو كان الشرك في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليلهم فأهلكوا جميعا بشؤم الجار السوء أو بتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جملة قل سيروا تأكيد من حيث المعنى ليذيقهم لدلالته على إذاقة العذاب.
﴿ فأقم وجهك ﴾ حذرا عما لحق بمن قبلك فالفاء للسببية ﴿ للدين القيم ﴾ البليغ في الاستقامة وهو دين الإسلام ﴿ من قبل أن يأتي يوم لا مرد له ﴾ أي لا يقدر أحد أن يرده ﴿ من الله ﴾ متعلق بياتي أو بمرد لأنه مصدر على معنى لا يرده الله لتعلق إرادته بمجيئه يمكن أن يكون المراد بذلك اليوم يوم يأتيهم العذاب في الدنيا والظاهر أن المراد به يوم القيامة ﴿ يومئذ يصدعون ﴾ أصله يتصدعون أي يتصرفون فريق في الجنة وفريق في السعير أو فريق يعذب في الدنيا وفريق لا يعذب كيوم بدر
﴿ من كفر فعليه كفره ﴾ أي وباله في الدنيا والآخرة ﴿ ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ﴾ أي يسوون منازل حسنة في القبور وفي الجنة
﴿ ليجزى ﴾ الله متعلق بيمهدون ﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ ظاهر موضع الضمير لبيان مناط جزائهم ﴿ من فضله ﴾ متعلق بيجزى قال ابن عباس ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم اقتصر على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات وأن الله إنما يريد الإثابة إلا من أبى وظلم على نفسه وأختار النار لأجل كفرهم كما يدل عليه قوله ﴿ إنه ﴾ أي الله ﴿ لا يحب الكافرين ﴾ فهم بكفرهم لم يستحقوا تفضله وقال الشيخ جلال الدين قوله ليجزي متعلق بيصدعون وقد ذكر جزاء الفريقين فإن قوله ﴿ إنه لا يحب الكافرين ﴾ معناه أنه يعاقبهم والله أعلم.
وقوله :﴿ من فضله ﴾ دال على أن الإثابة تفضل محض وتأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر قلت : ويؤيده ما أخرج أحمد في الزهد عن أبي الحارث قال أوحي الله تعالى إلى داود أنذر عبادي الصالحين فلا يعجبوا بأنفسهم ولا يتكلوا على أعمالهم فإنه ليس عبد من عبادي أنصبه للحساب وأقيم عليه عدلي إلا عذبته وأخرج أبو نعيم عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لأهل طاعتي من أمتك أن لا يتكلوا على أعمالهم فإني لا أناصب عبدا لحساب يوم القيامة أشاء أعذبه إلا عذبته وقل لأهل معصيته من أمتك لا يلقوا بأيديهم فإني أغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي " وأخرج الطبراني عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه يبعث الله يوم القيامة عبدا لا ذنب له فيقول الله تبارك وتعالى بأي الأمرين أحب إليك أن أجزي بعملك أو بنعمتي عليك قال أي رب أنت أعلم أني لم أعصك قال خذوا عبدي بنعمة من نعمتي فما يبقى له حسنة إلا استغرقتها تلك النعمة فيقول بنعمتك ورحمتك وأخرج البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم " يخرج لابن أدم يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من الله تعالى يقول الله تعالى لأصغر نعمة من ديوان النعم خذي منك من العمل الصالح فتستوعب العمل الصالح فيقول وعزتك ما استوعبت ويبقى الذنوب وقد ذهب العمل الصالح كله فإذا أراد الله تعالى ان يرحم عبدا قال يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت عن سيا تك ووهبت لك نعمتي " وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من قال لا إله إلا الله كان له بها عهدا عند الله ومن قال سبحان الله كتب له بها مائة ألف حسنة فقال رجل يا رسول الله كيف نهلك بعد هذا ؟ قال والذي نفسي بيده إن الرجل ليجيء يوم القيامة بعمل لو وضع على جبل لأثقله فتقوم نعمة من نعم الله تعالى فكان كله يستنفد ذلك كله يوما يتفضل الله به من رحمته " واخرج الشيخان عن عائشة وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرته ورحمته " وعند مسلم عن جابر نحوه وقد ورد هذا أيضا من حديث أبي سعيد أخرجه أحمد ومن حديث ابن أبي موسى وشريك بن طارق أخرجهما البزار ومن حديث شريك بن طريف وأسامة بن شريك وأسد بن كرز أخرجها الطبراني.
وهاهنا إشكالان أحدهما أنه لا يبقى حينئذ فائدة في الطاعة وترك المعصية فإن الله تعالى لو لم يتفضل عذب أهل الطاعة ولو تفضل غفر أهل المعصية وأدخل الجنة وثانيهما أنه معارض لقوله تعالى :﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون ﴾ فإنه يدل على أن دخول الجنة مسبب بالأعمال والجواب عن الأول أن الطاعة يقتضي محبة الله عبده حيث قال الله تعالى :﴿ إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ﴾ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله سبحانه :" ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " رواه البخاري عن أبي هريرة في حديث طويل والمحبة تقتضي التفضل والتفضل سبب لجلب كل خير ودفع كل ضرر وعن الثاني بأن للجنة منازل تنال فيها بالأعمال فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأما أصل دخولها والخلود فيها فبفضل الله ورحمته يؤيده ما أخرجه هناد في الزهد عن ابن مسعود قال تجوزون الصراط بعفو الله وتدخلون الجنة برحمة الله وتقسمون المنازل بأعمالكم وأخرج أبو نعيم عن عون بن عبد الله مثله والله أعلم.
﴿ ومن آياته ﴾ دلائل قدرته ﴿ أن يرسل الرياح ﴾ من الشمال إلى الجنوب وبالعكس ومن المشرق إلى المغرب وبالعكس على حسب إرادته من غير محرك كما يشهد به الحس قرأ حمزة والكسائي الريح على إرادة الجنس ﴿ مبشرات ﴾ بالمطر حال من الرياح ﴿ وليذيقكم ﴾ المذوقات من الحبوب والثمار وغيرها معطوف على معنى مبشرات كأنه قال ليبشركم وليذيقكم أو على محذوف تقديره يرسل الرياح ليذهب عنكم الحر والسموم وليذيقكم ﴿ من رحمته ﴾ من للإبتداء ﴿ ولتجري الفلك ﴾ بالرياح ﴿ بأمره ولتبتغوا ﴾ الأرباح بالتجارة في البحر ﴿ من فضله ولعلكم تشكرون ﴾ أي ولتشكروا نعم الله فيها فتجلبوا ثمراته في الدنيا والآخرة جملة من آياته متصل بقوله :﴿ الله الذي خلقكم ﴾ الآية.
﴿ ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات ﴾ بالدلالات الواضحات على صدقهم فآمن بهم قوم وكفر بهم آخرون يدل عليه قوله ﴿ فانتقمنا من الذين أجرموا ﴾ أي عذبنا الذين كفروا بهم ﴿ وكأن حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ معطوف على جملة محذوفة تقديره ونصرنا الذين آمنوا وكان حقا علينا نصر المؤمنين وفيه إشعار بأن الانتقام من الكفار كان لأجل نصر المؤمنين وإظهار كرامتهم فإن قيل هذه الآية تدل على وجوب نصر المؤمنين تفضلا فيلزم منه أن لا يغلب الكفار عليهم قط وقد يرى خلاف ذلك ؟ قلنا : اللام والإضافة في نصر المؤمنين للعهد والمراد أن المؤمنين الذين جاهدوا الكفار خالصا لإعلاء كلمة الله والموعود من الله أن ينصرهم ولو بعد حين وعن أبي الدر داء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله. . . . . أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا هذه الآية " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " أخرجه الترمذي وحسنه وأخرجه إسحاق بن راهويه والطبراني وغيرهما من حديث أسماء بنت يزيد وقد يوقف على حقا على انه متعلق بالإنتقام
﴿ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه ﴾ متصلا تارة ﴿ في السماء ﴾ أي في سمتها كقوله تعالى ﴿ وفرعها في السماء ﴾ ﴿ كيف يشاء ﴾ حال من مفعول يبسط أي سائرا أو واقعا مطبقا أو غير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك ﴿ ويجعله كسفا ﴾ قطعا تارة أخرى قرأ ابن عامر بسكون السين على أنه مخففا أو جمع كسفة أو مصدر وصف به ﴿ فترى الودق ﴾ المطر﴿ يخرج من خلاله ﴾ في التارتين ﴿ فإذا أصاب به من يشاء من عباده ﴾ يعني بلدهم ﴿ إذا هم يستبشرون ﴾ يفرحون بمجيء الخصب
﴿ وإن كانوا ﴾ مخففة من الثقيلة يعني وأنهم كانوا ﴿ من قبل أن ينزل عليهم ﴾ المطر خفف المكي والبصري ينزل ﴿ من قبله ﴾ تكرير للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم ليس في قراءة ابن مسعود كلمة من قبله لمبلسين اللام فارقة وقيل إن نافية واللام بمعنى إلا والمعنى وما كانوا من قبله إلا آيسين
﴿ فانظر إلى آثار رحمت الله ﴾ يعني آثار الغيث من النبات والأشجار والحبوب والثمار ولذلك جمعه ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي وقرأ الجمهور أثر رحمت الله مفردا أي على إرادة الجنس ﴿ كيف يحيي الأرض ﴾ بالإنبات ﴿ بعد موتها ﴾ أي يبسها ﴿ إن ذلك ﴾ الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها ﴿ لمحيي الموتى ﴾ يحييهم بعدما يميتهم فما وجه إنكاركم أيها الكفار وبعدما تشاهدون ما يماثله ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ أن نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على السواء
﴿ ولئن أرسلنا ريحا ﴾ موجبا ليبس الأرض ﴿ فرأوه ﴾ أي رأوا الأثر أو الزرع فإنه مدلول عليه بما تقدم ﴿ مصفرا ﴾ واللام جواب قسم مقدر ﴿ لظلوا من بعده يكفرون ﴾ بنعمة الله جواب للقسم سد مسد الجزاء مبنية حال الكفار لقلة تثبتهم وعدم تدبرهم وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم والنظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله ويلتجؤوا إليه بالاستغفار إذا احتبس المطر عنهم ولا ييئسوا من حرمة الله وأن يبادروا إلى الشكر والاستدامة بالطاعة إذا أصابهم برحمته ويفرطوا في الاستبشار وأن يصبروا على بلائه إذا ضرب بزرعهم أفة ولا يكفروا نعمه
﴿ فإنك لا تسمع الموتى ﴾ وهم مثلهم لسدهم عن الحق مشاعرهم ﴿ ولا تسمع الصم ﴾ قرأ ابن كثير لا يسمع بالياء على الغيب على البناء للفاعل من المجرد ورفع الصم والجمهور على صيغة الخطاب من الأفعال ونصب ﴿ الدعاء إذا ولوا مدبرين ﴾ قيد الحكم به ليكون أشد استحالة فإن الأصم المقبل وإن لم يسمع الكلام يفطن منه بواسطة الحركات شيئا
﴿ وما أنت بهاد العمى ﴾ أي الكفار قرأ حمزة تهدي بصيغة المضارع سماهم عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الأبصار أو لعمى قلوبهم ﴿ عن ضلالتهم إن تسمع ﴾ سماع إفهام وقبول ﴿ إلا من يؤمن بآياتنا ﴾ فإن إيمانهم يدعوهم إلى تلقي اللفظ وتدبر المعنى ويجوز أن يراد بالمؤمن المشارف للإيمان أو من قدر الله له الإيمان ﴿ فهم مسلمون ﴾ لما تأمرهم به.
﴿ الله الذي خلقكم من ضعف ﴾ أي إبتداؤكم ضعف أي ضعف الطفولية أو جعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى :﴿ خلق الإنسان من عجل ﴾ أو المعنى خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة أي ذي ضعيف كقوله تعالى :﴿ ألم نخلقكم من ماء مهين٢٠ ﴾ ﴿ ثم جعل من بعد ضعف ﴾ أي ضعف الطفولية ﴿ قوة ﴾ أي شبابا ﴿ ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة ﴾ قرأ أبو بكر وحمزة من ضعف في المواضع الثلاثة بفتح الضاد وكذلك روى حفص عن عاصم فيهن غير أنه ترك ذلك وأختا رالضم إتباعا منه لرواية حدثه بها الفضل بن مرزوق عن عطية العوفي عن عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أقرأ ذلك بالضم ورد عليه الفتح كذا أخرج أبو داود والترمذي عن ابن عمر وهذه الرواية ضعيفة كذا قال الداني وما رواه حفص عن عاصم عن أئمته أصح الباقون بضم الضاد فيهن كذا قال الداني وقال البغوي في التفسير قرأ حفص بضم الضاد وفتحها والآخرون بفتحها وهما لغتان فالضمة لغة قريش والفتح لغة تميم وفي القاموس الضعف بالفتح في الرأي وبالضم في البدن ﴿ يخلق ما يشاء ﴾ من الضعف والقوة والشباب والشيب ﴿ وهو العليم ﴾ بتدبير خلقه ﴿ القدير ﴾ على كل ما يشاء.
﴿ ويوم تقوم الساعة ﴾ أي القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها يقع بغتة وصارت علما لها بالغلبة كالكواكب للزهرة ﴿ يقسم المجرمون ﴾ يحلف المشركون ﴿ ما لبثوا ﴾ في الدنيا والقبور بدليل قوله تعالى :﴿ لقد لبثتم إلى يوم البعث ﴾ ﴿ غير ساعة ﴾ من الزمان إستقلوا مدة لبثهم إضافة إلى مدة عذابهم في الآخرة أو نسيانا أو لأن ما مضى صار كأن لم يكن قال الله تعالى :﴿ كذلك ﴾ أي مثل ذلك الصرف عن الصدق والتحقيق ﴿ كانوا ﴾ في الدنيا ﴿ يؤفكون ﴾ يصرفون عن الحق حيث كانوا يشركون بالله ويقولون أن لا بعث
﴿ وقال ﴾ عطف على يقسم المجرمون ﴿ الذين أوتوا العلم والإيمان ﴾ أي الملائكة والأنبياء والمؤمنون ردا لقولهم ﴿ لقد لبثتم ﴾ زمانا كتب الله لكم لبثه ﴿ في كتاب الله ﴾ أو زمانا كائنا في كتاب الله أي مكتوبا فيه مدة لبثكم أو لبثتم لبثا كائنا في كتاب الله أي اللوح المحفوظ أو صحف الملائكة الموكلين بالأرحام حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله " الحديث أو القرآن وهو قوله تعالى :﴿ ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ﴾ ﴿ إلى يوم البعث ﴾ متعلق بقوله لبثتم ﴿ فهذا يوم البعث ﴾ الذي كنتم تنكرونه في الدنيا جملة معترضة أو جواب شرط محذوف تقديره إن كنتم تنكرون البعث فهذا يوما لبعث أي فأنتم مبطلون وقد تبين بطلان إنكاركم ﴿ ولكنكم كنتم لا تعلمون ﴾ أنه حق لتفريطكم في النظر
﴿ فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ﴾ قرأ الكوفيون لا ينفع بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية لتأنيث الفاعل لكنه غير حقيقي ومفصول ﴿ ولا هم يستعتبون ﴾ أي لا يطلب منهم العتبى أي الرضاء كذا في القاموس يعني لا يطلب منهم موجبات رضاء الله منهم من التوبة والطاعة كما طلب منهم في الدنيا من قولهم استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته أو المعنى لا يطلب رضاؤهم بالله كما يطلب من المؤمنين رضاؤهم عن أبي سعيد الخذري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله يقول لأهل الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من الخلق فيقول أما أعطيكم أفضل من ذلك ؟ قالوا وما أفضل من ذلك ؟ فيقول أحل لكم رضواني فلا أسخط بعده " متفق عليه وقال الله تعالى :﴿ ولسوف يرضى٢١ ﴾.
﴿ ولقد ضربنا ﴾ أي بينا ﴿ للناس في هذا القرآن من كل مثل ﴾ أي أنواع الحكايات التي هي في الغرابة كالأمثال مثل صفة المبعوثين من الكفار يوم القيامة وما يقولون وما يقال لهم وما لا يكون لهم من الإنتفاع بالمعذرة وعدم استغنائهم أو بينا لهم من كل مثل ينبههم على التوحيد والبعث وصدق الرسول ﴿ ولئن جئتهم ﴾ جواب قسم محذوف ﴿ بآية ﴾ من آيات القرآن لو معجزة كعصا موسى ﴿ ليقولن الذين كفروا ﴾ من فرط غباوتهم وقساوة قلوبهم ﴿ إن أنتم ﴾ يعنون الرسول والمؤمنين ﴿ إلا مبطلون ﴾ أي قائلون بالأباطيل
﴿ كذلك ﴾ أي طبعا مثل ذلك الطبع الذي طبعنا على قلوب كفار مكة الذين قالوا إن أنتم إلا مبطلون ﴿ يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ﴾ توحيد الله أو لا يطلبون العلم ويصرون على خرافات اعتقدوها فإن الجهل المركب يمنع عن إدراك الحق ويوجب تكذيب للحق.
﴿ فأصبر ﴾ على أذاهم ﴿ إن وعد الله ﴾ بنصرتك وإظهار دينك على سائر الأديان ﴿ حق ولا يستخفنك ﴾ أي لا يجملنك على الخفة والقلق أو لا يحملنك على الجهل وأتباعهم في الغي ﴿ الذين لا يوقنون ﴾ بتكذيبهم وإيذائهم-