تفسير سورة الرّوم

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الروم من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٣٠ – سورة الروم
قال المهايمي : سميت بها لاشتمالها على معجزة تفيد للمؤمنين فرحا عظيما، بعد ترح يسير. فتبطل شماتة أعدائهم. وتدل على أن عاقبة الأمر لهم. وهذا من أعظم مقاصد القرآن.
وهي مكية. وآيها ستون آية.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦)
الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على أن ملك فارس كان غزا بلاد الشام وفتح دمشق وبيت المقدس، الأولى سنة ٦١٣، والثانية سنة ٦١٤. أي قبل الهجرة النبوية بسبع سنين- فحدث أن بلغ الخبر مكة. ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين، وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب. ونحن وفارس وثنيون. وقد ظهر إخواننا على إخوانكم. ولنظهرنّ عليكم. فنزلت الآية، فتليت على المشركين.
فأحال وقوع ذلك بعضهم. وتراهن مع الصديق رضي الله عنه على مائة قلوص، إن وقع مصداقها. فلم يمض من البضع- وهو ما بين الثلاث إلى التسع- سبع سنين إلا وقد نظم هرقل جنود الروم وغزا بهم بلاد فارس سنة ٦٢١. أي قبل الهجرة بسنة.
فدوّخها، واضطر ملكها للهرب. وعاد هرقل بالغنائم الوافرة. ولا ريب أن ذلك أعظم معجزات القرآن. أعني إخباره عن غيب وقع مصداقه، واستبان للجاحدين من نوره إشراقه. وفي ضمنه، أن سائر غيوبه كذلك من ظهور الإسلام على الدين كله، وزهوق الباطل، وعلوّ الحق، وجعل المستضعفين أئمة، وإيراثهم أرض عدوّهم، إلى غير ذلك. وما ألطف ما قال الزبير الكلائيّ: رأيت غلبة فارس الروم. ثم رأيت غلبة الروم فارس. ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم. كل ذلك في خمس عشرة سنة- من أواخر غلبة فارس إلى أوائل غلبة المسلمين- والأرض (كما قال الزمخشريّ) أرض العرب. لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب أي أقربها منهم، وهي أطراف الشام لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل غلبة فارس
على الروم وَمِنْ بَعْدُ أي من بعد غلبة الروم على فارس. ويقال: لله العلم والقدرة والمشيئة من قبل إبداء الخلق، ومن بعد إفناء الخلق. والمعنى: أن كلا من كونهم مغلوبين أولا، وغالبين آخرا، ليس إلا بأمره وقضائه، وعلمه ومشيئته. كما قال تعالى وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: ١٤٠]، وَيَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يغلب الروم على فارس، ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أي تغليبه من له كتاب، على من لا كتاب له. وغيظ من شمت بهم من كفار مكة.
ويقال: نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ أي من عباده على عدوّه وَهُوَ الْعَزِيزُ أي القاهر الغالب على أمره، لا يعجزه من شاء نصره الرَّحِيمُ أي من نصره وتغليبه من يشاء وَعْدَ اللَّهِ، لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي بحكمته تعالى، في كونه وأفعاله المحكمة، الجارية على وفق العدل، لجهلهم وعدم تفكرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٧ الى ٨]
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨)
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهو ما يوافق شهواتهم وأهواءهم وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ أي التي هي المطلب الأعلى هُمْ غافِلُونَ أي لا يخطرونها ببالهم. فهم جاهلون بها تاركون لعملها.
لطائف:
قال الزمخشريّ: قوله تعالى يَعْلَمُونَ بدل من قوله (لا يعلمون) وفي هذا الإبدال من النكتة، أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا.
وقوله ظاهِراً يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا. فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها. وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة. انتهى.
وناقش الكرخيّ في إبدال يَعْلَمُونَ قال: إن الصناعة لا تساعد عليه. لأن بدل فعل مثبت، من فعل منفيّ لا يصح. واستظهر قول الحرفيّ أن يَعْلَمُونَ استئناف في المعنى.
وأشار الناصر إلى جوابه بأن في تنكير ظاهِراً تقليلا لمعلومهم. وتقليله يقربه من النفي. فيطابق المبدل منه.
أقول: التقليل هو الوحدة المشار لها بقول الزمخشريّ (وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا، من جملة الظواهر).
أما قول أبي السعود: وتنكير ظاهِراً للتحقير والتخسيس دون الوحدة كما توهم، فغفلة عن مشاركتها للتعليل الذي به يطابق البدل المبدل منه. فافهم.
ثم أنكر عليهم قصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا، مع الغفلة عن الآخرة بقوله أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي يحدثوا التفكر في أنفسهم، الفارغة من الفكر والتفكر. فالمجرور ظرف للتفكر، ذكره لزيادة التصوير. إذ الفكر لا يكون إلا في النفس. والتفكر لا متعلق له، لتنزيله منزلة اللازم. وجوز كون المجرور مفعول (يتفكروا) لأنه يتعدى ب (في) أي: أو لم يتفكروا في أمر أنفسهم. فالمعنى حثهم على النظر في ذواتهم وما اشتملت عليه من بديع الصنع، وقوله تعالى: ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بقول أو علم، يدل عليه السياق. أي:
ألم يتفكروا فيقولوا أو فيعلموا. وقال السمين: (ما) نافية. وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما- أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها. والثاني- أنها معلقة للتفكر. فيكون في محل نصب على إسقاط الخافض. انتهى. والباء في قوله بِالْحَقِّ للملابسة. أي ما خلقها باطلا ولا عبثا بغير حكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة. وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحق وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي وبتقدير أجل مسمى، لا بدّ لها من أن تنتهي إليه. وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب. ولذا عطف عليه قوله: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٩ الى ١٢]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ
قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ
أي قلبوها للزراعة واستخراج المعادن وغيرهما، مما كانوا أرقى فيه من أهل مكة وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي بالأبنية المشيدة.
والصناعات الفريدة، ووفرة العدد والعدد، وتنظيم الجيوش والتزيّن بزخارف أعجبوا بها، واستطالوا بأبهتها. ففسدت ملكاتهم، وطغت شهواتهم، حتى اقتضت حكمته تعالى إنذارهم بأنبيائهم، كما قال: وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي الآيات الواضحات على حقيقة ما يدعونهم إليه فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي فكذبوهم فأهلكهم. فما كان الله ليهلكهم من غير جرم منهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا أي عملوا السيئات السُّواى أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة، وهي جهنم. والسُّواى تأنيث (الأسوأ)، وهو الأقبح. كما أن (الحسنى) تأنيث (الأحسن) ثم علل سوء عاقبتهم بقوله تعالى أَنْ أي لأن كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشئهم ثُمَّ يُعِيدُهُ أي بعد الموت بالبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي إلى موقف الحساب والجزاء وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ أي يسكتون متحيرين يائسين. يقال (أبلس) إذا سكت وانقطعت حجته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٣ الى ١٨]
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧)
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ أي يجيرونهم من عذاب الله كما كانوا يزعمون وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أي بإلهيتهم وشركتهم لله تعالى، حيث وقفوا على كنه أمرهم وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي يتميز المؤمنون والكافرون في المحالّ والأحوال فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أي يسرّون وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ لما ذكر الوعد والوعيد، تأثره بما هو
وسيلة للفوز والنجاة، من تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والثناء عليه بصفاته الجميلة، وأداء حق العبودية، و (الفاء) للتفريع فكأنه قيل: إذا صحّ واتضح عاقبة المطيعين والعاصين، فقولوا: نسبح سبحان إلخ. والمعنى فسبحوه تسبيحا دائما. (وسبحان) خبر في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى وحمده. أي الثناء عليه في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته، وتتجدد فيها نعمته. وقوله تعالى وَعَشِيًّا معطوف على حِينَ وتقديمه على حِينَ تُظْهِرُونَ لمراعاة الفواصل. وقوله وَلَهُ الْحَمْدُ معترض بينهما. والمراد بثبوت حمده فيهما، استحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهلهما. قال أبو السعود: والإخبار بثبوت الحمد له ووجوبه على المميزين من أهل السموات والأرض، في معنى الأمر به على أبلغ وجه وآكده. وتوسيطه بين أوقات التسبيح، للاعتناء بشأنه، والإشعار بأن حقهما أن يجمع بينهما. كما ينبئ عنه قوله تعالى وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة: ٣٠]، وقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر: ٩٨]، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية جامعة للصلوات الخمس: (تمسون) صلاة المغرب والعشاء. و (تصبحون) صلاة الفجر. و (عشيا) صلاة العصر و (تظهرون) صلاة الظهر. فإن قيل: لم غيّر الأسلوب في (عشيا) ؟
أجيب (كما قال أبو السعود) بأن تغير الأسلوب لما أنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشيّ. كالمساء والصباح والظهيرة. ولعل السرّ في ذلك أنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس، وتتغير تغيرا ظاهرا مصححا لوصفهم بالخروج عما قبلها، والدخول فيها، كالأوقات المذكورة. فإن كلا منها وقت تتغير فيه الأحوال تغيرا ظاهرا. أما في المساء والصباح فظاهر. وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعتاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة. كما مرّ في سورة النور. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٩ الى ٢١]
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي كالإنسان من النطفة، والطائر من البيضة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كالنطفة والبيضة من الحيوان وَيُحْيِ الْأَرْضَ أي بالنبات
بَعْدَ مَوْتِها أي يبسها وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك الإخراج تُخْرَجُونَ أي من قبوركم.
وقال المهايميّ: أي: بالصلاة عن موت القلب إلى حياته، ومن حياة النفس إلى موتها. ويحيي أرضها بنبات الهيئات الفاضلة، بعد موتها بالهيئات الرديئة. وبالعكس بتركها. وآثر هذا المعنى، على بعده، مراعاة لسياق الآية، من طريق الإشارة وَمِنْ آياتِهِ أي الباهرة الدالة على قدرته على البعث أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي يعني أصلكم آدم عليه السلام. أو النطفة والمادة. أو على تقدير مضاف. أي ولا مناسبة بين التراب وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي في الأرض انتشارا ملأ البسيطة وشمل الكرة. فأخذتم في بناء المدائن والحصون، والسفر في أقطار الأقاليم، وركوب متن البحار، والدوران حول كرة الأرض، وكسب الأموال وجمعها، مع فكرة ودهاء، ومكر وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة. كل بحسبه. فسبحان من خلقهم وسيّرهم، وصرّفهم في فنون المعايش وفاوت بينهم في العلوم والمعارف، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي جنسكم أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي تأنسوا بها. فإن المجانسة من دواعي التضامّ والتعارف وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أي توادّا وتراحما بعصمة الزواج، بعد أن لم يكن لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي في بدائع هذه الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٢ الى ٢٥]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ أي أولي العلم كما قال: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣]،
9
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي لاستراحة القوى وردّ ما فقدته وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي بالسعي في الأسباب، والأخذ في فضل الاكتساب إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي سماع تفهم واستبصار وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً أي من الصاعقة وَطَمَعاً أي في الغيث والرحمة. أو لتخافوا من قهر سلطانه، وتطمعوا في عظيم إحسانه وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ أي بالنبات بَعْدَ مَوْتِها أي يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أي إرادته لقيامهما. قال أبو السعود: والتعبير عنها بالأمر، للدلالة على كمال القدرة، والغنى عن المبادئ والأسباب. وليس المراد بإقامتهما إنشاؤهما. لأنه قد بيّن حاله بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الروم: ٢٢]، ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس، كما قيل. فإن ذلك من تتمات إنشائهما، وإن لم يصرح به. تعويلا على ما ذكر في غير موضع من قوله تعالى خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [لقمان: ١٠] الآية. بل قيامهما واستمرارهما على ما هما عليه، إلى أجلهما الذي نطق به قوله تعالى فيما قبل ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الروم: ٨]، وحيث كانت هذه الآية متأخرة عن سائر الآيات المعدودة، متصلة بالبعث في الوجود، أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضا، فقيل: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ فإنه كلام مسوق للإخبار بوقوع البعث ووجوده، بعد انقضاء أجل قيامهما، مترتب على تعداد آياته الدالة عليه، غير منتظم في سلكها كما قيل. كأنه قيل: ومن آياته قيام السموات والأرض على هيآتهما بأمره تعالى، إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما. ثم إذا دعاكم. أي بعد انقضاء الأجل من الأرض وأنتم في قبوركم، دعوة واحدة، بأن قال:
أيها الموتى! اخرجوا، فاجأتم الخروج منها، وذلك قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ [طه: ١٠٨]، انتهى.
لطائف:
الأولى- الدعاء. إما على حقيقته، أو الكلام تمثيل. شبّه سرعة ترقب حصول ذلك، على تعلق إرادته بلا توقف، واحتياج إلى تجشم عمل، بسرعة ترقب إجابة الداعي المطاع على دعائه. أو هو مكنية وتخييلية، بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم يتهيؤون لذلك، وإثبات الدعوة لهم قرينتها.
الثانية- قوله تعالى مِنَ الْأَرْضِ متعلق ب (دعا) كقوله: دعوته من أسفل
10
الوادي فطلع إليّ، لا ب (تخرجون) لأن ما بعد (إذا) لا يعمل فيما قبله.
الثالثة- قال الكرخيّ: قال هنا إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وقال في خلق الإنسان ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: ٢٠]، لأنه هناك يكون خلق وتقدير وتدريج، حتى يصير التراب قابلا للحياة، فنفخ فيه الروح، فإذا هو بشر. وأما في الإعادة فلا يكون تدريج بل يكون بدء وخروج. فلم يقل هنا: (ثم). انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خلقا وملكا وتصرفا كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي منقادون لتصرفه، لا يتأبون عليه وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي بعد موتهم.
قال أبو السعود: وتكريره لزيادة التقرير، والتمهيد لما بعده من قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي من البدء. أي بالقياس إلى من يقتضيه معقول المخاطبين. لأن من أعاد منهم صنعة شيء، كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها. وإلا فهما عليه سبحانه سواء في السهولة.
لطائف:
الأولى- تذكير الضمير، مع رجوعه إلى الإعادة، لما أنها مؤولة ب (أن يعيد).
الثانية- قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وقدمت في قوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم: ٩ و ١٢] ؟ قلت: هناك قصد الاختصاص، وهو محزّه. فقيل هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم: ٩ و ٢١]، وإن كان مستصعبا عند كم أن يولد بين همّ وعاقر. وأما هاهنا، فلا معنى للاختصاص كيف؟ والأمر مبنيّ على ما يعقلون، من أن الإعادة أسهل من الابتداء. فلو قدمت الصلة، لتغيّر المعنى.
قال الناصر: كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر، لا بالحبر. وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر.
الثالثة- قال الزمخشريّ: فإن قلت ما بال الإعادة استعظمت في قوله: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ [الروم: ٢٥]، حتى كأنها فضلت على قيام السموات والأرض بأمره، ثم
11
هونت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة. لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء. انتهى.
قال الناصر: إنما يلقي في السؤال تعظيم الإعادة من عطفها ب (ثم) إيذانا بتغاير مرتبتها وعلوّ شأنها. وقوله (في الجواب) : إنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء، لا يخلص. فن الإعادة ذكرت هاهنا عقيب قيام السموات والأرض بأمره. وقيامهما ابتداء وإنشاء أعظم من الإعادة. فيلزم تعظيم الإعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه من الإنشاء.
ويعود الإشكال. والمخلص، والله أعلم، جعل (ثم) على بابها لتراخي الزمان لا لتراخي المراتب. وإن سلم أنها لتراخي المراتب، فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا، ومرتبة المعطوف هي الدنيا. وذلك نادر في مجيئها لتراخي المراتب.
فإن المعطوف حينئذ في أكثر المواضع، أرفع درجة من المعطوف عليه، والله أعلم.
انتهى.
وفي حواشي القاضي: إن (ثم) إما لتراخي زمان المعطوف فتكون على حقيقتها. أو لعظم ما في المعطوف من إحياء الموتى، فتكون للتفاوت في الرتبة لا للتراخي الزمانيّ. والمراد عظمه في نفسه وبالنسبة إلى المعطوف عليه. فلا ينافي قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وكونه أعظم من قيام السماء والأرض، لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء، وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات. وهو المقصود من خلق الأرض والسموات. فاندفع اعتراض الناصر بأنه، على تسليمه، مرتبة المعطوف عليه هنا هي العليا، مع أن كون المعطوف في مثله أرفع درجة، أكثريّ لا كلّي. كما صرح به الطيبيّ هنا. فلا امتناع فيما منعه. وهي فائدة نفيسة.
ويجوز حمله على مطلق البعد الشامل للزمانيّ والرتبيّ كما في (شرح الكشاف) وقوله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فيهما. كالقدرة العامة والحكمة التامة. وذلك لأنّه لما جعل ما ذكر أهون عليه على طريق التمثيل، عقبه بهذا. فكأنه قيل هذا، لتفهم العقول القاصرة أن صفاته عجيبة وقدرته عامة وحكمته تامة. فكل شيء بدءا وإعادة وإيجادا وإعداما، عنده على حد سواء، ولا مثل له ولا ند. وقال الزجاج: المراد بالمثل قوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ فاللام فيه للعهد. فحمل المثل على ظاهره. وعلى ما ذكر أولا، هو مجاز عن الوصف العجيب. فيشمل القول وغيره مما هو جار على ألسنة الدلائل ولسان كل قائل. وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب على أمره، الذي لا يعجزه بدء ممكن وإعادته الْحَكِيمُ الذي يجري أفعاله على سنن الحكمة والمصلحة.
12
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا أي يتبيّن به بطلان الشرك مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي منتزعا من أحوالها. وهي أقرب الأمور إليكم وأظهر كشفا هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من العبيد والإماء مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ أي من الأموال وغيرها فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أي متساوون في التصرف فيما ذكر من غير مزية تَخافُونَهُمْ أي تهابون أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم. وهو خبر آخر ل (أنتم) كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما يخاف بعضكم بعضا من الأحرار المساهمين لكم فيما ذكر. والمعنى نفي مضمون ما فصّل من الجملة الاستفهامية. أي: لا ترضون بأن يشارككم فيما هو معار لكم مماليككم، وهم أمثالكم في البشرية، غير مخلوقين لكم، بل لله تعالى.
فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية، التي هي من خصائصه الذاتية، مخلوقه بل مصنوع مخلوقه، حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه؟ أفاده أبو السعود كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل ذلك التفصيل الواضح، توضح الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي يقين وبرهان فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي سبب صرف اختياره إلى كسبه. أي: لا يقدر على هدايته أحد وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي ينصرونهم من الله، إذا أراد بهم عذابا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي فقوّمه له، واجعله مستقيما متوجها له. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية، بتشبيه المأمور بالتمسك بالدين ورعاية حقوقه وعدم مجاوزة حدوده والاهتمام بأموره، بمن أمر بالنظر إلى أمر، وعقد طرفه به، وتسديد
نظره وتوجيه وجهه له، لمراعاته والاهتمام بحفظه حَنِيفاً أي مائلا عن كل ما سواه، إليه. قال المهايميّ: ولا يعسر الرجوع إليه لكونه فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها أي لأن عقل كل واحد يدل على أنه حادث يفتقر إلى محدث. ولا دلالة على الافتقار إلى متعدد أبدا. فالقول بتعدده تغيير للفطرة. لكن لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا تغيير لأمر العقل الذي خلقه الله للاستدلال ذلِكَ أي الدين المأمور بإقامة الوجه له، أو الفطرة الدِّينُ الْقَيِّمُ أي المستقيم الذي لا عوج فيه. قال المهايميّ:
وإن لم يقم عند المبدلين دليل على استحالة التعدد، فهذا هو مقتضى الفطرة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي أنه مقتضى الفطرة. وهي أقطع قاطع وأحسم حاسم لشغب المشاغب. لأنها من الأمور التي لا تدخل تحت الكسب والاختيار. وقوله تعالى مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي راجعين إليه بالتوبة والإنابة وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: ١٣٥]، وهو حال من فاعل (الزموا) المقدّر ناصبا ل (فطرة) أو من فاعل (أقم) على المعنى. إذ لم يرد به واحد بعينه. أو لأن الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم ولأمته. أو على أنه على حذف المعطوف عليه. أي: أقم أنت وأمتك. والحال من الجميع وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أي جعلوه أديانا مختلفة، لاختلاف أهوائهم وَكانُوا شِيَعاً أي فرقا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي كل حزب منهم فرح بمذهبه، مسرور، يحسب باطله حقا.
قال القاشانيّ: يعني المفارقين الدين الحقيقيّ، المتفرقين شيعا مختلفة، كل حزب عند تكدّر الفطرة، وتكاثف الحجاب، يفرح بما يقتضيه استعداده من الحجاب، لكونه مقتضى طبيعة حجابه. فيناسب حاله من الاستعداد العارضي، وإن لم يلائم الحقيقة بحسب الاستعداد. ولهذا يجب به التعذيب عند زوال العارض.
ثم احتج عليهم برجوعهم إليه عند الشدائد، مما يحمل أن يرجع إليه بعبادته دائما، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦)
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أي شدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي راجعين إليه وحده دون شركائهم ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً أي خلاصا من تلك الشدة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي بالسبب الذي آتيناهم الرحمة من أجله، وهو الإنابة. واللام للعاقبة. وقيل: للأمر التهديدي كقوله تعالى فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي عاقبة تمتعكم ووباله أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أي حجة واضحة قاهرة فَهُوَ يَتَكَلَّمُ أي تكلم دلالة. كما في قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: ٢٩]، بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي بإشراكهم. وهذا استفهام إنكار. أي: لم يكن شيء من ذلك وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي نعمة من صحة وسعة فَرِحُوا بِها أي بطرا وفخرا، لا حمدا وشكرا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي شدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من المعاصي والآثام إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ أي ييأسون من روح الله.
قال: هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلّا من عصمه الله تعالى ووفقه. فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر وقال ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: ١٠]، أي يفرح في نفسه، يفخر على غيره. وإذا أصابته شدة قنط وأيس أن يحصل بعد ذلك خير بالكلية قال الله تعالى إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [هود: ١١]، أي: صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء. كما ثبت في الصحيح «١» : عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له. إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : آية ٣٧]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال الزمخشريّ: أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه هو الباسط القابض. فما لهم يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها، حتى يعيد إليهم رحمته؟
ولما بيّن تعالى أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك، بقوله:
(١) أخرجه مسلم في: الزهد والرقائق، حديث رقم ٦٤. [.....]
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي من البر والصلة. واستدل به أبو حنيفة رحمه الله على وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. لأن (آت) أمر للوجوب. والظاهر من (الحق) بقرينة ما قبله أنه ماليّ، وهو استدلال متين وَالْمِسْكِينَ وهو الذي لا شيء له ينفق عليه. أو له شيء لا يقوم بكفايته وَابْنَ السَّبِيلِ أي السائل فيه، والذي انقطع به. وحقهما هو نصيبهما من الصدقة والمواساة ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي النظر إليه يوم القيامة. وهو الغاية القصوى. أو يريدون ذاته بمعروفهم لا رياء ولا سمعة، ولا مكافأة يد. كما قال تعالى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى [الليل: ١٨- ٢٠]، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي في الدنيا والآخرة وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً أي مال ترابون فيه لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي ليزيد في أموالهم، إذ تأخذون فيه أكثر منه فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي لا يزكو ولا ينمو ولا يبارك فيه. بل يمحقه محق ما لا عاقبة له عنده إلا الوبال والنكال. وذكر في تفسيرها معنى آخر، وهو أن يهب الرجل للرجل، أو يهدي له ليعوّضه أكثر مما وهب أو أهدى. فليست تلك الزيادة بحرام. وتسميتها ربا مجاز، لأنها سبب الزيادة.
قال ابن كثير: وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه. إلا أنه نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة، قال الضحاك، واستدل بقوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: ٦]، أي لا تعط العطاء، تريد أكثر منه. وقال ابن عباس: الربا رباءان، فربا لا يصح، يعني ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل، يريد فضلها وإضعافها.
انتهى.
وأقول: في ذلك كله نظر من وجوه:
الأول- أن هذه الآية شبيهة بآية يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [البقرة:
٢٧٦]، وهي في ربا البيع الذي كان فاشيا في أهل مكة حتى صار ملكة راسخة فيهم، امتصوا بها ثروة كثير من البؤساء، مما خرج عن طور الرحمة والشفقة والكمال
البشريّ. فنعى عليهم حالهم، طلبا لتزكيتهم بتوبتهم منه. ثم أكّد ذلك في مثل هذه الآية. مبالغة في الزجر.
الثاني- أن الربا، على ما ذكر، مجاز. والأصل في الإطلاق الحقيقة، إلا لصارف يرشد إليه دليل الشرع، أو العقل. ولا واحد منهما هنا، إذ لا موجب له.
الثالث- دعوى أن الهبة المذكورة مباحة، لا بأس بها بعد كونها هي المرادة من الآية- بعيدة غاية البعد. لأن في أسلوبها من الترهيب والتحذير ما يجعلها في مصافّ المحرمات. ودلالة الأسلوب من أدلة التنزيل القوية، كما تقرر في موضعه.
الرابع- زعم أن المنهيّ عنه هو الحضرة النبوية خاصة، لا دليل عليه إلّا ظاهر الخطاب. وليس قاطعا.
لأن اختصاص الخطاب لا يوجب اختصاص الحكم على التحقيق. لا يقال الأصل وجوب حمل اللفظ على حقيقته، وحمله على المجاز لا يكون إلا بدليل، وكذا ما يقال إن ثبوت الحكم في غير محل الخطاب يفتقر إلى دليل- لأنا نقول:
الأصل في التشريعات العموم، إلا ما قام الدليل القاطع على التخصيص بالتنصيص، وليس منه شيء هنا. وقد عهد في التنزيل تخصيص مراد به التعميم إجماعا. كآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: ١]، وأمثالها.
الخامس- أن في هذا المنهيّ عنه من إصعاد المرء إلى ذروة المحسنين الأعفّاء، الذين لا يتبعون قلوبهم نفقتهم، ما يبيّن أنه شامل لسائرهم. لما فيه من تربية إرادتهم وتهذيب أخلاقهم. بل لو قيل إن الخطاب له صلوات الله عليه، والمراد غيره، كما قالوه في كثير من الآي- لم يبعد. لما تقرر من عصمته ونزاهته عن هذا الخلق، في سيرته الزكيّة. وحينئذ فالوجه في الآية هو الأول، وعليه المعوّل. والله أعلم وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي مال تتزكون به من رجس الشح ودنس البخل تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي ذوو الأضعاف من الثواب. جمع (مضعف) اسم فاعل (من أضعف) إذا صار ذا ضعف، (بكسر فسكون) بأن يضاف له ثواب ما أعطاه. (كأقوى وأيسر) إذا صار ذا قوة ويسار. فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله. أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة ما أنفقوا. على أنه من (أضعف) والهمزة للتعدية، ومفعوله محذوف، وهو ما ذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : آية ٤٠]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قال القاضي: أثبت له تعالى لوازم الألوهية، ونفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها. مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان، ووقع عليه الوفاق. ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣)
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي كثرة المضار والمعاصي على وجه الأرض وعلى ظهر السفن في لجج البحر بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي من الآثام والموبقات ففشا الفساد وانتشرت عدواه وتوارثه جيل عن جيل أينما حلوا وحيثما ساروا لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ اللام للعاقبة. أي ظهور الشرور بسببهم، مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم، إرادة الرجوع. وقيل اللام للعلة، على معنى أن ظهور الجدب والقحط والغرق بسبب شؤم معاصيهم، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا، قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة، لعلهم يرجعون عما هم عليه. كقوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:
٣٠]، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ أي فأذاقهم سبحانه سوء العاقبة، لشركهم المستتبع لكل إثم وعصيان فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ أي لا يقدر أحد على ردّه.
وقوله مِنَ اللَّهِ متعلق ب (يأتي) أو ب (مردّ) لأنه مصدر على معنى لا يرده تعالى، لتعلق إرادته بمجيئه. وفيه انتفاء رد غيره بطريق برهانيّ. وقيل عليه، لو كان كذلك لزم تنوينه لمشابهته للمضاف. وأجيب بأن الشبيه بالمضاف قد يحمل في ترك تنوينه. كما في الحديث (لا مانع لما أعطيت) يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي يتفرقون كالفراش المبثوث، أو فريق في الجنة وفريق في السعير كقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: ١٤].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره. قال الزمخشريّ: كلمة جامعة، لما لا غاية وراءه من المضارّ. لأن من كان ضارّه كفره، فقد أحاطت به كل مضرة وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي يسوّون منزلا في الجنة. أي يوطئونه توطئة الفراش لمن يريد الراحة عليه لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ أي بالمطر وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ أي في البحر عند هبوبها وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي بتجارة البحر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ولتشكروا نعمة الله فيما ذكر لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
هذه تسلية له صلّى الله عليه وسلّم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له والوعيد لمن عصاه.
قال الزمخشريّ: في قوله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
تعظيم للمؤمنين. ورفع من شأنهم، وتأهيل لكرامة سنية، وإظهار لفضل سابقة ومزية. حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ إما سائرا وواقفا، مطبقا وغير مطبق، من جانب دون جانب، إلى غير ذلك وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي قطعا تارة أخرى فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أي المطر مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ أي لآيسين. قال الزمخشريّ: من قبله، من باب التكرير والتوكيد، كقوله تعالى: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها [الحشر: ١٧]، ومعنى التوكيد فيه، الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم. فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى.
وعكسه ابن عطية رحمه الله فقال: إنه يدل على سرعة تقلب القلوب البشرية من الإبلاس إلى الاستبشار.
قال الشهاب: وما ذكره ابن عطية أقرب. لأن المتبادر من القبيلة الاتصال.
وتأكيده دال على شدة اتصاله فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أي أثر الغيث من النبات والأشجار والحبوب والثمار كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ أي العظيم الشأن الذي ذكر بعض شؤونه لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً على الزرع فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا أي من تأثيرها فيه لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ أي من بعد اصفراره يجحدون ما تقدم إليهم من النعم، أو يقنطون ولا يصبرون على بلائه. وفيه من ذمهم وعدم تدبرهم وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم- ما لا يخفى.
ثم أشار تعالى إلى أن من أنكر قدرته على إحياء الزرع بعد اصفراره، وقد رأى قدرته على إحياء الأرض بعد موتها، فهو ميت لا يمكن إسماعه خبر إحياء الموتى، بقوله سبحانه فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي لما أن هؤلاء مثلهم، لانسداد مشاعرهم عن الحق وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ قال أبو السعود: تقييد الحكم بما ذكر، لبيان كمال سوء حال الكفرة والتنبيه على أنهم جامعون لخصلتي السوء، نبوّ
أسماعهم عن الحق، وإعراضهم عن الإصغاء إليه. ولو كان فيهم إحداهما، لكفاهم ذلك. فكيف وقد جمعوهما؟ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ أي ما تسمع إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي منقادون لما تأمرهم به من الحق.
تنبيه:
قال ابن كثير: وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، على توهيم «١» عبد الله بن عمر في رواية مخاطبة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم.
حتى قال له عمر: يا رسول الله! ما تخاطب من قوم قد جيّفوا؟ فقال: والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول، منهم. ولكن لا يجيبون. وتأولته عائشة على أنه قال:
إنهم الآن يعلمون أن ما كنت أقول لهم حق.
وقال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته، تقريعا وتوبيخا ونقمة.
ثم قال ابن كثير: والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة. من أشهر ذلك، ما
رواه ابن عبد البر مصححا له عن ابن عباس مرفوعا (ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلّم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)
. انتهى.
وقال ابن الهمام: أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالا بهذه الآية ونحوها. ولذا لم يقولوا: بتلقين القبر. وقالوا: لو حلف لا يكلم فلانا، فكلمه ميتا لا يحنث. وأورد عليهم
قوله صلّى الله عليه وسلّم في أهل القليب (ما أنتم بأسمع منهم)
وأجيب تارة بأنه روي عن عائشة رضي الله عنهما أنها أنكرته. وأخرى بأنه من خصوصياته صلّى الله عليه وسلّم معجزة له. أو أنه تمثيل. كما روي عن علي كرم الله وجهه. وأورد عليه ما في مسلم «٢» من أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا. إلا أن يخص بأول الوضع في القبر، مقدمة للسؤال، جمعا بينه وبين ما في القرآن. نقله الشهاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥)
(١) الحديثان أخرجهما البخاري في: الجنائز، ٨٧- باب ما جاء في عذاب القبر، حديث ٧٢٦ و ٧٢٧.
(٢) أخرجه مسلم في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم ٧١.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ قرئ بفتح الضاد وضمها. أي من أصل ضعيف هو النطفة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ يعني حال الطفولة والنشء قُوَّةً يعني حال البلوغ والشبيبة إلى الاكتهال وبلوغ الأشدّ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً أي بالشيخوخة والهرم يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي من الأشياء. ومنها هذه الأطوار التي يتقلب بها الإنسان وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ أي الواسع العلم والقدرة. كيف؟ وهذا الترديد في الأحوال المختلفة والتغيير من صفة إلى صفة، أظهر دليل على علم الصانع سبحانه وقدرته، المستتبع انفراده بالألوهية وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ أي في الدنيا أو القبور. وإنما يقدرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له. أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا. وهكذا كانوا يبتون أمرهم على خلاف الحق. كذا في (الكشاف).
وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان. وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضا. فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا. ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم. انتهى.
وقال الشهاب: المراد من قوله: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ، تشابه حاليهم في الكذب وعدم الرجوع إلى مقتضى العلم. لأن مدار أمرهم على الجهل والباطل.
والغرض من سوق الآية وصف المجرمين بالتمادي في الباطل، والكذب الذي ألفوه.
انتهى.
وقيل: كان قسمهم استقلالا لأجل الدنيا، لما عاينوا الآخرة، تأسفا على ما أضاعوا في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ ردّا لما حلفوا عليه، وإطلاعا لهم على الحقيقة لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ أي فيما كتبه الله وأوجبه بحكمته إِلى يَوْمِ
الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
أي أنه حق، لتفريطكم في طلب الحق واتباعه فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي بالشرك، أو إنكار الربوبية، أو الرسالة، أو شيء لا يجب الإيمان به مَعْذِرَتُهُمْ أي بأنهم كفروا عن جهل. لأنه إنما كان عن تقصيرهم في إزالته، أو عن عناد وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ولا يطلب منهم الإعتاب.
أي إزالة العتب بالتوبة والطاعة. لأنهما، وإن كانتا ماحيتين للكفر والمعاصي، فإنما كان لهما ذلك في مدة الحياة الدنيا، لا غير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل وصف يوضح الحق ويزيل اللبس. أو من كل دليل على الأمور الأخروية. والحق يجري مجرى المثل في الظهور وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ أي مما اقترحوه أو غيرها لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أي لا يؤمنون بها. ويعتقدون أنها سحر وباطل كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق. بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها. فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق، ويوجب تكذيب المحق. قاله أبو السعود فَاصْبِرْ أي على ما تشاهد منهم، من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي في قوله وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات: ١٧١- ١٧٣]، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ أي لا يحملنك على الخفة والقلق الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ أي بما تتلو عليهم من الآيات البينة، بتكذيبهم إياها ومكرهم فيها. فإنه تعالى منجز لك ما وعدك من نصرك عليهم وجعله العاقبة لك، ولمن اعتصم بما جئت به من المؤمنين.
23

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة لقمان
سميت به لاشتمالها على قصته التي تضمنت فضيلة الحكمة وسر معرفة الله تعالى وصفاته، وذم الشرك والأمر بالأخلاق والأفعال الحميدة. والنهي عن الذميمة.
وهي معظمات مقاصد القرآن. قاله المهايميّ. وهي مكية. ويقال: إلا قوله تعالى:
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ... [لقمان: ٢٧- ٢٨]، الآيتين. وآياتها أربع وثلاثون آية. وسيأتي الكلام على لقمان والخلاف فيه.
24
Icon