تفسير سورة الممتحنة

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة الممتحنة

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ
وَهِيَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً مَدَنِيَّةً
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ من جُمْلَةَ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّعَلُّقُ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي بَيَانِ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْحَاضِرِينَ فِي زَمَانِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى الصُّلْحِ وَاعْتَرَفُوا بِصِدْقِهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ بَنُو النَّضِيرِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: واللَّه إِنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي وَجَدْنَا نَعْتَهُ وَصِفْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَبَعْضُهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَأَقْدَمُوا عَلَى الْقِتَالِ، إِمَّا عَلَى التَّصْرِيحِ وَإِمَّا عَلَى الْإِخْفَاءِ، فَإِنَّهُمْ مَعَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ، وَمَعَ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْبَاطِنِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْأَوَّلِ بِالْآخِرِ فَظَاهِرٌ، لِمَا أَنَّ آخِرَ تِلْكَ السُّورَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ لِحَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَأَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى حُرْمَةِ الِاخْتِلَاطِ مَعَ مَنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا سَبَبُ النُّزُولِ
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، لَمَّا كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّزُ لِلْفَتْحِ وَيُرِيدُ أَنْ يَغْزُوَكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، ثُمَّ أَرْسَلَ ذَلِكَ الْكِتَابَ مَعَ امْرَأَةٍ مَوْلَاةٍ لِبَنِي هَاشِمٍ، يُقَالُ لَهَا سَارَّةُ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمُسْلِمَةً جِئْتِ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ:
أَمُهَاجِرَةً جِئْتِ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكِ؟ قَالَتْ: قَدْ ذَهَبَ الْمَوَالِي يَوْمَ بَدْرٍ- أَيْ قُتِلُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ- فَاحْتَجْتُ حَاجَةً شَدِيدَةً فَحَثَّ عَلَيْهَا بَنِي الْمُطَّلِبِ فَكَسَوْهَا وَحَمَلُوهَا وَزَوَّدُوهَا، فَأَتَاهَا حَاطِبٌ وَأَعْطَاهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَكَسَاهَا بُرْدًا وَاسْتَحْمَلَهَا ذَلِكَ الْكِتَابَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَخَرَجَتْ سَائِرَةً، فَأَطْلَعَ اللَّه الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ، فَبَعَثَ عَلِيًّا وَعُمَرَ وَعَمَّارًا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ خَلْفَهَا وَهُمْ فُرْسَانٌ، فَأَدْرَكُوهَا وَسَأَلُوهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْ وَحَلَفَتْ، فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: واللَّه مَا كَذَبْنَا، وَلَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّه، وَسَلَّ سَيْفَهُ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِ شَعْرِهَا، فَجَاءُوا بِالْكِتَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَهُ عَلَى حَاطِبٍ فَاعْتَرَفَ، وَقَالَ: إِنَّ لِي بِمَكَّةَ أَهْلًا وَمَالًا فَأَرَدْتُ
515
أَنْ أَتَقَرَّبَ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّه/ تَعَالَى يُنْزِلُ بَأْسَهُ عَلَيْهِمْ، فَصَدَّقَهُ وَقَبِلَ عُذْرَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّه أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ لَعَلَّ اللَّه تَعَالَى قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمْ:
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، فَفَاضَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فنزلت،
وأما تفسير الآية فالخطاب في: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ مَرَّ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ أَوْ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَهِيَ الطَّاعَاتُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ فَاتَّخَذَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَهُمَا عَدُوِّي وَأَوْلِيَاءُ، وَالْعَدُوُّ فَعُولٌ مِنْ عَدَا، كَعَفُوٍّ مِنْ عَفَا، وَلِكَوْنِهِ عَلَى زِنَةِ الْمَصْدَرِ أُوقِعَ عَلَى الْجَمْعِ إِيقَاعَهُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْعَدَاوَةُ ضِدُّ الصَّدَاقَةِ، وَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنَّهُمَا يَرْتَفِعَانِ فِي مَادَّةِ الْإِمْكَانِ، وَعَنِ الزَّجَّاجِ وَالْكَرَابِيسِيِّ عَدُوِّي أَيْ عَدُوُّ دِينِي،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِي ذَرٍّ: «يا أبا ذر أي عرا الْإِيمَانِ أَوْثَقُ، فَقَالَ اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ الْمُوَالَاةُ فِي اللَّه وَالْحُبُّ فِي اللَّه وَالْبُغْضُ فِي اللَّه»
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: تُلْقُونَ بِمَاذَا يَتَعَلَّقُ، نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: هُوَ وَصْفُ النَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ أَوْلِيَاءُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالثَّانِي: قَالَ فِي الْكَشَّافِ: يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِلَا تَتَّخِذُوا حَالًا مِنْ ضَمِيرِهِ، وَأَوْلِيَاءُ صِفَةٌ لَهُ الثَّالِثُ: قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا، فَلَا يَكُونُ صِلَةً لِأَوْلِيَاءَ، وَالْبَاءُ فِي الْمَوَدَّةِ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الحج: ٢٥] وَالْمَعْنَى: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِرَّهُ بِالْمَوَدَّةِ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، ويدل عليه: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ: اتِّخَاذُ الْعَدُوِّ وَلِيًّا كَيْفَ يُمْكِنُ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَدَاوَةُ منافية للمحبة والمودة، والمحبة المودة مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الِاتِّخَاذِ، نَقُولُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْعَدَاوَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَمْرٍ، وَالْمَحَبَّةُ وَالْمَوَدَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [التَّغَابُنِ: ١٤]
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوْلَادُنَا أَكْبَادُنَا»
الثَّانِي: لَمَّا قَالَ: عَدُوِّي فَلِمَ لَمْ يَكْتَفِ بِهِ حَتَّى قَالَ: وَعَدُوَّكُمْ لِأَنَّ عَدُوَّ اللَّه إِنَّمَا هُوَ عَدُوُّ الْمُؤْمِنِينَ؟ نَقُولُ: الْأَمْرُ لَازِمٌ مِنْ هَذَا التَّلَازُمِ، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَدُوًّا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ عَدُوًّا للَّه، كَمَا قَالَ: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ، الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ وَلَمْ يَقُلْ بِالْعَكْسِ؟ فَنَقُولُ: الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ بِسَبَبِ مَحَبَّةِ اللَّه تَعَالَى وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ، فَتَكُونُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ لِحَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى لِعِلَّةٍ، وَمَحَبَّةُ حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى لِلْعَبْدِ لَا لِعِلَّةٍ، لِمَا أَنَّهُ غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى الْغَيْرِ أَصْلًا، وَالَّذِي لَا لِعِلَّةٍ مُقَدَّمٌ عَلَى الَّذِي لِعِلَّةٍ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ نِسْبَةٌ إِلَى الطَّرَفَيْنِ، فَالطَّرَفُ الْأَعْلَى مُقَدَّمٌ عَلَى الطَّرَفِ الْأَدْنَى، الرَّابِعُ: قَالَ: أَوْلِياءَ وَلَمْ يَقُلْ: وَلِيًّا، وَالْعَدُوُّ وَالْوَلِيُّ بِلَفْظٍ، فَنَقُولُ: كَمَا أنا الْمُعَرَّفَ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ/ يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ، فَكَذَلِكَ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ الْخَامِسُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْقُرْآنِ لَا تُمْكِنُ، وَالْبَاءُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْفَائِدَةِ، فَلَا تكون زائدة في الحقيقة.
[قوله تَعَالَى وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ إلى قوله فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
516
وَقَدْ كَفَرُوا الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا: بِما جاءَكُمْ مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: مِنَ الْقُرْآنِ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنْ تُؤْمِنُوا أَيْ لِأَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ وَقَوْلُهُ:
إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ، وَقَوْلُهُ:
جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي مَنْصُوبَانِ لِأَنَّهُمَا مَفْعُولَانِ لَهُمَا، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ عَنْ مُقَاتِلٍ بِالنَّصِيحَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ شَيْءٌ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ مِنَ الْمَوَدَّةِ لِلْكُفَّارِ وَما أَعْلَنْتُمْ أَيْ أَظْهَرْتُمْ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَامًّا فِي كُلِّ مَا يُخْفِي وَيُعْلِنُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَعْلَمُ بِسَرَائِرِ الْعَبْدِ وَخَفَايَاهُ وَظَاهِرِهِ، وَبَاطِنِهِ، مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكِنَايَةُ رَاجِعَةً إِلَى الْإِسْرَارِ، وَإِلَى الْإِلْقَاءِ، وَإِلَى اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ، لِمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مَذْكُورَةٌ مِنْ قَبْلُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ عَدَلَ عَنْ قَصْدِ الْإِيمَانِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ: قَدْ أَخْطَأَ قَصْدَ الطَّرِيقِ عَنِ الْهُدَى، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُتَعَلِّقٌ بِلَا تتخذوا، يعني لا تتلوا أعدائي إن كنتم أوليائي، وتُسِرُّونَ اسْتِئْنَافٌ، مَعْنَاهُ: أَيُّ طَائِلٍ لَكُمْ فِي إِسْرَارِكُمْ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْإِخْفَاءَ وَالْإِعْلَانَ سِيَّانِ فِي عِلْمِي.
الثَّانِي: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ الْآيَةَ، قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ الشَّرْطِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ بِدُونِ ذَلِكَ النَّهْيِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يُمْكِنُ، فَنَقُولُ: هَذَا الْمَجْمُوعُ شَرْطٌ لِمُقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيِ، لَا لِلنَّهْيِ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ، وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْمَجْمُوعِ بِدُونِ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ دَائِمًا، فَالْفَائِدَةُ فِي ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِي ظَاهِرَةٌ، إِذِ الْخُرُوجُ قَدْ يَكُونُ ابْتِغَاءً لِمَرْضَاةِ اللَّه وَقَدْ لَا يَكُونُ.
الثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى: بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَلَمْ يَقُلْ: بِمَا أَسْرَرْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ، مَعَ أَنَّهُ أَلْيَقُ بِمَا سَبَقَ وَهُوَ تُسِرُّونَ، فَنَقُولُ فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِخْفَاءَ أَبْلَغُ مِنَ الْإِسْرَارِ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه: ٧] أَيْ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ.
الرَّابِعُ: قَالَ: بِما أَخْفَيْتُمْ قَدَّمَ الْعِلْمَ بِالْإِخْفَاءِ عَلَى الْإِعْلَانِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ.
فَنَقُولُ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِنَا، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى، إِذْ هُمَا سِيَّانِ فِي عِلْمِهِ كَمَا مَرَّ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ بَيَانُ مَا هُوَ الْأَخْفَى وَهُوَ الْكُفْرُ، فَيَكُونُ مُقَدَّمًا.
الْخَامِسُ: قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ نَقُولُ: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ مِنْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا.
ثُمَّ إِنَّهُ أَخْبَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعَدَاوَةِ كُفَّارِ أَهْلِ مكة فقال:
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٢ الى ٣]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)
يَثْقَفُوكُمْ يَظْفَرُوا بِكُمْ وَيَتَمَكَّنُوا مِنْكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يُصَادِقُوكُمْ وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بِالضَّرْبِ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالشَّتْمِ وَوَدُّوا أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَعْدَاءَ اللَّه لَا يُخْلِصُونَ الْمَوَدَّةَ لِأَوْلِيَاءِ اللَّه لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُبَايَنَةِ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ لَمَّا عُوتِبَ حَاطِبٌ عَلَى مَا فَعَلَ اعْتَذَرَ بِأَنَّ لَهُ أَرْحَامًا، وَهِيَ الْقَرَابَاتُ، وَالْأَوْلَادُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ هُنَاكَ مَنْ يَمْنَعُ عَشِيرَتَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا لِيُحْسِنُوا إِلَى مَنْ خَلَّفَهُمْ بِمَكَّةَ مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَقَالَ: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ الذين توالون الكفار من أجلهم، وتقربون إِلَيْهِمْ مَخَافَةً عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَقَارِبِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ فَيَدْخُلُ أَهْلُ الْإِيمَانِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ النَّارَ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ بِمَا عَمِلَ حَاطِبٌ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً كَيْفَ يُورِدُ جَوَابَ الشَّرْطِ مُضَارِعًا مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَوَدُّوا بِلَفْظِ الْمَاضِي نَقُولُ: الْمَاضِي وَإِنْ كَانَ يَجْرِي فِي بَابِ الشَّرْطِ مَجْرَى الْمُضَارِعِ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ فَإِنَّ فِيهِ نُكْتَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَوَدُّوا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ كُفْرَكُمْ وَارْتِدَادَكُمْ.
الثَّانِي: يَوْمَ الْقِيامَةِ ظَرْفٌ لِأَيِّ شَيْءٍ، قُلْنَا لِقَوْلِهِ: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أو يكون ظرفا ليفصل وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: يُفْصَلُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ، ويَفْصِلُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ اللَّه، و (نفصل) و (نفصل) بِالنُّونِ.
الثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَمْ يَقُلْ: خَبِيرٌ، مَعَ أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْخَبِيرَ أَبْلَغُ فِي الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَ أَظْهَرُ مِنْهُ فِيهِ، لِمَا أَنَّهُ يَجْعَلُ عَمَلَهُمْ كَالْمَحْسُوسِ بِحِسِّ الْبَصَرِ واللَّه أعلم. ثم قال تعالى:
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ٤]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤)
اعْلَمْ أَنَّ الْأُسْوَةَ مَا يُؤْتَسَى بِهِ مِثْلُ الْقُدْوَةِ لِمَا يُقْتَدَى بِهِ، يُقَالُ: هُوَ أُسْوَتُكَ، أَيْ أَنْتَ مِثْلُهُ وَهُوَ مِثْلُكُ، وَجَمْعُ الْأُسْوَةِ أُسًى، فَالْأُسْوَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُقْتَدَى بِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابَهُ تَبَرَّءُوا مِنْ قَوْمِهِمْ وعادوهم، وقالوا لهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، وَأَمَرَ أَصْحَابِ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يأنسوا بِهِمْ وَبِقَوْلِهِمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ أَفَلَا تَأَسَّيْتَ يا حاطب بإبراهيم في التبرئة من أهل فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَهُوَ مُشْرِكٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نُهُوا أَنْ يَتَأَسَّوْا بِاسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ فَيَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: ائْتَسُوا بِأَمْرِ إِبْرَاهِيمَ كُلِّهِ إِلَّا فِي اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ، وَقِيلَ: تَبَرَّءُوا مِنْ كُفَّارِ قَوْمِكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ أُسْوَةً حَسَنَةً فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ قَوْمِهِمْ، لَا فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُرِيدُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَادَاهُمْ وَهَجَرَهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي قَوْلِهِ لِأَبِيهِ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، بَلِ الْمَعْنَى قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَعَلَهُ، إِلَّا فِي قَوْلِهِ لِأَبِيهِ:
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ/ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ هَذَا مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ يَقُولُ لَهُ: مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، وَلَا أَدْفَعُ عَنْكَ عَذَابَ اللَّه إِنْ أَشْرَكْتَ بِهِ، فَوَعَدَهُ الِاسْتِغْفَارَ رَجَاءَ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
كَانَ مِنْ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِهِ: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا الْآيَةَ، أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا رَجَعْنَا بِالتَّوْبَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَيْكَ إِذِ الْمَصِيرُ لَيْسَ إِلَّا إِلَى حَضْرَتِكَ، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَحْدَهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ اللَّوَازِمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٥] فَنَقُولُ: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ باللَّه وَحْدَهُ، إِذِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَحْدَهُ هُوَ وَحْدَهُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا نَشُكُّ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِأُلُوهِيَّةِ غيره، لا يكون إيمانا باللَّه، إذا هُوَ الْإِشْرَاكُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْمُشْرِكُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا.
الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ، هُوَ، نَقُولُ: مِنْ قَوْلِهِ: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَا أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ قَوْلَهُمُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتَسُوا بِهِ، وَيَتَّخِذُوهُ سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بِهَا.
الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ قَوْلُهُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي سَبَقَ وَهُوَ: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فَمَا بَالُ قَوْلِهِ: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ غَيْرُ حَقِيقٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الفتح: ١١] نَقُولُ: أَرَادَ اللَّه تَعَالَى اسْتِثْنَاءَ جُمْلَةِ قَوْلِهِ لِأَبِيهِ، وَالْقَصْدُ إِلَى مَوْعِدِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَمَا بَعْدَهُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ وَتَابِعٌ لَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَسْتَغْفِرُ لَكَ، وَمَا وُسْعِي إِلَّا الِاسْتِغْفَارُ.
الرَّابِعُ: إِذَا قِيلَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا نَقُولُ: بِمَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَمْرُ بِهَذَا الْقَوْلِ تَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَتْمِيمًا لِمَا وَصَّاهُمْ بِهِ مِنْ قَطْعِ الْعَلَائِقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكَفَرَةِ، وَالِائْتِسَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ تَنْبِيهًا عَلَى الْإِنَابَةِ إِلَى حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ.
الْخَامِسُ: إِذَا قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ؟ فَنَقُولُ: فِيهِ من الفوائد مالا يُحِيطُ بِهِ إِلَّا هُوَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ أَنْ يُقَالَ: التَّوَكُّلُ لِأَجْلِ الْإِفَادَةِ، وَإِفَادَةُ التَّوَكُّلِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى التَّقْوَى قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطَّلَاقِ: ٢] وَالتَّقْوَى الْإِنَابَةُ، إِذِ التَّقْوَى الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْأُمُورِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ وَالْمَصِيرَ لِلْخَلَائِقِ حَضْرَتُهُ الْمُقَدَّسَةُ لَيْسَ إِلَّا، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ الشَّيْءَ، وَذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَكُونُ مِنَ اللَّوَازِمِ للإفادة ذلك كما ينبغي، والقراءة في بُرَآؤُا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: بُرَآءُ كَشُرَكَاءَ، وَبِرَاءٌ كَظِرَافٍ، وَبُرَاءُ عَلَى إِبْدَالِ الضَّمِّ مِنَ الْكَسْرِ كَرُخَالٍ، وَبَرَاءٌ عَلَى الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ وَالْبَرَاءُ وَالْبَرَاءَةُ، مِثْلُ الطماء والطماءة. / ثم قال تعالى:
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٥ الى ٧]
رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧)
قَوْلُهُ: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً مِنْ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا أَعْدَاءَنَا فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ فَيَقُولُوا لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِّ لَمَا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَا تَبْسُطْ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ دُونَنَا، فَإِنَّ ذَلِكَ فِتْنَةٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: قَوْلُهُ لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً، أَيْ عَذَابًا أَيْ سَبَبًا يُعَذَّبُ بِهِ الْكَفَرَةُ، وَعَلَى هَذَا لَيْسَتِ الْآيَةُ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا الْآيَةَ، مِنْ جملة ما
مَرَّ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَعَادَ ذِكْرَ الْأُسْوَةِ تَأْكِيدًا لِلْكَلَامِ، فَقَالَ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أَيْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، وَهَذَا هُوَ الْحَثُّ عَنِ الِائْتِسَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَبْغَضُونَ مَنْ خَالَفَ اللَّه وَيُحِبُّونَ مَنْ أَحَبَّ اللَّه، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَكُمْ وَبَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْأُسْوَةَ لِمَنْ يَخَافُ اللَّه وَيَخَافُ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَمَنْ يَتَوَلَّ أَيْ يُعْرِضْ عَنِ الِائْتِسَاءِ بِهِمْ وَيَمِيلُ إِلَى مَوَدَّةِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ مُخَالَفَةِ أَعْدَائِهِ الْحَمِيدُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: عَسَى اللَّهُ فَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِعَدَاوَةِ الْكُفَّارِ شَدَّدُوا فِي عَدَاوَةِ آبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَجَمِيعِ أَقَارِبِهِمْ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى قَوْلَهُ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أَيْ مِنْ كَفَّارِ مَكَّةَ مَوَدَّةً وَذَلِكَ بِمَيْلِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمُخَالَطَتِهِمْ مَعَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَمُنَاكَحَتِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمُّ حَبِيبَةَ، فَلَانَتْ عِنْدَ ذَلِكَ عَرِيكَةُ أَبِي سُفْيَانَ، وَاسْتَرْخَتْ شَكِيمَتُهُ فِي الْعَدَاوَةِ، وَكَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ قَدْ أَسْلَمَتْ، وَهَاجَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَيْدِ اللَّه بْنِ جَحْشٍ إِلَى الْحَبَشَةِ، فَتَنَصَّرَ وَرَاوَدَهَا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فَأَبَتْ، وَصَبَرَتْ عَلَى دِينِهَا، وَمَاتَ زَوْجُهَا، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَخَطَبَهَا عَلَيْهِ، وَسَاقَ عَنْهُ إِلَيْهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَاهَا فَقَالَ: ذَلِكَ الْفَحْلُ لَا يُفْدَغُ أنفه، / وعَسَى وَعْدٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى: وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً يُرِيدُ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ آمَنُوا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بن الحرث، والحرث بْنُ هِشَامٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، واللَّه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ، وَتَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ، وَتَسْهِيلِ أَسْبَابِ الْمَوَدَّةِ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بِهِمْ إِذَا تَابُوا وَأَسْلَمُوا، وَرَجَعُوا إِلَى حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَهْجُرُوا كُلَّ الْهَجْرِ، فَإِنَّ اللَّه مُطَّلِعٌ عَلَى الْخَفِيَّاتِ وَالسَّرَائِرِ.
وَيُرْوَى: أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا.
وَمِنَ الْمَبَاحِثِ فِي هَذِهِ الْحِكْمَةِ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً إِذَا كَانَ تَأْوِيلُهُ: لَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا أَعْدَاءَنَا مَثَلًا، فَلِمَ تَرَكَ هَذَا، وَأَتَى بِذَلِكَ؟ فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ هَذَا، فَإِذَا أَتَى بِهِ فَكَأَنَّهُ أَتَى بِهَذَا وَذَلِكَ، وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَيْسَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ.
الثَّانِي: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا وَقَدْ كَانَ الْكَلَامُ مُرَتَّبًا إِذَا قِيلَ: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينِ كَفَرُوا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَنَقُولُ: إِنَّهُمْ طَلَبُوا الْبَرَاءَةَ عَنِ الْفِتْنَةِ، وَالْبَرَاءَةُ عَنِ الْفِتْنَةِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا بِدُونِ الْمَغْفِرَةِ، إِذِ الْعَاصِي لَوْ لَمْ يَكُنْ مَغْفُورًا كَانَ مَقْهُورًا بِقَهْرِ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ فِتْنَةٌ، إِذِ الْفِتْنَةُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مقهوراً، والْحَمِيدُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْحَامِدِ، وَبِمَعْنَى الْمَحْمُودِ، فَالْمَحْمُودُ أَيْ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ مِنْ خَلْقِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، وَالْحَامِدُ أَيْ يَحْمَدُ الْخَلْقَ، وَيَشْكُرُهُمْ حَيْثُ يَجْزِيهِمْ بِالْكَثِيرِ مِنَ الثَّوَابِ عَنِ الْقَلِيلِ مِنَ الْأَعْمَالِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ تَرْكِ انْقِطَاعِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْكُفَّارِ رَخَّصَ فِي صِلَةِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ مِنَ الكفار فقال:
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٨ الى ٩]
لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْعَهْدِ الَّذِينَ عَاهَدُوا/ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَالْمُظَاهَرَةِ فِي الْعَدَاوَةِ، وَهُمْ خُزَاعَةُ كَانُوا عَاهَدُوا الرَّسُولَ عَلَى أَنْ لَا يُقَاتِلُوهُ وَلَا يُخْرِجُوهُ، فَأَمَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْبِرِّ وَالْوَفَاءِ إِلَى مُدَّةِ أَجَلِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُقَاتِلَيْنِ وَالْكَلْبِيِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِينَ آمَنُوا بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، وَقِيلَ: هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ،
وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَدِمَتْ أُمُّهَا فتيلة عَلَيْهَا وَهِيَ مُشْرِكَةٌ بِهَدَايَا، فَلَمْ تَقْبَلْهَا وَلَمْ تَأْذَنْ لَهَا بِالدُّخُولِ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُدْخِلَهَا وَتَقْبَلَ مِنْهَا وَتُكْرِمَهَا وَتَحْسُنَ إِلَيْهَا،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْهُمُ الْعَبَّاسُ أُخْرِجُوا يَوْمَ بَدْرٍ كُرْهًا، وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْمَرُوا رَسُولَ اللَّه فِي أَقْرِبَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَصِلُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَقِيلَ الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ قَتَادَةُ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ: وَقَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوهُمْ بَدَلٌ مِنْ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَكَذَلِكَ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بَدَلٌ مِنْ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ وَالْمَعْنَى: لَا يَنْهَاكُمْ عَنْ مَبَرَّةِ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا يَنْهَاكُمْ عَنْ تَوَلِّي هَؤُلَاءِ، وَهَذَا رَحْمَةٌ لَهُمْ لِشِدَّتِهِمْ فِي الْعَدَاوَةِ، وَقَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبِرِّ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُوَالَاةُ مُنْقَطِعَةً، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ بِالصِّلَةِ وَغَيْرِهَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يُرِيدُ أَهْلَ الْبِرِّ وَالتَّوَاصُلِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَنْ تُوفُوا لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَتَعْدِلُوا، ثُمَّ ذَكَرَ مَنِ الَّذِينَ يَنْهَاهُمْ عَنْ صِلَتِهِمْ فَقَالَ: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ...
أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ يُؤَكِّدُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ. ثم قال تعالى:
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠)
فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَجْهٌ حَسَنٌ مَعْقُولٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعَانِدَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ، إِمَّا أَنْ يَسْتَمِرَّ عِنَادُهُ، أَوْ يُرْجَى مِنْهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعِنَادَ، أَوْ يَتْرُكَ الْعِنَادَ وَيَسْتَسْلِمَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَحْوَالَهُمْ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَامِلُوهُمْ فِي كُلِّ حَالَةٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ [الْمُمْتَحِنَةِ: ٤] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، ثُمَّ قَوْلُهُ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الْمُمْتَحِنَةِ: ٧] إِشَارَةٌ إلى الحالة الثانية، ثم قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَتَنْبِيهٌ وَحَثٌّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ بِالْجَزَاءِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَبِالْكَلَامِ إِلَّا بِالَّذِي هُوَ أَلْيَقُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ لِصُدُورِ مَا يَقْتَضِي الْإِيمَانَ وَهُوَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، مِنْهُنَّ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُنَّ مَا
521
هُوَ الْمُنَافِي لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُنَّ مُشَارِفَاتٌ لِثَبَاتِ إيمانهن بالامتحان والامتحان وَهُوَ الِابْتِلَاءُ بِالْحَلِفِ، وَالْحَلِفُ لِأَجْلِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِإِيمَانِهِنَّ،
وَكَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِلْمُمْتَحِنَةِ: «باللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا خَرَجْتِ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، باللَّه مَا خَرَجْتِ رَغْبَةً مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، باللَّه مَا خَرَجْتِ الْتِمَاسَ دُنْيَا، باللَّه مَا خَرَجْتِ إِلَّا حُبًّا للَّه وَلِرَسُولِهِ»
وَقَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ مِنْكُمْ واللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الظَّنِّ الْغَالِبِ بِالْحَلِفِ وَغَيْرِهِ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أَيْ تَرُدُّوهُنَّ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْمُشْرِكِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا أَيْ أَعْطُوا أَزْوَاجَهُنَّ مِثْلَ مَا دَفَعُوا إِلَيْهِنَّ مِنَ الْمُهُورِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ كَانَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاكُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُرَدُّ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَى مَكَّةَ مِنْكُمْ لَمْ يُرَدَّ إِلَيْكُمْ، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ الْعَهْدِ كِتَابًا وَخَتَمُوهُ، فَجَاءَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا مُسَافِرٌ الْمَخْزُومِيُّ، وَقِيلَ: صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ارْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي فَإِنَّكَ قَدْ شَرَطْتَ لَنَا شَرْطًا أَنْ تَرُدَّ عَلَيْنَا مَنْ أَتَاكَ مِنَّا، وَهَذِهِ طَيَّةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ، فَنَزَلَتْ بَيَانًا لِأَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا كَانَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا جَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَهِيَ عَاتِقٌ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَطْلُبُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ، وَكَانَتْ هَرَبَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمَعَهَا أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَوَيْهَا وَحَبَسَهَا فَقَالُوا: ارْدُدْهَا عَلَيْنَا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَانَ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ»
وَعَنِ الضَّحَّاكِ:
أَنَّ الْعَهْدَ كَانَ إِنْ يَأْتِكَ مِنَّا امْرَأَةٌ لَيْسَتْ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهَا إِلَيْنَا، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي دِينِكَ وَلَهَا زَوْجٌ رُدَّتْ عَلَى زَوْجِهَا الَّذِي أَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرْطِ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحُكْمُ وَهَذَا الْعَهْدُ، وَاسْتَحْلَفَهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَلَفَتْ وَأَعْطَى زَوْجَهَا مَا أَنْفَقَ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عُمَرُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أَيْ مهورهن إذا الْمَهْرُ أَجْرُ الْبُضْعِ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَالْعِصْمَةُ مَا يُعْتَصَمُ بِهِ مِنْ عَهْدٍ/ وَغَيْرِهِ، وَلَا عِصْمَةَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ وَلَا عَلَقَةَ النِّكَاحِ كَذَلِكَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ الْعِصْمَةَ، وَقِيلَ: لَا تَقْعُدُوا لِلْكَوَافِرِ، وَقُرِئَ: تُمْسِكُوا، بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، وتُمْسِكُوا أَيْ وَلَا تَتَمَسَّكُوا، وقوله تعالى: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَهُوَ إِذَا لَحِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْكُمْ بِأَهْلِ الْعَهْدِ مِنَ الْكُفَّارِ مُرْتَدَّةً فَاسْأَلُوهُمْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنَ الْمَهْرِ إِذَا مَنَعُوهَا وَلَمْ يَدْفَعُوهَا إِلَيْكُمْ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَغْرَمُوا صَدَاقَهَا كَمَا يُغْرَمُ لهم وهو قوله تعالى:
وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أَيْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَامْتَحِنُوهُنَّ أَمْرٌ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ أَوْ بِمَعْنَى النَّدْبِ أَوْ بِغَيْرِ هَذَا وَذَلِكَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ.
الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ؟ نَقُولُ: فَائِدَتُهُ بَيَانُ أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى مَا تَطْمَئِنُّ بِهِ النَّفْسُ مِنَ الْإِحَاطَةِ بِحَقِيقَةِ إِيمَانِهِنَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ؟
نَقُولُ: هَذَا بِاعْتِبَارِ الْإِيمَانِ مِنْ جَانِبِهِنَّ وَمِنْ جَانِبِهِمْ إِذِ الْإِيمَانُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ شَرْطٌ لِلْحِلِّ وَلِأَنَّ الذِّكْرَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُؤَكَّدٌ لِارْتِفَاعِ الْحِلِّ، وفيه من الإفادة مالا يَكُونُ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنْ يَكْفِي قَوْلُهُ: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَالْمَقْصُودُ هَذَا لَا غَيْرُ، نَقُولُ:
التَّلَفُّظُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يُفِيدُ ارْتِفَاعَ الْحِلِّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ التَّلَفُّظِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَهَذَا ظَاهِرٌ.
522
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: كَيْفَ سَمَّى الظَّنَّ عِلْمًا فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ؟ نَقُولُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ أَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَالْقِيَاسُ جَارٍ مَجْرَى الْعِلْمِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: ٣٦]. ثم قال تعالى:
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١١]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)
رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَمَسْرُوقٍ أَنَّ مِنْ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَسْأَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْكُفَّارِ مَهْرَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إِذَا صَارَتْ إِلَيْهِمْ، وَيَسْأَلَ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَهْرَ مَنْ صَارَتْ إِلَيْنَا مِنْ نِسَائِهِمْ مَسْلَمَةً، فَأَقَرَّ الْمُسْلِمُونَ بِحُكْمِ اللَّه وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ فَنَزَلَتْ: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أَيْ سَبَقَكُمْ وَانْفَلَتَ/ مِنْكُمْ، قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ:
نَزَلَتْ فِي أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ ارْتَدَّتْ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا عَبَّاسَ بْنَ تَمِيمٍ الْقُرَشِيَّ، وَلَمْ تَرْتَدَّ امْرَأَةٌ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ غَيْرُهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَعاقَبْتُمْ أَيْ فَغَنِمْتُمْ، عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ وَمُقَاتِلٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَصَبْتُمْ مِنْهُمْ عُقْبَى، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ فَعاقَبْتُمْ أَيْ فَعَلْتُمْ مَا فعل بكل يَعْنِي ظَفَرْتُمْ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ:
الْعُقْبَى لِفُلَانٍ، أَيِ الْعَاقِبَةُ، وَتَأْوِيلُ الْعَاقِبَةِ الْكَرَّةُ الْأَخِيرَةُ، وَمَعْنَى عَاقَبْتُمْ: غَزَوْتُمْ مُعَاقِبِينَ غَزْوًا بَعْدَ غَزْوٍ، وَقِيلَ:
كَانَتِ الْعُقْبَى لَكُمْ وَالْغَلَبَةُ، فَأَعْطُوا الْأَزْوَاجَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهِنَّ مِنَ الْمَهْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا، وقرئ: (فأعقبتم) و (فعقبتم) بالتشديد، و (فعقبتم) بالتخفيف بفتح/ القاف وكسرها.
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٢]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ أَخَذَ فِي بَيْعَةِ النِّسَاءِ وَهُوَ عَلَى الصَّفَا وَعُمَرُ أَسْفَلُ مِنْهُ يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُبَلِّغُهُنَّ عَنْهُ، وَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ مُتَقَنِّعَةٌ مُتَنَكِّرَةٌ خَوْفًا مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْرِفَهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُبَايِعُكُنَّ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ باللَّه شَيْئًا، فَرَفَعَتْ هِنْدُ رَأَسَهَا وَقَالَتْ: واللَّه لَقَدْ عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ وإنك لتأخذ علينا أمرا ما رأينا أَخَذْتَهُ عَلَى الرِّجَالِ، تُبَايِعُ الرِّجَالَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ فَقَطْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَلَا تَسْرِقْنَ، فَقَالَتْ هِنْدُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْ مَالِهِ هَنَاةً فَمَا أَدْرِي أَتَحِلُّ لِي أَمْ لَا؟ فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ مَا أَصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا غَبَرَ فَهُوَ لَكِ حَلَالٌ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَهَا، فَقَالَ لَهَا: وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، قَالَتْ: نَعَمْ فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ يَا نَبِيَّ اللَّه عَفَا اللَّه عَنْكَ، فَقَالَ: وَلَا تَزْنِينَ، فَقَالَتْ: أَتَزْنِ الْحُرَّةُ، وَفِي رِوَايَةٍ مَا زَنَتْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ قَطُّ، فَقَالَ: وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ، فَقَالَتْ: رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا وَقَتَلْتَهُمْ كِبَارًا، فَأَنْتُمْ وَهُمْ أَعْلَمُ، وَكَانَ ابْنُهَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَضَحِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَتَّى اسْتَلْقَى، وَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَلَا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ، وَهُوَ أَنْ تَقْذِفَ عَلَى زَوْجِهَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَقَالَتْ هِنْدُ: واللَّه/ إِنَّ الْبُهْتَانَ لَأَمْرٌ قَبِيحٌ وَمَا تَأْمُرُنَا إِلَّا بِالرُّشْدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فقال: ولا
523
تَعْصِينَنِي فِي مَعْرُوفٍ، فَقَالَتْ: واللَّه مَا جَلَسْنَا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصينك فِي شَيْءٍ»
وَقَوْلُهُ: وَلا يَسْرِقْنَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْخِيَانَةِ فِي الْأَمْوَالِ وَالنُّقْصَانِ مِنَ الْعِبَادَةِ، فإن يُقَالُ: أَسْرَقُ مِنَ السَّارِقِ مَنْ سَرَقَ مِنْ صِلَاتِهِ: وَلا يَزْنِينَ يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ الزِّنَا وَدَوَاعِيَهُ أَيْضًا عَلَى مَا
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجْلَانِ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ»
وَقَوْلُهُ: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ أَرَادَ وَأْدَ الْبَنَاتِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أهل والجاهلية ثُمَّ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ قَتْلِ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ نَهَى عَنِ النَّمِيمَةِ أَيْ لَا تَنِمُّ إِحْدَاهُنَّ عَلَى صَاحِبِهَا فَيُورِثُ الْقَطِيعَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنْ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِأَزْوَاجِهِنَّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُلْحِقُ بِزَوْجِهَا وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَقِطُ الْمَوْلُودَ فَتَقُولُ لِزَوْجِهَا: هَذَا وَلَدِي مِنْكَ فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ الْمُفْتَرَى بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا رضعته الْأُمُّ سَقَطَ بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى نَهْيَهُنَّ عَنِ الزِّنَا، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا قَدْ تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أَيْ كُلِّ أَمْرٍ وَافَقَ طَاعَةَ اللَّه، وَقِيلَ: فِي أَمْرِ بِرٍّ وَتَقْوًى، وَقِيلَ فِي كُلِّ أَمْرٍ فِيهِ رُشْدٌ، أَيْ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي جَمِيعِ أَمْرِكَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْكَلْبِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أَيْ مِمَّا تَأْمُرُهُنَّ بِهِ وَتَنْهَاهُنَّ عَنْهُ، كَالنَّوْحِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ، وَجَزِّ الشَّعْرِ وَنَتْفِهِ، وَشَقِّ الْجَيْبِ، وَخَمْشِ الْوَجْهِ، وَلَا تُحَدِّثُ الرِّجَالَ إِلَّا إِذَا كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَلَا تَخْلُو بِرَجُلٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرُ إِلَّا مَعَ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ هَذَا الْمَعْرُوفَ بِالنَّوْحِ،
وَعَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالِاسْتِقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ»
وَقَالَ: «النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ»
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»
وَقَوْلُهُ:
فَبايِعْهُنَّ جَوَابُ إِذا، أَيْ إِذَا بَايَعْنَكَ عَلَى هَذِهِ الشَّرَائِطِ فَبَايِعْهُنَّ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْمُبَايَعَةِ، فَقَالُوا: كَانَ يُبَايِعُهُنَّ وَبَيْنَ يده وأيديهن ثَوْبٌ، وَقِيلَ: كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِنَّ الْبَيْعَةَ وَعُمْرُ يُصَافِحُهُنَّ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَقِيلَ:
بِالْكَلَامِ، وَقِيلَ: دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهِ، ثُمَّ غمس أَيْدِيَهُنَّ فِيهِ، وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ تَعَالَى: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ وَلَمْ يَقُلْ: فَامْتَحِنُوهُنَّ، كَمَا قَالَ فِي الْمُهَاجِرَاتِ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِامْتِحَانَ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ إِلَى آخِرِهِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُهَاجِرَاتِ يَأْتِينَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَلَا اطِّلَاعَ لَهُنَّ عَلَى الشَّرَائِعِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِامْتِحَانِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنَاتُ فَهُنَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَلِمْنَ الشَّرَائِعَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الِامْتِحَانِ.
الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَمَا وَجْهُهُ؟ نَقُولُ: مَنْ قَالَ الْمَرْأَةُ إِذَا الْتَقَطَتْ وَلَدًا، فَإِنَّمَا الْتَقَطَتْ بِيَدِهَا، وَمَشَتْ إِلَى أَخْذِهِ برجلها، فإذا أضافته إلى زواجها فقد أتت/ ببهتان تفترينه بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، وَقِيلَ: يَفْتَرِينَهُ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ، حَيْثُ يَقُلْنَ: هَذَا وَلَدُنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِذِ الْوَلَدُ وَلَدُ الزِّنَا، وَقِيلَ:
الْوَلَدُ إِذَا وَضَعَتْهُ أُمُّهُ سَقَطَ بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا.
الثَّالِثُ: مَا وَجْهُ التَّرْتِيبِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَتَقْدِيمِ الْبَعْضِ مِنْهَا عَلَى الْبَعْضِ فِي الْآيَةِ؟ نَقُولُ: قَدَّمَ الْأَقْبَحَ عَلَى مَا هُوَ الْأَدْنَى مِنْهُ فِي الْقُبْحِ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى آخِرِهِ، وَقِيلَ: قَدَّمَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ مَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِيمَا بينهم. ثم قال تعالى:
524

[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٣]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
قَالَ ابن عباس: يريد حاطب ابن أَبِي بَلْتَعَةَ يَقُولُ: لَا تَتَوَلَّوُا الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمْعًا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْيَهُودَ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَيَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ، يَعْنِي أَنَّ الْيَهُودَ كَذَّبَتْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّه وَأَنَّهُمْ أَفْسَدُوا آخِرَتَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ فَهُمْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، وَالتَّقْيِيدُ بِهَذَا الْقَيْدِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ كَانَ الْعِلْمُ بِخِذْلَانِهِمْ وَعَدَمِ حَظِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ قَطْعِيًّا، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَجَمَاعَةٍ، يَعْنِي الْكُفَّارَ الَّذِينَ مَاتُوا يَئِسُوا مِنَ الْجَنَّةِ، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي الْأَحْيَاءَ مِنَ الْكُفَّارِ يَئِسُوا مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ:
يَئِسَ الْيَهُودُ الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ مِنْ مَوْتَاهُمْ.
وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.
Icon