تفسير سورة الممتحنة

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

عقاص شعرها، فأحضر رسول الله - ﷺ - حاطبًا وقال له: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله! لا تعجل عليَّ، ما كنتُ كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت امرأً ملصقًا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهلهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني. فصدقه رسول الله - ﷺ - وقبل عذره. فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال - ﷺ -: إنه شهد بدرًا، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ...﴾ الآيات.
قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: أتتني أمي راغبة، فسألت النبي - ﷺ -: أَأَصِلها. قال: "نعم". فأنزل الله سبحانه فيها: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾.
وأخرج أحمد والبزار والحاكم، وصححه عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قُتيلة - مصغرًا - بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا، وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، فقدمت بهدايا صنابٍ - صباغ يتخذ من الخردل أو الزبيب وأقط وسمن - وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخل بيتها حتى أرسلت إلى عائشة أن تسأل رسول الله - ﷺ - عن هذا، فسألت، فأنزل الله: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ...﴾ الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها.
وقال الحسن وأبو صالح: نزلت الآية في خزاعة، وبني الحارث بن كعب، وكنانة، ومزينة، وقبائل من العرب كانوا صالحوا رسول الله - ﷺ - على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾؛ أي: لا تجعلوا ﴿عَدُوِّي﴾ في الدين، مفعول أول، ﴿وَعَدُوَّكُمْ﴾ في القتل، معطوف عليه، ﴿أَوْلِيَاءَ﴾؛ أي:
191
أصدقاء لأنفسكم، مفعول ثان. وأضاف (١) سبحانه العدوّ إلى نفسه تعظيمًا لجرمهم. والعدو مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة. والآية تدل على النهي عن موالاة الكفار ومصادقتهم بوجه من الوجوه. وقد تقدم ذكر القصة التي نزلت فيها الآية، وفي تلك القصة إشارة (٢) إلى جواز هتك ستر الجواسيس وهتك أستار المفسدين إذا كان فيه مصلحة أو في ستره مفسدة، وأن من تعاطى أمرًا محظورًا ثم ادعى له تأويلًا محتملًا.. قبل منه، وأن العذر مقبول عند كرام الناس.
روي: أن حاطبًا - رضي الله عنه - لما سمع: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان، لما علم أن الكتاب المذكور ما أخرجه عن الإيمان؛ لسلامة عقيدته. ودل قوله: ﴿وَعَدُوَّكُمْ﴾ على إخلاصه؛ فإن الكافر ليس بعدو للمنافق بل للمخلص.
﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: توصلون إلى أولئك الأعداء ﴿بِالْمَوَدَّةِ﴾؛ أي: بالمحبة بالكتاب. والمودة: محبة الشيء وتمني كونه، ويستعمل في كل واحد من المعنيين. أي: توصلون محبتكم بالمكاتبة ونحوها من الأسباب التي تدل على المودة، على أن الباء زائدة في المفعول، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ﴾. أو تلقون إليهم أخبار النبي - ﷺ - وأسراره بسبب المودة، التي بينكم وبينهم. فيكون المفعول محذوفًا للعلم به، والباء للسببية، والجملة حال من فاعل ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾؛ أي: لا تتخذوهم أولياء حال كونكم ملقين المودة إليهم. ويجوز (٣) أن تكون الجملة مستأنفة لقصد الإخبار بما تضمنته، أو لتفسير موالاتهم إياهم. ويجوز أن تكون في محل نصب صفة لأولياء. وفي "فتح الرحمن": بدأه هنا بـ ﴿تُلْقُونَ﴾ وفيما سيأتي بـ ﴿تُسِرُّونَ﴾ تنبيهًا بالأول على ذم مودة الأعداء جهرًا وسرًا، وبالثاني على تأكيد ذمها سرًا، وخص الأول بالعموم لتقدمه.
فإن قلت (٤): قد نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقًا في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾، والتقييد بالحال يوهم جواز اتخاذهم أولياء إذا
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
192
انتفى الحال.
قلت: عدم جوازه مطلقًا لما علم من القواعد الشرعية تبين أنه لا مفهوم للحال هنا ألبتة.
فإن قلت: كيف قال: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ والعداوة والمحبة لكونهما متنافيين لا يجتمعان في محل واحد، والنهي عن الجمع بينهما فرع إمكان اجتماعهما؟
قلت: إنما كان الكفار أعداء للمؤمنين بالنسبة إلى معاداتهم لله ورسوله، ومع ذلك يجوز أن يتحقق بينهم الموالاة والصداقة بالنسبة إلى الأمور الدنيوية والأغراض النفسانية، فنهى الله عن ذلك.
وجملة قوله: ﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ﴾ حال من فاعل ﴿تُلْقُونَ﴾ أو من فاعل ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان حال الكفار. و ﴿الْحَقِّ﴾ هو القرآن، أو دين الإِسلام، أو الرسول - ﷺ -.
وقرأ الجمهور (١) ﴿بِمَا جَاءَكُمْ﴾ بالباء الموحدة. وقرأ الجحدري والمعلى عن عاصم ﴿لما جاءكم﴾ باللام مكان الباء. أي: لأجل ما جاءكم من الحق، على حذف المكفور به. أي: كفروا بالله والرسول لأجل ما جاءكم من الحق، أو على جعل ما هو سبب للإيمان سببًا للكفر توبيخًا لهم.
والمعنى (٢): يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا الكفار أنصارًا وأعوانًا وأصدقاه لكم، حال كونكم توصلون إليهم أخبار الرسول - ﷺ - التي لا ينبغي لأعدائه أن يطلعوا عليها، من خطط حربية أو أعمال نافعة في نشر دِينه وبث دعوته، بسبب ما بينكم وبينهم من مودة.
ثم ذكر مما يمنع هذا الاتخاذ أمرين:
١ - ﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ...﴾ إلخ. أي: والحال أنهم قد كفروا بالله ورسوله، وكتابه الذي أنزله عليكم، فكيف بكم بعد هذا تجعلونهم أنصارًا وتسرون إليهم بما ينفعهم ويضر رسولكم ويعوق نشر دينكم!؟
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
193
٢ - ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ﴾ حال من فاعل كفروا؛ أي: كفروا مخرجين الرسول وإياكم من مكة. والمضارع لاستحضار الصورة الماضية.
وقوله تعالى: ﴿أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ تعليل للإخراج. أي: يخرجونكم لأجل إيمانكم، أوراهة أن تؤمنوا. وفيه (١) تغليب المخاطب على الغائب. أي: على الرسول. والالتفات من التكلم إلى الغيبة، حيث لم يقل: أن تؤمنوا بي للإشعار بما يوجب الإيمان من الألوهية والربوبية؛ أي: يخرجون الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، ولم يكن لهم جريمة سوى ذلك. وفي هذا تهييج لهم على عداوتهم وعدم موالاتهم.
ثم زادهم تهييجًا بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ﴾ من مكة إلى المدينة ﴿جِهَادًا فِي سَبِيلِي﴾ ونشر ديني ﴿وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي﴾؛ أي: وطلبًا لمرضاتي. وهذا مرتبط بـ ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾، وجواب الشرط محذوف؛ أي: إن كنتم كذلك.. فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، فكأنه قيل: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وانتصاب ﴿جِهَادًا﴾. ﴿وَابْتِغَاءَ﴾ على أنهما مفعولان لأجله لـ ﴿خَرَجْتُمْ﴾. أي: إن كنتم خرجتم عن أوطانكم لأجل هذين.. فلا تتخذوهم أولياء، ولا تلقوا إليهم بالمودة. أو على الحال؛ أي (٢): إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين مرضاتي عنكم.. فلا توالوا أعدائي وأعداءكم، وقد أخرجوكم من دياركم حنقًا عليكم وسخطًا لدينكم. والجهاد - بالكسر -: القتال مع العدو، كالمجاهدة، كما سيأتي بسطه. والمرضاة: مصدر كالرضا. وفي عطف ﴿وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي﴾ على ﴿جِهَادًا فِي سَبِيلِي﴾ تصريح بما علم التزامًا. فإن الجهاد في سبيل الله إنما هو لإعلاء دين الله لا لغرض آخر. وإسناد الخروج إليهم معللًا بالجهاد والابتغاء يدل على أن المراد من إخراج الكفرة كونهم سببًا لخروجهم بأذيتهم لهم، فلا ينافي تلك السببية كون إرادة الجهاد والابتغاء علة له.
وقوله: ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ والنصيحة، استئناف وارد على (٣) نهج العتاب والتوبيخ، كأنهم سألوا: ماذا صدر عنا حتى عوتبنا؟ فقيل: تلقون إليهم بالمودة سرًا على أن الباء صلة جيء بها لتأكيد التعدية، أو الإخبار بسبب المودة، ويجوز أن يكون تعدية الإسرار بالباء لحمله على نقيضه الذي هو الجهر. وقيل: هو بدل من
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
194
قوله: ﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ﴾ بدل بعض لأن إلقاء المحبة يكون سرًا وجهرًا.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَا أَعْلَمُ﴾ حال من فاعل ﴿تُسِرُّونَ﴾؛ أي: تسرون إليهم بالمودة والنصيحة، والحال أني أعلم منكم ﴿بِمَا أَخْفَيْتُمْ﴾؛ أي: بما أضمرتم في صدوركم من مودة الأعداء ﴿وَمَا أَعْلَنْتُمْ﴾؛ أي: وما أظهرتم بألسنتكم من الاعتذار وغير ذلك. فإذا علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي.. فأي فائدة في الإسرار والاعتذار. والباء في ﴿بِمَا﴾ زائدة، يقال: علمت كذا، وعلمت بكذا. وهذا على أن ﴿أَعْلَمُ﴾ مضارع. وقيل: هو أفعل تفضيل. أي: أعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون.
ثم توعد من يفعل ذلك، وشدد النكير عليه، وذكر ما فيه أعظم الزجر، فقال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ﴾؛ أي: يفعل الاتخاذ المنهي عنه. أي: ومن يفعل ﴿مِنْكُمْ﴾ أيها المؤمنون ما نهيت عنه من موالاتهم. والأقرب عَوْدُ الضمير إلى الإسرار. أي: ومن يفعل إسرار النصيحة للكفار ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ وأخطأ ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾؛ أي: طريق الحق والصواب الموصل إلى الفوز بالسعادة الأبدية. وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. و ﴿ضَلَّ﴾ متعد، و ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ مفعوله. ويجوز أن يجعل قاصرًا وينتصب ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ على الظرفية.
قال القرطبي (١): هذا كله معاتبة لحاطب وهو يدل على فضله ونصيحته لرسول الله - ﷺ - وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من حبيب لحبيب كما قيل من الوافر:
إِذَا ذَهَبَ الْعِتَابُ فَلَيْسَ وُدٌّ وَيَبْقَى الْوُدُّ مَا بَقِيَ الْعِتَابُ
والعتاب: إظهار الغضب على أحد لشيء مع بقاء المحبة بالترك. وقال بعضهم: العتاب: لوم الحبيب حبيبه على أمر غير لائق به، كما في الدمنهوري في العروض.
وفي الآية (٢) إشارة إلى عداوة النفس والهوى والشيطان، فإنها تبغض عبادة الله، وتبغض عباد الله أيضًا إذا لم يكونوا مطيعين لها في إنفاذ شهواتها وتحصيل
(١) قرطبي.
(٢) روح البيان.
195
مراداتها. وأصل عداوة النفس: أن تقطعها من مألوفاتها، وتحبسها في مجلس المجاهدة. وعلامة حب الله: بغض عدو الله. وقال - ﷺ -: "أفضل الإيمان: الحب في الله والبغض في الله".
والمعنى (١): ومن يفعل هذه الموالاة، ويبلغ أخبار الرسول - ﷺ - لأعدائه.. فقد جار عن قصد الطريق التي توصل إلى الجنة ورضوان الله تعالى.
٢ - ثم ذكر أمورًا أخرى تمنع موالاتهم، فقال:
١ - ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ﴾؛ أي: يظفروا بكم، ويتمكتوا منكنم ﴿يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً﴾؛ أي: يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة، ويرتبوا عليها أحكامها، ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم. أو إن يلقوكم ويصادفوكم.. يظهروا لكم العداوة. والمعنيان متقاربان. والثَّقَفُ (٢): الحذق في إدراك الشيء وفعله، ومنه: المثاقفة: وهي: طلب مصادفة الغرة في المسابقة؛ أي: إن يظفر بكم هؤلاء الذين تسرون إليهم بالمودة.. يكونوا حربًا عليكم ويفعلوا بكم الأفاعيل.
٢ - ﴿وَيَبْسُطُوا﴾ يمدوا ويطيلوا ﴿إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ بالسوء. أي: بالقتل والأسر والضرب. ﴿و﴾ يبسطوا إليكم ﴿أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ﴾؛ أي: بالشتم والسب والطعن في دينكم.
والمعنى: أي ويمدوا أيديهم وألسنتهم لقتالكم وأذاكم وسبكم وشتمكم، فكيف ترونهم على هذه الحال، وتتخذونهم أصدقاء وأولياء؟!. ﴿وَوَدُّوا﴾؛ أي: تمنوا ﴿لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ بربكم؛ أي: ارتدادكم وكونكم مثلهم في الكفر الذي هم عليه، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة، كقوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾. فكلمة ﴿لَوْ﴾ هنا مصدرية وصيغة الماضي للإيذان بتحقق ودادتهم قبل أن يثقفوهم أيضًا، فهو معطوف على ﴿يبسطوا﴾.
والخلاصة: أن هؤلاء يودون لكم كل ضرر وأذى في دينكم ودنياكم، فكيف بكم بعد هذا تمدون إليهم حبال المودة وتوثقون عرا الإخاء؟ فهذا مما لا يرشد إليه عقل، ولا يهدي إليه دين.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
٣ - ثم ذكر أن ما جعلوه سببًا من المحافظة على الأهل والأولاد لا ينبغي أن يقدم على شؤون الذين، فقال: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿أَرْحَامُكُمْ﴾؛ أي: قراباتكم ﴿وَلَا أَوْلَادُكُمْ﴾ الذين توالون المشركين لأجلهم. وتتقربون إليهبم محاماة عليهم. جمع ولد، بمعنى: المولود، يعم الذكر والأنثى. وخصهم بالذِّكر (١) مع دخولهم في الأرحام لمزيد المحبة لهم والحنو عليهم. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بجلب نفع أو دفع ضر. ظرف لقوله: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ﴾، فيوقف عليه ويبتدأ بما بعده.
ثم بين السبب في عدم نفعهم، فقال: ﴿يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾ استئناف لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد يومئذ. أي: يفرق الله بينكم بما اعتراكم من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر. حسبما نطق به قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤)﴾ الآية. فما لكم ترفضون حق الله تعالى أي فكيف ترفضون أوامر الله تعالى لمراعاة حق من يفر منكم غدًا؟. وقيل: يفرق بين الوالد وولده وبين القريب وقريبه، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار.
والمعنى (٢): أن هؤلاء لا ينفعونكم حتى توالوا الكفار لأجلهم، كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة الكفار وترك موالاتهم. وقيل: الظرف متعلق بما بعده؛ أي: يفصل بينكم يوم القيامة.
ثم أوعد من يفعل ذلك، فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ وتقولون: ﴿بَصِيرٌ﴾ سميع، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم فيجازيكم على ذلك. وهو أبلغ من خبير؛ لأنه جعله كالمحسموس بحاسة البصر، مع أن المعلوم هنا أكثره المبصرات من الكتاب والإتيان بمن يحمل الكتاب وإعطاء الأجرة للحمل وغيرها، فهو تعالى محيط بأعمالكم جميعها ومجازيكم عليها إن خيرًا.. فخير وإن شرًا فشر، فاتقوا الله في أنفسكم واحذروه.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿يَفْصَلُ﴾ بالياء مخففًا مبنيًا للمفعول. وقرأ الأعرج، وعيسى، وابن عامر كذلك، إلا أنه مشدد، والمرفوع إما: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني، وإما ضمير المصدر المفهوم من ﴿يَفْصِلُ﴾؛ أي: يفصل
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
هو؛ أي: الفصل. وقرأ عاصم والحسن والأعمش ﴿يَفْصِلُ﴾ بالياء مخففًا مبنيًا للفاعل. وحمزة والكسائي وابن وثاب مبنيًا للفاعل بالياء المضمومة مشددًا. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنه بالنون مشددًا. وهما أيضًا وزيد بن علي بالنون المفتوحة مخففًا مبنيًا للفاعل، وأبو حيوة أيضًا بالنون المضمومة. فهذه ثمان قراءات.
٤ - ولما نهى عن موالاة الكفار.. ذكر قصة إبراهيم عليه السلام، وأن من سيرته: التبرؤ من الكفار؛ ليقتدوا به في ذلك، ويتأسوا، فقال: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾؛ أي: خصلة حميدة ﴿فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ الخليل عليه السلام، تقتدون بها وتتبعونه فيها. وقرأ الجمهور (١): ﴿إسوة﴾ بكسر الهمزة في الموضعين. وقرأ عاصم بضمها كذلك. وهما لغتان. قال الراغب: الإسوة والأسوة بالضم والكسر كالقدوة والقدوة، هي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، إن حسنًا وإن قبيحًا، وإن سارًا وإن ضارًا. والأسى - بالقصر -: الحزن، وحقيقته: إِتباع الفائت بالغم. وقوله: ﴿أُسْوَةٌ﴾: اسم كانت و ﴿لَكُمْ﴾ خبرها، و ﴿حَسَنَةٌ﴾: صفة أسوة، مقيدة إن عمت الأسوة المحمودة والمذمومة، وكاشفة مادحة إن لم تعم. و ﴿فِي إِبْرَاهِيمَ﴾: صفة ثانية لأسوة، أو متعلق بأسوة أو بحسنة، أو حال من الضمير المستتر في ﴿حَسَنَةٌ﴾، أو خبر كان، و ﴿لَكُمْ﴾: للبيان. ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾؛ أي: مع إبراهيم. معطوف على إبراهيم، وهم أصحابه المؤمنون. وقال ابن زيد: هم الأنبياء. قال الفراء: فكأنه يقول: أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم فتتبرأ من أهلك كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه.
وفي "كشف ما يلتبس من القرآن" (٢): قاله هنا بتأنيث الفعل مع الفاصل لقربه وإن جاز التذكير، وأعاده في قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ بتذكيره مع الفاصل لكثرته وإن جاز التأنيث. وإنما كرر ذلك لأن الأول في القول والثاني في الفعل، وقيل: الأول في إبراهيم والثاني في محمد - ﷺ -. انتهى.
والمعنى (٣): قد كانت خصلة حميدة حقيقة بأن يؤتسى ويقتدى بها، ويتبع أثرها في إبراهيم والذين معه. وقولهم: لي في فلان أسوة؛ أي: قدوة، من باب
(١) الشوكاني.
(٢) فتح الرحمن.
(٣) روح البيان.
198
التجريد، لا أن فلانًا نفسه هو القدوة. ويجوز أن يكون على حذف المضاف؛ أي: لي في سنته وأفعاله وأقواله. وقيل: المراد بالذين معه الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبًا منه. وقال ابن عطية: وهذا القول أرجح؛ لأنه لم يرد أن إبراهيم كان له أتباع مؤمنون في مكافحة نمرود. وفي البخاري: أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجرًا بلاد نمرود: ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك.
وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالُوا﴾ ظرف (١) لخبر كان، ومعمول له أو لكان نفسها عند من جوّز عملها في الظرف، وهو الأصح. أو بدل اشتمال من إبراهيم والذين معه. أي: وقت قولهم ﴿لِقَوْمِهِمْ﴾ أي: لقرابتهم الكفار مع أنهم أكثر من عدوكم وأقوى، وقد كان من آمن بإبراهيم أقل منكم وأضعف. ﴿إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ﴾: جمع بريء مثل: شركاء وشريك، وظريف وظرفاء. أي: بريئون من صحبتكم وقرابتكم ﴿وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ من الأصنام؛ أي: من عبادتها معكم. أظهروا البراءة أولًا من أنفسهم مبالغة، وثانيًا من عملهم الشرك، إذ المقصود من البراءة أولًا من معبودهم هو البراءة من عبادته. ويحتمل أن تكون البراءة منهم أن لا يصاحبوهم، ولا يخالطوهم، ومن معبودهم أن لا يقربوا منه ولا يلتفتوا نحوه. ويحتمل أن تكون البراءة منهم بمعنى البراءة من قرابتهم؛ لأن الشرك يفصل بين القرابات ويقطع الموالاة.
والمعنى (٢): أي قد كان لكم أيها المؤمنون قدوة حسنة في إبراهيم خليل الرحمن، تقتدون به وبالذين معه من أتباعه المؤمنين حين قالوا لقومهم الذين كفروا بالله وعبدوا الطاغوت: أيها القوم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد.
وحاصل معنى الآية: هلَّا فعلتم كما فعل إبراهيم، حيث تبرأ هو والمؤمنون معه من أبيه وقومه لكفرهم بالله وآياته؟
وقرأ الجمهور (٣): ﴿بُرَآءُ﴾ بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين، جمع بريء، كظريف وظرفاء. وقرأ عيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق: ﴿براء﴾ بكسر
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
199
الباء وهمزة واحدة بعد ألف، جمع بريء أيضًا، كظريف وظراف، وكريم وكرام. وقرأ أبو جعفر: ﴿براء﴾ بضم الباء وهمزة بعد ألف كتؤام وظؤار. وهم اسم جمع، الواحد: بريء، وتؤم، وظئر. ورويت عن عيسى، قال أبو حاتم: زعموا أن عيسى الهمداني رووا عنه ﴿بَرَاء﴾ على وزن فدال كالذي في قوله تعالى: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ في الزخرف. وهو مصدر على فعال، يوصف به المفرد والجمع.
ثم فسر هذه البراءة بقوله: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ﴾؛ أي: أنكرنا دينكم فلا نعتد بشأنكم وبآلهتكم، فهو على حذف المضاف. والكفر مجاز عن عدم الاعتداد والجحد والإنكار، فإن الذين الباطل ليس بشيء؛ إذ الدِّين الحق عند الله هو الإِسلام. ﴿وَبَدَا﴾؛ أي: ظهر ﴿بَيْنَنَا﴾ ظرف لـ ﴿بدا﴾ ﴿وَبَيْنَكُمُ﴾: معطوف عليه ﴿الْعَدَاوَةُ﴾ الظاهرة، وهي: المباينة في الأفعال والأقوال. ﴿وَالْبَغْضَاءُ﴾؛ أي: العداوة الباطنة. وهي: المباينة بالقلوب. ﴿أَبَدًا﴾؛ أي: على الدوام. أي: هذا دأبنا معكم لا نتركه. والبغض: ضد الحب. ﴿حَتَّى﴾ غاية لـ ﴿بدا﴾. ﴿تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فتنقلب العداوة حينئذٍ ولاية، والبغضاء محبة، والمقت مِقة، والوحشة ألفة. فالبغض: نفور النفس من الشيء الذي ترغب عنه. والحب: انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه.
فإن قلت: ما وجه قوله ﴿حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ ولا بدّ في الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؟
قلت: الإيمان بالله في حال وحدته يستلزم الإيمان بالجميع، مع أن المراد الوحدة الإلهية ردًا للأصنام.
قال بعض المشايخ: أسوة إبراهيم: خلة الله، والتبرؤ مما سوى الله، والتخلق بخلق الله، والتأوه والبكاء من شوق الله. وقال ابن عطاء رحمه الله تعالى: الأسوة القدوة بالخليل في الظاهر من الأخلاق الشريفة، وهو: السخاء، وحسن الخلق، واتباع ما أمر به على الكرب، وفي الباطن: الإخلاص في جميع الأفعال، والإقبال عليه في كل الأوقات، وطرح الكل في ذات الله تعالى. وأسوة رسول الله - ﷺ - في الظاهر العبادات، دون البواطن والأسرار؛ لأن أسراره لا يطيقها أحد من الخلق؛ لأنه باين الأمة بالمكان ليلة المعراج ووقع عليه تجلي الذات. انتهى.
200
أمر الله سبحانه وتعالى أصحاب رسول الله - ﷺ - أن يقتدوا بسيدنا إبراهيم عليه السلام ومن معه من الأنبياء والأولياء. ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ﴾ آزر ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ يا أبي، فليس لكم الاقتداء بإبراهيم في ذلك الاستغفار؛ لأنه إنما استغفر لأبيه لأجل موعدة وعدها إياه؛ لأنه ظن أنه أسلم، فلما مات على الكفر.. تبرأ منه، وأنتم لا تظنون إسلام الكفار الذين اتخذتموهم أولياء، فهو استثناء متصل من قوله: ﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾، وصح ذلك؛ لأن القول من جملة الأسوة، كأنه قيل: قد كانت أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله وأفعاله إلا قوله لأبيه. أو من قوله: ﴿فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ بتقدير مضاف محذوف ليصحّ الاستثناء؛ أي: قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم، إلا قوله لأبيه: ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾. أو من التبرؤ والقطيعة التي ذكرت؛ أي: لم يواصله إلا قوله. ذكر هذا ابن عطية. أو منقطع؛ أي: لكن قول إبراهيم لأبيه: ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ فلا تتأسوا به فتستغفرون للمشركين، فإنه كان من موعدة وعدها إياه. أو أن ذلك إنما وقع منه لأنه ظن أنه قد أسلم، فلما تبين له أنه عدو الله.. تبرأ منه، كما تقدم آنفًا.
والمعنى: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ﴾؛ أي: جحدنا ما أنتم عليه من الكفر، وأنكرنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله. فلا نعتد بكم وبآلهتكم، فإن ما أنتم عليه لا تقره العقول الراجحة ولا الأحلام الحصيفة، فما قيمة الأحجار والأصنام التي تتخذونها معبودات ترجون منها النفع والضرّ؟! ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ...﴾ إلخ.
﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾؛ أي (١): وها نحن أولاء قد أعلنا الحرب عليكم، فلا هوادة بيننا وبينكم، وسيكون هذا. دأبنا معكم لا نترككم بحال حتى تتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب العداوة ولاية والبغضاء محبة. ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ...﴾ إلخ؛ أي: لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو الله.. تبرأ منه.
وقد كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم، ويقولون: إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه.. فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
(١) المراغي.
201
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى...} الآيتين في سورة براءة.
والخلاصة: لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة، وتستغفروا لهم كما فعل إبراهيم لأبيه؛ لأنه إنما استغفر له قبل أن يتبين له أنه عدو الله، فلما مات على الكفر.. تبين له ذلك فترك الاستغفار، وأنتم قد استبانت لكم عداوتهم بكفرهم بالرسول وإخراجكم من الديار فلا ينبغي أن تستغفروا لهم.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ من تمام القول المستثنى، فمحله النصب على أنه حال من فاعل لأستغفرن لك؛ أي: أستغفر لك، وليس في طاقتي إلا الاستغفار دون منع العذاب إن لم تؤمن. فمورد الاستثناء نفس الاستغفار لا قيده الذي هو في نفسه من خصال الخير؛ لكونه إظهارًا للعجز وتفويضًا للأمر إلى الله تعالى.
وفي هذه الآية (١) دلالة بينة على تفضيل نبينا محمد - ﷺ - وذلك أنه حين أمر بالاقتداء به أمر على الإطلاق ولم يستثن، فقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، وحين أمر بالاقتداء بإبراهيم استثنى، وأيضًا قال تعالى في سورة الأحزاب: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦)﴾. فأطلق الاقتداء ولم يقيده بشيء.
والخلاصة: أي وليس في وسعي إلا الاستغفار لك، ولا أستطيع أن أنفعك بأكثر من هذا، فإن أراد الله عقوبتك على كفرك.. فلا أدفعها عنك.
ثم أخبر عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبرؤوا منهم، ولجؤوا إلى الله وتضرعوا إليه، فقال: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا﴾ إلخ. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان من دعاء إبراهيم وأصحابه: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا﴾ واعتمدنا في جميع أمورنا ﴿وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا﴾ بالتوبة عن المعصية والإقبال على الطاعة؛ أي: المرجع في الآخرة. وتقديم الجار والمجرور في الثلاثة لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله تعالى. وهذا من دعاء إبراهيم وأصحابه، ومما فيه أسوة حسنة يقتدى به فيها. وقيل: هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول. والتوكل: هو تفويض الأمور إلى
(١) روح البيان.
202
الله. والإنابة: الرجوع إليه بالتوبة. والمصير: المرجع إليه في الآخرة للمجازاة.
وعبارة "الكشَّاف": فإن قلت: بم اتصل به قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا﴾؟
قلت: بما قبل الاستثناء، وهو من جملة الأسوة الحسنة. ويجوز أن يكون المعنى: قولوا ربنا - أمرًا من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه وتعليمًا منه لهم - تتميمًا لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار، والاستئساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم، وتنبيهًا على الإنابة إلى الله، والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر، والاستغفار مما فرط منهم. أي: فهو مقول لقول محذوف. انتهى.
والمعنى (١): أي ربنا اعتمدنا عليك في قضاء أمورنا، ورجعنا إليك بالتوبة مما تكره إلى ما تحب وترضى، ومصيرنا إليك يوم تبعثنا من قبورنا وتحشرنا إلى موقف العرض والحساب.
٥ - قالوه بعد المجاهدة وشق العصا التجاءً إلى الله تعالى في جميع أمورهم، لا سيما في مدافعة الكفرة وكفاية شرورهم، كما ينطق به قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا﴾ بدل من الأول، وكذا قوله: ﴿رَبَّنَا﴾ فيما بعده. ﴿لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً﴾؛ أي: مفتونين ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: بأيديهم بأن تسلطهم علينا فيفتونا بعذاب لا نطيقه، فالفتنة بمعنى المفعول، وقال الزجاج (٢): لا تظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك، وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا، وقال بعضهم: ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا فتقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم فيظنوا أنهم على الحق ونحن على الباطل. ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ ما فرط منا من الذنوب وإلا كان سببًا لظهور العيوب وباعثًا للابتلاء المهروب ﴿رَبَّنَا﴾ تكرير النداء للمبالغة في التضرع والجؤار، فيكون لاحقًا بما قبله، ويجوز أن يكون سابقًا لما بعده توسلًا إلى الثناء بإثبات العزة والحكمة، والأول أظهر وعليه ميل السجاوندي حيث وضع علامة الوقف الجائز على ﴿رَبَّنَا﴾ وهو في اصطلاحه ما يجوز فيه الوصل، والفصل باعتبارين، وتلك العلامة الجيم بمسماه وهو "ج". ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب الذي لا يذل من التجأ إليه، ولا يخيب رجاء من توكل عليه. ﴿الْحَكِيمُ﴾ لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
والمعنى: واستر لنا ذنوبنا بعفوك عنها، إنك أنت الذي لا يضام من لاذ بجنابه، الحكيم في تدبير خلقه وصرفه إياهم فيما فيه صلاحهم.
٦ - ثم أعاد ما تقدم مبالغة في الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام، ومن معه، فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿فِيهِمْ﴾؛ أي: في إبراهيم ومن معه ﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ وقدوة حميدة. وكرر (١) هذا للمبالغة في الحب على الائتساء به عليه السلام، ولذلك صدر بالقسم. وجعله الطيبي من التعميم بعد التخصيص. وفي "برهان القرآن": كرر لأن الأول في القول والثاني في الفعل. وفي "فتح الرحمن": الأولى أسوة في العداوة، والثانية في الخوف والخشية. وفي "كشف الأسرار": الأولى متعلقة بالبراءة من الكفار ومن فعلهم، والثانية أمر بالائتساء بهم لينالوا من ثوابهم ما نالوا وينقلبوا إلى الآخرة كانقلابهم. ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ﴾ سبحانه بالإيمان بلقائه ﴿وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ بالتصديق بوقوعه. وقيل: يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة. أو يطمع في الخير من الله في الدنيا والآخرة؛ لأن الرجاء والخوف يتلازمان. والرجاء (٢): ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة. وفي "المفردات": الرجاء والطمع: توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة. والخوف: توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما سيأتي.
وقوله تعالى: ﴿لِمَنْ كَانَ...﴾ إلخ: بدل من ﴿لَكُمْ﴾ بدل بعض من كل، وفائدته: الإيذان بأن من آمن بالله واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم، وإنَّ تَرْكَه مِنْ مخايل عدم الإيمان بهما كما ينبىء عنه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ﴾؛ أي: يعرض عن الائتساء بهم، ويمل إلى مودة الكفار، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿هُوَ﴾ وحده ﴿الْغَنِيُّ﴾ عنه وعن سائر خلقه ﴿الْحَمِيدُ﴾؛ أي: المحمود في ذاته وصفاته وأفعاله، فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة.
أي: ومن يعرض عن الاقتداء بهم في التبرؤ من الكفار ومن والاهم.. فإن الله هو الغني وحده عن خلقه وعن موالاتهم ونصرتهم لأهل دينه، لم يتعبدهم لحاجته إليهم، بل هو ولي دينه وناصر حزبه، وهو الحميد المستحق للحمد في ذاته.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
وحاصل معنى الآية (١): أي لقد كان. لكم - أيها المؤمنون - قدوة حسنة في إبراهيم ومن آمن معه من أتباعه المؤمنين، لمن كان منكم يرجو لقاء الله وجزيل ثوابه والنجاة في اليوم الآخر. ومن أعرض عما ندبه الله إليه منكم وأدبر واستكبر ووالى أعداء الله وألقى إليهم بالمودة.. فلا يضرن إلا نفسه، فإن الله غني عن إيمانه وطاعته، بل عن جميع خلقه، محمود بأياديه وآلائه عليهم. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾.
٧ - وقال مقاتل (٢): لما أمر الله تعالى المؤمنين بعداوة الكفار شددوا في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقاربهم.. فأنزل الله تعالى قوله: ﴿عَسَى اللَّهُ﴾؛ أي: حقق الله سبحانه وتعالى ﴿أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ﴾ من كفار مكة ﴿مَوَدَّةً﴾؛ أي: محبة وصلة بمخالطتهم من أهل الإِسلام، وذلك بأن أسلموا فيصيروا من أهل دينكم، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة، وحسن إسلامهم، ووقعت بينهم وبين من تقدمهم في الإِسلام مودة، وجاهدوا وفعلوا الأفعال المقربة إلى الله سبحانه، منهم: أبو سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. ﴿وَاللَّهُ قَدِيرٌ﴾؛ أي (٣): مبالغ في القدرة، فيقدر على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾: فيغفر لمن أسلم من المشركين. ﴿رَحِيمٌ﴾: فيرحمهم بقلب معاداة قلوبهم موالاة. وقيل: غفور لما فرط منكم في موالاتهم من قبل، ولما بقي في قلوبكم من ميل رحيم.
والمعنى (٤): حقق الله أن يجعل بينكم وبين أعدائكم من كفار مكة محبة بعد البغض، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة، والله قدير على ما يشاء، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة، غفور لخطيئة من ألقى إليهم بالمودة إذا تابوا منها، رحيم بهم أن يعذبهم بعد التوبة. وقد تم ذلك بفتح مكة حين دخل المشركون في دين الله أفواجًا، وتم بينهم التصافي والتصاهر، وكان بينهم أتم ما يكون من وثيق الصلات. كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
(١) المراغي.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}. وقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)﴾.
٨ - ثم أباح لهم صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار، فقال: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ﴾ صلة ﴿الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾؛ أي: على الدين، أو في حق الدِّين وإطفاء نوره ﴿وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ وأوطانكم؛ أي: لا ينهاكم الله سبحانه عن مبرة هؤلاء، فإن قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوهُمْ﴾ وتحسنوا إليهم بدل من (١) الموصول بدل اشتمال. لأن بينهم وبين البرّ ملابسة بغير الكلية والجزئية، فكان المنهي عنه برهم بالقول وحسن المعاشرة، والصلة، بالمال لا أنفسهم. وقوله: ﴿وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ تفسير لتبروا معطوف عليه. وضمن تقسطوا معنى الإفضاء، فعدي تعديته. أي: تفضوا إليهم بالقسط والعدل ولا تظلموهم، وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين ويتحاموا ظلمهم مترجمة عن حال مسلم يجترىء على ظلم أخيه المسلم كما في "الكشاف". ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾؛ أي: العادلين في المعاملات كلها.
ومعنى الآية (٢): أن الله سبحانه لا ينهر عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم، ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل. قال ابن زيد: كان هذا في أول الإِسلام، عند الموادعة وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ. قال قتادة: نسختها آية: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾. وقيل: هذا الحكم كان باقيًا في الصلح بين النبي - ﷺ - وبين قريش، فلما زال الصلح بفتح مكة.. نسخ الحكم. وقيل: هي خاصة في حلفاء النبي - ﷺ - ومن بينه وبينه عهد، قاله الحسن. وقال الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف. وقال مجاهد: هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا. وقيل: هي خاصة بالنساء والصبيان. وحكى القرطبي - عن أكثر أهل التأويل - أنها محكمة.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
وعبارة المراغي: ومعنى الآية (١): أي لا ينهاكم الله عن الإحسان إلى الكفار الذين لم يقاتلوكم في الدِّين ولم يخرجوكم من دياركم ولم يعاونوا على إخراجكم، وهم: خزاعة وغيرهم ممن كانوا عاهدوا رسول الله - ﷺ - على ترك القتال والإخراج من الديار، فأمر الله رسوله - ﷺ - بالبر والوفاء لهم إلى مدة أجلهم.
وفي الآية مدح للعدل؛ لأن المرء به يصير محبوبًا لله سبحانه. ومن الأحاديث الصحيحة: قوله - ﷺ -: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين". والمراد بهم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا عليه.
٩ - ثم زاد الأمر إيضاحًا وبيانًا، فقال: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ وإطفاء نوره ﴿وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ وهم عتاة أهل مكة وجبابرتهم ﴿وَظَاهَرُوا﴾؛ أي: عاونوا الذين قاتلوكم ﴿عَلَى إِخْرَاجِكُمْ﴾ وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم ﴿أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾ وتناصروهم. بدل اشتمال من الموصول، كما سبق. أي: إنما ينهاكم أن تتولوهم. ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ﴾؛ أي: ومن يحبهم ويناصرهم ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ﴾ لا غيرهم ﴿الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم بإقبالها على العذاب. أي: الكاملون في الظلم؛ لأنهم تولوا من يستحق المعاداة لكونه عدوًا لله ولرسوله ولكتابه، فوضعوا المحبة موضع العداوة، فظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب. وحساب المتولي أكبر وفساد التولي أكثر، ولذلك أورد كلمة الحصر تغليظًا، وجمع الخبر باعتبار معنى المبتدأ.
والخلاصة (٢): أي إنما ينهاكم عن موالاة الذين ناصبوكم العداوة، فقاتلوكم وأخرجوكم، أو عاونوا على إخراجكم كمشركي مكة؛ فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين، وبعضهم أعان المخرجين. وأكد الوعيد على موالاتهم بقوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾؛ لأنهم تولوا غير الذين يجوز لهم أن يتولوهم، ووضعوا ولايتهم في غير موضعها، وخالفوا أمر الله في ذلك.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
207
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، و ﴿ها﴾: حرف تنبيه، جملة النداء مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: بدل من ﴿أي﴾، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، ﴿لَا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَتَّخِذُوا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والواو: فاعل، وجملة النهي جواب النداء. ﴿عَدُوِّي﴾: مفعول أول، ومضاف إليه، ﴿وَعَدُوَّكُمْ﴾: معطوف على ﴿عَدُوِّي﴾، ﴿أَوْلِيَاءَ﴾: مفعول ثان، ﴿تُلْقُونَ﴾: فعل، وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿تَتَّخِذُوا﴾. ويجوز أن تكون في موضع نصب، صفةً لأولياء ويجوز أن تكون تفسيرية، لا محل لها من الإعراب؛ لموالاتهم إياهم. وقيل: هي مستأنفة للإخبار بذلك. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿تُلْقُونَ﴾. ﴿بِالْمَوَدَّةِ﴾: متعلق بـ ﴿تُلْقُونَ﴾ أيضًا، ﴿وَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة حال من ضمير ﴿إِلَيْهِمْ﴾ أو من ﴿عَدُوِّي﴾، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾، وجملة ﴿جَاءَكُمْ﴾ من الفعل والفاعل المستتر صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿مِنَ الْحَقِّ﴾: حال من فاعل ﴿جَاءَكُمْ﴾.
﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾.
﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿وَإِيَّاكُمْ﴾: معطوف على الرسول. والجملة مستأنفة أو مفسرة لكفرهم، فلا محل لها من الإعراب على الحالين. ويجوز أن تكون حالًا من فاعل ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿تُؤْمِنُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَن﴾ ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُؤْمِنُوا﴾، ﴿رَبِّكُمْ﴾: بدل من الجلالة، وجملة ﴿أَن﴾: المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول لأجله؛ أي: يخرجون الرسول وإياكم لإيمانكم بالله ربكم. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه في. محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ والشرطية على كونه
208
فعل شرط لها، وجملة ﴿خَرَجْتُمْ﴾ خبر ﴿كنتم﴾، و ﴿جِهَادًا﴾: مفعول لأجله؛ أي: لأجل الجهاد، أو حال من فاعل خرجتم؛ أي: حال كونكم مجاهدين في سبيلي. ﴿فِي سَبِيلِي﴾: متعلق بـ ﴿جِهَادًا﴾، ﴿وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي﴾: معطوف على جهادًا، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾ أي: إن كنتم خرجتم جهادًا في سبيلي، وابتغاء مرضاتي.. فلا تتخذوهم أولياء. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿تُسِرُّونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به، ﴿بِالْمَوَدَّةِ﴾: متعلق به أيضًا، والمفعول محذوف؛ أي: تسرون إليهم النصيحة، أو ﴿الباء﴾: زائدة في المفعول، والجملة الفعلية إما مستأنفة أو بدل من ﴿تُلْقُونَ﴾ بدل بعض من كل، لأن إلقاء المودة أعم من السرّ والجهر، ﴿وَأَنَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿أنا﴾: مبتدأ، ﴿أَعْلَمُ﴾: خبر على أنه اسم تفضيل، و ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾، وجملة ﴿أَخْفَيْتُمْ﴾ صلة ﴿ما﴾ والعائد محذوف تقديره: بما أخفيتموه ﴿وَمَا أَعْلَنْتُمْ﴾ معطوف على ﴿أَخْفَيْتُمْ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل ﴿تُسِرُّونَ﴾. ويجوز أن يكون ﴿أَعْلَمُ﴾ فعلًا مضارعًا. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: استنئافية. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿يَفْعَلْهُ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا لاقتران الجواب بـ ﴿قد﴾ الحرفية، ﴿ضَلَّ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه جوابًا لها، ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾: مفعول به، وقيل: منصوب على الظرفية إن قلنا: إن ﴿ضَلَّ﴾: لازم، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢)﴾.
﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿يَثْقَفُوكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿يَكُونُوا﴾: فعل مضارع ناقص، واسمه مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، ﴿لَكُمْ﴾: حال من أعداء؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿أَعْدَاءً﴾: خبر ﴿يَكُونُوا﴾، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَيَبْسُطُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَكُونُوا﴾. ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يبسطوا﴾، ﴿أَيْدِيَهُمْ﴾: مفعول به، ﴿وَأَلْسِنَتَهُمْ﴾: معطوف عليه، ﴿بِالسُّوءِ﴾: متعلق بمحذوف حال
209
من الأيدي والألسنة، أي: حالة كونها متلبسة بالسوء. ﴿وَوَدُّوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ودوا﴾: فعل ماض وفاعل، ﴿لَوْ﴾: مصدرية، وجملة ﴿تَكْفُرُونَ﴾ صلتها، وجملة ﴿لَوْ﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ أي: وودوا كفركم. والجملة معطوفة على جملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية.
﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)﴾.
﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ﴾: فعل، ومفعول به ﴿أَرْحَامُكُمْ﴾: فاعل، ﴿وَلَا أَوْلَادُكُمْ﴾: معطوف على أرحامكم، ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿تَنْفَعَكُمْ﴾؛ أي: لن تنفعكم يوم القيامة أرحامكم، فيوقف عليه. أو متعلق بما بعده؛ أي: يفصل بينكم يوم القيامة. والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿يَفْصِلُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿بَيْنَكُمْ﴾ متعلق بـ: يفصل ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة ﴿ما﴾ الموصولة أو المصدرية، و ﴿بَصِيرٌ﴾: خبر عن الجلالة، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾.
﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق، ﴿كَانَتْ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿لَكُمْ﴾: خبرها المقدم، ﴿أُسْوَةٌ﴾: اسمها المؤخر، ﴿حَسَنَةٌ﴾: نعت لـ ﴿أُسْوَةٌ﴾. والجملة مستأنفة. ﴿فِي إِبْرَاهِيمَ﴾: نعت آخر لـ ﴿أُسْوَةٌ﴾، أو حال منها؛ لأنها وصفت، أو حال من الضمير المستكن في ﴿حَسَنَةٌ﴾، ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على إبراهيم، ﴿مَعَهُ﴾: ظرف صلة ﴿الذين﴾، ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، بدل اشتمال من قوله: ﴿فِي إِبْرَاهِيمَ﴾، وجملة ﴿قَالُوا﴾ في محل الخفض بإضافة ﴿إِذْ﴾ إليها، ﴿لِقَوْمِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿قَالُوا﴾، ﴿إِنَّا بُرَآءُ﴾ إلى قوله: ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾. وإن شئت قلت: ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه ﴿بُرَآءُ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾، ﴿مِنْكُمْ﴾؛ متعلق بـ ﴿بُرَآءُ﴾، ﴿وَمِمَّا﴾: معطوف على ﴿مِنْكُمْ﴾ وجملة ﴿تَعْبُدُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: حال من العائد المحذوف، أو
210
من ﴿ما﴾، ﴿كَفَرْنَا﴾ فعل وفاعل، و ﴿بِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿كَفَرْنَا﴾، والجملة مفسرة للتبرؤ منهم ومما يعبدون، أو حال من الضمير المستكن في ﴿بُرَآءُ﴾؛ أي: تبرأنا منكم حال كوننا كافرين بكم. ﴿وَبَدَا﴾: فعل ماضي، ﴿بَيْنَنَا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿بَدَا﴾، ﴿وَبَيْنَكُمُ﴾: معطوف على ﴿بَيْنَنَا﴾، ﴿الْعَدَاوَةُ﴾: فاعل، ﴿وَالْبَغْضَاءُ﴾: معطوف عليه، ﴿أَبَدًا﴾: متعلق بـ ﴿بَدَا﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿كَفَرْنَا﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية، ﴿تُؤْمِنُوا﴾: فعل وفاعل، منصوب بـ: أن مضمرة بعد ﴿حَتَّى﴾ الجارة، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُؤْمِنُوا﴾، ﴿وَحْدَهُ﴾: حال من الجلالة. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾؛ أي: إلى إيمانكم بالله وحده، الجار والمجرور متعلق بكل من ﴿كَفَرْنَا﴾ ﴿وَبَدَا﴾.
﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤)﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء متصل، ﴿قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ﴾: مستثنى من ﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾: منصوب؛ لأن القول من جملة الأسوة، فكأنه قيل: لكم فيه أسوة حسنة في جميع أحواله، من قول وفعل إلا قوله كذا. وقيل: هو استثناء منقطع، والمعنى: لكن قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرن لك، فلا تتأسوا فيه. ﴿لِأَبِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿قَوْلَ﴾، ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿أستغفرن﴾: فعل مضارع، في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنا. والجملة في محل النصب مقول القول، ﴿لَكَ﴾: متعلق بـ ﴿أستغفرن﴾، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية أو عاطفة؛ لأن الجملة من تمام قول إبراهيم. ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَمْلِكُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم ﴿لك﴾: متعلق بـ ﴿أَمْلِكُ﴾، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق بمحذوف حال ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾؛ لأنه في الأصل صفة لشيء، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿شَيْءٍ﴾: مفعول أملك، وجملة ﴿أَمْلِكُ﴾: في محل النصب حال من فاعل ﴿أستغفرن﴾؛ أي: لأستغفرن لك حالة كوني غير مالك لك من الله شيئًا غير استغفاري، أو معطوفة على ﴿أستغفرن﴾. ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾؛ لأنه من تتمة مقول إبراهيم ومن معه، فهو من جملة المستثنى منه، فيتأسى بهم فيه، فهو من المعنى مقدم على الاستثناء، وجملة الاستثناء اعتراضية في خلال المستثنى منه. وإن شئت
211
قلت: ﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء، وما بعدها في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾. ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿تَوَكَّلْنَا﴾، و ﴿تَوَكَّلْنَا﴾: فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾، ﴿وَإِلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿أَنَبْنَا﴾ وجملة ﴿أَنَبْنَا﴾ معطوف على ﴿تَوَكَّلْنَا﴾. ﴿وَإِلَيْكَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إليك﴾: خبر مقدم، ﴿الْمَصِيرُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على ما قبلها.
﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف أيضًا، ﴿لَا﴾: ناهية؛ أي: دعائية، سلوكًا مسلك الأدب مع الباري سبحانه، ﴿تَجْعَلْنَا﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به أول، مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الدعائية، ﴿فِتْنَةً﴾: مفعول ثان، وهو مصدر بمعنى المفعول كما قاله "البيضاوي"؛ أي: لا تجعلنا مفتونين بهم، بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا طاقة لنا باحتماله، أو بمعنى الفاعل؛ أي: لا تجعلنا فاتنين لهم بأن ينتصروا علينا، وتسول لهم أنفسهم أنهم على حق. ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿فِتْنَةً﴾ على الحالين، والجملة الفعدية في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب النداء، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، كرره للتأكيد. ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿أَنْتَ﴾: ضمير فصل أو مبتدأ، ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾ أو خبر ﴿أَنْتَ﴾ والجملة خبر ﴿إنَّ﴾. ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثان على كل حال.
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦)﴾.
﴿لَقَدْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص ﴿لَكُمْ﴾: خبر مقدم لها، ﴿فِيهِمْ﴾: حال من ﴿أُسْوَةٌ﴾ أو متعلق بـ ﴿كَانَ﴾. ﴿أُسْوَةٌ﴾: اسمها مؤخر، ﴿حَسَنَةٌ﴾: صفة ﴿أُسْوَةٌ﴾، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة مؤكدة للأولى. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور بدل بعض من كل من قوله: ﴿لَكُمْ﴾ بإعادة الجار. وقيل: بدل اشتمال ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾، وجملة ﴿يَرْجُو اللَّهَ﴾: خبر كان، ﴿وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾: معطوف على لفظ الجلالة، وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة الموصول، ﴿وَمَن﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَنْ﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يَتَوَلَّ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾
212
على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة للجواب، والجواب محذوف تقديره: فإن وبال توليه على نفسه. ﴿إن الله﴾: ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل أو مبتدأ، ﴿الْغَنِيُّ﴾: خبر لـ ﴿إن﴾ أو لـ ﴿هُوَ﴾، ﴿الْحَمِيدُ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿إن﴾ مسوقة لتعليل الجواب المحذوف.
﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧)﴾.
﴿عَسَى﴾: فعل ماض من أفعال الرجاء، ﴿اللهُ﴾: اسمها، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب، ﴿يَجْعَلَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿بَيْنَكُمْ﴾: ظرف في موضع المفعول الثاني لـ ﴿جعل﴾، ﴿وَبَيْنَ الَّذِينَ﴾: معطوف عليه، وجملة ﴿عَادَيْتُمْ﴾: صلة الموصول، والعائد محذوف؛ أي: وبين الذين عاديتموهم، ﴿مِنْهُمْ﴾: حال من ﴿الَّذِينَ﴾ أو من العائد المحذوف، ﴿مَوَدَّةً﴾: مفعول أول لـ ﴿يَجْعَلَ﴾، وجملة ﴿يَجْعَلَ﴾: صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية ﴿أنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونها خبر ﴿عَسَى﴾، ولكنه على تأويل المشتق؛ أي: عسى الله جاعلًا، أو على حذف مضاف؛ أي: ذا جعل، أو عسى، بمعنى: حق، والمصدر المؤول مفعول به؛ أي: حقق الله جَعْلَ مودة بينكم وبينهم. وجملة ﴿عَسَى﴾ مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ قَدِيرٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة معطوفة على ما قبلها، ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان للجلالة.
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)﴾.
﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾: فعل، ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿عَنِ الَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿يَنْهَاكُمُ﴾، وجملة ﴿لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ صلة الموصول، ﴿فِي الدِّينِ﴾: متعلق بـ ﴿يُقَاتِلُوكُمْ﴾، ﴿وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ﴾: معطوف على ﴿لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾، ﴿مِنْ دِيَارِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُخْرِجُوكُمْ﴾، ﴿أَن﴾: حرف نصب، ﴿تَبَرُّوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، وعلامة نصبه حذف النون، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل من ﴿الَّذِينَ﴾ بدل اشتمال؛ أي: لا ينهاكم عن برهم وصلتهم. ﴿وَتُقْسِطُوا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿تَبَرُّوهُمْ﴾، ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿تقسطوا﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
213
﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ في الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿يَنْهَاكُمُ اللهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿عَنِ الَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿يَنْهَاكُمُ﴾، وجملة ﴿قَاتَلُوكُمْ﴾ صلة الموصول، ﴿في الدِّينِ﴾: متعلق بـ ﴿قَاتَلُوكُمْ﴾، ﴿وَأَخْرَجُوكُمْ﴾: معطوف على ﴿قَاتَلُوكُمْ﴾، ﴿مِنْ دِيَارِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أخرجوكم﴾، ﴿وَظَاهَرُوا﴾: معطوف على ﴿قاتلوكم﴾ أيضًا، ﴿عَلَى إِخْرَاجِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿ظاهروا﴾، وجملة ﴿أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾ في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل من ﴿الدِّينِ﴾ بدل اشتمال مثل ما مر آنفًا. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: استنئافية، ﴿مِنْ﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿تَوَلَّوْهُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعول به، مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية، ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ، ﴿هُمُ {هُمُ﴾ ضمير فصل، ﴿الظَّالِمُونَ﴾: خبر المبتدأ، أو خبر ﴿هُمُ﴾ والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾؛ أي: ترسلون إليهم أخبار الرسول بسبب المودة التي بينكم وبينهم. وأصله: تلقيون بوزن تفعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت.. التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت القاف لمناسبة الواو. ﴿تسرون﴾: أصله: تسررون بوزن تفعلون، نقلت حركة الراء الأولى إلى السين، فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. ﴿بِالْمَوَدَّةِ﴾: الود: محبة الشيء وتمني كونه، ويستعمل في كل واحد من المعنيين. ﴿جِهَادًا في سَبِيلِي﴾: والجهاد - بالكسر -: القتال مع العدو كالمجاهدة، وفي "التعريفات": هو الدعاء إلى الدِّين الحق. وفي "المفردات": الجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، وهو جهاد العدو الظاهر، وجهاد الشيطان، وجهاد النفس، ويكون باليد واللسان. والمرضاة مصدر كالرضا. ﴿وَأَنَا أَعْلَمُ﴾: أفعل تفضيل؛ أي: من كل أحد. ويصح أن يكون فعلًا مضارعًا عدي بالباء؛ لأنك تقول: علمت بكذا. ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ﴾ في "المصباح":
214
ثقفت الشيء ثقفًا من باب تعب: أخذته، وثقفت الرجل في الحرب: أدركته، وثقفته: ظفرت به، وثقفت الحديث: فهمته بسرعة، والفاعل: ثقيف. اهـ. وفي "الروح": الثقف: الحذق في إدراك الشيء وفعله، وثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر، ثم قد تجوز به فاستعمل في الإدراك وإن لم يكن معه ثقافة كما في هذا الموضع ونحوه. اهـ.
﴿يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً﴾؛ أي: يظهروا العداوة لكم. وفيه إعلال بالإبدال، أصله: أعداو أبدلت الواو همزة لتطرفها إثر ألف أفعال الزائدة. ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾؛ أي: أخطأ طريق الحق والصواب، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، و ﴿ضَلَّ﴾: متعد، و ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾: مفعوله كما مر. ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾: أصله، وددوا، أدغمت الدال الأولى بعد تسكينها في الثانية، فهو من باب فعل، بكسر العين في الماضي، وفتحها في المستقبل. ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ﴾؛ أي: قراباتكم. قال الراغب: الرحم: رحم المرأة، وهي في الأصل: وعاء الولد في بطن أمه. ومنه: استعير الرحم للقرابة، لكونهم خارجين من رحم واحد. ﴿وَلَا أَوْلَادُكُمْ﴾: جمع ولد، بمعنى المولود، يعم الذكر والأنثى. ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ قال الراغب: الإسوة: بالكسر والأسوة بالضم كما لقدوة والقدوة وزنا ومعنى، وهي: الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر. يجمع على أسى، بضم الهمزة وكسرها. والأسى: الحزن. وحقيقته: إتباع الفائت بالغم. ﴿بُرَآءُ مِنْكُمْ﴾: جمع برىء، كظريف وظرفاء. ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا﴾ يقال: بدا الشيء بدوا وبداءً؛ أي: ظهر ظهورًا بينًا، والبادية: كل مكان يبدو ما يعن فيه؛ أي: يعرض. ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ﴾ وفي "المفردات": الرجاء والطمع: توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة. والخوف: توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة. وفي بعض كتب التفاسير: الرجاء يجيء بمعنى توقع الخير، وهو الأمل، وبمعنى توقع الشر، وهو الخوف، وبمعنى التوقع مطلقًا. وهو في الأول حقيقة، وفي الأخيرين مجاز، وفي الثاني من قبيل ذكر الشيء وإرادة ضده، وهو جائز، وفي الثالث من قبيل ذكر الخاص وإرادة العام، وهو كثير.
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾: فيه إعلال بالقلب، أصله: ينهيكم بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿تَبَرُّوهُمْ﴾: أصله: تبررونهم، حدفت نون الرفع للناصب
215
﴿إِنَّ﴾ ثم نقلت حركة الراء الأولى إلى الباء فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. فهو مضارع بر، من باب فعل بكسر العين، يفعل بفتحها. ﴿أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾ أصله: تتوليونهم، حذفت نون الرفع لدخول الناصب، وحذفت إحدى التاءين للتخفيف، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم لما التقت ساكنهّ مع واو الجماعة.. حذفت.
﴿يَتَوَلَّهُمْ﴾: أصله: يتولي بوزن يتفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وحذفت للجازم، فوزنه يتفع.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: صيغة المضارع في قوله: ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ﴾ لاستحضار الصورة الماضية.
ومنها: تغليب المخاطب على الغائب أي: على الرسول في قوله: ﴿أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾.
ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: ﴿أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾، حيث لم يقل؛ أن تؤمنوا بي، للإشعار بما يوجب الإيمان من الألوهية والربوبية.
ومنها: عطف ﴿وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي﴾ على ﴿جِهَادًا فِي سَبِيلِي﴾ تصريحًا بما علم التزامًا. فإن الجهاد في سبيل الله إنما هو لإعلاء كلمة الله ودينه، لا لغرض آخر.
ومنها: إسناد الخروج إليهم في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي﴾ إلخ. معللًا بالجهاد والابتغاء للدلالة على أن المراد من إخراج الكفرة كونهم سببًا لخروجهم بأذيتهم لهم، فلا ينافي تلك السببية كون إرادة الجهاد والابتغاء علة له.
ومنها: الطباق بين ﴿أَخْفَيْتُمْ﴾ و ﴿أَعْلَنْتُمْ﴾ في قوله: ﴿وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ﴾.
ومنها: الإتيان بصيغة الماضي في قوله: ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ للإيذان بتحقق ودادتهم قبل أن يثقفوهم.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ﴾. لأن
216
الرحم حقيقة في وعاء الولد في بطن أمه، ثم استعير للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة.
ومنها: تقديم الجار والمجرور على عامله في قوله: ﴿عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله تعالى.
ومنها: تكرير المنادى في قوله: ﴿وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا﴾ للمبالغة في التضرع والجؤار، فيكون لاحقًا بما قبله. ويجوز أن يكون سابقًا لما بعده توسلًا إلى الثناء بإثبات العزة والحكمة لله، والأول أظهر.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ ثم قال: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ...﴾ الآية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
217
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (١٣)﴾.
المناسبة
واعلم: أن الكافر المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة:
١ - أن يستمر على عناده، وإلى مثله أشار بقوله: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ...﴾ الآية.
٢ - أن يرجى منه أن يترك العناد، وإلى مثله أشار بقوله: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً﴾.
٣ - أن يترك العناد ويستسلم، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين.. اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإِسلام خوفًا من موالاة الكفار، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة فبين أحكام المهاجرات من النساء بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن موالاة المشركين وذكر الموانع التي تمنع من موالاتهم ثم أوعد على ذلك. ولما كان الأمر
218
في ذلك جد خطير في سياسة الدولة الإِسلامية ونشر الملة... كرر النهي عن موالاة الكافرين مرة أخرى، يهودًا كانوا أو نصارى؛ ليكون عظة وذكرى لحاطب بن أبي بلتعة ومن نحا نحوه ممن يفضلون توثيق الصلات الدنيوية على مصلحة الدعوة الدينية ويجعلون شؤون الدنيا مقدمة على شؤون الدين.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: أنه لما جرى الصلح مع مشركي مكة عام الحديبية على أن من أتى النبي - ﷺ - من أهل مكة يرده إليهم وإن كان مسلمًا، جاءت سُبيعة - بصيغة التصغير - بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والشعبي بالحديبية، فأقبل زوجها - وكان كافرًا، وهو صيفي بن الراهب، وقيل: مسافر المخزومي - فقال: يا محمد! أردد عليّ امرأتي فأنت شرطت ذلك، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد. فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ الآية، اهـ. "خطيب". فاستحلفها رسول الله - ﷺ - فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق، وتزوجها عمر بن الخطاب. اهـ. "بيضاوي".
وأخرج البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: أن رسول الله - ﷺ - لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ﴾ حتى بلغ ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾. فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. وأخرجه أيضًا من حديثهما بأطول من هذا، وفيه: وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله - ﷺ -، وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله - ﷺ - برجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل.
وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سببًا لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال (١):
أحدها: أنها سبيعة، وقد ذكرناه عن ابن عباس.
والثاني: أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل
(١) زاد المسير.
219
العلم، وهو المشهور.
والثالث: أميمة بنت بشر، من بني عمرو بن عوف، ذكره أبو نعيم الأصبهاني.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن منيع من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: أسلم عمر بن الخطاب فتأخرت امرأته في المشركين، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر، ومحمد بن إسحاق، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عبد الله بن عمر وزيد بن حارثة يودان رجالًا من يهود، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا...﴾ الآية.
وقيل: إن ناسًا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين يتقربون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم وطعامهم فنزلت هذه الآية، ذكره الواحدي في "أسباب النزول" (٣١٨) بغير سند، ولم يعزه لأحد، وكذلك البغوي والخازن في "تفسيرهما".
التفسير وأوجه القراءة
١٠ - ولما ذكر سبحانه حكم فريقي الكافرين في جواز البرّ والإقساط للفريق الأول دون الفريق الثاني.. ذكر حكم من يظهر الإيمان، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ﴾؛ أي (١): بدلالة ظاهر حالهن وإقرارهن بلسانهن، أو المشارفات للإيمان. ولا بعد أن تكون التسمية بالمؤمنات لكونهن كذلك في علم الله، وذلك لا ينافي امتحان غيره تعالى حال كونهن ﴿مُهَاجِرَاتٍ﴾ من بين الكفار، متنقلات إليكم. فهو حال من المؤمنات. وذلك أن النبي - ﷺ - لما صالح قريشًا يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجر إليه النساء.. أبى الله أن يرددن إلى المشركين وأمر بامتحانهن، فقال: ﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾؛ أي: فاختبروهن بما يغلب به على ظنكم موافقة قلوبهن للسانهن في
(١) روح البيان.
220
الإيمان. قيل: إنه من أرادت إضرار زوجها.. قالت سأهاجر إلى محمد - ﷺ -، فلذلك أمر النبي - ﷺ - بامتحانهن. وقرىء: ﴿مهاجرات﴾ بالرفع على البدل من المؤمنات، ذكره في "البحر".
وقد اختلف فيما كان يمتحن به (١):
فقيل: يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا لالتماس دنيا، بل حبًا لله ولرسوله ورغبة في دينه. وكان رسول الله - ﷺ - يقول للممتحنة: بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج، بالله ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض، بالله ما خرجت التماس دنيا، بالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله ورغبة في الإِسلام، بالله ما خرجت عشقًا لرجل من المسلمين؟ فإذا حلفت كذلك.. أعطى النبي - ﷺ - زوجها مهرها وما أنفق عليها، ولا يردها على زوجها.
وقيل: الامتحان: هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وقيل: ما كان الامتحان إلا بأن يتلو عليهن رسول الله - ﷺ - الآية، وهي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ﴾ إلى آخرها.
واختلف العلماء: هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا، على قولين فعلى القول بالدخول تكون هذه الآية مخصصة لذلك العهد، وبه قال الأكثر، وعلى القول بعدمه لا نسخ ولا تخصيص.
والمعنى (٢): أي إذا جاءكم - أيها المؤمنون - النساء اللاتي نطقن بالشهادة، ولم يظهر منهن ما يخالف ذلك، مهاجرات من بين الكفار.. فاختبروا حالهن، وانظروا هل توافق قلوبهن ألسنتهن، أو هن منافقات؟
ثم ذكر جملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها ليتبين أن الامتحان يفيد معرفة الظاهر فحسب، فقال: ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعْلَمُ﴾ منكم ﴿بِإِيمَانِهِنَّ﴾؛ لأنه المطلع على ما في قلوبهن، فلا حاجة له إلى الامتحان، وليس ذلك للبشر فيحتاج إليه. وفي هذا بيان أنه لا سبيل إلى الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإن ذلك مما استأثر الله
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
221
بعلمه.
﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ﴾ بعد الامتحان الذي أمرتم به ﴿مُؤْمِنَاتٍ﴾ العلم الذي يمكنكم تحصيله، وهو: الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات. وإنما سماه علمًا إيذانًا بأنه جار مجرى العلم في وجوب العمل به، ففي ﴿عَلِمْتُمُوهُنَّ﴾ استعارة كما سيأتي. ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾: من المرجع (١)، بمعنى الرد، لا من الرجوع، ولذلك عدي إلى المفعول. وهذا هو الحكم الأول.
أي: فإن غلب على ظنكم إيمانهن بالحلف وغيره مما يورث اطمئنان قلوبكم على إسلامهن.. فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين.
ثم بيَّن العلة في النهي عن رجعهن إليهم بقوله: ﴿لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ﴾؛ أي: لا المؤمنات حلًّا للكفار. وقرأ طلحة: ﴿لا هن يحللن لهم﴾. ﴿وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾؛ أي: ولا الكفار يحلون للمؤمنات، يعني: لا تحل مؤمنة لكافر لشرف الإيمان، ولا نكاح كافر لمسلمة لخبث الكفر. والتكرير إما لتأكيد الحرمة، وإلا.. لكفى نفي الحل عن أحد الجانبين، أو لأن الأول لبيان زوال النكاح الأول، والثاني لبيان امتناع النكاح الجديد. ﴿وَآتُوهُمْ﴾: وهذا هو الحكم الثاني. أي: وأعطوا أزواجهن ﴿مَا أَنْفَقُوا﴾؛ أي: مثل ما دفعوا إليهن من المهور، وذلك (٢) - أي: بيان أن المراد بـ ﴿مَا أَنْفَقُوا﴾ هو المهور - أن النبي - ﷺ - صالح عام الحديبية كفار مكة على ترك الحرب، فأمر عليًا - رضي الله عنه - أن يكتب بالصلح، فكتب: باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحوا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيه الناس على أنفسهم وأموالهم، ويكف بعضهم عن بعض، على أن من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه.. رده إليه، ومن جاء قريشًا من محمد.. لم يردوه إليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأن لا إسلال ولا إغلال، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده.. دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم.. دخل فيه. فرد رسول الله - ﷺ - أبا جندل بن سهيل، ولم يأتِ رسول الله - ﷺ - أحد من الرجال إلا ردّه في مدة العهد وإن كان مسلمًا، ثم جاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أولاهن: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط،
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
222
فقدم أخواها عمار والوليد فكلماه في أمرها ليردها إلى قريش، فنزلت الآية، فلم يردها - ﷺ - ثم أنكحها زيد بن حارثة.
ومن هذا تعلم: أن الآية بينت أن العهد الذي أعطي كان في الرجال دون النساء، ومن ثم لم يردهن حين جئن مؤمنات.
﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ وهذا هو الحكم الثالث؛ أي: لا ذنب ولا إثم عليكم أيها المؤمنون في ﴿أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾؛ أي: تنكحوا المهاجرات وتتزوجوهن بعد الاستبراء والعدة، وإن كان لهن أزواج كفار في دار الكفر. فإن إسلامهن حال بينهن وبين أزواجهن الكفار، وقد صرن من أهل دينكم ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾؛ أي: أعطيتموهن ﴿أُجُورَهُنَّ﴾؛ أي: مهورهن. وذلك بعد انقضاء عدتهن، كما تدل عليه أدلة وجوب العدة.
﴿إِذَا﴾ (١): ظرفية محضة، أو شرطية جوابها محذوف دل عليه ما تقدمها، وشرط إيتاء المهر في نكاحهن إيذانًا بأن ما أعطي أزواجهن لا يقوم مقام المهر؛ لأن ظاهر النظم يقتضي إيتاءين: إيتاء إلى الأزواج، وإيتاء إليهن على سبيل المهر. وفي "التيسير": إذا التزمتم مهورهن، ولم يرد حقيقة الأداء، كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ﴾؛ أي: يلتزموها.
والمعنى (٢): أي ولا إثم عليكم ولا حرج في نكاح هؤلاء المؤمنات المهاجرات بشرط أن تتعهدوا بالمهور، وتلتزموا بأدائها. وإنما جاز لأن الإِسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار فكان من المصلحة أن يكون لهن عائل من المؤمنين يكفل أمر أرزاقهن.
﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾: وهذا هو الحكم الرابع؛ أي: ولا تأخذوا بعقود الكافرات غير الكتابيات؛ أي: لا يكن بينكم وبين المشركات عصمة ولا علاقة زوجية. والعصم: جمع عصمة، وهي ما يعتصم به، من عقد وسبب، والمراد بها هنا: النكاح. والكوافر: جمع كافر. والكوافر (٣): طائفتان من النساء، طائفة قعدت عن الهجرة وثبتت على الكفر في دار الحرب، وطائفة ارتدت عن الهجرة ولحقت
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
223
بأزواجها الكفار. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: من كانت له امرأة كافرة بمكة.. فلا يُعدَّنَّ بها من نسائه؛ أي: لا ينبغي أن تبقى علاقة من علاقات الزوجية بين المؤمنين ونسائهم المشركات الباقيات في دار الشرك؛ لأن اختلاف الدين قطع عصمتها منه، فجاز له أن يتزوج بأربع سواها وبأختها من غير تربص وعدة؛ أي: لا تعتدوا بما كان بينكم وبينهن من العقد الكائن قبل حصول اختلاف الدين. وقال النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، فيكون قوله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا﴾ بمقابلة قوله: ﴿إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ﴾ يعني أن قوله: ﴿إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ﴾ إلخ، إشارة إلى حكم اللاتي أسلمن وخرجن من دار الكفر، وقوله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا﴾ إلخ إشارة إلى حكم المسلمات اللاتي ارتددن وخرجن من دار الإِسلام إلى دار الكفر. انتهى.
وكان (١) الكفار يزوجون المسلمين، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية. وهذا خاص (٢) بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب. وقيل: عامة في جميع الكوافر، مخصصة بإخراج الكتابيات منها. وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثني أو كتابي... لا يفرق بينهما إلا بعد انقضاء العدة. وقال بعض أهل العلم: يفرق بينهما بمجرد إسلام الزوج. وهذا إنما هو إذا كانت المرأة مدخولًا بها. وأما إذا كانت غير مدخول بها.. فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع العصمة بينهما بالإِسلام؛ إذ لا عدة عليها.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿تُمْسِكُوا﴾ بضم أوله مخففًا من أمسك الرباعي، كأكرم، وأختار هذه القراءة أبو عبيد؛ لقوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾. وقرأ أبو عمرو، ومجاهد بخلاف عنه، والحسن، وأبو العالية، وابن جبير، والأعرج: ﴿تُمسِّكوا﴾ مشدد، مضارع مسَّك المضعف. وقرأ الحسن أيضًا، وابن أبي ليلى، وابن عامر في رواية عبد الحميد، وأبو عمرو في رواية معاذ: ﴿تَمَسَّكُوا﴾ بفتح الثلاثة، مضارع تمسَّك الخماسي، من باب تفعل، حذفت منه إحدى التاءين، والأصل: تتمسكوا. وترأ الحسن أيضًا: ﴿تمسِكوا﴾ بكسر السين، مضارع مسك الثلاثي.
﴿وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ﴾ وهذا هو الحكم الخامس؛ أي: واسألوا - أيها المؤمنون - الكفار، واطلبوا منهم ما أنفقتم على نسائكم المرتدات اللاحقات بالكفار من
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
224
المهور. أي: إذا ارتدت امرأة أحدكم ولحقت بدار الكفر.. فاسألوا مهرها ممن تزوجها. ولعل (١) هذا لتطرية قلوب بعض المؤمنين بالمقابلة والمعادلة وإلا.. فظاهر حال الكرام الاستغناء. ﴿وَلْيَسْأَلُوا﴾؛ أي: وليسأل الكفار وليطلبوا منكم ﴿مَا أَنْفَقُوا﴾ من مهور أزواجهم المهاجرات إليكم. أي: وليسأل كل معاهد أسلمت امرأته وهاجرت إليكم ممن تزوجها منكم مهرها، والمراد: أن عليكم أن تؤدوا لهم ذلك.
وظاهر قوله تعالى: ﴿وَلْيَسْأَلُوا﴾ يدل على أن الكفار مخاطبون بالأحكام، وهو أمر للمؤمنين بالأداء مجازًا من قبيل إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، كما في قوله: ﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ فإنه بمعنى: وأغلظوا عليهم.
﴿ذَلِكُمْ﴾ الذي ذُكر في هذه الآية من الأحكام، أو ما ذكر من إرجاع المهور من الجهتين ﴿حُكْمُ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي: ما حكم الله سبحانه لأن يراعى. وقوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ كلام مستأنف للتأكيد والحث على الرعاية والعمل به، أو في محل النصب على الحال. قال في "فتح الرحمن": ثم نسخ هذا الحكم بعد ذلك، إلا قوله: ﴿لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بمصالحكم ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما شرعه لكم، يشرع ما تقتضيه المصلحة والحكمة البالغة. قال ابن العربي: حكم الله هذا كان مخصوصًا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع المسلمين. وقال الزهري: ولولا هذه الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله - ﷺ - وبين قريش يوم الحديبية.. لأمسك النساء ولم يردَّ الصداق، وكذا كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد.
١١ - وروي (٢): أنه لما نزلت هذه الآية.. أدى المؤمنون ما أمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن المشركين، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئًا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، وقالوا: نحن لا نعلم لكم عندنا شيئًا، فإن كان لنا عندكم شيء.. فوجهوا به، فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ﴾ الفوت: بُعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذر إدراكه. وتعديته بإلى لتضمنه معنى السبق أو الانفلات، دل عليه قوله تعالى: ﴿فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ﴾؛ أي: إلى الكفار.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
225
والمعنى: وإن سبقكم وانفلت منكم؛ أي: خرج وفر منكم فجأة من غير تردد ولا تدبر. ﴿شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾؛ أي: أحد من أزواجكم ﴿إِلَى الْكُفَّارِ﴾؛ أي: إلى دارهم. وإيقاع شيء موقع أحد للتحقير والإشباع في التعميم؛ لأن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم، والشيء لكونه أعم من الأحد أظهر إحاطة لأصناف الزوجات؛ أي: أي نوع وصنف من النساء؛ كالعربية، أو العجمية، أو الحرة، أو الأمة، أو نحوها. أو فاتكم شيء من مهور أزواجكم على حذف المضاف ليتطابق الموصوف وصفته. والزوج هنا هي المرأة. روي: أنها نزلت في أمّ الحكم بنت أبي سفيان، فرت فتزوجها ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، وأسلمت مع قريش حين أسلموا. ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾: من العقبة، وهي النوبة، والمعاقبة: المناوبة، يقال: عاقب الرجل صاحبه في كذا. أي: جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر.
والمعنى: وجاءت عقبتكم ونوبتكم من أداء المهر، بأن هاجرت امرأة الكافر مسلمة إلى المسلمين، ولزمهم أداء مهرها إلى زوجها الكافر بعدما فأتت امرأة المسلم إلى الكفار، ولزم أن يسأل مهر زوجته المرتدة ممن تزوجها منهم. شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب ونحوه؛ أي: يتناوب، وإلا.. فأداء كل واحد من المسلمين والكفار لا يلزم أن يعقب أداء الآخر؛ لجواز أن يتوجه الأداء لأحد الفريقين مرارًا متعددة من غير أن يلزم الفريق الآخر شيء وبالعكس فلا يتعاقبون في الأداء..
﴿فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ﴾؛ أي: فأعطوا من ذهبت زوجته إلى المشركين فكفرت ولم يرد عليه المشركون مهرها كما حكم الله تعالى ﴿مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا﴾؛ أي: مثل ذلك المهر الذي أنفقه عليها.
يعني (١): إن فاتت امرأة مسلم إلى الكفار ولم يعط الكفار مهرها، فإذا فاتت امرأة كافر إلى المسلمين؛ أي: هاجرت إليهم.. وجب على المسلمين أن يعطوا المسلم الذي فاتت امرأته إلى الكفار مثل مهر زوجته الفائتة من مهر هذه المرأة المهاجرة؛ ليكون كالعوض لمهر زوجته الفائتة، ولا يجوز لهم أن يعطوا مهر هذه
(١) روح البيان.
226
المهاجرة زوجها الكافر. أو المعنى (١): وإن ذهبت أزواجكم مرتدات إلى دار الشرك ولم يعطوكم المهور اللاتي دفعتم لهن ثم ظفرتم بالمشركين وانتصرتم عليهم.. فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم من الغنيمة مثل ما أنفقوا. روي عن ابن عباس: أنه يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمس، أي: قبل أن تقسم أخماسًا، كما هي القاعدة في تقسيم الغنائم كما تقدم في سورة الأنفال.
قيل: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان، كانت تحت عياض بن شداد الفهري. وفاطمة بنت أمية، كانت تحت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهي أخت أم سلمة، وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة، وزوجها عمرو بن عبدور. وهند بنت أبي جهل، كانت تحت هشام بن العاص، وكلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر - رضي الله عنه -. وأعطاهم رسول الله - ﷺ - مهور نسائهم من الغنيمة كما في "الكشاف".
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ﴾ لا بغيره من الجبت والطاغوت ﴿مُؤْمِنُونَ﴾ فإن الإيمان به تعالى يقتضي التقوى منه تعالى. أي: وخافوا الله الذي أنتم به مصدقون، فأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾ بألف. وقرأ مجاهد، والزهري، والأعرج، وعكرمة، وحميد، وأبو حيوة، والزعفراني بشد القاف وحذف الألف، والنخعي والأعرج أيضًا وأبو حيوة أيضًا، والزهري أيضًا، وابن وثاب بخلاف عنه بتخفيف القاف مفتوحة. ومسروق النخعي أيضًا، والزهري أيضًا بكسرها، ومجاهد أيضًا: ﴿فأعقبتم﴾ على وزن أفعل.
١٢ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾: نداء تشريف وتعظيم ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ﴾ حالة كونهن ﴿يُبَايِعْنَكَ﴾؛ أي: مبايعات لك؛ أي: قاصدات لمبايعتك على الإِسلام، فهي حال مقدرة. نزلت يوم الفتح. فإنه - ﷺ - لما فرغ من بيعة الرجال شرع في بيعة النساء. سميت (٣) البيعة لأن المبايع يبيع نفسه بالجنة، فالمبايعة مفاعلة من البيع. ومن عادة
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
227
الناس حين المبايعة: أن يضع أحد المتبايعين يده على يد الآخر لتكون معاملتهم محكمة مثبتة. فسميت المعاهدة بين المعاهدين مبايعة تشبيهًا لها بها في الإحكام والإبرام.
فمعنى مبايعة الأمة رسولهم: التزام طاعته، وبذل الوسع في امتثال أوامره وأحكامه، والمعاونة له، ومبايعته إياهم الوعد بالثواب، وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم في الغلبة على أعدائهم الظاهرة والباطنة، والشفاعة لهم يوم الحساب إن كانوا ثابتين على تلك المعاهدة قائمين بما هو مقتضى المواعدة، كما يقال: بايع الرجل السلطان، إذا أوجب على نفسه الإطاعة له، وبايع السلطان الرعية، إذا قبل القيام بمصالحهم وأوجب على نفسه حفظ نفوسهم وأموالهم من أيدي الظالمين.
أي: إذا جاءك المؤمنات قاصدات مبايعتك على الإِسلام و ﴿عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا﴾ من الأشياء كائنًا ما كان، من حَجَر أو شجر، أو ملك أو إنس أو جن، أو شيئًا من الإشراك ظاهرًا أو خفيًا. والظاهر: أن المراد الشرك الأكبر. ويجوز التعميم له وللشرك الأصغر الذي هو الرياء.
فالمعنى: يبايعنك على أن لا يتخذن إلهًا غير الله، ولا يعملن إلا خالصًا لوجهه. وهذا كان يوم فتح مكة؛ فإن نساء أهل مكة أتين رسول الله - ﷺ - يبايعنه، فأمره الله تعالى أن يأخذ عليهن أن لا يشركن ﴿وَلَا يَسْرِقْنَ﴾؛ أي: ولا يأخذن مال أحد بغير حق. ويكفي في قبح السرقة أن النبي - ﷺ - لعن السارق. والسرقة لغة: أخذ ما ليس له خفية، وشرعًا: أخذ مال مخصوص، من موضع مخصوص، على وجه مخصوص، كما سيأتي. ﴿وَلَا يَزْنِينَ﴾: والزنا: وطء المرأة من غير عقد شرعي. قال مُظهر الدِّين: الزنا في اللُّغة: عبارة عن المجامعة في الفرج على وجه الحرام. ويدخل فيه اللواطة، وإتيان البهائم، انتهى. قال - ﷺ -: "يقتل الفاعل والمفعول به". وثبت أن عليًا رضي الله عنه أحرقهما، وأن أبا بكر - رضي الله عنه - هدم عليهما حائطًا. وذلك بحسب ما رأيا من المصلحة. وقال - ﷺ -: "ملعون من أتى امرأته في دبرها". وأما الإتيان من دبرها في قبلها.. فمباح.
قال في "اللباب": اتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض، واختلفوا في وجوب الكفارة على من جامع فيه.
228
فذهب أكثرهم إلى أنه لا كفارة عليه، فيستغفر.
وذهب قوم إلى وجوب الكفارة عليه. انتهى.
وقال - ﷺ -: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه". وقيل لابن عباس - رضي الله عنهما -: ما شأن البهيمة؟ قال: ما سمعت فيها من رسول الله شيئًا، ولكن أكره أن يحل لحمها وينتفع بها كذلك. ولعل إسناد الفعل إليها باعتبار تمكينها للزاني ومطاعتها له.
﴿وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ بأي سبب. وأريد به هنا: ما تفعله الجاهلية من وأد البنات؛ أي: دفنهن أحياء خوف العار والفقر. وقال - ﷺ -: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي". ولعل (١) إسناد الفعل إلى النساء إما باعتبار الرضا به أو بمباشرته بأمر زوجها. وقيل: معناه: ولا يشربن دواء فيسقطن حملهن كما في "تفسير أبي الليث". وفي "نصاب الاحتساب": تمنع القابلة من المعالجة لإسقاط الولد بعدما استبان خلقه ونفخ فيه الروح. ومدة الاستبانة والنفخ مقدرة بمئة وعشرين يومًا، وأما قبله.. فقيل: لا بأس به كالعزل، وقيل: يكره؛ لأن مآل الماء الحياة، كما إذا أتلف مُحرم بيضة صيد الحرم.. ضمن؛ لأن مآلها الحياة، فلها حكم الصيد، بخلاف العزل؛ لأن ماء الرجل لا ينفخ فيه الروح إلا بعد صنع آخر، وهو الإلقاء في الرحم، فلا يكون مآله الحياة. وقرأ علي والحسن والسلمي: ﴿ولا يُقَتِّلْنَ﴾ مشددًا.
﴿وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ﴾ وكذب ﴿يَفْتَرِينَهُ﴾؛ أي: يختلقنه ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾؛ أي: بسبب صبي ملتقط من غير أزواجهن يحملنه بين أيديهن وأرجلهن؛ أي: ولا يلحقن بأزواجهن ولدًا ليس منهم. والباء للتعدية. والبهتان: الكذب الذي يبهت المكذوب عليه؛ أي: يدهشه ويجعله متحيرًا، فيكون أقبح أنواع الكذب. والافتراء: الاختلاق، وقوله: ﴿يَفْتَرِينَهُ﴾ إما في موضع جر على أنه صفة لبهتان، أو نصب على أنه حال من فاعل ﴿يَأْتِينَ﴾، وقوله: ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾ متعلق بمحذوف هو حال من الضمير المنصوب في ﴿يَفْتَرِينَهُ﴾؛ أي: يختلقنه، مقدرًا وجوده بين أيديهن وأرجلهن، على أن يكون المراد، بالبهتان: الولد المبهوت به، كما ذهب إليه جمهور
(١) روح البيان.
229
المفسرين.
وليس المعنى على نهيهن عن أن يأتين بولد من الزنا فينسبنه إلى الأزواج؛ لأن ذلك نهى عنه بقوله: ﴿وَلَا يَزْنِينَ﴾ بل المراد: نهيهن عن أن يلحقن بأزواجهن ولدًا التقطنه من بعض المواضع. وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك في بطني الذي بين يدي ووضعته من فرجي الذي هو بين رجلي، فكنى عنه بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها؛ لأن بطنها الذي تحمله فيه بين يديها ومخرجه بين رجليها.
والمعنى: ولا يجئن بصبي ملتقط من غير أزواجهن، فإنه افتراء وبهتان لهم. والبهتان من الكبائر التي تتصل بالشرك.
﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾؛ أي: ولا يخالفن أمرك فيما تأمرهن به وتنهاهن عنه، على أن المراد من المعروف: الأمور الحسنة التي عرف حسنها في الدين فيؤمر بها، والشؤون السيئة التي عرف قبحها فيه فينهى عنها. كما قيل: كل ما وافق طاعة الله فعلًا أو تركًا.. فهو معروف، وكما روي عن بعض أكابر المفسرين من أنه هو: النهي عن النياحة والدعاء بالويل، وتمزيق الثوب وحلق الشعر ونتفه ونشره، وخمش الوجه، وأن تحدث المرأة الرجال إلا ذا رحم محرم، وأن تخلو برجل غير محرم، وأن تسافر إلا مع ذي رحم محرم. فيكون هذا للتعميم بعد التخصيص. ويحتمل أن يكون المراد من المعروف: ما يقابل المنكر، ويكون ما قبله للنهي عن المنكر، وهذا للأمر بالمعروف لتكون الآية جامعة لهما.
والتقييد بالمعروف مع أن الرسول - ﷺ - لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، فإذا شرط ذلك في طاعة النبي - ﷺ -.. فكيف في حق غيره؟ وهو كقوله: ﴿إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، كما في "عين المعاني" فدل على أن طاعة الولاة لا تجب في المنكر. ولم يقل: ولا يعصين الله؛ لأن من أطاع الرسول.. فقد أطاع الله، ومن عصاه.. فقد عصى الله. وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهن لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن. ووجه الترتيب بين هذه المنهيات: أنه قدم الأقبح على ما هو أدنى قبحًا منه ثم كذلك إلى آخرها، ولذا قدم ما هو الأظهر والأغلب فيما بينهن.
230
وقال صاحب "اللباب": ذكر الله تعالى في هذه الآية لرسول الله - ﷺ - في صفة البيعة خصالًا ستًا هنّ أركان ما نهي عنه في الدين، ولم يذكر أركان ما أمر به، وهي أيضًا ست: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، والاغتسال من الجنابة. وذلك لأن النهي عنها دائم في كل زمان وفي كل حال، فكان التنبيه على اشتراط الدائم أهم وآكد.
﴿فَبَايِعْهُنَّ﴾: جواب لـ ﴿إِذَا﴾ الشرطية، فهو العامل فيها، فإن الفاء لا تكون مانعة. وهو أمر من المبايعة. أي: إذا بايعنك على ما ذكر، وما لم يذكر؛ لوضوح أمره وظهور أصالته في المبايعة من الصلاة والزكاة وسائر أركان الدين وشعائر الإِسلام.. فبايعهن بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء. فإن المبايعة من جهة الرسول هو الوعد بالثواب، ومن جهة الآخر التزام طاعته كما سبق. وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها. ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ﴾؛ أي: واطلب من الله سبحانه المغفرة لهن زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب. والاستغفار: طلب المغفرة للذنوب والستر للعيوب. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: مبالغ في المغفرة والرحمة، فيغفر لهن ويرحمهن إذا وفين بما بايعن عليه.
والمعنى (١): أي أيها النبي: إذا جاءك النساء المؤمنات مقدمات لك الطاعة، ملتزمات أن لا يشركن بالله شيئًا من صنم أو حجر، ولا يسرقن من مال الناس شيئًا، ولا يزنين، ولا يئدن البنات كما كن يفعلن ذلك في الجاهلية، ولا يلصقن أولاد الأجانب بأزواجهن كذبًا وبهتانًا، ولا يعصينك فيما تأمرهن به أو تنهاهن عنه؛ كالنوح وتمزيق الثياب وجز الشعر وشق الجيوب وخمش الوجوه، وأن لا تخلو امرأة بغير ذي رحم محرم.. فبايعهن على ذلك، والتزم لهن الوفاء بالثواب إن هنّ أطعنكم في كل ذلك، واطلب لهن المغفرة من الله، إنه هو الغفور الرحيم لهن إذا وفين بما بايعن عليه.
قال ابن الجوزي: وجملة من أحصي من المبايعات: أربع مئة وسبع وخمسون امرأة. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان رسول الله - ﷺ - يبايع النساء
(١) المراغي.
231
بالكلام بهذه الآية على أن لا يشركن بالله شيئًا وما مست يد رسول الله - ﷺ - يد امرأة لا يمكلها). متفق عليه.
١٣ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا﴾؛ أي: لا تتخذوا قومًا من الكفار أولياء وأصدقاء وأحباء وأودّاء. وقوله: ﴿غَضِبَ اللَّهُ﴾ سبحانه، وسخط ﴿عَلَيْهِمْ﴾ صفة قومًا. وهم (١) جميع طوائف الكفرة، وقيل: اليهود خاصة، وقيل: المنافقون خاصة. وقال الحسن: اليهود والنصارى. والأول أولى؛ لأن جميع طوائف الكفر تتصف بأن الله سبحانه غضب عليهم.
أي: لا تتخذوا اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم واستحقوا الطرد من رحمته أولياء لكم وأصدقاء، تسرون إليهم بما يضر نشر الدعوة ويحول دون تقدم شؤون الملة.
وقوله تعالى: ﴿قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ﴾ صفة ثانية لـ ﴿قَوْمًا﴾. و ﴿مِنَ﴾ لابتداء الغاية؛ أي: إنهم لا يوقنون بالآخرة ألبتة بسبب كفرهم ﴿كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾؛ أي: كيأسهم من بعث موتاهم؛ لاعتقادهم عدم البعث؛ لأنهم لا يوقنون بالآخرة البتة بسبب كفرهم، فـ ﴿مِنَ﴾ لابتداء الغاية.
أي: قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها؛ لعنادهم رسول الله - ﷺ - المبشر به في كتابهم المؤيد بالآيات البينات والمعجزات الباهرات، فهم قد أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم له، وعلموا أن لا سبيل لهم إلى نيل نعيمها كما يئس الكفار من بعث موتاهم؛ لأنهم لا يعتقدون ببعث ولا نشور. وقيل: كما يئس الكفار الذين قد ماتوا منهم من الآخرة؛ لأنهم قد وقفوا على الحقيقة، وعلموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة. فـ ﴿مِنَ﴾ بيانية على هذا المعنى. والأول أولى.
والخلاصة (٢): يا أيها الذين آمنوا: لا تتولوا قومًا مغضوبًا عليهم، قد يئسوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة؛ لعنادهم رسول الله - ﷺ - وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة، كما فيض الكفار من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء.
(١) الشوكاني.
(٢) النسفي.
232
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أَيّ﴾: منادى نكرة، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد، ﴿الَّذِينَ﴾: بدل من ﴿أي﴾، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلته. وجملة النداء مستأنفة. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، ﴿مُهَاجِرَاتٍ﴾: حال من ﴿الْمُؤْمِنَاتُ﴾، ﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾ وجوبًا، ﴿امْتَحِنُوا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، و ﴿الهاء﴾: مفعول به. والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿اللهُ﴾: مبتدأ، ﴿أَعْلَمُ﴾: خبر، ﴿بِإِيمَانِهِنَّ﴾: متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾، والجملة معترضة. ﴿فإن﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿عَلِمْتُمُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿مُؤْمِنَاتٍ﴾: مفعول ثان، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿ترجعوا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، و ﴿الواو﴾: فاعل، و ﴿الهاء﴾: مفعول به، ﴿إِلَى الْكُفَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿تَرْجِعُوهُنَّ﴾. والجملة في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إذًا﴾. ﴿لَا﴾: نافية، ﴿هُنَّ﴾: مبتدأ، ﴿حِلٌّ﴾: خبر، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿حِلٌّ﴾، والجملة الاسمية جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها علة لقوله: ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ﴾. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: نافية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَحِلُّونَ﴾: خبره. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على كونها معللة للنهي المذكور قبلها. ﴿لَهُنَّ﴾: متعلق بـ ﴿يَحِلُّونَ﴾. ﴿وَآتُوهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿آتُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿مَا﴾: مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿لا ترجعوهن﴾، وجملة ﴿أَنْفَقُوا﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: نافية للجنس، ﴿جُنَاحَ﴾: في محل
233
النصب اسمها، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبرها، وجملة ﴿لا﴾ النافية معطوفة على ما قبلها، ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿تَنْكِحُوهُنَّ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾، و ﴿الواو﴾: فاعل، و ﴿الهاء﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية. ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: في نكاحهن، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جُنَاحَ﴾. ﴿إِذَا﴾: ظرف مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ ﴿تَنْكِحُوهُنَّ﴾ أو بـ ﴿جُنَاحَ﴾، ﴿آتَيْتُمُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿أُجُورَهُنَّ﴾: مفعول ثان. والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها.
﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية، ﴿تُمْسِكُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، ﴿بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تُمْسِكُوا﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَاسْأَلُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ما قبله، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿أَنْفَقُوا﴾: صلته، والعائد محذوف، ﴿وَلْيَسْأَلُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: لام الأمر، ﴿يسألوا﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، و ﴿الواو﴾: فاعل، والجملة معطوفة على ما قبلها، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿أَنْفَقُوا﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾، والعائد محذوف. ﴿ذَلِكُمْ﴾: مبتدأ، ﴿حُكْمُ اللَّهِ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿يَحْكُمُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿وَاللَّهُ﴾، ﴿بَيْنَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَحْكُمُ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة، أو حال من الجلالة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر أول، ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان. والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)﴾.
﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إنْ﴾: حرف شرط ﴿فَاتَكُمْ﴾: فعل ومفعول به في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿شَيْءٌ﴾: فاعل، ﴿مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾: صفة لـ ﴿شَيْءٌ﴾، ﴿إِلَى الْكُفَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿فَاتَكُمْ﴾، ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾: ﴿الفاء﴾:
234
عاطفة، ﴿عاقبتم﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿فَاتَكُمْ﴾، ﴿فَآتُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إنْ﴾ وجوبًا، ﴿أتوا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول أول، والجملة الطلبية في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إنْ﴾: الشرطية معطوفة على جملة ﴿إذَا﴾ الشرطية على كونها جوابًا للنداء، ﴿ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ﴾: فعل وفاعل والجملة صلة ﴿الَّذِينَ﴾، ﴿مِثْلَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿آتوا﴾ وهو مضاف ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، وجملة ﴿أَنْفَقُوا﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿آتُوا﴾، ﴿الَّذِي﴾: صفة للجلالة، ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ، ﴿بِهِ﴾: متعلق بما بعده، ﴿مُؤْمِنُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية صلة الموصول.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، (أي): منادى نكرة مقصودة، ﴿النَّبِيُّ﴾: بدل منه، والجملة مستأنفة. ﴿إذا﴾: ظرف مضمن معنى الشرط، ﴿جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ﴾: فعل ومفعول وفاعل والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذَا﴾ إليها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿يُبَايِعْنَكَ﴾: فعل وفاعل، ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من المؤمنات. أي: حالة كونهن طالبات منك المبايعة. ﴿عَلَى﴾: حرف جر، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿لا﴾: نافية، ﴿يُشْرِكْنَ﴾: فعل مضارع في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية، مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، والنون فاعل، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُشْرِكْنَ﴾، ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، أو مفعول مطلق. والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلَى﴾ تقديره: على عدم إشراكهن بالله شيئًا، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُبَايِعْنَكَ﴾، ﴿وَلَا يَسْرِقْنَ﴾: فعل وفاعل في محل النصب معطوف على ﴿يُشْرِكْنَ﴾، ﴿وَلَا يَزْنِينَ﴾: فعل وفاعل معطوف أيضًا على ﴿يُشْرِكْنَ﴾. ﴿وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿يُشْرِكْنَ﴾، ﴿وَلَا يَأْتِينَ﴾: فعل وفاعل معطوف أيضًا على ﴿يُشْرِكْنَ﴾، ﴿بِبُهْتَانٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَأْتِينَ﴾، ﴿يَفْتَرِينَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿بهتان﴾، ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ﴾: متعلق بـ ﴿يفترين﴾،
235
﴿وَأَرْجُلِهِنَّ﴾: معطوف على ﴿أَيْدِيهِنَّ﴾، ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿يُشْرِكْنَ﴾، ﴿فِي مَعْرُوفٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَعْصِينَكَ﴾.
﴿فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿فَبَايِعْهُنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿بايعهن﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على النبي، ومفعول به، والجملة الفعلية جواب: ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿وَاسْتَغْفِرْ﴾: فعل وفاعل مستتر، معطوف على ﴿بايعهن﴾، ﴿لَهُنَّ﴾: متعلق بـ ﴿استغفر﴾. ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به: ﴿إن اللهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿غَفُورٌ﴾: خبره، ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان له، وجملة ﴿إن﴾ جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (١٣)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿الَّذِينَ﴾: بدل من ﴿أي﴾، والجملة مستأنفة. وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول، ﴿لَا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَتَوَلَّوْا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، و ﴿الواو﴾: فاعل، ﴿قَوْمًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿غَضِبَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، والجملة صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق، ﴿يَئِسُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنَ الْآخِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يَئِسَ﴾. والجملة الفعلية في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿قَوْمًا﴾. ﴿كَمَا﴾: ﴿الكاف﴾: حرف جر وتشبيه ﴿ما﴾ مصدرية، ﴿يَئِسَ الْكُفَّارُ﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾: متعلق بـ ﴿يبَسَ﴾ أو حال من ﴿الْكُفَّارُ﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، أي: كيأسهم من أصحاب القبور، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: يئسوا من الآخرة يأسًا كائنًا كيأسهم من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾؛ أي: فاختبروهن بما يغلب به على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنتهن في الإيمان. ﴿عَلِمْتُمُوهُنَّ﴾: ظننتموهن بالحلف وظهور الأمارات. {فَلَا
236
تَرْجِعُوهُنَّ}؛ أي: لا تردوهن، من المرجع بمعنى: الرد، لا من الرجوع، كما مر. ﴿حِلٌّ لَهُمْ﴾: وزنه فعل بكسر الفاء، فهو لفيف، وهو ما كان عينه ولامه من جنس واحد. ﴿يَحِلُّونَ﴾ أصله: يحللون، بوزن يفعلون، نقلت حركة اللام الأولى إلى الحاء، فسكنت فأدغمت في اللام الثانية. ﴿وَآتُوهُمْ﴾ أصله: أأتيوهم، بوزن أفعلوهم، نظير: أكرموهم، أبدلت الهمزة الثانية الساكنة ألفًا حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى، ثم حذفت حركة الياء للتخفيف، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وضمت التاء لمناسبة الواو، فصار آتوهم، ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ يقال: جنحت السفينة؛ أي: مالت إلى أحد جانبيها، وسمي الإثم المائل بالإنسان عن الحق جُناحًا، ثم سمي كل إثم جُناحًا. ﴿بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ والعصم: جمع عصمة، وهي: ما يعتصم به، من عقد وسبب، وهي هنا عقد النكاح. والكوافر: جمع كافرة، كضوارب في ضاربة.
﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ﴾: فيه إعلال بالقلب، أصله: فوتكم، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. والفوت: بُعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذر إدراكه. ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾: من العقبة، وهي النوبة، والمعاقبة: المناوبة. يقال: عاقب الرجل صاحبه في كذا؛ أي: جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر. والمعنى: وجاءت عقبتكم ونوبتكم من أداء المهر. ﴿وَلَا يَسْرِقْنَ﴾ والسرقة: أخذ ما ليس له أخذه خفية. ﴿وَلَا يَزْنِينَ﴾ والزنا: وطء المرأة من غير عقد شرعي أو ملك يمين، يقصر، وإذا مد.. يصح أن يكون مصدر المفاعلة. ﴿وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ﴾ والبهتان: الكذب الذي يبهت المكذوب عليه؛ أي: يدهشه ويجعله متحيرًا، فيكون أقبح أنواع الكذب. وهو في الأصل مصدر، يقال: بهت زيد عمرًا بهتًا وبهتًا وبهتانًا؛ أي: قال عليه ما لم يفعله، فزيد باهت وعمرو مبهوت، والذي بهت به مبهوت به. وإذا قالت لزوجها: هذا ولدي منك، لصبي التقطته.. فقد بهتته به؛ أي: قالت عليه ما لم يفعله، جعله نفس البهتان ثم وصفه بكونه مفترى مبالغة في وصفهن بالكذب. ﴿يَفْتَرِينَهُ﴾ الافتراء: الاختلاق. يقال: فرى فلان كذبًا إذا خلقه، وافتراه اختلقه. ﴿فِي مَعْرُوفٍ﴾ والمعروف: ما عرف، حسنه من قبل الشرع، وفي "النهاية": المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والإحسان إلى الناس، وكل ما أمر به الشرع ونهى عنه. اهـ. "شهاب".
﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ﴾ والاستغفار: طلب المغفرة للذنوب والستر للعيوب، كما مر.
237
﴿لَا تَتَوَلَّوْا﴾ أصله: تتوليون، حذفت منه نون الرفع لدخول أداة الجزم ﴿لَا﴾ الناهية، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، فوزنه: تتفعوا. ﴿قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ﴾ اليأس: انقطاع الطمع ﴿مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾ والقبور: جمع قبر، والقبر: مقر الميت، والمقبرة: موضع القبور.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجملة الاعتراضية في قوله: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ﴾ الإشارة إلى أن للإنسان الظاهر، والله يتولى السرائر.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ﴾؛ لأنه استعار العلم للظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات. وسماه علمًا إيذانًا بأنه جار مجرى العلم في وجوب العمل به.
ومنها: العكس والتبديل في قوله: ﴿لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾. وهو من المحسنات البديعية، وفيه التكرير أيضًا إما لتأكيد الحرمة، وإلا فيكفي نفي الحل من أحد الجانبين، وإما لأن الأول لبيان زوال النكاح الأول، والثاني لبيان امتناع النكاح الجديد، كما مر.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا﴾.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا﴾؛ لأنه مجاز عن أمر المؤمنين بالأداء من قبيل إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، كما في قوله تعالى: ﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ فإنه بمعنى: واغلظوا عليهم.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾.
ومنها: إيقاع شيء موقع أحد في قوله: ﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ للتحقير والإشباع في التعميم؛ لأن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم، كما مر.
ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾. شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء
238
أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب ونحوه. أي: يتناوب، كما مرّ بسطه.
ومنها: النداء للتشريف والتعظيم في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾.
ومنها: الكناية اللطيفة في قوله: ﴿وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ﴾. كنَّى بذلك عن اللقيط.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾. وفيه أيضًا من المحسنات البديعية ما يسمى ردّ العجز على الصدر، حيث ختم السورة بمثل ما ابتدأها به ليتناسق البدء مع الختام.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ﴾ للإشعار بعلة يأسهم، وهو الكفر.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
239
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - النهي عن موالاة المشركين مع ذكر أسباب ذلك.
٢ - ضرب المثل بقصص إبراهيم وقومه.
٣ - امتحان النساء المؤمنات المهاجرات، وعدم إرجاعهن إلى دار الكفر.
٤ - مبايعة النساء المؤمنات في دار الإِسلام.
٥ - تأكيد النهي عن موالاة المشركين، حرصًا على شؤون الملة ونشر الدعوة (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) وقد تم تفسير هذه السورة الكريمة بعون الله سبحانه وتعالى يوم الأحد قبيل غروب اليوم الثالث والعشرين من شهر الله الحرام ذي القعدة، من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمس عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
240
سورة الصف
سورة الصف مدنية، قال الماوردي: في قول الجميع. نزلت بعد التغابن.
وأخرج ابن الضريس (١)، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الصف بالمدينة. وأخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة الصف بمكة. ولعل هذا لا يصح عنه. ويؤيد كونها مدنيَّة: ما أخرجه أحمد، عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله - ﷺ - فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله - ﷺ - رجلًا، فجمعنا، فقرأ علينا هذه السورة؛ يعني: سورة الصف كلها. وأخرجه ابن أبي حاتم، وقال في آخره: فنزلت فيهم هذه السورة. وأخرجه أيضًا الترمذي وابن حبان والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي في "الشعب" و"السنن".
وآيها (٢): أربع عشرة. وكلماتها: مئتان وإحدى وعشرون كلمة. وحروفها: تسع مئة.
ومناسبتها لما قبلها (٣): أنها اشتملت على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفي ذلك تأكيد للنهي الذي تضمنته السورة السابقة من اتخاذ الكفار من دون المؤمنين.
وقال أبو حيان (٤): مناسبتها لآخر السورة قبلها: أن في آخر تلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ فاقتضى ذلك إثبات العداوة بينهم، فحض تعالى على الثبات إذا لقي المؤمنون في الحرب أعداءهم.
تسميتها: سميت سورة الصف لذكر الصف فيها. وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة الصف كلها محكمة، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
والله أعلم
* * *
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
241

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (١٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ...﴾ الآيات، قال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به؟ فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه: إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به، وإقرار برسالة نبيه. فلما نزل الجهاد.. كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي...﴾ الآية، مناسبة
242
هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما أنَّب التاركين للقتال الهاربين منه بقوله: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ ذكر هنا أن حالهم يشبه حال بني إسرائيل مع موسى حين ندبهم إلى قتال الجبارين بقوله: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ الآية. فلم يمتثلوا، وعصوه أشد العصيان، و ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا...﴾ الآية. وقالوا أيضًا: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، وأصروا على ذلك، وآذوه أشد الإيذاء. فوبخهم على ذلك بما جاء في الآية الكريمة، وقد صرفهم الله سبحانه عن قبول الحق، وألحق بهم الضيم والدل في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى. ومثلهم أيضًا في عصيانهم مثل بني إسرائيل حين قال لهم عيسى بن مريم: ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾، وجاءهم بالبينات والمعجزات الدالة على صدقه، وقال: إني مبشر برسول يأتي من بعدي يسمى: أحمد، فعصوه وكذبوه، ولم يمتثلوا أمره.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف أن الجاحدين لنبوته - ﷺ - من المشركين وأهل الكتاب لما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مفترى.. أردف ذلك ببيان أنهم دعوا إلى الإِسلام والخضوع لخالق الخلق ومبدع العالم، وأقيمت لهم على ذلك الأدلة ونصب لهم المنار، لكنهم ظلموا أنفسهم وجحدوا النور الواضح والبرهان الساطع:
قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ
ثم بين أن السبب في ذلك هو سوء استعدادهم وتدسيتهم لأنفسهم، وأن مثلهم في صد الدعوة عن الدين مثل من يريد إطفاء نور الشمس بالنفخ بفيه، وأنى له ذلك؟ فالله متم نوره ومكمل دينه مهما جد المشركون في إطفائه. فالرسول - ﷺ - ما جاء إلا بما فيه هداية البشر وسعادتهم في معاشهم ومعادهم، وبالدين الحق الذي لا تجد العقول مطعنًا فيه ولا طريقًا إلَّا الاعتراف بما جاء به من حكم وأحكام.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ...﴾
(١) المراغي.
243
الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما حث في الآيات السابقة على الجهاد في سبيله، ونهاهم عن أن يكونوا مثل قوم موسى في التواكل والتخاذل - إذ قالوا له: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ - ونهاهم أيضًا عن أن يكونوا مثل قوم عيسى في العصيان بعد أن أتى لهم بالأدلة الباهرة على صدق نبوّته.. ذكر هنا أن الإيمان بالله والجهاد بالمال والنفس في سبيله تجارة رابحة، فإن المجاهد ينال الفوز العاجل والثواب الآجل، فيظفر بالنصرة في الدنيا والغلبة على العدوّ وأخذ الغنائم وكرائم الأموال، ويحظى في الآخرة بغفران الذنب ورضوان الرب والرضوان في جنات الخلود، والإقامة ولا فوز أعظم من هذا.
ثم ضرب لهم مثلًا بقوم عيسى، فقد انقسموا فرقتين: فرقة، آمنت به، وهم حواريوه، وفرقة فرت به، وهم البقية الباقية منهم. فأمد الله المؤمنين بروح من عنده، فتم لهم الفوز والنصر على الكافرين، وغلبوهم بإذن الله، كما هي سنة الله في البشر، كما قال تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١)﴾، وقال: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ...﴾ إلى آخر السورة، سبب نزول هذه السورة: ما أخرجه الدارمي في "سننه" قال: أخبرنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرًا من أصحاب رسول الله - ﷺ - فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناها؟ فأنزل الله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتًا﴾ حتى ختمها، قال عبد الله: فقرأها علينا رسول الله - ﷺ - حتى ختمها، فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى: قرأها علينا أبو سلمة، وقرأها علينا يحيى، وقرأها علينا الأوزاعي، وقرأها علينا محمد.
قال ابن الجوزي (١): قوله تعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ في سبب
(١) زاد المسير.
244
نزولها خمسة أقوال:
أحدها: ما روى أبو سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عزّ وجل عملناه؟ فأنزل الله: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ...﴾ إلى آخر السورة.
والثاني: أن الرجل كان يجيء إلى النبي - ﷺ - فيقول: فعلت كذا وكذا، وما فعل، فنزلت: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. رواه عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وكذلك قال الضحاك: كان الرجل يقول: قاتلت ولم يقاتل، وطعنت ولم يطعن، وصبرت ولم يصبر. فنزلت هذه الآية.
والثالث: أن ناسًا من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد: لوددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إليه، فلما نزل الجهاد.. كرهه ناس من المؤمنين، فنزلت هذه الآية. رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والرابع: أن صهيبًا قتل رجلًا يوم بدر، فجاء رجل فادعى أنه قتله وأخذ سلبه، فقال صهيب: أنا قتلته يا رسول الله، فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب. ونزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن صهيب.
والخامس: أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه: لو خرجتم.. خرجنا معكم ونصرناكم، فلما خرج النبي - ﷺ -.. نكصوا عنه. فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد.
وقال الكلبي (١): قال المؤمنون: يا رسول الله، لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها؟ فنزلت: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾. فمكثوا زمانًا يقولون: لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين؟ فدلهم الله تعالى عليها بقوله: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ...﴾ الآية. فابتلوا يوم أحد ففروا، فنزلت تعيرهم بترك الوفاء.
(١) القرطبي.
245
Icon