تفسير سورة التحريم

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ
سُورَة التَّحْرِيم مَدَنِيَّة فِي قَوْل الْجَمِيع، وَهِيَ اِثْنَتَا عَشْرَة آيَة.
وَتُسَمَّى سُورَة " النَّبِيّ ".
فِيهِ خَمْس مَسَائِل :
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :" يَا أَيّهَا النَّبِيّ لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللَّه لَك " ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَمْكُث عِنْد زَيْنَب بِنْت جَحْش فَيَشْرَب عِنْدهَا عَسَلًا، قَالَتْ فَتَوَاطَأْت أَنَا وَحَفْصَة أَنَّ أَيَّتنَا مَا دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ : إِنِّي أَجِد مِنْك رِيح مَغَافِير ! أَكَلْتَ مَغَافِير ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ.
فَقَالَ :( بَلْ شَرِبْت عَسَلًا عِنْد زَيْنَب بِنْت جَحْش وَلَنْ أَعُود لَهُ ).
فَنَزَلَ :" لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللَّه لَك - إِلَى قَوْله - إِنْ تَتُوبَا " :( لِعَائِشَة وَحَفْصَة )، " وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيّ إِلَى بَعْض أَزْوَاجه حَدِيثًا " [ التَّحْرِيم ٣٠ ] لِقَوْلِهِ :( بَلْ شَرِبْت عَسَلًا ).
وَعَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ الْحَلْوَاء وَالْعَسَل، فَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْر دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَة فَاحْتَبَسَ عِنْدهَا أَكْثَر مِمَّا كَانَ يَحْتَبِس، فَسَأَلْت عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي : أَهْدَتْ لَهَا اِمْرَأَة مِنْ قَوْمهَا عُكَّة مِنْ عَسَل، فَسَقَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَرْبَة.
فَقُلْت : أَمَا وَاَللَّه لَنَحْتَالَنَّ لَهُ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسَوْدَةَ وَقُلْت : إِذَا دَخَلَ عَلَيْك فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْك فَقَوْلِي لَهُ : يَا رَسُول اللَّه، أَكَلْت مَغَافِير ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَك لَا.
فَقَوْلِي لَهُ : مَا هَذِهِ الرِّيح ؟ - وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَد مِنْهُ الرِّيح - فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَك سَقَتْنِي حَفْصَة شَرْبَة عَسَل.
فَقَوْلِي لَهُ : جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ.
وَسَأَقُولُ ذَلِكَ لَهُ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّة.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَة - قَالَتْ : تَقُول سَوْدَة وَاَللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَقَدْ كِدْت أَنْ أُبَادِئهُ بِاَلَّذِي قُلْت لِي، وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَاب، فَرَقًا مِنْك.
فَلَمَّا دَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه، أَكَلْت مَغَافِير ؟ قَالَ :( لَا ) قَالَتْ : فَمَا هَذِهِ الرِّيح ؟ قَالَ :( سَقَتْنِي حَفْصَة شَرْبَة عَسَل ) قَالَ : جَرَسَتْ نَحْله الْعُرْفُط.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ قُلْت لَهُ مِثْل ذَلِكَ.
ثُمَّ دَخَلَ عَلَى صَفِيَّة فَقَالَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَة قَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه، أَلَا أَسْقِيك مِنْهُ.
قَالَ ( لَا حَاجَة لِي بِهِ ) قَالَتْ : تَقُول سَوْدَة سُبْحَانَ اللَّه ! وَاَللَّه لَقَدْ حَرَمْنَاهُ.
قَالَتْ : قُلْت لَهَا اُسْكُتِي.
فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة أَنَّ الَّتِي شَرِبَ عِنْدهَا الْعَسَل حَفْصَة.
وَفِي الْأُولَى زَيْنَب.
وَرَوَى اِبْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْد سَوْدَة.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّمَا هِيَ أُمّ سَلَمَة، رَوَاهُ أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ.
وَقَالَهُ عَطَاء بْن أَبِي مُسْلِم.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا كُلّه جَهْل أَوْ تَصَوُّر بِغَيْرِ عِلْم.
فَقَالَ بَاقِي نِسَائِهِ حَسَدًا وَغَيْرَة لِمَنْ شَرِبَ ذَلِكَ عِنْدهَا : إِنَّا لَنَجِد مِنْك رِيح الْمَغَافِير.
وَالْمَغَافِير : بَقْلَة أَوْ صَمْغَة مُتَغَيِّرَة الرَّائِحَة، فِيهَا حَلَاوَة.
وَاحِدهَا مَغْفُور، وَجَرَسَتْ : أَكَلَتْ.
وَالْعُرْفُط : نَبْت لَهُ رِيح كَرِيحِ الْخَمْر.
وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يُعْجِبهُ أَنْ يُوجَد مِنْهُ الرِّيح الطَّيِّبَة أَوْ يَجِدهَا، وَيَكْرَه الرِّيح الْخَبِيثَة لِمُنَاجَاةِ الْمَلَك.
فَهَذَا قَوْل.
وَقَوْل آخَر - أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمَرْأَة الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْبَلهَا لِأَجْلِ أَزْوَاجه، قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة.
وَالْمَرْأَة أُمّ شَرِيك.
وَقَوْل ثَالِث - إِنَّ الَّتِي حَرَّمَ مَارِيَة الْقِبْطِيَّة، وَكَانَ قَدْ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِس مَلِك الْإِسْكَنْدَرِيَّة.
قَالَ اِبْن إِسْحَاق : هِيَ مِنْ كُورَةِ أَنْصِنَا مِنْ بَلَد يُقَال لَهُ حَفْن فَوَاقَعَهَا فِي بَيْت حَفْصَة.
رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ عُمَر قَالَ : دَخَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ وَلَده مَارِيَة فِي بَيْت حَفْصَة، فَوَجَدَتْهُ حَفْصَة مَعَهَا - وَكَانَتْ حَفْصَة غَابَتْ إِلَى بَيْت أَبِيهَا - فَقَالَتْ لَهُ : تُدْخِلهَا بَيْتِي ! مَا صَنَعْت بِي هَذَا مِنْ بَيْنَ نِسَائِك إِلَّا مِنْ هَوَانِي عَلَيْك.
فَقَالَ لَهَا :( لَا تَذْكُرِي هَذَا لِعَائِشَة فَهِيَ عَلَيَّ حَرَام إِنْ قَرِبْتهَا ) قَالَتْ حَفْصَة : وَكَيْفَ تَحْرُم عَلَيْك وَهِيَ جَارِيَتك ؟ فَحَلَفَ لَهَا أَلَّا يَقْرَبهَا.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا تَذْكُرِيهِ لِأَحَدٍ ).
فَذَكَرَتْهُ لِعَائِشَة، فَآلَى لَا يَدْخُل عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا، فَاعْتَزَلَهُنَّ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَة، فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللَّه لَك " الْآيَة.
الثَّانِيَة : أَصَحّ هَذِهِ الْأَقْوَال أَوَّلهَا.
وَأَضْعَفهَا أَوْسَطهَا.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ :" أَمَّا ضَعْفه فِي السَّنَد فَلِعَدَمِ عَدَالَة رُوَاته، وَأَمَّا ضَعْفه فِي مَعْنَاهُ فَلِأَنَّ رَدَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَوْهُوبَةِ لَيْسَ تَحْرِيمًا لَهَا، لِأَنَّ مَنْ رَدَّ مَا وُهِبَ لَهُ لَمْ يُحَرَّم عَلَيْهِ، إِنَّمَا حَقِيقَة التَّحْرِيم بَعْد التَّحْلِيل.
وَأَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَة الْقِبْطِيَّة فَهُوَ أَمْثَل فِي السَّنَد وَأَقْرَب إِلَى الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ لَمْ يُدَوَّن فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ مُرْسَلًا.
وَقَدْ رَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ قَالَ : حَرَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّ إِبْرَاهِيم فَقَالَ :( أَنْتِ عَلَيَّ حَرَام وَاَللَّه لَا آتِيَنَّكِ ).
فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ :" يَا أَيّهَا النَّبِيّ لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللَّه لَك " وَرَوَى مِثْله اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ.
وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك قَالَ : رَاجَعَتْ عُمَر اِمْرَأَة مِنْ الْأَنْصَار فِي شَيْء فَاقْشَعَرَّ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ : مَا كَانَ النِّسَاء هَكَذَا ! قَالَتْ : بَلَى، وَقَدْ كَانَ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاجِعْنَهُ.
فَأَخَذَ ثَوْبه فَخَرَجَ إِلَى حَفْصَة فَقَالَ لَهَا : أَتُرَاجِعِينَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ، وَلَوْ أَعْلَم أَنَّك تَكْرَه مَا فَعَلْت.
فَلَمَّا بَلَغَ عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَجَرَ نِسَاءَهُ قَالَ : رَغْم أَنْف حَفْصَة.
وَإِنَّمَا الصَّحِيح أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَسَل وَأَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْد زَيْنَب، وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ عَائِشَة وَحَفْصَة فِيهِ، فَجَرَى مَا جَرَى فَحَلَفَ أَلَّا يَشْرَبهُ وَأَسَرَّ ذَلِكَ.
وَنَزَلَتْ الْآيَة فِي الْجَمِيع.
الثَّالِثَة : قَوْله تَعَالَى :" لِمَ تُحَرِّم " إِنْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ وَلَمْ يَحْلِف فَلَيْسَ ذَلِكَ بِيَمِينٍ عِنْدنَا.
وَلَا يُحَرِّم قَوْل الرَّجُل :" هَذَا عَلَيَّ حَرَام " شَيْئًا حَاشَا الزَّوْجَة.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا أُطْلِق حُمِلَ عَلَى الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوب دُون الْمَلْبُوس، وَكَانَتْ يَمِينًا تُوجِب الْكَفَّارَة.
وَقَالَ زُفَر : هُوَ يَمِين فِي الْكُلّ حَتَّى فِي الْحَرَكَة وَالْكَوْن.
وَعَوَّلَ الْمُخَالِف عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْعَسَل فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَة.
وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى :" قَدْ فَرَضَ اللَّه لَكُمْ تَحِلَّة أَيْمَانكُمْ " [ التَّحْرِيم : ٢ ] فَسَمَّاهُ يَمِينًا.
وَدَلِيلنَا قَوْل اللَّه تَعَالَى :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَات مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا " [ الْمَائِدَة : ٨٧ ]، وَقَوْله تَعَالَى :" قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّه لَكُمْ مِنْ رِزْق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّه تَفْتَرُونَ " [ يُونُس : ٥٩ ].
فَذَمَّ اللَّه الْمُحَرِّم لِلْحَلَالِ وَلَمْ يُوجِب عَلَيْهِ كَفَّارَة.
قَالَ الزَّجَّاج : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللَّه.
وَلَمْ يَجْعَل لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحَرِّم إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ.
فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَوْ أَمَته : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَام ; وَلَمْ يَنْوِ طَلَاقًا وَلَا ظِهَارًا فَهَذَا اللَّفْظ يُوجِب كَفَّارَة الْيَمِين.
وَلَوْ خَاطَبَ بِهَذَا اللَّفْظ جَمْعًا مِنْ الزَّوْجَات وَالْإِمَاء فَعَلَيْهِ كَفَّارَة وَاحِدَة.
وَلَوْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسه طَعَامًا أَوْ شَيْئًا آخَر لَمْ يَلْزَمهُ بِذَلِكَ كَفَّارَة عِنْد الشَّافِعِيّ وَمَالِك.
وَتَجِب بِذَلِكَ كَفَّارَة عِنْد اِبْن مَسْعُود وَالثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة.
الرَّابِعَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الرَّجُل يَقُول لِزَوْجَتِهِ :" أَنْتِ عَلَيَّ حَرَام "
عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا :
أَحَدهَا : لَا شَيْء عَلَيْهِ.
وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيّ وَمَسْرُوق وَرَبِيعَة وَأَبُو سَلَمَة وَأَصْبَغ.
وَهُوَ عِنْدهمْ كَتَحْرِيمِ الْمَاء وَالطَّعَام ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَات مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ " [ الْمَائِدَة : ٨٧ ] وَالزَّوْجَة مِنْ الطَّيِّبَات وَمِمَّا أَحَلَّ اللَّه.
وَقَالَ تَعَالَى :" وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِف أَلْسِنَتكُمْ الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حَرَام " [ النَّحْل : ١١٦ ].
وَمَا لَمْ يُحَرِّمهُ اللَّه فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمهُ، وَلَا أَنْ يَصِير بِتَحْرِيمِهِ حَرَامًا.
وَلَمْ يَثْبُت عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمَا أَحَلَّهُ اللَّه هُوَ عَلَيَّ حَرَام.
وَإِنَّمَا اِمْتَنَعَ مِنْ مَارِيَة لِيَمِينٍ تَقَدَّمَتْ مِنْهُ وَهُوَ قَوْله :( وَاَللَّه لَا أَقْرَبهَا بَعْد الْيَوْم ) فَقِيلَ لَهُ : لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللَّه لَك ; أَيْ لِمَ تَمْتَنِع مِنْهُ بِسَبَبِ الْيَمِين.
يَعْنِي أَقْدِمْ عَلَيْهِ وَكَفِّرْ.
ثَانِيهَا : أَنَّهَا يَمِين يُكَفِّرهَا ; قَالَهُ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق وَعُمَر بْن الْخَطَّاب وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ - وَالْأَوْزَاعِيّ ; وَهُوَ مُقْتَضَى الْآيَة.
قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس : إِذَا حَرَّمَ الرَّجُل عَلَيْهِ اِمْرَأَته فَإِنَّمَا هِيَ يَمِين يُكَفِّرهَا.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّه أُسْوَة حَسَنَة ; يَعْنِي أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَرَّمَ جَارِيَته فَقَالَ اللَّه تَعَالَى :" لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللَّه لَك - إِلَى قَوْله تَعَالَى - قَدْ فَرَضَ اللَّه لَكُمْ تَحِلَّة أَيْمَانكُمْ " فَكَفَّرَ عَنْ يَمِينه وَصَيَّرَ الْحَرَام يَمِينًا.
خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
ثَالِثهَا أَنَّهَا تَجِب فِيهَا كَفَّارَة وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس أَيْضًا فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَالشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ، وَفِي هَذَا الْقَوْل نَظَر.
وَالْآيَة تَرُدّهُ عَلَى مَا يَأْتِي.
رَابِعهَا : هِيَ ظِهَار ; فَفِيهَا كَفَّارَة الظِّهَار، قَالَهُ عُثْمَان وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق.
خَامِسهَا أَنَّهُ إِنْ نَوَى الظِّهَار وَهُوَ يَنْوِي أَنَّهَا مُحَرَّمَة كَتَحْرِيمِ ظَهْر أُمّه كَانَ ظِهَارًا.
وَإِنْ نَوَى تَحْرِيم عَيْنهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ طَلَاق تَحْرِيمًا مُطْلَقًا وَجَبَتْ كَفَّارَة يَمِين.
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين، قَالَهُ الشَّافِعِيّ.
سَادِسهَا : أَنَّهَا طَلْقَة رَجْعِيَّة، قَالَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَالزُّهْرِيّ وَعَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي سَلَمَة وَابْن الْمَاجِشُون.
وَسَابِعهَا أَنَّهَا طَلْقَة بَائِنَة، قَالَهُ حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان وَزَيْد بْن ثَابِت.
وَرَوَاهُ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَاد عَنْ مَالِك.
ثَامِنهَا أَنَّهَا ثَلَاث تَطْلِيقَات، قَالَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَزَيْد بْن ثَابِت أَيْضًا وَأَبُو هُرَيْرَة.
تَاسِعهَا : هِيَ فِي الْمَدْخُول بِهَا ثَلَاث، وَيَنْوِي فِي غَيْر الْمَدْخُول بِهَا، قَالَهُ الْحَسَن وَعَلِيّ بْن زَيْد وَالْحَكَم.
وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالِك.
عَاشِرهَا : هِيَ ثَلَاث ; وَلَا يَنْوِي بِحَالٍّ وَلَا فِي مَحِلّ وَإِنْ لَمْ يَدْخُل ; قَالَهُ عَبْد الْمَلِك فِي الْمَبْسُوط، وَبِهِ قَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى.
حَادِي عَشَرهَا : هِيَ فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُل بِهَا وَاحِدَة، وَفِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا ثَلَاث ; قَالَهُ أَبُو مُصْعَب وَمُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم.
ثَانِي عَشَرهَا أَنَّهُ إِنْ نَوَى الطَّلَاق أَوْ الظِّهَار كَانَ مَا نَوَى.
فَإِنْ نَوَى الطَّلَاق فَوَاحِدَة بَائِنَة إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا.
فَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ فَوَاحِدَة.
فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَتْ يَمِينًا وَكَانَ الرَّجُل مُولِيًا مِنْ اِمْرَأَته ; قَالَهُ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه.
وَبِمِثْلِهِ قَالَ زُفَر ; إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : إِذَا نَوَى اِثْنَتَيْنِ أَلْزَمْنَاهُ.
ثَالِث عَشَرهَا أَنَّهُ لَا تَنْفَعهُ نِيَّة الظِّهَار وَإِنَّمَا يَكُون طَلَاقًا ; قَالَهُ اِبْن الْقَاسِم.
رَابِع عَشَرهَا : قَالَ يَحْيَى بْن عُمَر : يَكُون طَلَاقًا ; فَإِنْ اِرْتَجَعَهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يُكَفِّر كَفَّارَة الظِّهَار.
خَامِس عَشَرهَا : إِنْ نَوَى الطَّلَاق فَمَا أَرَادَ مِنْ أَعْدَاده.
وَإِنْ نَوَى وَاحِدَة فَهِيَ رَجْعِيَّة.
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَرُوِيَ مِثْله عَنْ أَبِي بَكْر وَعُمَر وَغَيْرهمْ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ.
سَادِس عَشَرهَا : إِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثًا، وَإِنْ وَاحِدَة فَوَاحِدَة.
وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَهِيَ يَمِين.
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
وَهُوَ قَوْل سُفْيَان.
وَبِمِثْلِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو ثَوْر ; إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا : إِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهِيَ وَاحِدَة.
سَابِع عَشَرهَا : لَهُ نِيَّته وَلَا يَكُون أَقَلّ مِنْ وَاحِدَة ; قَالَهُ اِبْن شِهَاب.
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ شَيْء ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.
وَرَأَيْت لِسَعِيدِ بْن جُبَيْر وَهُوَ :
الثَّامِنَ عَشَرَ أَنَّ عَلَيْهِ عِتْق رَقَبَة وَإِنْ لَمْ يَجْعَلهَا ظِهَارًا.
وَلَسْت أَعْلَم لَهَا وَجْهًا وَلَا يَبْعُد فِي الْمَقَالَات عِنْدِي.
قُلْت : قَدْ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنه عَنْ اِبْن عَبَّاس فَقَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَنْصُور قَالَ حَدَّثَنَا رَوْح قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ سَالِم الْأَفْطَس عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُل فَقَالَ : إِنِّي جَعَلْت اِمْرَأَتِي عَلَيَّ حَرَامًا.
فَقَالَ : كَذَبْت ! لَيْسَتْ عَلَيْك بِحَرَامٍ ; ثُمَّ تَلَا " يَا أَيّهَا النَّبِيّ لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللَّه لَك " عَلَيْك أَغْلَظ الْكَفَّارَات : عِتْق رَقَبَة.
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّفْسِير : إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة كَفَّرَ عَنْ يَمِينه بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، وَعَادَ إِلَى مَارِيَة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَهُ زَيْد بْن أَسْلَمَ وَغَيْره.
الْخَامِسَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : سَبَب الِاخْتِلَاف فِي هَذَا الْبَاب أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه وَلَا فِي سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصّ وَلَا ظَاهِر صَحِيح يُعْتَمَد عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة، فَتَجَاذَبَهَا الْعُلَمَاء لِذَلِكَ.
فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة فَقَالَ : لَا حُكْم، فَلَا يَلْزَم بِهَا شَيْء.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهَا يَمِين ; فَقَالَ : سَمَّاهَا اللَّه يَمِينًا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : تَجِب فِيهَا كَفَّارَة وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ ; فَبَنَاهُ عَلَى أَحَد أَمْرَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَة فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا.
وَالثَّانِي أَنَّ مَعْنَى الْيَمِين عِنْده التَّحْرِيم، فَوَقَعَتْ الْكَفَّارَة عَلَى الْمَعْنَى.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّهَا طَلْقَة رَجْعِيَّة ; فَإِنَّهُ حَمَلَ اللَّفْظ عَلَى أَقَلّ وُجُوهه، وَالرَّجْعِيَّة مُحَرَّمَة الْوَطْء كَذَلِكَ ; فَيُحْمَل اللَّفْظ عَلَيْهِ.
وَهَذَا يَلْزَم مَالِكًا، لِقَوْلِهِ : إِنَّ الرَّجْعِيَّة مُحَرَّمَة الْوَطْء.
وَكَذَلِكَ وَجْه مَنْ قَالَ : إِنَّهَا ثَلَاث، فَحَمَلَهُ عَلَى أَكْبَر مَعْنَاهُ وَهُوَ الطَّلَاق الثَّلَاث.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّهُ ظِهَار، فَلِأَنَّهُ أَقَلّ دَرَجَات التَّحْرِيم، فَإِنَّهُ تَحْرِيم لَا يَرْفَع النِّكَاح.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّهُ طَلْقَة بَائِنَة، فَعَوَّلَ عَلَى أَنَّ الطَّلَاق الرَّجْعِيّ لَا يُحَرِّم الْمُطَلَّقَة، وَأَنَّ الطَّلَاق الْبَائِن يُحَرِّمهَا.
وَأَمَّا قَوْل يَحْيَى بْن عُمَر فَإِنَّهُ اِحْتَاطَ بِأَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا، فَلَمَّا اِرْتَجَعَهَا اِحْتَاطَ بِأَنْ يَلْزَمهُ الْكَفَّارَة.
اِبْن الْعَرَبِيّ :" وَهَذَا لَا يَصِحّ، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْتَمِع ظِهَار وَطَلَاق فِي مَعْنَى لَفْظ وَاحِد، فَلَا وَجْه لِلِاحْتِيَاطِ فِيمَا لَا يَصِحّ اِجْتِمَاعه فِي الدَّلِيل.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّهُ يُنْوَى فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُل بِهَا، فَلِأَنَّ الْوَاحِدَة تُبِينهَا وَتُحَرِّمهَا شَرْعًا إِجْمَاعًا.
وَكَذَلِكَ قَالَ مَنْ لَمْ يَحْكُم بِاعْتِبَارِ نِيَّته : إِنَّ الْوَاحِدَة تَكْفِي قَبْل الدُّخُول فِي التَّحْرِيم بِالْإِجْمَاعِ، فَيَكْفِي أَخْذًا بِالْأَقَلِّ الْمُتَّفَق عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّهُ ثَلَاث فِيهِمَا، فَلِأَنَّهُ أَخْذ بِالْحُكْمِ الْأَعْظَم، فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالثَّلَاثِ لَنَفَذَتْ فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُل بِهَا نُفُوذهَا فِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا.
وَمِنْ الْوَاجِب أَنْ يَكُون الْمَعْنَى مِثْله وَهُوَ التَّحْرِيم ".
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَهَذَا كُلّه فِي الزَّوْجَة.
وَأَمَّا فِي الْأُمَّة فَلَا يَلْزَم فِيهَا شَيْء مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْوِي بِهِ الْعِتْق عِنْد مَالِك.
وَذَهَبَ عَامَّة الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين.
اِبْن الْعَرَبِيّ.
وَالصَّحِيح أَنَّهَا طَلْقَة وَاحِدَة، لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الطَّلَاق لَكَانَ أَقَلّه وَهُوَ الْوَاحِدَة إِلَّا أَنْ يُعَدِّدهُ.
كَذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ التَّحْرِيم يَكُون أَقَلّه إِلَّا أَنْ يُقَيِّدهُ بِالْأَكْثَرِ، مِثْل أَنْ يَقُول أَنْتِ عَلَيَّ حَرَام إِلَّا بَعْد زَوْج، فَهَذَا نَصّ عَلَى الْمُرَاد.
قُلْت : أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي حَفْصَة لَمَّا خَلَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتهَا بِجَارِيَتِهِ ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ.
وَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَا يَحْرُم عَلَيْك مَا حَرَّمْته عَلَى نَفْسك وَلَكِنْ عَلَيْك كَفَّارَة يَمِين، وَإِنْ كَانَ فِي تَحْرِيم الْعَسَل وَالْجَارِيَة أَيْضًا.
فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَحْرُم عَلَيْك مَا حَرَّمْته، وَلَكِنْ ضَمَمْت إِلَى التَّحْرِيم يَمِينًا فَكَفِّرْ عَنْ الْيَمِين.
وَهَذَا صَحِيح، فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ ثُمَّ حَلَفَ، كَمَا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ مَعْنَاهُ فِي قِصَّة الْعَسَل عَنْ عُبَيْد بْن عُمَيْر عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَب عِنْد زَيْنَب بِنْت جَحْش عَسَلًا وَيَمْكُث عِنْدهَا، فَتَوَاطَأْت أَنَا وَحَفْصَة عَلَى أَيَّتنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ : أَكَلْت مَغَافِير ؟ إِنِّي لَأَجِدُ مِنْك رِيح مَغَافِير ! قَالَ :( لَا وَلَكِنْ شَرِبْت عَسَلًا وَلَنْ أَعُود لَهُ وَقَدْ حَلَفْت لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا ).
يَبْتَغِي مَرْضَات أَزْوَاجه.
فَيَعْنِي بِقَوْلِهِ :( وَلَنْ أَعُود لَهُ عَلَى جِهَة التَّحْرِيم.
وَبِقَوْلِهِ :( حَلَفْت ) أَيْ بِاَللَّهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ عِنْد ذَلِكَ مُعَاتَبَته عَلَى ذَلِكَ، وَحَوَالَته عَلَى كَفَّارَة الْيَمِين بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" يَا أَيّهَا النَّبِيّ لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللَّه لَك " يَعْنِي الْعَسَل الْمُحَرَّم بِقَوْلِهِ :( لَنْ أَعُود لَهُ ).
" تَبْتَغِي مَرْضَات أَزْوَاجك " أَيْ تَفْعَل ذَلِكَ طَلَبًا لِرِضَاهُنَّ.
" وَاَللَّه غَفُور رَحِيم " غَفُور لِمَا أَوْجَبَ الْمُعَاتَبَة، رَحِيم بِرَفْعِ الْمُؤَاخَذَة.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ ذَلِكَ كَانَ ذَنْبًا مِنْ الصَّغَائِر.
وَالصَّحِيح أَنَّهُ مُعَاتَبَة عَلَى تَرْك الْأَوْلَى، وَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة.
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ
تَحْلِيل الْيَمِين كَفَّارَتهَا.
أَيْ إِذَا أَحْبَبْتُمْ اِسْتِبَاحَة الْمَحْلُوف عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة " الْمَائِدَة " :" فَكَفَّارَته إِطْعَام عَشَرَة مَسَاكِين " [ الْمَائِدَة : ٨٩ ].
وَيَتَحَصَّل مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا مِنْ الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوب لَمْ يُحَرَّم عَلَيْهِ عِنْدنَا، لِأَنَّ الْكَفَّارَة لِلْيَمِينِ لَا لِلتَّحْرِيمِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
وَأَبُو حَنِيفَة يَرَاهُ يَمِينًا فِي كُلّ شَيْء، وَيَعْتَبِر الِانْتِفَاع الْمَقْصُود فِيمَا يُحَرِّمهُ، فَإِذَا حَرَّمَ طَعَامًا فَقَدْ حَلَفَ عَلَى أَكْله، أَوْ أَمَة فَعَلَى وَطْئِهَا، أَوْ زَوْجَة فَعَلَى الْإِيلَاء مِنْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّة، وَإِنْ نَوَى الظِّهَار فَظِهَار، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاق فَطَلَاق بَائِن.
وَكَذَلِكَ إِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
وَإِنْ قَالَ : نَوَيْت الْكَذِب دُيِّنَ فِيمَا بَيْنه وَبَيْنَ اللَّه تَعَالَى.
وَلَا يُدَيَّن فِي الْقَضَاء بِإِبْطَالِ الْإِيلَاء.
وَإِنْ قَالَ : كُلّ حَلَال عَلَيْهِ حَرَام ; فَعَلَى الطَّعَام وَالشَّرَاب إِذَا لَمْ يَنْوِ، وَإِلَّا فَعَلَى مَا نَوَى.
وَلَا يَرَاهُ الشَّافِعِيّ يَمِينًا وَلَكِنْ سَبَبًا فِي الْكَفَّارَة فِي النِّسَاء وَحْدهنَّ.
وَإِنْ نَوَى الطَّلَاق فَهُوَ رَجْعِيّ عِنْده، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه.
فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلهُ حَنِثَ وَيَبَرّ بِالْكَفَّارَةِ.
الثَّانِيَة : فَإِنْ حَرَّمَ أَمَته أَوْ زَوْجَته فَكَفَّارَة يَمِين، كَمَا فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : إِذَا حَرَّمَ الرَّجُل عَلَيْهِ اِمْرَأَته، فَهِيَ يَمِين يُكَفِّرهَا.
وَقَالَ : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّه أُسْوَة حَسَنَة.
الثَّالِثَة : قِيلَ : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّرَ عَنْ يَمِينه.
وَعَنْ الْحَسَن : لَمْ يُكَفِّر، لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه وَمَا تَأَخَّرَ، وَكَفَّارَة الْيَمِين فِي هَذِهِ السُّورَة إِنَّمَا أَمَرَ بِهَا الْأُمَّة.
وَالْأَوَّل أَصَحّ، وَأَنَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ إِنَّ الْأُمَّة تَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَفَّرَ بِعِتْقِ رَقَبَة.
وَعَنْ مُقَاتِل أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ رَقَبَة فِي تَحْرِيم مَارِيَة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقِيلَ : أَيْ قَدْ فَرَضَ اللَّه لَكُمْ تَحْلِيل مِلْك الْيَمِين، فَبَيَّنَ فِي قَوْله تَعَالَى :" مَا كَانَ عَلَى النَّبِيّ مِنْ حَرَج فِيمَا فَرَضَ اللَّه لَهُ " [ الْأَحْزَاب : ٣٨ ] أَيْ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُ فِي النِّسَاء الْمُحَلَّلَات.
أَيْ حَلَّلَ لَكُمْ مِلْك الْأَيْمَان، فَلِمَ تُحَرِّم مَارِيَة عَلَى نَفْسك مَعَ تَحْلِيل اللَّه إِيَّاهَا لَك.
وَقِيلَ : تَحِلَّة الْيَمِين الِاسْتِثْنَاء، أَيْ فَرَضَ اللَّه لَكُمْ الِاسْتِثْنَاء الْمُخْرِج عَنْ الْيَمِين.
ثُمَّ عِنْد قَوْم يَجُوز الِاسْتِثْنَاء مِنْ الْأَيْمَان مَتَى شَاءَ وَإِنْ تَحَلَّلَ مُدَّة.
وَعِنْد الْمُعْظَم لَا يَجُوز إِلَّا مُتَّصِلًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ : اِسْتَثْنِ بَعْد هَذَا فِيمَا تَحْلِف عَلَيْهِ.
وَتَحِلَّة الْيَمِين تَحْلِيلهَا بِالْكَفَّارَةِ، وَالْأَصْل تَحْلِلَة، فَأُدْغِمَتْ.
وَتَفْعِلَة مِنْ مَصَادِر فَعَّلَ ; كَالتَّسْمِيَةِ وَالتَّوْصِيَة.
فَالتَّحِلَّة تَحْلِيل الْيَمِين.
فَكَأَنَّ الْيَمِين عَقْد وَالْكَفَّارَة حَلّ.
وَقِيلَ : التَّحِلَّة الْكَفَّارَة ; أَيْ إِنَّهَا تَحِلّ لِلْحَالِفِ مَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسه ; أَيْ إِذَا كَفَّرَ صَارَ كَمَنْ لَمْ يَحْلِف.
وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
وَلِيّكُمْ وَنَاصِركُمْ بِإِزَالَةِ الْحَظْر فِيمَا تُحَرِّمُونَهُ عَلَى أَنْفُسكُمْ، وَبِالتَّرْخِيصِ لَكُمْ فِي تَحْلِيل أَيْمَانكُمْ بِالْكَفَّارَةِ، وَبِالثَّوَابِ عَلَى مَا تُخْرِجُونَهُ فِي الْكَفَّارَة.
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا
أَيْ وَاذْكُرْ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيّ إِلَى حَفْصَة " حَدِيثًا " يَعْنِي تَحْرِيم مَارِيَة عَلَى نَفْسه وَاسْتِكْتَامه إِيَّاهَا ذَلِكَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : أَسَرَّ إِلَيْهَا أَنَّ أَبَاك وَأَبَا عَائِشَة يَكُونَانِ خَلِيفَتَيَّ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي ; وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
قَالَ : أَسَرَّ أَمْر الْخِلَافَة بَعْده إِلَى حَفْصَة فَذَكَرَتْهُ حَفْصَة.
رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنه عَنْ الْكَلْبِيّ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى :" وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيّ إِلَى بَعْض أَزْوَاجه حَدِيثًا " قَالَ : اِطَّلَعَتْ حَفْصَة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُمّ إِبْرَاهِيم فَقَالَ :( لَا تُخْبِرِي عَائِشَة ) وَقَالَ لَهَا ( إِنَّ أَبَاك وَأَبَاهَا سَيَمْلِكَانِ أَوْ سَيَلِيَانِ بَعْدِي فَلَا تُخْبِرِي عَائِشَة ) قَالَ : فَانْطَلَقَتْ حَفْصَة فَأَخْبَرَتْ عَائِشَة فَأَظْهَرَهُ اللَّه عَلَيْهِ، فَعَرَّفَ بَعْضه وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْض.
قَالَ أَعْرَضَ عَنْ قَوْله :( إِنَّ أَبَاك وَأَبَاهَا يَكُونَانِ بَعْدِي ).
كَرِهَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْشُر ذَلِكَ فِي النَّاس.
فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ
أَيْ أَخْبَرَتْ بِهِ عَائِشَة لِمُصَافَاةٍ كَانَتْ بَيْنهمَا، وَكَانَتَا مُتَظَاهِرَتَيْنِ عَلَى نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ
أَيْ أَطْلَعَهُ اللَّه عَلَى أَنَّهَا قَدْ نَبَّأَتْ بِهِ.
وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " فَلَمَّا أَنْبَأَتْ " وَهُمَا لُغَتَانِ : أَنْبَأَ وَنَبَّأَ.
عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ
عَرَّفَ حَفْصَة بَعْض مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَائِشَة بِمَا نَهَاهَا عَنْ أَنْ تُخْبِرهَا، وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْض تَكَرُّمًا ; قَالَهُ السُّدِّيّ.
وَقَالَ الْحَسَن : مَا اِسْتَقْصَى كَرِيم قَطُّ، قَالَ اللَّه تَعَالَى " عَرَّفَ بَعْضه وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْض ".
وَقَالَ مُقَاتِل : يَعْنِي أَخْبَرَهَا بِبَعْضِ مَا قَالَتْ لِعَائِشَة، وَهُوَ حَدِيث أُمّ وَلَده وَلَمْ يُخْبِرهَا بِبَعْضٍ وَهُوَ قَوْل حَفْصَة لِعَائِشَة : إِنَّ أَبَا بَكْر وَعُمَر سَيَمْلِكَانِ بَعْده.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " عَرَّفَ " مُشَدَّدًا، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم، يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى :" وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْض " أَيْ لَمْ يُعَرِّفهَا إِيَّاهُ.
وَلَوْ كَانَتْ مُخَفَّفَة لَقَالَ فِي ضِدّه وَأَنْكَرَ بَعْضًا.
وَقَرَأَ عَلِيّ وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف وَأَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَالْكَلْبِيّ وَالْكِسَائِيّ وَالْأَعْمَش عَنْ أَبِي بَكْر " عَرَفَ " مُخَفَّفَة.
قَالَ عَطَاء : كَانَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ إِذَا قَرَأَ عَلَيْهِ الرَّجُل " عَرَّفَ " مُشَدَّدَة حَصَبَهُ بِالْحِجَارَةِ.
قَالَ الْفَرَّاء : وَتَأْوِيل قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" عَرَفَ بَعْضه " بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ غَضِبَ فِيهِ وَجَازَى عَلَيْهِ ; وَهُوَ كَقَوْلِك لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْك : لَأَعْرِفَنَّ لَك مَا فَعَلْت، أَيْ لَأُجَازِيَنَّكَ عَلَيْهِ.
وَجَازَاهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ طَلَّقَهَا طَلْقَة وَاحِدَة.
فَقَالَ عُمَر : لَوْ كَانَ فِي آل الْخَطَّاب خَيْر لَمَا كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَك.
فَأَمَرَهُ جِبْرِيل بِمُرَاجَعَتِهَا وَشَفَعَ فِيهَا.
وَاعْتَزَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ شَهْرًا، وَقَعَدَ فِي مَشْرُبَة مَارِيَة أُمّ إِبْرَاهِيم حَتَّى نَزَلَتْ آيَة التَّحْرِيم عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ : هَمَّ بِطَلَاقِهَا حَتَّى قَالَ لَهُ جِبْرِيل :( لَا تُطَلِّقهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَة قَوَّامَة وَإِنَّهَا مِنْ نِسَائِك فِي الْجَنَّة ) فَلَمْ يُطَلِّقهَا.
فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ
أَيْ أَخْبَرَ حَفْصَة بِمَا أَظْهَرَهُ اللَّه عَلَيْهِ.
قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا
يَا رَسُول اللَّه عَنِّي.
فَظَنَّتْ أَنَّ عَائِشَة أَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :
قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ
أَيْ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء.
و " هَذَا " سَدَّ مَسَدّ مَفْعُولَيْ " أَنْبَأَ ".
و " نَبَّأَ " الْأَوَّل تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، و " نَبَّأَ " الثَّانِي تَعَدَّى إِلَى مَفْعُول وَاحِد، لِأَنَّ نَبَّأَ وَأَنْبَأَ إِذَا لَمْ يَدْخُلَا عَلَى الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر جَازَ أَنْ يُكْتَفَى فِيهِمَا بِمَفْعُولٍ وَاحِد وَبِمَفْعُولَيْنِ، فَإِذَا دَخَلَا عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر تَعَدَّى كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى ثَلَاثَة مَفَاعِيل.
وَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَار عَلَى الِاثْنَيْنِ دُون الثَّالِث، لِأَنَّ الثَّالِث هُوَ خَبَر الْمُبْتَدَأ فِي الْأَصْل فَلَا يُقْتَصَر دُونه، كَمَا لَا يُقْتَصَر عَلَى الْمُبْتَدَأ دُونَ الْخَبَر.
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ
يَعْنِي حَفْصَة وَعَائِشَة، حَثَّهُمَا عَلَى التَّوْبَة عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمَا مِنْ الْمَيْل إِلَى خِلَاف مَحَبَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا
أَيْ زَاغَتْ وَمَالَتْ عَنْ الْحَقّ.
وَهُوَ أَنَّهُمَا أَحَبَّتَا مَا كَرِهَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اِجْتِنَاب جَارِيَته وَاجْتِنَاب الْعَسَل، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يُحِبّ الْعَسَل وَالنِّسَاء.
قَالَ اِبْن زَيْد : مَالَتْ قُلُوبهمَا بِأَنَّ سِرّهمَا أَنْ يَحْتَبِس عَنْ أُمّ وَلَده، فَسَرَّهُمَا مَا كَرِهَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ : فَقَدْ مَالَتْ قُلُوبكُمَا إِلَى التَّوْبَة.
وَقَالَ :" فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُمَا " وَلَمْ يَقُلْ : فَقَدْ صَغَى قَلْبَاكُمَا، وَمِنْ شَأْن الْعَرَب إِذَا ذَكَرُوا الشَّيْئَيْنِ، مِنْ اِثْنَيْنِ جَمَعُوهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يُشْكِل.
وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْمَائِدَة " فِي قَوْله تَعَالَى :" فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا " [ الْمَائِدَة : ٣٨ ].
وَقِيلَ : كُلَّمَا ثَبَتَتْ الْإِضَافَة فِيهِ مَعَ التَّثْنِيَة فَلَفْظ الْجَمْع أَلْيَق بِهِ، لِأَنَّهُ أَمْكَن وَأَخَفّ.
وَلَيْسَ قَوْله :" فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُمَا " جَزَاء لِلشَّرْطِ، لِأَنَّ هَذَا الصَّغْو كَانَ سَابِقًا، فَجَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف لِلْعِلْمِ بِهِ.
أَيْ إِنْ تَتُوبَا كَانَ خَيْرًا لَكُمَا، إِذْ قَدْ صَغَتْ قُلُوبكُمَا.
وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ
أَيْ تَتَظَاهَرَا وَتَتَعَاوَنَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْإِيذَاء.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَكَثْت سَنَة وَأَنَا أُرِيد أَنْ أَسْأَل عُمَر بْن الْخَطَّاب عَنْ آيَة فَمَا أَسْتَطِيع أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَة لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْت مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ فَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيق عَدَلَ إِلَى الْأَرَاك لِحَاجَةٍ لَهُ، فَوَقَفْت حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ سِرْت مَعَهُ فَقُلْت : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجه ؟ فَقَالَ : تِلْكَ حَفْصَة وَعَائِشَة.
قَالَ فَقُلْت لَهُ : وَاَللَّه إِنْ كُنْت لَأُرِيد أَنْ أَسْأَلَك عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَة فَمَا أَسْتَطِيع هَيْبَة لَك.
قَالَ : فَلَا تَفْعَل، مَا ظَنَنْت أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْم فَسَلْنِي عَنْهُ، فَإِنْ كُنْت أَعْلَمهُ أَخْبَرْتُك.
وَذَكَرَ الْحَدِيث.
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ
أَيْ وَلِيّه وَنَاصِره، فَلَا يَضُرّهُ ذَلِكَ التَّظَاهُر مِنْهُمَا.
وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ
قَالَ عِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر : أَبُو بَكْر وَعُمَر، لِأَنَّهُمَا أَبَوَا عَائِشَة وَحَفْصَة، وَقَدْ كَانَا عَوْنًا لَهُ عَلَيْهِمَا.
وَقِيلَ : صَالِح الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَقِيلَ : خِيَار الْمُؤْمِنِينَ.
وَصَالِح : اِسْم جِنْس كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَالْعَصْر.
إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر " [ الْعَصْر : ٢ ]، قَالَهُ الطَّبَرِيّ.
وَقِيلَ :" صَالِح الْمُؤْمِنِينَ " هُمْ الْأَنْبِيَاء، قَالَ الْعَلَاء بْن زِيَادَة وَقَتَادَة وَسُفْيَان.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : هُمْ الْمَلَائِكَة.
السُّدِّيّ : هُمْ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ :" صَالِح الْمُؤْمِنِينَ " لَيْسَ لَفْظ الْوَاحِد وَإِنَّمَا هُوَ صَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ : فَأَضَافَ الصَّالِحِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكُتِبَ بِغَيْرِ وَاو عَلَى اللَّفْظ لِأَنَّ لَفْظ الْوَاحِد وَالْجَمْع وَاحِد فِيهِ.
كَمَا جَاءَتْ أَشْيَاء فِي الْمُصْحَف مُتَنَوِّع فِيهَا حُكْم اللَّفْظ دُون وَضْع الْخَطّ.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : حَدَّثَنِي عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَمَّا اِعْتَزَلَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ قَالَ دَخَلْت الْمَسْجِد فَإِذَا النَّاس يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى وَيَقُولُونَ : طَلَّقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ - وَذَلِكَ قَبْل أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَابِ - فَقَالَ عُمَر : فَقُلْت لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْم، قَالَ فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَة فَقُلْت : يَا بِنْتَ أَبِي بَكْر، أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنك أَنْ تُؤْذِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! فَقَالَتْ : مَالِي وَمَالَك يَا ابْن الْخَطَّاب ! عَلَيْك بِعَيْبَتِك ! قَالَ فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَة بِنْت عُمَر فَقُلْت لَهَا : يَا حَفْصَة، أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنك أَنْ تُؤْذِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! وَاَللَّه لَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُحِبّك، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَبَكَتْ أَشَدّ الْبُكَاء، فَقُلْت لَهَا : أَيْنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : هُوَ فِي خِزَانَته فِي الْمَشْرُبَة.
فَدَخَلْت فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّة الْمَشْرُبَة مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِير مِنْ خَشَب، وَهُوَ جِذْع يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْحَدِر.
فَنَادَيْت : يَا رَبَاح، اِسْتَأْذِنْ لِي عِنْدك عَلَى رَسُول اللَّه، فَنَظَرَ رَبَاح إِلَى الْغَرْفَة ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
ثُمَّ قُلْت : يَا رَبَاح، اِسْتَأْذِنْ لِي عِنْدك عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ رَبَاح إِلَى الْغَرْفَة ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
ثُمَّ رَفَعْت صَوْتِي فَقُلْت : يَا رَبَاح، اِسْتَأْذِنْ لِي عِنْدك عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنِّي أَظُنّ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنِّي جِئْت مِنْ أَجْل حَفْصَة، وَاَللَّه لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَرْبِ عُنُقهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقهَا، وَرَفَعْت صَوْتِي فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنْ ارْقَهْ ; فَدَخَلْت عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِع عَلَى حَصِير، فَجَلَسْت فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَاره وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْره ; وَإِذَا الْحَصِير قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبه، فَنَظَرْت بِبَصَرِي فِي خِزَانَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِير نَحْو الصَّاع، وَمِثْلهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَة الْغُرْفَة ; وَإِذَا أَفِيق مُعَلَّق - قَالَ - فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ.
قَالَ :( مَا يُبْكِيك يَا ابْن الْخَطَّاب ) ؟ قُلْت يَا نَبِيّ اللَّه، وَمَالِي لَا أَبْكَى وَهَذَا الْحَصِير قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبك، وَهَذِهِ خِزَانَتك لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى ! وَذَاكَ قَيْصَر وَكَسْرَى فِي الثِّمَار وَالْأَنْهَار وَأَنْتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفْوَته، وَهَذِهِ خِزَانَتك ! فَقَالَ :( يَا ابْن الْخَطَّاب أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُون لَنَا الْآخِرَة وَلَهُمْ الدُّنْيَا ) قُلْت : بَلَى.
قَالَ : وَدَخَلْت عَلَيْهِ حِينَ دَخَلْت وَأَنَا أَرَى فِي وَجْهه الْغَضَب، فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه، مَا يَشُقّ عَلَيْك مِنْ شَأْن النِّسَاء ; فَإِنْ كُنْت طَلَّقْتهنَّ فَإِنَّ اللَّه مَعَك وَمَلَائِكَته وَجِبْرِيل وَمِيكَائِيل، وَأَنَا وَأَبُو بَكْر وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَك.
وَقَلَّمَا تَكَلَّمْت - وَأَحْمَد اللَّه - بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْت أَنْ يَكُون اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُصَدِّق قَوْلِي الَّذِي أَقُول وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة، آيَة التَّخْيِير :" عَسَى رَبّه إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ " [ التَّحْرِيم : ٥ ].
" وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّه هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل وَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَة بَعْد ذَلِكَ ظَهِير ".
وَكَانَتْ عَائِشَة بِنْت أَبِي بَكْر وَحَفْصَة تَظَاهَرَانِ عَلَى سَائِر نِسَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه، أَطَلَّقْتهنَّ ؟ قَالَ :( لَا ).
قُلْت : يَا رَسُول اللَّه، إِنِّي دَخَلَتْ الْمَسْجِد وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى يَقُولُونَ : طَلَّقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ أَفَأَنْزِل فَأُخْبِرهُمْ أَنَّك لَمْ تُطَلِّقهُنَّ ؟ قَالَ :( نَعَمْ إِنْ شِئْت ).
فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثهُ حَتَّى تَحَسَّرَ الْغَضَب عَنْ وَجْهه، وَحَتَّى كَشَرَ فَضَحِكَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَن النَّاس ثَغْرًا.
ثُمَّ نَزَلَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلْت ; فَنَزَلْت أَتَشَبَّث بِالْجِذْعِ، وَنَزَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْض مَا يَمَسّهُ بِيَدِهِ.
فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّمَا كُنْت فِي الْغُرْفَة تِسْعًا وَعِشْرِينَ.
قَالَ :( إِنَّ الشَّهْر يَكُون تِسْعًا وَعِشْرِينَ ) فَقُمْت عَلَى بَاب الْمَسْجِد فَنَادَيْت بِأَعْلَى صَوْتِي : لَمْ يُطَلِّقْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ.
وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة :" وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْر مِنْ الْأَمْن أَوْ الْخَوْف أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أُولِي الْأَمْر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ " [ النِّسَاء : ٨٣ ].
فَكُنْت أَنَا اِسْتَنْبَطْت ذَلِكَ الْأَمْر ; وَأَنْزَلَ اللَّه آيَة التَّخْيِير.
قَوْله تَعَالَى :" وَجِبْرِيل " فِيهِ لُغَات تَقَدَّمَتْ فِي سُورَة " الْبَقَرَة ".
وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْطُوفًا عَلَى " مَوْلَاهُ " وَالْمَعْنَى : اللَّه وَلِيّه وَجِبْرِيل وَلِيّه ; فَلَا يُوقَف عَلَى " مَوْلَاهُ " وَيُوقَف عَلَى " جِبْرِيل " وَيَكُون " وَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ " مُبْتَدَأ " وَالْمَلَائِكَة " مَعْطُوفًا عَلَيْهِ.
و " ظَهِير " خَبَرًا ; وَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْع.
وَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ أَبُو بَكْر ; قَالَهُ الْمُسَيِّب بْن شَرِيك.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : عُمَر.
وَقَالَ عِكْرِمَة : أَبُو بَكْر وَعُمَر.
وَرَوَى شَقِيق عَنْ عَبْد اللَّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى :" فَإِنَّ اللَّه هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل وَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ " قَالَ : إِنَّ صَالِح الْمُؤْمِنِينَ أَبُو بَكْر وَعُمَر.
وَقِيلَ : هُوَ عَلِيّ.
عَنْ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْس قَالَتْ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( " وَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ " عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب ).
وَقِيلَ غَيْر هَذَا مِمَّا تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون " وَجِبْرِيل " مُبْتَدَأ وَمَا بَعْده مَعْطُوفًا عَلَيْهِ.
وَالْخَبَر ( ( ظَهِير " وَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْع أَيْضًا.
فَيُوقَف عَلَى هَذَا عَلَى " مَوْلَاهُ ".
وَيَجُوز أَنْ يَكُون " جِبْرِيل وَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ " مَعْطُوفًا عَلَى " مَوْلَاهُ " فَيُوقَف عَلَى " الْمُؤْمِنِينَ " وَيَكُون " وَالْمَلَائِكَة بَعْد ذَلِكَ ظَهِير " اِبْتِدَاء وَخَبَرًا.
وَمَعْنَى " ظَهِير " أَعْوَان.
وَهُوَ بِمَعْنَى ظُهَرَاء ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَحَسُنَ أُولَئِكَ، رَفِيقًا " [ النِّسَاء : ٦٩ ].
وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : قَدْ جَاءَ فَعِيل لِلْكَثْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَا يَسْأَل حَمِيم حَمِيمًا.
يُبَصَّرُونَهُمْ " [ الْمَعَارِج :
١٠ - ١١ ].
وَقِيلَ : كَانَ التَّظَاهُر مِنْهُمَا فِي التَّحَكُّم عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّفَقَة، وَلِهَذَا آلَى مِنْهُنَّ شَهْرًا وَاعْتَزَلَهُنَّ.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : دَخَلَ أَبُو بَكْر يَسْتَأْذِن عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ النَّاس جُلُوسًا بِبَابِهِ لَمْ يُؤْذَن لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، قَالَ : فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْر فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَر فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، فَوَجَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا حَوْله نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا - قَالَ - فَقَالَ لَأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، لَوْ رَأَيْت بِنْت خَارِجَة سَأَلَتْنِي النَّفَقَة فَقُمْت إِلَيْهَا فَوَجَأْت عُنُقهَا ; فَضَحِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ :( هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَة ).
فَقَامَ أَبُو بَكْر إِلَى عَائِشَة يَجَأ عُنُقهَا، وَقَامَ عُمَر إِلَى حَفْصَة يَجَأ عُنُقهَا ; كِلَاهُمَا يَقُول : تَسْأَلْنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْده ! فَقُلْنَ : وَاَللَّه لَا نَسْأَل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْده.
ثُمَّ اِعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ.
ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة :" يَا أَيّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِك " حَتَّى بَلَغَ " لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا " [ الْأَحْزَاب :
٢٨ - ٢٩ ] الْحَدِيث.
وَقَدْ ذَكَرَاهُ فِي سُورَة " الْأَحْزَاب ".
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ
قَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيح أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ عَلَى لِسَان عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
ثُمَّ قِيلَ : كُلّ " عَسَى " فِي الْقُرْآن وَاجِب ; إِلَّا هَذَا.
وَقِيلَ : هُوَ وَاجِب وَلَكِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ وَهُوَ التَّطْلِيق وَلَمْ يُطَلِّقهُنَّ.
أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ
لِأَنَّكُنَّ لَوْ كُنْتُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ مَا طَلَّقَكُنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَعْنَاهُ السُّدِّيّ.
وَقِيلَ : هَذَا وَعْد مِنْ اللَّه تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ طَلَّقَهُنَّ فِي الدُّنْيَا أَنْ يُزَوِّجهُ فِي الدُّنْيَا نِسَاء خَيْرًا مِنْهُنَّ.
وَقُرِئَ " أَنْ يُبَدِّلهُ " بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف.
وَالتَّبْدِيل وَالْإِبْدَال بِمَعْنًى، كَالتَّنْزِيلِ وَالْإِنْزَال.
وَاَللَّه كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ كَانَ لَا يُطَلِّقهُنَّ، وَلَكِنْ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَته، عَلَى أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَهُنَّ أَبْدَلَهُ خَيْرًا مِنْهُنَّ تَخْوِيفًا لَهُنَّ.
وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِل قَوْمًا غَيْركُمْ " [ مُحَمَّد : ٣٨ ].
وَهُوَ إِخْبَار عَنْ الْقُدْرَة وَتَخْوِيف لَهُمْ، لَا أَنَّ فِي الْوُجُود مَنْ هُوَ خَيْر مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مُسْلِمَاتٍ
يَعْنِي مُخْلِصَات، قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر.
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ مُسْلِمَات لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَأَمْر رَسُوله.
مُؤْمِنَاتٍ
مُصَدِّقَات بِمَا أُمِرْنَ بِهِ وَنُهِينَ عَنْهُ.
قَانِتَاتٍ
مُطِيعَات.
وَالْقُنُوت : الطَّاعَة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
تَائِبَاتٍ
أَيْ مِنْ ذُنُوبهنَّ ; قَالَهُ السُّدِّيّ.
وَقِيلَ : رَاجِعَات إِلَى أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارِكَات لِمَحَابِّ أَنْفُسهنَّ.
عَابِدَاتٍ
أَيْ كَثِيرَات الْعِبَادَة لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كُلّ عِبَادَة فِي الْقُرْآن فَهُوَ التَّوْحِيد.
سَائِحَاتٍ
صَائِبَات ; قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَابْن جُبَيْر.
وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ وَابْنه عَبْد الرَّحْمَن وَيَمَان : مُهَاجِرَات.
قَالَ زَيْد : وَلَيْسَ فِي أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِيَاحَة إِلَّا الْهِجْرَة.
وَالسِّيَاحَة الْجَوَلَان فِي الْأَرْض.
وَقَالَ الْفَرَّاء وَالْقُتَبِيّ وَغَيْرهمَا : سُمِّيَ الصَّائِم سَائِحًا لِأَنَّ السَّائِح لَا زَادَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا يَأْكُل مِنْ حَيْثُ يَجِد الطَّعَام.
وَقِيلَ : ذَاهِبَات فِي طَاعَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; مِنْ سَاحَ الْمَاء إِذَا ذَهَبَ.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " التَّوْبَة " وَالْحَمْد لِلَّهِ.
ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا
أَيْ مِنْهُنَّ ثَيِّب وَمِنْهُنَّ بِكْر.
وَقِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ الثَّيِّب ثَيِّبًا لِأَنَّهَا رَاجِعَة إِلَى زَوْجهَا إِنْ أَقَامَ مَعَهَا، أَوْ إِلَى غَيْره إِنْ فَارَقَهَا.
وَقِيلَ : لِأَنَّهَا ثَابَتْ إِلَى بَيْت أَبَوَيْهَا.
وَهَذَا أَصَحّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلّ ثَيِّب تَعُود إِلَى زَوْج.
وَأَمَّا الْبِكْر فَهِيَ الْعَذْرَاء ; سُمِّيَتْ بِكْرًا لِأَنَّهَا عَلَى أَوَّل حَالَتهَا الَّتِي خُلِقَتْ بِهَا.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : أَرَادَ بِالثَّيِّبِ مِثْل آسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن، وَبِالْبِكْرِ مِثْل مَرْيَم ابْنَةَ عِمْرَان.
قُلْت : وَهَذَا إِنَّمَا يَمْشِي عَلَى قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ التَّبْدِيل وَعْد مِنْ اللَّه لِنَبِيِّهِ لَوْ طَلَّقَهُنَّ فِي الدُّنْيَا زَوَّجَهُ فِي الْآخِرَة خَيْرًا مِنْهُنَّ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
فِيهِ مَسْأَلَة وَاحِدَة :
وَهِيَ الْأَمْر بِوِقَايَةِ الْإِنْسَان نَفْسه وَأَهْله النَّار.
قَالَ الضَّحَّاك : مَعْنَاهُ قُوا أَنْفُسكُمْ، وَأَهْلُوكُمْ فَلْيَقُوا أَنْفُسهمْ نَارًا.
وَرَوَى عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : قُوا أَنْفُسكُمْ وَأْمُرُوا أَهْلِيكُمْ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاء حَتَّى يَقِيَهُمْ اللَّه بِكُمْ.
وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَتَادَة وَمُجَاهِد : قُوا أَنْفُسكُمْ بِأَفْعَالِكُمْ وَقُوا أَهْلِيكُمْ بِوَصِيَّتِكُمْ.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح، وَالْفِقْه الَّذِي يُعْطِيه الْعَطْف الَّذِي يَقْتَضِي التَّشْرِيك بَيْنَ الْمَعْطُوف وَالْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْفِعْل ; كَقَوْلِهِ :
عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاء بَارِدًا
وَكَقَوْلِهِ :
وَرَأَيْت زَوْجك فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
فَعَلَى الرَّجُل أَنْ يُصْلِح نَفْسه بِالطَّاعَةِ، وَيُصْلِح أَهْله إِصْلَاح الرَّاعِي لِلرَّعِيَّةِ.
فَفِي صَحِيح الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( كُلّكُمْ رَاعٍ وَكُلّكُمْ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّته فَالْإِمَام الَّذِي عَلَى النَّاس رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُول عَنْهُمْ وَالرَّجُل رَاعٍ عَلَى أَهْل بَيْته وَهُوَ مَسْئُول عَنْهُمْ ).
وَعَنْ هَذَا عَبَّرَ الْحَسَن فِي هَذِهِ الْآيَة بِقَوْلِهِ : يَأْمُرهُمْ وَيَنْهَاهُمْ.
وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء لَمَّا قَالَ :" قُوا أَنْفُسكُمْ " دَخَلَ فِيهِ الْأَوْلَاد ; لِأَنَّ الْوَلَد بَعْض مِنْهُ.
كَمَا دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى :" وَلَا عَلَى أَنْفُسكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتكُمْ " [ النُّور : ٦١ ] فَلَمْ يُفْرَدُوا بِالذِّكْرِ إِفْرَاد سَائِر الْقَرَابَات.
فَيُعَلِّمهُ الْحَلَال وَالْحَرَام، وَيُجَنِّبهُ الْمَعَاصِي وَالْآثَام، إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَام.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( حَقّ الْوَلَد عَلَى الْوَالِد أَنْ يُحْسِن اِسْمه وَيُعَلِّمهُ الْكِتَابَة وَيُزَوِّجهُ إِذَا بَلَغَ ).
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( مَا نَحَلَ وَالِد وَلَدًا أَفْضَل مِنْ أَدَب حَسَن ).
وَقَدْ رَوَى عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع ).
خَرَّجَهُ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْحَدِيث.
وَهَذَا لَفْظ أَبِي دَاوُدَ.
وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدَب قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مُرُوا الصَّبِيّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْع سِنِينَ فَإِذَا بَلَغَ عَشْر سِنِينَ فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا ).
وَكَذَلِكَ يُخْبِر أَهْله بِوَقْتِ الصَّلَاة وَوُجُوب الصِّيَام وَوُجُوب الْفِطْر إِذَا وَجَبَ ; مُسْتَنِدًا فِي ذَلِكَ إِلَى رُؤْيَة الْهِلَال.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِم أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوْتَرَ يَقُول :( قُومِي فَأَوْتِرِي يَا عَائِشَة ).
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( رَحِمَ اللَّه اِمْرَأً قَامَ مِنْ اللَّيْل فَصَلَّى فَأَيْقَظَ أَهْله فَإِنْ لَمْ تَقُمْ رَشَّ وَجْههَا بِالْمَاءِ.
رَحِمَ اللَّه اِمْرَأَة قَامَتْ مِنْ اللَّيْل تُصَلِّي وَأَيْقَظَتْ زَوْجهَا فَإِذَا لَمْ يَقُمْ رَشَّتْ عَلَى وَجْهه مِنْ الْمَاء ).
وَمِنْهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَيْقِظُوا صَوَاحِب الْحُجَر ).
وَيَدْخُل هَذَا فِي عُمُوم قَوْله تَعَالَى :" وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى " [ الْمَائِدَة : ٢ ].
وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : يَا رَسُول اللَّه، نَقِي أَنْفُسنَا، فَكَيْفَ لَنَا بِأَهْلِينَا ؟.
فَقَالَ :( تَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا نَهَاكُمْ اللَّه وَتَأْمُرُونَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّه ).
وَقَالَ مُقَاتِل : ذَلِكَ حَقّ عَلَيْهِ فِي نَفْسه وَوَلَده وَأَهْله وَعَبِيده وَإِمَائِهِ.
قَالَ إِلْكِيَا : فَعَلَيْنَا تَعْلِيم أَوْلَادنَا وَأَهْلِينَا الدِّين وَالْخَيْر، وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ الْأَدَب.
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى :" وَأْمُرْ أَهْلَك بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا " [ طَه : ١٣٢ ].
وَنَحْو قَوْله تَعَالَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" وَأَنْذِرْ عَشِيرَتك الْأَقْرَبِينَ ".
[ الشُّعَرَاء : ٢١٤ ].
وَفِي الْحَدِيث :( مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاء سَبْع ).
نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
أَيْ اِتَّقُوا النَّار بِتَصْدِيقِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَاعَة اللَّه تَعَالَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّقْوَى فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا.
وَيُقَال : إِنَّ لُغَة تَمِيم وَأَسَد " فَتَقُوا النَّار ".
وَحَكَى سِيبَوَيْهِ : تَقَى يَتْقِي، مِثْل قَضَى يَقْضِي.
" النَّار " مَفْعُولَة.
" الَّتِي " مِنْ نَعْتهَا.
وَفِيهَا ثَلَاث لُغَات : الَّتِي وَاللَّتِ ( بِكَسْرِ التَّاء ) وَاللَّتْ ( بِإِسْكَانِهَا ).
وَهِيَ اِسْم مُبْهَم لِلْمُؤَنَّثِ وَهِيَ مَعْرِفَة، وَلَا يَجُوز نَزْع الْأَلِف وَاللَّام مِنْهَا لِلتَّنْكِيرِ، وَلَا تَتِمّ إِلَّا بِصِلَةٍ وَفِي تَثْنِيَتهَا ثَلَاث لُغَات أَيْضًا : اللَّتَانِ وَاللَّتَا ( بِحَذْفِ النُّون ) وَاللَّتَانِّ ( بِتَشْدِيدِ النُّون ) وَفِي جَمْعهَا خَمْس لُغَات : اللَّاتِي، وَهِيَ لُغَة الْقُرْآن.
وَاللَّاتِ ( بِكَسْرِ التَّاء بِلَا يَاء ).
وَاَللَّوَاتِي.
وَاللَّوَاتِ ( بِلَا يَاء ) ; وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَة :
مِنْ اللَّوَاتِي وَاَلَّتِي وَاَللَّاتِي زَعَمْنَ أَنِّي قَدْ كَبِرْت لِدَاتِي
وَاللَّوَا ( بِإِسْقَاطِ التَّاء )، هَذَا مَا حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ وَزَادَ اِبْن الشَّجَرِيّ : اللَّائِي ( بِالْهَمْزِ وَإِثْبَات الْيَاء ).
وَاللَّاءِ ( بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَحَذْف الْيَاء ).
وَاللَّا ( بِحَذْفِ الْهَمْزَة ) فَإِنْ جَمَعْت الْجَمْع قُلْت فِي اللَّاتِي : اللَّوَاتِي وَفِي اللَّائِي : اللَّوَائِي.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَتَصْغِير الَّتِي اللَّتَيَّا ( بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيد ) ; قَالَ الرَّاجِز :
بَعْد اللُّتَيَّا وَاللَّتَيَّا وَاَلَّتِي إِذَا عَلَتْهَا أَنْفُس تَرَدَّتِ
وَبَعْض الشُّعَرَاء أَدْخَلَ عَلَى " الَّتِي " حَرْف النِّدَاء، وَحُرُوف النِّدَاء لَا تَدْخُل عَلَى مَا فِيهِ الْأَلِف وَاللَّام إِلَّا فِي قَوْلنَا : يَا اللَّه، وَحْده.
فَكَأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ الْأَلِف وَاللَّام غَيْر مُفَارِقَتَيْنِ لَهَا، وَقَالَ :
مِنْ أَجْلِك يَا الَّتِي تَيَّمْت قَلْبِي وَأَنْتِ بَخِيلَة بِالْوُدِّ عَنِّي
وَيُقَال : وَقَعَ فُلَان فِي اللُّتَيَّا وَاَلَّتِي ; وَهُمَا اِسْمَانِ مِنْ أَسْمَاء الدَّاهِيَة.
وَالْوَقُود ( بِالْفَتْحِ ) : الْحَطَب.
وَبِالضَّمِّ : التَّوَقُّد.
و " النَّاس " عُمُوم، وَمَعْنَاهُ الْخُصُوص فِيمَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَضَاء أَنَّهُ يَكُون حَطَبًا لَهَا، أَجَارَنَا اللَّه مِنْهَا.
" وَالْحِجَارَة " هِيَ حِجَارَة الْكِبْرِيت الْأَسْوَد - عَنْ اِبْن مَسْعُود وَالْفَرَّاء - وَخُصَّتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَزِيد عَلَى جَمِيع الْأَحْجَار بِخَمْسَةِ أَنْوَاع مِنْ الْعَذَاب : سُرْعَة الِاتِّقَاد، نَتْن الرَّائِحَة، كَثْرَة الدُّخَان، شِدَّة الِالْتِصَاق بِالْأَبْدَانِ، قُوَّة حَرّهَا إِذَا حَمِيَتْ.
وَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى :" وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة " دَلِيل عَلَى أَنْ لَيْسَ فِيهَا غَيْر النَّاس وَالْحِجَارَة ; بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ فِي غَيْر مَوْضِع مِنْ كَوْن الْجِنّ وَالشَّيَاطِين فِيهَا.
وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْحِجَارَةِ الْأَصْنَام، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه حَصَب جَهَنَّم " [ الْأَنْبِيَاء : ٩٨ ] أَيْ حَطَب جَهَنَّم.
وَعَلَيْهِ فَتَكُون الْحِجَارَة وَالنَّاس وَقُودًا لِلنَّارِ وَذَكَرَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِلنَّارِ أَنَّهَا تُحْرِق الْحِجَارَة مَعَ إِحْرَاقهَا لِلنَّاسِ.
وَعَلَى التَّأْوِيل الْأَوَّل يَكُونُونَ مُعَذَّبِينَ بِالنَّارِ وَالْحِجَارَة.
وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ
يَعْنِي الْمَلَائِكَة الزَّبَانِيَة غِلَاظ الْقُلُوب لَا يَرْحَمُونَ إِذَا اُسْتُرْحِمُوا خُلِقُوا مِنْ الْغَضَب، وَحُبِّبَ إِلَيْهِمْ عَذَاب الْخَلْق كَمَا حُبِّبَ لِبَنِي آدَم أَكْل الطَّعَام وَالشَّرَاب.
" شِدَاد " أَيْ شِدَاد الْأَبْدَان.
وَقِيلَ : غِلَاظ الْأَقْوَال شِدَاد الْأَفْعَال.
وَقِيلَ غِلَاظ فِي أَخْذهمْ أَهْل النَّار شِدَاد عَلَيْهِمْ.
يُقَال : فُلَان شَدِيد عَلَى فُلَان ; أَيْ قَوِيّ عَلَيْهِ يُعَذِّبهُ بِأَنْوَاعِ الْعَذَاب.
وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْغِلَاظِ ضَخَامَة أَجْسَامهمْ، وَبِالشِّدَّةِ الْقُوَّة.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْ الْوَاحِد مِنْهُمْ مَسِيرَة سَنَة، وَقُوَّة الْوَاحِد مِنْهُمْ أَنْ يَضْرِب بِالْمِقْمَعِ فَيَدْفَع بِتِلْكَ الضَّرْبَة سَبْعِينَ أَلْف إِنْسَان فِي قَعْر جَهَنَّم.
وَذَكَرَ اِبْن وَهْب قَالَ : وَحَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَزَنَة جَهَنَّم :( مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْ أَحَدهمْ كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب ).
شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَيْ لَا يُخَالِفُونَهُ فِي أَمْره مِنْ زِيَادَة أَوْ نُقْصَان.
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
أَيْ فِي وَقْته، فَلَا يُؤَخِّرُونَهُ وَلَا يُقَدِّمُونَهُ.
وَقِيلَ أَيْ لَذَّتهمْ فِي اِمْتِثَال أَمْر اللَّه ; كَمَا أَنَّ سُرُور أَهْل الْجَنَّة فِي الْكَوْن فِي الْجَنَّة ; ذَكَرَهُ بَعْض الْمُعْتَزِلَة.
وَعِنْدهمْ أَنَّهُ يَسْتَحِيل التَّكَيُّف غَدًا.
وَلَا يَخْفَى مُعْتَقَد أَهْل الْحَقّ فِي أَنَّ اللَّه يُكَلِّف الْعَبْد الْيَوْم وَغَدًا، وَلَا يُنْكِر التَّكْلِيف فِي حَقّ الْمَلَائِكَة.
وَلِلَّهِ أَنْ يَفْعَل مَا يَشَاء.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا
فَإِنَّ عُذْركُمْ لَا يَنْفَع.
وَهَذَا النَّهْي لِتَحْقِيقِ الْيَأْس.
الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ
فِي الدُّنْيَا.
وَنَظِيره :" فَيَوْمئِذٍ لَا يَنْفَع الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتهمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ " [ الرُّوم : ٥٧ ].
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ :
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّه " أَمْر بِالتَّوْبَةِ وَهِيَ فَرْض عَلَى الْأَعْيَان فِي كُلّ الْأَحْوَال وَكُلّ الْأَزْمَان.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانهَا وَالْقَوْل فِيهَا فِي " النِّسَاء " وَغَيْرهَا.
" تَوْبَة نَصُوحًا " اِخْتَلَفَتْ عِبَارَة الْعُلَمَاء وَأَرْبَاب الْقُلُوب فِي التَّوْبَة النَّصُوح عَلَى ثَلَاثَة وَعِشْرِينَ قَوْلًا ; فَقِيلَ : هِيَ الَّتِي لَا عَوْدَة بَعْدهَا كَمَا لَا يَعُود اللَّبَن إِلَى الضَّرْع ; وَرُوِيَ عَنْ عُمَر وَابْن مَسْعُود وَأُبَيّ بْن كَعْب وَمُعَاذ بْن جَبَل رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
وَرَفَعَهُ مُعَاذ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ قَتَادَة : النَّصُوح الصَّادِقَة النَّاصِحَة.
وَقِيلَ الْخَالِصَة ; يُقَال : نَصَحَ أَيْ أَخْلَصَ لَهُ الْقَوْل.
وَقَالَ الْحَسَن : النَّصُوح أَنْ يُبْغِض الذَّنْب الَّذِي أَحَبَّهُ وَيَسْتَغْفِر مِنْهُ إِذَا ذَكَرَهُ.
وَقِيلَ : هِيَ الَّتِي لَا يَثِق بِقَبُولِهَا وَيَكُون عَلَى وَجَل مِنْهَا.
وَقِيلَ : هِيَ الَّتِي لَا يُحْتَاج مَعَهَا إِلَى تَوْبَة.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : التَّوْبَة النَّصُوح النَّدَم بِالْقَلْبِ، وَالِاسْتِغْفَار بِاللِّسَانِ، وَالْإِقْلَاع عَنْ الذَّنْب، وَالِاطْمِئْنَان عَلَى أَنَّهُ لَا يَعُود.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : هِيَ التَّوْبَة الْمَقْبُولَة ; وَلَا تُقْبَل مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَلَاثَة شُرُوط : خَوْف أَلَّا تُقْبَل، وَرَجَاء أَنْ تُقْبَل، وَإِدْمَان الطَّاعَات.
وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : تَوْبَة تَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسكُمْ.
وَقَالَ الْقُرَظِيّ : يَجْمَعهَا أَرْبَعَة أَشْيَاء : الِاسْتِغْفَار بِاللِّسَانِ، وَإِقْلَاع بِالْأَبْدَانِ، وَإِضْمَار تَرْك الْعَوْد بِالْجِنَانِ، وَمُهَاجَرَة سَيِّئ الْخِلَّانِ.
وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : عَلَامَة التَّوْبَة النَّصُوح أَرْبَعَة : الْقِلَّة وَالْعِلَّة وَالذِّلَّة وَالْغُرْبَة.
وَقَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض : هُوَ أَنْ يَكُون الذَّنْب بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَلَا يَزَال كَأَنَّهُ يَنْظُر إِلَيْهِ.
وَنَحْوه عَنْ اِبْن السِّمَاك : أَنْ تَنْصِب الذَّنْب الَّذِي أَقْلَلْت فِيهِ الْحَيَاء مِنْ اللَّه أَمَام عَيْنك وَتَسْتَعِدّ لِمُنْتَظِرِك.
وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق : هُوَ أَنْ تَضِيق عَلَيْك الْأَرْض بِمَا رَحُبَتْ، وَتَضِيق عَلَيْك نَفْسك ; كَالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.
وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَاسِطِيّ : هِيَ تَوْبَة لَا لِفَقْدِ عِوَض ; لِأَنَّ مَنْ أَذْنَبَ فِي الدُّنْيَا لِرَفَاهِيَةِ نَفْسه ثُمَّ تَابَ طَلَبًا لِرَفَاهِيَتِهَا فِي الْآخِرَة ; فَتَوْبَته عَلَى حِفْظ نَفْسه لَا لِلَّهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْر الدَّقَّاق الْمِصْرِيّ : التَّوْبَة النَّصُوح هِيَ رَدّ الْمَظَالِم، وَاسْتِحْلَال الْخُصُوم، وَإِدْمَان الطَّاعَات.
وَقَالَ رُوَيْم : هُوَ أَنْ تَكُون لِلَّهِ وَجْهًا بِلَا قَفًا، كَمَا كُنْت لَهُ عِنْد الْمَعْصِيَة قَفًا بِلَا وَجْه.
وَقَالَ ذُو النُّون : عَلَامَة التَّوْبَة النَّصُوح ثَلَاث : قِلَّة الْكَلَام، وَقِلَّة الطَّعَام، وَقِلَّة الْمَنَام.
وَقَالَ شَقِيق : هُوَ أَنْ يُكْثِر صَاحِبهَا لِنَفْسِهِ الْمَلَامَة، وَلَا يَنْفَكّ مِنْ النَّدَامَة ; لِيَنْجُوَ مِنْ آفَاتهَا بِالسَّلَامَةِ.
وَقَالَ سَرِيّ السَّقَطِيّ : لَا تَصْلُح التَّوْبَة النَّصُوح إِلَّا بِنَصِيحَةِ النَّفْس وَالْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ مَنْ صَحَّتْ تَوْبَته أَحَبَّ أَنْ يَكُون النَّاس مِثْله.
وَقَالَ الْجُنَيْد : التَّوْبَة النَّصُوح هُوَ أَنْ يَنْسَى الذَّنْب فَلَا يَذْكُرهُ أَبَدًا ; لِأَنَّ مَنْ صَحَّتْ تَوْبَته صَارَ مُحِبًّا لِلَّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّه نَسِيَ مَا دُون اللَّه.
وَقَالَ ذُو الْأُذُنَيْنِ : هُوَ أَنْ يَكُون لِصَاحِبِهَا دَمْع مَسْفُوح، وَقَلْب عَنْ الْمَعَاصِي جَمُوح.
وَقَالَ فَتْح الْمَوْصِلِيّ : عَلَامَتهَا ثَلَاث : مُخَالَفَة الْهَوَى، وَكَثْرَة الْبُكَاء، وَمُكَابَدَة الْجُوع وَالظَّمَأ.
وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه التُّسْتَرِيّ : هِيَ التَّوْبَة لِأَهْلِ السُّنَّة وَالْجَمَاعَة ; لِأَنَّ الْمُبْتَدِع لَا تَوْبَة لَهُ ; بِدَلِيلِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( حَجَبَ اللَّه عَلَى كُلّ صَاحِب بِدْعَة أَنْ يَتُوب ).
وَعَنْ حُذَيْفَة : بِحَسْب الرَّجُل مِنْ الشَّرّ أَنْ يَتُوب مِنْ الذَّنْب ثُمَّ يَعُود فِيهِ.
وَأَصْل التَّوْبَة النَّصُوح مِنْ الْخُلُوص ; يُقَال : هَذَا عَسَل نَاصِح إِذَا خَلَصَ مِنْ الشَّمْع.
وَقِيلَ : هِيَ مَأْخُوذَة مِنْ النَّصَاحَة وَهِيَ الْخِيَاطَة.
وَفِي أَخْذهَا مِنْهَا وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : لِأَنَّهَا تَوْبَة قَدْ أَحْكَمَتْ طَاعَته وَأَوْثَقَتْهَا كَمَا يُحْكِم الْخَيَّاط الثَّوْب بِخِيَاطَتِهِ وَيُوثِقهُ.
وَالثَّانِي : لِأَنَّهَا قَدْ جَمَعَتْ بَيْنه وَبَيْنَ أَوْلِيَاء اللَّه وَأَلْصَقَتْهُ بِهِمْ ; كَمَا يَجْمَع الْخَيَّاط الثَّوْب وَيُلْصِق بَعْضه بِبَعْضٍ.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " نَصُوحًا " بِفَتْحِ النُّون، عَلَى نَعْت التَّوْبَة، مِثْل اِمْرَأَة صَبُور، أَيْ تَوْبَة بَالِغَة فِي النُّصْح.
وَقَرَأَ الْحَسَن وَخَارِجَة وَأَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم بِالضَّمِّ ; وَتَأْوِيله عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة : تَوْبَة نُصْح لِأَنْفُسِكُمْ.
وَقِيلَ : يَجُوز أَنْ يَكُون " نُصُوحًا "، جَمْع نُصْح، وَأَنْ يَكُون مَصْدَرًا، يُقَال : نَصَحَ نَصَاحَة وَنُصُوحًا.
وَقَدْ يَتَّفِق فَعَالَة وَفُعُول فِي الْمَصَادِر، نَحْو الذَّهَاب وَالذُّهُوب.
وَقَالَ الْمُبَرِّد : أَرَادَ تَوْبَة ذَات نُصْح، يُقَال : نَصَحْت نُصْحًا وَنَصَاحَة وَنُصُوحًا.
الثَّانِيَة : فِي الْأَشْيَاء الَّتِي يُتَاب مِنْهَا وَكَيْفَ التَّوْبَة مِنْهَا.
قَالَ الْعُلَمَاء : الذَّنْب الَّذِي تَكُون مِنْهُ التَّوْبَة لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُون حَقًّا لِلَّهِ أَوْ لِلْآدَمِيِّينَ.
فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ كَتَرْكِ صَلَاة فَإِنَّ التَّوْبَة لَا تَصِحّ مِنْهُ حَتَّى يَنْضَمّ إِلَى النَّدَم قَضَاء مَا فَاتَ مِنْهَا.
وَهَكَذَا إِنْ كَانَ تَرْك صَوْم أَوْ تَفْرِيطًا فِي الزَّكَاة.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَتْل نَفْس بِغَيْرِ حَقّ فَأَنْ يُمَكَّن مِنْ الْقِصَاص إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَكَانَ مَطْلُوبًا بِهِ.
وَإِنْ كَانَ قَذْفًا يُوجِب الْحَدّ فَيَبْذُل ظَهْره لِلْجَلْدِ إِنْ كَانَ مَطْلُوبًا بِهِ.
فَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ كَفَاهُ النَّدَم وَالْعَزْم عَلَى تَرْك الْعَوْد بِالْإِخْلَاصِ.
وَكَذَلِكَ إِنْ عُفِيَ عَنْهُ فِي الْقَتْل بِمَالٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ إِنْ كَانَ وَاجِدًا لَهُ، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء فَاتِّبَاع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ " [ الْبَقَرَة : ١٧٨ ].
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا مِنْ حُدُود اللَّه كَائِنًا مَا كَانَ فَإِنَّهُ إِذَا تَابَ إِلَى اللَّه تَعَالَى بِالنَّدَمِ الصَّحِيح سَقَطَ عَنْهُ.
وَقَدْ نَصَّ اللَّه تَعَالَى عَلَى سُقُوط الْحَدّ عَنْ الْمُحَارِبِينَ إِذَا تَابُوا قَبْل الْقُدْرَة عَلَيْهِمْ.
وَفِي ذَلِكَ دَلِيل عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُط عَنْهُمْ إِذَا تَابُوا بَعْد الْقُدْرَة عَلَيْهِمْ ; حَسْب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه.
وَكَذَلِكَ الشُّرَّاب وَالسُّرَّاق وَالزُّنَاة إِذَا أَصْلَحُوا وَتَابُوا وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، ثُمَّ رُفِعُوا إِلَى الْإِمَام فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحُدَّهُمْ.
وَإِنْ رُفِعُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا : تُبْنَا، لَمْ يُتْرَكُوا، وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَة كَالْمُحَارِبِينَ إِذَا غُلِبُوا.
هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ.
فَإِنْ كَانَ الذَّنْب مِنْ مَظَالِم الْعِبَاد فَلَا تَصِحّ التَّوْبَة مِنْهُ إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى صَاحِبه وَالْخُرُوج عَنْهُ - عَيْنًا كَانَ أَوْ غَيْره - إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فَالْعَزْم أَنْ يُؤَدِّيَهُ إِذَا قَدَرَ فِي أَعْجَل وَقْت وَأَسْرَعه.
وَإِنْ كَانَ أَضَرَّ بِوَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ الْوَاحِد لَا يَشْعُر بِهِ أَوْ لَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُتِيَ، فَإِنَّهُ يُزِيل ذَلِكَ الضَّرَر عَنْهُ، ثُمَّ يَسْأَلهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيَسْتَغْفِر لَهُ، فَإِذَا عَفَا عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ الذَّنْب عَنْهُ.
وَإِنْ أَرْسَلَ مَنْ يَسْأَل ذَلِكَ لَهُ، فَعَفَا ذَلِكَ الْمَظْلُوم عَنْ ظَالِمه - عَرَّفَهُ بِعَيْنِهِ أَوْ لَمْ يُعَرِّفهُ - فَذَلِكَ صَحِيح.
وَإِنْ أَسَاءَ رَجُل إِلَى رَجُل بِأَنْ فَزَّعَهُ بِغَيْرِ حَقّ، أَوْ غَمَّهُ أَوْ لَطَمَهُ، أَوْ صَفَعَهُ بِغَيْرِ حَقّ، أَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ فَآلَمَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مُسْتَعْفِيًا نَادِمًا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، عَازِمًا عَلَى أَلَّا يَعُود، فَلَمْ يَزَلْ يَتَذَلَّل لَهُ حَتَّى طَابَتْ نَفْسه فَعَفَا عَنْهُ، سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الذَّنْب.
وَهَكَذَا إِنْ كَانَ شَانَهُ بِشَتْمٍ لَا حَدَّ فِيهِ.
نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ
" عَسَى " مِنْ اللَّه وَاجِبَة.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( التَّائِب مِنْ الذَّنْب كَمَنْ لَا ذَنْب لَهُ ).
و " أَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع اِسْم عَسَى.
سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
مَعْطُوف عَلَى " يُكَفِّر ".
وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة " وَيُدْخِلْكُمْ " مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى مَحَلّ عَسَى أَنْ يُكَفِّر.
كَأَنَّهُ قِيلَ : تُوبُوا يُوجِب تَكْفِير سَيِّئَاتكُمْ وَيُدْخِلكُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار.
الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
الْعَامِل فِي " يَوْم " :" يُدْخِلكُمْ " أَوْ فِعْل مُضْمَر.
وَمَعْنَى " يُخْزِي " هُنَا يُعَذِّب، أَيْ لَا يُعَذِّبهُ وَلَا يُعَذِّب الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.
مَعَهُ نُورُهُمْ
أَيْ يَمْضِي عَلَى الصِّرَاط فِي قَوْل الْحَسَن، وَهُوَ الضِّيَاء الَّذِي يَمُرُّونَ فِيهِ
يَسْعَى بَيْنَ
أَيْ قُدَّامهمْ.
أَيْدِيهِمْ
قَالَ الْفَرَّاء : الْبَاء بِمَعْنَى فِي، أَيْ فِي أَيْمَانهمْ.
أَوْ بِمَعْنَى عَنْ أَيْ عَنْ أَيْمَانهمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاك :" نُورهمْ " هُدَاهُمْ " وَبِأَيْمَانِهِمْ " كُتُبهمْ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ.
أَيْ يَسْعَى إِيمَانهمْ وَعَمَلهمْ الصَّالِح بَيْنَ أَيْدِيهمْ، وَفِي أَيْمَانهمْ كُتُب أَعْمَالهمْ.
فَالْبَاء عَلَى هَذَا بِمَعْنَى فِي.
وَيَجُوز عَلَى هَذَا أَنْ يُوقَف عَلَى " بَيْنَ أَيْدِيهمْ " وَلَا يُوقَف إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى عَنْ.
وَقَرَأَ سَهْل بْن سَعْد السَّاعِدِيّ وَأَبُو حَيْوَةَ " وَبِأَيْمَانِهِمْ " بِكَسْرِ الْأَلِف، أَرَادَ الْإِيمَان الَّذِي هُوَ ضِدّ الْكُفْر وَعُطِفَ مَا لَيْسَ بِظَرْفٍ عَلَى الظَّرْفِ، لِأَنَّ مَعْنَى الظَّرْف الْحَال وَهُوَ مُتَعَلِّق بِمَحْذُوفٍ.
وَالْمَعْنَى يَسْعَى كَامِنًا " بَيْنَ أَيْدِيهمْ " وَكَائِنًا " بِأَيْمَانِهِمْ "، وَلَيْسَ قَوْله :" بَيْنَ أَيْدِيهمْ " مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ " يَسْعَى ".
وَقِيلَ : أَرَادَ بِالنُّورِ الْقُرْآن.
وَعَنْ اِبْن مَسْعُود : يُؤْتَوْنَ نُورهمْ عَلَى قَدْر أَعْمَالهمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْتَى نُوره كَالنَّخْلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْتَى نُوره كَالرَّجُلِ الْقَائِم، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُوره عَلَى إِبْهَام رِجْله فَيُطْفَأ مَرَّة وَيُوقَد أُخْرَى.
وَقَالَ قَتَادَة : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِنَّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يُضِيء نُوره كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَة وَعَدَن أَوْ مَا بَيْنَ الْمَدِينَة وَصَنْعَاء وَدُون ذَلِكَ حَتَّى يَكُون مِنْهُمْ مَنْ لَا يُضِيء نُوره إِلَّا مَوْضِع قَدَمَيْهِ ) قَالَ الْحَسَن : لِيَسْتَضِيئُوا بِهِ عَلَى الصِّرَاط كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ مُقَاتِل : لِيَكُونَ دَلِيلًا لَهُمْ إِلَى الْجَنَّة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : هَذَا دُعَاء الْمُؤْمِنِينَ حِينَ أَطْفَأَ اللَّه نُور الْمُنَافِقِينَ ; حَسْب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة " الْحَدِيد ".
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
فِيهِ مَسْأَلَة وَاحِدَة : وَهُوَ التَّشْدِيد فِي دِين اللَّه.
فَأَمَرَهُ أَنْ يُجَاهِد الْكُفَّار بِالسَّيْفِ وَالْمَوَاعِظ الْحَسَنَة وَالدُّعَاء إِلَى اللَّه.
وَالْمُنَافِقِينَ بِالْغِلْظَةِ وَإِقَامَة الْحُجَّة ; وَأَنْ يُعَرِّفهُمْ أَحْوَالَهُمْ فِي الْآخِرَة، وَأَنَّهُمْ لَا نُور لَهُمْ يَجُوزُونَ بِهِ الصِّرَاط مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ الْحَسَن : أَيْ جَاهِدْهُمْ بِإِقَامَةِ الْحُدُود عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْتَكِبُونَ مُوجِبَات الْحُدُود.
وَكَانَتْ الْحُدُود تُقَام عَلَيْهِمْ.
عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ
يَرْجِع إِلَى الصِّنْفَيْنِ.
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
أَيْ الْمَرْجِع.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ
ضَرَبَ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْمَثَل تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُغْنِي أَحَد فِي الْآخِرَة عَنْ قَرِيب وَلَا نَسِيب إِذَا فَرَّقَ بَيْنهمَا الدِّين.
وَكَانَ اِسْم اِمْرَأَة نُوح وَالِهَة، وَاسْم اِمْرَأَة لُوط وَالِعَة ; قَالَهُ مُقَاتِل.
وَقَالَ الضَّحَّاك عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : إِنَّ جِبْرِيل نَزَلَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ اِسْم اِمْرَأَة نُوح وَاغِلَة وَاسْم اِمْرَأَة لُوط وَالِهَة.
فَخَانَتَاهُمَا
قَالَ عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك.
بِالْكُفْرِ.
وَقَالَ سُلَيْمَان بْن رُقَيَّة وَالضَّحَّاك : بِالْكُفْرِ.
وَقَالَ سُلَيْمَان بْن رُقَيَّة عَنْ اِبْن عَبَّاس : كَانَتْ اِمْرَأَة نُوح تَقُول لِلنَّاسِ إِنَّهُ مَجْنُون.
وَكَانَتْ اِمْرَأَة لُوط تُخْبِر بِأَضْيَافِهِ.
وَعَنْهُ : مَا بَغَتْ اِمْرَأَهُ نَبِيّ قَطُّ.
وَهَذَا إِجْمَاع مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا ذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ.
إِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتهمَا فِي الدِّين وَكَانَتَا مُشْرِكَتَيْنِ.
وَقِيلَ : كَانَتَا مُنَافِقَتَيْنِ.
وَقِيلَ : خِيَانَتهمَا النَّمِيمَة إِذَا أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِمَا شَيْئًا أَفْشَتَاهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ ; قَالَهُ الضَّحَّاك.
وَقِيلَ : كَانَتْ اِمْرَأَة لُوط إِذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْف دَخَّنَتْ لِتُعْلِم قَوْمهَا أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِهِ ضَيْف ; لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ إِتْيَان الرِّجَال.
فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
أَيْ لَمْ يَدْفَع نُوح وَلُوط مَعَ كَرَامَتهمَا عَلَى اللَّه تَعَالَى عَنْ زَوْجَتَيْهِمَا - لَمَّا عَصَتَا - شَيْئًا مِنْ عَذَاب اللَّه ; تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَذَاب يُدْفَع بِالطَّاعَةِ لَا بِالْوَسِيلَةِ.
وَيُقَال : إِنَّ كُفَّار مَكَّة اِسْتَهْزَءُوا وَقَالُوا : إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَع لَنَا ; فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ شَفَاعَته لَا تَنْفَع كُفَّار مَكَّة وَإِنْ كَانُوا أَقْرِبَاء، كَمَا لَا تَنْفَع شَفَاعَة نُوح لِامْرَأَتِهِ وَشَفَاعَة لُوط لِامْرَأَتِهِ، مَعَ قُرْبهمَا لَهُمَا لِكُفْرِهِمَا.
وَقِيلَ لَهُمَا :
وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ
فِي الْآخِرَة ; كَمَا يُقَال لِكُفَّارِ مَكَّة وَغَيْرهمْ.
ثُمَّ قِيلَ : يَجُوز أَنْ تَكُون " اِمْرَأَة نُوح " بَدَلًا مِنْ قَوْله :" مَثَلًا " عَلَى تَقْدِير حَذْف الْمُضَاف ; أَيْ ضَرَبَ اللَّه مَثَلًا اِمْرَأَة نُوح.
وَيَجُوز أَنْ يَكُونَا مَفْعُولَيْنِ.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ
وَاسْمهَا آسِيَة بِنْت مُزَاحِم.
قَالَ يَحْيَى بْن سَلَّام : قَوْله " ضَرَبَ اللَّه مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا " مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه يُحَذِّر بِهِ عَائِشَة وَحَفْصَة فِي الْمُخَالَفَة حِينَ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمَا مَثَلًا بِامْرَأَةِ فِرْعَوْن وَمَرْيَم ابْنَةَ عِمْرَان ; تَرْغِيبًا فِي التَّمَسُّك بِالطَّاعَةِ وَالثَّبَات عَلَى الدِّين.
وَقِيلَ : هَذَا حَثّ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الصَّبْر فِي الشِّدَّة ; أَيْ لَا تَكُونُوا فِي الصَّبْر عِنْد الشِّدَّة أَضْعَف مِنْ اِمْرَأَة فِرْعَوْن حِينَ صَبَرَتْ عَلَى أَذَى فِرْعَوْن.
وَكَانَتْ آسِيَة آمَنَتْ بِمُوسَى.
وَقِيلَ : هِيَ عَمَّة مُوسَى آمَنَتْ بِهِ.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : اِطَّلَعَ فِرْعَوْن عَلَى إِيمَان اِمْرَأَته فَخَرَجَ عَلَى الْمَلَأ فَقَالَ لَهُمْ : مَا تَعْلَمُونَ مِنْ آسِيَة بِنْت مُزَاحِم ؟ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا.
فَقَالَ لَهُمْ : إِنَّهَا تَعَبُّد رَبًّا غَيْرِي.
فَقَالُوا لَهُ : اُقْتُلْهَا.
فَأَوْتَدَ لَهَا أَوْتَادًا وَشَدَّ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا فَقَالَتْ :
إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ
وَوَافَقَ ذَلِكَ حُضُور فِرْعَوْن، فَضَحِكَتْ حِينَ رَأَتْ بَيْتهَا فِي الْجَنَّة.
فَقَالَ فِرْعَوْن : أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ جُنُونهَا ! إِنَّا نُعَذِّبهَا وَهِيَ تَضْحَك ; فَقُبِضَ رُوحُهَا.
وَقَالَ سَلْمَان الْفَارِسِيّ فِيمَا رَوَى عَنْهُ عُثْمَان النَّهْدِيّ : كَانَتْ تُعَذَّب بِالشَّمْسِ، فَإِذَا أَذَاهَا حَرّ الشَّمْس أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَة بِأَجْنِحَتِهَا.
وَقِيلَ : سَمَرَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا فِي الشَّمْس وَوَضَعَ عَلَى ظَهْرهَا رَحًى ; فَأَطْلَعَهَا اللَّه.
حَتَّى رَأَتْ مَكَانهَا فِي الْجَنَّة.
وَقِيلَ : لَمَّا قَالَتْ :" رَبّ اِبْن لِي عِنْدك بَيْتًا فِي الْجَنَّة " أُرِيَتْ بَيْتهَا فِي الْجَنَّة يُبْنَى.
وَقِيلَ : إِنَّهُ مِنْ دُرَّة ; عَنْ الْحَسَن.
وَلَمَّا قَالَتْ :
وَنَجِّنِي
نَجَّاهَا اللَّه أَكْرَم نَجَاة، فَرَفَعَهَا إِلَى الْجَنَّة، فَهِيَ تَأْكُل وَتَشْرَب وَتَتَنَعَّم.
مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ
تَعْنِي بِالْعَمَلِ الْكُفْر.
وَقِيلَ : مِنْ عَمَله مِنْ عَذَابه وَظُلْمه وَشَمَاتَته.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْجِمَاع.
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
قَالَ الْكَلْبِيّ : أَهْل مِصْر.
مُقَاتِل : الْقِبْط.
قَالَ الْحَسَن وَابْن كَيْسَان : نَجَّاهَا اللَّه أَكْرَمَ نَجَاة، وَرَفَعَهَا إِلَى الْجَنَّة ; فَهِيَ فِيهَا تَأْكُل وَتَشْرَب.
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ
أَيْ وَاذْكُرْ مَرْيَم.
وَقِيلَ : هُوَ مَعْطُوف عَلَى اِمْرَأَة فِرْعَوْن.
وَالْمَعْنَى : وَضَرَبَ اللَّه مَثَلًا لِمَرْيَم اِبْنَة عِمْرَان وَصَبْرهَا عَلَى أَذَى الْيَهُود.
الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا
أَيْ عَنْ الْفَوَاحِش.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إِنَّهُ أَرَادَ بِالْفَرْجِ هُنَا الْجَيْب لِأَنَّهُ قَالَ :
فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا
وَجِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا نَفَخَ فِي جَيْبهَا وَلَمْ يَنْفُخ فِي فَرْجهَا.
وَهِيَ فِي قِرَاءَة أُبَيّ " فَنَفَخْنَا فِي جَيْبهَا مِنْ رُوحنَا ".
وَكُلّ خَرْق فِي الثَّوْب يُسَمَّى جَيْبًا ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوج " [ ق : ٦ ].
وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون أَحْصَنَتْ فَرْجهَا وَنَفَخَ الرُّوح فِي جَيْبهَا.
وَمَعْنَى " فَنَفَخْنَا " أَرْسَلْنَا جِبْرِيل فَنَفَخَ فِي جَيْبهَا " مِنْ رُوحنَا " أَيْ رُوحًا مِنْ أَرْوَاحنَا وَهِيَ رُوح عِيسَى.
وَقَدْ مَضَى فِي آخِر سُورَة " النِّسَاء " بَيَانه مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا
قِرَاءَة الْعَامَّة " وَصَدَّقَتْ " بِالتَّشْدِيدِ.
وَقَرَأَ حُمَيْد وَالْأُمَوِيّ " وَصَدَقَتْ " بِالتَّخْفِيفِ.
" بِكَلِمَاتِ رَبّهَا " قَوْل جِبْرِيل لَهَا :" إِنَّمَا أَنَا رَسُول رَبّك " [ مَرْيَم : ١٩ ] الْآيَة.
وَقَالَ مُقَاتِل : يَعْنِي بِالْكَلِمَاتِ عِيسَى وَأَنَّهُ نَبِيّ وَعِيسَى كَلِمَة اللَّه.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقَرَأَ الْحَسَن وَأَبُو الْعَالِيَة
وَكُتُبِهِ
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحَفْص عَنْ عَاصِم " وَكُتُبه " جَمْعًا.
وَعَنْ أَبِي رَجَاء " وَكُتْبِهِ " مُخَفَّف التَّاء.
وَالْبَاقُونَ " بِكِتَابِهِ " عَلَى التَّوْحِيد.
وَالْكِتَاب يُرَاد بِهِ الْجِنْس ; فَيَكُون فِي مَعْنَى كُلّ كِتَاب أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى.
وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ
أَيْ مِنْ الْمُطِيعِينَ.
وَقِيلَ : مِنْ الْمُصَلِّينَ بَيْنَ الْمَغْرِب وَالْعِشَاء.
وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ مِنْ الْقَانِتَات ; لِأَنَّهُ أَرَادَ وَكَانَتْ مِنْ الْقَوْم الْقَانِتِينَ.
وَيَجُوز أَنْ يَرْجِع هَذَا إِلَى أَهْل بَيْتهَا ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ.
وَعَنْ مُعَاذ بْن جَبَل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَة وَهِيَ تَجُود بِنَفْسِهَا :" أَتَكْرَهِينَ مَا قَدْ نَزَلَ بِك وَلَقَدْ جَعَلَ اللَّه فِي الْكُرْه خَيْرًا فَإِذَا قَدِمْت عَلَى ضَرَّاتك فَأَقْرِئِيهِنَّ مِنِّي السَّلَام مَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَآسِيَة بِنْت مُزَاحِم وَكَلِيمَة أَوْ قَالَ حَكِيمَة بِنْت عِمْرَان أُخْت مُوسَى بْن عِمْرَان ).
فَقَالَتْ : بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ يَا رَسُول اللَّه.
وَرَوَى قَتَادَة عَنْ أَنَس عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( حَسْبك مِنْ نِسَاء الْعَالَمِينَ أَرْبَع مَرْيَم ابْنَةَ عِمْرَان وَخَدِيجَة بِنْت خُوَيْلِد وَفَاطِمَة بِنْت مُحَمَّد وَآسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن بِنْت مُزَاحِم ).
وَقَدْ مَضَى فِي ( آل عِمْرَان ) الْكَلَام فِي هَذَا
Icon