تفسير سورة الأنفال

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿الأنفال﴾ الغنائم جمع نفل بالفتح وهو الزيادة وسميت الغنائم به لأنها زيادة على القيام بحماية الدين والأوطان، وتسمى صلاة التطوع نفلاً، وولد الولد نافلة لهذا المعنى قال لبيد:
إنَّ تقوى ربّنا خير نفل وبإذن اللهِ ريثي والعجل
﴿وَجِلَتْ﴾ الوجل: الخوف والفزع ﴿ذَاتِ الشوكة﴾ الشوكة: السلاح وأصلها من الشَّوك قال أبو عبيدة: ومجاز الشوكة الحد يقال: ما أشدَّ شوكة بني فلان أي حدّهم ﴿تَسْتَغِيثُونَ﴾ الاستغاثة: طلب النصرة والعون ﴿مُرْدِفِينَ﴾ متتابعين يتلو بعضهم بعضاً وردف وأردف بمعنى واحد أي تبع قال الطبري: العرب تقول: أردفته وردِفته بمعنى تبعته وأتبعته قال الشاعر: إِذا الجوزاء أردفت الثريا ﴿بَنَانٍ﴾ البنان: جمع بنانة وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين قال عنترة:
﴿زَحْفاً﴾ الزحف: الدنو قليلاً مأخوذ من زحف الصبي إذا مشى سعلى أليته قليلاً قليلاً ثم سمي به الجيش الكثير العدد لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف زحفاً ﴿مُتَحَيِّزاً﴾ منضماً يقال: تحيّز أي
457
انضم واجتمع إِلى غيره ﴿بَآءَ﴾ رجع ﴿مُوهِنُ﴾ مضعف ﴿تَسْتَفْتِحُواْ﴾ استفتح: أي طلب الفتح والنصرة على عدوه.
سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس قال: «لما كان يوم بدر قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا، فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقال المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإِننا كنا لكم ردءاً ولو كان منكم شيء للجأتم إِلينا فأبوا واختصموا إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال﴾ الآية فقسَّم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الغنائم بينهم بالسوية».
ب - روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذ قبضة من تراب يوم بدر فرمى بها في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه فما بقي أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه تراب من تلك القبضة وولوا مدبرين» فنزلت ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى... ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال﴾ أي يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها من بدر لمن هي؟ وكيف تقسم؟ ﴿قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول﴾ أي قل لهم: الحكم فيها لله والرسول لا لكم ﴿فاتقوا الله﴾ أي اتقوا الله بطاعته واجتناب معاصيه ﴿وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ أي أصلحوا الحال التي بينكم بالائتلاف وعدم الاختلاف ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في الحكم في الغنائم قال عبادة بن الصامت: نزلت فينا أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا، فنزع الله الأنفال من أيدينا وجعلها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقسمها على السواء فكان في ذلك تقوى الله، طاعة رسوله، وإِصلاح ذات البين ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ شرط حذف جوابه أي إِن كنتم حقاً مؤمنين كاملين في الإِيمان فأطيعوا الله ورسوله ﴿إِنَّمَا المؤمنون﴾ أي إِنما الكاملون في الإِيمان المخلصون فيه ﴿الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي إذا ذكر اسم الله فزعت قلوبهم لمجرد ذكره، استعظاماً لشأنه، وتهيباً منه جلَّ وعلا ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ أي إِذا تليت عليهم آيات القرآن وازداد تصديقهم ويقينهم بالله ﴿وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي لا يرجون غير الله ولا يرهبون سواه قال في البحر: أخبر عنهم باسم الموصول بثلاث مقامات عظيمة وهي: مقام الخوف، ومقام الزيادة في الإِيمان، ومقام التوكل على الرحمن ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة﴾ أي يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل بخشوعها وفروضها وآدابها ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ أي وينفقون في طاعة الله مما أعطاهم الله، وهو عام في الزكاة ونوافل الصدقات ﴿أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً﴾ أي المتصفون بما
458
ذكر من الصفات الحميدة هم المؤمنون إِيماناً حقاً لأنهم جمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال ﴿لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي لهم منازل رفيعة في الجنة ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ أي تكفير لما فرط منهم من الذنوب ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ أي رزق دائم مستمر مقرون بالإِكرام والتعظيم ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾ الكاف يقتضي مشبّهاً قال ابن عطية: شهبت هذه القصة التي هي إِخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها، والمعنى: حالهم في كراهة تنفيل الغنائم كحالهم في حالة خروجك للحرب وقال الطبري: المعنى: كما أخرجك ربك بالحق على كرهٍ من فريقٍ من المؤمنين كذلك يجادلونك في الحق بعدما تَبيَّن، والحقُّ الذي كانوا يجادلون فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعدما تبيّنوه هو القتال ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ﴾ أي والحال أن فريقاً منهم كارهون للخروج لقتال العدو خوفاً من القتل أو لعدم الاستعداد ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ﴾ أي يجادلونك يا محمد في شأن الخروج للقتال بعد أن وضح لهم الحق وبان، وكان جدالهم هو قولهم: ما كان خروجنا إِلاّ للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ قال البيضاوي: أي يكرهون القتال كراهة من ينساق إِلى الموت وهو يشاهد أسبابه، وذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم، وفيه إِيماء إِلى أن مجادلتهم إِنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ﴾ أي اذكروا حين وعدكم الله يا أصحاب محمد إحدى الفرقتين أنها لكم غنية إِما العير أو النفير ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ﴾ أي وتحبون أن تلقوا الطائفة التي لا سلاح لها وهي العير لأنها كانت محمّلة بتجارة قريش قال المفسرون:
«روي أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجاة عظيمة برآسة أبي سفيان، ونزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد: إِن الله وعدكم إِحدى الطائفتين: إِما العير وإِما قريشاً، فاستشار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه فاختاروا العير لخفة الحرب وكثرة الغنيمة، فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل: يا أهل مكة النجاء النجاءَ، عيركُم أموالكم إِن أصابها محمد فلن تفلحوا بعدها أبداً، فخرج المشركون على كل صعب وذلول ومعهم أبو جهل حتى وصلوا بدراً، ونجت القافلة فأخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه وقال لهم: إِن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا يا رسول الله: عليك بالعير ودع العدو فغضب رسول الله فقام سعد بن عبادة فقال: امض بنا لما شئت فإِنا متبعوك، وقام سعد بن معاذ فقال: والذي بعثك بالحق لو خضت بنا البحر لخضناه معك فسرْ بنا على بركة الله، فسُرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال لأصحابه: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إِلى مصارع القوم»
﴿وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ أي يظهر الدين الحق وهو الإِسلام بقتل الكفار وإِهلاكهم يوم بدر ﴿وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين﴾ أي يستأصل الكافرين ويهلكهم جملة من أصلهم قال في البحر: والمعنى أنكم ترغبون في الفائدة العاجلة، وسلامة الأحوال، وسفساف الأمور، والله تعالى يريد معالي الأمور، وإِعلاء الحق، والفوز في الدارين، وشتّان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم ذات الشوكة وأراكهم عياناً خذلانهم، فنصركم
459
وهزمهم، وأذلهم وأعزكم ﴿لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل﴾ متعلق بمحذوف تقديره: ليحق الحقَّ ويبطل الباطل فعل ما فعل والمراد إظهار الإِسلام وإِبطال الكفر ﴿وَلَوْ كَرِهَ المجرمون﴾ أي ولو كره المشركون ذلك أي إِظهار الإِسلام وإِبطال الشرك ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ أي اذكروا حين تطلبون من ربكم الغوث بالنصر على المشركين، روي أن سول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، فاستقبل القبلة ومدَّ يديه يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إِن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبيَّ الله كفاكَ مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فنزلت هذه الآية ﴿فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة﴾ أي استجاب الله الدعاء بأني معينكم بألف من الملائكة ﴿مُرْدِفِينَ﴾ أي متتابعين يتبع بعضهم بعضاً قال المفسرون: ورد أن جبريل نزل بخمسائة وقاتل بها في يسار الجيش، ولم يثبت أن الملائكة قاتلت في وقعة إِلا في بدر، وأما في غيرها فكانت تنزل الملائكة لتكثير عدد المسلمين ولا تقاتل ﴿وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى﴾ أي وما جعل إمدادكم بالملائكة إِلا بشارة لكم بالنصر ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾ أي ولتسكن بهذا الإِمداد نفوسكم ﴿وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾ أي وما النصر في الحقيقة إِلا من عند الله العلي الكبير فثقوا بنصره ولا تتكلوا على قوتكم وعدّتكم ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي غالب لا يُغلب يفعل ما تقضي به الحكمة ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ﴾ أي يلقي عليكم النوم أمناً من عند سبحانه وتعالى، وهذه معجزة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث غشي الجميعَ النومُ في وقت الخوف قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:
«ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إِلا نائم إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح» قال ابن كثير: وكأن ذلك كان للمؤمنين عند شدة البأس، لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً﴾ تعديد لنعمة أخرى، وذلك أنهم عدموا الماء في غزوة بدر فأنزل الله عليهم المطر حتى سالت الأودية، وكان منهم من أصابته جنابة فتطهر بماء المطر ﴿لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ أي من الأحداث والجنايات ﴿وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان﴾ أي يدفع عنكم وسوسته وتخويفه إِياكم من العطش، قال البيضاوي: روي أنهم نزلوا في كثيبٍ أعفر، تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم فوسوس إِليهم الشيطان وقال: كيف تُنصرون وقد غُلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله؟ فأنزل الله المطر حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة ﴿وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ﴾ أي يقوّيها بالثقة بنصر الله ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام﴾ أي يُثبت بالمطر الأقدام حتى لا تسوخ في الرمل قال الطبري: ثبّت بالمطر أقدامهم لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملةٍ ميثاء فلبّدها المطر حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها {إِذْ يُوحِي
460
رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ} تذكير بنعمةٍ أخرى أي يوحي إِلى الملائكة بأني معكم بالعون والنصر ﴿فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ﴾ أي ثبتوا المؤمنين وقوّوا أنفسهم على أعدائهم ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب﴾ أي سأقذف في قلوب الكافرين الخوف والفزع حتى ينهزموا ﴿فاضربوا فَوْقَ الأعناق﴾ أي اضربوهم على الأعناق كقوله ﴿فَضَرْبَ الرقاب﴾ [محمد: ٤] وقيل: المراد الرءوس لأنها فوق الأعناق ﴿واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ أي اضربوهم على أطراف الأصابع قال في التسهيل: وفائدة ذلك أن المقاتل إِذا ضربت أصابعه تعطَّل عن القتال فأمكن أسره وقتله ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي ذلك العذاب الفظيع واقع عيلهم بسبب مخالفتهم وعصيانهم لأمر الله وأمر رسوله ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ أي ومن يخالف أمر الله رسوله بالكفر والعناد فإِن عذاب الله شديد له ﴿ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار﴾ أي ذلكم العقاب فذوقوه يا معشر الكفار في الدنيا، مع أن لكم العقاب الآجل في الآخرة وهو عذاب النار ﴿يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً﴾ أي إِذا لقيتم أعداءكم الكفار مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون زحفاً ﴿فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار﴾ أي فلا تنهزموا أمامهم بل اثبتوا واصبروا ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ أي ومن يولهم يوم اللقاء ظهره منهزماً ﴿إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ﴾ أي إِلا في حال التوجه إِلى قتال طائفة أخرى، أو بالفر للكرّ بأن يخيّل إِلى عدوه أنه منهزم ليغرّه مكيدة وهو من باب «الحرب خدعة» ﴿أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ﴾ أي منضماً إلى جماعة المسلمين يستنجد بهم ﴿فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ أي فقد رجع بسخطٍ عظيم ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ أي مقره ومسكنه الذي يأوي إِليه نار جهنم ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ أي بئس المرجع والمآل ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ﴾ أي فلم تقتلوهم أيها المسلمون ببدر بقوتكم وقدرتكم، ولكنَّ الله قتلهم بنصركم عليهم وإِلقاء الرعب في قلوبهم ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ أي وما رميت في الحقيقة أنت يا محمد أعين القوم بقبضةٍ من تراب لأن كفاً من تراب لا يملأ عيون الجيش الكبير قال ابن عباس: أَخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إِلا أصاب عينيه ومنخريه من تلك الرمية فولوا مدبرين ﴿ولكن الله رمى﴾ أي بإِيصال ذلك إِليهم فالأمر في الحقيقة من الله ﴿وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً﴾ أي فعل ذلك ليقهر الكافرين ويُنعم على المؤمنين بالأجر والنصر والغنيمة ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوالهم عليهم بنياتهم وأحوالهم ﴿ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين﴾ أي ذلك الذي حدث من قتل المشركين ونصر المؤمنين حق، والغرض منه إِضعاف وتوهين كيد الكافرين حتى لا تقوم لهم قائمة ﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح﴾ هذا خطاب لكفار قريش أي إِن تطلبوا يا معشر الكفار الفتح والنصر على المؤمنين فقد جاءكم الفتح وهو الهزيمة والقهر، وهذا على سبيل التهكم بهم قال الطبري في رواية الزهري: قال أبو جهل يوم بدر: اللهم أينا كان أفجر، وأقطع للرحم، فأحِنْه اليوم - أي أهلكه - فأنزل الله ﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح﴾ فكان
461
أبو جهل هو المستفتح ﴿وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي وإِن تكفّوا يا معشر قريش عن حرب الرسول ومعاداته، وعن الكفر بالله ورسوله فهو خير لكم في دنياكم وآخرتكم ﴿وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ﴾ أي وإِن تعودوا الحربة وقتاله نعد لنصره عليكم ﴿وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ﴾ أي لن تدفع عنكم جماعتكم التي تستنجدون بها شيئاً من عذاب الدنيا مهما كثر الأعوان والأنصار ﴿وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين﴾ أي لأن الله سبحانه مع المؤمنين بالنصر والعون والتأييد ﴿ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي دوموا على طاعة الله وطاعة رسوله يدم لكم العز الذي حصل ببدر ﴿وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ﴾ أي لا تعرضوا عنه بمخالفة أمره وأصله تتولوا حذفت منه إِحدى التاءين ﴿وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ أي تسمعون القرآن والمواعظ ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ أي لا تكونوا كالكفار الذين سمعوا بآذانهم دون قلوبهم، فسماعهم كلا سماعٍ لأن الغرض من السماع التدبر والاتعاظ ﴿إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله﴾ أي شرَّ الخلق وشرَّ البهائم التي تدبُّ على وجه الأرض ﴿الصم البكم﴾ أي الصمُّ الذين لا يسمعون الحق، البكم أي الخرس الذين لا ينطقون به ﴿الذين لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أي الذين فقدوا العقل الذي يميز به المرء بين الخير والشر، نزلت في جماعة من بني عبد الدار كانوا يقولون: نحن صمٌّ بكمٌّ عما جاء به محمد، وتوجهوا لقتال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أبي جهل، وفي الآية غاية الذم للكافرين بأنهم أشرُّ من الكلب والخنزير والحمير، لأنهم لم يستفيدوا من حواسهم فصاروا أخسَّ من كل خسيس ﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ﴾ أي لو علم الله فيهم شيئاً من الخير لأسمعهم سماع تفهم وتدبر ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي ولو فُرض أن الله أسمعهم - وقد علم أن لا خير فيهم - لتولوا وهم معرضون عنه جحوداً وعناداً، وفي هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على عدم إِيمان الكافرين.
البَلاَغَة: ١ - ﴿أولائك هُمُ المؤمنون﴾ الإِشارة بالبعيد عن القريب لعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف.
٢ - ﴿لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ استعار الدرجات للمراتب الرفيعة والمنازل العالية في الجنة.
٣ - ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت﴾ التشبيه هنا تمثيلي.
٤ - ﴿أَن يُحِقَّ الحَقَّ﴾ بينهما جناس الاشتقاق.
٥ - ﴿ذَاتِ الشوكة﴾ استعيرت الشوكة للسلاح بجامع الشدة والحدّة بينهما.
٦ - ﴿وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين﴾ كناية عن استئصالهم بالهلاك.
٧ - ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ﴾ صيغة المضارع لاستحضار صورتها الغريبة في الذهن.
٨ - ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً﴾ تقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إِلى المؤخر.
٩ - ﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح﴾ الخطاب للمشركين على سبيل التهكم كقوله ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩].
462
١٠ - ﴿إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله﴾ شبّه الكفار بالبهائم بل جعلهم شراً منها، وذلك منتهى البلاغة ونهاية الإِعجاز، إِذ أن الكافر لا يسمع الحق والبهائم لا تسمع، ولا ينطق به والبهائم لا تنطق، ويأكل والبهائم تأكل، بقي أنه يضر والبهائم لا تضرُّ فكيف لا يكون شراً منها؟
تنبيه: ذكر تعالى في هذه السورة أنه أمدَّ المؤمنين بألف من الملائكة، وذكر في سورة آل عمران أنه أمدَّهم بثلاثة آلاف، ولا تعارض بن الآيات فإِنه تعالى ذكر هنا لفظ ﴿مُرْدِفِينَ﴾ ومعناه متتابعين فأمدهم أولاً بألف ثم بثلاثة آلاف والله الموفق.
463
المناسَبَة: لما ذكر تعالى الكافرين، وشبّههم بالأنعام السارحة لأنهم أعرضوا عن قبول دعوة الله، أمر المؤمنين هنا بالاستجابة لله والرسول، وقبول دعوته التي فيها حياة القلوب، وبها السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة.
اللغَة: ﴿مُكَآءً﴾ المكاء: الصغير قال أبو عبيدة: والكثير في الأصوات أن تكون على فعال كالصراخ والخوار والدُّعاء والنباح ﴿تَصْدِيَةً﴾ التصدية: التصفيق يقال: صدى تصدية إِذا صفق بيديه وأصله من الصَّدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل ﴿فَيَرْكُمَهُ﴾ الركم: الجمع قال الليث: هو أن تجمع الشيء فوق الشيء حتى تجعله ركاماً مركوما كركام الرمل والسحاب ﴿سَلَفَ﴾ مضى ﴿سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾ عادة الله وسنته في إِهلاك المكذبين من الأمم السالفة ﴿مَوْلاَكُمْ﴾ ناصركم ومعينكم.
سَبَبُ النّزول: أخرج ابن جرير عن الزهري «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما حاصر يهود بني قريظة طلبوا الصلح فأمرهم أن ينزلوا على حكم» سعد بن معاذ «فقالوا: أرسل لنا» أبا لبابة «فبعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِليهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى؟ أننزل على حكم سعد؟ فأشار إِلى حلقه يعني أنه الذبح، قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله فقال: لا والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليَّ فنزلت الآية» ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول....﴾ الآية ثم نزلت توبته.
التفسِير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ أي أجيبوا دعاء رسوله إِذا دعاكم للإِيمان الذي به تحيا النفوس، وبه تحيون الحياة الأبدية قال قتادة: هو القرآن فيه الحياة، والثقة، والنجاة، والعصمة في الدنيا والآخرة ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ﴾ أي أنه تعالى المتصرف في جميع الأشياء، يصرّف القلوب كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها، فيفسخ عزائمه، ويغيّر مقاصده، ويلهمه رشده، أو يُزيغ قلبه عن الصراط السوي، وفي الحديث: «يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» قال ابن عباس: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإِيمان قال أبو حيان: وفي ذلك حضٌ على المراقبة، والخوف من الله تعالى والمبادرة إِلى الاستجابة له جلَّ وعلا ﴿وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي وأنه سبحانه إِليه مرجعكم ومصيركم فيجازيكم بأعمالكم ﴿واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ أي احذروا بطش الله وانتقامه إن عصيتم أمره واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالم خاصة بل تعم الجميع، وتصل إِلى الصالح والطالح، لأو الظالم يهلك بظلمه وعصيانه، وغير الظالم يهلك لعدم منعه وسكوته عليه وفي الحديث «إِن الناس إِذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعذابٍ من عنده»
قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألاّ يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب، فيصيب الظالم وغير الظالم {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ
464
العقاب} وهذا وعيد شديد أي شديد العذاب لمن عصاه ﴿واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض﴾ أي اذكروا نعمة الله عليكم وقت أن كنتم قلة أذلة يستضعفكم الكفار في أرض مكة فيفتنونكم عن دينكم وينالونكم بالأذى والمكروه ﴿تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس﴾ أي تخافون المشركين أن يختطفوكم بالقتل والسلب، والخطف: الأخذ بسرعة ﴿فَآوَاكُمْ﴾ أي جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم وهو المدينة المنورة ﴿وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ﴾ أي أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره المؤزر حتى هزمتموهم ﴿وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات﴾ أي منحكم غنائمهم حلالاً طيبة ولم تكن تحل لأحد من قبل ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي لتشكروا الله على هذه النعم الجليلة، والغرض التذكير بالنعمة فإِنهم كانوا قبل ظهور الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غاية القلة والذلة، وبعد ظهوره صاروا في غاية العزة والرفعة، فعليهم أن يطيعوا الله ويشكروه على هذه النعمة ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول﴾ أي لا تخونوا دينكم ورسولكم بإِطلاع المشركين على أسرار المؤمنين ﴿وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ﴾ أي ما ائتمنكم عليه من التكاليف الشرعية كقوله ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض﴾ [الأحزاب: ٧٢] الآية قال ابن عباس: خيانة الله سبحانه بترك فرائضه، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بترك سنته وارتكاب معصيته، والأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي تعلمون أنه خيانة وتعرفون تبعة ذلك ووباله ﴿واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ أي محنة من الله ليختبركم كيف تحافظون معها على حدوده قال الإِمام الفخر: وإِنما كانت فتنة لأنها تشغل القلب بالدنيا، وتصير حجاباً عن خدمة المولى ﴿وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي ثوابه وعطاؤه خير لكم من الأموال والأولاد فاحرصوا على طاعة الله ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ أي إِن أطعتم الله واجتنبتم معاصيه يجعل لكم هداية ونوراً في قلوبكم، تفرقون به بين الحق والباطل كقوله ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾ [الحديد: ٢٨] وفي الآية دليل على أن التقوى تنور القلب، وتشرح الصدر، وتزيد في العلم والمعرفة ﴿وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أي يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ أي يسترها عليكم فلا يؤاخذكم بها ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ أي واسع الفضل عظيم العطاء ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ﴾ هذا تذكير بنعمة خاصة على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد تذكير المؤمنين بالنعمة العامة عليهم والمعنى: اذكر يا محمد حين تآمر عليك المشركون في دار الندوة ﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾ أي يحبسوك ﴿أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾ أي بالسيف ضربة رجل واحد ليتفرق دمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين القبائل ﴿أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ أي من مكة ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله﴾ أي يحتالون ويتآمرون عليك يا محمد ويدبر لك ربك ما يبطل مكرهم ويفضح أمرهم ﴿والله خَيْرُ الماكرين﴾ أي مكره تعالى أنفذ من مكرهم وأبلغ تأثيراً قال الطبري في روايته عن ابن عباس: إِن نفراً من أشراف قريش اجتمعوا في دار الندوة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال شيخ من العرب، سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح قالوا: أجل فادخل، فقال انظروا في شأن هذا الرجل - يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال قائل: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك، فصرخ عدو الله وقال: والله ما هذا لكم برأي، فليوشكن أن يثب أصحابه عليه حتى يأخذوه من
465
أيديكم فيمنعوه منكم، فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه فإِنه إِذا خرج فلن يضركم ما صنع وأين وقع، فقال الشيخ المذكور: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه القلوب بحديثه؟ والله لئن فعلتم لتجتمعن عليكم العرب حتى يخرجوكم من بلادكم ويقتلوا أشرافكم، قالوا صدق فانظروا رأياً غير هذا، فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره! قالوا: وما هو؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاماً شاباً جلداً، ونعطي كل واحد سيفاً صارماً، ثم يضربونه فيقبلون الدية ونستريح منه ونقطع عنا أذاه، فصرخ عدو الله إِبليس: هذا والله الرأي لا أرى غيره، قالوا: وما هو؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاماً شاباً جلداً، ونعطي كل واحد سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، ويتفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها فيقبلون الدية ونستريح منه ونقطع عنا أذاه، فصرخ عدو الله إِبليس: هذا والله الرأي لا أرى غيره، فتفرقوا على ذلك فأتى جبريل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبره وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن له بالهجرة، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ.
..﴾
الآية ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا﴾ أي وإِذا قرئت عليهم آيات القرآن المبين ﴿قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا﴾ أي قالوا مكابرة وعناداً: قد سمعنا هذا الكلام ولو أردنا لقلنا مثله ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ أي ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا إِلا أكاذيب وأباطيل وحكايات الأمم السابقة سطروها وليس كلام الله تعالى قال أبو السعود: وهذا غاية المكابرة ونهاية العناد، كيف لا، ولو استطاعوا لما تأخروا ﴿فما الذي كان يمنعهم وقد تحداهم عشر سنين؟ وقرَّعوا على العجز، ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوه، مع أنفتهم، وفرط استنكافهم أن يغلبوا لا سيما في باب البيان؟﴾ ﴿وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ﴾ أي إِن كان هذا القرآن حقاً منزلاً من عندك ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء﴾ أي أنزل علينا حاصباً وحجارة من السماء كما أنزلتها على قوم لوط ﴿أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي بعذاب مؤلم أهلكنا به، وهذا تهكم منهم واستهزاء قال ابن كثير: وهذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم، وكان الأولى لهم أن يقولوا: اللهم إِن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه، ولكنهم استعجلوا العقوبة والعذاب لسفههم ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ هذا جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان للسبب الموجب لإِمهالهم أي إِنهم مستحقون للعذاب ولكنه لا يعذبهم وأنت فيهم إِكراماً لك يا محمد، فقد جرت سنة الله وحكمته ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانيها قال ابن عباس: لم تعذب أمة قط ونبيها فيها، والمراد بالعذاب عذاب الاستئصال ﴿وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي وما ان الله ليعذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون الله، وهو إٍشارة إلى استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين قال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والاستغفار، أما النبي فقد مضى، وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله﴾ أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم؟ وكيف لا يعذبون وهم على ما هم عليه من العتو والضلال؟ ﴿وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام﴾ أي وحالهم الصد عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عام الحديبية، وكما اضطروه والمؤمنين إِلى الهجرة من مكة، ﴿وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ﴾ أي
466
ما كانوا أهلاً لولاية المسجد الحرام مع إِشراكهم ﴿إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون﴾ أي إِنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ولكن أكثرهم جهلة سفلة فقد كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرام، نصد من نشاء، وندخل من نشاء.
. والغرض من الآية بيان استحقاقهم لعذاب الاستئصال بسبب جرائمهم الشنيعة، ولكن الله رفعة عنهم إِكراماً لرسوله عليه السلام، ولاستغفار المسلمين المستضعفين ﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً﴾ هذا من جملة قبائحهم أي ما كانت عبادة المشركين وصلاتهم عند البيت الحرام إِلا تصفيراً وتصفيقاً، وكانوا يفعلونهما إِذا صلى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم، والمعنى أنهم وضعوا مكان الصلاة والتقرب إِلى الله التصفير والتصفيق قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراةٌ يصفرون ويصفقون ﴿فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أي فذوقوا عذاب القتل والأَسر بسبب كفركم وأفعالكم القبيحة، وهو إِشارة إِلى ما حصل لهم يوم بدر ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي يصرفون أموالهم ويبذلونها لمنع الناس عن الدخول في دين الإِسلام، ولحرب محمد عليه السلام، قال الطبري: لما أصيب كفار قريش يوم بدر، ورجع فلُّهم إِلى مكة قالوا: يا معشر قريش إِن محمداً قد وتَرَكم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا فنزلت الآية ﴿فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾ أي فسينفقون هذه الأموال ثم تصير ندامة عليهم، لأن أموالهم تذهب ولا يظفرون بما كانوا يطمعون من إِطفاء نور الله وإِعلاء كلمة الكفر ﴿ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ إِخبار بالغيب أي ثم نهايتهم الهزيمة والاندحار
﴿كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي﴾ [المجادلة: ٢١] ﴿والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ أي والذين ماتوا على الكفر منهم يساقون إِلى جهنم، فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك ﴿لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب﴾ أي ليفرق الله بين جند الرحمن وجند الشيطان، ويفصل بين المؤمنين الأبرار والكفرة الأشرار، والمراد بالخبيث والطيب الكافر والمؤمن ﴿وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ﴾ أي يجعل الكفار بعضهم فوق بعض ﴿فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً﴾ أي يجعلهم كالركام متراكماً بعضهم فوق بعض لشدة الازدحام ﴿فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾ أي فيقذف بهم في نار جهنم ﴿أولئك هُمُ الخاسرون﴾ أي الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم، ثم دعاهم تعالى إِلى التوبة والإِنابة، وحذرهم من الإِصرار على الكفر والضلال فقال سبحانه ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، إِن ينتهوا عن الكفر ويؤمنوا بالله ويتركا قتالك وقتال المؤمنين، يغفر لهم ما قد سلف من الذنوب والآثام ﴿وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾ أي وإِن عادوا إِلى قتالك وتكذيبك فقد مضت سنتي في تدمير وإِهلاك المكذبين لأنبيائي، فكذلك نفعل بهم، وهذا وعيد شديد لهم بالدمار إِن لم يقلعوا عن المكابرة والعناد ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي قاتلوا يا معشر المؤمنين أعداءكم المشركين حتى لا يكون شرك ولا يعبد إِلا الله وحده، قال ابن عباس: الفتنة: الشرك، أي حتى لا يبقى مشرك على وجه الأرض وقال ابن جريج: حتى لا يفتن مؤمن عن دينه ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله﴾ أي تضمحل الأديان الباطلة ولا يبقى إِلا دين الإِسلام قال الألوسي:
467
واضمحلاها إِما بهلاك أهلها جميعاً، أو برجوعهم عنها خشية القتل، لقوله عليه السلام «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إِله إِلا الله» ﴿فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي فإِن انتهوا عن الكفر وأسلموا فإِن الله مطلع على قلوبهم، يثيبهم على توبتهم وإِسلامهم ﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ﴾ أي وإِن لم ينتهوا عن كفرهم وأعرضوا عن الإِيمان فاعلموا يا معشر المؤمنين أن الله ناصركم ومعينكم عليهم، فثقوا بنصرته وولايته ولا تبالوا بمعاداتهم لكم ﴿نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير﴾ أي نعم الله أن يكون مولاكم فإِنه لا يضيع من تولاه، ونعم النصير لكم فإِنه لا يُغلب من نصره الله.
البَلاَغَة: ١ - ﴿يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ﴾ الكلام من باب الاستعارة التمثيلية، شبه تمكنه تعالى من قلوب العباد وتصريفها كما يشاء، بمن يحول بين الشيء والشيء، وهي استعارة لطيفة.
٢ - ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ﴾ صيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة من تآمر المشركين على صاحب الرسالة عليه السلام.
٣ - ﴿وَيَمْكُرُ الله﴾ إِضافة المكر إِليه تعالى على طريق «المشاكلة» بمعنى إِحباط ما دبروا من كيد ومكر، والمشاكلة أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى وقد تقدم.
٤ - ﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً﴾ تأمل التعبير الرائع في أسلوب القرآن حيث وضعوا المكاء والتصدية «التصفير والتصفيق» موضع الصلاة التي ينبغي أن تؤدى عند البيت فكانوا كالأنعام التي لا تفقه معنى العبادة، ولا تعرف حرمة بيوت الله، وهو على حد قول القائل: «تحية بينهم ضرب وجيع».
٥ - ﴿الخبيث مِنَ الطيب﴾ كناية عن المؤمن والكافر وبين لفظ «الخبيث» و «الطيب» طباق وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: روى الحافظ ابن كثير عن أبي سعيد بن المعلى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «كنت أصلي فمر بي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله تعالى ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ ؟ ثم قال: لأعلمنك أعظم صورة في القرآن قبل أن أخرج، فذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليخرج فذكرت له ذلك فقال ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: ٢] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».
لطيفة: حكي عن معاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملَّكُوا عليهم امرأة! فقال الرجل: أجهل من قومي قومك حين قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين دعاهم إِلى الحق ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ولم يقولوا: إِن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إِليه، فسكت معاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
468
المنَاسَبَة: لما أمر تعالى بقتال المشركين، وذكر فيما تقدم طرفاً من غزوة بدر، وكان لا بد بعد
469
القتال من أن يغنم المجاهدون الغنائم - وهي أموال المشركين - على طريق القهر والظفر، ذكر سبحانه هنا حكم الغنائم وكيفية قسمتها - ثم سرد بقية الأحداث الهامة في تلك الغزوة المجيدة «غزوة بدر».
اللغَة: ﴿الْعُدْوَةِ الدنيا﴾ عدوة الوادي: جانبه وشفيره، والدنيا تأنيث الأدنى أي الأقرب والراد ما يلي جانب المدينة ﴿العدوة القصوى﴾ القصوى: تأنيث الأقصى أي الأبعد، وكل شيء تنحى عن شيء فقد قصا والمراد ما يلي جانب مكة ﴿نَكَصَ﴾ النكوص: الإِحجام عن الشيء ﴿كَدَأْبِ﴾ الدأب: العادة، وأصله في اللغة إِدامة العمل يقال: فلان يدأب في كذا أي يدوم عليه ويواظب ثم سميت العادة دأباً لأن الإِنسان مداوم على عادته ﴿تَثْقَفَنَّهُمْ﴾ قال الليث: يقال ثقفنا فلاناً في موضع كذا أي أخذناه وظفرنا به ﴿فَشَرِّدْ﴾ التشريد: التفريق والتبديد يقال: شردت القوم إِذا قاتلتهم وطردتهم عنها حتى فارقوها.
التفسِير: ﴿واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ أي اعلموا أيها المؤمنون أنما غنمتوه من أموال المشركين في الحرب سواء كان قليلاً أو كثيراً ﴿فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ﴾ قال الحسن: هذا مفتاح كلام، الدنيا والآخرة لله أي أن ذكر اسم الله على جهة التبرك والتعيظم كقوله ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] قال المفسرون: تقسم الغنيمة خمسة أقسام، فيعطى الخمس لمن ذكر الله تعالى في هذه الآية، والباقي يوزع على الغانمين ﴿وَلِلرَّسُولِ﴾ أي سهم من الخمس يعطى للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَلِذِي القربى﴾ أي قرابة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم بنو هاشم وبنو المطلب ﴿واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ أي ولهؤلاء الأصناف من اليتامى الذين مات آباؤهم، والفقراء من ذوي الحاجة، والمنقطع في سفره من المسلمين ﴿إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله﴾ جواب الشرط محذوف تقديره: إِن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن هذا هو حكم الله في الغنائم فامتثلوا أمره بطاعته ﴿وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا﴾ وبما أنزلنا على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿يَوْمَ الفرقان﴾ أي يوم بدر لأن الله فرق به بين الحق والباطل ﴿يَوْمَ التقى الجمعان﴾ أي جمع المؤمنين وجمع الكافرين، والتقى فيه جند الرحمن بجند الشيطان ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي قادر لا يعجزه شيء، ومنه نصركم مع قلَّتكم وكثرتهم ﴿إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا﴾ هذا تصوير للمعركة أي وقت كنتم يا معشر المؤمنين بجانب الوادي القريب إلى المدينة ﴿وَهُم بالعدوة القصوى﴾ أي وأعداؤكم المشركون بجانب الوادي الأبعد عن المدينة ﴿والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ أي والعير التي فيها تجارة قريش في مكان أسفل من مكانكم فيما يلي ساحل البحر ﴿وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد﴾ أي ولو تواعدتم أنتم والمشركون على القتال لاختلفتم له ولكن الله بحكمته يسر وتمم ذلك قال كعب بن مالك: إِنما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد قال الرازي: المعنى لو تواعدتم أنتم وأهل مكة على القتال لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم وكثرتهم، ﴿ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾ أي ولكن جمع بينكم على غير ميعاد ليقضي الله ما أراد بقدرته، من إِعزاز الإِسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، فكان أمراً متحققاً
470
واقعاً لا محالة قال أبو السعود: والغرض من الآية أن يتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح، ليس إِلا صنعاً من الله عَزَّ وَجَلَّ خارقاً للعادات، فيزدادوا إِيماناً وشكراً، وتطمئن نفوسهم بفرض الخمس ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ﴾ أي فعل ذلك تعالى ليكفر من كفر عن وضوح وبيان ﴿ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ أي ويؤمن من آمن عن وضوح وبيان، فإِن وقعة بدر من الآيات الباهرات على نصر الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه ﴿وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوال العباد عليم بنياتهم ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً﴾ أي اذكر يا محمد حين أراك الله في المنام أعداءك قلة، فأخبرت بها أصحابك حتى قويت نفوسهم وتشجعوا على حربهم قال مجاهد: أراه الله إِياهم في منامه قليلاً، فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه بذلك فكان تثبيتاً لهم ﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ﴾ أي ولو أراك ربك عدوك كثيراً لجبن أصحابك ولم يقدروا على حرب القوم، وانظر إِلى محاسن القرآن فإِنه لم يسند الفشل إِليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه معصوم بل قال ﴿لَّفَشِلْتُمْ﴾ إِشارة إِلى أصحابه ﴿وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر﴾ أي ولاختلفتم يا معشر الصحابة في أمر قتالهم ﴿ولكن الله سَلَّمَ﴾ أي ولكن الله أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي عليم بما في القلوب يعلم ما يغيّر أحوالها من الشجاعة والجبن، والصبر والجزع ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ﴾ هذه الرؤية باليقظة لا بالمنام أي واذكروا يا معشر المؤمنين حين التقيتم في المعركة فقلل الله عدوكم في أعينكم لتزداد جرأتكم عليهم، وقلَّلكم في أعينهم حتى لا يستعدوا ويتأهبوا لكم قال أبو مسعود: لقد قُلِّلُوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل: أتراهم يكونون مائة؟ وهذا قبل التحام الحرب فلما التحم القتال كثر الله المؤمنين في أعين الكفار فبُهتوا وهابوا، وفُلَّت شوكتهم، ورأوا ما لم يكن في الحسبان، وهذا من عظائم آيات الله في تلك الغزوة ﴿لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾ أي فعل ذلك فجؤَّأ المؤمنين على الكافرين، والكافرين على المؤمنين، لتقع الحرب ويلتحم القتال، وينصر الله جنده ويهزم الباطل وحزبه، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ أي مصير الأمور كلها إِلى الله يصرّفها كيف يريد، لا معقب لحكمه وهو الحكيم المجيد، ﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا﴾ هذا إِرشاد إِلى سبيل النصر في مبارزة الأعداء أي إٍِذا لقيتم جماعة من الكفرة فاثبتوا لقتالهم ولا تنهزموا ﴿واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾ أي أكثروا من ذكر الله بألسنتكم لتستمطروا نصره وعونه وتفوزوا بالظفر عليهم ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي في جميع أقوالكم وأفعالكم ولا تخالفوا أمرهما في شيء ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ﴾ أي ولا تختلفوا فيما بينكم فتضعفوا وتجبنوا عن لقاء عدوكم ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ أي تذهب قوتكم وبأسكم، ويدخلكم الوهن والخور ﴿واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين﴾ أي واصبروا على شدائد الحرب وأهوالها، فإِن الله
471
مع الصابرين بالنصر والعون ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس﴾ أي لا تكونوا ككفار قريش حين خرجوا لبدر عتواً وتكبراً، وطلباً للفخر والثناء، والآية إِشارة إِلى قول أبي جهل: والله لا نرجع حتى نَرد بدراً، فنشرب فيها الخمور وننحر الجزور، وتعزف علينا القيان - المغنيات - وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً قال الطبري: فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا، وناحت عليهم النوائح مكان القيان ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي ويمنعون الناس عن الدخول في الإِسلام ﴿والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أي وهو سبحانه عالم بجميع ذلك وسيجازيهم عليه ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ أي واذكر وقت أن حسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة من الشرك وعبادة الأصنام، وخروجهم لحرب الرسول عليه السلام ﴿وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس﴾ أي لن يغلبكم محمد وأصحابه ﴿وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ﴾ أي مجير ومعين لكم ﴿فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ﴾ أي فلما تلاقى الفريقان ولى الشيطان هارباً مولياً الأدبار ﴿وَقَالَ إِنِّي برياء مِّنْكُمْ﴾ أي بريء من عهد جواركم، وهذا مبالغة في الخذلان لهم ﴿إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ﴾ أي أرى الملائكة نازلين لنصرة المؤمنين وأنتم لا ترون ذلك وفي الحديث
«ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، إِلا ما رأى يوم بدر، فإِنه رأى جبريل يزْعُ الملائكة» أي يصفها للحرب ﴿إني أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب﴾ أي إِني أخاف الله أن يعذبني لشدة عقابه قال ابن عباس: جاء إِبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة «سراقة بن مالك» فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإِني جار لكم، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبضه من التراب فرمى بها وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إِلى إِبليس، فلما رآه - وكانت يده في يد رجلٍ من المشركين - انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال: إِني أرى ما لا ترون إِني أخاف الله، وكذب عدو الله فإِنه علم أنه لا قوة له ولا منعة وذلك حين رأى الملائكة ﴿إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أي حين قال أهل النفاق الذين أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر لضعف اعتقادهم بالله ﴿غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ﴾ أي اغتر المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به قال تعالى في جوابهم ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي ومن يعتمد على الله ويثق به فإِن الله ناصره لأن الله عزيز أي غالب لا يذل من استجار به، حكيم في أفعاله وصنعه ﴿وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة﴾ أي لو رأيت وشاهدت أيها المخاطب أو أيها السامع حالتهم ببدر حين تقبض ملائكة العذاب أرواح الكفرة المجرمين، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف للتهويل أي لرأيت أمراً فظيعاً وشأناً هائلاً قال أبو حيان: وحذف جواب لو جائز بليغ حذفه في مثل هذا لأنه يدل على التهويل والتعظيم أي لرأيت أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ أي تضربهم الملائكة من أمامهم وخلفهم، على
472
وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾ أي ويقولون لهم: ذوقوا يا معشر الفجرة عذاب النار المحرق، وهذا بشارة لهم بعذاب الآخرة وقيل: كانت معهم أسواط من نار يضربونهم بها فتشتعل جراحاتهم ناراً ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي ذلك العذاب بسبب ما كسبتم من الكفر والآثام ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ أي وأنه تعالى عادل ليس بذي ظلم لأحد من العباد حتى يعذبه بغير ذنب، وصيغة ﴿ظَلاَّمٍ﴾ ليست للمبالغة وإِنما هي للنسب أي ليس منسوباً إِلى الظلم فقد انتفى أصل الظلم عنه تعالى فتدبره ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي دأب هؤلاء الكفرة في الإِجرام يعني عملهم وطريقهم الذي دأبوا فيه كعمل وطريق آل فرعون ومن تقدمهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود في العناد والتكذيب والكفر والإِجرام ﴿كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله﴾ أي جحدوا ما جاءهم به الرسل من عند الله ﴿فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي أهلكهم بكفرهم وتكذيبهم ﴿إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب﴾ أي قوي البطش شديد العذاب، لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب ﴿ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ﴾ أي ذلك الذي حل بهم ن العذاب بسبب أن الله عادل في حكمه لا يغير نعمة أنعمها على أحدٍ إِلا بسبب ذنبٍ ارتكبه، وأنه لا يبدل النعمة بالنقمة ﴿حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ أي حتى يبدلوا نعمة الله بالكفر والعصيان، كتبديل كفار قريش نعمة الله من الخصب والسعة والأمن والعافية، بالكفر والصد عن سبيل الله وقتال المؤمنين قال السدي: نعمة الله على قريش محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكفروا به وكذبوه، فنقله الله إِلى المدينة وحل بالمشركين العقاب ﴿وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي وأنه سبحانه سميع لما يقولون عليم بما يفعلون ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ كرره لزيادة التشنيع والتوبيخ على إِجرامهم أي شأن هؤلاء وحالهم كشأن وحال المكذبين السابقين حيث غيروا حالهم فغيّر الله نعمته عليهم ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي أهلكناهم بسبب ذنوبهم بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف وبعضهم الحجارة، وبعضهم بالغرق ولهذا قال ﴿وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ﴾ أي أغرقنا فرعون وقومه معه ﴿وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ أي وكل من الفرق المكذبة كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي حيث عرَّضوها للعذاب ﴿إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله﴾ أي شر من يدب على وجه الأرض في علم الله وحكمه ﴿الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي الذين أصروا على الكفر ورسخوا فيه فهم لا يتوقع منهم إِيمان لذلك قال ابن عباس: نزلت في بني قريظة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يحاربوه فنقضوا العهد ﴿الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ﴾ أي الذين عاهدتهم يا محمد على ألا يعينوا المشركين ﴿ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾ أي يستمرون على النقض مرة بعد مرة ﴿وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ﴾ أي لا يتقون الله في نقض العهد قال المفسرون: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد عاهد يهود بني قرظة ألا يحاربوه ولا يعاونوا عليه المشركين، فنقضوا العهد وأعانوا عليه كفار مكة بالسلاح يوم بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوا العهد ومالئوا الكفار يوم الخندق ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب﴾ أي فإِن تظفر بهم في الحرب ﴿فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾ أي فاقتلهم ونكل بهم تنكيلاً شديداً يشرد غيرهم من الكفرة المجرمين {
473
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون بما شاهدوا فيرتدعوا والمعنى: اجعلهم عبرة لغيرهم حتى لا يبقى لهم قوة على محاربتك ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ أي وإِن أحسست يا محمد من قوم معاهدين خيانة للعهد ونكثاً بأمارات ظاهرة ﴿فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ﴾ أي اطرح إِليهم عهدهم على بينة ووضوح من الأمر قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه والمعنى: وإِما تخافن من قوم - بينك وبينهم عهد - خيانة فانبذ إِليهم العهد أي قل لهم قد نبذت إِليكم عهدكم وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك فيكون ذلك خيانة وغدراً ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين﴾ وهذا كالتعليل للأمر بنبذ العهد أي لا يحب من ليس عنده وفاء ولا عهد ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا﴾ أي لا يظنن هؤلاء الكفار الذين أفلتوا يوم بد من القتل أنهم فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم في قبضتنا وتحت مشيئتنا وقهرنا ﴿إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ كلام مستأنف أي إِنهم لا يُعجزون ربهم، بل هو قادر على الانتقام منهم في كل لحظة، لا يعجزه أحد في الأرض ولا في السماء ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ﴾ أي أعدوا لقتال أعدائكم جميع أنواع القوة: المادية، والمعنوية قال الشهاب: وإِنما ذكر القوة هنا لأنه لم يكن لهم في بدر استعداد تام، فنُبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان ﴿وَمِن رِّبَاطِ الخيل﴾ أي الخيل التي تربط في سبيل الله ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ﴾ أي تُخيفون بتلك القوة الكفار أعداء الله وأعداءكم ﴿وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ﴾ أي وترهبون به آخرين غيرهم قال ابن زيد: هم المنافقون وقال مجاهد: هم اليهود من بني قريظة والأول أصح لقوله ﴿لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ﴾ أي لا تعلمون ما هم عليه من النفاق ولكن الله يعلمهم ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي وما تنفقوا في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي تُعْطون جزاءه وافياً كاملاً يوم القيامة ﴿وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ أي لا تنقصون من ذلك الأجر شيئاً.
البَلاَغَة: ١ - ﴿مِّن شَيْءٍ﴾ التنكير للتقليل.
٢ - ﴿على عَبْدِنَا﴾ ذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلفظ العبودية وإِضافته إِلى الله للتشريف والتكريم.
٣ - ﴿بِالْعُدْوَةِ الدنيا﴾ بين لفظ «الدنيا» و «القصوى» طباق.
٤ - ﴿لِّيَهْلِكَ ويحيى﴾ استعار الهلاك والحياة للكفر والإِيمان، وبين «يهلك» و «يحيا» طباقٌ.
٥ - ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ أي تذهب قوتكم وشوكتكم وهو من باب الاستعارة أيضاً.
تنبيه: يأمرنا الله تعالى بإِعداد القوة لقتال الأعداء، وقد جاء التعبير عاماً ﴿مِّن قُوَّةٍ﴾ ليشمل القوة المادية، والقوة الروحية، وجميع أسباب القوة، وكيف لا يطمع العدو بالممالك الإِسلامية وهو لا يرى عندنا معامل للأسلحة، وذخائر للحرب، بل كلها مما يشتريه المسلمون من بلاد العدو؟ فلا بد لنا من العودة إِلى تعاليم الإِسلام إِذا ما أردنا حياة العزة والكرامة.
474
المنَاسَبَة: لما أمر الله تعالى بإِعداد العدة لإِرهاب الأعداء، أمر هنا بالسلم بشرط العزة والكرامة متى وجد السبيل إِليه، لأن الحرب ضرورة اقتضتها ظروف الحياة لرد العدوان، وحرية الأديان، وتطهير الأرض من الظلم والطغيان، ثم تناولت الآيات الكريمة حكم الأسرى، وختمت السورة بوجوب مناصرة المؤمنين بعضهم لبعض، بسبب الولاية الكاملة وأخوة الإِيمان.
اللغَة: ﴿جْنَحْ﴾ مال يقال: جنح الرجل إِلى فلان إِذا مال إِليه وخضع له، وجنحت الإِبل: إِذا مالت أعناقها في السير، ومنه قيل للأضلاع جوانح ﴿السلم﴾ المسالمة والصلح قال الزمخشري: وهي تؤنث تأنيث ضدها وهي الحرب قال الشاعر:
475
السِّلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جُرع
﴿حَرِّضِ﴾ التحريض: الحث على الشيء وتحريك الهمة نحوه كالتحضيض ﴿يُثْخِنَ﴾ قال الواحدي: الإِثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته، يقال: قد أثخنه المرض إِذا اشتدت قوته عليه، وأثخنته الجراح، والثخانة: والغلظة، والمراد بالإِثخان هنا المبالغة في القتل والجراحات.
سَبَبُ النّزول: أ - عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون، استشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبا بكر وعمر وعلياً فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة، وإِني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً، فقال رسول الله: ما ترى يا ابن الخطاب! قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة على المشركين، هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإِذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان، فقلت يا رسول الله: أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإِن وجدت بكاءً بكيت، وإِن لم أجد بكاءً تباكيت، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أبكي للذي عرض علي أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة» لشجرة قريبة فأنزل الله ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض﴾ الآية.
ب - لما وقع العباس عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الأسر كان معه عشرون أوقية من ذهب، فلم تحسب له من فدائه، وكلف أن يفدي ابني أخيه فأدى عنهما ثمانين أوقية من ذهب، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
«أضعفوا على العباس الفداء» فأخذوا منه ثمانين أوقية فقال العباس لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لقد تركتني أتكفَّف قريشاً ما بقيت، فقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: وأين الذهب الذي تركته عند أم الفضل؟ فقال: أي الذهب؟ فقال: إِنك قلت لها: إِني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا! فإِن حدث بي حدث فهو لك ولولدك، فقال يا ابن أخي: من أخبرك بهذا؟ قال: الله أخبرني فقال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول الله قبل اليوم، وأمر ابني أخيه فأسلما ففيهما نزلت ﴿ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى﴾ الآية.
التفسِير: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا﴾ أي إِن مالوا إِلى الصلح والمهادنة فمل إِليه وأجبهم إِلى ما طلبوا إِن كان فيه مصلحة ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ أي فوض الأمر إِلى الله ليكون عوناً لك على السلامة ﴿إِنَّهُ هُوَ السميع العليم﴾ أي هو سبحانه السميع لأقوالهم العليم بنياتهم ﴿وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ﴾ أي وإِن أرادوا بالصلح خداعك ليستعدوا لك ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ الله﴾ أي فإِن الله يكفيك وهو
476
حسبك، ثم ذكره بنعمته عليه فقال ﴿هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين﴾ أي قواك وأعانك بنصره وشد أزرك بالمؤمنين قال ابن عباس: يعني الأنصار ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ أي جمع بين قلوبهم على ما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فأبدلهم بالعداوة حباً، وبالتباعد قرباً قال القرطبي: وكان تأليف القلوب مع العصبيّة الشديدة في العرب من آيات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعجزاته، لأن أحدهم كان يُلطم اللطمة فيقاتل عليها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بينهم بالإِيمان، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ أي لو أنفقت في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال ما قدرت على تأليف قلوبهم واجتماعها على محبة بعضها بعضاً ﴿ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ أي ولكنه سبحانه بقدرته البالغة جمع بينهم ووفق، فإِنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء ﴿إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي غالب على أمره لا يفعل شيئاً إِلا عن حكمة ﴿ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين﴾ أي الله وحده كافيك، وكافي اتباعك، فلا تحتاجون معه إِلى أحد وقال الحسن البصري: المعنى حسبك أي كافيك الله والمؤمنون ﴿ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال﴾ أي حض المؤمنين ورغبهم بكل جهدك على قتال المشركين ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ قال أبو السعود: هذا وعد كريم منه تعالى بغلبة كل جماعة من المؤمنين على عشرة أمثالهم والمعنى: إِن يوجد منكم يا معشر المؤمنين عشرون صابرون على شدائد الحرب يغلبوا مائتين من عدوهم، بعون الله وتأييده ﴿وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي وإِن يوجد منكم مائة - بشرط الصبر عند اللقاء - تغلب ألفاً من الكفار بمشيئة الله ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ الباء سببية أي سبب ذلك بأن الكفار قوم جهلة لا يفقهون حكمة الله، ولا يعرفون طريق النصر وسببه، فهم يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب، فلذلك يُغلبون قال ابن عباس: كان ثبات الواحد للعشرة فرضاً، ثم لما شق ذلك عليهم نسخ وأصبح ثبات الواحد للاثنين فرضاً ﴿الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ﴾ أي رفع عنكم ما فيه مشقة عليكم ﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً﴾ أي وعلم ضعفكم فرحمكم في أمر القتال ﴿فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ أي إِن يوجد منكم مائة صابرة على الشدائد يتغلبوا على مائتين من الكفرة ﴿وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ﴾ أي وإِن يوجد منكم ألف صابرون في ساحة اللقاء، يتغلبوا على ألفين من الأعداء ﴿بِإِذْنِ الله﴾ أي بتيسيره وتسهيله ﴿والله مَعَ الصابرين﴾ هذا ترغيب في الثبات وتبشير بالنصر أي الله معهم بالحفظ والرعاية والنصرة، ومن كان الله معه فهو الغالب ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض﴾ عتاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه على أخذ الفداء والمعنى: لا ينبغي لنبي من الأنبياء أن يأخذ الفداء من الأسرى
477
إِلا بعد أن يكثر القتل ويبالغ فيه ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا﴾ أي تريدون أيها المؤمنون بأخذ الفداء حطام الدنيا ومتاعها الزائل؟ ﴿والله يُرِيدُ الآخرة﴾ أي يريد لكم الباقي الدائم، وهو ثواب الآخرة، بإِعزاز دينه وقتل أعدائه ﴿والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي عزيز في ملكه لا يقهر ولا يُغلب، حكيم في تدبير مصالح العباد ﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ﴾ أي لولا حكم في الأزل من الله سابق وهو ألا يعذب المخطئ في اجتهاده ﴿لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي لأصابكم في أخذ الفداء من الأسرى عذاب عظيم، وروي أنها لما نزلت قال عليه السلام
«لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر» ﴿فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً﴾ أي كلوا يا معشر المجاهدين مما أصبتموه من أعدائكم من الغنائم في الحرب حال كونه حلالاً أي محللاً لكم ﴿طَيِّباً﴾ أي من أطيب المكاسب لأنه ثمرة جهادكم، وفي الصحيح «وجعل رزقي تحت ظل رمحي» ﴿واتقوا الله﴾ أي خافوا الله في مخالفة أمره ونهيه ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي مبالغ في المغفرة لمن تاب، رحيم بعباده حيث أباح لهم الغنائم ﴿ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى﴾ أي قل لهؤلاء الذين وقعوا في الأسر من الأعداء، والمراد بهم أسرى بدر ﴿إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً﴾ أي إِن يعلم الله في قلوبكم إِيماناً وإِخلاصاً، وصدقاً في دعوى الإِيمان ﴿يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ﴾ أي يعطكم أفضل مما أخذ منكم من الفداء ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ أي يمحو عنكم ما سلف من الذنوب ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي واسع المغفرة، عظيم الرحمة لمن تاب وأناب قال البيضاوي: نزلت في العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حين كلفه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يفدي نفسه وابني أخويه «عقيل» و «نوفل» فقال يا محمد: تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت، فقال: أين الذهب الذي دفعته إِلى أم الفضل وقت خروجك وقلت لها: إِني لا أدري ما يصيبني في جهتي هذه، فإِن حدث بي حدث فهو كل ولعيالك! ﴿فقال العباس: ما يدريك؟ قال: أخبرني به ربي تعالى، قال: فأشهد أنك صادق، وأن لا إِله إِلا الله وأنك رسوله، والله لم يطلع عليه أحد، ولقد دفعته إِليها في سواد الليل﴾ ! قال العباس: فأبدلني الله خيراً من ذلك، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي - يعني الموعود - بقوله تعالى ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ﴿وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ﴾ وإِن كان هؤلاء الأسرى يريدون خيانتك يا محمد بما أظهروا من القول ودعوى الإِيمان ﴿فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ﴾ أي فقد خانوا الله تعالى قبل هذه الغزوة غزوة بدر ﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ أي فقواك ونصرك الله عليهم وجعلك تتمكن من رقابهم، فإِن عادوا إِلى الخيانة فسيمكنك منهم أيضاً ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عالم بجميع ما يجري، يفعل ما تقضي به حكمته البالغة ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ﴾ أي صدقوا الله ورسوله ﴿وَهَاجَرُواْ﴾ أي تركوا وهجروا الديار والأوطان حباً في الله ورسوله ﴿وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي جاهدوا الأعداء بالأموال والأنفس لإِعزاز دين الله، وهم المهاجرون {والذين آوَواْ
478
ونصروا} أي آووا المهاجرين في ديارهم ونصروا رسول الله وهم الأنصار ﴿أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ أي أولئك الموصوفون بالصفات الفاضلة بعضهم أولياء بعض في النصرة والإِرث، ولهذا أخى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين المهاجرين والأنصار ﴿والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ﴾ أي آمنوا وأقاموا بمكة فلم يهاجروا إِلى المدينة ﴿مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ﴾ أي لا إِرث بينكم وبينهم ولا ولاية حتى يهاجروا من بلد الكفر ﴿وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر﴾ أي وإِن طلبوا منكم النصرة لأجل إِعزاز الدين، فعليكم أن تنصروهم على أعدائهم لأنهم إخوانكم ﴿إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾ أي إِلا إِذا استنصروكم على من بينكم وبينهم عهد ومهادنة فلا تعينوهم عليهم ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي رقيب على أعمالكم فلا تخالفوا أمره.
ذكر تعالى المؤمنين وقسمهم إِلى ثلاثة أقسام: المهاجرين، الأنصار، الذين لم يهاجروا، فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإِسلام وقد هجروا الديار والأوطان ابتغاء رضوان الله، وثنى بالأنصار لأنهم نصروا الله ورسوله وجاهدوا بالنفس والمال، وجعل بين المهاجرين والأنصار الولاية والنصرة، ثم ذكر حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا بيّن أنهم حرموا الولاية حتى يهاجروا في سبيل الله، وبعد ذكر هذه الأقسام الثلاثة ذكر حكم الكفار فقال ﴿والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ أي هم في الكفر والضلال ملة واحدة فلا يتولاهم إِلا من كان منهم ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ﴾ أي وإِن لم تفعلوا ما أمرتم به من تولي المؤمنين وقطع الكفار ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ أي تحصل في الأرض فتنة عظيمة ومفسدة كبيرة، لأنه يترتب على ذلك قوة الكفار وضعف المسلمين، ثم عاد بالذكر والثناء على المهاجرين والأنصار فقال ﴿والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ وهم المهاجرون أصحاب السبق إِلى الإِسلام ﴿والذين آوَواْ ونصروا﴾ وهم الأنصار أصحاب الإِيواء والإِيثار ﴿أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً﴾ أي هؤلاء هم الكاملون في الإِيمان، المتحققون في مراتب الإِحسان ﴿لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ أي لهم مغفرة لذنوبهم، ورزق كريم في جنات النعيم قال المفسرون: ليس في هذه الآيات تكرار، فالآيات السابقة تضمنت الولاية والنصرة بين المؤمنين، وهذه تضمنت الثناء والتشريف، ومآل حال أولئك الأبرار من المغفرة والرزق الكريم في دار النعيم ﴿والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ﴾ هذا قسم رابع وهم المؤمنون الذين هاجروا بعد الهجرة الأولى فحكمهم حكم المؤمنين السابقين في الثواب والأجر ﴿وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله﴾ أي أصحاب القرابات بعضهم أحق بإِرث بعض من الأجانب في حكم الله وشرعه قال العلماء: هذه ناسخة للإِرث بالخلف والإِخاء ﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي أحاط بكل شيء علماً، فكل ما شرعه الله حكمة وصواب وصلاح، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهو ختم للسورة في غاية البراعة.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ هذا الأسلوب يسمى ب «الإِطناب» وفائدته التذكير بالمنة الكبرى والنعمة العظمى على الرسول والمؤمنين.
٢ - ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ... ﴾ الآيات في البحر: انظر إِلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر، وحذف نظيره من الثانية، وأثبت في الثانية قيد
479
كونهم من الكفرة، وحذفه من الأولى، ولما كان الصبر شديد الطلب أثبت في جملتي التخفيف، ثم ختمت الآيات بقوله ﴿والله مَعَ الصابرين﴾ مبالغة في شدة المطلوبية، وهذا النوع من البديع يسمى «الاحتباك». فلله در التنزيل ما أحلى فصاحته وأنضر بلاغته!!
480
Icon