تفسير سورة الأنفال

تفسير المنار
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب تفسير المنار .
لمؤلفه رشيد رضا . المتوفي سنة 1354 هـ
سورة الأنفال
وهي السورة الثامنة في العدد ووضعت موضع السابعة من السبع الطُّوَل مع أنها من المثاني وهي دون المئين التي تلي الطول لما سيأتي- وعدد آياتها ٧٥ آية في عد الكوفي و٧٦ في الحجازي و٧٧ في الشامي.
سورة الأنفال مدنية كلها كما روي عن الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء وعبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت. وقال ابن عباس إنها نزلت في بدر وفي لفظ تلك سورة بدر. وقيل إنها مدنية إلا آية ﴿ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ [ الأنفال : ٦٤ ] فقد روى البزار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعلى هذا وضعت في سورة الأنفال وقرئت مع آياتها التي نزلت في التحريض على القتال في غزوة بدر لمناسبتها للمقام. وروي عن مقاتل استثناء قوله تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] الآية موضوعها ائتمار قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة بل في الليلة التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه بقصد الهجرة وباتا في الغار، وهذا استنباط من المعنى وقد صح عن ابن عباس أن الآية نفسها نزلت في المدينة. وزاد بعضهم عنه استثناء خمس آيات أخرى بعد هذه الآية أي إلى الآية ٣٥ للمعنى الذي ذكرناه آنفا وهو أن موضوعها حال كفار قريش في مكة وهذا لا يقتضي نزولها في مكة، بل ذكر الله بها رسوله بعد الهجرة. وكل ما نزل بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا فهو مدني.
ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أنها في بيان حال خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم مع قومه وسورة الأعراف مبينة لأحوال أشهر الرسل مع أقوامهم، هذا هو العمدة وهناك تناسب خاص بين آيات من السورتين يقوي هذا التناسب ولكنه لا يصح أن يكون شيء منه سببا للمقارنة بينهما لأن مثل هذا الاتفاق في بعض المعاني مكرر في أكثر السور الكبيرة، وأنقل هنا عن روح المعاني ما نقله عن السيوطي في وضع هذه السورة هنا وما تعقبه به وهو :
( والظاهر أن وضعها هنا توقيفي وكذا وضع براءة بعدها وهما من هذه الحيثية كسائر السور، وإلى ذلك ذهب غير واحد كما مر في المقدمات، وذكر الجلال السيوطي أن ذكر هذه السورة هنا ليس بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله تعالى عنهم كما هو المرجح في سائر السور، بل باجتهاد من عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد كان يظهر في بادي الرأي أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود لاشتراك الكل في اشتمالها على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنها مكية في النزول خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطول، وعدوا السابعة يونس وكانت تسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل ففي فصلها من الأعراف بسورتين فصل للنظير من سائر نظائره، هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة، وقد استشكل ذلك قديما حبر الأمة رضي الله تعالى عنه فقال لعثمان رضي الله تعالى عنه : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا البسملة بينهما ووضعتموها في السبع الطوال ؟ ثم ذكر جواب عثمان رضي الله تعالى عنه وقد أسلفنا الخبر بطوله سؤالا وجوابا ثم قال وأقول يتم مقصد عثمان رضي الله تعالى عنه في ذلك بأمور فتح الله تعالى بها.
الأول : أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها لكونها مشتملة على البسملة فقدمها لتكون كقطعة منها ومفتتحها، وتكون براءة لخلوها من البسملة كتتمتها وبقيتها، ولهذا قال جماعة من السلف إنها سورة واحدة.
الثاني : وضع براءة هنا لمناسبة الطول فإنه ليس بعد الست السابقة سورة أطول منها وذلك كاف من المناسبة.
الثالث : أنه خلل بالسورتين أثناء السبع الطول المعلوم ترتيبها في العصر الأول للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف وإلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبين كلتيهما فوضعا هنا كالوضع المستعار بخلاف ما لو وضعا بعد السبع الطول فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف، ولا يتوهم هذا على هذا الوضع، للعلم بترتب السبع، فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله تعالى بها ولا يغوص عليها إلا غواص.
الرابع : أنه لو أخرهما وقدم يونس وأتى بعد براءة بهود كما في مصحف أبيِّ لمراعاة مناسبة السبع وإيلاء بعضها بعضا لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن يؤتى بالسور الخمس التي بعدها لما اشتركت فيه من المناسبات من القصص، والافتتاح بآلر، وبذكر الكتاب، ومن كونها مكيات، ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار، ومن التسمية باسم نبي، والرعد اسم ملك وهو مناسب لأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فهذه عدة مناسبات للاتصال بين يونس وما بعدها وهي آكد من هذا الوجه الواحد في تقديم يونس بعد الأعراف. ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل مع كونها أقصر منها ولو أخرت براءة عن هذا السور الست لبعدت المناسبة جدا لطولها بعد عدة سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فإنها ليست كبراءة في الطول.
ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرناه من تقديم الحجر على النحل لمناسبة ( آلر ) قبلها وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبتها البقرة في الافتتاح بالم، وتوالي الطواسين والحواميم، وتوالي العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لافتتاح كل بالم، ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها. هذا ما فتح الله به علي.
ثم ذكر أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قدم في مصحفه البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس، راعى السبع الطوال فقدم الأطول منها فالأطول، ثم ثنى بالمئين فقدم براءة ثم النحل ثم هود ثم يوسف ثم الكهف وهكذا الأطول فالأطول وجعل الأنفال بعد النور، ووجه المناسبة أن كلا مدنية ومشتملة على أحكام، وأن في النور ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ﴾ [ النور : ٥٥ ] الآية، وفي الأنفال ﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ﴾ [ الأنفال : ٢٦ ] الخ، ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة فالأولى مشتملة على الوعد بما حصل وذكر به في الثانية فتأمل اه كلام السيوطي.
( الآلوسي ) ( وأقول : قد من الله تعالى على هذا العبد الحقير، بما لم يمن به على هذا المولى الجليل، والحمد لله تعالى على ذلك حيث أوقفني سبحانه على وجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وهو لم يبين ذلك، ثم ما ذكره من عدم التوقيف في هذا الوضع في غاية البعد كما يفهم مما قدمناه في المقدمات، وسؤال الحبر وجواب عثمان رضي الله عنهما ليس نصا في ذلك وما ذكره عليه الرحمة في أول الأمور التي فتح الله تعالى بها عليه غير ملائم بظاهره ظاهر سؤال الحبر رضي الله تعالى عنه حيث أفاد أن إسقاط البسملة من براءة اجتهادي أيضا، ويستفاد مما ذكره خلافه، وما ادعاه من أن يونس سابعة السبع الطول أمرا مجمعا عليه، بل هو قول مجاهد وابن جبير ورواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية عند الحاكم أنها الكهف، وذهب جماعة كما قال في إتقانه إلى أن السبع الطول أولها البقرة وآخرها براءة، واقتصر ابن الأثير في النهاية على هذا.
وعن بعضهم أن السابعة الأنفال وبراءة بناء على القول بأنهما سورة واحدة وقد ذكر ذلك الفيروزابادي في قاموسه، وما ذكره في الأمر الثاني يغني عنه ما علل به عثمان رضي الله تعالى عنه فقد أخرج النحاس في ناسخه عنه أنه قال : كانت الأنفال وبراءة يدعيان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم القرينتين فلذلك جعلتهما في السبع الطوال. وما ذكره من مراعاة الفواتح في المناسبة غير مطرد فإن الجن والكافرون والإخلاص مفتتحات بقل مع الفصل بعدة سور بين الأولى والثانية والفصل بسورتين بين الثانية والثالثة وبعد هذا كله لا يخلو ما ذكره عن نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل. اه ما ذكره الألوسي رحمه الله تعالى.
وأقول : إن جواب عثمان لابن عباس رضي الله عنهم هو كما رواه أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وابن حبان والحاكم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا من كان يكتب يقول :( ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ) وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمان الرحيم، ووضعتهما في السبع الطول اه.
ولأجل هذه الرواية ذهب البيهقي إلى أن ترتيب جميع السور توقيفي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا الأنفال وبراءة ووافقه السيوطي. ويرد عليه أنه لا يعقل أن يرتب النبي صلى الله عليه وسلم جميع السور إلا الأنفال وبراءة، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن كله في رمضان على جبريل عليه السلام مرة واحدة من كل عام فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه القرآن مرتين فأين كان يضع هاتين السورتين في قراءته، التحقيق أن وضعهما في موضعهما توقيفي وإن فات عثمان أو نسيه، ولولا ذلك لعارضه الجهور أو ناقشوه فيه عند كتابة القرآن كما روي عن ابن عباس بعد سنين من جمعه ونشره في الأقطار.
وهذا الحديث قال الترمذي حسن لا نعرفه إلا من حديث عوف ( بن أبي جميلة ) عن يزيد الفارسي عن ابن عباس، ويزيد الفارسي هذا غير مشهور اختلفوا فيه هل هو يزيد بن هرمز أو غيره والصحيح أنه غيره، روى عن ابن عباس وحكى عن عبد الله بن زياد وكان كاتبه وعن الحجاج بن يوسف في أمر المصاحف. وسئل عنه يحيى بن معين فلم يعرفه، وقال أبو حاتم لا بأس به. اه ملخصا من تهذيب التهذيب، فمثل هذا الرجل لا يصح أن تكون روايته التي انفرد بها مما يؤخذ به في ترتيب القرآن المتواتر.

بسم الله الرحمان الرحيم.
﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ١ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكّلون ٢ الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ٣ أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ٤ ﴾
روى أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا ) فأما المشيخة ( أي المشايخ ) فثبتوا تحت الرايات. وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقالت المشيخة للشبان : إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ﴾ وذلك في غزوة بدر١. وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص أنه قتل سعيد بن العاص وأخذ سيفه واستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه إياه، وأن الآية نزلت في ذلك فأعطاه إياه لأن الأمر وكل إليه صلى الله عليه وسلم٢. وعن ابن جرير أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس فنزلت هذه الآية. وجملة القول أنها نزلت في غنائم غزوة بدر تنازع فيها حائزوها من الشبان وسائر المقاتلة. وقيل المهاجرون والأنصار.
قال تعالى :﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ الأنفال جمع نفل بالتحريك وهو في أصل اللغة من النفل- بفتح وسكون- أي الزيادة عن الواجب ومنه صلاة النفل. قال الراغب النفل قيل هو الغنيمة بعينها لكن اختلفت العبارة عنه لاختلاف الاعتبار فإنه إذا اعتبر بكونه مظفورا به يقال غنيمة، وإذا اعتبر بكونه منحة من الله ابتداء من غير وجوب يقال له نفل، ومنهم من فرق بينهما من حيث العموم والخصوص فقال الغنيمة كل ما حصل مستغنما بتعب كان أو بغير تعب، وباستحقاق أو بغير استحقاق، وقبل الظفر كان أو بعده. والنفل ما يحصل للإنسان قبل القسمة من جملة الغنيمة، وقيل هو ما يحصل للمسلمين بغير قتال وهو الفيء، وقيل ما يحصل من المتاع قبل أن تقسم الغنائم. وعلى هذا حملوا قوله :﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ الآية.
والمعنى يسألونك أيها الرسول عن الأنفال لمن هي ؟ أللشبان أم للمشيخة ؟ أو للمهاجرين أم للأنصار ﴿ قل الأنفال لله والرسول ﴾ أي قل لهم الأنفال لله يحكم فيها بحكمه وللرسول يقسمها بحسب حكم الله تعالى وقد قسمها صلى الله عليه وسلم بالسواء. وهذا لا ينافي التفصيل الذي سيأتي في قوله تعالى :﴿ واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] الخ فيكون التفصيل ناسخا للإجمال كما قال مجاهد وعكرمة والسدي فالصواب قول ابن زيد أن الآية محكمة وقد بين الله مصارفها في آية الخمس. وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس.
﴿ فاتقوا الله ﴾ في المشاجرة والخلاف والتنازع وسيأتي في السورة مضار ذلك ولاسيما في حال الحرب ﴿ وأصلحوا ذات بينكم ﴾ أي أصلحوا نفس ما بينكم وهي الحال والصلة التي بينكم تربط بعضكم ببعض وهي رابطة الإسلام وإصلاحها يكون بالوفاق والتعاون والمساواة وترك الأثرة والتفوق، وبالإيثار أيضا. والبين في أصل اللغة يطلق على الاتصال والافتراق وكل ما بين طرفين كما قال :﴿ لقد تقطع بينكم ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ] ويعبر عن هذه الرابطة بذات البين. وأمرنا في الكتاب والسنة بإصلاح ذات البين فهو واجب شرعا تتوقف عليه قوة الأمة وعزتها ومنعتها وتحفظ به وحدتها.
﴿ وأطيعوا الله ورسوله ﴾ في الغنائم وفي كل أمر ونهي وقضاء وحكم، فالله تعالى يطاع لذاته لأنه رب العالمين ومالك أمرهم، والرسول يطاع في أمر الدين لأنه مبلغ له عن الله تعالى ومبين لوحيه فيه بالقول والفعل والحكم. وهذه الطاعة له تعبدية لا رأي لأحد فيها وتتوقف عليها النجاة في الآخرة والفوز بثوابها، ويطاع في اجتهاده في أمر الدنيا المتعلق بالمصالح العامة ولاسيما الحرب من حيث إنه الإمام والقائد العام، فمخالفته إخلال بالنظام العام وإفضاء إلى الفوضى التي لا تقوم معها للأمة قائمة. فهذه الطاعة واجبة شرعا كالأولى إلا أنها معقولة المعنى، فقد أمره الله تعالى في تنفيذ أحكامه وإدارته بمشاورة الأمة كما تقدم في سورة آل عمران وأشرك معه في هذه الطاعة أولي الأمر كما تقدم في سورة النساء، وسيأتي كيف راجعه بعضهم في هذه الغزوة المفضلة أحكامها في هذه السورة ورجع عن رأيه صلى الله عليه وسلم إلى الرأي الذي ظهر صوابه، ولكن الأمر الأخير لابد أن يكون له كما شاورهم في غزوة أحد في الخروج من المدينة أو البقاء فيها. فلما انتهت المشاورة وعزم على تنفيذ رأي الجمهور راجعوه فلم يقبل مراجعة، وقد بينا هذا مع حكمته في تفسير ﴿ وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] وترى في تلك السورة كيف كانت مخالفة الرماة له صلى الله عليه وسلم سببا في ظهور العدو على المسلمين فراجع تفسير ﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ [ آل عمران : ١٥٦ ] في الجزء الرابع.
ولأئمة المسلمين منهم من حق الطاعة في تنفيذ الشرع وإدارة الأمور العامة وقيادة الجند ما كان له صلى الله عليه وسلم منه مقيدا بعدم معصية الله تعالى وبمشاورة أولي الأمر كما تقدم تفصيله في تفسير ﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ [ النساء : ٥٩ ] الآية.
ثم قال تعالى :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي فامتثلوا الأوامر الثلاثة فإن الإيمان يقتضي ذلك كله لأن الله تعالى أوجبه، والمؤمن بالله غير المرتاب بوعده ووعيده يكون له سائق من نفسه إلى طاعته إلا أن يعرض ما يغلبه عليها أحيانا من ثورة شهوة أو سورة غضب، ثم لا يلبث أن يفيء إلى أمر الله ويتوب إليه مما عرض له كما تقدم في تفسير ﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ [ النساء : ١٧ ] الخ
١ أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٤٤..
٢ أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٤٠، والترمذي في تفسير سورة ٩، باب ١٩، وأحمد في المسند ١/١٨٠..
ثم وصف الله المؤمنين بما يدل على هذا ويثبته فقال :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾. هذه جملة مستأنفة لبيان حال المؤمنين الذين بين في شرطية الآية قبلها شأنهم من التقوى وإصلاح ذات البين في الأمة وطاعة الله ورسوله على قاعدة أن النكرة إذا أعيد ذكرها معرفة تكون عين الأولى أو بيان حال المؤمنين الكاملي الإيمان مطلقا ليعلم منه أن تلك الأمور الثلاثة هي بعض شأنهم، وقد بين صفاتهم بصيغة الحصر التي يخاطب بها من يعلم ذلك أو ينزل منزلة العالم به الذي لا ينكره وهي " إنما " كما حققه إمام الفن الشيخ عبد القاهر. وصفهم بخمس صفات.
الصفة الأولى : قوله :﴿ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾ قال الراغب : الوجل استشعار الخوف. يعني ما يجعل القلب يشعر به بالفعل وعبر غيره عنه بالفزع والخوف ( وبابه فرح وتعب ) وذلك أن الخوف توقع أمر مؤلم في المستقبل قد يصحبه شعور الألم والفزع، وقد يفارقه لضعفه أو لاعتقاده بعد أجله، فالوجل والفزع أخص منه. وفي سورة الحجر من حوار إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع ضيفه المنكرين ﴿ قال إنا منكم وجلون * قالوا لا توجل ﴾ [ الحجر : ٥٢، ٥٣ ] الخ، وفي سورة المؤمنين في صفة المؤمنين المشفقين من خشية ربهم ﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون ﴾ [ المؤمنون : ٦١ ] فالوجل هنا مقترن بالعمل الصالح وهو البذل والعطاء وفي سورة الحج ﴿ وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ﴾ [ الحج : ٣٢ ] وهي بمعنى آية الأنفال، وليس للوجل ذكر في غير هذه الآيات.
ويتفق معنى الوجل فيها بأنه الفزع وشعور الخوف يلم بالقلب، وقد يكون هذا الخوف من العاقبة المجهولة، وقد يكون من الإجلال والمهابة، وقد روي عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء : الوجل في القلب كاحتراق السعفة، يا شهر بن حوشب أما تجد له قشعريرة ؟ قلت بلى، قالت فادع الله إن الدعاء يستجاب عند ذلك. وعن ثابت البناني : قال فلان إني لأعلم متى يستجاب لي، قالوا ومن أين لك ذلك ؟ قال إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حين استجاب لي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ما الوجل من القلب إلا كضرمة السعفة، إذا وجل أحدكم فيلدع عند ذلك. السعفة بالتحريك واحدة السعف وهو جريد النخل إذا احترق يسمع له نشيش، شبهت به أم المؤمنين وأم الدرداء شعور الوجل يلم بالقلب من ذكر الله فيخفق له.
والمراد بذكر الله ذكر القلب لعظمته وسلطانه وجلاله أو لوعيده ووعده، ومحاسبته لخلقه وإدانتهم، وغير ذلك من صفاته وأفعاله سواء صحبه ذكر اللسان أم لا، وأعظم ذكر اللسان مع القلب ترتيل القرآن بالتدبر، وقد يقول المؤمن في صلاة التهجد في الخلوة ( الله أكبر ) مستحضرا لمعنى كبريائه عز وجل فينتفض ويقشعر جلده، فمن خص الذكر هنا بالوعيد غفل عن كل هذا وظن أن الوجل لا يكون إلا من خوف العذاب، وكأنه لم يذق طعم الخشية والوجل من مهابة الله وعظمته وكبريائه وعزة سلطانه وغير ذلك من معاني أسمائه وصفاته، ولم يقرأ قوله تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ [ فاطر : ٢٨ ] ولم يعلم أن من عباد الله من يخشع قلبه ويفيض دمعه من ذكر أسماء الله في آخر سورة الحشر ﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون * هو الله الذي لا إله هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم ﴾ [ الحشر : ٢١، ٢٢ ] الخ.
ولا يجد مثل هذا الوجل عند وصف جهنم وذكر الحساب والجزاء. وإنما يأخذ مثل هذا معاني القرآن من فهمه لظواهر بعض الألفاظ بدون شعور بما لها من التأثير في القلوب فيقابل بين هذه الآية وما في معناها وبين قوله تعالى في سورة الرعد ﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ [ الرعد : ٢٩ ] فيظن أن بينهما تعارض فيحاول التفصي منه بحمل هذا على ذكر الوعد والآخر على ذكر الوعيد، ولا تعارض في الحقيقة ولا تنافي ففي كل من الوعد والوعيد وصفات الكمال وذكر آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق اطمئنان للقلوب بالإيمان بالله تعالى والثقة بما عنده، وغير ذلك مما يأتي بسطه في محله إن شاء الله تعالى. ولا ذكر يضرم سعفة الوجل في القلب كتلاوة كلام الرب عز وجل ﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾ [ الزمر : ٢٢ ].
الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ﴾ أي إذا تليت عليهم آياته المنزلة على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم زادتهم إيمانا أي يقينا في الإذعان وقوة في الاطمئنان، وسعة في العرفان ونشاطا في الأعمال، ويطلق الإيمان في عرف الشرع على مجموع العلم والاعتقاد والعمل بموجبه وعلى كل منهما والقرائن تعين المراد، وفيما رواه البخاري ومسلم في كتاب الإيمان من صحيحهما شواهد صريحة في ذلك ومن أهمها أحاديث أقل الإيمان المنجي في الآخرة وحديث ( الإيمان بضعة وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) ١ ولهذا حمل بعض الناس زيادة الإيمان على زيادة العمل اللازم له، وبعضهم على زيادة ما يتعلق به الإيمان الذي فسروه بالتصديق القطعي، والحق أن الإيمان القلبي نفسه يزيد وينقص أيضا فإن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بإحياء الله للموتى لما دعاه أن يريه كيف يحييها ﴿ قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ] فمقام الطمأنينة في الإيمان يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالا.
ويروى عن علي المرتضى كرم الله وجهه : لو كشف الحجاب ما ازددت يقينا. وهذا أقوى من الإيمان بالبرهان وهو أقوى من إيمان التقليد الذي قال به الأكثرون إذا وافق الحق وكان يقينا، والعلم التفصيلي في الإيمان أقوى وأكمل من العلم الإجمالي، مثال ذلك أن الإيمان بتوحيد الله تعالى لا يكمل إلا بمعرفة أنواع الشرك الظاهر والباطن التي تنافيه أو تنافي كماله ومنها ما هو أخفى من دبيب النمل، وقد ورد في الدعاء المأثور ( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا وأنا أعلم. وأستغفرك لما لا أعلم ) رواه ابن حبان والحكيم والترمذي في نوادر الأصول وأبو يعلى وغيرهم من حديث أبي بكر رضي الله عنه وضعفه ابن حبان والبيهقي وحسنه غيرهما وكم من مدع لتوحيد الله وناطق بكلمة الإخلاص وهو يعبد غير الله بدعائه مع الله أو من دون الله و " الدعاء هو العبادة " ٢ رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم من حديث النعمان ابن بشير مرفوعا.
ومثل آخر : من آمن بأن لله تعالى علما محيطا بالمعلومات، وحكمة قام بها نظام الأرض والسماوات، ورحمة وسعت جميع المخلوقات، وكان علمه بهن إجماليا لو سألته أن يبين لك شواهده في الخلق لعجز عنها- لا يوزن إيمانه بإيمان ذي العلم التفصيلي بسنن الله في الكائنات وعجائب صنعه فيها على النحو الذي جرى عليه العلامة المحقق ابن القيم في كتابه ( تفصيل النشأتين ) والإمام أبو حامد في كتاب التفكر من الإحياء، وقد اتسعت معارف البشر بهذه السنن والأسرار في كل نوع من أنواع المخلوقات فعرفوا منها ما لم يكن يخطر عشر معشاره لأحد من علماء القرون الخالية ومن كلام العلماء في ذلك قول الواحدي عن عامة أهل العلم : إن من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان إيمانه أزيد. وقال الكرخي : إن نفس التصديق يقبل القوة وهي التي عبر عنها بالزيادة للفرق المميز بين يقين الأنبياء وأرباب المكاشفات ويقين آحاد الأمة. وضرب الغزالي مثلا لتفاوت قوة الإيمان وسائر أنواع العلم بمن يرى شبح إنسان في السدفة ثم يراه بعد وضوح الأسفار على بعد فلا يميز صفاته ثم يراه في نور الشمس بجانبه فهل يكون علمه به في كل هذه الأحوال واحدا ؟
وجملة القول إن زيادة الإيمان ثابتة بنص هذه الآية وآيات أخرى كقوله تعالى في سورة آل عمران في وصف الذين استجابوا لله والرسول إذ دعاهم إلى القتال بعد ما أصابهم القرح في غزوة أحد ﴿ الذي قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾ [ آل عمران : ١٢٣ ] وفي معناه قوله تعالى في سورة الأحزاب :﴿ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ﴾ [ الأحزاب : ٢٢ ] وعطف التسليم على الإيمان هنا يؤيد كون المراد به إيمان القلب لا العمل. وفي معناه قوله تعالى في سورة الفتح :﴿ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ﴾ [ الفتح : ٤ ] فهو في إيمان القلب كما هو المتبادر.
وأما آيتا أواخر التوبة [ ٩ : ١٢٥ و١٢٦ ] وآية سورة المدثر [ ٧٤ : ٣١ ] فمما يحتمل أن تكون زيادة متعلقة بما نزل من القرآن. على أن البخاري استدل بآيتي التوبة وأمثالهما على زيادة الإيمان في القلوب وعليه جمهور السلف. بل حكى الإجماع عليه الشافعي وأحمد وأبو عبيد كما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره. فمن العجب بعد هذا أن تنقل هفوة لبعض العلماء أنكر فيها زيادة الإيمان بالمعنى المصدري لشبهة نظرية ويجعل مذهبا يقلد صاحبه فيه تقليدا، وتؤول الآيات والأحاديث لأجله تأويلا.
الصفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ أي يتوكلون على ربهم وحده لا يتوكلون على غيره ولا يفوضون أمورهم إلى سواه عز وجل كما أفاده تركيب الجملة. وعن ابن عباس قال : لا يرجون غيره. والتوكل أعلى مقامات التوحيد، فإن من كان مؤمنا بأن ربه هو المدبر لأموره وأمور العالم كلها لا يمكن أن يكل شيئا منها إلى غيره، ولما كان من المعلوم من الشرع والطبع والعقل بالضرورة أن للإنسان كسبا اختياريا كلفه الله العمل به وأن يؤمن بأنه يجازى على عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر – وجب على الإنسان أن يسعى في تدبير أمور نفسه بحسب ما علمه من سنن الله تعالى في نظام الأسباب وارتباطها بالمسببات معتقدا أن الأسباب ما يعقل منها كالإنسان وما لا يعقل لم تكن أسبابا إلا بتسخير الله تعالى، وأن ما يناله باستعمالها فهو من فضل ربه الذي سخرها وجعلها أسبابا وعلمه ذلك.
وأما ما لا يعرف له سبب يطلب به فالمؤمن يتوكل فيه على الله وحده وإليه يتوجه وإياه يدعو فيما يطلبه منه، وأما ترك الأسباب وتنكب سنن الله تعالى في الخلق وتسمية ذلك توكلا فهو جهل بدينه وجهل بسننه التي أخبرنا بأنها لا تتبدل ولا تتحول. ومثله فيه كمثل من أمره ملكه أو مالكه بأن يعول في طعامه وشرابه وسائر حاجته عليه ولا يطلب من غيره شيئا، وكان ذلك الملك أو المالك قد أعد له ولأمثاله كل يوم مائدة لطعامهم وشرابهم فتنطع هو وامتنع عن الاختلاف إلى المائدة مع أمثاله زاعما أن هذا عصيان لأمر الملك في التعويل عليه وانتظر أن يرسل إليه طعاما خاصا- أي أنه يطلب من ربه أن يبطل سننه في خلقه لأجله- فما أعظم جهله وغروره به ؟
وقد تقدم تحقيق معنى التوكل مع بسط القول فيه وكونه يستلزم الأخذ بالأسباب في تفسير ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ من سورة آل عمران الآية ١٦٠ وسيأتي التذكير ببعضه في الكلام على توكل النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير هذه السورة ( الأنفال ).
١ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣، ومسلم في الإيمان حديث ٥٧، ٥٨، وأبو داود في السنة باب ١٤، والنسائي في الإيمان باب ١٦..
٢ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢، باب ١٦، وابن ماجه في الدعاء باب ١، وأحمد في المسند ٤/٢٦٧، ٢٧١، ٢٧٦..
الصفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ الذين يقيمون الصلاة ﴾ تقدم تفسير هذه الجملة في أول سورة البقرة وفي تفسير ﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾ [ البقرة : ٤٥ ] منها، وفي تفسير آيات أخرى في معناها، وملخصها أن إقامة الصلاة عبارة عن أدائها مقومة كاملة في صورتها وأركانها الظاهرة من قيام وركوع وسجود وقراءة وذكر، وفي معناها وروحها الباطنة من خشوع وحضور في مناجاة الرحمان، وتدبر واتعاظ بتلاوة القرآن، وتقدم أن هذه الإقامة هي التي يستفيد صاحبها بها ما جعله الله تعالى ثمرة للصلاة من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر وغير ذلك مما يراجع في مواضعه.
الصفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ أي وينفقون بعض ما رزقهم الله في وجوه البر من زكاة مفروضة لإقامة دولة الإسلام وغير ذلك من النفقات الواجبة والمندوبة للأقربين والمعوزين ومصالح الأمة. وتقدم تفسيرها في أول سورة البقرة وفي مواضع أخرى مع التنبيه إلى كثرة ما ورد في الكتاب العزيز من جعل الزكاة أو النفقة مقارنة للصلاة لأنهما العبادتان اللتان عليهما مدار الإصلاح الروحي والاجتماعي في الملة. والتعبير بالإنفاق أعم من التعبير بالزكاة كما علمت.
﴿ أولئك هم المؤمنون حقا ﴾ أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات كلها هم دون سواهم ممن لم يتصف بها المؤمنون إيمانا حقا أو حق الإيمان الذي لا نقص فيه، أو حق ذلك حقا أو حققته حقا، ذلك بأن الإيمان حق الإيمان وهو ما أعقب التصديق الإذعاني فيه أثره من أعمال القلوب والجوارح وبذل المال في سبيله عز وجل. وقد جمعت الصفات التي وصفوا بها كل ذلك بحيث تتبعها سائر شعب الإيمان، تقول العرب فلان شاعر حقا أو فارس حقا لمن نبغ في الشعر ولمن كملت فيه صفات الفروسية. روى الطبراني بسند ضعيف يؤثر للعبرة عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ( كيف أصبحت يا حارثة ؟ ) قال أصبحت مؤمنا حقا. قال :( انظر ماذا تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ ) فقال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال :( يا حارثة عرفت فالزم ) ثلاثا. وروي عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت ؟ قال الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون ﴾... فوالله لا أدري أنا منهم أم لا.
ثم بين تعالى جزاء هؤلاء المؤمنين الكملة فقال :﴿ لهم درجات عند ربهم ﴾ الدرجات منازل الرفعة ومراقي الكرامة وكونها عند الرب تعالى وذكره مضافا إلى ضميرهم تنبيه إلى عظم قدر هذه الدرجات وتكريم لأهلها، فإن الله تعالى فضل بعض الناس ورفعهم على بعض درجة أو درجات في الدنيا وفي الآخرة وعند الرب عز وجل وهذا الأخير وإن كان يكون في الآخرة فإن وصفه بكونه عند الرب وبإضافة اسم الرب إلى أصحاب الدرجات يدل على مزيد رفعة واختصاص.
وإذا أردت أن تفقه معنى الدرجات في التفاضل بين الناس فتأمل قوله تعالى بعد بيان تساوي الرجال والنساء في الحقوق ﴿ وللرجال عليهن درجة ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] وهي درجة الولاية العامة والخاصة. وقوله تعالى في فضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين ﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ﴾ [ النساء : ٩٤، ٩٥ ] وهنا جمع بين الدرجة والدرجات فقيل الدرجة تفضيلهم في الدنيا وقيل منزلتهم عند الله تعالى والدرجات منازلهم في الجنة.
وفي معناه قوله تعالى في تفضيل الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله على سقاية الحاج من سورة التوبة ﴿ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ﴾ [ التوبة : ٢٠ ] الخ الآيتين بعدها. وقال تعالى في بيان التفاوت والبعد بين متبعي رضوانه ومتبعي سخطه من سورة آل عمران ﴿ هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون ﴾ [ آل عمران : ١٦٣ ] والظاهر أن العندية هنا عندية الحكم أو الجزاء لا المكانة لأنها محمولة على الفريقين. وقال تعالى في الرسل :﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ] الآية قالوا هذه لنبينا صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى في إبراهيم عقب ذكر محاجته لقومه ﴿ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء ﴾ [ الأنعام : ٨٤ ] وقال في سياق قصة يوسف مع إخوته عقب ذكر أخذه لأخيه الشقيق منهم بوجه شرعي ﴿ كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ﴾ [ يوسف : ٧٦ ].
وقال في درجات الدنيا وحدها وهي آخر آية من سورة الأنعام :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ [ الأنعام : ١٦٧ ] وقال في درجات الدار الآخرة بعد بيان التفاضل في الرزق بين الكفار مريدي الدنيا وحدها والمؤمنين مريدي الآخرة ﴿ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾ [ النحل : ٢١ ].
وجملة القول إن الله خلق البشر متفاوتين في الاستعداد والعقول والأعمال واقتضى ذلك بنظام سننه في خلقه تفضيل بعضهم على بعض درجات في الدنيا وفي الآخرة وفي المكانة عند ربهم وهذه الأخيرة عليا الدرجات وأفضلها.
وقوله تعالى :﴿ ومغفرة ورزق كريم ﴾ معناه ولهم مغفرة من الله لذنوبهم الحقيقية التي سبقت وصولهم إلى درجة الكمال إن كانت كبيرة وما كان من قبيل اللمم، ولذنوبهم الإضافية التي يحاسبون بها أنفسهم بعد بلوغ الكمال كالغفلة عن ذكر الله حينا، وترك الأفضل إلى ما دونه حينا آخر، وفوت بعض أعمال البر الممكنة أحيانا، وأمثال ذلك مما يعبر عنه بحسنات الأبرار سيئات المقربين، ورزق كريم في الجنة، والكريم تصف به العرب كل شيء حسن في بابه لا قبح فيه ولا شكوى منه.
﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ٥ يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ٦ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ٧ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ٨ ﴾
تقدم في تفسير قصة البقرة من سورتها أن سنة القرآن في ذكر القصص والوقائع مخالفة العهود في أساليب الكلام من سردها مرتبة كما وقعت، وإن سبب هذه المخالفة أنه لا يقص قصة ولا يسرد أخبار واقعة لأجل أن تكون تاريخا محفوظا، وإنما يذكر ما يذكر من ذلك لأجل العبرة والموعظة، وبيان الآيات والحكم الإلهية والأحكام العملية. بدأت قصة البقرة بأمر موسى لقومه بذبح بقرة وذكر في آخرها سبب ذلك خلافا للترتيب المألوف من تقديم السبب على مسببه كتقديم العلة على معلولها والمقدمات على نتيجتها. ولكن أسلوب القرآن البديع أبلغ في بابه كما بسط هنالك.
وههنا بدأت قصة غزوة بدر الكبرى التي كانت أول مظهر لوعد الله تعالى بنصر رسوله والمؤمنين، والإدالة لهم من أكابر مجرمي المشركين، بذكر حكم الغنائم التي غنمها المسلمون منهم- ويا لها من براعة مطلع- مقرونا ببيان صفات المؤمنين الكاملين الذين وعدهم النصر كما وعد النبيين، وهم الذين يقبلون حكم الله وقسمة رسوله في الغنائم- ويا لها من مقدمات للفوز في الحرب وغيرها- ثم قفى على ذلك بذكر أول القصة وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته في المدينة وكراهة فريق من المؤمنين لخروجه، خلافا لما يقتضيه الإيمان من الإذعان لطاعته، والرضاء بما يفعله بأمر ربه، وما يحكم أو يأمر به، كما علم من الشرط في الآية الأولى ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ ولعل بيان هذا الشرط وما وليه من بيان صفات المؤمنين حق الإيمان هو أهم ما في هذه السورة على كثرة أحكامها وحكمها وفوائدها الروحية والاجتماعية والسياسية والحربية والمالية.
قال تعالى :﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ﴾ أي أن الأنفال لله يحكم فيها بالحق ولرسوله يقسمها بين من جعل الله لهم الحق فيها بالسوية، إن كره ذلك بعض المتنازعين فيها، والذين كانوا يرون أنهم أحق بها وأهلها، فهي كإخراج ربك إياك من بيتك بالحق للقاء إحدى الطائفتين من المشركين في الظاهر، وكون تلك الطائفة هي المقاتلة في الواقع، والحال أن كثيرا من المؤمنين لكارهون لذلك لعدم استعدادهم للقتال أو له ولغيره من الأسباب التي تعلم مما يأتي.
هذا ما أراه المتبادر من هذا التشبيه وقد راجعت بعض كتب التفسير فرأيت للمفسرين فيها بضعة عشر وجها أكثرها متكلف وبعضها قريب ولكن هذا أقرب وقد بسطه الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري باعتبار غايته وما كان من المصلحة فيه وهو حق في نفسه ولكن اللفظ لا يدل عليه، وذكره الزمخشري مبنيا على قواعد الإعراب.
ولا يظهر المعنى تمام الظهور في الآيات إلا ببيان ما وقع من ذلك وأجمعه رواية محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، وغيرهم من علمائنا عن عبد الله بن عباس، كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم وقال هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز من يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمر الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه.
فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ذفران فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله به فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ﴿ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ﴾ [ المائدة : ٢٤ ] ولكن اذهب أنت وربك إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد يعني مدينة الحبشة لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أشيروا علي أيها الناس ) وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من غير بلادهم. فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له سعد بن معاذ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال :( أجل ) فقال فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال :( سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ).
﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ٥ يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ٦ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ٧ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ٨ ﴾
تقدم في تفسير قصة البقرة من سورتها أن سنة القرآن في ذكر القصص والوقائع مخالفة العهود في أساليب الكلام من سردها مرتبة كما وقعت، وإن سبب هذه المخالفة أنه لا يقص قصة ولا يسرد أخبار واقعة لأجل أن تكون تاريخا محفوظا، وإنما يذكر ما يذكر من ذلك لأجل العبرة والموعظة، وبيان الآيات والحكم الإلهية والأحكام العملية. بدأت قصة البقرة بأمر موسى لقومه بذبح بقرة وذكر في آخرها سبب ذلك خلافا للترتيب المألوف من تقديم السبب على مسببه كتقديم العلة على معلولها والمقدمات على نتيجتها. ولكن أسلوب القرآن البديع أبلغ في بابه كما بسط هنالك.
وههنا بدأت قصة غزوة بدر الكبرى التي كانت أول مظهر لوعد الله تعالى بنصر رسوله والمؤمنين، والإدالة لهم من أكابر مجرمي المشركين، بذكر حكم الغنائم التي غنمها المسلمون منهم- ويا لها من براعة مطلع- مقرونا ببيان صفات المؤمنين الكاملين الذين وعدهم النصر كما وعد النبيين، وهم الذين يقبلون حكم الله وقسمة رسوله في الغنائم- ويا لها من مقدمات للفوز في الحرب وغيرها- ثم قفى على ذلك بذكر أول القصة وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته في المدينة وكراهة فريق من المؤمنين لخروجه، خلافا لما يقتضيه الإيمان من الإذعان لطاعته، والرضاء بما يفعله بأمر ربه، وما يحكم أو يأمر به، كما علم من الشرط في الآية الأولى ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ ولعل بيان هذا الشرط وما وليه من بيان صفات المؤمنين حق الإيمان هو أهم ما في هذه السورة على كثرة أحكامها وحكمها وفوائدها الروحية والاجتماعية والسياسية والحربية والمالية.
﴿ يجادلونك في الحق بعدما تبين ﴾ قال بعض العلماء إن هذه الآية نزلت في مجادلة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدين والتوحيد. وهي بهم أليق، ولكن ما قبلها وما بعدها في بيان حال المؤمنين وما كان من هفوات بعضهم التي محصهم الله بعدها فتعين كونها فيهم وفاقا لأبي جعفر ابن جرير فيه وفي رد ذلك القول ومشايعة ابن كثير له، وذكر أن مجاهدا فسر الحق هنا بالقتال وكذا ابن إسحاق وعلل الجدال فيه بقوله : كراهية للقاء المشركين وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم. وبيان ذلك أن المسلمين كانوا في حال ضعف فكان من حكمة الله تعالى أن وعدهم الله أولا إحدى طائفتي قريش تكون لهم على الإبهام فتعلقت آمالهم بطائفة العير القادمة من الشام لأنها كسب عظيم لا مشقة في إحرازه لضعف حاميته، فلما ظهر أنها فاتتهم وأن طائفة النفير خرجت من مكة بكل ما كان عند قريش من قوة وقربت منهم وتعين عليهم قتالها إذ تبين أنها هي الطائفة التي وعدهم الله تعالى إذ لم يبق غيرها، صعب على بعضهم لقاؤها على قلتهم وكثرتها، وضعفهم وقوتها، وعدم استعدادهم للقتال كاستعدادها، وطفقوا يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم اعتذارات جدلية بأنهم لم يخرجوا إلا للعير لأنه لم يذكر لهم قتالا فيستعدوا له، كأنهم يحاولون إثبات أن مراد الله تعالى بإحدى الطائفتين العير بدليل عدم أمرهم بالاستعداد للقتال، ولكن الحق تبين بحيث لم يبق للجدال فيه وجه ما- لا بأن يقال إن طائفة العير مراد الله تعالى فإنها نجت وذهبت من طريق سيف البحر ولو كانت هي المرادة لما نجت، ولا بأن يقال إننا لم نعدّ للقتال عدته فلا يمكننا طلب الطائفة الأخرى- فإنه مهما تكن حالها فلا بد من الظفر بها لوعد الله تعالى فلم يبق لجدالهم وجه إلا الجبن والخوف من القتال ولذلك قال :﴿ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ﴾ أي كأنهم من فرط جزعهم ورعبهم يساقون إلى الموت سوقا لا مهرب منه لظهور أسبابه حتى كأنهم ينظرون إليه بأعينهم، وهي ما ذكرنا من التفاوت بين حالهم وحال المشركين في العدد والعدد والخيل والزاد، ولكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين الظفر بهم، وهذا دليل قطعي لا يتخلف عند المؤمن الموقن، وما تلك إلا أسباب عادية كثيرة التخلف، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وهكذا أنجز الله وعده وكان الظفر التام للمؤمنين. وقد بين تعالى ذلك كله بقوله :
﴿ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ﴾
﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ٥ يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ٦ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ٧ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ٨ ﴾
تقدم في تفسير قصة البقرة من سورتها أن سنة القرآن في ذكر القصص والوقائع مخالفة العهود في أساليب الكلام من سردها مرتبة كما وقعت، وإن سبب هذه المخالفة أنه لا يقص قصة ولا يسرد أخبار واقعة لأجل أن تكون تاريخا محفوظا، وإنما يذكر ما يذكر من ذلك لأجل العبرة والموعظة، وبيان الآيات والحكم الإلهية والأحكام العملية. بدأت قصة البقرة بأمر موسى لقومه بذبح بقرة وذكر في آخرها سبب ذلك خلافا للترتيب المألوف من تقديم السبب على مسببه كتقديم العلة على معلولها والمقدمات على نتيجتها. ولكن أسلوب القرآن البديع أبلغ في بابه كما بسط هنالك.
وههنا بدأت قصة غزوة بدر الكبرى التي كانت أول مظهر لوعد الله تعالى بنصر رسوله والمؤمنين، والإدالة لهم من أكابر مجرمي المشركين، بذكر حكم الغنائم التي غنمها المسلمون منهم- ويا لها من براعة مطلع- مقرونا ببيان صفات المؤمنين الكاملين الذين وعدهم النصر كما وعد النبيين، وهم الذين يقبلون حكم الله وقسمة رسوله في الغنائم- ويا لها من مقدمات للفوز في الحرب وغيرها- ثم قفى على ذلك بذكر أول القصة وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته في المدينة وكراهة فريق من المؤمنين لخروجه، خلافا لما يقتضيه الإيمان من الإذعان لطاعته، والرضاء بما يفعله بأمر ربه، وما يحكم أو يأمر به، كما علم من الشرط في الآية الأولى ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ ولعل بيان هذا الشرط وما وليه من بيان صفات المؤمنين حق الإيمان هو أهم ما في هذه السورة على كثرة أحكامها وحكمها وفوائدها الروحية والاجتماعية والسياسية والحربية والمالية.
﴿ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ﴾ تولى الله تعالى إقامة الحجة عليهم بالحق فيما جادلوا فيه رسوله بالباطل ووجه الخطاب إليهم بعد أن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم فقال واذكروا إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين –العير أو النفير- أنها لكم، وهذا التعبير آكد في الوعد من مثل : وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم. لأن هذا إثبات بعد إثبات، إثبات للشيء في نفسه، وإثبات له في بدله.
﴿ وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ﴾ أي وتحبون وتتمنون أن الطائفة غير ذات الشوكة وهي العير تكون لكم لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا. والشوكة الحدة والقوة، وأصلها واحدة الشوك شبهوا بها أسنة الرماح، ثم أطلقوها تجوزا على كل حديد من السلاح، فقالوا : شائك السلاح وشاكي السلاح. وإنما عبر عنها بهذا التعبير للتعريض بكراهتهم للقتال، وطمعهم في المال.
﴿ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ﴾ أي ويريد الله بوعده غير ما أردتم، يريد أن يحق الحق الذي أراده بكلماته المنزلة على رسوله أي وعده لكم إحدى الطائفتين مبهمة وبيانها له معينة مع ضمان النصر له ﴿ ويقطع دابر الكافرين ﴾ المعاندين له من مشركي مكة وأعوانهم باستئصال شأفتهم ومحق قوتهم، فإن دابر القوم آخرهم الذي يأتي في دبرهم ويكون من ورائهم، ولن يصل إليه الهلاك إلا بهلاك من قبله من الجيش، وهكذا كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها إلى أن قطع الله دابر المشركين بفتح مكة، وما تخلل ذلك من نيلهم من المؤمنين في أحد وحنين فإنما كان تربية على ذنوب لهم اقترفوها كما قال تعالى في الأولى :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ] إلى أن قال :﴿ وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ﴾ [ آل عمران : ١٤١ ] وقال في الثانية :﴿ ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ﴾ إلى قوله ﴿ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ﴾ [ التوبة : ٢٦ ] الخ.
قال في الكشاف : يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم والله عز وجل يريد معالي الأمور وما يرجع إلى عمارة الدين ونصرة الحق وعلو الكلمة والفوز في الدارين، وشتان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزكم وأذلهم، وحصل لكم ما لا تعارض أدناه العير وما فيها.
﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ٥ يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ٦ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ٧ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ٨ ﴾
تقدم في تفسير قصة البقرة من سورتها أن سنة القرآن في ذكر القصص والوقائع مخالفة العهود في أساليب الكلام من سردها مرتبة كما وقعت، وإن سبب هذه المخالفة أنه لا يقص قصة ولا يسرد أخبار واقعة لأجل أن تكون تاريخا محفوظا، وإنما يذكر ما يذكر من ذلك لأجل العبرة والموعظة، وبيان الآيات والحكم الإلهية والأحكام العملية. بدأت قصة البقرة بأمر موسى لقومه بذبح بقرة وذكر في آخرها سبب ذلك خلافا للترتيب المألوف من تقديم السبب على مسببه كتقديم العلة على معلولها والمقدمات على نتيجتها. ولكن أسلوب القرآن البديع أبلغ في بابه كما بسط هنالك.
وههنا بدأت قصة غزوة بدر الكبرى التي كانت أول مظهر لوعد الله تعالى بنصر رسوله والمؤمنين، والإدالة لهم من أكابر مجرمي المشركين، بذكر حكم الغنائم التي غنمها المسلمون منهم- ويا لها من براعة مطلع- مقرونا ببيان صفات المؤمنين الكاملين الذين وعدهم النصر كما وعد النبيين، وهم الذين يقبلون حكم الله وقسمة رسوله في الغنائم- ويا لها من مقدمات للفوز في الحرب وغيرها- ثم قفى على ذلك بذكر أول القصة وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته في المدينة وكراهة فريق من المؤمنين لخروجه، خلافا لما يقتضيه الإيمان من الإذعان لطاعته، والرضاء بما يفعله بأمر ربه، وما يحكم أو يأمر به، كما علم من الشرط في الآية الأولى ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ ولعل بيان هذا الشرط وما وليه من بيان صفات المؤمنين حق الإيمان هو أهم ما في هذه السورة على كثرة أحكامها وحكمها وفوائدها الروحية والاجتماعية والسياسية والحربية والمالية.
﴿ ليحق الحق ويبطل الباطل ﴾ أي وعد بما وعد وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة ليحق الحق أي يقره ويبته لأنه الحق- وهو الإسلام- ويبطل الباطل أي يزيله ويمحقه –وهو الشرك- ﴿ ولو كره المجرمون ﴾ أولوا الاعتداء والطغيان من المشركين. وإحقاق الحق وإبطال الباطل لا يكون باستيلائهم على العير بل بقتل أئمة الكفر والطاغوت من صناديد قريش المعاندين الذين خرجوا إليكم من مكة ليستأصلوكم. وقد علم مما فسرنا به الحق في الآيتين أنه لا تكرار فيه، فالحق الأول هو القتال لطائفة النفير مع ضمان النصر للمؤمنين، ومحق الكافرين، والثاني هو الإسلام، وهو المقصد والأول وسيلة له. وهذا أظهر مما قاله الزمخشري وابن المنير.
﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ٩ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ١٠ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ١١ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ١٢ ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ١٣ ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ١٤ ﴾
روى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رادءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون ) الخ١، وأما البخاري فروى عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ( اللهم أني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد ) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك، فخرج وهو يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] ٢.
وعن سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته ( اللهم لا تودّع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تتركني اللهم أنشدك ما وعدتني ) وعن ابن إسحاق في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم قال :( اللهم هذه قريش أتت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني ).
وقد استشكل ما ظهر من خوف النبي صلى الله عليه وسلم مع وعد الله له بالنصر عاما وخاصا ومن طمأنينة أبي بكر رضي الله عنه على خلاف ما كان ليلة الغار إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم آمنا مطمئنا متوكلا على ربه، وكان أبو بكر خائفا وجلا كما يدل عليه قوله عز وجل :﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ﴾ [ التوبة : ٤٠ ].
قال الحافظ في الفتح قال الخطابي لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم لأنه كان أول مشهد شهده فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة فلهذا عقب بقوله :﴿ سيهزم الجمع ﴾ انتهى ملخصا.
( وقال غيره وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة وإنما كان مجملا. هذا الذي يظهر، وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى الصوفية في هذا الموضع زللا شديدا فلا يلتفت إليه ولعل الخطابي أشار إليه. اهـ ما أورده الحافظ في الفتح فهو لم يطلع على أحسن منه على سعة اطلاعه.
وأقول يصح أن يكون من مقاصده صلى الله عليه وسلم من الدعاء يومئذ تقوية قلوب أصحابه وهو ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالقوة المعنوية ولا خلاف بين العقلاء حتى اليوم في أنها أحد أسباب النصر والظفر، ولكن لا يصح أن يكون علم باستجابة الله له لما وجد أبو بكر في نفسه القوة والطمأنينة فعلمه صلى الله عليه وسلم بربه وبوقت استجابته له أقوى وأعلى من أن يستنبطه استنباطا من حال أبي بكر رضي الله عنه.
وأما قول بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومئذ في مقام الخوف فهو ظاهر ولكنه لم يبين معه سببه ولا كونه لا ينافي كمال توكله على ربه، وكونه فيه أعلى وأكمل من صاحبه بدرجات لا يعلوها شيء، وقد بينا ذلك بالتفصيل في تفسير ﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ] وهي في سياق غزوة أحد ونعيد البحث مع زيادة فائدة فنقول إنه صلى الله عليه وسلم أعطى كل مقام حقه بحسب الحال التي كان فيها، فلما كان عند الخروج إلى الهجرة قد عمل مع صاحبه كل ما أمكنهما من الأسباب لها وهو إعداد الزاد والراحلتين والدليل والاستخفاء في الغار لم يبق عليهما إلا التوكل على الله تعالى والثقة بمعونته وتخذيل أعدائه فكان صلى الله عليه وسلم لكمال توكله آمنا مطمئنا بما أنزل الله عليه من السكينة وأيده به من أرواح الملائكة، وأبو بكر رضي الله عنه لم يرتق إلى هذه الدرجة فكان خائفا حزينا محتاجا إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم له.
وأما يوم بدر فكان المقام فيه الخوف لا مقام التوكل المحض، وذلك أن التوكل الشرعي بالاستسلام لعناية الرب تعالى وحده إنما يصح في كل حال بعد اتخاذ الأسباب لها المعلومة من شرع الله ومن سننه في خلقه كما بيناه في تفسير قوله تعالى :﴿ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] من ذلك السياق ومن المعلوم بالقطع أن أسباب النصر والغلب في الحرب لم تكن تامة عند المسلمين في ذلك الوقت لا من الجهة المادية كالعدد والعدد والغذاء والعتاد والخيل والإبل بل لم يكن من هذه الجهة إلا شيئا ضعيفا، ولا من الجهة المعنوية لما تقدم من كراهة بعضهم للقتال وجدال النبي صلى الله عليه وسلم فيه. لهذا خشي صلى الله عليه وسلم أن يصيب أصحابه تهلكة على قلتهم لتقصيرهم في بعض الأسباب المعنوية فوق التقصير غير الاختياري في الأسباب المادية، فكان يدعو بأن لا يؤاخذهم الله تعالى بتقصير بعضهم في إقامة سننه عقابا لهم كما عاقبهم بعد ذلك في غزوة أحد ذلك العقاب المشار إليه بقوله تعالى :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ].
وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يكن يعلم من ذلك كل ما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد رآه منزعجا خائفا فكان همه تسليته صلى الله عليه وسلم وتذكيره بوعد ربه لشدة حبه له، وفي الغار كان خائفا عليه ولكنه رآه مطمئنا فلم يحتج إلى تسليته بل كان صلى الله عليه وسلم هو المسلي له لما رأى من خوفه أن يعرض له ألم أو أذى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أعطى كل مقام حقه : مقام التوكل المحض بعد استيفاء أسباب اتقاء أذى المشركين عند الهجرة، ومقام الخوف على جماعة المؤمنين لما ذكرنا آنفا من كراهة بعضهم للقتال ومجادلتهم له فيه بعد ما تبين لهم أنه الحق الذي يريده الله تعالى بوعده إياهم إحدى الطائفتين. أجل، كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن شؤون الاجتماع البشري كسائر أطوار العالم لله تعالى فيها سنن مطردة لا تتغير ولا تتبدل كما تكرر ذلك في السور المكية بوجه عام، ثم ذكر بشأن القتال خاصة في الكلام على غزوة أحد من سورة آل عمران المدنية ﴿ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا ﴾ [ آل عمران : ١٣٧ ] ثم في سورة الأحزاب المدنية التي نزلت في غزوتها التي تسمى غزوة الخندق أيضا. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن سننه تعالى في القتال كسائر سننه في أنها لا تبديل لها ولا تحويل من قبل نزول ما أشرنا إليه في هاتين السورتين المدنيتين اللتين نزلتا بعد غزوة بدر فلذلك كان خوفه على المؤمنين عظيما.
فإن قيل : كيف يصح هذا وقد وعده الله تعالى إحدى الطائفتين أنها تكون للمؤمنين وكشف له عن مصارع صناديد المشركين ؟ فإذا كان قد جوز أن يكون وعده العام بالنصر له وللمؤمنين ( وهو مكرر في السور المكية والمدنية وصرح في بعضها بأنه من سننه في رسله والمؤمنين بهم ) غير معين أن يكون في هذه الغزوة كما قال بعض العلماء فلا يأتي مثل هذا الجواز في وعدهم إحدى الطائفتين فيها ولاسيما بعد أن نجت طائفة العير، انحصر الوعد في طائفة النفير، وبعد أن كشف تعالى له عن مصارع القوم ؟
قلنا : أما كشف مصارع القوم له فالظاهر المتعين أنه كان عقب دعائه واستغاثته ربه، ولذلك تمثل بعده بقوله تعالى سورة القمر :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] وزال خوفه وصار يعين أمكنة تلك المصارع. وأما الوعد فسيأتي فيه أنه كان في زمن الاستغاثة والاستجابة فإن كان قبله فأمثل ما يقال فيه وأقواه ما قاله العلماء في كثير من وعود الكتاب والسنة المطلقة بالجزاء على بعض الأعمال بأنه مقيد بما تدل عليه النصوص الأخرى من الإيمان الصحيح واجتناب الكبائر، ومن ذلك أن الوعد المطلق بالنصر للرسل والمؤمنين في عدة آيات مقيد بما اشترط له في آيات أخرى، مثال الأول قوله تعالى في سورة المؤمن المكية ﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ] وقوله في سورة الروم المكية أيضا :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ [ الروم : ٤٥ ].
ومثال الثاني قوله تعالى في الآيات التي أذن الله فيها للمؤمنين بالقتال دفاعا عن أنفسهم أول مرة وذلك في سورة الحج المدنية ﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾ [ الحج : ٤٠ ] وقوله بعد ذلك في سورة القتال ( أو محمد ) ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ [ محمد : ٨ ] وقد سبق لنا بيان هذا المعنى في التفسير وإقامة الحجة به على المسلمين الجاهلين المغرورين والخرافيين الذين يتكلون في أمورهم على الصلحاء الميتين في قضاء حوائجهم بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في الأسباب والمسببات، حتى كأن قبورهم معامل للكرامات، يتهافت عليها الأفراد والجماعات، يدعون أصحابها خاشعين، ما لا يدعو به الموحدون إلا الله رب العالمين. كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المؤمنين.
وجملة القول في هذا المقام أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسباب حسية ومعنوية، وأن لله تعالى فيها سننا مطردة، وأن وعد الله تعالى وآياته منها المطلق ومنها المقيد، وأن المقيد يفسر المطلق ولا يعارضه، ولا اختلاف ولا تعارض في كلام الله تعالى، وكان يعلم مع ذلك أن لله تعالى عناية وتوفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم ب
وكانوا يتأسون به في هذا الدعاء، فيستغيثون ربهم كما استغاثه وقد أسند الله إليهم ذلك وأجابهم إلى ما سألوا بقوله :
﴿ إذ تستغيثون ربكم ﴾ قيل إن هذا بدل من قوله تعالى :﴿ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ﴾ وظاهر هذا أن زمن الوعد والاستغاثة والاستجابة واحد على اتساع فيه وحينئذ يرتفع الإشكال الذي أجبنا عنه آنفا من أصله، وظاهر الروايات وكلام المفسرين أن الاستغاثة وقعت بعد الوعد وقد وجهوا ذلك بما ليس من موضوعنا بيانه مع القطع بأنه عربي فصيح، وقيل إنه متعلق بقوله ﴿ ليحق الحق ويبطل الباطل ﴾ أو بمحذوف علم من السياق ومن نظائره في آيات أخرى تقديره " اذكر " أو " اذكروا " إذ تستغيثون ربكم. والاستغاثة طلب الغوث والإنقاذ من الهلكة.
﴿ فاستجاب لكم أني ممدّكم ﴾ هو في قراءة الجمهور بفتح الهمزة أي بأني ممدكم، وقرأها أبو عمرو بكسرها أي قائلا إني ممدكم أي ناصركم ومغيثكم ﴿ بألف من الملائكة مردفين ﴾ قرأ الجمهور مردفين بكسر الدال من أردفه إذا أركبه وراءه وذلك أن الذي يركب وراء غيره يركب على ردف الدابة غالبا وقرأها نافع ويعقوب بفتحها، وفي كل منهما احتمالات لا يختلف بها المراد. أي يردفونكم أو يردف بعضهم بعضا ويتبعه، أو يردفهم ويتبعهم غيرهم. وتقدم في تفسير مثل هذه الآية من سورة آل عمران وتفسير قوله تعالى :﴿ وإخوانهم يمدونهم في الغي ﴾ [ الأعراف : ٢٠٢ ] من الأعراف معنى المدد والإمداد في اللغة.
﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ٩ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ١٠ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ١١ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ١٢ ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ١٣ ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ١٤ ﴾
روى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رادءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون ) الخ١، وأما البخاري فروى عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ( اللهم أني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد ) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك، فخرج وهو يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] ٢.
وعن سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته ( اللهم لا تودّع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تتركني اللهم أنشدك ما وعدتني ) وعن ابن إسحاق في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم قال :( اللهم هذه قريش أتت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني ).
وقد استشكل ما ظهر من خوف النبي صلى الله عليه وسلم مع وعد الله له بالنصر عاما وخاصا ومن طمأنينة أبي بكر رضي الله عنه على خلاف ما كان ليلة الغار إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم آمنا مطمئنا متوكلا على ربه، وكان أبو بكر خائفا وجلا كما يدل عليه قوله عز وجل :﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ﴾ [ التوبة : ٤٠ ].
قال الحافظ في الفتح قال الخطابي لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم لأنه كان أول مشهد شهده فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة فلهذا عقب بقوله :﴿ سيهزم الجمع ﴾ انتهى ملخصا.
( وقال غيره وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة وإنما كان مجملا. هذا الذي يظهر، وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى الصوفية في هذا الموضع زللا شديدا فلا يلتفت إليه ولعل الخطابي أشار إليه. اهـ ما أورده الحافظ في الفتح فهو لم يطلع على أحسن منه على سعة اطلاعه.
وأقول يصح أن يكون من مقاصده صلى الله عليه وسلم من الدعاء يومئذ تقوية قلوب أصحابه وهو ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالقوة المعنوية ولا خلاف بين العقلاء حتى اليوم في أنها أحد أسباب النصر والظفر، ولكن لا يصح أن يكون علم باستجابة الله له لما وجد أبو بكر في نفسه القوة والطمأنينة فعلمه صلى الله عليه وسلم بربه وبوقت استجابته له أقوى وأعلى من أن يستنبطه استنباطا من حال أبي بكر رضي الله عنه.
وأما قول بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومئذ في مقام الخوف فهو ظاهر ولكنه لم يبين معه سببه ولا كونه لا ينافي كمال توكله على ربه، وكونه فيه أعلى وأكمل من صاحبه بدرجات لا يعلوها شيء، وقد بينا ذلك بالتفصيل في تفسير ﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ] وهي في سياق غزوة أحد ونعيد البحث مع زيادة فائدة فنقول إنه صلى الله عليه وسلم أعطى كل مقام حقه بحسب الحال التي كان فيها، فلما كان عند الخروج إلى الهجرة قد عمل مع صاحبه كل ما أمكنهما من الأسباب لها وهو إعداد الزاد والراحلتين والدليل والاستخفاء في الغار لم يبق عليهما إلا التوكل على الله تعالى والثقة بمعونته وتخذيل أعدائه فكان صلى الله عليه وسلم لكمال توكله آمنا مطمئنا بما أنزل الله عليه من السكينة وأيده به من أرواح الملائكة، وأبو بكر رضي الله عنه لم يرتق إلى هذه الدرجة فكان خائفا حزينا محتاجا إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم له.
وأما يوم بدر فكان المقام فيه الخوف لا مقام التوكل المحض، وذلك أن التوكل الشرعي بالاستسلام لعناية الرب تعالى وحده إنما يصح في كل حال بعد اتخاذ الأسباب لها المعلومة من شرع الله ومن سننه في خلقه كما بيناه في تفسير قوله تعالى :﴿ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] من ذلك السياق ومن المعلوم بالقطع أن أسباب النصر والغلب في الحرب لم تكن تامة عند المسلمين في ذلك الوقت لا من الجهة المادية كالعدد والعدد والغذاء والعتاد والخيل والإبل بل لم يكن من هذه الجهة إلا شيئا ضعيفا، ولا من الجهة المعنوية لما تقدم من كراهة بعضهم للقتال وجدال النبي صلى الله عليه وسلم فيه. لهذا خشي صلى الله عليه وسلم أن يصيب أصحابه تهلكة على قلتهم لتقصيرهم في بعض الأسباب المعنوية فوق التقصير غير الاختياري في الأسباب المادية، فكان يدعو بأن لا يؤاخذهم الله تعالى بتقصير بعضهم في إقامة سننه عقابا لهم كما عاقبهم بعد ذلك في غزوة أحد ذلك العقاب المشار إليه بقوله تعالى :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ].
وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يكن يعلم من ذلك كل ما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد رآه منزعجا خائفا فكان همه تسليته صلى الله عليه وسلم وتذكيره بوعد ربه لشدة حبه له، وفي الغار كان خائفا عليه ولكنه رآه مطمئنا فلم يحتج إلى تسليته بل كان صلى الله عليه وسلم هو المسلي له لما رأى من خوفه أن يعرض له ألم أو أذى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أعطى كل مقام حقه : مقام التوكل المحض بعد استيفاء أسباب اتقاء أذى المشركين عند الهجرة، ومقام الخوف على جماعة المؤمنين لما ذكرنا آنفا من كراهة بعضهم للقتال ومجادلتهم له فيه بعد ما تبين لهم أنه الحق الذي يريده الله تعالى بوعده إياهم إحدى الطائفتين. أجل، كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن شؤون الاجتماع البشري كسائر أطوار العالم لله تعالى فيها سنن مطردة لا تتغير ولا تتبدل كما تكرر ذلك في السور المكية بوجه عام، ثم ذكر بشأن القتال خاصة في الكلام على غزوة أحد من سورة آل عمران المدنية ﴿ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا ﴾ [ آل عمران : ١٣٧ ] ثم في سورة الأحزاب المدنية التي نزلت في غزوتها التي تسمى غزوة الخندق أيضا. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن سننه تعالى في القتال كسائر سننه في أنها لا تبديل لها ولا تحويل من قبل نزول ما أشرنا إليه في هاتين السورتين المدنيتين اللتين نزلتا بعد غزوة بدر فلذلك كان خوفه على المؤمنين عظيما.
فإن قيل : كيف يصح هذا وقد وعده الله تعالى إحدى الطائفتين أنها تكون للمؤمنين وكشف له عن مصارع صناديد المشركين ؟ فإذا كان قد جوز أن يكون وعده العام بالنصر له وللمؤمنين ( وهو مكرر في السور المكية والمدنية وصرح في بعضها بأنه من سننه في رسله والمؤمنين بهم ) غير معين أن يكون في هذه الغزوة كما قال بعض العلماء فلا يأتي مثل هذا الجواز في وعدهم إحدى الطائفتين فيها ولاسيما بعد أن نجت طائفة العير، انحصر الوعد في طائفة النفير، وبعد أن كشف تعالى له عن مصارع القوم ؟
قلنا : أما كشف مصارع القوم له فالظاهر المتعين أنه كان عقب دعائه واستغاثته ربه، ولذلك تمثل بعده بقوله تعالى سورة القمر :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] وزال خوفه وصار يعين أمكنة تلك المصارع. وأما الوعد فسيأتي فيه أنه كان في زمن الاستغاثة والاستجابة فإن كان قبله فأمثل ما يقال فيه وأقواه ما قاله العلماء في كثير من وعود الكتاب والسنة المطلقة بالجزاء على بعض الأعمال بأنه مقيد بما تدل عليه النصوص الأخرى من الإيمان الصحيح واجتناب الكبائر، ومن ذلك أن الوعد المطلق بالنصر للرسل والمؤمنين في عدة آيات مقيد بما اشترط له في آيات أخرى، مثال الأول قوله تعالى في سورة المؤمن المكية ﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ] وقوله في سورة الروم المكية أيضا :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ [ الروم : ٤٥ ].
ومثال الثاني قوله تعالى في الآيات التي أذن الله فيها للمؤمنين بالقتال دفاعا عن أنفسهم أول مرة وذلك في سورة الحج المدنية ﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾ [ الحج : ٤٠ ] وقوله بعد ذلك في سورة القتال ( أو محمد ) ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ [ محمد : ٨ ] وقد سبق لنا بيان هذا المعنى في التفسير وإقامة الحجة به على المسلمين الجاهلين المغرورين والخرافيين الذين يتكلون في أمورهم على الصلحاء الميتين في قضاء حوائجهم بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في الأسباب والمسببات، حتى كأن قبورهم معامل للكرامات، يتهافت عليها الأفراد والجماعات، يدعون أصحابها خاشعين، ما لا يدعو به الموحدون إلا الله رب العالمين. كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المؤمنين.
وجملة القول في هذا المقام أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسباب حسية ومعنوية، وأن لله تعالى فيها سننا مطردة، وأن وعد الله تعالى وآياته منها المطلق ومنها المقيد، وأن المقيد يفسر المطلق ولا يعارضه، ولا اختلاف ولا تعارض في كلام الله تعالى، وكان يعلم مع ذلك أن لله تعالى عناية وتوفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم ب
ثم بين تعالى أن هذا الإمداد أمر روحاني يؤثر في القلوب فيزيد في قوتها المعنوية فقال :﴿ وما جعله الله إلا بشرى ﴾ أي وما جعل عز شأنه هذا الإمداد إلا بشرى لكم بأنه ينصركم كما وعدكم ﴿ ولتطمئن به قلوبكم ﴾ أي تسكن بعد ذلك الزلزال والخوف الذي عرض لكم في جملتكم فكان من مجادلتكم للرسول في أمر القتال ما كان. فتلقون أعداءكم ثابتين موقنين بالنصر، وسيأتي في مقابلة هذا إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ دون غيره من الملائكة أو غيرهم كالأسباب الحسية فهو عز وجل الفاعل للنصر كغيره مهما تكن أسبابه المادية أو المعنوية إذ هو المسخر لها وناهيك بما لا كسب للبشر فيه كتسخير الملائكة تخالط المؤمنين فتستفيد أرواحهم منها الثبات والاطمئنان ﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾ عزيز غالب على أمره، حكيم لا يضع شيئا في غير موضعه.
وفي التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فسر " مردفين " بالمدد وبقوله " ملك وراء ملك " وعن الشعبي قال : كان ألف مردفين وثلاثة آلاف منزلين، فكانوا أربعة آلاف وهو مدد المسلمين في ثغورهم. وعن قتادة متتابعين، أمدهم الله تعالى بألف ثم ثلاثة ثم أكملهم خمسة آلاف ﴿ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم ﴾ قال يعني نزول الملائكة عليهم السلام قال : وذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال : أما يوم بدر فلا نشك أن الملائكة عليهم السلام كانوا معنا، وأما بعد ذلك فالله أعلم. وعن ابن زيد : مردفين قال بعضهم على أثر بعض. وعن مجاهد في قوله ( وما جعله إلا بشرى ) قال إنما جعلهم الله يستبشر بهم. هذا جملة ما جمعه في الدر المنثور من المأثور في الآيتين. وظاهر نص القرآن أن إنزال الملائكة وإمداد المسلمين بهم فائدته معنوية كما تقدم وأنهم لم يكونوا محاربين وهناك روايات أخرى في أنهم قاتلوا وسيأتي بحثه. وما قاله الشعبي وقتادة من العدد لا يقبل إلا بنص من الشارع قطعي الرواية والدلالة لأنه خبر عن الغيب.
وقد خلطت بعض الروايات بين الملائكة المردفين الذين أيد الله بهم المؤمنين في غزوة بدر، وبين الملائكة المنزلين والمسومين الذين ذكر خبرهم في سياق غزوة أحد من سورة آل عمران، وقد حققنا هذا المبحث في تفسير تلك الآيات فيها واعتمدنا في جله على تحقيق ابن جرير وذكرنا فيه ما جاء هنا، وجملته أن الله تعالى أمد المؤمنين يوم بدر بألف من الملائكة كان قوة معنوية لهم وأما يوم أحد فقد حدثهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمداد ووعدهم به وعدا معلقا على الصبر والتقوى ولكن انتفى الشرط فانتفى المشروط. ويراجع تفصيل ذلك ( في ج ٤ تفسير ) فإنه مفيد في تحقيق ما هنا ولذلك لم نطل الكلام فيه.
﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ٩ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ١٠ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ١١ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ١٢ ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ١٣ ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ١٤ ﴾
روى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رادءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون ) الخ١، وأما البخاري فروى عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ( اللهم أني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد ) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك، فخرج وهو يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] ٢.
وعن سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته ( اللهم لا تودّع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تتركني اللهم أنشدك ما وعدتني ) وعن ابن إسحاق في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم قال :( اللهم هذه قريش أتت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني ).
وقد استشكل ما ظهر من خوف النبي صلى الله عليه وسلم مع وعد الله له بالنصر عاما وخاصا ومن طمأنينة أبي بكر رضي الله عنه على خلاف ما كان ليلة الغار إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم آمنا مطمئنا متوكلا على ربه، وكان أبو بكر خائفا وجلا كما يدل عليه قوله عز وجل :﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ﴾ [ التوبة : ٤٠ ].
قال الحافظ في الفتح قال الخطابي لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم لأنه كان أول مشهد شهده فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة فلهذا عقب بقوله :﴿ سيهزم الجمع ﴾ انتهى ملخصا.
( وقال غيره وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة وإنما كان مجملا. هذا الذي يظهر، وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى الصوفية في هذا الموضع زللا شديدا فلا يلتفت إليه ولعل الخطابي أشار إليه. اهـ ما أورده الحافظ في الفتح فهو لم يطلع على أحسن منه على سعة اطلاعه.
وأقول يصح أن يكون من مقاصده صلى الله عليه وسلم من الدعاء يومئذ تقوية قلوب أصحابه وهو ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالقوة المعنوية ولا خلاف بين العقلاء حتى اليوم في أنها أحد أسباب النصر والظفر، ولكن لا يصح أن يكون علم باستجابة الله له لما وجد أبو بكر في نفسه القوة والطمأنينة فعلمه صلى الله عليه وسلم بربه وبوقت استجابته له أقوى وأعلى من أن يستنبطه استنباطا من حال أبي بكر رضي الله عنه.
وأما قول بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومئذ في مقام الخوف فهو ظاهر ولكنه لم يبين معه سببه ولا كونه لا ينافي كمال توكله على ربه، وكونه فيه أعلى وأكمل من صاحبه بدرجات لا يعلوها شيء، وقد بينا ذلك بالتفصيل في تفسير ﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ] وهي في سياق غزوة أحد ونعيد البحث مع زيادة فائدة فنقول إنه صلى الله عليه وسلم أعطى كل مقام حقه بحسب الحال التي كان فيها، فلما كان عند الخروج إلى الهجرة قد عمل مع صاحبه كل ما أمكنهما من الأسباب لها وهو إعداد الزاد والراحلتين والدليل والاستخفاء في الغار لم يبق عليهما إلا التوكل على الله تعالى والثقة بمعونته وتخذيل أعدائه فكان صلى الله عليه وسلم لكمال توكله آمنا مطمئنا بما أنزل الله عليه من السكينة وأيده به من أرواح الملائكة، وأبو بكر رضي الله عنه لم يرتق إلى هذه الدرجة فكان خائفا حزينا محتاجا إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم له.
وأما يوم بدر فكان المقام فيه الخوف لا مقام التوكل المحض، وذلك أن التوكل الشرعي بالاستسلام لعناية الرب تعالى وحده إنما يصح في كل حال بعد اتخاذ الأسباب لها المعلومة من شرع الله ومن سننه في خلقه كما بيناه في تفسير قوله تعالى :﴿ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] من ذلك السياق ومن المعلوم بالقطع أن أسباب النصر والغلب في الحرب لم تكن تامة عند المسلمين في ذلك الوقت لا من الجهة المادية كالعدد والعدد والغذاء والعتاد والخيل والإبل بل لم يكن من هذه الجهة إلا شيئا ضعيفا، ولا من الجهة المعنوية لما تقدم من كراهة بعضهم للقتال وجدال النبي صلى الله عليه وسلم فيه. لهذا خشي صلى الله عليه وسلم أن يصيب أصحابه تهلكة على قلتهم لتقصيرهم في بعض الأسباب المعنوية فوق التقصير غير الاختياري في الأسباب المادية، فكان يدعو بأن لا يؤاخذهم الله تعالى بتقصير بعضهم في إقامة سننه عقابا لهم كما عاقبهم بعد ذلك في غزوة أحد ذلك العقاب المشار إليه بقوله تعالى :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ].
وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يكن يعلم من ذلك كل ما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد رآه منزعجا خائفا فكان همه تسليته صلى الله عليه وسلم وتذكيره بوعد ربه لشدة حبه له، وفي الغار كان خائفا عليه ولكنه رآه مطمئنا فلم يحتج إلى تسليته بل كان صلى الله عليه وسلم هو المسلي له لما رأى من خوفه أن يعرض له ألم أو أذى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أعطى كل مقام حقه : مقام التوكل المحض بعد استيفاء أسباب اتقاء أذى المشركين عند الهجرة، ومقام الخوف على جماعة المؤمنين لما ذكرنا آنفا من كراهة بعضهم للقتال ومجادلتهم له فيه بعد ما تبين لهم أنه الحق الذي يريده الله تعالى بوعده إياهم إحدى الطائفتين. أجل، كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن شؤون الاجتماع البشري كسائر أطوار العالم لله تعالى فيها سنن مطردة لا تتغير ولا تتبدل كما تكرر ذلك في السور المكية بوجه عام، ثم ذكر بشأن القتال خاصة في الكلام على غزوة أحد من سورة آل عمران المدنية ﴿ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا ﴾ [ آل عمران : ١٣٧ ] ثم في سورة الأحزاب المدنية التي نزلت في غزوتها التي تسمى غزوة الخندق أيضا. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن سننه تعالى في القتال كسائر سننه في أنها لا تبديل لها ولا تحويل من قبل نزول ما أشرنا إليه في هاتين السورتين المدنيتين اللتين نزلتا بعد غزوة بدر فلذلك كان خوفه على المؤمنين عظيما.
فإن قيل : كيف يصح هذا وقد وعده الله تعالى إحدى الطائفتين أنها تكون للمؤمنين وكشف له عن مصارع صناديد المشركين ؟ فإذا كان قد جوز أن يكون وعده العام بالنصر له وللمؤمنين ( وهو مكرر في السور المكية والمدنية وصرح في بعضها بأنه من سننه في رسله والمؤمنين بهم ) غير معين أن يكون في هذه الغزوة كما قال بعض العلماء فلا يأتي مثل هذا الجواز في وعدهم إحدى الطائفتين فيها ولاسيما بعد أن نجت طائفة العير، انحصر الوعد في طائفة النفير، وبعد أن كشف تعالى له عن مصارع القوم ؟
قلنا : أما كشف مصارع القوم له فالظاهر المتعين أنه كان عقب دعائه واستغاثته ربه، ولذلك تمثل بعده بقوله تعالى سورة القمر :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] وزال خوفه وصار يعين أمكنة تلك المصارع. وأما الوعد فسيأتي فيه أنه كان في زمن الاستغاثة والاستجابة فإن كان قبله فأمثل ما يقال فيه وأقواه ما قاله العلماء في كثير من وعود الكتاب والسنة المطلقة بالجزاء على بعض الأعمال بأنه مقيد بما تدل عليه النصوص الأخرى من الإيمان الصحيح واجتناب الكبائر، ومن ذلك أن الوعد المطلق بالنصر للرسل والمؤمنين في عدة آيات مقيد بما اشترط له في آيات أخرى، مثال الأول قوله تعالى في سورة المؤمن المكية ﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ] وقوله في سورة الروم المكية أيضا :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ [ الروم : ٤٥ ].
ومثال الثاني قوله تعالى في الآيات التي أذن الله فيها للمؤمنين بالقتال دفاعا عن أنفسهم أول مرة وذلك في سورة الحج المدنية ﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾ [ الحج : ٤٠ ] وقوله بعد ذلك في سورة القتال ( أو محمد ) ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ [ محمد : ٨ ] وقد سبق لنا بيان هذا المعنى في التفسير وإقامة الحجة به على المسلمين الجاهلين المغرورين والخرافيين الذين يتكلون في أمورهم على الصلحاء الميتين في قضاء حوائجهم بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في الأسباب والمسببات، حتى كأن قبورهم معامل للكرامات، يتهافت عليها الأفراد والجماعات، يدعون أصحابها خاشعين، ما لا يدعو به الموحدون إلا الله رب العالمين. كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المؤمنين.
وجملة القول في هذا المقام أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسباب حسية ومعنوية، وأن لله تعالى فيها سننا مطردة، وأن وعد الله تعالى وآياته منها المطلق ومنها المقيد، وأن المقيد يفسر المطلق ولا يعارضه، ولا اختلاف ولا تعارض في كلام الله تعالى، وكان يعلم مع ذلك أن لله تعالى عناية وتوفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم ب
﴿ إذ يغشّيكم النعاس أمنة منه ﴾ هذه منة أخرى من مننه تعالى على المؤمنين، التي كانت من أسباب ظهورهم على المشركين، وهي إلقاؤه تعالى النعاس عليهم حتى غشيهم – أي غلب عليهم فكان كالغاشية تستر الشيء وتغطيه- تأمينا لهم من الخوف الذي كان يساورهم من الفرق العظيم بينهم وبين عدوهم في العدد والعدة وغير ذلك. روى أبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن علي كرم الله وجهه قال ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح. وذلك أن من غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف، كما أن الخائف لا ينام، ولكن قد ينعس، والنعاس فتور في الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم فهو يضعف الإدراك ولا يزيله كله فمتى زال كان نوما ولذلك قال بعضهم هو أول النوم.
وفي المصباح : وأول النوم النعاس وهو أن يحتاج الإنسان إلى النوم، ثم الوسن وهو ثقل النعاس، ثم الترنيق وهو مخالطة النعاس للعين، ثم الكرى والغمض وهو أن يكون الإنسان بين النائم واليقظان، ثم العفق وهو النوم وأنت تسمع كلام القوم، ثم الهجود والهجوع ١ه. وهو يفيد أن الوسن والترنيق درجتان من درجات النعاس وأن الكرى مرتبة فاصلة بين النعاس والنوم، وفي المصباح أيضا أن النعاس اسم مصدر لنعس من باب قتل، والجمهور على أنه من باب فتح فهو من البابين، وضعوا اسمه بوزن فعال بالضم كأنهم عدوه من الأمراض كالسعال والفواق والكباد.
وقال علي رضي الله عنه إنهم ناموا يومئذ، وظاهر عبارته أنهم ناموا في الليل والمتبادر أن نعاسهم كان في أثناء القتال، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك وتحقيق الحق فيه في تفسير قوله تعالى :﴿ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ﴾ [ آل عمران : ١٥٤ ] وهو في سياق غزوة أحد. وقلت هنالك : قد تقدم في ملخص القصة ذكر هذا النعاس وأنه كان في أثناء القتال، وإنما كان مانعا من الخوف لأنه ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر، ولكن روي أن السيوف كانت تسقط من أيديهم واختار الأستاذ الإمام أنه كان بعد القتال الخ فيحسن مراجعته ففيه الكلام على النعاس يوم بدر أيضا وهو في ( ج٤ تفسير ).
قرأ الأكثرون ( يغشّيكم ) بالتشديد من التغشية وهو إما للتدريج وإما للمبالغة في التغطية، وقرأه نافع بالتخفيف من الإغشاء، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ( يغشاكم ) من الثلاثي ورفع النعاس على أنه فاعله، وهذا لا يخالف القراءتين قبله بل هو كالمطاوع لهما ومعنى الثلاثة أن الله تعالى جعل النعاس يغشاكم فغشيكم، وأما صيغ الفعل ودلالة قراءة التشديد على التدريج أو المبالغة دون قراءة التخفيف فيحمل اختلافهما على اختلاف حال من غشيهم النعاس فهو لا يكون عادة إلا بالتدريج ويكون أشد على بعض الناس من بعض، وقد ذكرنا بحث صيغة ( غ ش ي ) في اللغة في تفسير سورة الأعراف.
﴿ وينزّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ﴾ وهذه منة ثالثة منه عز وجل على المؤمنين، كان لها شأن عظيم في انتصارهم على المشركين، روى ابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمئ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين، وكان ببينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله وتصلون مجنبين محدثين ؟ فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء فشرب المسلمون وتطهروا وثبتت أقدامهم ( أي على الدهاس أو الرمل اللين لتلبده بالمطر ) وذهبت وسوسته.
هذا أثبت وأوضح وأبسط ما ورد في المأثور عن هذا المطر في بدر، وعن مجاهد أنه كان قبل النعاس خلافا لظاهر الترتيب في الآية والواو لا توجبه. ولولا هذا المطر لما أمكن المسلمين القتال لأنهم كانوا رجالة ليس فيهم إلا فارس واحد هو المقداد كما تقدم وكانت الأرض دهاسا تسيخ فيها الأقدام أو لا تثبت عليها.
قال المحقق ابن القيم في الهدي النبوي : وأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرا واحدا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلاّ طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض وصلب الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط على قلوبهم. فسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل وصنعوا الحياض ثم غوروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الحياض وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيها على تل مشرف على المعركة ومشى في موضع المعركة وجعل يشير بيده ( هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى ) فما تعدى أحد منهم موضع إشارته اه.
وقد ذكر ابن هشام مسألة المطر بنحو مما قال ابن القيم ثم قال :
قال ابن إسحاق فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر ابن الجموح قال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال :( بل هو الحرب والرأي والمكيدة ) قال يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه من القلب ( بضمتين جمع قليب وهي البئر غير المطوية أي غير المبنية بالحجارة ) ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد أشرت بالرأي ) وذكر أنهم فعلوا ذلك.
ذكر تعالى لذلك المطر أربع منافع : الأولى : تطهيرهم به أي تطهيرا حسيا بالنظافة التي تشرح الصدر وتنشط الأعضاء في كل عمل –وشرعيا بالغسل من الجنابة والوضوء من الحدث الأصغر. الثانية : إذهاب رجز الشيطان عنهم. والرجز والرجس والركس كلها بمعنى الشيء المستقذر حسا أو معنى والمراد هنا وسوسته كما تقدم في المأثور. الثالثة : الربط على القلوب ويعبر به عن تثبيتها وتوطينها على الصبر كما قال تعالى :﴿ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ﴾ [ القصص : ١٠ ]. وتأثير المطر في القلوب تفسره المنفعة الرابعة : وهو تثبيت الأقدام به فإن من كان يعلم أنه يقاتل في أرض تسوخ فيها قدمه كلما تحرك وهو قد يقاتل فارسا لا راجلا لا يكون إلا وجلا مضطرب القلب.
﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ٩ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ١٠ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ١١ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ١٢ ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ١٣ ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ١٤ ﴾
روى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رادءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون ) الخ١، وأما البخاري فروى عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ( اللهم أني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد ) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك، فخرج وهو يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] ٢.
وعن سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته ( اللهم لا تودّع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تتركني اللهم أنشدك ما وعدتني ) وعن ابن إسحاق في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم قال :( اللهم هذه قريش أتت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني ).
وقد استشكل ما ظهر من خوف النبي صلى الله عليه وسلم مع وعد الله له بالنصر عاما وخاصا ومن طمأنينة أبي بكر رضي الله عنه على خلاف ما كان ليلة الغار إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم آمنا مطمئنا متوكلا على ربه، وكان أبو بكر خائفا وجلا كما يدل عليه قوله عز وجل :﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ﴾ [ التوبة : ٤٠ ].
قال الحافظ في الفتح قال الخطابي لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم لأنه كان أول مشهد شهده فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة فلهذا عقب بقوله :﴿ سيهزم الجمع ﴾ انتهى ملخصا.
( وقال غيره وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة وإنما كان مجملا. هذا الذي يظهر، وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى الصوفية في هذا الموضع زللا شديدا فلا يلتفت إليه ولعل الخطابي أشار إليه. اهـ ما أورده الحافظ في الفتح فهو لم يطلع على أحسن منه على سعة اطلاعه.
وأقول يصح أن يكون من مقاصده صلى الله عليه وسلم من الدعاء يومئذ تقوية قلوب أصحابه وهو ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالقوة المعنوية ولا خلاف بين العقلاء حتى اليوم في أنها أحد أسباب النصر والظفر، ولكن لا يصح أن يكون علم باستجابة الله له لما وجد أبو بكر في نفسه القوة والطمأنينة فعلمه صلى الله عليه وسلم بربه وبوقت استجابته له أقوى وأعلى من أن يستنبطه استنباطا من حال أبي بكر رضي الله عنه.
وأما قول بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومئذ في مقام الخوف فهو ظاهر ولكنه لم يبين معه سببه ولا كونه لا ينافي كمال توكله على ربه، وكونه فيه أعلى وأكمل من صاحبه بدرجات لا يعلوها شيء، وقد بينا ذلك بالتفصيل في تفسير ﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ] وهي في سياق غزوة أحد ونعيد البحث مع زيادة فائدة فنقول إنه صلى الله عليه وسلم أعطى كل مقام حقه بحسب الحال التي كان فيها، فلما كان عند الخروج إلى الهجرة قد عمل مع صاحبه كل ما أمكنهما من الأسباب لها وهو إعداد الزاد والراحلتين والدليل والاستخفاء في الغار لم يبق عليهما إلا التوكل على الله تعالى والثقة بمعونته وتخذيل أعدائه فكان صلى الله عليه وسلم لكمال توكله آمنا مطمئنا بما أنزل الله عليه من السكينة وأيده به من أرواح الملائكة، وأبو بكر رضي الله عنه لم يرتق إلى هذه الدرجة فكان خائفا حزينا محتاجا إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم له.
وأما يوم بدر فكان المقام فيه الخوف لا مقام التوكل المحض، وذلك أن التوكل الشرعي بالاستسلام لعناية الرب تعالى وحده إنما يصح في كل حال بعد اتخاذ الأسباب لها المعلومة من شرع الله ومن سننه في خلقه كما بيناه في تفسير قوله تعالى :﴿ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] من ذلك السياق ومن المعلوم بالقطع أن أسباب النصر والغلب في الحرب لم تكن تامة عند المسلمين في ذلك الوقت لا من الجهة المادية كالعدد والعدد والغذاء والعتاد والخيل والإبل بل لم يكن من هذه الجهة إلا شيئا ضعيفا، ولا من الجهة المعنوية لما تقدم من كراهة بعضهم للقتال وجدال النبي صلى الله عليه وسلم فيه. لهذا خشي صلى الله عليه وسلم أن يصيب أصحابه تهلكة على قلتهم لتقصيرهم في بعض الأسباب المعنوية فوق التقصير غير الاختياري في الأسباب المادية، فكان يدعو بأن لا يؤاخذهم الله تعالى بتقصير بعضهم في إقامة سننه عقابا لهم كما عاقبهم بعد ذلك في غزوة أحد ذلك العقاب المشار إليه بقوله تعالى :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ].
وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يكن يعلم من ذلك كل ما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد رآه منزعجا خائفا فكان همه تسليته صلى الله عليه وسلم وتذكيره بوعد ربه لشدة حبه له، وفي الغار كان خائفا عليه ولكنه رآه مطمئنا فلم يحتج إلى تسليته بل كان صلى الله عليه وسلم هو المسلي له لما رأى من خوفه أن يعرض له ألم أو أذى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أعطى كل مقام حقه : مقام التوكل المحض بعد استيفاء أسباب اتقاء أذى المشركين عند الهجرة، ومقام الخوف على جماعة المؤمنين لما ذكرنا آنفا من كراهة بعضهم للقتال ومجادلتهم له فيه بعد ما تبين لهم أنه الحق الذي يريده الله تعالى بوعده إياهم إحدى الطائفتين. أجل، كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن شؤون الاجتماع البشري كسائر أطوار العالم لله تعالى فيها سنن مطردة لا تتغير ولا تتبدل كما تكرر ذلك في السور المكية بوجه عام، ثم ذكر بشأن القتال خاصة في الكلام على غزوة أحد من سورة آل عمران المدنية ﴿ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا ﴾ [ آل عمران : ١٣٧ ] ثم في سورة الأحزاب المدنية التي نزلت في غزوتها التي تسمى غزوة الخندق أيضا. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن سننه تعالى في القتال كسائر سننه في أنها لا تبديل لها ولا تحويل من قبل نزول ما أشرنا إليه في هاتين السورتين المدنيتين اللتين نزلتا بعد غزوة بدر فلذلك كان خوفه على المؤمنين عظيما.
فإن قيل : كيف يصح هذا وقد وعده الله تعالى إحدى الطائفتين أنها تكون للمؤمنين وكشف له عن مصارع صناديد المشركين ؟ فإذا كان قد جوز أن يكون وعده العام بالنصر له وللمؤمنين ( وهو مكرر في السور المكية والمدنية وصرح في بعضها بأنه من سننه في رسله والمؤمنين بهم ) غير معين أن يكون في هذه الغزوة كما قال بعض العلماء فلا يأتي مثل هذا الجواز في وعدهم إحدى الطائفتين فيها ولاسيما بعد أن نجت طائفة العير، انحصر الوعد في طائفة النفير، وبعد أن كشف تعالى له عن مصارع القوم ؟
قلنا : أما كشف مصارع القوم له فالظاهر المتعين أنه كان عقب دعائه واستغاثته ربه، ولذلك تمثل بعده بقوله تعالى سورة القمر :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] وزال خوفه وصار يعين أمكنة تلك المصارع. وأما الوعد فسيأتي فيه أنه كان في زمن الاستغاثة والاستجابة فإن كان قبله فأمثل ما يقال فيه وأقواه ما قاله العلماء في كثير من وعود الكتاب والسنة المطلقة بالجزاء على بعض الأعمال بأنه مقيد بما تدل عليه النصوص الأخرى من الإيمان الصحيح واجتناب الكبائر، ومن ذلك أن الوعد المطلق بالنصر للرسل والمؤمنين في عدة آيات مقيد بما اشترط له في آيات أخرى، مثال الأول قوله تعالى في سورة المؤمن المكية ﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ] وقوله في سورة الروم المكية أيضا :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ [ الروم : ٤٥ ].
ومثال الثاني قوله تعالى في الآيات التي أذن الله فيها للمؤمنين بالقتال دفاعا عن أنفسهم أول مرة وذلك في سورة الحج المدنية ﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾ [ الحج : ٤٠ ] وقوله بعد ذلك في سورة القتال ( أو محمد ) ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ [ محمد : ٨ ] وقد سبق لنا بيان هذا المعنى في التفسير وإقامة الحجة به على المسلمين الجاهلين المغرورين والخرافيين الذين يتكلون في أمورهم على الصلحاء الميتين في قضاء حوائجهم بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في الأسباب والمسببات، حتى كأن قبورهم معامل للكرامات، يتهافت عليها الأفراد والجماعات، يدعون أصحابها خاشعين، ما لا يدعو به الموحدون إلا الله رب العالمين. كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المؤمنين.
وجملة القول في هذا المقام أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسباب حسية ومعنوية، وأن لله تعالى فيها سننا مطردة، وأن وعد الله تعالى وآياته منها المطلق ومنها المقيد، وأن المقيد يفسر المطلق ولا يعارضه، ولا اختلاف ولا تعارض في كلام الله تعالى، وكان يعلم مع ذلك أن لله تعالى عناية وتوفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم ب
﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا ﴾ الظرف هنا غير بدل من إذ، في الآيات التي قبله ولا متعلق بما تعلقت به بل هو متعلق بيثبت والمعنى أنه يثبت الأقدام بالمطر في وقت الكفاح الذي يوحي فيه ربك إلى الملائكة آمرا لهم أن يثبتوا به الأنفس بملابستهم لها واتصالهم بها وإلهامها تذكر وعد الله لرسوله وكونه لا يخلف الميعاد، والمعية في قوله :( إني معكم ) معية الإعانة كقوله :﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ [ البقرة : ١٥٣ ].
﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ الرعب بوزن فعل اسم مصدر من رعبه ( وتضم عينه ) وبه قرأ ابن عامر والكسائي ومعناه الخوف الذي يملأ القلب، ولما فيه من معنى الملء يقال رعبت الحوض أو الإناء أي ملأته، ورعب السيل الوادي. وقيل أصل معناه القطع إذ يقال رعبت السنام ورعبته ترعيبا إذا قطعته طولا، وفسره الراغب بما يجمع بين المعنيين فقال الرعب الانقطاع من امتلاء الخوف اه. ويقال رعبته ( من باب فتح ) وأرعبته، وأبلغ منه تعبير التنزيل بإلقاء الرعب وبقذف الرعب في القلب لما فيه من الإشعار بأنه يصب في القلوب دفعة واحدة.
﴿ فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ﴾ أي فاضربوا الهام وافلقوا الرؤوس – أو اضربوا على الأعناق- واقطعوا الأيدي ذات البنان التي هي أداة التصرف في الضرب وغيره وهو متعين في حال هجوم الفارس من الكفار على الراجل من المسلمين فإذا يسبق هذا إلى قطع يده قطع ذاك رأسه. والبنان جمع بنانة وهو أطراف الأصابع.
وفي تفسير ابن كثير عن بعض المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى ببدر- أي بعد انتهاء المعركة- ويقول :( نفلق هاما ) فيتم البيت أبو بكر رضي الله عنه وهو :
نفلق هاما من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما١
وهو يدل على ألمه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله من الضرورة التي اضطرتهم إلى قتل صناديد قومه. واسم التفضيل في أعق وأظلم هنا على غير بابه مراعاة للظاهر فإن المشركين وحدهم هم الذين عقوه صلى الله عليه وسلم وظلموه هو ومن آمن به حتى أخرجوهم من وطنهم بغيا وعدوانا ثم تبعوهم إلى دار هجرتهم يقاتلونهم فيها، وروي أنه أوصى بنفر من بني هاشم آله خرجوا مع المشركين كرها أن لا يقتلوا، كان منهم عمه العباس رضي الله عنه ولم يكن أسلم.
مقتضى السياق أن وحي الله للملائكة قد تم بأمره إياهم بتثبيت المؤمنين كما يدل عليه الحصر في قوله عن إمداد الملائكة ﴿ وما جعله الله إلا بشرى ﴾ الخ وقوله تعالى :﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ الخ بدء كلام خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تتمة للبشرى فيكون الأمر بالضرب موجها إلى المؤمنين قطعا وعليه المحققون الذين جزموا بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر تبعا لما قبله من الآيات وقيل إن هذا مما أوحي إلى الملائكة، وتأوله هؤلاء بأنه تعالى أمرهم بأن يلقوا هذا المعنى في قلوب المؤمنين بالإلهام كما كان الشيطان يخوفهم ويلقي في قلوبهم ضده بالوسواس. ولا يرد على الأول ما قيل من أنه لا يصح إلا إذا كان الخطاب قد وجه إلى المؤمنين قبل القتال والسورة قد نزلت بعده- لأن نزول السورة بنظمها وترتيبها بعده لا ينافي حصول معانيها قبله وفي أثنائه، فإن البشارة بالإمداد بالملائكة وما وليه قد حصل قبل القتال وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ثم ذكرهم الله تعالى به بإنزال السورة برمتها تذكيرا بمننه، ولولا هذا لم تكن للبشارة تلك الفائدة، والخطاب في السياق كله موجه إلى المؤمنين وإنما ذكر فيها وحيه تعالى للملائكة بما ذكر عرضا. وقد غفل عن هذا المعنى الألوسي تبعا لغيره وادعى أن الآية ظاهرة في قتال الملائكة، وقد وردت روايات ضعيفة تدل على قتال الملائكة لم يعبأ الإمام ابن جرير بشيء منها ولم يجعلها حقيقة أن تذكروا ولو لترجيح غيرها عليها.
وما أدري أين يضع بعض العلماء عقولهم عندما يغترون ببعض الظواهر وبعض الروايات الغريبة التي يردها العقل، ولا يثبتها ما له قيمة من النقل فإذا كان تأييد الله للمؤمنين بالتأييدات الروحانية التي تضاعف القوة المعنوية، وتسهيله لهم الأسباب الحسية كإنزال المطر وما كان له من الفوائد لم يكن كافيا لنصره إياهم على المشركين بقتل سبعين وأسر سبعين حتى كان ألف- وقيل آلاف- من الملائكة يقاتلونهم معهم فيفلقون منهم الهام، ويقطعون من أيديهم كل بنان، فأي مزية لأهل بدر فضلوا بها على سائر المؤمنين ممن غزوا بعدهم وأذلوا المشركين وقتلوا منهم الألوف ؟ وبماذا استحقوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه ( وما يدريك لعل الله عز وجل أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ٢ ؟ رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وفي كتب السير وصف للمعركة علم منه القاتلون والآسرون لأشد المشركين بأسا- فهل تعارض هذه البينات النقلية والعقلية بروايات لم يرها شيخ المفسرين ابن جرير حرية بأن تنقل. ولم يذكر ابن كثير منها إلا قول الربيع بن أنس :" كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوا بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به " ومن أين جاء الربيع بهذه الدعوى ؟ ومن ذا الذي رؤي من القتلى بهذه الصفة ؟ وكم عدد من قتل الملائكة من السبعين وعدد من قتل أهل بدر غير من سموا وقالوا قتلهم فلان وفلان ؟ كفانا الله شر هذه الروايات الباطلة التي شوهت التفسير وقلبت الحقائق حتى أنها خالفت نص القرآن نفسه، فالله تعالى يقول في إمداد الملائكة ﴿ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم ﴾ وهذه الروايات تقول بل جعلها مقاتلة وأن هؤلاء السبعين الذين قتلوا من المشركين لم يمكن قتلهم إلا باجتماع ألف أو ألوف من الملائكة عليهم مع المسلمين الذين خصهم الله بما ذكر من أسباب النصرة المتعددة !
إلا أن في هذا من شأن تعظيم المشركين ورفع شأنهم وتكبير شجاعتهم وتصغير شأن أفضل أصحاب الرسول وأشجعهم ما لا يصدر عن عاقل إلا وقد سلب عقله لتصحيح روايات باطلة لا يصح لها سند ولم يرفع منها إلا حديث مرسل عن ابن عباس ذكره الألوسي وغيره بغير سند وابن عباس لم يحضر عزوة بدر لأنه كان صغيرا فرواياته عنها حتى في الصحيح مرسلة وقد روى عن غير الصحابة حتى عن كعب الأحبار وأمثاله.
١ البيت من الطويل، وهو للحصين بن الحمام المري، وهو شاعر جاهلي، انظر الشعر والشعراء لابن قتيبة ٢/٦٤٨..
٢ أخرجه البخاري في المغازي باب ٩، ٤٦، وتفسير سورة ٦٠، باب ١، والأدب باب ٧٤، ومسلم في فضائل الصحابة باب حديث ١٦١، وأبو داود في الجهاد باب ٩٨، والسنة باب ٨، والترمذي في تفسير سورة ٦٠، باب ١، والدارمي في الرقاق باب ٤٨، وأحمد في المسند ١/٨٠، ٢/٢٩٦..
﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ٩ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ١٠ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ١١ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ١٢ ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ١٣ ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ١٤ ﴾
روى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رادءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون ) الخ١، وأما البخاري فروى عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ( اللهم أني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد ) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك، فخرج وهو يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] ٢.
وعن سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته ( اللهم لا تودّع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تتركني اللهم أنشدك ما وعدتني ) وعن ابن إسحاق في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم قال :( اللهم هذه قريش أتت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني ).
وقد استشكل ما ظهر من خوف النبي صلى الله عليه وسلم مع وعد الله له بالنصر عاما وخاصا ومن طمأنينة أبي بكر رضي الله عنه على خلاف ما كان ليلة الغار إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم آمنا مطمئنا متوكلا على ربه، وكان أبو بكر خائفا وجلا كما يدل عليه قوله عز وجل :﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ﴾ [ التوبة : ٤٠ ].
قال الحافظ في الفتح قال الخطابي لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم لأنه كان أول مشهد شهده فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة فلهذا عقب بقوله :﴿ سيهزم الجمع ﴾ انتهى ملخصا.
( وقال غيره وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة وإنما كان مجملا. هذا الذي يظهر، وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى الصوفية في هذا الموضع زللا شديدا فلا يلتفت إليه ولعل الخطابي أشار إليه. اهـ ما أورده الحافظ في الفتح فهو لم يطلع على أحسن منه على سعة اطلاعه.
وأقول يصح أن يكون من مقاصده صلى الله عليه وسلم من الدعاء يومئذ تقوية قلوب أصحابه وهو ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالقوة المعنوية ولا خلاف بين العقلاء حتى اليوم في أنها أحد أسباب النصر والظفر، ولكن لا يصح أن يكون علم باستجابة الله له لما وجد أبو بكر في نفسه القوة والطمأنينة فعلمه صلى الله عليه وسلم بربه وبوقت استجابته له أقوى وأعلى من أن يستنبطه استنباطا من حال أبي بكر رضي الله عنه.
وأما قول بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومئذ في مقام الخوف فهو ظاهر ولكنه لم يبين معه سببه ولا كونه لا ينافي كمال توكله على ربه، وكونه فيه أعلى وأكمل من صاحبه بدرجات لا يعلوها شيء، وقد بينا ذلك بالتفصيل في تفسير ﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ] وهي في سياق غزوة أحد ونعيد البحث مع زيادة فائدة فنقول إنه صلى الله عليه وسلم أعطى كل مقام حقه بحسب الحال التي كان فيها، فلما كان عند الخروج إلى الهجرة قد عمل مع صاحبه كل ما أمكنهما من الأسباب لها وهو إعداد الزاد والراحلتين والدليل والاستخفاء في الغار لم يبق عليهما إلا التوكل على الله تعالى والثقة بمعونته وتخذيل أعدائه فكان صلى الله عليه وسلم لكمال توكله آمنا مطمئنا بما أنزل الله عليه من السكينة وأيده به من أرواح الملائكة، وأبو بكر رضي الله عنه لم يرتق إلى هذه الدرجة فكان خائفا حزينا محتاجا إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم له.
وأما يوم بدر فكان المقام فيه الخوف لا مقام التوكل المحض، وذلك أن التوكل الشرعي بالاستسلام لعناية الرب تعالى وحده إنما يصح في كل حال بعد اتخاذ الأسباب لها المعلومة من شرع الله ومن سننه في خلقه كما بيناه في تفسير قوله تعالى :﴿ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] من ذلك السياق ومن المعلوم بالقطع أن أسباب النصر والغلب في الحرب لم تكن تامة عند المسلمين في ذلك الوقت لا من الجهة المادية كالعدد والعدد والغذاء والعتاد والخيل والإبل بل لم يكن من هذه الجهة إلا شيئا ضعيفا، ولا من الجهة المعنوية لما تقدم من كراهة بعضهم للقتال وجدال النبي صلى الله عليه وسلم فيه. لهذا خشي صلى الله عليه وسلم أن يصيب أصحابه تهلكة على قلتهم لتقصيرهم في بعض الأسباب المعنوية فوق التقصير غير الاختياري في الأسباب المادية، فكان يدعو بأن لا يؤاخذهم الله تعالى بتقصير بعضهم في إقامة سننه عقابا لهم كما عاقبهم بعد ذلك في غزوة أحد ذلك العقاب المشار إليه بقوله تعالى :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ].
وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يكن يعلم من ذلك كل ما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد رآه منزعجا خائفا فكان همه تسليته صلى الله عليه وسلم وتذكيره بوعد ربه لشدة حبه له، وفي الغار كان خائفا عليه ولكنه رآه مطمئنا فلم يحتج إلى تسليته بل كان صلى الله عليه وسلم هو المسلي له لما رأى من خوفه أن يعرض له ألم أو أذى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أعطى كل مقام حقه : مقام التوكل المحض بعد استيفاء أسباب اتقاء أذى المشركين عند الهجرة، ومقام الخوف على جماعة المؤمنين لما ذكرنا آنفا من كراهة بعضهم للقتال ومجادلتهم له فيه بعد ما تبين لهم أنه الحق الذي يريده الله تعالى بوعده إياهم إحدى الطائفتين. أجل، كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن شؤون الاجتماع البشري كسائر أطوار العالم لله تعالى فيها سنن مطردة لا تتغير ولا تتبدل كما تكرر ذلك في السور المكية بوجه عام، ثم ذكر بشأن القتال خاصة في الكلام على غزوة أحد من سورة آل عمران المدنية ﴿ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا ﴾ [ آل عمران : ١٣٧ ] ثم في سورة الأحزاب المدنية التي نزلت في غزوتها التي تسمى غزوة الخندق أيضا. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن سننه تعالى في القتال كسائر سننه في أنها لا تبديل لها ولا تحويل من قبل نزول ما أشرنا إليه في هاتين السورتين المدنيتين اللتين نزلتا بعد غزوة بدر فلذلك كان خوفه على المؤمنين عظيما.
فإن قيل : كيف يصح هذا وقد وعده الله تعالى إحدى الطائفتين أنها تكون للمؤمنين وكشف له عن مصارع صناديد المشركين ؟ فإذا كان قد جوز أن يكون وعده العام بالنصر له وللمؤمنين ( وهو مكرر في السور المكية والمدنية وصرح في بعضها بأنه من سننه في رسله والمؤمنين بهم ) غير معين أن يكون في هذه الغزوة كما قال بعض العلماء فلا يأتي مثل هذا الجواز في وعدهم إحدى الطائفتين فيها ولاسيما بعد أن نجت طائفة العير، انحصر الوعد في طائفة النفير، وبعد أن كشف تعالى له عن مصارع القوم ؟
قلنا : أما كشف مصارع القوم له فالظاهر المتعين أنه كان عقب دعائه واستغاثته ربه، ولذلك تمثل بعده بقوله تعالى سورة القمر :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] وزال خوفه وصار يعين أمكنة تلك المصارع. وأما الوعد فسيأتي فيه أنه كان في زمن الاستغاثة والاستجابة فإن كان قبله فأمثل ما يقال فيه وأقواه ما قاله العلماء في كثير من وعود الكتاب والسنة المطلقة بالجزاء على بعض الأعمال بأنه مقيد بما تدل عليه النصوص الأخرى من الإيمان الصحيح واجتناب الكبائر، ومن ذلك أن الوعد المطلق بالنصر للرسل والمؤمنين في عدة آيات مقيد بما اشترط له في آيات أخرى، مثال الأول قوله تعالى في سورة المؤمن المكية ﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ] وقوله في سورة الروم المكية أيضا :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ [ الروم : ٤٥ ].
ومثال الثاني قوله تعالى في الآيات التي أذن الله فيها للمؤمنين بالقتال دفاعا عن أنفسهم أول مرة وذلك في سورة الحج المدنية ﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾ [ الحج : ٤٠ ] وقوله بعد ذلك في سورة القتال ( أو محمد ) ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ [ محمد : ٨ ] وقد سبق لنا بيان هذا المعنى في التفسير وإقامة الحجة به على المسلمين الجاهلين المغرورين والخرافيين الذين يتكلون في أمورهم على الصلحاء الميتين في قضاء حوائجهم بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في الأسباب والمسببات، حتى كأن قبورهم معامل للكرامات، يتهافت عليها الأفراد والجماعات، يدعون أصحابها خاشعين، ما لا يدعو به الموحدون إلا الله رب العالمين. كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المؤمنين.
وجملة القول في هذا المقام أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسباب حسية ومعنوية، وأن لله تعالى فيها سننا مطردة، وأن وعد الله تعالى وآياته منها المطلق ومنها المقيد، وأن المقيد يفسر المطلق ولا يعارضه، ولا اختلاف ولا تعارض في كلام الله تعالى، وكان يعلم مع ذلك أن لله تعالى عناية وتوفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم ب
﴿ ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله ﴾ أي ذلك الذي ذكره كله من تأييده تعالى للمؤمنين وخذلانه للمشركين بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله أي عادوهما فكان كل منهما في شق غير الذي فيه الآخر فالله هو الحق والداعي إلى الحق ورسوله هو المبلغ عنه الحق، والمشركون على الباطل وما يترتب عليه من الشرور والخرافات ﴿ ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ﴾ أي فإن عقاب الله شديد، وأحق الناس به المشاقون له بإيثار الشرك وعبادة الطاغوت على توحيده وعبادته، وبالاعتداء على أوليائه أولاً بمحاولة ردهم عن دينهم بالقوة والقهر وإخراجهم من ديارهم ثم اتباعهم إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه.
﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ٩ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ١٠ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ١١ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ١٢ ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ١٣ ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ١٤ ﴾
روى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رادءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون ) الخ١، وأما البخاري فروى عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ( اللهم أني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد ) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك، فخرج وهو يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] ٢.
وعن سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته ( اللهم لا تودّع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تتركني اللهم أنشدك ما وعدتني ) وعن ابن إسحاق في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم قال :( اللهم هذه قريش أتت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني ).
وقد استشكل ما ظهر من خوف النبي صلى الله عليه وسلم مع وعد الله له بالنصر عاما وخاصا ومن طمأنينة أبي بكر رضي الله عنه على خلاف ما كان ليلة الغار إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم آمنا مطمئنا متوكلا على ربه، وكان أبو بكر خائفا وجلا كما يدل عليه قوله عز وجل :﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ﴾ [ التوبة : ٤٠ ].
قال الحافظ في الفتح قال الخطابي لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم لأنه كان أول مشهد شهده فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة فلهذا عقب بقوله :﴿ سيهزم الجمع ﴾ انتهى ملخصا.
( وقال غيره وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة وإنما كان مجملا. هذا الذي يظهر، وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى الصوفية في هذا الموضع زللا شديدا فلا يلتفت إليه ولعل الخطابي أشار إليه. اهـ ما أورده الحافظ في الفتح فهو لم يطلع على أحسن منه على سعة اطلاعه.
وأقول يصح أن يكون من مقاصده صلى الله عليه وسلم من الدعاء يومئذ تقوية قلوب أصحابه وهو ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالقوة المعنوية ولا خلاف بين العقلاء حتى اليوم في أنها أحد أسباب النصر والظفر، ولكن لا يصح أن يكون علم باستجابة الله له لما وجد أبو بكر في نفسه القوة والطمأنينة فعلمه صلى الله عليه وسلم بربه وبوقت استجابته له أقوى وأعلى من أن يستنبطه استنباطا من حال أبي بكر رضي الله عنه.
وأما قول بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومئذ في مقام الخوف فهو ظاهر ولكنه لم يبين معه سببه ولا كونه لا ينافي كمال توكله على ربه، وكونه فيه أعلى وأكمل من صاحبه بدرجات لا يعلوها شيء، وقد بينا ذلك بالتفصيل في تفسير ﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ] وهي في سياق غزوة أحد ونعيد البحث مع زيادة فائدة فنقول إنه صلى الله عليه وسلم أعطى كل مقام حقه بحسب الحال التي كان فيها، فلما كان عند الخروج إلى الهجرة قد عمل مع صاحبه كل ما أمكنهما من الأسباب لها وهو إعداد الزاد والراحلتين والدليل والاستخفاء في الغار لم يبق عليهما إلا التوكل على الله تعالى والثقة بمعونته وتخذيل أعدائه فكان صلى الله عليه وسلم لكمال توكله آمنا مطمئنا بما أنزل الله عليه من السكينة وأيده به من أرواح الملائكة، وأبو بكر رضي الله عنه لم يرتق إلى هذه الدرجة فكان خائفا حزينا محتاجا إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم له.
وأما يوم بدر فكان المقام فيه الخوف لا مقام التوكل المحض، وذلك أن التوكل الشرعي بالاستسلام لعناية الرب تعالى وحده إنما يصح في كل حال بعد اتخاذ الأسباب لها المعلومة من شرع الله ومن سننه في خلقه كما بيناه في تفسير قوله تعالى :﴿ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] من ذلك السياق ومن المعلوم بالقطع أن أسباب النصر والغلب في الحرب لم تكن تامة عند المسلمين في ذلك الوقت لا من الجهة المادية كالعدد والعدد والغذاء والعتاد والخيل والإبل بل لم يكن من هذه الجهة إلا شيئا ضعيفا، ولا من الجهة المعنوية لما تقدم من كراهة بعضهم للقتال وجدال النبي صلى الله عليه وسلم فيه. لهذا خشي صلى الله عليه وسلم أن يصيب أصحابه تهلكة على قلتهم لتقصيرهم في بعض الأسباب المعنوية فوق التقصير غير الاختياري في الأسباب المادية، فكان يدعو بأن لا يؤاخذهم الله تعالى بتقصير بعضهم في إقامة سننه عقابا لهم كما عاقبهم بعد ذلك في غزوة أحد ذلك العقاب المشار إليه بقوله تعالى :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ].
وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يكن يعلم من ذلك كل ما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد رآه منزعجا خائفا فكان همه تسليته صلى الله عليه وسلم وتذكيره بوعد ربه لشدة حبه له، وفي الغار كان خائفا عليه ولكنه رآه مطمئنا فلم يحتج إلى تسليته بل كان صلى الله عليه وسلم هو المسلي له لما رأى من خوفه أن يعرض له ألم أو أذى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أعطى كل مقام حقه : مقام التوكل المحض بعد استيفاء أسباب اتقاء أذى المشركين عند الهجرة، ومقام الخوف على جماعة المؤمنين لما ذكرنا آنفا من كراهة بعضهم للقتال ومجادلتهم له فيه بعد ما تبين لهم أنه الحق الذي يريده الله تعالى بوعده إياهم إحدى الطائفتين. أجل، كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن شؤون الاجتماع البشري كسائر أطوار العالم لله تعالى فيها سنن مطردة لا تتغير ولا تتبدل كما تكرر ذلك في السور المكية بوجه عام، ثم ذكر بشأن القتال خاصة في الكلام على غزوة أحد من سورة آل عمران المدنية ﴿ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا ﴾ [ آل عمران : ١٣٧ ] ثم في سورة الأحزاب المدنية التي نزلت في غزوتها التي تسمى غزوة الخندق أيضا. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن سننه تعالى في القتال كسائر سننه في أنها لا تبديل لها ولا تحويل من قبل نزول ما أشرنا إليه في هاتين السورتين المدنيتين اللتين نزلتا بعد غزوة بدر فلذلك كان خوفه على المؤمنين عظيما.
فإن قيل : كيف يصح هذا وقد وعده الله تعالى إحدى الطائفتين أنها تكون للمؤمنين وكشف له عن مصارع صناديد المشركين ؟ فإذا كان قد جوز أن يكون وعده العام بالنصر له وللمؤمنين ( وهو مكرر في السور المكية والمدنية وصرح في بعضها بأنه من سننه في رسله والمؤمنين بهم ) غير معين أن يكون في هذه الغزوة كما قال بعض العلماء فلا يأتي مثل هذا الجواز في وعدهم إحدى الطائفتين فيها ولاسيما بعد أن نجت طائفة العير، انحصر الوعد في طائفة النفير، وبعد أن كشف تعالى له عن مصارع القوم ؟
قلنا : أما كشف مصارع القوم له فالظاهر المتعين أنه كان عقب دعائه واستغاثته ربه، ولذلك تمثل بعده بقوله تعالى سورة القمر :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] وزال خوفه وصار يعين أمكنة تلك المصارع. وأما الوعد فسيأتي فيه أنه كان في زمن الاستغاثة والاستجابة فإن كان قبله فأمثل ما يقال فيه وأقواه ما قاله العلماء في كثير من وعود الكتاب والسنة المطلقة بالجزاء على بعض الأعمال بأنه مقيد بما تدل عليه النصوص الأخرى من الإيمان الصحيح واجتناب الكبائر، ومن ذلك أن الوعد المطلق بالنصر للرسل والمؤمنين في عدة آيات مقيد بما اشترط له في آيات أخرى، مثال الأول قوله تعالى في سورة المؤمن المكية ﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ] وقوله في سورة الروم المكية أيضا :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ [ الروم : ٤٥ ].
ومثال الثاني قوله تعالى في الآيات التي أذن الله فيها للمؤمنين بالقتال دفاعا عن أنفسهم أول مرة وذلك في سورة الحج المدنية ﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾ [ الحج : ٤٠ ] وقوله بعد ذلك في سورة القتال ( أو محمد ) ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ [ محمد : ٨ ] وقد سبق لنا بيان هذا المعنى في التفسير وإقامة الحجة به على المسلمين الجاهلين المغرورين والخرافيين الذين يتكلون في أمورهم على الصلحاء الميتين في قضاء حوائجهم بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في الأسباب والمسببات، حتى كأن قبورهم معامل للكرامات، يتهافت عليها الأفراد والجماعات، يدعون أصحابها خاشعين، ما لا يدعو به الموحدون إلا الله رب العالمين. كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المؤمنين.
وجملة القول في هذا المقام أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسباب حسية ومعنوية، وأن لله تعالى فيها سننا مطردة، وأن وعد الله تعالى وآياته منها المطلق ومنها المقيد، وأن المقيد يفسر المطلق ولا يعارضه، ولا اختلاف ولا تعارض في كلام الله تعالى، وكان يعلم مع ذلك أن لله تعالى عناية وتوفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم ب
﴿ ذلكم فذوقوه ﴾ الخطاب للمشركين المنكسرين في غزوة بدر أي لمن بقي منهم من الأسرى والمهزومين على طريق الالتفات عن الغيبة في قوله تعالى قبله ﴿ بأنهم شاقّوا الله ورسوله ﴾ والمعنى : الأمر ذلكم- أي أن الأمر المبين آنفا وهو أن الله تعالى شديد العقاب لمن يشاقه هو ورسوله- فذوقوا هذا العقاب الشديد وهو الانكسار والانهزام مع الخزي والذل أمام فئة قليلة العدد والعدد من المسلمين، ﴿ وأن للكافرين عذاب النار ﴾ هذا عطف على ما قبله أي والأمر المقرر مع هذا العقاب الدنيوي أن للكافرين عذاب النار في الآخرة، فمن أصر منكم على كفره عذب هنالك فيها وهو شر العذابين وأدومهما، وفي الجمع بين عذاب الدنيا والآخرة للكفار آيات متفرقة في عدة سور.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولّوهم الأدبار ١٥ ومن يولّهم يومئذ دبره إلا متحرّفا لقتال أو متحيّزا إلى فئة فقد باء بغضب من اللّه ومأواه جهنم وبئس المصير ١٦ فلم تقتلوهم ولكن اللّه قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن اللّه رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن اللّه سميع عليم ١٧ ذلكم وأن اللّه موهن كيد الكافرين ١٨ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن اللّه مع المؤمنين ١٩ ﴾
نبدأ بتفسير الألفاظ الغريبة في الآيات فنقول ( الزحف ) مصدر زحف إذا مشى على بطنه كالحية، أو دب على مقعده كالصبي، أو، على ركبتيه قال امرؤ القيس :
فأقبلت زحفا على الركبتين فثوب لبست وثوب أجر١
والمشي بثقل في الحركة واتصال وتقارب في الخطو كزحف الدبا ( صغار الجراد قبل طيرانها ) قال في الأساس : وزحف البعير وأزحف : أعيا حتى جر فرسه وزحّف الشيء جره جرا ضعيفا، وزحف العسكر إلى العدو : مشوا إليهم في ثقل لكثرتهم، ولقوهم زحفا، وتزاحف القوم وزاحفناهم، وأزحف لنا بنو فلان صاروا زحفا لقتالنا. اه ملخصا والزحف الجيش ويجمع على زحوف لخروجه عن معنى المصدرية. ( والأدبار ) جمع دبر ( بضمتين ) وهو الخلف ومقابله القبل بوزنه وهو القدام، ولذلك يكنى بهما عن السوأتين. وتولية الدبر والأدبار عبارة عن الهزيمة لأن المنهزم يجعل خصمه متوليا ومتوجها إلى دبره ومؤخره، وذلك أعون له على قتله إذا أدركه.
والمعنى ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا ﴾ أي إذا لقيتموهم حال كونهم زاحفين زحفا لقتالكم كما كانت الحال في غزوة بدر فإن الكفار هم الذين زحفوا من مكة إلى المدينة لقتال المؤمنين فثقفوهم في بدر ﴿ فلا تولّوهم الأدبار ﴾ أي فلا تولوهم ظهوركم وأقفيتكم منهزمين منهم وإن كانوا أكثر منكم عددا وعددا، وإذا كان التزاحف من الفريقين أو كان الزحف من المؤمنين فتحريم الفرار والهزيمة أولى، ولفظ لقيتموهم زحفا يصلح للأحوال الثلاثة، ورجح الأول هنا بقرينة الحال التي نزلت فيها الآية وكون النهي عن التولي والفرار إنما يليق بالمزحوف عليه لأنه مظنة له، ويليه ما إذا كان التزاحف من الفريقين. وأما الزاحف المهاجم فليس مظنة للتولي والانهزام فيبدأ بالنهي عنه وهو منه أقبح.
١ البيت من المتقارب، وهو لامرئ القيس في ديوانه ص١٥٩، والأشباه النظائر ٣/١١٠، وخزانة الأدب ١/٣٧٣، ٣٧٤، وشرح أبيات سيبويه ١/٣٧، وشرح شواهد المغني ٢/٨٦٦، والكتاب ١/٨٦، والمقاصد النحوية ١/٥٤٥، وبلا نسبة في شرح ابن عقيل ص١١٣، والمحتسب ٢/١٢٤، ومغني اللبيب ٢/٤٧٢..
( والمتحرف ) للقتال أو غيره هو المنحرف عن جانب إلى آخر وأصله من الحرف وهو الطرف، وصيغة التفعيل تعطيه معنى التكلف أو معاناة الفعل المرة بعد المرة أو بالتدريج وفي معناه ( المتحيز ) وهو المنتقل من حيز إلى آخر، والحيز المكان، ومادته الواو، فالحوز المكان يبنى حوله حائط، قال في الأساس : انحاز عن القوم : اعتزلهم، وانحاز إليهم وتحيز انضم. وذكر جملة الآية ( والفئة ) الطائفة من الناس ( والمأوى ) الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان وينضم.
والمعنى ﴿ ومن يولّهم يومئذ دبره ﴾ عبر بلفظ تولية الدبر في وعيد كل فرد كما عبر به في نهي الجماعة لتأكيد حرمة جريرة الفرار من الزحف وكون الفرد فيها كالجماعة وآثر هذا اللفظ مفردا وجمعا على لفظ الظهور والظهر أو القفا والأقفية زيادة في تشنيعها لأنه لفظ يكنى به عن السوأة أي وكل من يولهم يوم إذ تلقونهم دبره ﴿ إلا متحرّفا لقتال ﴾ أي إلا متحرفا لمكان من أمكنة القتال رآه أحوج إلى القتال فيه- أو متحرفا لضرب من ضروبه رآه أبلغ في النكاية بالعدو كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه باتباعه فينفرد عن أشياعه فيكرّ عليه فيقتله ﴿ أو متحيّزا إلى فئة ﴾ أي منتقلا إلى فئة من المؤمنين في حيز غير الذي كان فيه لينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم، فصاروا أحوج إليه ممن كان في حيزهم.
﴿ فقد باء بغضب من الله ﴾ أي فقد رجع متلبسا بغضب عظيم من الله عليه ﴿ ومأواه جهنم وبئس المصير ﴾ ومأواه الذي يلجأ إليه في الآخرة جهنم دار العقاب وبئس المصير جهنم، كان المنهزم أراد أن يأوي إلى مكان يأمن فيه من الهلاك فعوقب على ذلك بجعل عاقبته التي يصير إليها دار الهلاك والعذاب الدائم، أي جوزي بضد غرضه من معصية الفرار، وقد تكرر في التنزيل التعبير عن جهنم والنار بالمأوى وهو إما من قبيل ما هنا وإما للتهكم المحض، فإنك إذا راجعت استعمال هذا الحرف في غير هذا المقام من التنزيل تجده لا يذكر إلا في مقام النجاة من خوف أو شدة كقوله تعالى :﴿ إذ أوى الفتية إلى الكهف ﴾ [ الكهف : ١٠ ] وقوله :﴿ أو آوي إلى ركن شديد ﴾ [ هود : ٨٠ ] وقوله :﴿ سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ﴾ [ هود : ٤٣ ] وقوله :﴿ والذين آووا ونصروا ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ] الخ.
والآية تدل على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي وقد جاء التصريح بذلك في أحاديث أصحها عن أبي هريرة مرفوعا عند الشيخين ( اجتنبوا السبع الموبقات ) أي المهلكات، قالوا يا رسول الله وما هن ؟ قال :( الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) ١ وقد قيد بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين، وعدّ بعضهم الآية منسوخة بقوله تعالى من هذه السورة ﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] وستأتي. وهذا ظاهر على قول من يسمي التخصيص نسخا كالمتقدمين. قال الشافعي رحمه الله تعالى : إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة. وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولوا ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة، وروى هو وابن أبي شيبة عن ابن عباس قال : من فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فر.
وقد روي عن عمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأبي بصرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة وزيد بن أبي حبيب والضحاك أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية خاص بيوم بدر- قيل إنه بناء على أن قوله تعالى ( يومئذ ) يراد به يوم بدر، ولكن هذا خلاف قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويؤيده نزول الآية بعد انتهاء الغزوة، فإنه ليس فيها ذكر " يوم بدر " وإنما المراد بتنوين يومئذ ما فهم من أول الآية أي يوم لقائهم زحفا كما تقدم فاليوم فيه بمعنى الوقت. وإنما قد يتجه بناء التخصيص على قرينة الحال لو كانت الآية قد نزلت قبل اشتباك القتال- خلافا للجمهور- مع ما لغزوة بدر من الخصائص ككونها أول غزوة في الإسلام لو انهزم فيها المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم لكانت الفتنة كبيرة، وتأييد المسلمين فيها الملائكة يثبتونهم، ووعده تعالى بنصرهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم.
فإذا نظرنا إلى مجموع الخصائص وقرينة الحال في النهي اتجه كون التحريم المقرون بالوعيد الشديد الذي في الآية خاصا بها، أضف إلى ذلك أن الله تعالى امتحن الصحابة رضي الله عنهم بالتولي والإدبار في القتال مرتين مع وجوده صلى الله عليه وسلم معهم يوم أحد وفيه يقول الله تعالى :﴿ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم أن الله غفور حليم ﴾ [ آل عمران : ١٥٥ ] ويوم حنين وفيه يقول الله تعالى :﴿ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ﴾ [ التوبة : ٢٥ ] ﴿ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ﴾ [ التوبة : ٢٦ ] الخ وهذا لا ينافي كون التولي حراما ومن الكبائر، ولا يقتضي أن يكون كل تول لغير السببين المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير. بل قد يكون دون ذلك ويتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة وبالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدم في سورة البقرة وسيأتي تفصيله قريبا.
وقد روى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة٢ وكنت فيمن حاص، فقلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا لو عرضنا نفوسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة وإلا ذهبنا فأتيناه قبل الصلاة الغداة٣ فخرج فقال ( من الفرارون ؟ ) فقلنا نحن الفرارون. قال ( بل أنتم العكارون٤ أنا فئتكم وفئة المسلمين ) قال فأتيناه حتى قبلنا يده٥. ولفظ أبي داود : فقلنا ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب ولا يرانا أحد، فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا، فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون٦ الخ، تأول بعضهم هذا الحديث بتوسع في معنى التحيز إلى فئة لا يبقى معه للوعيد معنى ولا للغة حكم، وقد قال الترمذي فيه : حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد. أقول وهو مختلف فيه ضعفه الكثيرون، وقال ابن حبان كان صدوقا إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير فوقعت المناكير في حديثه فمن سمع منه قبل التغير فسماعه صحيح. وجملة القول إن هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متناً ولا سنداً، وفي معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يوضع في ميزان هذه المسألة.
١ أخرجه البخاري في الوصايا باب ٢٣، والحدود باب ٤٤، والمحاربين باب ٣٠، ومسلم في الإيمان حديث ١٤٤، وأبو داود في الجهاد باب ٩٦، والوصايا باب ١٠، والنسائي في الوصايا باب ١٢، والترمذي في الاستئذان باب ٣٣..
٢ حاص عن الشيء: حاد وهرب..
٣ صلاة الغداة: أي صلاة الصبح..
٤ العكار، كالعطاف والكرار لفظا ومعنى..
٥ أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩٦، والترمذي في الجهاد باب ٣٦، وأحمد في المسند ٢/٧٠، ٨٦، ١٠٠، ١١١..
٦ أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩٦..
وأما قوله ﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ﴾ فهو وصل للنهي عن التولي بما هو حجة على جدارتهم بالانتهاء، فإن كانت الآية التي قبله قد نزلت بعد انتهاء القتال في غزوة بدر كسائر السورة كما عليه الجمهور فوجه الوصل بالفاء ظاهر جلي، كأنه يقول يا أيها المؤمنون لا تولوا الكفار ظهوركم في القتال أبدا، فأنتم أولى منهم بالثبات والصبر ثم بنصر الله تعالى، فها أنتم أولاء قد انتصرتم عليهم على قلة عددكم وعددكم وكثرتهم واستعدادهم، وإنما ذلك بتأييد الله تعالى لكم، وربطه على قلوبكم وتثبيت أقدامكم، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذريع بمحض قوتكم واستعدادكم المادي ولكن الله قتلهم بأيديكم بما كان من تثبيت قلوبكم بمخالطة الملائكة وملابستها لأرواحكم، وبإلقائه الرعب في قلوبهم، فهو قوله عز وجل ﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ﴾ [ التوبة : ١٤ ] الآية، والمؤمن أجدر بالصبر الذي هو الركن الأعظم للنصر من الكافر، لأنه أقل حرصا على متاع الدنيا، وأعظم رجاء بالله والدار الآخرة كما قال تعالى :﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ﴾ [ النساء : ١٠٤ ] وقال حكاية لرد المؤمنين بهذا الرجاء، على الخائفين من كثرة الأعداء ﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ].
ثم التفت عن خطاب المؤمنين المقاتلين بأيديهم، والمجندلين لصناديد المشركين بسيوفهم، إلى خطاب قائدهم وهو الرسول المؤيد منه تعالى بالآيات صلى الله عليه وسلم ومنها أنه رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب قائلا ( شاهت الوجوه ) ١ فأعقبت رميته هزيمتهم، روي عن أبي معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرطبي بالمعنى وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال في استغاثته يوم بدر ( يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ) قال له جبريل : خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم – ففعل فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين. وروى السدي أنه صلى الله عليه وسلم طلب من علي أن يعطيه حصبا من الأرض فناوله حصبا عليه تراب فرماهم به الخ. وعن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة أيضا أن الآية في رميه صلى الله عليه وسلم في بدر.
فإذا لم تكن رواية من هذه الروايات وصلت إلى درجة الصحيح فمجموعها مع القرينة حجة على ذلك. وروي مثل هذه الرمية في غزوة حنين فحمل الآية بعضهم على ذلك وهو شاذ وحملها بعضهم على رميه صلى الله عليه وسلم لأمية بن خلف بالحربة يوم أحد وهو مقنع بالحديد فقتله وهو شاذ أيضا فالآية بل السورة نزلت في غزوة بدر.
والمعنى ﴿ وما رميت إذ رميت ﴾ الخ رميت أيها الرسول أحدا من أولئك المشركين في الوقت الذي رميت به تلك القبضة من التراب بإلقائها في الهواء فأصابت وجوههم فإن ما أوتيته كأمثالك من البشر من استطاعة على الرمي لا يبلغ هذا التأثير الذي هو فوق الأسباب الممنوحة لهم ﴿ ولكن الله رمى ﴾ وجوههم كلهم بما أوصل التراب الذي ألقيته في الهواء إليها مع قلته، أو بعد تكثيره بمحض قدرته، وحذف مفعول الرمي للدلالة على عمومه في كل من الإثبات والنفي كما قدرنا فيهما وفاقا لما تقرر في علم المعاني- وقد علم من هذا التفسير المتبادر من اللفظ بغير تكلف وجه الفرق بين قتل المؤمنين للكفار الذي هو فعل من أفعالهم المقدورة لهم بحسب سنن الله في الأسباب الدنيوية، وبين رمي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالتراب الذي ليس بسبب لشكاية أعينهم وشوهة وجوههم لقلته وبعدهم عن راميه وكونهم غير مستقبلين كلهم له، ولأجل هذا الفرق ذكر مفعول القتل مثبتا ومنفيا- وهو ضمير المشركين- فنفى القتل المحسوس مطلقا وأثبت المعقول مطلقا لعدم تعارضهما فالمراد من كل منهما ظاهر بغير شبهة، ولو أثبت لهم القتل مع نفيه عنهم بأن قال : إذ قتلتموهم –لكان تناقضا ظاهرا يخفى وجه جعل المثبت من غير المنفي. وقتلهم لهم مشاهد لا يحتاج إلى إثبات من حيث كان سببا ناقصا، وإنما الحاجة إلى بيان نقصه وعدم استقلاله بالسببية، ثم بيان ما لولاه لم يكن وهو إعانة الله ونصره.
وأما رمي النبي صلى الله عليه وسلم لوجوه القوم فلم يكن سببا عاديا لإصابتهم وهزيمتهم لا مشاهدا كضرب أصحابه لأعناق المشركين ولا غير مشاهد، والجمع بين نفيه وإثباته لا يوهم التناقض للعلم بعدم السببية. ولم يذكر مفعول الرمي بأن يقال ( وما رميت وجوههم ) إذ لا شبهة هنا في عدم استطاعة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا استقلالا بكسبه العادي، وأما هنالك فالظاهر أن القتل من كسبهم الاستقلالي. والحقيقة أنه لولا تأييد الله تعالى ونصره بما تقدم بيانه لما وصل كسبهم المحض إلى هذا القتل، وقد علمنا ما كان من خوفهم وكراهتهم للقتال ومجادلة النبي صلى الله عليه وسلم فيه ﴿ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ﴾ فلو ظلوا على هذه الحالة المعنوية مع قلتهم وضعفهم لكل مقتضى الأسباب أن يمحقهم المشركون محقا.
وأما الفرق بين فعله تعالى في القتل وفعله في الرمي فالأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل التي تقدم بيانها كما هو الشأن في جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل في حصول غاياتها إلا بفعل الله وتسخيره لهم وللأسباب التي لا يصل إليها كسبهم عادة، كقوله تعالى :﴿ أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما ﴾ [ الواقعة : ٦٣- ٦٥ ] الخ فالإنسان يحرث الأرض ويلقي فيها البزر ولكنه لا يملك إنزال المطر ولا إنبات الحب وتغذيته بالتراب المختلف العناصر، ولا دفع الجوائح عنه. ولا يستقل إيجاد الزرع وبلوغ ثمرته صلاحها بكسبه وجده. وأما الثاني فهو من فعله تعالى وحده بدون كسب عادي للنبي صلى الله عليه وسلم في تأثيره فالرمي منه كان صوريا لتظهر الآية على يده صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله فمثله في ذلك كمثل أخيه موسى عليه السلام في إلقائه العصا ﴿ فإذا هي حية تسعى ﴾ [ طه : ٢٠ ] فخاف منها أولا كما ورد في سورتي طه والنمل.
هذا ما يدل عليه نظم الكلام بلا تكلف ولا حمل على المذاهب والآراء الحادثة من كلامية وتصوفية وغيرها، فالجبري يحتج بها على سلب الاختيار وكون الإنسان كالريشة في الهواء، والاتحادي يحتج بها على وحدة الوجود، وكون العبد هو الرب المعبود، والأشعري يحتج بها على الجمع بين كسب العبد وخلق الرب بإسناد الرمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الخالق عز وجل. وهو يغني عن إسناد القتل إلى المؤمنين بالأولى، والقرآن فوق المذاهب وقبلها، غني بفصاحته وبلاغته عن هذه التأويلات كلها ﴿ كل حزب بما لديهم فرحون ﴾ [ المؤمنون : ٥٣ ] وكلام الله فوق ما يظنون.
وأما موقع الفاء في أول الآية على القول بأن الآية السابقة عليها نزلت قبل القتال تحريضا عليه فقد قيل إنها واقعة في جواب شرط مقدر واختلفوا في تقديره وقال بعضهم بل هي لمجرد ربط الجمل بعضها ببعض، وقد يقال إنه لا مانع من نزولها بعد المعركة ووصلها بما قبلها للدلالة على ما ذكرنا من التعليل والاحتجاج على مشروعية النهي عن الهزيمة وأولى منه أن يستدل بها على نزول ما قبلها في ضمن السورة بعد المعركة.
وأما قوله تعالى :﴿ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ﴾ فهو معطوف على تعليل مستفاد مما قبله، أي أنه فعل ما ذكر لإقامة حجته وتأييد رسوله ﴿ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ﴾ بالنصر والغنيمة وحسن السمعة. والبلاء الاختبار بالحسن أو بالسيئ كما قال تعالى في بني إسرائيل ﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات ﴾ [ الأعراف : ١٦٨ ] وتقدم بيانه بالتفصيل وختم الآية بقوله :﴿ إن الله سميع عليم ﴾ وهو تعليل مستأنف للبلاء الحسن والمراد أنه تعالى سميع لما كان من استغاثة المؤمنين مع الرسول ربهم ودعائهم إياه وحده، عليم بصدقهم وإخلاصهم، وبما يترتب على استجابته لهم من تأييد الحق الذي هم عليه وخذلان الشرك، كما أنه سميع لكل نداء وكلام، عليم بالنيات الباعثة عليه، والعواقب التي تنشأ عنه، وبكل شيء.
١ أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٨١، والدارمي في السير باب ١٥، وأحمد في المسند ١/٣٠٨، ٣٦٨، ٥/٢٨٦، ٣١٠..
( موهن ) الشيء مضعفه اسم فاعل من أوهنه أي أضعفه ومثله وهنه وهنا ووهنه توهينا. و ( الكيد ) التدبير الذي يقصد به غير ظاهره فتسوء غايته المكيد به كما تقدم في تفسير الآية ١٨٣ من سورة الأعراف. والاستفتاح طلب الفتح والفصل في الأمر، كالنصر في الحرب.
والمعنى :
ولما كان من سنة القرآن بالمقابلة بين الإيمان والكفر وبين أهل كل منهما وجزائهما عليهما قال :﴿ ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ﴾ أي الأمر في المؤمنين وفائدتهم مما تقدم هو ذلكم الذي سمعتم، ويضاف إليه تعليل آخر وهو أن الله تعالى موهن كيد الكافرين، أي مضعف كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ومحاولتهم القضاء على دعوة التوحيد والإصلاح قبل أن تقوى وتشتد، قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ( موهن ) بتشديد الهاء والتنوين ونصب ( كيد ) والتشديد للمبالغة في الوهن. وقرأ حفص عن عاصم بالتخفيف والإضافة والباقون بالتخفيف والنصب.
وقد صرح التنزيل بجزاء الفريقين في تعليل آخر في عاقبة الحرب، قال في سياق غزوة أحد من سورة آل عمران ﴿ إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ﴾ [ آل عمران : ١٤٠، ١٤١ ].
﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ﴾ قيل إن الخطاب للكفار ذكر خذلانهم وإضعاف كيدهم ثم التفت عنه إلى تذكيرهم وتوبيخهم على استنصارهم إياه على رسوله صلى الله عليه وسلم.
ذكر محمد بن إسحاق وعروة عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أينا كان أقطع للرحم وأتى بما لا يعرف فأحنه الغداة. فكان ذلك استفتاحا منه. رواه عنه أحمد ورواه النسائي في التفسير والحاكم في المستدرك عن الزهري، وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم. وقال السدي كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم أنصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين، فقال الله :﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ﴾ يقول قد نصرت ما قلتم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أن أبا جهل قال حين التقى الجمعان : اللهم رب ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم. فالفتح هو نصر النبي ودينه وأتباعه. وهذا يدل على أن أبا جهل كان مغرورا بشركه واثقا بدينه ولم يكن أكثر أكابر مجرمي مكة كذلك بل كان كفرهم عن كبر وعلو وحسد للنبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ وإن تنتهوا فهو خير لكم ﴾ أي وإن تنتهوا عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وقتاله فالانتهاء خير لكم لأنكم لا تكونون إلا مغلوبين مخذولين كقوله :﴿ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ﴾ [ آل عمران : ١٢ ] والخيرية في هذه الحالة بالإضافة إلى الاستمرار على العدوان والقتال، ويحتمل أن يراد به الانتهاء عن الشرك فتكون الخيرية على حقيقتها وكمالها.
﴿ وإن تعودوا نعد ﴾ أي وإن تعودوا إلى مقاتلته نعد لما رأيتم من الفتح له عليكم حتى يجيء الفتح الأعظم الذي يذل فيه شرككم، وتدول الدولة للمؤمنين عليكم ﴿ ولن تغني عنكم شيئا ولو كثرت ﴾ أي ولن تدفع عنكم جماعتكم من المشركين شيئا من بأس الله وبطشه ولو كثرت عددا فالكثرة لا تكون سببا للنصر، إلا إذا تساوت مع القلة في الثبات والصبر، والثقة بالله عز وجل ﴿ وأن الله مع المؤمنين ﴾ بالمعونة والولاية والتوفيق فلا تضرهم قلتهم. قرأ نافع وابن عامر ( وأن ) وحفص بفتح الهمزة بتقدير اللام أي ولأن الله مع المؤمنين كان الأمر ما ذكره، وقرأها الباقون بالكسر على الاستئناف.
وقيل إن الخطاب في الآية للمؤمنين كسابقه ولاحقه والمعنى : إن تستنصروا ربكم وتستغيثون عند شعوركم بالضعف والقلة فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يأمر به الرسول ومجادلته في الحق بعد ما تبين فهو خير لكم. وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو، ولن تغني عنكم كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فها نحن أولاء قد نصرناكم على قلتكم وضعفكم. هذا أقوى من كل ما رأيناه في تصوير المعنى فأكثر ما قالوه ظاهر التكلف، ولولا السياق لكان المعنى الأول أرجح لأنه أظهر.
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون ٢٠ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ٢١ إن شر الدّواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ٢٢ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون ٢٣ ﴾
كانت السورة من أولها إلى هنا في قصة غزوة بدر الكبرى إلا أنها افتتحت بعد براعة المطلع- وهو السؤال عن الغنائم- بالمقصد من الدين وهو الإيمان وطاعة الله ورسوله ووصف الإيمان الكامل، وانتقل منها إلى مقدمات الغزوة وما كان من عناية الله فيها بالمؤمنين، ثم انتقل هنا أو فيما هنا أو فيما قبله إلى نداء المؤمنين المرة بعد المرة وتوجيه الأوامر والنواهي إليهم في مقاصد الإسلام والإيمان والإحسان- وينتهي هذا بالآية ٢٩ ثم ينتقل من ذلك إلى شؤون الكفار مع المؤمنين وعداوتهم لهم وللرسول صلى الله عليه وسلم وكيدهم له وعدوانهم عليه، وفتنة المؤمنين به- ومنه إلى الأمر بقتالهم وحكمتهم ثم يعود الكلام إلى غزوة بدر وما كان فيها من حكم وسنن وأحكام وتشريع، وهذا يدخل في أول الجزء العاشر وهو آية ﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] الخ.
قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ﴾ ذكرت هذه الطاعة في الآية الأولى من هذه السورة وأعيدت هنا ليعطف عليها قوله :﴿ ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون ﴾ أي ولا تتولوا وتعرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والحال أنكم تسمعون منه كلام الله المصرح بوجوب طاعته وموالاته واتباعه ونصره، والمراد بالسماع هنا سماع الفهم والتصديق والإذعان الذي هو شأن المؤمنين الذين دأبهم أن يقولوا :﴿ سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] والموصوفين بقوله عز وجل :﴿ فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ﴾ [ الزمر : ١٧، ١٨ ]. ثم قرر هذا المعنى وبين مقابله بقوله :﴿ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ﴾
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون ٢٠ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ٢١ إن شر الدّواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ٢٢ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون ٢٣ ﴾
كانت السورة من أولها إلى هنا في قصة غزوة بدر الكبرى إلا أنها افتتحت بعد براعة المطلع- وهو السؤال عن الغنائم- بالمقصد من الدين وهو الإيمان وطاعة الله ورسوله ووصف الإيمان الكامل، وانتقل منها إلى مقدمات الغزوة وما كان من عناية الله فيها بالمؤمنين، ثم انتقل هنا أو فيما هنا أو فيما قبله إلى نداء المؤمنين المرة بعد المرة وتوجيه الأوامر والنواهي إليهم في مقاصد الإسلام والإيمان والإحسان- وينتهي هذا بالآية ٢٩ ثم ينتقل من ذلك إلى شؤون الكفار مع المؤمنين وعداوتهم لهم وللرسول صلى الله عليه وسلم وكيدهم له وعدوانهم عليه، وفتنة المؤمنين به- ومنه إلى الأمر بقتالهم وحكمتهم ثم يعود الكلام إلى غزوة بدر وما كان فيها من حكم وسنن وأحكام وتشريع، وهذا يدخل في أول الجزء العاشر وهو آية ﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] الخ.
﴿ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ﴾ [ الأنفال : ٢١ ] وهم فريقان الأول : الكفار المعاندون ﴿ من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليّا بألسنتهم وطعنا في الدّين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم اللّه بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ [ النساء : ٤٦ ] وأمثالهم من الكفار المعاندين والمقلدين، وورد فيهم آيات سيذكر بعضها هنا. الثاني : المنافقون الذين قال تعالى في بعضهم ﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ﴾ [ محمد : ١٦ ] وتقدم في سورة الأعراف من صفات أهل النار في الدنيا ﴿ ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] مع آيات أخرى والمراد في هذا كله أنهم لا يسمعون سماع تفقه واعتبار يتبعه الانتفاع والعمل. ثم علل الأمر والنهي بقوله :﴿ إن شر الدّواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ﴾.
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون ٢٠ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ٢١ إن شر الدّواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ٢٢ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون ٢٣ ﴾
كانت السورة من أولها إلى هنا في قصة غزوة بدر الكبرى إلا أنها افتتحت بعد براعة المطلع- وهو السؤال عن الغنائم- بالمقصد من الدين وهو الإيمان وطاعة الله ورسوله ووصف الإيمان الكامل، وانتقل منها إلى مقدمات الغزوة وما كان من عناية الله فيها بالمؤمنين، ثم انتقل هنا أو فيما هنا أو فيما قبله إلى نداء المؤمنين المرة بعد المرة وتوجيه الأوامر والنواهي إليهم في مقاصد الإسلام والإيمان والإحسان- وينتهي هذا بالآية ٢٩ ثم ينتقل من ذلك إلى شؤون الكفار مع المؤمنين وعداوتهم لهم وللرسول صلى الله عليه وسلم وكيدهم له وعدوانهم عليه، وفتنة المؤمنين به- ومنه إلى الأمر بقتالهم وحكمتهم ثم يعود الكلام إلى غزوة بدر وما كان فيها من حكم وسنن وأحكام وتشريع، وهذا يدخل في أول الجزء العاشر وهو آية ﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] الخ.
﴿ إن شر الدّواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ﴾ الدواب جمع دابة وهو كل ما يدب على الأرض قال في سورة النور ﴿ والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ﴾ [ النور : ٤٥ ] الآية وقلما يستعمل هذا اللفظ في الإنسان وحده وإنما يغلب في الحشرات ودواب الركوب، فإن كان قديما فهو هنا يشعر بالاحتقار.
والمعنى إن شر ما يدب على الأرض في حكم الله الحق هم الأشرار من البشر " الصم " الذين لا يلقون السمع لمعرفة الحق والاعتبار بالموعظة الحسنة فكانوا بفقد منفعة السمع كالذين فقدوا حاسته، " البكم " الذين لا يقولون الحق، كأنهم فقدوا قوة النطق، " الذين لا يعقلون " أي فقدوا فضيلة العقل الذي يميز بين الحق والباطل، ويفرق بين الخير والشر، إذ لو عقلوا لطلبوا، ولو طلبوا سمعوا وميزوا، ولو سمعوا لنطقوا وبينوا، وتذكروا وذكروا، كما قال تعالى :﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ﴾ [ ق : ٣٧ ] فهم لفقدهم منفعة العقل والسمع والنطق كالفاقدين لهذه المشاعر والقوى، بأن خلقوا خداجا أو طرأت عليهم آفات ذهبت بمشاعرهم الظاهرة والباطنة، بل هم شر من هؤلاء لأن هذه المشاعر والقوى خلقت لهم فأفسدوها لعدم استعمالها فيما خلقها الله تعالى لأجله في سن التمييز ثم التكليف، فهم كما قال الشاعر :
خلقوا وما خلقوا لمكرمة*** فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد*** فكأنهم رزقوا وما رزقوا
وإذا أردت فهم الآية فهما تفصيليا فارجع إلى تفسيرنا لقوله تعالى :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] ولم يصفهم هنا بالعمى كما وصفهم في آية الأعراف وآيتي البقرة لأن المقام هنا مقام التعريض بالذين ردّوا دعوة الإسلام، ولم يهتدوا بسماع آيات القرآن.
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون ٢٠ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ٢١ إن شر الدّواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ٢٢ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون ٢٣ ﴾
كانت السورة من أولها إلى هنا في قصة غزوة بدر الكبرى إلا أنها افتتحت بعد براعة المطلع- وهو السؤال عن الغنائم- بالمقصد من الدين وهو الإيمان وطاعة الله ورسوله ووصف الإيمان الكامل، وانتقل منها إلى مقدمات الغزوة وما كان من عناية الله فيها بالمؤمنين، ثم انتقل هنا أو فيما هنا أو فيما قبله إلى نداء المؤمنين المرة بعد المرة وتوجيه الأوامر والنواهي إليهم في مقاصد الإسلام والإيمان والإحسان- وينتهي هذا بالآية ٢٩ ثم ينتقل من ذلك إلى شؤون الكفار مع المؤمنين وعداوتهم لهم وللرسول صلى الله عليه وسلم وكيدهم له وعدوانهم عليه، وفتنة المؤمنين به- ومنه إلى الأمر بقتالهم وحكمتهم ثم يعود الكلام إلى غزوة بدر وما كان فيها من حكم وسنن وأحكام وتشريع، وهذا يدخل في أول الجزء العاشر وهو آية ﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] الخ.
﴿ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ﴾ أي ولو علم الله فيهم استعدادا للإيمان والهدى ببقية من نور الفطرة، لم تطفئها مفاسد التربية وسوء القدرة، لأسمعهم بتوفيقه وعنايته الكتاب والحكمة سماع تفقه وتدبر، ولكنه علم أنه لا خير فيهم لأنهم ممن أحاطت بهم خطاياهم وختم على قلوبهم ﴿ ولو أسمعهم ﴾ وقد علم أن لا خير فيهم ﴿ لتولّوا ﴾ عن القبول والإذعان لما فهموا ﴿ وهم معرضون ﴾ والحال أنهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به- كما هو مدلول الجملة الحالية- كراهة وعنادا للداعي إليه ولأهله، لا توليا عارضا موقتا، وفرق عظيم بين التولي العارض لصارف موقت وتولي الإعراض والكراهة الذي فقد صاحبه الاستعداد للحق وقبول الخير فقدا تاما.
ومن اضطراب في فهم الجمع بين التولي والإعراض فقد جهل معنى الجملة الحالية الفارق بينها وبين الحال المفردة كما بينه الإمام عبد القاهر في دلائل الإعجاز، والآية نص في أنه تعالى لم يسمعهم أي لم يوفقهم للسماع النافع لأن الباعث عليه هو ما في الفطرة من نور الحق المحبب للنفس في الخير، وقد، فقدوا ذلك بإفسادهم لفطرتهم، وإطفائهم لنور الاستعداد للحق والخير الذي يذكيه سماع الحكمة والموعظة الحسنة، فصاروا ممن وصفهم في سورة المطففين المكية بقوله :﴿ كلا بل ران على قولهم ما كانوا يكسبون ﴾ [ المطففين : ١٤ ] وقوله في سورة البقرة ﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ [ البقرة : ٨١ ] ووصفهم فيها بقوله :﴿ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ﴾ [ البقرة : ١٨ ] وضرب المثل لسماعهم بقوله في الآية الأخرى منها ﴿ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ﴾ [ البقرة : ١٧١ ] يعني أنهم كسارحة النعم تسمع صراخ الناعق فترفع رؤوسها ولكنها لا تفهم له معنى فإذا سكت عادت إلى رعيها كما قال ابن دريد في مقصورته :
نحن ولا كفران لله كما*** قد قيل في السارب أخلى فارتعى
إذا أحس نبأة ريع وإن*** تطامنت عنه تمادى ولها
وفي الآيتين ٤٢ و٤٣ من سورة يس ( ١٠ ) إيئاس النبي صلى الله عليه وسلم من إسماع هؤلاء الصم وهداية هؤلاء العمي وقفى على ذلك بقوله تعالى :﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ﴾ [ يونس : ٤٤ ] فأمثال هذه الآيات تحثو التراب في في من يزعم أن الآية تدل على الجبر وعدم اختيار العبد في كفره وإيمانه، كما أنها تسجل الجهل باللغة على من يزعم أن فيها إشكالا في النظم بجواز تقدير : ولو أسمعهم لعلمه بأن فيهم خيرا لتولوا وهم معرضون عن الإيمان والهدى، ونقول إن تقديره هذا هو الباطل لأنه نقيض ما أفادته " لو " من أنه علم أنه لا خير فيهم فهو لا ينتج إلا باطلا، وعفا الله عمن صوروا هذا الإشكال الوهمي بالاصطلاح المنطقي الفلسفي وأطالوا في الرد عليه من تلك الطرق الاصطلاحية الشاغلة عن كتاب الله تعالى.
ألم يك خيرا لهم من هذه الحذلقة اللفظية الصارفة عن القرآن توجيه قلب سامعه لمحاسبة نفسه على هذا السماع ودرجة حظه منه ؟ فإن للسماع درجات باعتبار ما يطالبه الله تعالى به من الاهتداء بكتابه : أسفلها أن يعمد من يتلى عليه القرآن أن لا يسمعه مبارزة له بالعداوة من أول وهلة خوفا من سلطانه على القلوب أن يغلبهم عليها كالذين قال الله فيهم ﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾ [ فصلت : ٢٦ ] ويليها من يستمع وهو لا ينوي أن يفهم ويعلم كالمنافقين المشار إليهم في آية سورة القتال [ الآية : ١٧ ] وذكرت في هذا السياق- ويليها من يستمع لأجل التماس شبهة للطعن والاعتراض، كما كان يفعل المعاندون من المشركين وأهل الكتاب، وكما يفعل في كل وقت مرتزقة دعاة النصرانية، وغيرهم إذا استمعوا للقرآن أو نظروا فيه- ويليها أن يسمع ليفهم ويعلم ثم يحكم للكلام أو عليه.
وهذه الدرجات كلها لغير المؤمنين به والمنصف منهم الفريق الأخير وكم آمن منهم من تأمل وفهم : نظر طبيب إفرنسي معاصر في ترجمة القرآن فرأى إن كل ما يتعلق بالطب والمحافظة على الصحة منه- كالطهارة والاعتدال وعدم الإسراف- موافق لأحدث المسائل التي استقر عليها رأي الأطباء في هذا العصر، فرغبه ذلك في تأمله كله فأسلم... ونظر ( مستر براون ) وهو ربّان بارج من الإنكليز في ترجمة مستر سايل الإنكليزية له فاستقصى فيه الكلام عن البحار والرياح فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أكبر رباني الملاحين فسأل عنه فقيل له أنه لم ير البحر قط وكان مع ذلك أمياً لم يقرأ كتابا، ولا تلقّى عن أحد درسا، ( قال ) فعلمت أن هذا كان بوحي من الله لأنه حقائق لم يعلمها من اختباره بنفسه، ولا بتلقيه عن غيره من المختبرين، وقد أسلم وتعلم العربية رحمه الله تعالى.
وأما المسلمون في هذه البلاد فأكثرهم اليوم يسمعون القارئ يتلو القرآن فلا يستمعون له ولا يشعرون بأنهم في حاجة إلى سماعه، وأكثر الذين يستمعون له وينصتون يقصدون بذلك التلذذ بتجويده وتوقيع التلاوة على قواعد النغمات، ومنهم من يقصد بسماعه التبرك فقط، ومنهم من يحضر الحفاظ لتلاوته عنده في ليالي رمضان لأن ذلك من شعائر أكابر الوجهاء، وإنما تكون التلاوة في حجرة البواب أو غيره من الخدم، وإذا سمعت بعض السامعين للتلاوة يقول : الله الله، أو غير ذلك من كلمة مفردة أو مركبة أو صوت لا معنى له فإنما ينطق به إعجابا بنغمة التالي، حتى إنهم لينطقون عند سماعه ببعض الأصوات التي تخرج من أفواههم عند سماع الغناء.
دعيت مرة إلى حفلة عرس فإذا أنا بقارئ يتلو بالنغم والتطريب وبعض الحاضرين يهتز وينطق بتلك الحروف المعتادة في مجالس الغناء ويستعيدون بعض الجمل أو الآيات كما يستعيدون المغنى على سواء، وكان القارئ يتلو تلك الوصايا الصادعة من سورة الإسراء وما يتلوها من وصف القرآن وهدايته ومواعظه وتوبيخ المعرضين عنه كقوله تعالى :﴿ ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا ﴾ [ الإسراء : ٤١ ] إلى قوله :﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ﴾ [ الإسراء : ٤٥- ٤٧ ].
فلما سمعت مكاء أولئك السفهاء وأصواتهم المنكرة عند سماع هذه الحكم الروائع، والمواعظ الصوادع، لم أملك نفسي أن صحت فيهم صيحة مزعجة ووقفت على الكرسي الذي كنت جالسا عليه ووبختهم توبيخا شديدا مبينا لهم ما يجب من الأدب والخشوع والخشية عند سماع القرآن ولاسيما أمثال هذه الآيات، وتلوت عليهم قوله تعالى :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ﴾ [ الحشر : ٢١ ] فسكنوا وسكتوا إلا واحدا منهم أخذته العزة بالإثم، ولكنه صار يتظاهر بأنه يهتز متخشعا، ويهمهم معتبرا متدبرا.
وليعلم القارئ أن لفهم الكلام نفسه درجات فمن الناس من لا يفهم من الكلام إلا مدلولات الألفاظ على ما فيها من إجمال وإبهام، بحسب ما تفسر به المفردات في معاجم اللغة، أو مع المركبات بحسب قواعد النحو والبيان، ككون لفظي الصم والبكم هنا من مجاز الاستعارة مثلا، وهذا الفهم قاصر لا يتسع عقل صاحبه للتدبر والتذكر المطلوب، ومنهم من يكون فهمه تفصيليا ينتقل من الكليات إلى الجزئيات، ويعدو المفهومات الذهنية إلى المصدقات، ولكنه يجعلها بمعزل عن نفسه، ويتصور أن الكلام كله لغيره وفي غيره، بأن يقول هذه الآية نزلت في الكافرين أو المنافقين، لا في أمثالي من المؤمنين، وإن كان متصفا بما تنهى عنه وتتوعد عليه من صفاتهم وأعمالهم، فصاحبها يصدق عليه بوجه ما أنه من الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، وإنما الدرجة العليا للسماع أن تسمع فتفقه وتعقل وتتدبر وتعمل، حتى لا تقول يوم القيامة ﴿ لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ﴾ [ الملك : ٧ ].
﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن اللّه يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ٢٤ واتّقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن اللّه شديد العقاب ٢٥ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطّفكم الناس فآواكم وأيّدكم بنصره ورزقكم من الطيّبات لعلكم تشكرون ٢٦ ﴾
يقال دعاه فأجابه واستجابه واستجاب له، وكثر المتعدي في التنزيل ويقول الراغب إن أصل الاستجابة التهيؤ والاستعداد للإجابة فحل محلها، أقول الأقرب إلى الفهم قلب هذا وعكسه وهو أن الاستجابة هي الإجابة بعناية واستعداد فتكون زيادة السين والتاء للمبالغة، وهو يقرب مما قالوه في معانيهما من التكلف والتحري أو هو بعينه إلا أنه لا يعبر به فيما يسند إلى الله تعالى كقوله :﴿ فاستجاب لهم ربهم ﴾ [ آل عمران : ١٩٥ ].
فقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾ معناه إذا علمتم ما فرضنا عليكم من الطاعة، وشأن سماع التفقه من الهداية، وقد دعاكم الرسول بالتبليغ عن الله تعالى لما يحييكم، فأجيبوا الدعوة بعناية وهمة، وعزيمة وقوة، فهو كقوله تعالى :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ [ البقرة : ٩٣ ] والمراد بالحياة هنا حياة العلم بالله تعالى وسننه في خلقه، وأحكام شرعه، والحكمة والفضيلة والأعمال الصالحة التي تكمل بها الفطرة الإنسانية في الدنيا وتستعد للحياة الأبدية في الآخرة، وقيل المراد بالحياة هنا الجهاد في سبيل الله لأنه سبب القوة والعزة والسلطان- والصواب أن الجهاد يدخل فيما ذكرنا وليس هو الحياة المطلوبة به وهو وسيلة لتحققها وسياج لها بعد حصولها، وقيل هي الإيمان والإسلام، وإنما يصح باعتبار ما كان يتجدد من الأحكام، وثمرته في القلوب والأعمال، وبما في الاستجابة من معنى المبالغة في الإجابة، وإلا فالخطاب للمؤمنين.
وقيل هي القرآن ولاشك أنه ينبوعها الأعظم، الهادي إلى سبيلها الأقوم مع بيانه من سنة الرسول وهديه الذي أمرنا بأن يكون لنا فيه أسوة حسنة، ويدل عليه اقتران طاعته بطاعة الله تعالى، بل قال بعض العلماء إنه كان إذا دعا شخصا وهو يصلي يجب عليه أن يترك الصلاة استجابة له وإن الصلاة لا تبطل بإجابته بل له أن يبني على ما كان صلى ويتم، واستدلوا على ذلك بحديث رواه البخاري عن سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه- أو قال فلم آته حتى صليت ثم أتيته- فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال ( ألم يقل الله ﴿ استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ﴾ ١ ؟ الحديث.
وروى الترمذي٢ والحاكم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بن كعب وهو في الصلاة وذكر نحواً مما رواه البخاري عن أبي سعيد وصححه. وقال الحافظ في باب فضائل الفاتحة من الفتح عند ذكر فقه الحديث : وفيه أن الأمر يقتضي الفور لأنه صلى الله عليه وسلم عاتب الصحابي على تأخير إجابته، وفيه استعمال صيغة العموم في الأحوال كلها. قال الخطابي : فيه إن حكم لفظ العموم أن يجري على جميع مقتضاه وإن الخاص والعام إذا تقابلا كان العام منزلا على الخاص، لأن الشارع حرم الكلام في الصلاة على العموم ثم استثنى منها إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ( وفيه ) أن إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا تفسد الصلاة- هكذا صرح به جماعة من الشافعية وغيرهم وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقا سواء كان المخاطب مصليا أو غير مصل، إما كونه يخرج لإجابته من الصلاة أو لا يخرج فليس في الحديث ما يستلزمه، فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة، وإلى ذلك جنح بعض الشافعية الخ ما أورده ولا تعرض فيه لما يدعو المرء إليه وهو يشترط لما ذكر أن يكون من أمر الدين أم لا ؟ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دعا سعيدا هذا ليعلمه فضل سورة الفاتحة وأنها السبع المثاني، وفي متن الحديث شيء من الاضطرابات. على أنه لا يتعلق به بعده صلى الله عليه وسلم عمل.
وأحق من هذا بالبيان أن طاعته صلى الله عليه وسلم واجبة في حياته وبعد مماته فيما علم أنه دعا إليه دعوة عامة من أمر الدين الذي بعثه الله تعالى به كبيانه لصفة الصلوات وعددها والمناسك ولو بالفعل مع قوله :( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وقوله :( خذوا عني مناسككم ) ومقادير الزكاة وغير ذلك من السنن العملية الدينية المتواترة وكذا أقواله المتواترة التي أمر بتبليغها فيما تدل عليه دلالة قطعية- وأما غير القطعي رواية ودلالة من سننه فهو محل الاجتهاد، فكل من ثبت عنده شيء منها ببحثه أو بحث العلماء الذين يثق بهم على أنه من أمر الدين فينبغي له الاهتداء به فيما دل عليه من الأحكام الخمسة بحسبها- الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة- لأن الأمور العملية الاجتهادية يكتفي فيها بالظن الراجح في الدليل وفي دلالته، ولكن لا يملك أحد من المسلمين أن يجعل اجتهاده تشريعا عاما يلزمه غيره أو ينكر عليه مخالفته أو مخالفة من قلده هو فيه، إلا الأئمة أولي الأمر فتجب طاعتهم في اجتهادهم في أحكام المعاملات القضائية والسياسية إذا حكموا بها لإقامة الشرع وصيانة النظام العام- وعلى هذا كله جرى السلف الصالح وجميع أئمة الأمصار، ومن كلامهم أن المجتهد لا يقلد مجتهدا، وأنه لا يجب على أحد أن يقلد أحدا معينا دينه، ولكن من عرض له أمر يستفتي فيه من يطمئن قلبه لعلمه بالكتاب والسنة ويأخذ بفتواه إذا اطمأن لها. وقد امتنع الإمام مالك من إجابة المنصور ثم الرشيد إلى ما عرضاه عليه من التزام الناس العمل بكتبه حتى الموطأ الذي هو سنن واطأه جل علماء المدنية عليها.
وأما من يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت تجب طاعته في عهده ولا يجب العمل بعده إلا بالقرآن وحده فهم زنادقة ضالون مضلون يريدون هدم الإسلام بدعوى الإسلام، بل تجب طاعة الرسول كما أطلقها الله تعالى ويجب التأسي به في كل زمان إلى يوم القيامة. بل نقول إننا نهتدي بخلفائه الراشدين، وأئمة أهل بيته الطاهرين، وعلماء أصحابه العاملين، وعلماء السلف من التابعين وأئمة الأمصار من أهل البيت والفقهاء والمحدثين، نهتدي بهم في آدابهم واجتهاداتهم القضائية والسياسية مع مراعاة القواعد الشرعية والمصالح العامة، ولا نسمي شيئا منها دينا ندين الله به إلا ما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه المتقدم، وأما السنن والإرشادات النبوية في أمور العادات كاللباس والطعام والشراب والنوم فلم يعدها أحد من السلف ولا علماء الخلف من أمور الدين فتسمية شيء منها دينا بدعة منكرة لأنه تشريع لم يأذن به تعالى. وقد فصلنا هذه المسألة من قبل في هذا التفسير وفي غيره من مقالات المنار.
﴿ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ﴾ هذا تنبيه لأمرين عظيمين أمرنا الله أن نعلمهما علما يقينا إذعانيا لما لهما من الشأن في مقام الوصية بالاستجابة لدعوة الحياة الإنسانية العليا التي فيها سعادة الدنيا والآخرة.
الأول : أن من سنة الله في البشر الحيلولة بين المرء وبين قلبه، الذي هو مركز الوجدان والإدراك ذي السلطان على إرادته وعمله، وهذا أخوف ما يخافه المتقي على نفسه، إذا غفل عنها وفرط في جنب ربه، كما أنه أرجى ما يرجوه المسرف عليها إذا لم ييأس من روح الله فيها، فهذه الجملة أعجب جمل القرآن ولعلها أبلغها في التعبير، وأجمعها لحقائق علم النفس البشرية، وعلم الصفات الربانية، وعلم التربية الدينية، التي تعرف دقائقها بما تثمره من الخوف والرجاء، فبينما زيد يسير على سبيل الهدى، ويتقي بنيات طرق الضلالة الموصلة إلى مهاوي الردى، إذا بقلبه قد تقلب بعصوف هوى جديد، يميل به عن الصراط المستقيم، من شبهة تزعزع الاعتقاد، أو شهوة يغلب بها الغي على الرشاد، فيطيع هواه، ويتخذه آلهة من دون الله، ﴿ أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ﴾ على أنه فيه مختار، فلا جبر ولا اضطرار.
ويقابل هذا من الحيلولة ما حكى بعضهم عن نفسه، أنه كان منهمكا في شهواته ولهوه، تاركا لهداه وطاعة ربه، فنزل يوما في زورق مع خلان له في نهر دجلة للتنزه ومعهم النبيذ والمعازف، فبينما هم يعزفون ويشربون، إذ التقوا بزورق آخر فيه تال للقرآن يرتل سورة :﴿ إذا الشمس كورت ﴾ [ التكوير : ١ ] فوقعت تلاوته من نفسه موقع التأثير والعظة، فاستمع له وأنصت، حتى إذا بلغ قوله تعالى :﴿ وإذا الصحف نشرت ﴾ [ التكوير : ١٠ ] امتلأ قلبه خشية من الله، وتدبرا لإطلاعه على صحيفة عمله يوم يلقاه، فأخذ العود من العازف فكسره وألقاه في دجلة، وثنى بنبذ قناني النبيذ وكؤوسه فيها، وصار يردّد الآية، وعاد إلى منزله تائبا من كل معصية، مجتهدا في كل ما يستطيع من طاعة فتذكير الله تعالى إيانا بهذا الشأن من شؤون الإنسان، وهذه السنة القلبية من سنن الله تعالى في الإرادات والأعمال، وأمره إيانا بأن نعلمها علم إيقان وإذعان، يفيدنا فائدتين لا يكمل بدونهما الإيمان، وهما أن لا يأمن الطائع المشمر من مكر الله فيغتر بطاعته ويعجب بنفسه، وأن لا ييأس العاصي والمقصر في الطاعة من روح الله، فيسترسل في اتباع هواه، حتى تحيط به خطاياه. ومن لم يأمن عقاب الله، ولم ييأس من رحمة الله، يكون جديرا بأن يراقب قلبه، ويحاسب نفسه على خواطره، ويعاقب نفسه على هفواته، لتظل على صراط العدل المستقيم، متجنبة الإفراط والتفريط، ويتحرى أن يكون دائما بين خوف يحجزه عن المعاصي ورجاء يحمله على الطاعات، ويساعدنا على ذلك :
الأمر الثاني : وهو تذكر حشرنا إليه عز وجل ومحاسبته إيانا على أعمالنا القلبية والبدنية، ومجازاته إيانا عليها إما بالعذاب الأليم، وإما بالنعيم المقيم، وهذا منه مقتضى الفضل، وذلك أثر العدل.
ومما يؤيد ما فهمناه في هذا المقام مقام حرمان الراسخين في الكفر من سماع الفقه والهدى، والحيلولة بين المرء وقلبه أن يعصي الهوى، ﴿ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد اللّه أفلا تذكّرون ﴾ [ الجاثية : ٢٣ ] فهي صريحة في أن من هذا حاله ليس مجبورا عليه وأن الله لم يحرمه الهدى بإعجاز، عنه وهو يؤثره ويفضله، أو بإكراه على اتباع الهوى وهو كاره له، فإنه أسند إليه اتخاذ هواه إلهه، وقد قال تعالى لنبيه داود عليه السلام ﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ﴾ [ ص : ٢٦ ] الآية.
فهذا نص في أن اتباع الهوى سبب للضلال عن سبيل الله، فقوله في آية الجاثية ﴿ وأضله الله على علم ﴾ [ الجاثية : ٢٣ ] ليس معناه أنه تعالى خلق فيه الضلال استقلالا كما يدعي بعض المتكلمين بل هو داخل في سنته تعالى في الأسباب والمسببات ويؤيده إثبات كون ضلاله على علم وهو أنه متعمد لاتباع الهوى، مؤثرا له على الهدى، والله تعالى يسند الأمور إلى أسبابها تارة وإليه تعالى تارة من حيث إنه خالق كل شيء وواضع سنن الأسباب والمسببات. ومن الأسباب ما جعله من أفعال المخلوقات الاختيارية على علم، وما جعله بأسباب لا يعلم للخلق اختيار فيها ولا علم، وكل من القسمين يسند إلى سببه تارة وإلى رب الأ
١ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٨، باب ١..
٢ كتاب ثواب القرآن باب ١..
بعد هذه الأوامر والنواهي الخاصة بأعمال الناس الاختيارية الشخصية، وما يخشى أن تؤدي إليه مما يحرمهم من الهداية الخصوصية، بانتهاء الاختياري منها إلى ما يكاد يخرج عن الاختيار، بإضعاف الإرادة واستعبادها للأهواء، -أمرهم باتقاء نوع من أنواع الفتن الاجتماعية التي تكون تبعة عقوبتها مشتركة بين المصطلي بناره فعلا، وبين المؤاخذ به لتقصيره في درئه، وإقراره على فعله.
فقال :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ أي واتقوا وقوع الفتن القومية والملية العامة التي من شأنها أن تقع بين الأمم في التنازع على مصالحها العامة من الملك والسيادة أو التفرق في الدين والشريعة، والانقسام إلى الأحزاب الدينية كالمذاهب، والسياسية كالحكم، فإن العقاب على ذنوب الأمم أثر لازم لها في الدنيا قبل الآخرة كما تقدم مرارا، ولهذا عبر هنا بالفتنة، دون الذنب والمعصية، والفتنة البلاء والاختبار كما تقدم بيانه مرارا.
روى أحمد والبزار وابن المنذر وابن مردويه عن مطرف قال قلنا للزبير يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه ؟ فقال إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت. وروى عنه جمهور مخرجي التفسير المأثور : لقد قرأناها زمنا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها. وأخرج ابن جرير من طريق الحسن عنه قال لقد خوفنا بهذه الآية ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ظننا أننا خصصنا بها. قال الحافظ في الفتح وأخرجه النسائي من هذا الوجه نحوه، وله طرق أخرى عن الزبير عند الطبري وغيره.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر في الآية قال : نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير- وعبد بن حميد عنه قال : أما والله لقد علم أقوام حين نزلت أن يستخص بها قوم. وهو أبو الشيخ عن قتادة قال : علم والله ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية أن سيكون فتن. وابن جرير وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال : نزلت في أهل بدر خاصة، فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا فكان من المقتولين طلحة والزبير وهما من أهل بدر. وآخرون عنه قال : أخبرت أنهم أهل الجمل. وابن أبي حاتم عن الضحاك قال : تصيب الظالم والصالح عامة. وأبو الشيخ عن مجاهد قال : هي ( يحول بين المرء وقلبه ) حتى يتركه لا يعقل. وروى جمهورهم عن ابن عباس قال : أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكرين بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب.
قال الحافظ ولهذا الأثر شاهد من حديث عدي بن عميرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة ) أخرجه أحمد بسند حسن وهو عند أبي داود من حديث العرس بن عميرة وهو أخو عدي وله شواهد من حديث حذيفة وجرير وغيرهما عند أحمد وغيره.
وهذه الروايات متفقة صحيحة المعاني إلا قول من قال بالتخصيص فهي عامة إلى يوم القيامة لأنها بيان لسنة من سنن الله تعالى في الأمن والملل كما بينا. وأما فتنة عثمان فكانت أول هذه الفتن التي اختلفت فيها الآراء فاختلفت الأعمال من أهل الحل والعقد فخلا الجو للمفسدين من السبأيين وأعوانهم من زنادقة اليهود والمجوس وغيرهم، وأعقبت فتنة الجمل وصفين، ثم فتنة ابن الزبير مع بني أمية ثم قتلهم الحسين عليه السلام الخ. ولو تداركوها كما تدارك أبو بكر رضي الله عنه الردة لما كانت فتنة تبعتها فتن كثيرة لا يزال المسلمون مصابين بها ومعذبين بعذابها وأكبرها فتن الخلافة والملك وفتن افتراق المذاهب.
﴿ واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ لمن خالف سننه في الأمم والأفراد التي لا تبديل لها ولا تحويل، ولمن خالف هداية دينه المزكية للأنفس وقطعيات شرعه المبنية على درء المفاسد والمضار وحفظ المصالح والمنافع. وهذا العقاب منه ما يقع في الدنيا والآخرة ومنه ما يقع في إحداهما فقط، سوا كان للأفراد أو للأمم، وعقاب الأمم المذكور في هذه الآية مطرد في الدنيا، وأول من أصابه من أمتنا الإسلامية أهل القرن الأول الذين كانوا خيرها بل خير الأمم كلها لما قصروا في درء الفتنة الأولى عاقبهم الله عليها عقابا شديدا كما تقدم آنفا، وهكذا تسلسل العقاب في كل جيل وقع فيه ذلك، ثم امتزجت الفتن المذهبية بالفتن السياسية الخاصة بالخلافة والسلطان، ولهذا كانت فتنة الخلاف بين أهل السنة والشيعة أشد مصائب هذه الأمة وأدومها، فزالت الخلافة التي تنازعوا عليها، وتنافسوا فيها، وتقاتلوا لأجلها، ولم تزل هي تزداد قوة وشبابا، وقد شرحنا هذا الموضوع في مواضع من مجلة المنار.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن العبرة في الآيات أنها حجج تاريخية اجتماعية على كون الإسلام إصلاحا أورث ويورث من اهتدى به سعادة الدنيا والسيادة والسلطان فيها قبل الآخرة، ولكن أعداءه الجاحدين لهذا على علم قد شوهوا تاريخه، وصدوا الناس عنه بالباطل- وأن أهله قد هجروا كتابه وتركوا هدايته وجهلوا تاريخه، ثم صاروا يقلدون أولئك الأعداء في الحكم عليه حتى زعموا أنه هو سبب جهلهم وضعفهم وزوال ملكهم الذي كان عقوبة من الله تعالى لخلفهم الطالح على تركه، بعد تلك العقوبة لسلفهم الصالح على الفتنة بالتنازع على ملكه. فإلى متى إلى متى أيها المسلمون ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ﴾ قيل إن الخطاب للمهاجرين يذكرهم بما كان من ضعفهم وقلتهم بمكة- وقيل إنه للمؤمنين كافة في عهد نزول السورة يذكرهم بما كان من ضعف أمتهم العربية في جزيرتهم بين الدول القوية من الروم والفرس، ولا مانع فيه من إرادة هذا وذاك معا فقوله تعالى :﴿ تخافون أن يتخطّفكم الناس ﴾ أي تخافون من أول الإسلام إلى وقت الهجرة أن يتخطفكم مشركو قومكم من قريش وغيرها من العرب، أي أن ينتزعوكم بسرعة فيفتكوا بكم- كما كان يتخطف بعضهم بعضا خارج الحرم وتتخطفهم الأمم من أطراف جزيرتهم. قال تعالى في أهل الحرم ﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ].
﴿ فآواكم ﴾ يا معشر المهاجرين إلى الأنصار ﴿ وأيّدكم ﴾ وإياهم ﴿ بنصره ﴾ في هذه الغزوة، وسيؤيدكم على الروم وفارس وغيرهم كما وعدكم في كتابه بالإجمال وبينه لكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتصريح ﴿ ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ﴾ هذه الثلاث وغيرها من نعمه، فيزيدكم من فضله كما وعدكم بقوله :﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾ [ إبراهيم : ٧ ].
وقد جاء في الدر المنثور من تفسير هذه الآية بالمأثور باختصار قليل ما نصه :
أخرج ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله :﴿ واذكروا إذ أنتم قليل ﴾ الآية، قال كان هذا الحي أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا وأبينه ضلالة، معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم لا والله ما في بلادهم ما يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات منهم ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلا من حاضر الأرض يومئذ كان أشر منزلا منهم، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر وأهل الشكر في مزيد من الله عز وجل.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله :﴿ يتخطفكم الناس ﴾ : في الجاهلية بمكة ﴿ فآواكم ﴾ إلى الإسلام، وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطّفكم الناس ﴾ قيل يا رسول الله : ومن الناس ؟ قال :( أهل فارس ) وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله :﴿ فآواكم ﴾ قال إلى الأنصار بالمدينة ﴿ وأيّدكم بنصره ﴾ قال يوم بدر اه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن العبرة في الآيات أنها حجج تاريخية اجتماعية على كون الإسلام إصلاحا أورث ويورث من اهتدى به سعادة الدنيا والسيادة والسلطان فيها قبل الآخرة، ولكن أعداءه الجاحدين لهذا على علم قد شوهوا تاريخه، وصدوا الناس عنه بالباطل- وأن أهله قد هجروا كتابه وتركوا هدايته وجهلوا تاريخه، ثم صاروا يقلدون أولئك الأعداء في الحكم عليه حتى زعموا أنه هو سبب جهلهم وضعفهم وزوال ملكهم الذي كان عقوبة من الله تعالى لخلفهم الطالح على تركه، بعد تلك العقوبة لسلفهم الصالح على الفتنة بالتنازع على ملكه. فإلى متى إلى متى أيها المسلمون ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ٢٧ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ٢٨ ﴾
قد بينا وجه التناسب بين هذه النداءات الإلهية للمؤمنين وما قبلها وما بعدها إلى آخر هذا الجزء. وورد في سبب نزول هذا النداء بالنهي عن الخيانتين هنا من حديث جابر أن أبا سفيان خرج من مكة- وكان لا يخرج إلا في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين- فأعلم الله رسوله بمكانه، فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان : إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم. فأنزل الله ﴿ لا تخونوا الله والرسول ﴾ الآية. والمراد أن فيها تعريضا بفعلة المنافق الذي يدعي الإيمان بأن عمله خيانة تنافيه. والخيانة للناس وحدهم من أركان النفاق كما ثبت في الحديث الصحيح- وسيأتي- فكيف بمثل هذه الخيانة لله والرسول والمؤمنين ؟
وفي عدة روايات عن عبد الله بن قتادة والزهري والكلبي والسدي وعكرمة أنها نزلت في أبي لبابة رضي الله عنه فإنه كان حليفا لبني قريظة من اليهود فلما خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد إجلاء إخوانهم من بني النضير أرادوا بعد طول الحصار أن ينزلوا من حصنهم على حكم سعد بن معاذ- وكان من حلفائهم من قبل غدرهم ونقضهم لعهد النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إليهم أبو لبابة بأن لا يفعلوا وأشار إلى حلقه يعني أن سعدا يحكم بذبحهم، فنزلت الآية. قال أبو لبابة :" ما زالت قدماي حتى علمت أنني خنت الله ورسوله " وفي رواية عبد بن حميد عن الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا لبابة إلى قريظة وكان حليفا لهم، بل روي أنه كان وضع ماله وولده عندهم، فأومأ بيده إلى الذبح فأنزل الله الآية ( وذكرها ثم قال ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي لبابة ( أيصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة ؟ ) فقالت إنه يصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة ويحب الله ورسوله. والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم شك في إيمانه حتى أنه سأل امرأته هل يقوم في بيته بواجبات الإسلام ؟ فأجابته بصيغة التأكيد التي يجاب بها من أظهر شكه، وفيه عبرة لمنافقي هذا الزمان الذين يخلصون الخدمة ويسدون النصيحة إلى أعداء ملتهم وأوطانهم فيما يمكن لهم السلطان في بلادهم والسيادة على أمتهم.
ولينظر المعتبر كيف عاقب أبو لبابة نفسه توبة إلى الله تعالى : شد نفسه على سارية من المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى خرّ مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له قد تيب عليك فقال والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده. وغزوة بني قريظة كانت بعد غزوة بدر التي نزلت فيها سورة الأنفال بسنين فيحتمل أن يكون المراد بنزول الآية في أبي لبابة أنها تتناول فعلته- وهذا التعبير يكثر مثله عنهم فيما يسمونه أسباب النزول كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. ومن ذلك قول المغيرة بن شعبة : نزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه. ويحتمل أن تكون الآية نزلت بعد نزول السورة فألحقت بها بأمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومهما يكن سبب النزول فالآية عامة تشمل كل خيانة ولذلك فسر ابن عباس خيانة الله بترك فرائضه وارتكاب معصيته، والأمانة بكل ما ائتمن الله عليه العباد بأن لا ينقضها رواه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
والخيانة في أصل اللغة تدل على معنى الإخلاف والخيبة بنقض ما كان يرجى ويؤمل من الخائن أو نقص شيء منه ينافي حصوله وتحققه. ومنه : خانه سيفه، إذا نبا عن الضريبة وخانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي، وخان الرشاء الدلو إذا انقطع. ومن معنى النقص أو الانتقاص في المادة قوله تعالى :﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] أي تنقصونها بعض ما أحل لها من اللذات، ومثله التخوّن ويفترقان في معنى الصيغة قال الزمخشري في الأساس : وتخوَّن فلان حقي إذا تنقصه كأنه خانه شيئا فشيئا، وكل ما غيَّرك عن حالك فقد تخونك، قال لبيد :
***تخوَّنها نزولي وارتحالي١*** اه
وقال في تفسير الآية من الكشاف وتبعه غيره : معنى الخون النقص كما أن معنى الوفاء التمام ومنه تخونه إذا تنقصه، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه اه وما قلناه أولا أعم من هذا وأشمل لما ورد من الاستعمال في كلام الله وكلام العرب. وقال الراغب الخيانة والنفاق واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارا بالدين، ثم يتداخلان الخ ما قاله، وهو يدخل في عموم ما قلناه ولا يصح كونه حدا تاما.
والمعنى ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله ﴾ تعالى بتعطيل فرائضه أو تعدي حدوده وانتهاك محارمه التي بينها لكم في كتابه ﴿ والرسول ﴾ بالرغبة عن بيانه لكتاب الله تعالى إلى أهوائكم، أو آراء مشايخكم، بناء على زعمكم أنهم أعلم بمراد الله ورسوله منكم ﴿ وتخونوا أماناتكم ﴾ أي لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وبين أولياء أموركم من الشؤون السياسية ولاسيما الحربية وفيما بينكم بعضكم مع بعض من المعاملات المالية وغيرها حتى الاجتماعية والأدبية فقد ورد في الحديث ( المجالس بالأمانة ) رواه الخطيب من حديث علي وحسنوه وأبو داود عن جابر بزيادة ( إلا ثلاثة مجالس : سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق ) ٢ وهو حسن أيضا، وروى أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والضياء من حديث جابر أيضا ( إذا حدّث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة ) ٣ ورواه أبو يعلى عن أنس، وأشار في الجامع الصغير إلى صحته. فإفشاء السر خيانة محرمة ويكفي في العلم بكونه سرا القرينة القولية كقول محدثك : هل يسمعنا أحد ؟ أو الفعلية كالالتفات لرؤية من عساه يجيء. وآكد أمانات السر وأحقها بالحفظ ما يكون بين الزوجين.
الخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين، وقال أنس بن مالك : قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال :( لا إيمان لمن لا عهد له، ولا دين لمن لا عهد له ) ٤ رواه أحمد وابن حبان في صحيحه. وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ) ٥ زاد مسلم ( وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ) ٦ وقد ورد في الأحاديث إطلاق الأمانة على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان، وليس المراد بهذا الحصر، بل كل ما يجب حفظه فهو أمانة، وكل حق مادي أو معنوي يجب عليك أداؤه إلى أهله فهو أمانة. قال الله تعالى في سورة البقرة :﴿ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ] ﴿ ولا يبخس منه شيئا ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] وقال في سورة النساء :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ﴾ [ النساء : ٥٨ ].
وقد أوردنا في تفسير آية النساء هذه مباحث نفسية في الأمانات والعدل منها المسألة الثالثة : في أنواع الأمانة. والمسألة السادسة : في حكمة تأكيد الأمر بالأمانة وأوردنا في هذه ما قاله حكيم الشرق جمال الدين الأفغاني في بيان كون الأمانة من الصفات الدينية التي قام عليها بناء المدنية وبها حفظ العمران ولا صلاح لحال أمة ولا بقاء لدولة بدونها لأن عليها مدار الثقة في جميع المعاملات وناهيكم بما عظم الله من أمر الأمانة في قوله :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولا ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ].
وأما قوله :﴿ وأنتم تعلمون ﴾ فمعناه والحال أنكم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم الله تعالى إياها وسوء عاقبة تلك المفاسد في الدنيا والآخرة، أو تعلمون أن ما فعلتموه خيانة لظهوره، وأما ما خفي عنكم حكمه فالجهل له عذر إذا لم يكن مما علم من الدين بالضرورة أو مما يعلم ببداهة العقل، أو استفتاء القلب، كفعلة أبي لبابة التي كانت هفوة سببها الحرص على المال والولد، ولذلك فطن لها قبل أن يبرح موقفه رضي الله عنه
١ صدره:
عذافرةٌ تقمّصُ بالرُّدافَى
والبيت من الوافر، وهو للبيد في ديوانه ص٧٦، ولسان العرب (عذفر)، (ردف)، (خون)، وتهذيب اللغة ٣/٣٥٩، ٧/٥٨٣، ١٤/٩٦، وتاج العروس (عذفر)، (ردف)، (خون)، وأساس البلاغة (قمص)، (خون)، وبلا نسبة في كتاب العين ٨/٢٣..

٢ أخرجه أبو داود في الأدب باب ٣٢..
٣ أخرجه أبو داود في الأدب باب ٣٢، والترمذي في البر باب ٣٩، وأحمد في المسند ٣/٣٢٤، ٣٤٢، ٣٥٢، ٣٨٠، ٣٩٤، ٦/٤٤٥..
٤ أخرجه أحمد في المسند ٤/٢٤٤..
٥ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٤، والشهادات باب ٢٨، والوصايا باب ٨، والأدب باب ٦٩، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٧، ١٠٨، والترمذي في الإيمان باب ٢٠، وأحمد في المسند ٢/٢٠٠، ٢٩١، ٣٥٧، ٣٩٧، ٥٣٦..
٦ أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٠٨..
ولما كان حب الأموال والأولاد مزلة في الخيانة أعلمنا به عقب النهي عنها فقال :
﴿ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾الفتنة هي الاختبار والامتحان بما يشق على النفس فعله أو تركه أو قبوله أو إنكاره، فتكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء. يمتحن الله المؤمنين والكافرين، والصادقين والمنافقين، ويحاسبهم ويجزيهم بما يترتب على فتنتهم من اتباع الحق أو الباطل، وعمل الخير أو الشر، وقد تقدم الكلام في الفتنة مرارا من وجوه. وفتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذي فهم إلا أن الأفهام تتفاوت في وجوهها وطرقها، فأموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه وشهواته ودفع كثير من المكاره عنه، فهو يتكلف في كسبها المشاق ويركب الصعاب، ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام، ويرغبه في القصد والاعتدال، ثم إنه يتكلف العناء في حفظها، وتتنازعه الأهواء المتناوحة في إنفاقها، فالشرع يفرض عليه فيها حقوقا مقدرة وغير مقدرة، ومعينة وغير معينة، ومحصورة وغير محصورة، كالزكاة ونفقات الأزواج والأولاد وغيرهم، وكفارات بعض الذنوب المعينة من عتق وصدقة ونسك وغير ذلك. ويندب له نفقات أخرى للمصالح العامة والخاصة تكفر الذنوب غير المعينة، ويترتب عليه شيء عظيم من الأجر والثواب. والضابط لجميع أنواع البذل من صفات النفس السماحة والسخاء من أركان الفضائل، ولجميع أنواع الإمساك البخل وهو من أمهات الرذائل، ولكل منهما درجات ودركات.
وأما الأولاد فهم كما يقول الأدباء : ثمرة الفؤاد وأفلاذ الأكباد، وحبهم كما قال الأستاذ الإمام : ضرب من الجنون يلقيه الفاطر الحكيم في قلوب الأمهات والآباء، يحملهما على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهما من مال وصحة وراحة وغير ذلك، بل روى أبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى سيد الحكماء وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ( الولد ثمرة القلب وإنه مجبنة مبخلة محزنة ) فإن كان سنده ضعيفا كما قالوا فمتنه صحيح، فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الآثام في سبيل تربيتهم والإنفاق عليهم وتأثيل الثروة لهم، يحملهما ذلك على الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الحقيقة، أو الملة والأمة، وعلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة، والحقوق الثابتة، دع صدقات التطوع والضيافة، كما يحملهما الحزن على من يموت منهم على السخط على الرب تعالى والاعتراض عليه وغير ذلك من المعاصي كنوح الأمهات وتمزيق ثيابهن ولطم وجوههن، ففتنة الأولاد لها جهات كثيرة فهي أكبر من فتنة الأموال وأكثر تكاليف مالية ونفسية وبدنية، فالرجل يكسب الحرام ويأكل أموال الناس بالباطل لأجل أولاده كما يفعل ذلك لكبائر شهواته، فإذا قلت شهواته في الكبر فصار يكفيه القليل من المال يقوى في نفسه الحرص على شهوات أولاده، وما يكفي الواحد لا يكفي الآحاد، وفتنة الأموال قد تكون جزءا من فتنة الأولاد، فتقديمها وتأخير فتنة الأولاد من باب الانتقال من الأدنى إلى الأعلى.
فالواجب على المؤمن اتقاء خطر الفتنة الأولى بكسب المال من الحلال، وإنفاقه في سبيل الله من البر والإحسان، واتقاء الحرام من الكسب والإنفاق، واتقاء خطر الفتنة الثانية من جهة ما يتعلق منها بالمال وغيره مما يشير إليه الحديث، وبما أوجب الله على الوالدين من حسن تربية الأولاد على الدين والفضائل، وتجنيبهم أسباب المعاصي والرذائل، قال الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ﴾ [ التحريم : ٦ ].
وقد عطف على هذا التحذير قوله :﴿ وأن الله عنده أجر عظيم ﴾ لتذكير المؤمنين بما يعينهم على ما يجب عليهم من اتقاء الفتنتين وهو إيثار ما عند الله عز وجل من الأجر العظيم لمن راعى أحكام دينه وشرعه في الأموال والأولاد ووقف عند حدوده وتفضيله على كل ما عساه يفوته في الدنيا من التمتع بهما، لعلهم يتقون مثل هفوة أبي لبابة حين حذر أعداء الله ورسوله من فتح حصنهم والنزول على حكم سعد بن معاذ، لما كان له من الاعتماد عليهم في حفظ ماله وولده، على أن للمؤمن الصادق حسن قدوة بأبي لبابة في توبته النصوح، إذا ألم به ضعف فوقع في مثل هفوته أو ما دونها من خيانة، وأين مثل أبي لبابة رضي الله عنه في ذلك ؟ ونحن نرى كثيرا ممن يدعون الإيمان يخونون الله ورسوله في انتهاك حرمات دينهم، ويخونون أمتهم ودولتهم بثمن قليل أو كثير من المال يرجونه أو ينالونه من عدوهم، - وقد يكون من مال أمتهم وغنائم وطنهم- أو خوفا على مالهم وولدهم من سلطانه قبل أن يستقر له السلطان، وقد أسقطت الخيانة دولة كانت أعظم دول الأرض قوة وبأسا بارتكاب رجالها الرشوة من أهلها ومن الأجانب حتى مسخت فصارت دويلة صغيرة فقيرة، ولكن الخلف المغرور لذلك السلف المخرب يدعون أنها إنما أسقطها تعاليم الإسلام القويمة، لأنها صارت قديمة، ولو أنهم أقاموا واجبا واحدا أو أدبا واحدا من آداب القرآن، لكان كافيا لوقايتها من الزوال.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ٢٩ ﴾
هذه الآية آخر وصايا المؤمنين في هذا السياق وهي أعمها، والأصل الجامع لها ولغيرها، وكلمة الفرقان فيها كلمة جامعة ككلمة التقوى في مجيئها هنا مطلقة، فالتقوى هي الشجرة، والفرقان هو الثمرة، وهو صيغة مبالغة من مادة الفرق ومعناها في أصل اللغة الفصل بين الشيئين أو الأشياء والمراد بالفرقان هنا العلم الصحيح والحكم الحق فيها، ولذلك فسروه بالنور، وذلك أن الفصل والتفريق بين الأشياء والأمور في العلم هو الوسيلة للخروج من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، وإنما العلم الصحيح هو العلم التفصيلي الذي يميز بين الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص، وإن شئت قلت بين الكليات والجزئيات، والبسائط والمركبات، والنسب بين أجزاء المركبات، من الحسيات والمعنويات، ويبين كل شيء من ذلك ويعطيه حقه الذي يكون به ممتازا من غيره. وإيراد الأمثلة على ذلك يطول فيشغل عن القدر المحتاج إليه في تفسير لفظ الفرقان إلا أن نترك عوالم المادة وقواها ونأتي بمثال من اللغة لأن لفظ الفرقان من مفرداتها فنقول إن العامي يعلم من اللغة أمرا إجماليا وهو أنها ألفاظ يعبر بها الإنسان عما يحتاج إلى بيانه من علمه، ومن العلم التفصيلي فيها ما هو مبين في علم النحو والصرف وفي علوم المعاني والبيان والبديع والوضع والاشتقاق وأصول الفقه- كالعام والخاص والمطلق والمقيد من الأخير مثلا- وأنت ترى أنك بهذا البيان الوجيز لمعنى الفرقان قد اتضح لك من دلالته على العلم الصحيح والحكم الرجيح ما كان خفيا، وفصل منها ما كان مجملا. ولذلك نعده من تفسير اللفظ لا استطرادا أجنبيا، ولا سيلاً أتيًّا، كأكثر الذي يأتيه أكثر المفسرين من مباحث النحو وفنون البلاغة وغيرها.
وكما يكون الفرقان في مسائل العلوم وموادها من طبيعية وعقلية ولغوية، وفي الموجودات التي استنبطت العلوم منها يكون في الأحكام والشرائع والأديان، وفي الحكم بين الناس في المظالم والحقوق وفي الحروب. وقد أطلق الفرقان على أشهر الكتب الإلهية وهي التوراة والإنجيل والقرآن وغلب على القرآن ﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾ [ الفرقان : ١ ] لأن كلام الله تعالى يفرق في العلم والاعتقاد بين الإيمان والكفر والحق والباطل، وفي الأحكام بين العدل والجور، وفي الأعمال بين الصحيح والفاسد والخير والشر. وأطلق هذا اللفظ على يوم بدر كما سيأتي في هذه السورة مع بيان وجهه ومتعلق فصله وتفرقته.
فقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ﴾ معناه إن تتقوا الله في كل ما يجب أن يتقى بمقتضى دينه وشرعه، وبمقتضى سننه في نظام خلقه، يجعل لكم بمقتضى هذه التقوى ملكة من العلم والحكمة تفرقون بها بين الحق والباطل، وتفصلون بين الضار والنافع، وتميزون بين النور والظلمة، وتزيِّلون بين الحجة والشبهة، وقد روي عن بعض مفسري السلف تفسير الفرقان هنا بنور البصيرة الذي يفرق بين الحق والباطل وهو عين ما فصلناه من الفرقان العلمي الحكمي، وعن بعضهم بالنصر يفرق بين المحق والمبطل، بما يعز المؤمن ويذل الكافر، وبالنجاة من الشدائد في الدنيا ومن العذاب في الآخرة. وهذا من الفرقان العملي الذي هو ثمرة العلمي ذكر كل ما رآه مناسبا لحال وقته أو حال من لقنه ذلك، ولم يقصد تحديد المدلول اللغوي، ولا المعنى الكلي الذي هو ثمرة التقوى بأنواعها، وهذا النور في العلم الذي لا يصل إليه طالبه إلا بالتقوى هو الحكمة التي قال الله فيها :﴿ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴾ [ البقرة : ٢٦٩ ] فهو كعهد الله في إمامة الناس بالحق لا ينال الظالمين لأنفسهم بالتقليد لغيرهم لاحتقارهم في جنب إطرائهم لمقلديهم، بل هم لا يطلبونه ولا يقصدون الوصول إليه لأنهم صدقوا بعض الجاهلين في ادعائهم إقفال بابه، وكثافة حجابه، بل أصحابه هم الأئمة المجتهدون في الشرع والدين والواضعون للعلوم التي تنفع الناس، وكان لشيخنا الأستاذ الإمام حظ عظيم منه.
أمر الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه باتقائه وباتقاء النار وباتقاء الشرك والمعاصي وباتقاء الفتن العامة في الدول والأمم، وتقدم في وصايا هذا السياق- وباتقاء الفشل والخذلان في الحرب، وباتقاء ظلم النساء، وبين أن العاقبة في إرث الأرض للمتقين، كما أن الجنة في الآخرة للمتقين، وقال :﴿ ومن يتق الله جعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ [ الطلاق : ٢، ٣ ] ﴿ ومن يتق الله فهو حسبه ﴾ [ الطلاق : ٣ ] ﴿ ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ﴾ [ الطلاق : ٥ ] وأمثال ذلك في التقوى العامة والخاصة وأجرها وعاقبتها كثير، فمعنى التقوى العام اتقاء كل ما يضر الإنسان في نفسه وفي جنسه الإنساني القريب والبعيد وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة والكمال الممكن، ولذلك قال العلماء إنها عبارة عن ترك جميع الذنوب والمعاصي وفعل ما يستطاع من الطاعات.
وزدنا على ذلك اتقاء الأسباب الدنيوية المانعة من الكمال وسعادة الدارين بحسب سنن الله تعالى في الكون كالنصر على الأعداء، وجعل كلمة الله هي العليا في الأرض، كما هي في الواقع ونفس الأمر، وكلمة الذين كفروا السفلى كذلك. وكمال ذلك يتوقف على العلم الواسع بالكتاب والسنة- وكمال هذا يتوقف على معرفة سنن الله تعالى في الإنسان مجتمعا ومنفردا كما أرشد إليه في آيات من كتابه، ومن ثم كانت ثمرة التقوى العامة الكاملة هنا حصول ملكة الفرقان التي يفرق صاحبها بنوره بين الأشياء التي تعرض له من علم وحكم وعمل فيفصل فيها بين ما يجب قبوله وما يجب رفضه، وبين ما ينبغي فعله وما يجب تركه، وتنكير الفرقان للتنويع التابع لأنواع التقوى كالفتن في السياسة والرياسة والحلال والحرام والعدل والظلم، فكل متق لله في شيء يؤته فرقانا فيه. وبذلك كان الخلفاء والحكام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم من خلفاء العرب أعدل حكام الأمم في الأرض حتى في عهد الفتح، قال بعض حكماء الإفرنج : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب، ولكنهم لم يتقوا فتن السياسة والرياسة لقلة اختبارهم فعوقبوا عليها بتفرقهم فضعفهم فزوال ملكهم. وكان من بعدهم من أعاجم المسلمين دونهم لجهلهم بكل نوع من أنواع التقوى الواجبة، وحرمانهم من فرقانهم فهم يزعمون أنهم يجددون مجدهم مع جهل هذا الفرقان المبين، وعدم الاعتصام بالتقوى المزكية للنفس، والمؤهلة لها للإصلاح في الأرض، بل مع انغماسهم في السكر والفواحش لظنهم أن الإفرنج قد ترقوا في دنياهم بفساقهم وفجارهم، وإنما ترقوا بحكمائهم وأبرارهم، الذين وقفوا حياتهم على العلم والعمل النافع.
﴿ ويكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم ﴾ هذا عطف على ﴿ يجعل لكم فرقانا ﴾ أي ويمحو بسبب هذا الفرقان وتأثيره ما كان من تدنيس سيئاتكم لأنفسكم فنزول منها داعية العود إليها المؤدي إلى الإصرار المهلك ويغفرها لكم بسترها وترك العقاب عليها ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ ومن أعظم فضله أن جعل هذا الجزاء العظيم بقسميه السلبي والإيجابي جزاء للتقوى وأثرا لها.
﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ٣٠ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ٣١ ﴾
هاتان الآيتان وما بعدهما تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان من حاله وحال قومه معه في مكة كما سبقت الإشارة إلى ذلك وقد حسن هذا التذكير بذلك في أول العهد بنصره تعالى له على أولئك الجاحدين المعاندين، الفاتنين المفتونين، الصادين عن سبيل الله تعالى وعن اتباع رسوله بالقوة القاهرة.
قال عز وجل :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ أي واذكر أيها الرسول في نفسك، ما نقصه في الكتاب على المؤمنين والكافرين في عهدك ومن بعدك، لأنه حجة لك على صدق دعوتك، ووعد ربك بنصرك- اذكر ذلك الزمن القريب الذي يمكر بك فيه الذين كفروا من قومك في وطنك، بما يدبرون فيما بينهم بالسر من وسائل الإيقاع بك ﴿ ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾ فأما الإثبات فالمراد به الشد بالوثاق والإرهاق بالقيد والحبس المانع من لقاء الناس ودعوتهم إلى الإسلام، وأما القتل فالمكر فيه طريقته وصفته الممكنة التي لا يكون ضررها فيهم عظيما وهو ما بينته الرواية الآتية عنهم، وأما الإخراج فهو النفي من الوطن، وقد روى كبار مصنفي التفسير المأثور أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر به قومك ؟ قال :( يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني ) قال : من حدثك بهذا ؟ قال :( ربي ) قال : نعم الرب ربك فاستوص به خيرا، قال :( أنا أستوصي به ؟ بل هو يستوصي بي ) فنزلت ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ ولهذا قال ابن جريج : إن الآية مكية. وهو قول ضعيف كما تقدم في الكلام على نزول السورة في أول تفسيرها والصحيح أن التشاور في الأمور الثلاثة بدار الندوة كان عقب موت أبي طالب وخديجة رضي الله عنها وكان الخروج للهجرة في الليلة التي أجمعوا فيها أمرهم على قتله صلى الله عليه وسلم كما يأتي بيانه، ويجوز أن يكونوا قد تحدثوا به قبل إجماعه وإرادة الشروع فيه الذي وقع بعد موت أبي طالب فبلغه النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
وأما قوله تعالى :﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ فهو بيان لحالتهم العامة الدائمة في معاملته صلى الله عليه وسلم هو ومن اتبعه من المؤمنين بعد التذكير بشر ما كان منها في مكة ولذلك لم يقل " ويمكرون بك " أي وهكذا دأبهم معك ومع من اتبعك من المؤمنين يمكرون بكم ويمكر الله لك بهم كما فعل من قبل إذ أحبط مكرهم، وأخرج رسوله من بينهم، إلى حيث مهد له في دار الهجرة، ووطن السلطان والقوة، والله خير الماكرين لأن مكره نصر للحق وإعزاز لأهله، وخذل للباطل وإذلال لأهله، وإقامة للسنن، وإتمام للحكم، وقد بينا حقيقة المكر في اللغة في تفسير قوله تعالى :﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ] وفي تفسير ﴿ أفأمنوا مكر الله ﴾ ﴿ الأعراف : ٩٩ ﴾ الآية وخلاصته أن المكر هو التدبير الخفي لإيصال المكروه إلى الممكور به من حيث لا يحتسب، ووقاية الممكور له من المكروه كذلك، والغالب في عادات البشر أن يكون المكر فيما يسوء ويذم من الكذب والحيل ولذلك تأول المفسرون ما أسند إلى الله تعالى منه فقالوا في مثل هاتين الآيتين- آية الأنفال وآية آل عمران- أنه أسند إلى الله تعالى من باب المشاكلة بتسمية تخييب سعيهم في مكرهم أو مجازاتهم عليه باسمه، والحق أن المكر منه الخير والشر والحسن والسيئ- كما قال تعالى :﴿ استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ﴾ [ فاطر : ٤٣ ] ومن دعاء المرفوع ( وامكر لي ولا تمكر علي ) ١ رواه أبو داود ويراجع تفسير آية آل عمران من الجزء الثالث وتفسير آية الأعراف من الجزء التاسع.
وأما قصة مكرهم الذي ترتب عليه هجرة المصطفى وظهور الإسلام وخذلان الشرك ففيها روايات أوفاها رواية ابن إسحاق في سيرته وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في تفاسيرهم وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس رضي الله عنه بألفاظ متقاربة ننقل ما أورد السيوطي في الدر المنثور منها عنه قال :
إن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة واعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا من أنت ؟ قال شيخ من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح، قالوا أجل فادخل فدخل معهم فقال انظروا في شأن هذا الرجل فوالله ليوشكن أن يؤاتيكم في أمركم بأمره فقال قائل احبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء : زهير ونابغة فإنما هو كأحدهم فقال عدو الله الشيخ النجدي : لا والله ما هذا لكم برأي والله ليخرجن رائد من محبسه لأصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ثم يمنعوه منكم فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم فانظروا في غير هذا الرأي.
فقال قائل : فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وأين وقع وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي : لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجتمعن إليه ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا صدق والله فانظروا رأيا غير هذا فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي لا أرى غيره قالوا ما هذا ؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاما وسطا شابا نهدا ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه به ضربة رجل واحد فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل كلها فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم وأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه فقال الشيخ النجدي : هذا والله هو الرأي القول ما قال الفتى لا أرى غيره.
وتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له، فأتي جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك في الخروج وأمرهم بالهجرة وافترض عليهم القتال فأنزل الله ﴿ أذن للذين يقاتلون ﴾ [ الحج : ٣٩ ] فكانت هاتان الآيتان أول ما أنزل في الحرب وأنزل بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ الآية ١ه. وسائر خبر الهجرة معروف.
١ أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢٥، والترمذي في الدعاء باب ١٠٢، وابن ماجه في الدعاء باب ٢، وأحمد في المسند ١/٢٢٧..
﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ٣٠ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ٣١ ﴾
هاتان الآيتان وما بعدهما تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان من حاله وحال قومه معه في مكة كما سبقت الإشارة إلى ذلك وقد حسن هذا التذكير بذلك في أول العهد بنصره تعالى له على أولئك الجاحدين المعاندين، الفاتنين المفتونين، الصادين عن سبيل الله تعالى وعن اتباع رسوله بالقوة القاهرة.
ثم ذكر تعالى مكابرة من مكابرات هؤلاء المشركين المعاندين الماكرين قالها بعضهم فأعجبت أمثاله منهم فرددوها فعزيت إليهم على الإطلاق وهي :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا ﴾ المنزلة في القرآن، الذي يعجز عن مثله الثقلان، فيما أودع من علم وحكمة وتشريع وقصص وبيان، وما له من التأثير في نفس كل إنسان، بقدر ما أوتي من بلاغة وعقل وقلب ووجدان ﴿ قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ﴾ نقل هذا القول جمهور رواة التفسير المأثور عن النضر بن الحارث من بني عبد الدار وعلل هذه الدعوى الكاذبة بما هو أكذب منها وهو قوله :﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ أي قصصهم وأحاديثهم التي سطرت في الكتب على علاتها وما هو بوحي من عند الله تعالى. قال المبرد في أساطير : هي جمع أسطورة كأرجوحة وأراجيح وأثفية وأثافي وأحدوثة وأحاديث، وفي القاموس : الأساطير الأحاديث لا نظام لها جمع أسطار وأسطير وأسطور وبالهاء في الكل. وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر اه.
قال المفسرون وكان النضر هذا يختلف إلى أرض فارس فيسمع أخبارهم عن رستم وأسفنديار وكبار العجم ويمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل، كأنهم يعنون أن أخبار القرآن عن الرسل وأقوامهم اشتبهت عليه بقصص أولئك الأمم فقال إنه يستطيع أن يأتي بمثلها، فما هي من خبر الغيب الدال على أنه وحي من الله. ولعله أول من قال هذه الكلمة فقلده فيها غيره، ولم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلفة، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي افتراها، فإنهم لم يكونوا يتهمونه بالكذب كما نقل عن كبار طواغيتهم ومنهم النضر بن الحارث، وقد قال تعالى في ذلك :﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ] بل كانوا يوهمون عامة العرب أنه اكتتبها وجمعها كما في آية الفرقان :﴿ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا ﴾ [ الفرقان : ٥ ] أي ليحفظها ولم يكن كبراء مجرمي قريش ولا أهل مكة يعتقدون هذا أيضا فإنهم كلهم كانوا يعلمون أنه أمي لم يتعلم شيئا، بل تشاوروا في شيء يقولونه ليصدوا به العرب عن القرآن فكان هذا القول منه، وقد كذبهم الله تعالى فيه فما استطاعوا له إثباتا، وكان النضر بن الحارث من أشدهم كفرا وعنادا، وحرصا على صد الناس عن القرآن، وقد روي عنه أنه هو الذي نزل فيه قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ﴾ [ لقمان : ٦ ] إذ اشترى قينة جميلة كانت تغني الناس بأخبار الأمم وغير ذلك لصرفهم عن سماع القرآن إليها، وهو الذي نزلت فيه الآية التي بعد هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها وهي الدالة على منتهى الجحود والعناد على قول بعض الرواة.
وهذا القول الذي قاله النضر لا يدل على أنه كان يرى من نفسه القدرة على معارضة القرآن في أسلوبه أو بلاغته وتأثيره، وهو من بلغاء قريش إذ لو قدر لفعل، لأنه كان من أحرصهم على تكذيبه، بل هو طعن في أخبار القرآن عن الرسل لتشكيك العرب فيه وصرفها عنها، وقد حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا " افتراه " وقد يكون بعضهم اعتقد ذلك إذا كان نفي الله لتكذيبهم إياه خاصا ببعضهم كالوليد بن المغيرة الذي قال لأبي جهل والأخنس وغيرهما حين دعوه لتكذيبه إن محمدا لم يكن يكذب على أحد من الناس أفيكذب على الله ؟ وقد شمل التحدي بالقرآن هؤلاء المفترين عن اعتقاد أو غير اعتقاد إذ قال في سورة يونس :﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ [ يونس : ٣٨ ] أي بسورة مثله مفتراة كما صرح بالوصف في سورة هود فقال :﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سورة مثله مفتريات ﴾ [ هود : ١٣ ] الخ، وبيّنا الفرق بين هاتين الآيتين وآية سورة البقرة في التحدي عند تفسير هذه الأخيرة ( راجع ص ١٩٣ و١٩٣ من الجزء الأول تفسير ).
ولقد كان زعماء طواغيت قريش كالنضر بن الحارث هذا وأبي جهل والوليد بن المغيرة يتواصون بالإعراض عن سماع القرآن كما يمنعون الناس منه ثم يختلفون أفرادا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلا يستمعون إليه ويعجبون منه ومن تأثيره وسلطانه على العقول والقلوب وكان يلتقي بعضهم ببعض أحيانا فيتلاومون ويؤكد بعضهم لبعض القول بعدم العود إلى ذلك، ومما كان من تأثير استماعهم أن قال الوليد بن المغيرة فيه كلمته المشهورة في وصفه، ومنها أنه يعلو ولا يعلى وأنه يحطم ما تحته. فخافوا أن تسمعها العرب فما زالوا يلحون عليه في قول كلمة منفرة تؤثر عنه حتى إذا ما أقنعوه بوجوب ذلك أطال التفكير والتقدير والنظر والتأمل والعبوس والتقطيب حتى اهتدى إلى الكلمة المأثورة عن جميع مكذبي الأنبياء في تسمية آياتهم سحرا فقال : سحر يؤثر- وقد تقدم بأن هذا في بحث الإعجاز من تفسير آية البقرة في التحدي.
﴿ وإذ قالوا اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ٣٢ وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون ٣٣ وما لهم ألا يعذبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ٣٤ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ٣٥ ﴾
بعد أن بيّن تعالى مكر قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم بين ما يدل على أن سببه الجحود والعناد فقال :
﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ في صحيح البخاري أن قائل هذا أبو جهل. قال الحافظ في شرحه من الفتح الظاهر أنه أبو جهل وإن كان هذا القول نسب إلى جماعة فلعله بدأ به ورضي الباقون فنسب إليهم، وقد روى الطبراني من طريق ابن عباس أن قائل ذلك هو النضر بن الحارث قال فأنزل الله :﴿ سأل سائل بعذاب واقع ﴾ [ المعارج : ١ ] وكذا قال مجاهد وعطاء والسدي ولا ينافي ذلك ما في الصحيح لاحتمال أن يكونا قالاه ولكن نسبته إلى أبي جهل أولى، وعن قتادة قال : قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها. اه وقال القسطلاني في شرحه له : وروي أن النضر بن الحارث لعنه الله لما قال :﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ قال النبي صلى الله عليه وسلم :( ويلك إنه كلام الله ) فقال هو وأبو جهل ﴿ اللهم إن كان هذا ﴾ الخ وإسناده إلى الجمع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم اه.
والمعنى اللهم إن كان هذا القرآن وما يدعو إليه هو الحق منزلا من عندك ليدين به عبادك كما يدعي محمد صلى الله عليه وسلم فافعل بنا كذا وكذا- أي أنهم لا يتبعونه وإن كان هو الحق المنزل من عند الله لأنه نزل على محمد بن عبد الله الذي يلقبونه بابن أبي كبشة بل يفضلون الهلاك بحجارة يرجمون بها من السماء أو بعذاب أليم آخر يأخذهم على اتباعه، ومن هذا الدعاء علم أن كفرهم عناد وكبرياء وعتو وعلو في الأرض لا لأن ما يدعوهم إليه باطل أو قبيح أو ضار، روي أن معاوية قال لرجل من سبأ ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ؟ فقال أجهل من قومي قومك حين قالوا :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ ولم يقولوا فاهدنا له اه. وما يحكيه القرآن من أقوال المشركين وغيرهم قد يكون بالمعنى دون نص اللفظ كما هو المعتاد بين الناس، وقد يكون نظمه مع أدائه للمعنى بدون إخلال مما يعجز المحكي عنهم عن مثله، وقد يتعين هذا في الكلام الطويل الذي يتحقق بمثله الإعجاز. قال تعالى ردا عليهم :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾
﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ أي وما كان من شأن الله تعالى وسنته، ولا من مقتضى رحمته ولا حكمته، أن يعذبهم وأنت أيها الرسول فيهم وهو إنما أرسلك رحمة للعالمين ونعمة، لا عذابا ونقمة، بل لم يكن من سنته أيضا أن يعذب أمثالهم من مكذبي الرسل وهم فيهم بل كان يخرجهم منهم أولا كما قال ابن عباس ﴿ وما كان الله ليعذبهم ﴾ هذا النوع من العذاب السماوي الذي عذب بمثله الأمم فاستأصلهم أو مطلقا ﴿ وهم يستغفرون ﴾ أي في حال هم يتلبسون فيها باستغفاره تعالى بالاستمرار، روى الشيخان من حديث أنس قال أبو جهل :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق ﴾ –الآية- فنزلت :﴿ وما كان الله ليعذبهم ﴾ إلى قوله :﴿ وما لهم أن لا يعذبهم الله ﴾ الآية.
قال الحافظ في شرح الحديث من الفتح : روى ابن جرير من طريق زيد بن رومان أنهم قالوا ذلك ثم لما أمسوا ندموا فقالوا غفرانك اللهم فأنزل الله :﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾، وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن معنى قوله :﴿ وهم يستغفرون ﴾ أي من سبق له من الله أنه يؤمن وقيل المراد من كان بين أظهرهم حينئذ من المؤمنين، قال الضحاك وأبو مالك ويؤيده ما أخرجه الطبري من طريق ابن أبزى قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ ثم خرج إلى المدينة فأنزل الله ﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ وكان من بقي من المسلمين بمكة يستغفرون، فلما خرجوا أنزل الله :﴿ وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ﴾ الآية. فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم الله تعالى.
وروى الترمذي من حديث أبي موسى رفعه قال ( أنزل الله على أمتي أمانين ) فذكر هذه الآية قال :( فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار ) وهو يقوي القول الأول والحمل عليه أولى وإن العذاب حل بهم لما تركوا الندم على ما وقع منهم وبالغوا في معاندة المسلمين ومحاربتهم وصدهم عن المسجد الحرام والله أعلم اه. ما أورده الحافظ، ويرد عليه أن الله عذبهم بالقحط لما دعا به عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحاح حتى أكلوا الميتة والعظام ولم يرتفع إلا بدعائه صلى الله عليه وسلم ولا يندفع إلا بتفسير العذاب الممتنع مع وجود الرسول والاستغفار بعذاب الاستئصال. ويؤيده أن ما عذب الله به قوم فرعون كان مع وجود موسى عليه السلام فيهم كما تقدم في سورة الأعراف والآيات نزلت مع السورة بالمدينة.
وأما قوله تعالى :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ﴾ أي وماذا ثبت لهم مما يمنع تعذيبهم بما دون عذاب الاستئصال عند زوال المانعين منه بعد والحال أنهم يمنعون المسلمين من دخول المسجد الحرام ولو للنسك، قيل المراد به صدهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية سنة ست والآية نزلت عقب غزوة بدر سنة اثنتين والمنع كان واقعا منذ الهجرة، ما كان يقدر مسلم أن يدخل المسجد الحرام فإن دخل مكة عذبوه إذا لم يكن فيها من يجيره. والمراد بالعذاب هنا عذاب بدر إذ قتل صناديدهم ورؤوس الكفر فيهم ومنهم أبو جهل وأسر سراتهم لا فتح مكة كما قال الحافظ- بل لم تكن الهجرة نفسها إلا بصد المؤمنين عنه فقد كانوا يؤذون من طاف أو صلّى فيه منهم إذا لم يكن له منهم أو من غيرهم من الأقوياء من يمنعه ويحميه، وقد وضعوا على ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم فرث الجزور وهو ساجد فلم يتجرأ أحد على رميه عنه إلا ابنته فاطمة عليها السلام- ومنعوا أبا بكر من الصلاة وقراءة القرآن فيه فبنى لنفسه مسجدا كان يصلّي فيه ويجهر بالقرآن فصدّوه عن الصلاة فيه أيضا لأن النساء والأولاد كانوا يجتمعون لسماع قراءته المؤثرة، فخافوا عليهم أن يهتدوا إلى الإسلام. وقد تقدم خبره في ذلك وإجارة ابن الدغنة له ثم اضطراره إلى رد جواره وهو من حديث الهجرة في البخاري.
﴿ وما كانوا أولياءه ﴾ أي مستحقين الولاية عليه لشركهم ومفاسدهم فيه كطوافهم فيه عراة الأجسام رجالا ونساء، ولما أجاب الله دعاء أبيهم إبراهيم بأن يجعل للناس أئمة من ذريته كما جعله إماما لهم أجابه الله تعالى بأن عهده بالإمامة لا ينال الظالمين، وأي ظلم أعظم شناعة وفسادا من الشرك ؟ ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : ١٣ ] وكانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء١ فقال تعالى :﴿ إن أولياؤه إلا المتقون ﴾ للشرك وسائر الفساد والظلم وهم المسلمون الصادقون وقد وجدوا. وهذا غاية التأكيد. فإنه بعد أن نفى ولاية المشركين عن بيت الله تعالى نفى كل ولاية على الإطلاق واستثنى منها ولاية المتقين من المسلمين وهم عدولهم وخيارهم، لا من لا فضل لهم في أنفسهم، وإنما يدعون حق الولاية بأنسابهم.
وقيل إن الضمير في الموضعين لله تعالى أي ولم لا يعذب الله هؤلاء المشركين بعد انتفاء سبب منع العذاب والحال أنهم ليسوا أولياءه وأنصار دينه الذين لا يعذبهم ؟ وكأن سائلا يسأل : من أولياؤه تعالى إذا ؟ فأجيب بصيغة الحصر بالإثبات بعد النفي : ما أولياؤه إلا المتقون. أي الذين صارت التقوى العامة صفة راسخة فيهم، وتقدم ما يدل عليه هذا الإطلاق فيها من التفصيل في تفسير آية ﴿ إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ﴾ وما هي ببعيد. والقول الأول أقرب في هذا السياق والثاني أخص ويؤيده في حد ذاته قوله تعالى :﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾ [ يونس : ٦٢، ٦٣ ] ويجوز الجمع بينهما.
﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ أنه لا حق لهم في الولاية على هذا البيت ولاسيما بعد ظهور الإسلام ووجود أولياء الله الموحدين الصالحين، وكانوا يدعون هذا الحق بنسبهم الإبراهيمي وقد أبطله الظلم، وبقوتهم في قومهم وإن كانت إلى ضعف، أو لا يعلمون أنهم ليسوا أولياء الله عز وجل، ولا أن أولياءه ليسوا إلا المتقين فهم الآمنون من عذابه، بمقتضى عدله في خلقه، والحقيقون بالولاية على بيته، على ما أعد لهم من الثواب والنعيم بفضله، كما صرحت به آياته في كتابه. وقد أسند هذا الجهل إلى أكثرهم إذ كان فيهم من لا يجهل سوء حالهم في جاهليتهم، وضلالهم في شركهم، وكونه لا يرضي الله تعالى، فإن امتنع رؤساؤهم من الإسلام كبرا وعنادا، فقد كان فيهم من يكتم إيمانه خوفا من الفتنة، ويتربص الفرصة لإظهاره بالاستعداد للهجرة، ومنهم المستعدون له بسلامة الفطرة، وللتفاوت في الاستعداد كان يظهر المرة بعد المرة. والناس يطلقون الحكم في مثل الحال التي كانوا عليها على الجميع ويقولون إن القليل لا حكم له إن وجد فكيف ونحن لا نعلم بوجوده. ولكن الله تعالى لا يخفى عليه شيء، ولا يقول إلا الحق، ومثل هذا الحكم على أكثر الأمم والشعوب أو استثناء القليل منهم بعد إطلاق الحكم عليهم، هو من دقائق القرآن في تحرير الحق، وهو مكرر في مواضع من عدة سور، وسبق تنبيهنا لهذا في تفسير ما تقدم منها.
هذا وإن جماهير المسلمين في أكثر بلادهم صاروا في هذا العصر أجهل من مشركي قريش في ذلك العصر بمعنى ولاية الله وأوليائه- سواء في ذلك ولاية الحكم والسلطان وهي الإمامة العامة، وولاية التقوى والصلاح، وهي الإمامة الشخصية الخاصة، وجهلهم بهذه أعم وأعمق، فالولاية عندهم تشمل المجانين والمجاذيب الذين ترتع الحشرات في أجسادهم النجسة، وثيابهم القذرة، ويسيل اللعاب من أشداقهم الشرهة، وتشمل أصحاب الدجل والخرافات، والدعاوى الباطلة للكرامات، والشرك بالله بدعاء الأموات، ومن أدلتهم عليها ما يتخيلون من رؤى الأنبياء والأقطاب في المنام، وما يزعمون من تلقيهم عنهم ما تنبذه شريعة المصطفى عليه السلام، حتى صار ما هم عليه دين شرك منافيا لدين الإسلام، فعليك بمطالعة كتاب ( الفرقان بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان )، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومن أولى منه بمثل هذا الفرقان ؟
١ من العبر أن بعض شرفاء مكة الذين كانوا يتولون الحكم فيها إلى عهد قريب قال هذا القول الشركي الجاهلي بعينه في الإسكندرية معبرا عن عقيدة أهل بيته بمناسبة ذكر ما كان من منعهم لأهل نجد من أداء فريضة الحج، ونقل قوله مراسل بعض جرائد القاهرة من الإسكندرية في حديث له معه، فكان انتزاع الله منهم الولاية على البيت بأيدي من كانوا يصدونهم عنه وهم أهل نجد كما سبق النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين مع طغاة قريش الأولين. وقد آن للمتعالين بالأنساب أن يفقهوا أن غرورهم بها مخالف للقرآن والوجدان والجنان وطبع هذا الزمان (المؤلف)..
ثم عطف على الحكم عليهم ما هو حجة على صحته وهو بيان حالهم في أفضل ما بني البيت لأجله وهو الصلاة، إذ كان سوء حالهم في الطواف عراة معروفا لا يجهله أحد، أو في العبادة الجامعة للطواف والصلاة فقال :﴿ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ﴾. من المعلوم أن البيت إذا أطلق معرفا انصرف عندهم إلى بيت الله المعروف بالكعبة والبيت الحرام، على القاعدة اللغوية في انصراف مثله إلى الأكمل في جنسه كالنجم للثريا وهي أعظم النجوم هداية. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق. وقال المكاء الصفير والتصدية التصفيق، وقال كان أحدهم يضع يده على الأخرى، ويصفر، وروي عنه أن الرجال والنساء منهم كانوا يطوفون عراة مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وروى الطستي فيما روى من أسئلة نافع بن الأزرق له أنه قال له أخبرني عن قوله عز وجل ﴿ إلا مكاء وتصدية ﴾ قال المكاء صوت القنبرة والتصدية صوت العصافير وهو التصفيق وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة وهو بمكة كان يصلي بين الحجر ( الأسود ) والركن اليماني ( يعني أنه يتوجه إلى الشمال ليجمع بين الكعبة وبيت المقدس في الاستقبال ) فيجيء رجلان من بني سهم يقوم أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ويصيح أحدهما كما يصيح المُكّاء والآخر يصفق بيديه تصدية العصافير ليفسدا عليه صلاته، قال ( نافع ) وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال نعم أما سمعت حسان بن ثابت يقول :
تقوم إلى الصلاة إذا دعينا وهمتك التصدي والمكاء
وفي بعض كتب اللغة أن المكاء طائر أبيض، وعن سعيد بن جبير : كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون ويصفرون فنزلت ﴿ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ﴾ وقال الراغب : مكا الطير يمكو مكاء : صفر. وذكر أن المكاء في الآية جار مجرى مكاء الطير في قلة الغناء. قال والمكاء ( بالضم والتشديد ) طائر، ومكت أسته صوتت اه ويحتمل أن هذه الفعلة القبيحة كانت تقع منهم عمدا أيضا فذكر اللفظ المشترك ليدل عليها ولم يذكر اللفظ الذي وضع لها وحدها نزاهة، وقال في التصدية : كل صوت يجري مجرى الصدى في أن لا غناء فيه اه وجملة القول أن صلاتهم وطوافهم كان من قبيل اللهو واللعب سواء عارضوا بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في طوافه وخشوع صلاته وحسن تلاوته أم لا.
قال تعالى :﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ فسر الضحاك العذاب هنا بما كان من قتل المؤمنين لبعض كبرائهم وأسرهم لآخرين منهم يوم بدر أي وانهزام الباقين مكسورين مدحورين. وفيه إشارة إلى قولهم ﴿ أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ كأنه يقول : فذوقوا العذاب الذي طلبتموه، وما كان لكم أن تستعجلوه.
﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ٣٦ ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ٣٧ ﴾
نزل هذا في استعداد قريش لغزو بدر وما سيكون من استعدادهم لغيرها بعدها. ويشمل اللفظ بعمومه ما سيكون مثل ذلك من الكافرين في كل زمن. ذكر رواة التفسير عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم أن هذه الآية الأولى نزلت في أبي سفيان وما كان من إنفاقه على المشركين في بدر ومن إعانته على ذلك في غزوة أحد وغيرها. ففي بعض الروايات أنه لما نجا بالعير بطريق البحر إلى مكة مشى ومعه نفر من المشركين يستنفرون الناس للقتال فجاءوا كل من كان لهم تجارة فقالوا يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا ندرك منه ثأرا- ففعلوا. وقال سعيد بن جبير إنه استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب. وفيهم قال كعب بن مالك :
وجئنا إلى موج من البحر وسطه*** أحابيش منهم حاسر ومقنعُ١
ثلاثة آلاف ونحن عصابة*** ثلاث مئين إن كثرنا فأربعُ
وقال الحكم بن عتيبة في الآية : نزلت في أبي سفيان أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية من ذهب وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا، هذا على ما كان معروفا من بخل أبي سفيان كما قالت زوجته يوم المبايعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله ﴾ أي عن الإسلام واتباع خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام ﴿ فسينفقونها ﴾ في سبيل الشيطان صدا وفتنة وقتالا ﴿ ثم تكون عليهم حسرة ﴾ وندما وأسفا، لذهابها سدى، وخسرانها عبثا، إذ لا يطيعهم ممن أراد الله هدايتهم أحد ﴿ ثم يغلبون ﴾ المرة بعد المرة، وينكسرون الكرة بعد الكرة ﴿ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ﴾ أي يساقون يوم القيامة إليها دون غيرها كما أفاده تقديم الظرف على متعلقه. هذا إذا أصروا على كفرهم حتى ماتوا عليه، فيكون لهم شقاء الدارين وعذابهما. ومن العبرة في هذا للمؤمنين أنهم أولى من الكفار ببذل أموالهم وأنفسهم في سبيل الله لأن لهم بها من حيث جملتهم سعادة الدارين، ومن حيث أفرادهم الفوز بإحدى الحسنيين هكذا كان في كل زمان قام المسلمون فيه بحقوق الإسلام والإيمان، وهكذا سيكون، إذا عادوا إلى ما كان عليه سلفهم الصالحون. والكفار في هذا الزمان ينفقون القناطير المقنطرة من الأموال للصد عن الإسلام، وفتنة الضعفاء من العوام، بجهاد سلمي، أعم من الجهاد الحربي، وهو الدعوة إلى أديانهم، والتوسل إلى نشرها بتعليم أولاد المسلمين في مدارسهم، ومعالجة رجالهم ونسائهم في مستشفياتهم. والمسلمون مواتون، يرسلون أولادهم إليهم ولا يبالون ما يعملون ﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ﴾ [ المائدة : ٥٨ ].
١ يروى البيتان:
وجئنا إلى موج من البحر زاخر أحابيش فهم حاسرٌ ومقنعُ
ثـلاثــة آلاف ونـحـن نـصـيّـة ثلاث مئين إن كثرنا وأربعُ
والبيتان من الطويل، والبيت الأول لعبد الله بن رواحة في مقاييس اللغة ٢/١٢٩، وليس في ديوانه، ولكعب بن مالك في ديوانه ص ٢٢٥، وأساس البلاغة (حبش)، وبلا نسبة في مجمل اللغة ٢/١٣١، والبيت الثاني لكعب بن مالك في ديوانه ص ٢٢٥، ولسان العرب (نصا)، وطبقات فحول الشعراء ص ٢٢٠، وتاج العروس (نصي)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٩٠٠..

﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ﴾ يعني أن الله تعالى كتب النصر والغلب والفوز لعباده المؤمنين المتقين، والخذلان والحسرة لمن يعاديهم ويقاتلهم من الكافرين للصدّ عن سبيل الله الذي استقاموا عليه، وجعل هذا جزاء كل من الفريقين ما داما على حالهما، فإذا غيرا ما بأنفسهما غيّر الله ما بهما. جعل هذا جزاءهما في الدنيا وجعل جهنم مأوى للكفار وحدهم في الآخرة، لأجل أن يميز الكفر من الإيمان، والحق والعدل من الجور والطغيان، فلن يجتمع في حكمه سبحانه الضدان، ولا يستوي في جزائه النقيضان ﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب ﴾ [ المائدة : ١٠٠ ] فالخبيث والطيب في حكم العقلاء والفضلاء، كالخبيث والطيب الحسيين في حكم سليمي الحواس ولاسيما الشمّ. وقد سبق لنا تحقيق هذا المعنى في تفسير هذه الآية من سورة المائدة وفي تفسير ﴿ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ].
قرأ حمزة والكسائي ( يميز ) بالتشديد من التمييز وقرأها الجمهور بالتخفيف. والمراد بالميز والتمييز ما كان بالفعل والجزاء كما قلنا لا بالعلم فهو بكل شيء عليم، وهذا التمييز الإلهي بين الأمرين في الاجتماع البشري يوافق ما يسمى في عرف هذا العصر بسنة الانتخاب الطبيعي وبقاء أمثل الأمرين المتقابلين وأصلحهما. وسنن الله في الدنيا والآخرة واحدة كما قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى وإن جهل ذلك الخبيثون المتكلون على الشفاعات والمغترون بالألقاب الدينية. من كل ملة وأمة. فالخبيث في الدنيا خبيث في الآخرة لا ينفعه شيء، ولذلك قال :
﴿ ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا ﴾ أي ويجعل سبحانه الخبيث بعضه منضما متراكبا على بعض بحسب سنته تعالى في اجتماع المتشاكلات، وانضمام المتناسبات، وائتلاف المتعارفات، واختلاف المتناكرات، يقال ركمه إذا جمع بعضه إلى بعض ومنه ﴿ سحاب مركوم ﴾ [ الطور : ٤٤ ] ﴿ فيجعله في جهنم ﴾ يجعل أصحابه فيها يوم القيامة ﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ التامو الخسران وحدهم، لأنهم خسروا أموالهم وأنفسهم.
جاء مصر القاهرة من عهد قريب صاحب صحيفة سورية دورية من دعاة الإلحاد المتفرنجين، فأقام فيها أياما قلائل استحكمت فيها له مودة أشهر ملاحدة مصر ودعاة الزندقة والإباحة فيها، فعاد ينوّه بهم، وينشر دعايتهم، ويزعم أنهم دعامة الترقي والعمران، بالدعاية إلى تجديد ثقافة لمصر تخلف ما كان لها من ثقافة العرب والإسلام، والحق أن هؤلاء كلهم هدامون للعقائد والفضائل وجميع مقومات الأمة ومشخصاتها، وليسوا بأهل لبناء شيء لها، إلا إذا سميت الزندقة وإباحة الأعراض وتمهيد السبيل لاستعباد الأجانب لأمتهم بناء مجد لها. وقد ذكرني ذلك رجلا من قرية صالحة مر به رجل من معارفه كان في إحدى المدن فطفق يسأله عن المساجد ومدارس العلم فيها وعن الصالحين من أهلها. فأجابه الرجل : أعن هذا تسأل مثلي ؟ سلني عن أهل الحانات والمواخير، فإنني بها وبهم عليم خبير ﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ﴾ [ الأنعام : ١٢٩ ].
﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنّة الأولين ٣٨ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ٣٩ وإن تولّوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النّصير ٤٠ ﴾
لما بين الله تعالى حال الكفار الذين يصرون على كفرهم وصدهم عن سبيل الله وقتال رسوله والمؤمنين وما لهم في الدنيا والآخرة قفى عليه ببيان حكم الذين يرجعون عنه ويدخلون في الإسلام، لأن الأنفس صارت تتشوق إلى هذا البيان، وتتساءل عنه بلسان الحال أو المقال، وهو ﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء الكفار أي لأجلهم وفي شأنهم فاللام للتبليغ : إن ينتهوا عما هم عليه من عداوتك وعنادك بالصد عن سبيل الله والقتال لأوليائه المؤمنين بالدخول في الإسلام ﴿ يغفر لهم ما قد سلف ﴾ منهم من ذلك ومن غيره من الذنوب، يغفر الله لهم ذلك في الآخرة فلا يعاقبهم على شيء منه، ويغفر لهم الرسول والمؤمنون ما يخصهم من إجرامهم فلا يطالبون قاتلا منهم بدم، ولا سالبا أو غانما بسلب أو غنم، وقرأ ابن مسعود ( إن تنتهوا يغفر لكم ) بالخطاب روى مسلم من حديث عمرو بن العاص قال فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أبسط يدك أبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي قال :( ما لك ) ؟ قلت أردت أن أشترط قال :( تشترط بماذا ) ؟ قلت أن يغفر لي، قال :( أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله )١ ؟ الحديث.
﴿ وإن يعودوا ﴾ إلى العداء والصد والقتال ﴿ فقد مضت سنّة الأولين ﴾ أي تجري عليهم سنته المطردة في أمثالهم من الأولين الذين عادوا الرسل وقاتلوهم، وقال مجاهد : في قريش وغيرها يوم بدر والأمم قبل ذلك، أقول وهي السنة التي عبر عنها بمثل قوله :﴿ إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ﴾ [ المجادلة : ٢٠، ٢١ ] وقوله :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ] فإضافة السنة إلى الأولين لملابستها لهم وجريانها عليهم.
١ أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٩٢..
﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴾ أي وقاتلهم حينئذ أيها الرسول أنت ومن معك من المؤمنين حتى تزول الفتنة في الدين بالتعذيب وضروب الإيذاء لأجل تركه كما فعلوا فيكم عندما كانت لهم القوة والسلطان في مكة حتى أخرجوكم منها لأجل دينكم ثم صاروا يأتون لقتالكم في دار الهجرة، وحتى يكون الدين كله لله لا يستطيع أحد أن يفتن أحدا عن دينه ليكرهه على تركه إلى دين المكره له فيتقلده تقية ونفاقا- ونقول إن المعنى بتعبير هذا العصر : ويكون الدين حرا، أي يكون الناس أحرارا في الدين لا يُكره أحد على تركه إكراها، ولا يؤذى ويعذب لأجله تعذيبا، ويدل على العموم قوله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ].
وسبب نزول هذه الآية أن بعض الأنصار كان لهم أولاد تهوَّدوا وتنصروا منذ الصغر فأرادوا إكراههم على الإسلام فنزلت فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتخييرهم، ولكن المسلمين إنما يقاتلون لحرية دينهم، وإن لم يكرهوا عليه أحدا من دونهم، وما رضي الله ورسوله في معاهدة الحديبية بتلك الشروط الثقيلة التي اشترطها المشركون إلا لما فيها من الصلح المانع من الفتنة في الدين المبيح لاختلاط المؤمنين بالمشركين وإسماعهم القرآن إذ كان هذا إباحة للدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ولرؤية المشركين حال المؤمنين ومشاهدتهم أنها خير من حالهم، ولذلك كثر دخولهم في الإسلام بعدها. وسمى الله هذا الصلح فتحا مبينا. وأما ورود الحديث بقتل المرتد فله وجه آخر من منع العبث بالإسلام كان له سبب سياسي اجتماعي بيناه في موضعه.
هذا هو التفسير المتبادر من اللفظ بحسب اللغة العربية وتاريخ ظهور الإسلام، وروي عن ابن عباس تفسير الفتنة بالشرك قال ابن كثير وكذا قال أبو العالية ومجاهد والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم. أقول وعليه جمهور مؤلفي التفاسير المشهورة من الخلف قالوا وقاتلوهم حتى لا يبقى شرك وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام ولذلك قال بعضهم : لم يجئ تأويل هذه الآية بعد وسيتحقق مضمونها إذا ظهر المهدي فإنه لا يبقى على ظهر الأرض مشرك أصلا على ما روي عن أبي عبد الله رضي الله عنه كتب هذا الألوسي وهولا يصح أصلا ولا فرعا، ويؤيد الأول ما روى البخاري عن عبد الله بن عمر أن رجلا جاءه فقال يا أبا عبد الرحمان ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه ﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ﴾ [ الحجرات : ٩ ] إلى آخر الآية فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه ؟ فقال يا ابن أخي أعيَّر بهذه الآية ولا أقاتل أحب إليّ من أن أعير بهذه الآية التي يقول الله تعالى فيها :﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا ﴾ –إلى آخرها قال فإن الله يقول :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ] قال ابن عمر قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما يقتلونه وإما يوثقونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، الخ فابن عمر رضي الله عنهما يفسر الفتنة في آية الأنفال هذه بما قلنا إنه المتبادر منها ويقول إنها قد زالت بكثرة المسلمين وقوتهم فلا يقدر المشركون على اضطهادهم وتعذيبهم ولو كانت بمعنى الشرك لما قال هذا فإن الشرك لم يكن قد زال من الأرض ولن يزول ﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ﴾ [ هود : ١١٨ ].
وقد ذكر هذه الرواية ابن كثير في تفسير الآية وزاد عليها روايات عنه أخرى بمعناها، منها : أنه جاءه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ قال يمنعني أن الله حرم عليّ دم أخي المسلم. قالا أو لم يقل الله ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴾ ؟ قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله، وفي رواية زيادة : وذهب الشرك. وذكر أيضا أن رجلا أورد الآية على أسامة بن زيد وسعد بن مالك رضي الله عنه فقالا قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله. وهذا وما قبله من رواية ابن مردويه في تفسيره وقال محمد بن إسحاق بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا ( حتى لا تكون فتنة ) حتى لا يفتن مسلم عن دينه.
﴿ فإن انتهوا ﴾ أي فإن انتهوا عن الكفر وعن قتالكم ﴿ فإن الله بما يعملون بصير ﴾ فيجازيهم عليه بحسب علمه. وقرأ يعقوب ( تعملون ) بالتاء الفوقية بالخطاب. وفي سورة البقرة ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ]
﴿ وإن تولّوا ﴾ وأعرضوا عن سماع تبليغكم ولم ينتهوا عن كفرهم وفتنتهم وقتالهم لكم ﴿ فاعلموا أن الله مولاكم ﴾ أي فأيقنوا أن الله تعالى هو ناصركم ومتولي أموركم فلا تبالوا بهم ولا تخافوا فهو ﴿ نعم المولى ونعم النّصير ﴾ هو، فلا يضيع من تولاه ولا يغلب من نصره.
فإن قيل : إن انتصار المسلمين في القرون الأولى كان لأسباب اجتماعية فلما تغيرت هذه الأسباب خانهم النصر حتى فقدوا أكثر ممالكهم، وإننا لنرى الأمم ينتصر بعضها على بعض بالاستعداد المادي من سلاح وعتاد وبالنظام الحربي الذي جهله المسلمون بغرورهم بدينهم واتكالهم على خوارق العادات، وقراءة الأحاديث والدعوات، ولذلك تركه ساسة الترك وأسسوا لأنفسهم حكومة مدنية إلحادية تناهض الإسلام، ويوشك أن يتبعهم ساسة المصريين والأفغان.
قلنا : إن ما ذكره المعترض وهو واقع لا مفروض- حجة على المسلمين المتأخرين لا على الإسلام، فالإسلام يأمر بإعداد القوى المادية، ويضيف إليها القوى المعنوية، ومنها بل أعظمها الإيمان بالله ودعاؤه والاتكال عليه باتفاق العقلاء حتى الماديين منهم، ولم يشرع للناس الاتكال على خوارق العادات، حتى في أيام الرسول المؤيد بالآيات البينات، ولما غلب المسلمون في وقعة أحد لتقصيرهم في الأسباب وتعجبوا من ذلك أنزل الله تعالى :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ] قد وفينا هذا البحث حقه في تفسير هذه الآية وأمثالها من الآيات التي نزلت لتلك الغزوة من سورة آل عمران وسنعود إليه في تفسير آية ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ] وغيرها من هذه السورة قريبا إن شاء الله تعالى.
وما أضعف الترك والمصريين وغيرهم من شعوب المسلمين إلا تركهم لهداية القرآن في مثل هذا وغيره من إقامة العدل والفضائل وسنن الله في الاجتماع التي انتصر بها السلف الصالح، واستبداد حكامهم فيهم، وإنفاق أموال الأمة والدولة فيما حرم الله عليهم من الإسراف في شهواتهم، وقد اتبع الإفرنج تعاليم الإسلام في الاستعداد للحرب وفي غير ذلك من سنن الله في العمران، فرجحت بهم كفة الميزان، وسيتبعونها في الأمور الروحية، بعد أن تبرح بهم التعاليم المادية والبلشفية، ويتفاقم فسادهم في أممهم، حتى تخرّب بيوتهم بأيديهم، من حيث فقد المسلمون الجغرافيون النوعين كليهما من تعاليمه، وقام الجاهلون منهم يحتجون عليه، بما أفسدوا وابتدعوا فيه ونسبوه إليه، وهو حجة عليهم وعلى جميع الخلق.
وأما الأمور الاجتماعية التي مكنت سلف المسلمين من فتح بلاد كسرى وقيصر وغيرهما من الشعوب فهي أكبر حجة للإسلام أيضا، إذ ليست تلك الأمور إلا ما كان أصاب تلك الشعوب من الشرك وفساد العقائد والآداب، ومساوئ الأخلاق والعادات، من فشو الفواحش والمنكرات، وسلطان البدع والخرافات، التي جاء الإسلام لإزالتها، واستبدل التوحيد والفضائل بها، ولهذا وحده نصرهم الله على الأمم كلها، إذ لا خلاف بين أهل العلم والتاريخ في أن العرب كانوا دون تلك الشعوب كلها في الاستعداد الحربي المادي، فلم يبق لهم ما يمتازون به إلا إصلاح الإسلام المعنوي. ولما أضاع جماهير المسلمين هذه العقائد والفضائل، واتبعوا سنن تلك الأمم من البدع والرذائل- وهو ما حذرهم الإسلام منه- ثم قصروا في الاستعداد المادي للنصر في الحرب ففقدوا النوعين منه، عاد الغلب لغيرهم عليهم.
فنسأله تعالى هداية هذه الأمة، وكشف ما هي فيه من غمة، لتستحق نصره باتباع شرعه، ومراعاة سننه في خلقه، وبتقواه المثمرة للفرقان في العلوم والأحكام والأعمال، فيعود لها ما فقدت من الملك والسلطان اللهم آمين.
تم تفسير الجزء التاسع كتابة وتحريرا بفضل الله وحوله وقوته
في أواخر شهر شعبان سنة ١٣٤٦ ونسأله الإعانة والتوفيق لإتمام ما بعده ولله الحمد والشكر أولا وآخرا.
﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير ( ٤١ ) إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولوتواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ( ٤٢ ) إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور ( ٤٣ ) وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ( ٤٤ ) ﴾
تقدم وجه التناسب بين الآيات من أول السورة إلى هنا، وفي هذه الآية عود إلى وصف غزوة بدر وما فيها من الحكم والعبر والأحكام، وقد بدئ هذا السياق بحكم شرعي يتعلق بالقتال وهو تخميس الغنائم كما بدئت السورة بذكر الأنفال ( الغنائم ) التي اختلفوا فيها وتساءلوا عنها في تلك الغزوة. وبالمناسبة بين الآية هنا وما قبلها مباشرة ظاهر فقد جاء في الآيتين اللتين قبلها الأمر بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة، ووعد الله المؤمنين بالنصر عليهم، وذلك يستتبع أخذ الغنائم منهم، فناسب أن نذكر بعده ما يرضيه سبحانه في قسمة الغنائم. وإننا نذكر أقوال العلماء في الغنيمة وما في معناها أو على مقربة منها كالفيء والنفل والسلب والصفي قبل تفسير الآية لطوله حتى لا يختلط بمدلول الألفاظ فنقول :
الغنم بالضم والمغنم والغنيمة في اللغة ما يصيبه الإنسان ويناله ويظفر به من غير مشقة كذا في القاموس وهو قيد يشير إليه ذوق اللغة أو يشتم منه ما يقاربه ولكنه غير دقيق. فمن المعلوم بالبداهة أنه لا يسمى كل كسب أو ربح أو ظفر بمطلوب غنيمة، كما أن العرب أنفسهم قد سموا ما يؤخذ من الأعداء في الحرب غنيمة وهو لا يخلو من مشقة، فالمتبادر من الاستعمال أن الغنيمة والغنم ما يناله الإنسان ويظفر به من غير مقابل مادي يبذله في سبيله ( كالمال في التجارة مثلا ) ولذلك قالوا إن الغرم ضد الغنم وهو ما يحمله الإنسان من خسر وضرر بغير جناية منه ولا خيانة يكون عقابا عليهما. فإن جاءت الغنيمة بغير عمل ولا سعي مطلقا سميت الغنيمة الباردة. وفي كليات أبي البقاء : الغنم بالضم الغنيمة، وغنمت الشيء أصبته غنيمة ومغنما، والجمع غنائم ومغانم. «والغنم بالغرم » أي مقابل به. وغرمت الدية والدين : أديته. ويتعدى بالتضعيف يقال غرمته وبالألف ( أغرمته ) : جعلته له غارما والغنيمة أعم من النفل. والفيء أعم من الغنيمة، لأنه اسم لكل ما صار للمسلمين من أموال أهل الشرك بعد ما تضع الحرب أوزارها وتصير الدار دار الإسلام وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس. وذهب قوم إلى أن الغنيمة ما أصاب المسلمون منهم عنوة بقتال، والفيء ما كان عن صلح بغير قتال. وقيل النفل إذا اعتبر كونه مظفورا به يقال له غنيمة به يقال له غنيمة. وإذا اعتبر كونه منحة من الله ابتداء من غير وجوب يقال له نفل. وقيل الغنيمة ما حصل مستغنما بتعب كان أو بغير تعب وباستحقاق كان أو بغير استحقاق، وقبل الظفر أو بعده. والنفل ما يحصل للإنسان قبل ( قسمة ) الغنيمة من جملة الغنيمة. وقال بعضهم الغنيمة والجزية ومال الصلح والخراج كله فيء، لأن ذلك كله مما أفاء الله على المؤمنين. وعند الفقهاء كل ما يحل أخذه من أموالهم فهو فيء اه.
والتحقيق أن الغنيمة في الشرع ما أخذه المسلمون من المنقولات في حرب الكفار عنوة. وهذه هي التي يخمس فخمسها لله وللرسول كما سيأتي تفصيله والباقي للغانمين يقسم بينهم. وأما الفيء فهو عند الجمهور ما أخذ من مال الكفار المحاربين بغير قهر الحرب لقوله تعالى :﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ [ الحشر : ٦ ] الآية وهو لصالح جمهور المسلمين، وقيل كالغنيمة.
ويدخل في هذا الباب ( النفل ) بالمعنى الخاص وهو ما يعطيه الإمام لبعض الغزاة بعد القسمة زيادة على سهمه من الغنائم لمصلحة استحقه بها قيل يكون من خمس الخمس ( والسلب ) وهو ما يسلب من المقتول في المعركة من سلاح وثياب وخصه الشافعي بأداة الحرب يعطى للقاتل قيل مطلقا وقيل إذا جعل الإمام له ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من قتل قتيلا فله سلبه )١ رواه الشيخان وغيرهما عن أبي قتادة رضي الله عنه و( الصفي ) وكان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يصطفي لنفسه شيئا من الغنيمة يكون سهما له خاصا به سواء كان من السبي أو الخيل أو الأسلحة أو غيرها من النفائس، قال بعضهم كان ذلك خاصا به صلى الله عليه وسلم وقال آخرون بل ذلك للإمام من بعده من حيث إنه إمام.
تفسير الآية
﴿ واعلموا أنما ماغنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ هذا عطف على الأمر بالقتال وما يتعلق به في الآيتين اللتين قبل هذه الآية كما تقدم آنفا وأن ما رسمت في مصحف الإمام موصولة هكذا «أنما » والجمهور على أن هذه الآية نزلت في غزوة بدر وعلى أن ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها ولكن أهل السير اختلفوا فيها فزعم بعضهم أنها شرعت يوم قريظة وبعضهم أنها لم تبين بالصراحة إلا في غنائم حنين وقال ابن إسحاق في سرية عبد الله بن جحش التي كانت في رجب قبل بدر بشهرين. قال ذكر لي بعض آل جحش أن عبد الله قال لأصحابه : إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله الخمس فعزل له الخمس وقسم سائر الغنيمة بين أصحابه قال : فوقع رضا الله بذلك. وقال السبكي نزلت الأنفال في بدر وغنائمها والذي يظهر أن آية قسمة الغنيمة نزلت بعد تفرقة الغنائم لأن أهل السير نقلوا أنه صلى الله عليه وسلم قسمها على السواء وأعطاها لمن شهد الوقعة أو غاب لعذر تكرما منه لأن الغنيمة كانت أولا بنص أول سورة الأنفال للنبي صلى الله عليه وسلم قال : ولكن يعكر على ما قال أهل السير حديث علي حيث قال : وأعطاني شارفا من الخمس يومئذ : فإنه ظاهر في أنه كان فيها خمس اه.
والمراد بحديث علي ما أخرجه البخاري في أول كتاب فرض الخمس وغيره عنه قال : كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس٢الخ قال الحافظ في شرحه من الفتح عقب نقل عبارة السبكي : ويحتمل أن تكون قسمة غنائم بدر وقعت على السواء بعد أن أخرج الخمس للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى ما تقدم من قصة سرية عبد الله بن جحش وأفادت آية الأنفال وهي قوله تعالى :﴿ واعلموا أن ما غنمتم ﴾ إلى آخر بيان مصرف الخمس لا مشروعية أصل الخمس والله أعلم.
ثم قال الحافظ في شرح حديث حل الغنائم لنا دون من قبلنا : وكان ابتداء ذلك من غزوة بدر وفيها نزل قوله تعالى :﴿ فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ﴾ [ الأنفال : ٦٩ ] فأحل الله لهم الغنيمة وقد ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن عباس. وقد قدمت في أوائل فرض الخمس أن أول غنيمة خمست غنيمة السرية التي خرج فيها عبد الله بن جحش وذلك قبل بدر بشهرين ويمكن الجمع بما ذكر ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم أخر غنيمة تلك السرية حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم بدر اه. وقال الواقدي كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهرين وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة. وإنما يصح هذا القول إذا أريد به أن أول غنيمة غنمت بعد نزول هذه الآية هي غنيمة الغزوة المذكورة بناء على أن الآية نزلت في جملة السورة في غزوة بدر بعد انقضاء القتال كما تقدم، والصواب ما حققه الحافظ ابن حجر وذكرناه آنفا.
وقال في فتح البيان : وأما معنى الغنيمة في الشرع فحكى القرطبي الاتفاق أن المراد بقوله :﴿ أن ما غنمتم من شيء ﴾ مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر وقال ولا يقتضي في اللغة هذا التخصيص ولكن عرف الشرع قيد هذا اللفظ بهذا النوع. وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله :﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر وقيل إنها ( يعني آية ﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ ) محكمة غير منسوخة وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليست مقسومة بين الغانمين، وكذلك لمن بعده من الأئمة حكاه الماوردي عن كثير من المالكية قالوا وللإمام أن يخرجها عنهم. واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين. وكان أبو عبيدة يقول : افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومنّ على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئا.
« وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وممن حكى ذلك ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن عربي. والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين كثيرة جدا. قال القرطبي : ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ الآية ناسخ لقوله :﴿ واعلموا أن ما غنمتم ﴾ الآية. بل قال الجمهور إن قوله :﴿ واعلموا أن ما غنمتم ﴾ ناسخ وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف والتبديل لكتاب الله. وأما قصة مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها وقال : وأما قصة حنين فقد عوض الأنصار لما قالوا يعطي الغنائم قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه صلى الله عليه وسلم فقال :( أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم ؟ )٣ كما في مسلم وغيره. وليس لغيره أن يقول هذا القول بل ذلك خاص به اه.
والتحقيق أن مكة فتحت عنوة وأنه صلى الله عليه وسلم أعتق أهلها فقال :( أنتم الطلقاء ) وأن الأرض التي تفتح عنوة لا يجب قسمها كالغنائم المنقولة بل يعمل الإمام فيها بما يرى فيه المصلحة دع ما ميز الله به مكة عن سائر بقاع الأرض ببيته وشعائر دينه حتى قيل إنها لا تملك. وجملة القول إنه ليس بين الآيتين تعارض يتفصى منه بالنسخ فالأولى ناطقة بأن الأنفال لله يحكم فيها بحكمه وللرسول صلى الله عليه وسلم ينفذ حكمه تعالى بالبيان والعمل والاجتهاد. والثانية ناطقة بوجوب أخذ خمس الغنائم وتقسيمه على من ذكر فيها. فهي إذا مبينة لإجمال الأولى ومفسرة لها لا ناسخة لها.
ومعنى الآية واعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتم من الكفار المحاربين فالحق الأول الواجب فيه أن خمسه لله تعالى يصرف فيما يرضيه من مصالح الدين العامة كالدعوة إلى الإسلام وعمارة الكعبة وكسوتها وإقامة شعائره تعالى، وللرسول يأخذ كفايته منه لنفسه ونسائه وكان يمونهن إلى سنة، ولذي القربى أي أقرب أهله وعشيرته إليه نسبا وولاء ونصرة وهم الذين حرمت عليهم الصدقة كما حرمت عليه تكريما له ولهم بالتبع له عن أن يكون رزقهم من أوساخ الناس وما ذلك من حمل مننهم. وقد خص الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ببني هاشم وبني أخيه المطلب المسلمين دون بني أخيه الشقيق بل توأم عبد شمس وأخيه لأبيه نوفل وكلهم أولاد عبد مناف، ويلي ذوي القربى المحتاجون من سائر المسلمين وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل.
روى البخاري عن جبير بن مطعم وهو من بني نوفل قال مشيت أنا وعثمان ابن عفان وهو من بني عبد شمس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم م
١ ـ أخرجه البخاري في الخمس باب ١٨، والمغازي باب ٥٤، ومسلم في الجهاد حديث ٤٢، وأبو داود في الجهاد باب ١٣٦، والترمذي في باب ١٣، وابن ماجة في الجهاد باب ٢٩، ومالك في الجهاد حديث ١٨، وأحمد في المسند ٥/١٢، ٢٩٥، ٣٠٦..
٢ ـ أخرجه البخاري في الخمس باب ١، والمغازي باب ١٢، ومسلم في الأشربة حديث ٢، وأبو داود في الإمارة باب ٢٠، وأحمد في المسند ١/ ١٤٢..
٣ ـ أخرجه البخاري في الخمس باب ١٩، والمغازي ٥٦، ومسلم في الزكاة حديث ١٣٢، ١٣٤.
﴿ إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ( ٤٢ ) ﴾
﴿ إذا أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى ﴾ العدوة مثلثة العين لغة جانب الوادي وهي من العدو [ كالغزو ] الذي معناه التجاوز وقد قرأها الجمهور بضم العين وقرأها ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو بكسرها. ومن غير السبع قراءة الحسن وزيد بن علي وغيرهما بفتحها. والدنيا مؤنث الأدنى وهو الأقرب والقصوى مؤنث الأقصى وهو الأبعد. والمعنى إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا في ذلك اليوم في الوقت الذي كنتم فيه مرابطين بأقرب الجانبين من الوادي إلى المدينة وفيه الماء ونزل المطر فيه دون غيره كما تقدم مع بيان فوائده والأعداء في الجانب الأبعد عنها ولا ماء فيه وأرضه رخوة تسوخ فيها الأقدام.
﴿ والركب أسفل منكم ﴾ المراد بالركب العير التي خرج المسلمون للقائها إذ كان أبو سفيان قادما بها من الشام أو أصحابها وهو اسم جمع راكب. أي والحال أن الركب في مكان أسفل من مكانكم وهو ساحل البحر كما تقدم، وقد ذكر هذا لأنه هو السبب لالتقاء الجمعين في ذلك المكان، ولو علم المسلمون أن أبا سفيان أخذ العير في ناحية البحر لتبعوها وما التقوا هناك بالكفار ولا تعين عليهم القتال كما تقدم بيانه، ولذلك قال :﴿ ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ﴾ أي ولو تواعدتم أنتم وهم التلاقي للقتال هنالك لاختلفتم في الميعاد لكراهتكم للحرب على قلتكم وعدم إعدادكم شيئا من العدة لها وانحصار همكم في أخذ العير ولأن غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال أيضا لأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يأمنون نصر الله لأن كفر أكثرهم به كان عنادا واستكبارا لا اعتقادا، وقد تقدم في تفسير أوائل السورة بيان حال الفريقين المقتضي لاختلاف الميعاد لو حصل ولإرادة الله هذا التلاقي وتقدير أسبابه وهو المراد بقوله تعالى :﴿ ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾ أي ولكن تلاقيتم هنالك على غير موعد ولا رغبة في القتال ليقضي الله أمرا كان ثابتا في علمه وحكمته أنه واقع مفعول لا بد منه وهو القتال المفضي إلى خزيهم ونصركم عليهم وإظهار دينه وصدق وعده لرسوله كما تقدم.
﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ﴾ أي فعل ذلك ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من هلك من الكفار عن حجة بينة مشاهدة بالبصر على حقية الإسلام، بإنجاز وعده تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، بحيث تنفي الشبهة، وتقطع لسان الاعتذار عند الله عن إجابة الدعوة، ويحيا من حي من المؤمنين عن بينة قطعية حسية كذلك فيزدادوا يقينا بالإيمان، ونشاطا في الأعمال.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ويعقوب حيي ( كتعب ) بفك الإدغام والباقون بإدغام الياء الأولى في الثانية، وكل من الهلاك والحياة هنا يشمل الحسي والمعنوي منهما. وقد عرف معناه مفصلا في تفسير ﴿ استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾ [ الأنفال : ٢٤ ].
﴿ وإن الله لسميع عليم ﴾ لا يخفى عليه شيء من أقوال أهل الإيمان والكفر ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو يسمع ما يقول كل فريق من الأقوال الصادرة عن عقيدته، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره في أعماله، عليم بما يخفيه ويكنه من ذلك وغيره، فيجازي كلا بحسب ما يعلم وما يسمع منه.
وجملة القول : إن هذا الفرقان الذي رتبه الله على غزوة بدر قامت به حجة الله البالغة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم صلى الله عليه وسلم، وهي حجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم كما أنذرهم صلى الله عليه وسلم، إذ لا مجال للمكابرة فيها ولا للتأويل.
﴿ إذ يريكهم الله في منامك قليلا ﴾ قوله ﴿ إذ يريكهم ﴾ هنا كقوله قبله ﴿ إذ أنتم بالعدوة الدنيا ﴾ كلاهما بدل من يوم الفرقان. والمعنى أن الله تعالى أرى رسوله في ذلك اليوم أو الوقت رؤيا منامية مثل له فيها عدد المشركين قليلا فأخبر بها المؤمنين فاطمأنت قلوبهم وقويت آمالهم بالنصر عليهم كما قال مجاهد، ومن الغريب أن لا نرى في دواوين الحديث المشهورة حديثا مسندا في هذه الرؤيا ﴿ ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ﴾ أي أحجمتم ونكلتم عن لقائهم بشعور الجبن والضعف ﴿ ولتنازعتم في الأمر ﴾ أي ولوقع بينكم النزاع وتفرق الآراء في أمر القتال، فمنكم القوي الإيمان والعزيمة يقول نطيع الله ورسوله ونقاتل، ومنكم الضعيف الذي يثبط عن القتال بمثل الأعذار التي جادلوا بها الرسول كما تقدم في قوله تعالى :﴿ يجادلونك في الحق بعدما تبين ﴾ [ الأنفال : ٦ ] الآية.
فإن قلت كيف يصح مع هذا أن تكون رؤيا الأنبياء حق وأنها ضرب من الوحي ؟ ( قلت ) قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قدر عدد المشركين بألف وأخبر أصحابه بذلك مع أن عددهم ٣١٣ ولكنه أخبرهم مع هذا أنه رآهم في منامه قليلا لا أنهم قليلا في الواقع، فالظاهر أنهم أولوا الرؤيا بأن بلاءهم يكون قليلا، وأن كيدهم يكون ضعيفا، فتجرؤوا وقويت قلوبهم ﴿ ولكن الله سلم ﴾ أي سلمكم من الفشل والتنازع وتفرق الكلمة وعواقب ذلك ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ أي عليم بما في القلوب التي في الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فتنكل عن الإقدام على القتال، ومن شعور الإيمان والتوكل الذي يبعث فيها طمأنينة الشجاعة والصبر فيحملها على الإقدام، فيسخر لكل منها الأسباب التي تفضي إلى ما يريده منها.
﴿ وإذ يريكُمُوهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾ : قوله ﴿ وإذ يريكموهم ﴾ معطوف على قوله قبله ﴿ إذ يريكهم الله ﴾ لأنه سبب في معناه فجمع معه واتصل به بخلاف إذ في الآيتين قبلها فلذلك جاءت كل منهما مفصولة غير معطوفة. والخطاب هنا للمؤمنين كافة والرسول صلى الله عليه وسلم معهم، فالمعنى : وفي ذلك الوقت الذي يريكم الله الكفار عند التلاقي معهم قليلا بما أودع في قلوبكم من الإيمان بوعد الله بنصره لكم وبتثبيتكم بملائكته ومن احتقارهم والاستهانة بهم، ويقللكم في أعينهم لقلتكم بالفعل، ولما كان عندهم من الغرور والعجب. حتى قال أبو جهل : إنما أصحاب محمد أكلة جزور. كأنه يقول نتغداهم ونتعشاهم في يوم واحد وكانوا يأكلون في كل يوم جزورا. ومعنى التعليل ليقدم كل منكم على قتال الآخر : هذا واثقا بنفسه، مدلا ببأسه، وهذا متكلا على ربه، واثقا بوعده، حتى إذا ما التقيتم ثبتكم وثبطهم، فيقضي بإظهاركم عليهم أمرا كان في علمه مفعولا، فهيأ له أسبابه وقدرها تقديرا، ولا حاجة إلى جعل هذا الأمر المفعول غير الذي ذكر قبله وإن سهل ذلك بغير تكلف باعتبار مبدأ الأمر وغايته، وحسن تأثيره وثمرته، وقد كان في الفريقين عظيما. فإن تكرار ما تقتضي الحال تكراره أصل من أصول البلاغة ومقصد من أهم مقاصدها خلافا لما زعم متنطعو المحسنات اللفظية.
﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ فلا ينفذ شيء في العالم إلا ما قضاه تعالى وقدر أسبابه، وإنما القضاء والقدر قائمان بسننه تعالى في الأسباب والمسببات، فهو لو شاء لخلق في القلوب والأذهان ما أراده بتأثير منام الرسول وبتقليل كل من الجمعين في أعين الآخر من غير أن يرتبهما على هذين السببين، ولكنه ناط كل شيء بسبب، وخلق كل شيء بقدر، حتى أن بعض آياته لرسله وتوفيقه لمن شاء من عباده يكونان بتسخير الأسباب لهم وموافقة اجتهادهم وكسبهم لسننه تعالى في الفوز والفلاح، كما أن بعض الآيات يكون بأسباب غيبية كتأييد الملائكة وتثبيتهم أو بغير سبب.
﴿ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ( ٤٥ ) وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ( ٤٦ ) ﴾ ) }.
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ﴾ هو النداء الإلهي السادس للمؤمنين في هذه السورة وهو في إرشادهم إلى القوة المعنوية للمقاتلين التي هي السبب الغالب للنصر والظفر، والفئة الجماعة وغلبت في جماعة المقاتلين والحماة الناصرين، ولم يستعمل في التنزيل إلا بهذا المعنى حتى قوله تعالى في سورة النساء ﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ [ النساء : ٨٨ ] فإن المختلفين في شأنهم منهم من كان يقول بوجوب قتالهم لظهور نفاقهم وبقائهم على شركهم ومنهم من يقول بضده فهي في موضوع القتال. ومنه قوله تعالى في سورة الكهف :﴿ فما له من فئة ينصرونه من دون الله ﴾ [ الكهف : ٤٣ ] ومثله في سورة القصص. واللقاء يكثر استعماله في لقاء القتال أيضا حتى قال الزمخشري أنه غالب فيه وتبعه فيه كثيرون وكون اللقاء هنا لفئة يعين هذا المعنى الغالب ويبطل احتمال إرادة غيره.
والمعنى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة من أعدائكم الكفار وكذا البغاة في القتال فاثبتوا لهم ولا تفروا من أمامهم ولم يصف الفئة للعلم بوصفها من قرينة الحال وهي أن المؤمنين لا يقاتلون إلا الكفار أو البغاة فإن الثبات قوة معنوية طالما كانت هي السبب الأخير للنصر والغلب بين الأفراد أو الجيوش : يتصارع الرجلان الجلدان فيعيا كل منهما وتضعف منته ويتوقع في كل لحظة أن يقع صريعا فيخطر له أن خصمه ربما وقع قبله فيثبت حتى يكون بثبات الدقيقة الأخيرة هو الصُرَعة الظافر وكذلك كان جلاد فريقي دول أوربة في الحرب الأخيرة : فقد كل فريق منهما جميع نقوده ونقص عتاد حربه، ووهنت قوى جنوده، ومادة غذائه، وهو يقول «إلى الساعة الأخيرة » حتى كان فريق الحلف البريطاني الفرنسي ومن معه يستغيث دولة الولايات المتحدة ويسألونها تعجيل الغوث بالأيام والساعات لا بالشهور والأسابيع، ثم كان له الغلب بأسباب أهمها وآخرها الثبات وعدم اليأس مما ذاقوا من بأس الحلف الألماني في الحرب ومخترعاتهم فيها من المدافع الضخمة والطيارات تمطرهم العذاب من فوق رؤوسهم والغواصات تنسف بواخرهم وبوارجهم من أسفل منها الخ وكذلك يفيد الثبات في كل أعمال البشر فهو وسيلة النجاح في كل شيء.
﴿ واذكروا الله كثيرا ﴾ أي وأكثروا من ذكر الله في أثناء القتال وتضاعيفه، اذكروه في قلوبكم بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين ونصر كل من يتبع سنتهم بنصر دينه وإقامة سننه، وبذكر نهيه لكم عن اليأس، مهما اشتد البأس، وبأن النصر بيده ومن عنده، ينصر من يشاء وهو القوى العزيز، فمن ذكر هذا وتأمل فيه لا تهوله قوة عدوه واستعداده، لإيمانه بأن الله تعالى أقوى منه واذكروه أيضا بألسنتكم موافقة لقلوبكم بمثل التكبير الذي تستصغرون بملاحظة معناه كل ما عداه، والدعاء والتضرع إليه عز وجل مع اليقين بأن لا يعجزه شيء.
﴿ لعلكم تفلحون ﴾ هذا الرجاء منوط بالأمرين كليهما أي أن الثبات وذكر الله تعالى هما السببان المعنويان للفلاح والفوز في القتال في الدنيا ثم في نيل الثواب في الآخرة. أما الأول فظاهر وقد بينا مثاله من الوقائع البشرية. وأما الثاني فأمثلته أظهر وأكثر، ومن أظهرها ما نزلت هذه الآية في سياقه.
وهذه السورة بجملتها في بيان حكمه وأحكامه وسنن الله فيه وهو غزوة بدر الكبرى وقد تقدم بيانه، وقد كان الكفار يمترون في كون الإيمان ولا سيما الصحيح وهو إيمان التوحيد الخالي من الخرافات وما يستلزمه من التوكل على الله تعالى في الشدائد ودعائه واستغاثته من أسباب النصر في الحرب، ولكن هذا قد صار معروفا عند علماء الاجتماع وفلسفة التاريخ وعلم النفس وعند قواد الجيوش وزعماء السياسة، ومما ذكروا من أسباب فلج البوير على الإنكليز في وقائع كثيرة في حرب الترنسفال أن التدين في مقاتلتهم أكثر وأقوى منه في الجنود الإنكليزية.
وثبت أنه من أسباب انتصار الجيش البلغاري على الجيش التركي في حرب البلقان المشهورة ما كان من إبطال القواد والضباط من الترك للأذان والصلاة من الجيش والدعاية التي بثوها فيه من وجوب الحرب للوطن وباسم الوطن ولشرف الوطن فلما علموا بهذا أعادوا المؤذنين والأئمة بعمائمهم إلى كل تابور وأقاموا الصلاة فيهم. وقد روت الجرائد أن العساكر لما سمعت الأذان صارت تبكي بكاء بنشيج عال كان له تأثير عظيم، وكان تأثير ذلك بعود الكرة لهم على البلغار ظاهرا، وقد ذكرنا هذين الشاهدين في المنار كل واحد في وقته، وسوف يرى الترك سوء عاقبة كفر حكومتهم ومحاولتها إفساد دين شعبها عليه.
وقد نشرنا في ( ص ٨٤٦ و٨٤٧ ) من مجلد المنار الأول حديثا للبرنس بسمارك وزير المالية ومؤسس وحدتها الذي انتهت إليه زعامة السياسة والتفوق في أوربة على جميع ساسة الأمم في عصره قال فيه : إن من تأثير الإيمان في قلوب الشعب ذلك الشعور الذي ينفذ إلى أعماق القلوب باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن ولو لم يكن هناك أمل في المكافأة، وعلله بقوله :« ذلك لما استكن في الضمائر من بقايا الإيمان، ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحدا مهيمنا يراه وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن لم يكن قائده يراه ».
فقال له بعض المرتابين : أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم تلك الملاحظة ؟ فأجابه البرنس : ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور ووجدان، هو بوادر تسبق الفكر، هو ميل في النفس وهوى فيها كأنه غريزة لها ولو أنهم لا حظوا لفقدوا ذلك الميل وأضلوا ذلك الوجدان.
هل تعلمون أنني لا أفهم كيف يعيش قوم وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من الواجبات أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليهم إن لم يكن لهم إيمان بدين جاء به وحي سماوي، واعتقاد بإله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة ؟
ثم ساق الوزير كلامه على هذا النمط بأسلوب آخر وهو الكلام عن نفسه فشرح للمخاطبين أنه لولا إيمانه بالله وبالجزاء في الآخرة لما كان يخدم سلطانه وحكومته ولما أجهد نفسه بتأسيس الوحدة الألمانية وتشييد عظمتها وإنه يفضل العيشة الخلوية في مزارعه على خدمة القيصر [ الإمبراطور ] لأنه هو جمهوري بالطبع الخ والشاهد في كلامه تأثير الإيمان في القتال وإنما زدنا من كلامه لأنه حجة على ملاحدتنا دعاة التجديد بترك الدين اتباعا بزعمهم الكاذب لأهل أوربة.
هذا وإن الله تعالى قد أمر عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره وحثهم عليه ووصف الصادقين به في آيات أخرى كما وصف المنافقين بقلته لأن الذكر غذاء الإيمان فلا يكمل إلا بكثرته، فمن غفل عن ذكره تعالى استحوذ الشيطان على قلبه وزين له الشرور والمعاصي. وللزمخشري كلمة بليغة في هذا الأمر بالذكر هنا وفي السلف الصالح وما كانوا عليه من الاهتداء به قال : وفيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه، أشغل ما يكون قلبا، وأكثر ما يكون هما، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره، وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج من البلاغة والبيان، ولطائف المعاني وبليغات المواعظ والنصائح دليلا على أنهم لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقم الأمر اه.
﴿ وأطيعوا الله ورسوله ﴾ أطيعوا الله في هذه الأوامر المرشدة إلى أسباب الفلاح في القتال وفي غيرها، وأطيعوا رسوله فيما يأمر به وينهى عنه من شؤون القتال وغيرها من حيث إنه هو المبين لكلام الله الذي أنزل إليه على ما يريده تعالى منه والمنفذ له بالقول والعمل والحكم، ومنه ولاية القيادة العامة في القتال، فطاعة القائد العام هي جماع النظام الذي هو ركن من أركان الظفر فكيف إذا كان القائد العام رسول الله المؤيد من لدنه بالوحي والتوفيق، والمشارك لكم في الرأي والتدبير والاستشارة في الأمور، كما ثبت لكم في هذه الغزوة ثم في غيرها. وقد كان لهم من العبرة في ذلك أن الرماة عند ما خالفوا صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد كر المشركون عليهم، ونالوا ما نالوا منهم، بعد أن كان لهم الظهور عليهم. وأنزل الله تعالى في استغرابهم لذلك ﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ].
﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ هذا النهي مساوق للأمر بالثبات وكثرة الذكر وبطاعة الله والرسول ومتمم للغرض منه فإن الاختلاف والتنازع مدعاة الفشل وهو الخيبة والنكول عن إمضاء الأمر وأكبر أسبابه الضعف والجبن ولذلك فسروه هنا بهما، وأصل التنازع كالمنازعة المشاركة في النزع وهو الجذب وأخذ الشيء بشدة أو لطف كنزع الروح من الجسد، ونزع السلطان العامل من عمله، كأن كل واحد من المتنازعين يريد أن ينزع ما عند الآخر من رأي ويلقي به أو من نزع إلى الشيء نزوعا إذا مال إليه، فإن كل واحد من المتنازعين في الأمر يميل إلى غير ما يميل إليه الآخر، وهذا أظهر هنا.
وأما قوله تعالى :﴿ وتذهب ريحكم ﴾ فمعناه تذهب قوتهم وترتخي أعصاب شدتكم فيظهر عدوكم عليكم. والريح في اللغة الهواء المتحرك وهي مؤنثة وقد تذكر بمعنى الهواء وتستعار للقوة والغلبة إذ لا يوجد في الأجسام أقوى منها فإنها تهيج البحار وتقتلع أكبر الأشجار وتهدم الدور والقلاع، وقال الأخفش وغيره تستعار للدولة لشبهها بها في نفوذ آمرها. ويقولون هبت « رياح فلان » إذا دالت له الدولة وجرى أمره على ما يريد كما يقولون ركدت ريحه أو رياحه إذا ضعف أمره وولت دولته.
﴿ واصبروا إن الله مع الصابرين ﴾ أي واصبروا على ما تكرهون من شدة وما تلاقون من بأس العدو واستعداده وكثرة عدده وغير ذلك، إن الله مع الصابرين بالمعونة والتأييد، وربط الجأش والتثبيت، ومن كان الله معه فلا يغلبه شيء، فالله غالب على أمره وهو القوي العزيز الذي لا يغالب. وقد جاءت هذه الجملة في آية من سورة البقرة وهي ﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ﴾ [ البقرة : ١٥٣ ] فيراجع تفسيرها هنالك ( ج ٢ ) بل يراجع تفسير الآية من أولها وكذا تفسير ﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾ [ البقرة : ١٥٣ ] قبلها ( ج١ ) وهنالك تفسير كلمة الصبر ووجه الاستعانة به على مهمات الأمور كلها ولاسيما القتال.
بعد أن أمر الله تعالى عباده المؤمنين بما أمر به من جلائل الصفات وأحاسن الأعمال، التي جرت سنته بأن تكون سبب الظفر في القتال، ونهاهم عن التنازع نهاهم عما كان عليه خصومهم من مشركي مكة حين خرجوا لحماية العير من الصفات الرديئة، وذكر لهم بعض أحوالهم القبيحة فقال :﴿ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط ( ٤٧ ) ﴾.
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس } البطر كالأشر وهما مصدر بطر وأشر ( كفرح ) ضرب من إظهار الفخر والاستعلاء بنعمة القوة أو الغنى أو الرياسة يعرف في الحركات المتكلفة والكلام الشاذ ويفسر اللغويون أحدهما بالآخر وقال الراغب : البطر دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها، وصرفها إلى غير وجهها ثم قال ويقارب البطر الطرب وهو خفة أكثر ما يعتري من الفرح، وقد يقال ذلك في الترح اه. والرئاء مصدر رأى زيد عمرا ورأى الناس مرآة ورئاء وتقلب الهمزة ياء فيقال رياء كأمثاله وهو بناء مشاركة من الرؤية، والمراد منه أن يعمل المرء ما يحب أن يراه الناس منه ويثنوا عليه ويعجبوا به وإن كان تلبيسا ظاهره غير باطنه. وقال بعضهم هو إظهار الحسن وإخفاء القبيح أي لأجل الثناء والإعجاب.
والمعنى : امتثلوا ما أمرتم به من الفضائل، وانتهوا عما نهيتم من الرذائل، ولا تكونوا كأعدائكم المشركين الذين خرجوا من ديارهم في مكة وغيرها من الأماكن التي استنفرهم منها أبو سفيان بطرين بما أوتوا من قوة ونعم لم يستحقوها، أو كفروا نعمة الله مرائين للناس بها، ليعجبوا بهم ويثنوا عليهم بالغنى والقوة والشجاعة والمنعة ﴿ ويصدون عن سبيل الله ﴾ أي والحال أنهم يصدون بخروجهم عن سبيل الله وهو الإسلام بحمل الناس على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والإعراض عن تبليغ دعوته وتعذيب من أجابها إذا لم يكن لهم من يمنعهم ويحميهم من قرابة أو حلف أو جوار ﴿ والله بما يعملون محيط ﴾ علما وسلطانا فهو يجازيهم عليه في الدنيا والآخرة بمقتضى سنته في ترتيب الجزاء على صفات النفس.
قال البغوي في تفسير الآية من معالم التنزيل : نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر، ولهم بغي وفخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني ) قالوا ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا غيركم فقد نجاها الله فارجعوا. فقال أبو جهل والله لن نرجع حتى نرد بدرا وكان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام فنقيم ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا. فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان. فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصر دينه ومؤازرة نبيه صلى الله عليه وسلم اه.
﴿ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني لكم جار لكم ﴾ أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم : لا غالب لكم اليوم من الناس لا أتباع محمد الضعفاء ولا غيرهم من قبائل العرب فأنتم أعز نفرا وأكثر نفيرا وأعظم بأسا، وإني مع هذا أو الحال إني جار لكم، قال البيضاوي في تفسيره : وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين اه.
﴿ فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ﴾ أي فلما قرب كل من الفريقين المقاتلين من الآخر وصار بحيث يراه ويعرف حاله وقبل أن يلقاه في المعركة ويصطلي نار القتال معه نكص أي رجع القهقرى وتولى إلى الوراء وهو جهة العقبين ( أي مؤخري الرجلين ) وأخطأ من قال من المفسرين إن المراد بالترائي التلاقي، والمراد إنه كف عن تزيينه لهم وتغريره إياهم، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره. ثم زاد على هذا ما يدل على براءته وتركه إياهم وشأنهم وهو ﴿ وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله ﴾ أي تبرأ منهم وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة ﴿ والله شديد العقاب ﴾ يجوز أن يكون هذا من كلامه ويجوز أن يكون مستأنفا.
تفسير الآية بوسوسة الشيطان وإغوائه للمشركين وتغريره بهم قبل تقابل الصفوف وترائي الزحوف وبتخليه عنهم بعد ذلك رواه ابن جرير عن ابن عباس والحسن البصري، وخرجه علماء البيان من المفسرين كالزمخشري والبيضاوي بنحو مما ذكرنا وهو لا يخلو من تكلف من الجمل الأخيرة إلا أن يقال إنه لما نكص على عقبيه تبرأ منهم وقال ما قال في نفسه لا لهم، ومثل هذا الخطاب لا يتوقف على سماع المخاطبين له حتى في خطاب الناس بعضهم لبعض ومثله قوله تعالى :﴿ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله ﴾ [ الحشر : ١٦ ] قال ابن عباس لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبكم، وإني جار لكم. فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة ( نكص على عقبيه ) قال رجع مدبرا وقال ( إني أرى مالا ترون ) الآية. ومثله قال الحسن.
أقول : معنى هذا أن جند الشيطان الخبيث كانوا منبثين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة ما يغريهم ويغرهم كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم كما تقدم شرحه في تفسير آية ١٢ ﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة ﴾ الخ فلما تراءت الفئتان وأوشك أن يتلاحما فر الشيطان بجنوده من بين المشركين لئلا تصل إليهم الملائكة الملابسة للمؤمنين وهما ضدان لا يجتمعان ولو اجتمعوا لقضى أقواهما وهم الملائكة على أضعفهما، فخوف الشيطان إنما كان من إحراق الملائكة لجنوده لا على المشركين كما يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
وقد بينا في مواضع من هذا التفسير وغيره أن العوالم الروحية الخفية كعوالم العناصر المادية منها المؤتلف والمختلف، ومنها ما يتحد بغيره فيتألف منهما حقيقة واحدة كحقيقة الماء والهواء، ومنها مالا يتحد بعضه ببعض ولا يجتمعان في حيز واحد ﴿ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، والطبيات للطيبين، والطيبون للطيبات ﴾ [ النور : ٢٦ ] ﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ].
وعن ابن عباس قول آخر هو أن الشيطان تمثل في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بني مدلج وقال للمشركين ما قصته الآية الكريمة أولا وآخرا. قال ابن إسحاق حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فلما حضر القتال ورأى الملائكة نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم، فتشبت به الحارث بن هشام فنخر في وجهه فخر صعقا، فقيل له ويلك يا سراقة على هذه الحال تخذلنا وتبرأ منا ؟ فقال :﴿ إني بريء منكم ﴾ الخ وروي عنه علي بن أبي طلحة ما أوله مثل رواية ابن جرير إلا أنه زاد « في صورة رجل من بني مدلج » وذكر فيها أنه رأى رمى النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بقبضة من التراب فهزيمتهم منها ثم قال : فأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال الرجل يا سراقة أتزعم أنك لنا جار ؟ فقال ﴿ إني أرى مالا ترون ﴾ الخ.
أقول : أما الكلبي فروايته التفسير عن ابن عباس هي أو هي الروايات وأضعفها كما قال المحدثون. وقالوا فإن انضم إليها رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب. وأما علي بن أبي طلحة فروايته عنه أجود الروايات إلا أنهم أجمعوا على أنه لم يسمع منه وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير ولا خلاف في كونهما من الثقات أئمة هذا الشأن ولكن ابن عباس كان يوم بدر ابن خمس سنين فروايته لأخبارها منقطعة ولا يبعد أن تكون من الإسرائيليات.
وروى ذلك الواقدي عن عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس والواقدي غير ثقة في الرواية. وروي أيضا عن غير ابن عباس، وفي الروايات شيء من الاختلاف، وأصلها أنه كان بين قريش وبين بني بكر عداوة وحرب سابقة فخافوا أن يقاتلوهم في أثناء قتالهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فرئي سراقة أكبر زعمائهم مع المشركين يضمن لهم ما كاد يثنيهم عن الخروج. وخرج معهم يثبتهم ويقول : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، ثم رئي عند ترائي الفئتين هاربا متبرئا منهم فلما رجع فلهم إلى مكة كانوا يقولون هزم الناس سراقة. فقال بلغني أنكم تقولون إني هزمت الناس ! فوالله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. فقالوا ما أتيتنا في يوم كذا فحلف لهم. فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان. فهذا والله أعلم سبب تخريج هؤلاء المفسرين رواياتهم على أن الذي رئي إنما كان الشيطان متمثلا. والمختار عندنا في تفسير الآية هو ما رواه ابن جرير عن ابن عباس من طريق ابن جريج وهو ما علمت آنفا وما رواه عن الحسن أيضا وقدمه أهل التفاسير المشهورة وهو أن الشيطان ألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبهم الخ وتقدم.
﴿ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ( ٤٩ ) ﴾.
قد كان وقت تغرير الشيطان بالمشركين وإيهامهم أنه لا غالب لهم من الناس في ذلك اليوم هو بعينه وقت تعجب المنافقين ومرضى القلوب في الدين من إقدام هذا العدد القليل الفاقد لكل استعداد حسي من أسباب الحرب على قتال ذلك العدد الكثير الذي يفوقه ثلاثة أضعاف في العدد مع كونه لا ينقصه من الاستعداد للحرب شيء، لأن العلة واحدة، فذلك قوله تعالى :﴿ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ﴾ فالظرف هنا متعلق ب( زين ) لهم الشيطان أعمالهم، والمنافقون هم الذين يظهرون الإسلام ويسرون الكفر، والذين في قلوبهم مرض هم ضعاف الإيمان تثور بهم الشكوك والشبهات تارة فتزلزل اعتقادهم وتسكن تارة فيكونون كسائر المسلمين، وهل يميز أهل اليقين من الضعفاء إلا الامتحان بمثل هذه الشدائد ؟ لم ير المنافقون ومن هم على مقربة منهم من مرضى القلوب علة يعللون بها هذا الإقدام من المؤمنين الصادقين إلا الغرور بالدين، ولعمر الإنصاف إن هذا لأقرب تعليل معقول لأمثالهم المحرومين من كمال الإيمان بالله والثقة به والتوكل عليه.
ومن المعلوم مما ورد في « أهل بدر » من آيات هذه السورة ومن الأحاديث الصحيحة والحسنة أنه لم يكن فيهم أحد من أولئك المنافقين ولا من الذين في قلوبهم مرض فإن ضعفاءهم قد محصهم الله بما كان من جدالهم للنبي صلى الله عليه وسلم ومصارحتهم له في كراهة القتال قبل وقوعه وباقتناعهم بجوابه لهم كما تقدم ثم أتم تمحيصهم بخوضهم المعركة، فهم من الذين وصفهم المنافقون والذين في قلوبهم مرض بأنه غرهم دينهم، وهل يعقل أن يقول أحد منهم في المؤمنين «غرهم دينهم » وهو تبرؤ من عد أنفسهم من أهل هذا الدين ؟ فإن صح ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال :«هم يومئذ في المسلمين » يكون أراد به أنهم كانوا معدودين في جملتهم لا أنهم كانوا في الغزاة، وإلا كان خطأ مردودا وابن عباس لم يكن في سنه يوم بدر يميز هذه المسائل بنفسه، والرواية فيها كما علمت آنفا.
وروي عن مجاهد وابن جريح والشعبي وابن إسحاق ومعمر أن هؤلاء المنافقين كانوا بمكة : قال مجاهد فئة من قريش قيس بن الوليد بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب وعلي بن أمية والعاص بن منبه بن الحجاج خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا غر هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم. وقال ابن كثير بعد نقله : وهكذا قال محمد بن إسحاق بن سيار سواء.
﴿ ومن يتوكل على الله ﴾ أي يكل أمره مؤمنا إيمان إذعان أنه هو حسبه وكافيه وناصره ومعينه، وأنه قادر لا يعجزه شيء، عزيز لا يغلبه ولا يمتنع عليه شيء أراده ﴿ فإن الله عزيز حكيم ﴾ أي فهو تعالى بمقتضى عزته وحكمته عند إيمانهم به وتوكلهم عليه : يكفيهم ما أهمهم، وينصرهم على أعدائهم، وإن كثر عددهم وعظم استعدادهم، لأنه عزيز غالب على أمره، حكيم يضع كل أمر في موضعه، على ما جرى عليه النظام والتقدير في سننه، ومنه نصر الحق على الباطل، بل كثيرا ما تدخل عنايته بالمتوكلين عليه في باب الآيات وخوارق العادات ( كما حصل في غزوة بدر وآيات الله لا نهاية لها ) وإن أجمع المحققون على أن التوكل لا يقتضي ترك الأسباب من العبد، ولا الخروج عن السنن العامة في أفعال الرب، كما سبق تحقيقه مفصلا من قبل :
وكم لله من لطف خفي *** يدق خفاه عن فهم الذكي
وقد اشتهر في عباد الله أفراد في ترك الأسباب كلها توكلا على الله تعالى وثقة به، واشتهر من تسخيره تعالى الأسباب لهم، والعناية بهم، ما يعسر على الذكي تأويله كله بالتخريج على المصادفات المعتادة : كإبراهيم بن أدهم الذي كان ملكا فخرج من ملكه وانقطع لعبادة ربه متوكلا عليه في رزقه وفي كل أموره، وإبراهيم الخواص وشقيق البلخي من المتقدمين، وقد أدركنا في عصرنا عالما أفغانيا منهم اسمه عبد الباقي خرج من بلاده بعد تحصيل العلوم العربية والشرعية إلى الهند للتوسع في الفلسفة وسائر المعقولات وجد واجتهد فيها حتى رأى في منامه مرة رجلا ذا هيئة حسنة مؤثرة سأله أتدري ماذا تعمل يا عبد الباقي ؟ إنك كمن يأخذ خشبة يحرك بها الكنيف عامة نهاره. فلما استيقظ حملته هذه الرؤيا على التفكر في هذه الفلسفة اليونانية والفائدة منها، وما لبث أن تركهم وعزم على الانقطاع لعبادة الله وترك العالم كله لذلك، فخرج من الهند إلى بلاد العرب فكان يحج في كل سنة ماشيا ويعود إلى بلاد الشام في الغالب فيقيم عندنا في القلمون أياما وفي طرابلس وحمص كذلك ثم يعود إلى الحجاز وهكذا دواليك، ولم يكن يحمل دراهم ولا زادا وقد يحمل كتابا بيده يقرأه فإذا فرغ منه وهبه، وتلقى عنه بعض الأذكياء دروسا في التوحيد والأصول. ومنه يعلم الفرق بينه وبين أولئك الدراويش الكسالى والسياحين الدجالين.
قال صديقنا العالم الذكي النقادة السيد عبد الحميد الزهراوي لولا رأينا هذا الرجل بأعيننا واختبرناه في هذه السنين الطوال بأنفسنا لكنا نظن أن ما يروى من أخبار كبار الصالحين المتوكلين من المتقدمين كإبراهيم بن أدهم والخواص والبلخي مبالغات وإغراقات من مترجميهم١.
وقد حدثنا العلامة الفقيه الصوفي الأديب الشيخ عبد الغني الرافعي أنه كان غلب عليه حال التوكل وحدثته نفسه بأنه صار مقاما له فامتحنها بسفر خرج فيه من بلده وليس في يده مال فسخر الله له من الأسباب الشريفة ما كان به سفره لائقا بكرامته وحسن مظهره، وأول ذلك أنه سخر له من لم يكن يعرف من أغنياء المسافرين بالباخرة فتبرع له بأجرة السفر فيها إلى حيث أراد. ومثل هذا التسخير يقع كثيرا لرجال العلم والأدب في أقوامهم وأقطارهم، وناهيك ما كان يمتاز به الشيخ رحمه الله من جمال الصورة ومهابة الطلعة وحسن الزي والوقار يزينه اللطف والتواضع ولكن هل يقدم من كان مثله في كرامته وإبائه على الخروج من بلده وركوب البحر وهو لا يحمل درهما ولا دينارا لولا شدة الثقة بالله واطمئنان القلب بالتوكل عليه ؟ كلا إنما يقدم على مثل هذا ممن لا يعقل معنى التوكل أناس من الشطار اتخذوا الاحتيال على استجداء الأغنياء والأمراء بمظاهرهم الخادعة وتلبيساتهم الباطلة، صناعة يرجونها بالغلو في إطرائهم.
ومثل عناية الله تعالى بالمتوكلين عليه في تسخير الأسباب الشريفة لهم ما وقع لشيخنا الأستاذ الإمام أيام كان منفيا في بيروت : قال لي جاءني فلان من أصدقائي المصريين المنفيين يوما وقال إنه توفي والده وأنه لا بد له من العناية اللائقة به في تجهيزه وليس في يده ما يكفي لذلك. قال الشيخ وكنت قبضت راتبي الشهري من المدرسة السلطانية لم أعط منه شيئا للتجار الذين نأخذ منهم مؤنة الدار فنقدته إياه كله لعلمي بحاجته إليه كله، ووكلت أمري وأمر أسرتي إلى الله تعالى فلم يمر ذلك النهار إلا وقد جاءتني حوالة برقية بمبلغ أكبر من راتب المدرسة كان دينا لي قديما على رجل أعياني أمر تقاضيه منه وأنا فيها ممتعا بما تعلم من النفوذ وكتبت إليه بعد سفري مرارا أتقاضاه مستشفعا بعذر الحاجة حتى يئست منه، فهل كان إرساله إياه في ذلك اليوم بتحويل برقي إلا تسخيرا منه تعالى بعنايته الخاصة ؟
أقول : إنني أراني غير خارج بهذه الأمثال عن منهج هذا التفسير المراد به التفقه والاعتبار، وأنا أرى الناس يزداد إعراضهم عن الدين والاهتداء بالقرآن، وتقل فيهم القدوة الصالحة.
١ ـ للشيخ عبد الباقي ترجمة وجيزة في أواخر جزء ٢ مجلد ٩ من المنار، وأذكر أن له ذكرا في مواضع أخرى منه لا يمكنني تعيينه الآن (المؤلف)..
﴿ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة ﴾ هذا بيان لبعض مضمون قوله تعالى في الآية التي قبل الأخيرة ﴿ والله شديد العقاب ﴾ ومعناه ولو رأيت أيها الرسول أو الخطاب لكل من سمعه أو يتلوه إذ يتوفى الذين كفروا من قتلى بدر وغيرهم ( ومعلوم أن «لو » الامتناعية ترد المضارع ماضيا ) ملائكة العذاب حالة كونهم ﴿ يضربون وجوههم وأدبارهم ﴾ أي ظهورهم وأقفيتهم بجملتها وهو ضرب من عالم الغيب بأيدي الملائكة فلا يقتضي أن يراه الناس الذين يحضرون وفاتهم، كما أنهم لا يسمعون كلامهم عندما يقولون لهم ﴿ وذوقوا عذاب الحريق ﴾ لو رأيت ذلك لرأيت أمرا عظيما، يرد الكافر عن كفره والظالم عن ظلمه، إذا هو علم عاقبة أمره. والمراد بعذاب الحريق عذاب النار الذي يكون بعد البعث. وروي أن ضرب الوجوه والأدبار كان ببدر : كان المؤمنون يضربون ما أقبل من المشركين من وجوههم والملائكة تضرب أدبارهم من ورائهم. وقد علمت مما تقدم من التحقيق أن الملائكة لم تقاتل يوم بدر وإنما كانت مثبتة للمؤمنين، فلا تغرنك الروايات، ومنها حديث الحسن البصري عند ابن جرير قال : قال رجل يا رسول الله : إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك فقال :( ذلك ضرب الملائكة ) ولعلك تعلم أن مراسيل الحسن البصري رحمه الله عند المحدثين كالريح أي لا يقبض منها على شيء.
﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾
ويؤيد القول الظاهر بأن هذا في عذاب الآخرة بقية قولهم لهم :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم ﴾ أي ذلك العذاب الذي ذقتم وتذوقون بسبب ما كسبت أيديكم في الدنيا فقدمتموه إلى الآخرة من كفر وظلم، وهو يشمل القول والعمل. وسواء كان من عمل الأيدي أو الأرجل أو الحواس أو تدبير العقل كل ذلك ينسب إلى عمل الأيدي توسعا وتجوزا، وأصله أن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها.
﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾ أي وبأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد فيكون ذلك العذاب ظلما منه على تقدير عدم وقوع سببه من كسب أيديكم، ولكن سبب ذلك منكم ثابت قطعا، كما أن وقوع الظلم منه لعبيده منتف قطعا، فتعين أن تكونوا أنتم الظالمين لأنفسكم قطعا، فلوموها فلا لوم لكم إلا عليها. وفي الحديث القدسي الذي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا )١ الخ، رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه. والحق أن للظلم حقيقة وأنه تعالى منزه عنه كتنزهه عن سار النقائص وما ينافي كمال الربوبية والألوهية، لا لاستحالة وقوعه منه عقلا لأن معناه التصرف في ملك الغير ولا ملك لغيره تعالى كما قالت الأشعرية وهو خطأ في تعريف الظلم وخطأ في أصل المسألة بينا من قبل.
هذا التعبير بعينه ﴿ وذوقوا عذاب الحريق ﴾ إلى ﴿ للعبيد ﴾ قد تقدم في سورة آل عمران ٣ : ١٨ و١٨١ فيراجع تفسيره في ( ج٣ ) ومنه بيان نكتة نفي المبالغة في الظلم مع أن الظلم قليله وكثيره لا يقع منه تعالى، ويراجع في بيان هذا أيضا تفسير ﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ [ النساء : ٤٠ ] ( في ج٥ ).
ونكتة هذا التكرار اللفظي بيان أن هذه الحجة الإلهية تقام في الآخرة على جميع الكفار المجرمين بهذا القول، فليست خاصة بحال أناس أو قوم دون آخرين، وما سبق في سورة آل عمران ورد في اليهود الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا نبوته كما آذوا النبيين قبله وكانوا يقتلونهم بغير حق على ما كان من بخلهم وقول بعضهم ﴿ إن الله فقير ونحن أغنياء ﴾، ويتضح هذا المعنى بما بعده وهو :
١ ـ أخرجه مسلم في البر الحديث ٥٥، وأحمد في المسند ٥/ ١٦٠..
﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ( ٥٢ ) ﴾.
﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ﴾ أي دأب هؤلاء وشأنهم الثابت لهم والدأب الاستمرار على الشيء كدأب آل فرعون والذين من قبلهم من الفراعنة وسائر الملوك العتاة وأقوام الرسل في التاريخ، وقد فسره قوله تعالى :﴿ كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم ﴾ ولم يظلم أحدا منهم مثقال ذرة، ونصر رسله والمؤمنين بهم عليهم، على ما بين الفريقين من تفاوت في العدد والعُدد وسائر الأسباب، فكما كان دأبهم واحدا كانت سنة الله فيهم واحدة، فنصره تعالى لرسوله والمؤمنين في بدر هو مقتضى تلك السنة ﴿ فإن الله شديد العقاب ﴾ لمن يستحق عقابه ولكن لكل شيء عنده أجلا قال صلى الله عليه وسلم :( إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )١ رواه الشيخان والترمذي وابن ماجة من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة آل عمران إلا أنه قال فيها :﴿ كفروا بآياتنا ﴾[ النساء : ٥٦ ] والنكتة في هذا التكرار بين أنه سنة الله فاطرد. والفرق بين الموضعين أن آية آل عمران في الكفار المغرورين بكثرة أموالهم وأولادهم المحتقرين للرسل وأتباعهم من ضعفاء المؤمنين بفقرهم وضعف عصبيتهم النسبية. وأما آية الأنفال فهي في الكفار المغرورين بقوتهم وبأسهم المحتقرين للمؤمنين بفقد ذلك وهي سابقة في النزول.
١ ـ أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١، باب٥، ومسلم في البر حديث ٦٢، والترمذي في تفسيرسورة ١١، باب ٢، وابن ماجه في الفتن باب ٢٢..
﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ أي ذلك الذي ذكر من أخذه تعالى لقريش بكفرها لنعم الله عليها التي أتمها ببعثة خاتم رسله منهم كأخذه للأمم قبلهم بذنوبهم مؤيد بأمر آخر يتم به عدله تعالى وحكمته، وهو أنه لم يكن من شأنه ولا مقتضى سنته أن يغير نعمة ما أنعمها على قوم حتى يغيروا هم ما بأنفسهم من الأحوال التي استحقوا بها تلك النعمة، ﴿ وأن الله سميع عليم ﴾ : سميع لأقوالهم عليم بأحوالهم وأعمالهم محيط بما يكون من كفرهم للنعمة فيعاقبهم عليه.

فصل في بيان سنته تعالى في تغيير أحوال الأمم


هذا بيان لسنة عظيمة من أعظم سنن الله تعالى في نظام الاجتماع البشري يعلم منها بطلان تلك الشبهات التي كانت غالبة على عقول الناس من جميع الأمم، ولا يزال جماهير الناس يخدعون بها، وهي ما يتعلق بنوط سعادة الأمم وقوتها وغلبها وسلطانها بسعة الثروة، وكثرة حصى الأمة، وكما قال الشاعر العربي :
ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر١
وكان من غرورهم بها أن كانوا يظنون أن من أوتيها لا تسلب منه، وأنه كما فضله الله على غيره بابتدائها، كذلك يفضله بدوامها ﴿ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾ [ سبأ : ٣٥ ] وقد بنينا غرور البشر بهذه الظواهر في مواضع من هذا التفسير. ثم ظهر أقوام آخرون يرون أن الله تعالى يحابي بعض الأمم والشعوب على بعض بنسبها، وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوة أو ما دونها، فيؤتيهم الملك والسيادة والسعادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إلى مللهم ولا سيما إذا كانوا من آبائهم، كما كان شأن بني إسرائيل في غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم، وكما فعل الذين اتبعوا سننهم من النصارى ثم المسلمين. بالغرور في الدين، ودعوة اتباع النبيين، وبكرامات الأولياء والصالحين، وإن كانوا لهم من أشد المخالفين. فبين الله تعالى لكل قوم خطأهم بهذه الآية وبما سبق في معناها، وهو أعم منها في سورة الرعد من قوله تعالى :﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ [ الرعد : ١١ ] وأثبت لهم أن نعم الله تعالى على الأقوام والأمم منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وصفات وعقائد وعوائد وأعمال تقتضيها فما دامت هذه الشؤون لاصقة بأنفسهم متمكنة منها كانت تلك النعم ثابتة بثباتها، ولم يكن الرب الكريم لينتزعها منهم انتزاعا بغير ظلم منهم ولا ذنب : فإذا هم غيروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق، وما يترتب عليها من محاسن الأعمال، وغير الله عندئك ما بأنفسهم وسلب نعمته منهم، فصار الغني فقيرا، والعزيز ذليلا، والقوي ضعيفا. هذا هو الأصل المطرد في الأقوام والأمم، وهو كذلك في الأفراد إلا أنه غير مطرد فيهم لقصر أعمار كثير منهم دون تأثير التغيير حتى يصل إلى غايته.
إن للعقائد الدينية الصحيحة والخرافية آثارا في وحدة الأمة وتكافلها وقوة سلطانها أو ضعفه، ولا يظهر الفرق بينهما في الوجود إلا بوقوع التنازع بين أمتين مختلفتين فيها. وإن للأخلاق الشخصية التي يتحقق بكثرة بعضها ما يسمى خلقا للأمة أو الشعب مثل ذلك في حكمها وسلطانها وفي ثروتها وعزتها أيضا، ويظهر ذلك في سيرة كل أمة ودولة ذات تاريخ معروف، ومن اطلع على كتب ( الدكتور غوستاف لوبون ) الاجتماعي الكبير في علم الاجتماع يجد فيها شواهد كثيرة على هذه القواعد أظهرها ما يبينه من الفروق بين فرنسة وانكلترة وبين الشعوب اللاتينية والشعوب « الأنكلوساكسنية » عامة في الأخلاق، وما لذلك من الآثار في حياة الفريقين الاجتماعية والسياسية والاستعمارية والتجارية.
ومن كلامه في تأثير الأخلاق في ترقي الأمم وتدليها وقوتها وضعفها على الإطلاق قوله في الفصل الثالث من كتابه ( روح الاشتراكية ) وموضوعه ( نفسية الشعوب ) : وأذكر هنا ما أشرت إليه كثيرا في كتبي الأخيرة وهو أن الأمم لا تنحط وتزول إذا تناقص ذكاء أبناءها بل إذا سقطت أخلاقها. هذه سنة طبيعية جرت أحكامها على اليونان والرومان وأخذت تجري في هذه الأيام أيضا، لا يزال أكثر الناس لا يفقهون هذا القول ويجادلون في صحته، غير أنه أخذ ينتشر وقد رأيته مفصلا في كتاب وضعه حديثا الكاتب الإنكليزي ( المستر بنيامين كيد ) ولا أرى لتأييد قضيتي أفضل من اقتباس بعض عبارات عنه بين فيها منصفا غير محاب الفرق بين الخلق ( الأنكلوساكسوني ) والخلق الفرنسوي ونتائج هذا الفرق اه ( ص ١٠٤و١٠٥ ) من الترجمة العربية.
ثم أورد شواهد منه على ما أشار إليه من مراده وبيان تفوق الإنكليز على الفرنسيس بأخلاقهم. فإن فساد الأخلاق الذي أهلك الأمم التاريخية الشهيرة كالفرس واليونان والرومان والعرب قد دب إلى الإفرنج وكان بدء فتكه باللاتين ولا سيما الفرنسيس منهم فقل نسلهم وصاروا يرجعون القهقرى أمام الإنكليز وإخوانهم الأميركانيين في كل شيء، دع الألمان الذين فاقوا الفريقين.
وقد دب هذا الفساد الأخلاقي إلى الإنكليز أيضا كما صرح بذلك أعظم فلاسفتهم ( هربرت سبنسر ) الشهير لأستاذنا الشيخ ( محمد عبده ) وسبق نقله في هذا التفسير من أن الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين في أوروبا قد دبت إلى الإنكليز وأخذت تفتك بأخلاقهم وأنها ستفسد أوروبا كلها.
ومن الغريب أن تكون هذه المسألة مما يغفل عنه أكثر المتعلمين في هذا العصر بعد اتساع نطاق علم الاجتماع وكثرة المصنفات فيه وكثرة ما يكتب في الصحف العامة في موضوع الأخلاق وتأثيرها في أحوال الأفراد والأمم، حتى قال غوستاف لوبون : أكثر الناس لا يفقهون هذا القول بل يجادلون في صحته : فالمسألة على كونها صارت معروفة للجماهير لا تزال موضع مراء وجدال عند الأكثرين، لأنها من مسائل العلم الصحيح العالي التي لا يفقهها إلا أصحاب البصيرة النافذة، والمعرفة الممحصة. ولو فقهها الجمهور لكان لها الأثر الصالح في أعماله. وإننا لنرى الألوف في بلادنا يتمثلون بقول أحمد شوقي بك أشهر شعراء العصر :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
يتمثلون به معجبين لأنهم يفهمون مدلول ألفاظه وشرف موضوعه ولكن أكثرهم لا يفقهون حكمته التفصيلية العملية، وماذا يكون من تأثير فساد كل خلق من أخلاق الفضائل في الأعمال، ثم في ضعف الأمة وانحلالها ذلك الفقه الذي حققنا معناه في تفسير قوله تعالى من سورة الأعراف ﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] فراجعه مع بيان مراتب السماع والفهم من تفسير الآيات ١٩ ٢١ من هذه السورة.
إن من الأخلاق ما لا يجادل أحد في حسنه في نفسه وفي استقامة المعاملات العامة في الأمة به كالصدق والأمانة والعدل، وإن امترى كثيرون أو ماروا في كونها دعائم أسباب النجاح والفلاح في المعيشة أو الترقي في مناصب الحكومة، ولكن قلما يجهل أحد من أذكياء هؤلاء الممترين في فساد الجماعة أو الشركة أو الحكومة التي يرتقي العامل فيها بالكذب، والخيانة والظلم، وإذا بلغ قوم هذه الغاية من الفساد ألفوه وعدوه من ضروريات الحياة ولم تعد قلوبهم تتوجه إلى الخروج منه بإصلاح ما بأنفسهم وإنما يتلافون من شره ما استطاعوا ببعض النظم والقوانين الصورية.
وإن من الأخلاق الكريمة ما صار الفاسدون يجادلون في حسنه وكونه من الفضائل التي يصلح بها حال الأفراد ويرتقي به مجموع الأمة، كالحياء والرحمة والعفة : يقولون إن الحياء ضعف في النفس وكذلك الرحمة، وهذا خطأ لا محل هنا لبيانه وهو قديم وإنما الجديد الذي لم يطرق مسامعنا قبل هذه الأيام هو المراء في فضيلة العفة، فإن دعاة الفساد الذي يسمونه تجديد الأمة قد اقترفوا هذه الجريمة ولا غرو فإن من أركانه عندهم تهتك النساء وامتزاجهن بالرجال في الملاعب والمراقص والمسارح والمسابح ( مواضع السباحة في البحر ) فقد كتب أحدهم في بعض الصحف الناشرة لدعايتهم أن العفة يختلف معناها باختلاف معارف الناس وعرفهم وأذواقهم في الحضارة، ومن ذلك أن المرتقين الآن لا يعدون رقص النساء مع الرجال منافيا للعفة ولا مخلا بها. ووثب كاتب آخر منهم وثبة أخرى فقال : إنه قد ظهر في هذا الزمان أن إرخاء العنان للشهوات البدنية لا يضر في الجسد ولا في النفس ولا يخل بالآداب، ولا يضعف الأمة عدم التزام الأديان والشرائع فيه قال المفسد قاتله الله : وقد ثبت هذا بالتجربة في الأمة الأميركانية فظهر به خطأ المتقدمين فيه، وهذا زعم باطل يتقرب به قائله إلى المسرفين من الفساق، ولا يزال الأطباء والحكماء مجمعين على هدم الإسراف في الشهوات لبناء البنية بما يولده من الضعف والأمراض، كما أنه مفسد للآداب والأخلاق.
مازال البشر يمارون في كل شيء حتى الحسيات والضروريات، وإنما الكلام المقبول في كل موضوع لعلماء أهله، ألم تر أنهم يمارون في مضار شرب الخمر ويدعون نفعها والأطباء المحققون يثبتون خلاف ذلك، يثبتون أن إثمها أكبر من نفعها وأن النفع القليل الخاص ببعض الأحوال المرضية قد يعارضه فيها نفسها من الضرر ما هو أقوى منه فيجعل ترك التداوي بها أولى إذا وجد أي شيء آخر يقوم مقامها.
إنني ذكرت في فاتحة هذا التفسير من الجزء الأول أن مسلك جريدة العروة الوثقى في الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي من طريق إرشاد القرآن، وبيانه لسنن الله تعالى في الإنسان والأكوان، وقد فتح لي في فهم القرآن بابا لم يأخذ بحلقته أحد من المفسرين المتقدمين، وإني أختم هذا الفصل الاستطرادي بمقالة من مقالات تلك الجريدة افتتحه أستاذنا محررها رحمه الله بهذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها ليكون مصباحا للمفسرين والمرشدين والوعاظ يهتدون بضوئه وليعلم الفرق بين فهم هذا الإمام وأستاذه الحكيم للقرآن وبين أفهام المتقدمين الذين كانت حظوظهم من تفسير هذه الآية كتابة سطرين أو بضعة أسطر أكثرها في غير سبيل هدايتها. وهذا نص المقالة.
المقالة الثامنة عشرة
سنن الله في الأمم وتطبيقها على المسلمين٢
﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ [ الرعد : ١١ ]
﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾.
تلك آيات الكتاب الحكيم، تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ولا يرتاب فيها إلا الضالون، هل يخلف الله وعده ووعيده وهو أصدق من وعد وأقدر من أوعد ؟ هل كذب الله ورسله ؟ هل ودع أنبياءه وقلاهم ؟ هل غش خلقه وسلك بهم طريق الضلال ؟ نعود بالله ! ! هل أنزل الآيات البينات لغوا وعبثا ؟ هل افترت عليه رسله كذبا ؟ هل اختلقوا عليه إفكا ؟ هل خاطب الله عبيده برموز لا يفهمونها، وإشارات لا يدركونها ؟ هل دعاهم إليه بما لا يعقلون ؟ نستغفر الله ‍‍‍‍‍‍‍ ! أليس قد أنزل القرآن عربيا غير ذي عوج، وفصل فيه كل أمر، وأودعه تبيانا لكل شيء ؟ تقدست صفاته وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. هو الصادق في وعده ووعيده، ما اتخذ رسولا كذابا، ولا أتى شيئا عبثا، وما هدانا إلا سبيل الرشاد، ولا تبديل لآياته، تزول السماوات والأرض ولا يزول حكم من أحكام كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
يقول الله :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ] ويقول ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ [ المنافقون : ٨ ] قال { وكان حقا علينا نصر ال
١ ـ البيت من السريع، وهو للأعشى في ديوانه ص ١٩٣، والاشتقاق ص ٦٥، وأوضح المسالك ٣/ ٢٩٥، وخزانة الأدب ١/ ١٨٥، ٣/٤٠٠، ٨/ ٢٥٠، ٢٥٤ والخصائص ١/ ١٨٥، ٣/ ٢٣٦، وشرح التصريح ٦/ ١٠٠، ١٠٣، ولسان العرب (كثر)، (سدف)، (حصى)، ومغني اللبيب ٢/٥٧٢، والمقاصد النحوية ٤/ ٣٨، ونوادر أبي زيد ص ٢٥، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٤٢٢، وخزانة الأدب ٢/ ١١، وشرح الأشموني ٢/ ٣٨٦، وشرح ابن عقيل ص ٤٦٥، وشرح المفصل ٣/٦..
٢ ـ نشرت في العدد السابع عشر من جريدة العروة الوثقى في يوم الخميس ٦ ذي الحجة سنة ١٣٠١ و٢٥ سبتمبر سنة ١٨٨٤.
.

﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ( ٥٤ ) ﴾.
﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم ﴾ الكلام في هذا كالكلام في نظيره من حيث إنه شاهد حق واقع فيما تقدم من سنة الله تعالى في الأمم والدول، وإنما يخالفه في موضوع دأب القوم وفي الجزاء المشار إليهما فيما اختلف به التعبير من الآيتين، فالآية السابقة في بيان كفرهم بآيات الله وهو جحد ما قامت عليه أدلة الرسل من وحدانية الله ووجوب إفراده بالعبادة الخ وفي تعذيب الله إياهم في الآخرة. فتكرار اسم الجلالة فيها يدل على ما ذكرنا لأنه متعلق بحقه تعالى من حيث ذاته وصفاته وفي الجزاء الدائم على الكفر به الذي يبتدئ بالموت وينتهي بدخول النار. وهذه الآية في تكذيبهم بآيات ربهم من حيث إنه هو المربي لهم بنعمه، ولهذا ذكر فيها اسم الرب مضافا إليهم بدل اسم الجلالة هناك فيدخل في ذلك تكذيب الرسل ومعاندتهم وإيذاؤهم وكفر النعم المتعلقة ببعثتهم والسابقة عليها، وفي الجزاء على ذلك بعذاب الدنيا.
فقوله تعالى ﴿ فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ﴾ كقوله في آية العنكبوت ﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ [ العنكبوت : ٤٠ ].
وحاصل المعنى أن ما يحفظه التاريخ من وقائع الأمم من دأبها وعاداتها في الكفر والتكذيب والظلم في الأرض، ومن عقاب الله إياها، هو جار على سنته تعالى المطردة في الأمم، ولا يظلم تعالى أحدا بسلب نعمة ولا إيقاع نقمة، وإنما عقابه لهم أثر طبيعي لكفرهم وفسادهم وظلمهم لأنفسهم هذا هو المطرد في كل الأمم في جميع الأزمنة. وأما عقاب الاستئصال بعذاب سماوي فهو خاص بمن طلبوا الآيات من الرسل وأنذرهم العذاب إذا كفروا بها ففعلوا.
﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ( ٥٥ ) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ( ٥٦ ) فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ( ٥٧ ) وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( ٥٨ ) ولا يحسبَن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ( ٥٩ ) ﴾.
الآيات الثلاث الأولى بيان لحال فريق معين من الكفار الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوا بعد بيان حال مشركي قومه في قتالهم له في بدر، والمراد بهذا الفريق اليهود الذين كانوا في بلاد العرب كلها أو الحجاز منها وهو الراجح عندي. قال سعيد بن جبير نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت اهـ أو يهود المدينة أو بنو قريظة منهم وهو قول مجاهد، وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف كأبي جهل في مشركي مكة ـ والآية الرابعة في حكم أمثال هؤلاء الخونة، والخامسة في تهديدهم، وتأمين الرسول صلى الله عليه وسلم من عاقبة كيدهم.
قال تعالى :﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ( ٥٥ ) ﴾.
أي إن شر ما يدب على وجه الأرض عند الله أي في حكمه العدل على الخلق هم الكفار الذين جمعوا مع أصل الكفر الإصرار عليه والرسوخ فيه بحيث لا يرجى إيمانهم في جملتهم أو إيمان جمهورهم لأنهم بين رؤساء حاسدين للرسول صلى الله عليه وسلم معاندين له جاحدين بآيات الله المؤيدة لرسالته على علم كما قال تعالى فيهم ﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾ [ البقرة : ١٤٦ ] الآية، وبين مقلدين جامدين على التقليد لا ينظرون في الدلائل والآيات، ولا يبحثون في الحجج والبينات، حتى حملهم ذلك على نقض العهود ونكث الأيمان بحيث لا حيلة في الحياة معهم أو في جوارهم حياة سلم وأمان كما ثبت بالتجربة.
عبر عنهم بالدواب وهو اللفظ الذي غلب استعماله في البهائم ذوات الأربع أو فيما يركب منها لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط، بل هم أضل من عجماوات الدواب، لأن فيها منافع للناس وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم، فإنهم لشدة تعصبهم لجنسهم قد صاروا أعداء لسائر البشر كما قال في وصف أمثالهم ﴿ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ﴾ [ الفرقان : ٤٤ ] وكما قال في الآية ٢٢ من هذه السورة ﴿ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ﴾ [ الأنفال : ٢٢ ] وقد اقتبس أستاذنا الإمام هذا الاستعمال فقال في مقالة له من مقالات العروة الوثقى : وكثير ممن على شكل الإنسان يحيا حياته هذه بروح حيوان آخر وهو يعاني في تحصيل شهواتها أو قال كلمة أخرى قريبة منها أكثر مما يعانيه الإنسان في إبراز مزايا الإنسان.
وقال :﴿ الذين كفروا ﴾ فعبر عنهم بفعل الكفر دون الوصف ( الكافرون ) للإشارة إلى أنهم كانوا مؤمنين فعرض لهم الكفر، وهذا ظاهر في جملة اليهود الذي كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم كما كفروا بمن قبله، وهم في عرف القرآن متكافلون متشابهون آخرهم في ذلك كأولهم، وهو أظهر في يهود المدينة الذين كانوا في عصر الرسالة المحمدية فإنهم كانوا يعلمون أن الله سيبعث النبي الكامل الذي بشر به موسى في التوراة كما تقدم مفصلا في تفسير سورة الأعراف ومجملا في سورة البقرة وغيرها. وكانوا يعلمون أنه يبعث من العرب، لأن من نصوص التوراة الموجودة إلى الآن أنه تعالى يبعث لهم نبيا مثل موسى بين بني إخوتهم أي بني إسماعيل، وكانوا يطمعون في أن يكون هذا النبي منهم، ويرون أنه يكفي في صحة خبر التوراة ظهوره بين العرب وإن لم يكن منهم، لأن النبوة بزعمهم محتكرة محتجنة لبني إسرائيل، على ما اعتادوا من التحريف والتأويل.
وقال :﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ لأن كلمة « كفروا » لا تقتضي الثبات على الكفر دائما فعطف عليها الإخبار بأن كفرهم دائم لا يرجعون عنه في جملتهم، حتى ييأس الرسول والمؤمنون مما كانوا يرجون من إيمانهم، وهذا لا ينافي وقوع الإيمان من بعضهم وقد وقع، وهذا الخبر من أنباء الغيب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصول في المعاملـة
بين النبي صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة في السلم والحرب
نختم تفسير هذه الآيات بما شرحه المحقق ابن القيم لهذه المسألة في كتاب الهدي النبوي إتماما لما فسرنا به الآيات، وإثباتا له بالوقائع والبنيات، قال رحمه الله تعالى :
فصل : ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عدوه وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم، فمنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين وهؤلاء هم المنافقون، فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى.
فصالح يهود المدينة وكتب بينهم وبينه كتاب أمن وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر وشرقوا بوقعة بدر وأظهروا البغي والحسد فسارت إليهم جنود الله يقدمهم عبد الله ورسوله يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من مهاجره، وكانوا حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، وكانوا أشجع يهود المدينة، وحامل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة وهم أول من حارب من اليهود وتحصنوا في حصونهم فحاصرهم أشد حصار وقذف الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم فأمر بهم فكتفوا، وكلم عبد الله بن أبي فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وألح عليه فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم وكانوا صاغة وتجارا، وكانوا نحو الستمائة مقاتل وكانت دارهم في طرف المدينة، وقبض منهم أموالهم فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث قسي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح وخمس غنائمهم، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة.
فصل : ثم نقض العهد بنو النضير. قال البخاري وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر قاله عروة. وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري فقالوا نفعل يا أبا القاسم اجلس ههنا حتى نقضي حاجتك، وخلا بعضهم ببعض وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم وقالوا أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش أنا، فقال لهم سلام بن مشكم لا تفعلوا فوالله ليخبرن بما هممتم به وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، وجاء الوحي على الفور إليه من ربه تبارك وتعالى بما هموا به فنهض مسرعا وتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه فقالوا نهضت ولم نشعر بك فأخبرهم بما همت يهود به، وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها وقد أجلتكم عشرا فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه، فأقاموا أياما يتجهزون وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي أن لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤهم من غطفان، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله : إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونهضوا إليه وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء فلما انتهى إليهم أقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة واعتزلتهم قريظة وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان ولهذا شبه سبحانه وتعالى قصتهم وجعل مثلهم ﴿ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك ﴾ [ الحشر : ١٦ ] فإن سورة الحشر هي سورة بني النضير وفيها مبدأ قصتهم ونهايتها. فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم وحرق، فأرسلوا إليه نحن نخرج عن المدينة فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم وإن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم الأموال والحلقة وهي السلاح، وكانت بنو النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليها ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب وخمس قريظة.
قال مالك رضي الله عنه : خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة ولم يخمس بني النضير لأن المسلمين لم يوجفوا بخيلهم ولا ركابهم على بني النضير كما أوجفوا على قريظة، وأجلاهم إلى خيبر وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم، وقبض السلاح واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم فوجد من السلاح خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا، وقال هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش، وكانت قصتهم في ربيع أول سنة أربع من الهجرة.
فصل : وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظهم كفرا ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم، وكان سبب غزوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صلح جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في ديارهم فقال قد جئتكم بعز الدهر، جئتكم بقريش على ساداتها، وغطفان على قاداتها، وأنتم أهل الشوكة والسلاح، هلم حتى نناجز محمدا ونفرع منه فقال له رئيسهم : بل جئتني والله بذل الدهر، جئتني بسحاب قد أراق ماءه فهو يرعد ويبرق، فلم يزل يخادعه ويعده ويمنيه حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حصنه يصيبه ما أصابهم، ففعل ونقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهروا سبه، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فأرسل يستعلم الأمر فوجدهم قد نقضوا العهد فكبر وقال ( أبشروا يا معشر المسلمين ) فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يكن إلا أن وضع سلاحه فجاءه جبريل فقال : وضعت السلاح فإن الملائكة لم تضع أسلحتها فانهض بمن معك إلى بني قريظة فإني سائر معك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرعب. فسار جبرائيل في موكبه من الملائكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على إثره في موكبه من المهاجرين والأنصار.
فصل : وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونازل حصون بني قريظة وحصرهم خمسا وعشرين ليلة، ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد في دينه، وإما أن يقتلوا ذراريهم ويخرجوا إليه بالسيوف مصلتين يناجزونه حتى يظفروا به أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويكبسوهم يوم السبت لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدة منهن، فبعثوا إليه أن أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر نستشيره، فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون وقالوا يا أبا لبابة كيف ترى لنا أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال : نعم وأشار بيده إلى حلقه يقول إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه قد خان الله ورسوله فمضى على وجهه ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد، مسجد المدينة، فربط نفسه بسارية المسجد وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال :( دعوه حتى يتوب الله عليه ) ثم تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
ثم إنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه الأوس فقالوا يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج وهؤلاء موالينا فأحسن فيهم. فقال :( ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ ـ قالوا بلى ـ قال فذاك إلى سعد بن معاذ ) قالوا قد رضينا فأرسل إلى سعد بن معاذ وكان في المدينة لم يخرج معهم لجرح كان به فركب حمارا وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يقولون له وهم كنفية١ يا سعد اجمل إلى مواليك فأحسن فيهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمك فيهم لتحسن فيهم وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئا فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنفى إليهم ( كذا ) القوم فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة ( قوموا إلى سيدكم ) فلما أنزلوه قالوا يا سعد هؤلاء القوم نزلوا على حكمك. قال وحكمي نافذ عليهم ؟ قالوا نعم، قال وعلى المسلمين ؟ قالوا نعم قال وعلى من ههنا ؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له وتعظيما قال ( نعم وعلي ) قال فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتسبى الذرية وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ). وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول وهرب عمرو بن سعد فانطلق فلم يعلم أين ذهب وكان قد أبى الدخول معهم في نقض العهد. فلما حكم فيهم بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم ومن لم ينبت ألحق بالذرية فحفر لهم خنادق في سوق المدينة وضرب أعناقهم وكانوا بين الستمائة إلى السبعمائة، ولم يقتل من النساء أحدا سوى امرأة واحدة كانت طرحت على رأس سويد بن الصامت رحى فقتله» اهـ المراد من فصول الهدي بحروفه مع حذف بعض المسائل كصلاة العصر في قريظة.
وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير وأقر قريظة ومنّ عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين. إلا أن بعضهم لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم وأسلموا. وأجلى رسول الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم بني قينقاع [ وهم قوم عبد الله بن سلام ] ويهود بني حارثة وكل يهودي كان في المدينة اهـ ﴿ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ﴾ [ الحشر : ٨ ].
ثم إن كل هذا لم يعظ يهود خيبر ولم يزجرهم عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والكيد له بل كان من أمرهم السعي لتأليف الأحزاب من جميع القبائل لقتاله من قبل من لجأ إليهم من بني النضير كما تقدم فكانوا سبب غزوة الخندق التي زلزل المؤمنون فيها زلزالا شديدا كما وصفه الله تعالى في سورة الأحزاب، وسنحت للمؤمنين فرصة الاستراحة من شرهم بعد صلح المشركين في الحديبية في ذي القعدة سنة ست فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظفره الله بهم بعد حصار شديد لحصونهم وكان ذلك في المحرم سنة سبع وبذلك زالت قوة ليهود من بلاد الحجاز كلها.
هذا وإنه لما كان ما كان من أمر اليهود مما تقدم شرحه أمر الله عزّ وجلّ رسوله بإجلاء من بقي في ذمته منهم وإن كا

﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ( ٥٥ ) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ( ٥٦ ) فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ( ٥٧ ) وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( ٥٨ ) ولا يحسبَن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ( ٥٩ ) ﴾.
الآيات الثلاث الأولى بيان لحال فريق معين من الكفار الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوا بعد بيان حال مشركي قومه في قتالهم له في بدر، والمراد بهذا الفريق اليهود الذين كانوا في بلاد العرب كلها أو الحجاز منها وهو الراجح عندي. قال سعيد بن جبير نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت اهـ أو يهود المدينة أو بنو قريظة منهم وهو قول مجاهد، وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف كأبي جهل في مشركي مكة ـ والآية الرابعة في حكم أمثال هؤلاء الخونة، والخامسة في تهديدهم، وتأمين الرسول صلى الله عليه وسلم من عاقبة كيدهم.
ثم أيأسهم من ثباتهم على السلم الواجب عليهم بمقتضى العهد بعد إيئاسهم من اهتدائهم إلى الإسلام فقال :﴿ الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ( ٥٦ ) ﴾.
ف﴿ الذين ﴾ هذه بدل من الأولى أو عطف بيان لها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عقد مع يهود المدينة عقب هجرته إليها عهدا أقرهم فيه على دينهم وأمنهم على أنفسهم وأموالهم فنقض كل منهم عهده، فقوله تعالى ﴿ منهم ﴾ قيل معناه أخذت العهد منهم، وقيل «من » صلة والمراد عاهدتهم، والمتبادر أنها للتبعيض أي عاهدت بعضهم والمراد بهم طوائف يهود المدينة، ولا يظهر التبعيض فيه إلا إذا كانت الآيات في يهود بلاد العرب كلهم، وقيل قريظة بناء على أصل الكلام في يهود المدينة وهم منهم، وقيل زعماؤهم الذين تولوا عقد العهد معه صلى الله عليه وسلم بناء على أن أصل الكلام في بني قريظة، وإنما قال ﴿ ينقضون ﴾ بفعل الاستقبال مع أنهم كانوا قد نقضوه قبل نزول الآية لإفادة استمرارهم على ذلك، وأنه لم يكن هفوة رجعوا عنها وندموا عليها كما سيأتي عن بعضهم، بل إنهم ينقضونه ﴿ في كل مرة ﴾ وإن تكرر، وهو يصدق على عهود طوائف اليهود الذين كانوا حول المدينة في جملتهم وهم ثلاث طوائف كما سيأتي، ويصدق على بني قريظة وحدهم وكانوا أشدهم كفرا، فقد روي أنه تكرر عهده صلى الله عليه وسلم لهم.
قال بعض المفسرين وعزي إلى ابن عباس : هم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه بالسلاح في يوم بدر ثم قالوا نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالأوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وهم لا يتقون ﴾ الله في نقض العهد ولا يتقون ما قد يترتب عليه من قتالهم والظفر بهم. وسيأتي بعض التفصيل لمعاملة نبي الرحمة ورسول السلام صلى الله عليه وسلم لليهود بعد تفسير هذه الآيات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصول في المعاملـة
بين النبي صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة في السلم والحرب
نختم تفسير هذه الآيات بما شرحه المحقق ابن القيم لهذه المسألة في كتاب الهدي النبوي إتماما لما فسرنا به الآيات، وإثباتا له بالوقائع والبنيات، قال رحمه الله تعالى :
فصل : ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عدوه وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم، فمنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين وهؤلاء هم المنافقون، فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى.
فصالح يهود المدينة وكتب بينهم وبينه كتاب أمن وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر وشرقوا بوقعة بدر وأظهروا البغي والحسد فسارت إليهم جنود الله يقدمهم عبد الله ورسوله يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من مهاجره، وكانوا حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، وكانوا أشجع يهود المدينة، وحامل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة وهم أول من حارب من اليهود وتحصنوا في حصونهم فحاصرهم أشد حصار وقذف الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم فأمر بهم فكتفوا، وكلم عبد الله بن أبي فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وألح عليه فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم وكانوا صاغة وتجارا، وكانوا نحو الستمائة مقاتل وكانت دارهم في طرف المدينة، وقبض منهم أموالهم فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث قسي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح وخمس غنائمهم، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة.
فصل : ثم نقض العهد بنو النضير. قال البخاري وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر قاله عروة. وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري فقالوا نفعل يا أبا القاسم اجلس ههنا حتى نقضي حاجتك، وخلا بعضهم ببعض وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم وقالوا أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش أنا، فقال لهم سلام بن مشكم لا تفعلوا فوالله ليخبرن بما هممتم به وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، وجاء الوحي على الفور إليه من ربه تبارك وتعالى بما هموا به فنهض مسرعا وتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه فقالوا نهضت ولم نشعر بك فأخبرهم بما همت يهود به، وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها وقد أجلتكم عشرا فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه، فأقاموا أياما يتجهزون وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي أن لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤهم من غطفان، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله : إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونهضوا إليه وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء فلما انتهى إليهم أقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة واعتزلتهم قريظة وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان ولهذا شبه سبحانه وتعالى قصتهم وجعل مثلهم ﴿ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك ﴾ [ الحشر : ١٦ ] فإن سورة الحشر هي سورة بني النضير وفيها مبدأ قصتهم ونهايتها. فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم وحرق، فأرسلوا إليه نحن نخرج عن المدينة فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم وإن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم الأموال والحلقة وهي السلاح، وكانت بنو النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليها ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب وخمس قريظة.
قال مالك رضي الله عنه : خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة ولم يخمس بني النضير لأن المسلمين لم يوجفوا بخيلهم ولا ركابهم على بني النضير كما أوجفوا على قريظة، وأجلاهم إلى خيبر وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم، وقبض السلاح واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم فوجد من السلاح خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا، وقال هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش، وكانت قصتهم في ربيع أول سنة أربع من الهجرة.
فصل : وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظهم كفرا ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم، وكان سبب غزوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صلح جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في ديارهم فقال قد جئتكم بعز الدهر، جئتكم بقريش على ساداتها، وغطفان على قاداتها، وأنتم أهل الشوكة والسلاح، هلم حتى نناجز محمدا ونفرع منه فقال له رئيسهم : بل جئتني والله بذل الدهر، جئتني بسحاب قد أراق ماءه فهو يرعد ويبرق، فلم يزل يخادعه ويعده ويمنيه حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حصنه يصيبه ما أصابهم، ففعل ونقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهروا سبه، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فأرسل يستعلم الأمر فوجدهم قد نقضوا العهد فكبر وقال ( أبشروا يا معشر المسلمين ) فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يكن إلا أن وضع سلاحه فجاءه جبريل فقال : وضعت السلاح فإن الملائكة لم تضع أسلحتها فانهض بمن معك إلى بني قريظة فإني سائر معك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرعب. فسار جبرائيل في موكبه من الملائكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على إثره في موكبه من المهاجرين والأنصار.
فصل : وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونازل حصون بني قريظة وحصرهم خمسا وعشرين ليلة، ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد في دينه، وإما أن يقتلوا ذراريهم ويخرجوا إليه بالسيوف مصلتين يناجزونه حتى يظفروا به أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويكبسوهم يوم السبت لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدة منهن، فبعثوا إليه أن أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر نستشيره، فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون وقالوا يا أبا لبابة كيف ترى لنا أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال : نعم وأشار بيده إلى حلقه يقول إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه قد خان الله ورسوله فمضى على وجهه ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد، مسجد المدينة، فربط نفسه بسارية المسجد وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال :( دعوه حتى يتوب الله عليه ) ثم تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
ثم إنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه الأوس فقالوا يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج وهؤلاء موالينا فأحسن فيهم. فقال :( ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ ـ قالوا بلى ـ قال فذاك إلى سعد بن معاذ ) قالوا قد رضينا فأرسل إلى سعد بن معاذ وكان في المدينة لم يخرج معهم لجرح كان به فركب حمارا وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يقولون له وهم كنفية١ يا سعد اجمل إلى مواليك فأحسن فيهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمك فيهم لتحسن فيهم وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئا فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنفى إليهم ( كذا ) القوم فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة ( قوموا إلى سيدكم ) فلما أنزلوه قالوا يا سعد هؤلاء القوم نزلوا على حكمك. قال وحكمي نافذ عليهم ؟ قالوا نعم، قال وعلى المسلمين ؟ قالوا نعم قال وعلى من ههنا ؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له وتعظيما قال ( نعم وعلي ) قال فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتسبى الذرية وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ). وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول وهرب عمرو بن سعد فانطلق فلم يعلم أين ذهب وكان قد أبى الدخول معهم في نقض العهد. فلما حكم فيهم بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم ومن لم ينبت ألحق بالذرية فحفر لهم خنادق في سوق المدينة وضرب أعناقهم وكانوا بين الستمائة إلى السبعمائة، ولم يقتل من النساء أحدا سوى امرأة واحدة كانت طرحت على رأس سويد بن الصامت رحى فقتله» اهـ المراد من فصول الهدي بحروفه مع حذف بعض المسائل كصلاة العصر في قريظة.
وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير وأقر قريظة ومنّ عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين. إلا أن بعضهم لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم وأسلموا. وأجلى رسول الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم بني قينقاع [ وهم قوم عبد الله بن سلام ] ويهود بني حارثة وكل يهودي كان في المدينة اهـ ﴿ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ﴾ [ الحشر : ٨ ].
ثم إن كل هذا لم يعظ يهود خيبر ولم يزجرهم عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والكيد له بل كان من أمرهم السعي لتأليف الأحزاب من جميع القبائل لقتاله من قبل من لجأ إليهم من بني النضير كما تقدم فكانوا سبب غزوة الخندق التي زلزل المؤمنون فيها زلزالا شديدا كما وصفه الله تعالى في سورة الأحزاب، وسنحت للمؤمنين فرصة الاستراحة من شرهم بعد صلح المشركين في الحديبية في ذي القعدة سنة ست فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظفره الله بهم بعد حصار شديد لحصونهم وكان ذلك في المحرم سنة سبع وبذلك زالت قوة ليهود من بلاد الحجاز كلها.
هذا وإنه لما كان ما كان من أمر اليهود مما تقدم شرحه أمر الله عزّ وجلّ رسوله بإجلاء من بقي في ذمته منهم وإن كا

﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ( ٥٥ ) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ( ٥٦ ) فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ( ٥٧ ) وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( ٥٨ ) ولا يحسبَن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ( ٥٩ ) ﴾.
الآيات الثلاث الأولى بيان لحال فريق معين من الكفار الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوا بعد بيان حال مشركي قومه في قتالهم له في بدر، والمراد بهذا الفريق اليهود الذين كانوا في بلاد العرب كلها أو الحجاز منها وهو الراجح عندي. قال سعيد بن جبير نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت اهـ أو يهود المدينة أو بنو قريظة منهم وهو قول مجاهد، وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف كأبي جهل في مشركي مكة ـ والآية الرابعة في حكم أمثال هؤلاء الخونة، والخامسة في تهديدهم، وتأمين الرسول صلى الله عليه وسلم من عاقبة كيدهم.
﴿ فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ( ٥٧ ) ﴾.
ثم بين تعالى حكمهم بقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ فإما تثقفنهم في الحرب ﴾ قال الراغب : الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله ومنه استعير المثاقفة ورمح مثقف وما يثقف به الثقاف... ( قال ) ثم يتجوز به فيستعمل في الإدراك وإن لم تكن معه ثقافة. واستشهد بهذه الآية وغيرها، وقال غيره هو يدل على إدراكهم مع التمكن منهم والظهور عليهم. وفيه إيذان بأنهم سيحاربونه صلى الله عليه وسلم، لأن نقض العهد يكون بالحرب أو بما يقتضيها ويستلزمها وذلك من أنباء الغيب، إذ كان قبل وقوعه عقب غزوة بدر. والمعنى : فإن تدرك هؤلاء الناقضين لعهدهم وتصادفهم في الحرب ظاهرا عليهم ﴿ فشرد بهم من خلفهم ﴾ أي فنكل بهم تنكيلا يكونون به سببا لشرود من وراءهم من الأعداء وتفرقهم كالإبل الشاردة النادة اعتبارا بحالهم.
والمراد بمن خلف يهود المدينة كفار مكة وأعوانهم من مشركي القبائل الموالية لهم، فإنهم هم الذين تواطأوا مع اليهود الناكثين لعهده صلى الله عليه وسلم على قتاله، وإنما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالإثخان في هؤلاء الأعداء الذين تكررت مسالمته لهم وتجديده لعهدهم بعد نقضه لئلا ينخدع مرة أخرى بكذبهم لما جبل عليه من الرحمة وحب السلم وعده الحرب ضرورة اجتماعية تترك إذا زالت الضرورة الدافعة إليها، على القاعدة العامة التي ستأتي في آية ﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾ [ الأنفال : ٦١ ] وهؤلاء أوهموه المرة بعد المرة أنهم يرغبون في السلم، معتذرين عن نقضهم للعهد، وكانوا في ذلك مخادعين. والدليل على أن هذا الأمر بالغلظة عليهم والإثخان فيهم لتربيتهم واعتبار أمثالهم بحالهم دون حب الحرب أو الطمع في غنائمها قوله عزَّ وجلَّ ﴿ لعلهم يذكرون ﴾ أي لعل من خلفهم من الأعداء يتعظون ويعتبرون فلا يقدمون على القتال، ولا يعود المعاهد منهم لنقض العهد ونكث الإيمان. وقد روى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس في بعض أيامه التي لقي فيها العدو فقال :( يا أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم )١. وهذا يؤيد ما دلت عليه الآية من أن الحرب ليست محبوبة عند الله ولا عند رسوله لذاتها ولا لما فيها من مجد الدنيا، وإنما هي ضرورة اجتماعية يقصد بها منع البغي والعدوان، وإعلاء كلمة الحق والإيمان، ودحض الباطل واكتفاء شر أهله، بناء على سنة ﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ [ الرعد : ١٧ ] وتسمى في عرف عصرنا سنة الانتخاب الطبيعي.
وهذا الإرشاد الحربي في استعمال القسوة مع البادئين بالحرب والناقضين فيها لعهود السلم والتنكيل بالشر لتشريد من وراءهم متفق عليه بين قواد الحرب في هذا العصر، ولكنهم يقصدون مع ذلك الانتقام وشفاء ما في الصدور من الأحقاد، والسعي لإذلال العباد، والتمتع بالغنائم من مال وعقار، ودون الموعظة والتربية بالاعتبار.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصول في المعاملـة
بين النبي صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة في السلم والحرب
نختم تفسير هذه الآيات بما شرحه المحقق ابن القيم لهذه المسألة في كتاب الهدي النبوي إتماما لما فسرنا به الآيات، وإثباتا له بالوقائع والبنيات، قال رحمه الله تعالى :
فصل : ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عدوه وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم، فمنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين وهؤلاء هم المنافقون، فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى.
فصالح يهود المدينة وكتب بينهم وبينه كتاب أمن وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر وشرقوا بوقعة بدر وأظهروا البغي والحسد فسارت إليهم جنود الله يقدمهم عبد الله ورسوله يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من مهاجره، وكانوا حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، وكانوا أشجع يهود المدينة، وحامل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة وهم أول من حارب من اليهود وتحصنوا في حصونهم فحاصرهم أشد حصار وقذف الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم فأمر بهم فكتفوا، وكلم عبد الله بن أبي فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وألح عليه فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم وكانوا صاغة وتجارا، وكانوا نحو الستمائة مقاتل وكانت دارهم في طرف المدينة، وقبض منهم أموالهم فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث قسي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح وخمس غنائمهم، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة.
فصل : ثم نقض العهد بنو النضير. قال البخاري وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر قاله عروة. وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري فقالوا نفعل يا أبا القاسم اجلس ههنا حتى نقضي حاجتك، وخلا بعضهم ببعض وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم وقالوا أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش أنا، فقال لهم سلام بن مشكم لا تفعلوا فوالله ليخبرن بما هممتم به وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، وجاء الوحي على الفور إليه من ربه تبارك وتعالى بما هموا به فنهض مسرعا وتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه فقالوا نهضت ولم نشعر بك فأخبرهم بما همت يهود به، وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها وقد أجلتكم عشرا فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه، فأقاموا أياما يتجهزون وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي أن لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤهم من غطفان، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله : إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونهضوا إليه وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء فلما انتهى إليهم أقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة واعتزلتهم قريظة وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان ولهذا شبه سبحانه وتعالى قصتهم وجعل مثلهم ﴿ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك ﴾ [ الحشر : ١٦ ] فإن سورة الحشر هي سورة بني النضير وفيها مبدأ قصتهم ونهايتها. فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم وحرق، فأرسلوا إليه نحن نخرج عن المدينة فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم وإن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم الأموال والحلقة وهي السلاح، وكانت بنو النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليها ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب وخمس قريظة.
قال مالك رضي الله عنه : خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة ولم يخمس بني النضير لأن المسلمين لم يوجفوا بخيلهم ولا ركابهم على بني النضير كما أوجفوا على قريظة، وأجلاهم إلى خيبر وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم، وقبض السلاح واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم فوجد من السلاح خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا، وقال هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش، وكانت قصتهم في ربيع أول سنة أربع من الهجرة.
فصل : وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظهم كفرا ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم، وكان سبب غزوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صلح جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في ديارهم فقال قد جئتكم بعز الدهر، جئتكم بقريش على ساداتها، وغطفان على قاداتها، وأنتم أهل الشوكة والسلاح، هلم حتى نناجز محمدا ونفرع منه فقال له رئيسهم : بل جئتني والله بذل الدهر، جئتني بسحاب قد أراق ماءه فهو يرعد ويبرق، فلم يزل يخادعه ويعده ويمنيه حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حصنه يصيبه ما أصابهم، ففعل ونقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهروا سبه، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فأرسل يستعلم الأمر فوجدهم قد نقضوا العهد فكبر وقال ( أبشروا يا معشر المسلمين ) فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يكن إلا أن وضع سلاحه فجاءه جبريل فقال : وضعت السلاح فإن الملائكة لم تضع أسلحتها فانهض بمن معك إلى بني قريظة فإني سائر معك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرعب. فسار جبرائيل في موكبه من الملائكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على إثره في موكبه من المهاجرين والأنصار.
فصل : وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونازل حصون بني قريظة وحصرهم خمسا وعشرين ليلة، ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد في دينه، وإما أن يقتلوا ذراريهم ويخرجوا إليه بالسيوف مصلتين يناجزونه حتى يظفروا به أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويكبسوهم يوم السبت لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدة منهن، فبعثوا إليه أن أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر نستشيره، فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون وقالوا يا أبا لبابة كيف ترى لنا أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال : نعم وأشار بيده إلى حلقه يقول إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه قد خان الله ورسوله فمضى على وجهه ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد، مسجد المدينة، فربط نفسه بسارية المسجد وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال :( دعوه حتى يتوب الله عليه ) ثم تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
ثم إنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه الأوس فقالوا يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج وهؤلاء موالينا فأحسن فيهم. فقال :( ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ ـ قالوا بلى ـ قال فذاك إلى سعد بن معاذ ) قالوا قد رضينا فأرسل إلى سعد بن معاذ وكان في المدينة لم يخرج معهم لجرح كان به فركب حمارا وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يقولون له وهم كنفية١ يا سعد اجمل إلى مواليك فأحسن فيهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمك فيهم لتحسن فيهم وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئا فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنفى إليهم ( كذا ) القوم فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة ( قوموا إلى سيدكم ) فلما أنزلوه قالوا يا سعد هؤلاء القوم نزلوا على حكمك. قال وحكمي نافذ عليهم ؟ قالوا نعم، قال وعلى المسلمين ؟ قالوا نعم قال وعلى من ههنا ؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له وتعظيما قال ( نعم وعلي ) قال فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتسبى الذرية وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ). وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول وهرب عمرو بن سعد فانطلق فلم يعلم أين ذهب وكان قد أبى الدخول معهم في نقض العهد. فلما حكم فيهم بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم ومن لم ينبت ألحق بالذرية فحفر لهم خنادق في سوق المدينة وضرب أعناقهم وكانوا بين الستمائة إلى السبعمائة، ولم يقتل من النساء أحدا سوى امرأة واحدة كانت طرحت على رأس سويد بن الصامت رحى فقتله» اهـ المراد من فصول الهدي بحروفه مع حذف بعض المسائل كصلاة العصر في قريظة.
وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير وأقر قريظة ومنّ عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين. إلا أن بعضهم لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم وأسلموا. وأجلى رسول الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم بني قينقاع [ وهم قوم عبد الله بن سلام ] ويهود بني حارثة وكل يهودي كان في المدينة اهـ ﴿ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ﴾ [ الحشر : ٨ ].
ثم إن كل هذا لم يعظ يهود خيبر ولم يزجرهم عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والكيد له بل كان من أمرهم السعي لتأليف الأحزاب من جميع القبائل لقتاله من قبل من لجأ إليهم من بني النضير كما تقدم فكانوا سبب غزوة الخندق التي زلزل المؤمنون فيها زلزالا شديدا كما وصفه الله تعالى في سورة الأحزاب، وسنحت للمؤمنين فرصة الاستراحة من شرهم بعد صلح المشركين في الحديبية في ذي القعدة سنة ست فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظفره الله بهم بعد حصار شديد لحصونهم وكان ذلك في المحرم سنة سبع وبذلك زالت قوة ليهود من بلاد الحجاز كلها.
هذا وإنه لما كان ما كان من أمر اليهود مما تقدم شرحه أمر الله عزّ وجلّ رسوله بإجلاء من بقي في ذمته منهم وإن كا


١ ـ أخرجه البخاري في الجهاد باب ١١٢، ١٥٦، ومسلم في الجهاد حديث ٢٠، وأبو داود في الجهاد باب ٨٩، وأحمد في المسند ٤/ ٣٥٤..
﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ( ٥٥ ) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ( ٥٦ ) فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ( ٥٧ ) وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( ٥٨ ) ولا يحسبَن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ( ٥٩ ) ﴾.
الآيات الثلاث الأولى بيان لحال فريق معين من الكفار الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوا بعد بيان حال مشركي قومه في قتالهم له في بدر، والمراد بهذا الفريق اليهود الذين كانوا في بلاد العرب كلها أو الحجاز منها وهو الراجح عندي. قال سعيد بن جبير نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت اهـ أو يهود المدينة أو بنو قريظة منهم وهو قول مجاهد، وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف كأبي جهل في مشركي مكة ـ والآية الرابعة في حكم أمثال هؤلاء الخونة، والخامسة في تهديدهم، وتأمين الرسول صلى الله عليه وسلم من عاقبة كيدهم.
ثم بين تعالى حكم من لا ثقة بعهودهم من الكفار الذين يخشى منهم نقضها عند ما تسنح لهم غرة فقال :
﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ﴾ أي وإن تتوقع من قوم خيانة بنقض عهدك معهم بأن يظهر لك من الدلائل والقرائن ما ينذر به، فاقطع عليهم طريق الخيانة لك قبل وقوعه، بأن تنبذ إليهم عهدهم، أي تعلمهم بفسخه وعدم تقيدك به، ولا اهتمامك بأمرهم فيه. شبه ما لا ثقة بوفائهم به من عهودهم بالشيء الذي يلقى باحتقار ويرمى كالنوى التي يلفظها الآكل ويرميها تحت قدميه : انبذه إليهم على سواء أي على طريق سوي واضح لا خداع فيه ولا استخفاء ولا خيانة ولا ظلم. وقال البغوي : يقول أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم اه. وأما الذين ينقضون العهد بالفعل فلا حاجة إلى نبذ المسلمين عهدهم إليهم، بل يناجزون الحرب عند الإمكان كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين نقضت قريش عهد الحديبية بينه وبينهم بمظاهرة بكر على خزاعة الذين كانوا في ذمته صلى الله عليه وسلم.
والحكمة في هذا النبذ لعهد من ذكر ؛ بل العلة له : أن الإسلام لا يبيح لأهله الخيانة مطلقا، فكيف تقع من أكمل البشر الذي كان يلقبه أهل وطنه منذ تمييزه بالأمين، ثم بعثه الله ليتمم مكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله تعالى :﴿ إن الله لا يحب الخائنين ﴾ بنقض عهودهم مع الناس ولا بغير ذلك. فالخيانة مبغوضة عند الله بجميع صورها ومظاهرها.
فلا وسيلة إذاً لالتقاء ضرر خيانة المعاهدين من الكفار إذا ظهرت أماراتها منهم مع عدم إباحة معاملتهم بمثلها مع بقاء العهد من جهتنا، وعدم جواز حسبانه كما يقول الأقوياء من ملوك أوربة «قصاصة ورق » إلا نبذ عهدهم جهرا. وقد تكون هذه الوسيلة مانعة من خيانة العقلاء منهم الذين يتقون عاقبة نقض العهد، إذا كانوا ضعفاء لا يتجرأون على الخيانة، إلا إذا كانوا آمنين من معاملة الرسول والمؤمنين لهم معاملة الأعداء المحاربين ومناجزتهم إياهم القتال، كما دل عليه قوله تعالى :﴿ لعلهم يتقون ﴾.
روى البيهقي في شعب الإيمان عن ميمون بن مهران قال : ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء : من عاهدته فوف بعهده مسلما كان أو كافرا فإنما العهد لله، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها مسلما كان أو كافرا، ومن ائتمنك على أمانة فأدها إليه مسلما كان أو كافرا. وروى فيها عن سليم بن عامر قال كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير حتى يكون قريبا من أرضهم فإذا انقضت المدة أغار عليهم، فجاءه عمرو بن عنبسة رضي الله عنه فقال وفاء لا غدر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمرها وينبذ إليهم على سواء ) قال : فرجع معاوية بالجيوش. فهذا صحابي وعظ قائدا صحابيا من الاستعداد للحرب في وقت عهد السلم فاتعظ ورجع.
وفي هذه الآية والآثار الواردة في معناها من مراعاة الحق والعدل في الحرب ما انفرد به الإسلام دون الشرائع السابقة، وقوانين المدنية اللاحقة. ومع هذه الفضائل والمزايا كلها يطعن دعاة النصرانية وغيرهم من مكابري الحق في هذا الدين، وفي أخلاق من أنزل الله تعالى عليه هذه الأحكام الشريفة وقال له :﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ [ القلم : ٤ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصول في المعاملـة
بين النبي صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة في السلم والحرب
نختم تفسير هذه الآيات بما شرحه المحقق ابن القيم لهذه المسألة في كتاب الهدي النبوي إتماما لما فسرنا به الآيات، وإثباتا له بالوقائع والبنيات، قال رحمه الله تعالى :
فصل : ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عدوه وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم، فمنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين وهؤلاء هم المنافقون، فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى.
فصالح يهود المدينة وكتب بينهم وبينه كتاب أمن وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر وشرقوا بوقعة بدر وأظهروا البغي والحسد فسارت إليهم جنود الله يقدمهم عبد الله ورسوله يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من مهاجره، وكانوا حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، وكانوا أشجع يهود المدينة، وحامل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة وهم أول من حارب من اليهود وتحصنوا في حصونهم فحاصرهم أشد حصار وقذف الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم فأمر بهم فكتفوا، وكلم عبد الله بن أبي فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وألح عليه فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم وكانوا صاغة وتجارا، وكانوا نحو الستمائة مقاتل وكانت دارهم في طرف المدينة، وقبض منهم أموالهم فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث قسي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح وخمس غنائمهم، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة.
فصل : ثم نقض العهد بنو النضير. قال البخاري وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر قاله عروة. وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري فقالوا نفعل يا أبا القاسم اجلس ههنا حتى نقضي حاجتك، وخلا بعضهم ببعض وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم وقالوا أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش أنا، فقال لهم سلام بن مشكم لا تفعلوا فوالله ليخبرن بما هممتم به وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، وجاء الوحي على الفور إليه من ربه تبارك وتعالى بما هموا به فنهض مسرعا وتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه فقالوا نهضت ولم نشعر بك فأخبرهم بما همت يهود به، وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها وقد أجلتكم عشرا فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه، فأقاموا أياما يتجهزون وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي أن لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤهم من غطفان، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله : إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونهضوا إليه وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء فلما انتهى إليهم أقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة واعتزلتهم قريظة وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان ولهذا شبه سبحانه وتعالى قصتهم وجعل مثلهم ﴿ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك ﴾ [ الحشر : ١٦ ] فإن سورة الحشر هي سورة بني النضير وفيها مبدأ قصتهم ونهايتها. فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم وحرق، فأرسلوا إليه نحن نخرج عن المدينة فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم وإن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم الأموال والحلقة وهي السلاح، وكانت بنو النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليها ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب وخمس قريظة.
قال مالك رضي الله عنه : خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة ولم يخمس بني النضير لأن المسلمين لم يوجفوا بخيلهم ولا ركابهم على بني النضير كما أوجفوا على قريظة، وأجلاهم إلى خيبر وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم، وقبض السلاح واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم فوجد من السلاح خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا، وقال هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش، وكانت قصتهم في ربيع أول سنة أربع من الهجرة.
فصل : وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظهم كفرا ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم، وكان سبب غزوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صلح جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في ديارهم فقال قد جئتكم بعز الدهر، جئتكم بقريش على ساداتها، وغطفان على قاداتها، وأنتم أهل الشوكة والسلاح، هلم حتى نناجز محمدا ونفرع منه فقال له رئيسهم : بل جئتني والله بذل الدهر، جئتني بسحاب قد أراق ماءه فهو يرعد ويبرق، فلم يزل يخادعه ويعده ويمنيه حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حصنه يصيبه ما أصابهم، ففعل ونقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهروا سبه، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فأرسل يستعلم الأمر فوجدهم قد نقضوا العهد فكبر وقال ( أبشروا يا معشر المسلمين ) فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يكن إلا أن وضع سلاحه فجاءه جبريل فقال : وضعت السلاح فإن الملائكة لم تضع أسلحتها فانهض بمن معك إلى بني قريظة فإني سائر معك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرعب. فسار جبرائيل في موكبه من الملائكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على إثره في موكبه من المهاجرين والأنصار.
فصل : وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونازل حصون بني قريظة وحصرهم خمسا وعشرين ليلة، ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد في دينه، وإما أن يقتلوا ذراريهم ويخرجوا إليه بالسيوف مصلتين يناجزونه حتى يظفروا به أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويكبسوهم يوم السبت لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدة منهن، فبعثوا إليه أن أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر نستشيره، فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون وقالوا يا أبا لبابة كيف ترى لنا أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال : نعم وأشار بيده إلى حلقه يقول إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه قد خان الله ورسوله فمضى على وجهه ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد، مسجد المدينة، فربط نفسه بسارية المسجد وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال :( دعوه حتى يتوب الله عليه ) ثم تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
ثم إنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه الأوس فقالوا يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج وهؤلاء موالينا فأحسن فيهم. فقال :( ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ ـ قالوا بلى ـ قال فذاك إلى سعد بن معاذ ) قالوا قد رضينا فأرسل إلى سعد بن معاذ وكان في المدينة لم يخرج معهم لجرح كان به فركب حمارا وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يقولون له وهم كنفية١ يا سعد اجمل إلى مواليك فأحسن فيهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمك فيهم لتحسن فيهم وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئا فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنفى إليهم ( كذا ) القوم فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة ( قوموا إلى سيدكم ) فلما أنزلوه قالوا يا سعد هؤلاء القوم نزلوا على حكمك. قال وحكمي نافذ عليهم ؟ قالوا نعم، قال وعلى المسلمين ؟ قالوا نعم قال وعلى من ههنا ؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له وتعظيما قال ( نعم وعلي ) قال فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتسبى الذرية وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ). وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول وهرب عمرو بن سعد فانطلق فلم يعلم أين ذهب وكان قد أبى الدخول معهم في نقض العهد. فلما حكم فيهم بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم ومن لم ينبت ألحق بالذرية فحفر لهم خنادق في سوق المدينة وضرب أعناقهم وكانوا بين الستمائة إلى السبعمائة، ولم يقتل من النساء أحدا سوى امرأة واحدة كانت طرحت على رأس سويد بن الصامت رحى فقتله» اهـ المراد من فصول الهدي بحروفه مع حذف بعض المسائل كصلاة العصر في قريظة.
وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير وأقر قريظة ومنّ عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين. إلا أن بعضهم لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم وأسلموا. وأجلى رسول الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم بني قينقاع [ وهم قوم عبد الله بن سلام ] ويهود بني حارثة وكل يهودي كان في المدينة اهـ ﴿ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ﴾ [ الحشر : ٨ ].
ثم إن كل هذا لم يعظ يهود خيبر ولم يزجرهم عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والكيد له بل كان من أمرهم السعي لتأليف الأحزاب من جميع القبائل لقتاله من قبل من لجأ إليهم من بني النضير كما تقدم فكانوا سبب غزوة الخندق التي زلزل المؤمنون فيها زلزالا شديدا كما وصفه الله تعالى في سورة الأحزاب، وسنحت للمؤمنين فرصة الاستراحة من شرهم بعد صلح المشركين في الحديبية في ذي القعدة سنة ست فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظفره الله بهم بعد حصار شديد لحصونهم وكان ذلك في المحرم سنة سبع وبذلك زالت قوة ليهود من بلاد الحجاز كلها.
هذا وإنه لما كان ما كان من أمر اليهود مما تقدم شرحه أمر الله عزّ وجلّ رسوله بإجلاء من بقي في ذمته منهم وإن كا

﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ( ٥٥ ) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ( ٥٦ ) فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ( ٥٧ ) وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( ٥٨ ) ولا يحسبَن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ( ٥٩ ) ﴾.
الآيات الثلاث الأولى بيان لحال فريق معين من الكفار الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوا بعد بيان حال مشركي قومه في قتالهم له في بدر، والمراد بهذا الفريق اليهود الذين كانوا في بلاد العرب كلها أو الحجاز منها وهو الراجح عندي. قال سعيد بن جبير نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت اهـ أو يهود المدينة أو بنو قريظة منهم وهو قول مجاهد، وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف كأبي جهل في مشركي مكة ـ والآية الرابعة في حكم أمثال هؤلاء الخونة، والخامسة في تهديدهم، وتأمين الرسول صلى الله عليه وسلم من عاقبة كيدهم.
﴿ ولا يحسبَن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ( ٥٩ ) ﴾.
ثم أنذر الله تعالى أولئك الخائنين بالفعل ما سيحل بهم فقال :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة وحفص ( يحسبن ) بالمثناة التحتية والباقون بالفوقية، وهذه القراءة أظهر، ومعناها ولا تحسبن أيها الرسول أن هؤلاء الذين كفروا قد سبقونا بخيانتهم لك ونقضهم لعهدك بالسر مرة بع مرة، بأن أفلتوا من عقابنا متحصنين بعهدهم الذي يمنعك من قتالهم ومثله قوله تعالى :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ﴾ [ العنكبوت : ٤ ] وأما القراءة الأولى فمعناها : ولا يحسبن حاسب أو أحد أن الذين كفروا قد سبقونا بما ذكر من نقضهم للعهد، ومظاهرتهم لأهل الشرك في الحرب أو لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقونا ونجوا من عاقبة خيانتهم وشرهم، وقد علل هذا النهي بقوله عز وعلا :
﴿ إنهم لا يعجزون ﴾ قرأه الجمهور بكسر إن على الاستئناف، وابن عامر بفتحها بتقدير لأنهم، وحذف لام التعليل مطرد في مثل هذا. والمعنى أنهم لا يعجزون الله تعالى بمكرهم وخيانتهم لرسوله بمساعدة المشركين عليه، بل هو سيجزيهم ويسلط رسوله والمؤمنين عليهم، فيذيقونهم عاقبة كيدهم. وهذا كما قال في نبذ عهود المشركين في أول سورة براءة ﴿ واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ﴾ [ التوبة : ٢ ] فهو قد أعلم رسوله بخيانتهم، وأذن له بنبذ عهدهم، ليحل له مناجزتهم القتال جزاء على مساعدتهم لأعدائه عليهم وإغرائهم بقتاله.
وفي هذه الآية دليل على أن ما أوجبه الإسلام من المحافظة على العهود مع المحالفين من أعدائه المخالفين له في الدين، وما حرمه من الخيانة لهم فيها، ما شرعه من العدل والصراحة في معاملتهم ليس عن ضعف ولا عن عجز، بل عن قوة وتأييد إلهي، وقد نصر الله تعالى المسلمين على اليهود الخائنين الناقضين لعهودهم، وثبت بهذا أن قتال المسلمين لهم وإجلاءهم لبقية السيف منهم من جوار عاصمة الإسلام ثم من مهده ومعقله ( الحجاز ) كان عدلا وحقا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصول في المعاملـة
بين النبي صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة في السلم والحرب
نختم تفسير هذه الآيات بما شرحه المحقق ابن القيم لهذه المسألة في كتاب الهدي النبوي إتماما لما فسرنا به الآيات، وإثباتا له بالوقائع والبنيات، قال رحمه الله تعالى :
فصل : ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عدوه وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم، فمنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين وهؤلاء هم المنافقون، فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى.
فصالح يهود المدينة وكتب بينهم وبينه كتاب أمن وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر وشرقوا بوقعة بدر وأظهروا البغي والحسد فسارت إليهم جنود الله يقدمهم عبد الله ورسوله يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من مهاجره، وكانوا حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، وكانوا أشجع يهود المدينة، وحامل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة وهم أول من حارب من اليهود وتحصنوا في حصونهم فحاصرهم أشد حصار وقذف الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم فأمر بهم فكتفوا، وكلم عبد الله بن أبي فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وألح عليه فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم وكانوا صاغة وتجارا، وكانوا نحو الستمائة مقاتل وكانت دارهم في طرف المدينة، وقبض منهم أموالهم فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث قسي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح وخمس غنائمهم، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة.
فصل : ثم نقض العهد بنو النضير. قال البخاري وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر قاله عروة. وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري فقالوا نفعل يا أبا القاسم اجلس ههنا حتى نقضي حاجتك، وخلا بعضهم ببعض وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم وقالوا أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش أنا، فقال لهم سلام بن مشكم لا تفعلوا فوالله ليخبرن بما هممتم به وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، وجاء الوحي على الفور إليه من ربه تبارك وتعالى بما هموا به فنهض مسرعا وتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه فقالوا نهضت ولم نشعر بك فأخبرهم بما همت يهود به، وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها وقد أجلتكم عشرا فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه، فأقاموا أياما يتجهزون وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي أن لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤهم من غطفان، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله : إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونهضوا إليه وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء فلما انتهى إليهم أقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة واعتزلتهم قريظة وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان ولهذا شبه سبحانه وتعالى قصتهم وجعل مثلهم ﴿ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك ﴾ [ الحشر : ١٦ ] فإن سورة الحشر هي سورة بني النضير وفيها مبدأ قصتهم ونهايتها. فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم وحرق، فأرسلوا إليه نحن نخرج عن المدينة فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم وإن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم الأموال والحلقة وهي السلاح، وكانت بنو النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليها ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب وخمس قريظة.
قال مالك رضي الله عنه : خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة ولم يخمس بني النضير لأن المسلمين لم يوجفوا بخيلهم ولا ركابهم على بني النضير كما أوجفوا على قريظة، وأجلاهم إلى خيبر وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم، وقبض السلاح واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم فوجد من السلاح خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا، وقال هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش، وكانت قصتهم في ربيع أول سنة أربع من الهجرة.
فصل : وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظهم كفرا ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم، وكان سبب غزوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صلح جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في ديارهم فقال قد جئتكم بعز الدهر، جئتكم بقريش على ساداتها، وغطفان على قاداتها، وأنتم أهل الشوكة والسلاح، هلم حتى نناجز محمدا ونفرع منه فقال له رئيسهم : بل جئتني والله بذل الدهر، جئتني بسحاب قد أراق ماءه فهو يرعد ويبرق، فلم يزل يخادعه ويعده ويمنيه حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حصنه يصيبه ما أصابهم، ففعل ونقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهروا سبه، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فأرسل يستعلم الأمر فوجدهم قد نقضوا العهد فكبر وقال ( أبشروا يا معشر المسلمين ) فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يكن إلا أن وضع سلاحه فجاءه جبريل فقال : وضعت السلاح فإن الملائكة لم تضع أسلحتها فانهض بمن معك إلى بني قريظة فإني سائر معك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرعب. فسار جبرائيل في موكبه من الملائكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على إثره في موكبه من المهاجرين والأنصار.
فصل : وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونازل حصون بني قريظة وحصرهم خمسا وعشرين ليلة، ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد في دينه، وإما أن يقتلوا ذراريهم ويخرجوا إليه بالسيوف مصلتين يناجزونه حتى يظفروا به أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويكبسوهم يوم السبت لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدة منهن، فبعثوا إليه أن أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر نستشيره، فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون وقالوا يا أبا لبابة كيف ترى لنا أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال : نعم وأشار بيده إلى حلقه يقول إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه قد خان الله ورسوله فمضى على وجهه ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد، مسجد المدينة، فربط نفسه بسارية المسجد وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال :( دعوه حتى يتوب الله عليه ) ثم تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
ثم إنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه الأوس فقالوا يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج وهؤلاء موالينا فأحسن فيهم. فقال :( ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ ـ قالوا بلى ـ قال فذاك إلى سعد بن معاذ ) قالوا قد رضينا فأرسل إلى سعد بن معاذ وكان في المدينة لم يخرج معهم لجرح كان به فركب حمارا وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يقولون له وهم كنفية١ يا سعد اجمل إلى مواليك فأحسن فيهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمك فيهم لتحسن فيهم وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئا فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنفى إليهم ( كذا ) القوم فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة ( قوموا إلى سيدكم ) فلما أنزلوه قالوا يا سعد هؤلاء القوم نزلوا على حكمك. قال وحكمي نافذ عليهم ؟ قالوا نعم، قال وعلى المسلمين ؟ قالوا نعم قال وعلى من ههنا ؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له وتعظيما قال ( نعم وعلي ) قال فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتسبى الذرية وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ). وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول وهرب عمرو بن سعد فانطلق فلم يعلم أين ذهب وكان قد أبى الدخول معهم في نقض العهد. فلما حكم فيهم بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم ومن لم ينبت ألحق بالذرية فحفر لهم خنادق في سوق المدينة وضرب أعناقهم وكانوا بين الستمائة إلى السبعمائة، ولم يقتل من النساء أحدا سوى امرأة واحدة كانت طرحت على رأس سويد بن الصامت رحى فقتله» اهـ المراد من فصول الهدي بحروفه مع حذف بعض المسائل كصلاة العصر في قريظة.
وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير وأقر قريظة ومنّ عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين. إلا أن بعضهم لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم وأسلموا. وأجلى رسول الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم بني قينقاع [ وهم قوم عبد الله بن سلام ] ويهود بني حارثة وكل يهودي كان في المدينة اهـ ﴿ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ﴾ [ الحشر : ٨ ].
ثم إن كل هذا لم يعظ يهود خيبر ولم يزجرهم عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والكيد له بل كان من أمرهم السعي لتأليف الأحزاب من جميع القبائل لقتاله من قبل من لجأ إليهم من بني النضير كما تقدم فكانوا سبب غزوة الخندق التي زلزل المؤمنون فيها زلزالا شديدا كما وصفه الله تعالى في سورة الأحزاب، وسنحت للمؤمنين فرصة الاستراحة من شرهم بعد صلح المشركين في الحديبية في ذي القعدة سنة ست فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظفره الله بهم بعد حصار شديد لحصونهم وكان ذلك في المحرم سنة سبع وبذلك زالت قوة ليهود من بلاد الحجاز كلها.
هذا وإنه لما كان ما كان من أمر اليهود مما تقدم شرحه أمر الله عزّ وجلّ رسوله بإجلاء من بقي في ذمته منهم وإن كا

﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ( ٦٠ ) إن جنحوا إلى السلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ( ٦١ ) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ( ٦٢ ) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ( ٦٣ ) ﴾.
علم من الآيات التي قبل هذه أن أهل الكتاب من اليهود الذين عقد النبي صلى الله عليه وسلم معهم العهود التي أمنهم بها على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم قد خانوه ونقضوا عهده وساعدوا عليه أعداءه من المشركين الذين أخرجوه هو ومن آمن به من ديارهم ووطنهم ثم تبعوه إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه لأجل دينهم، وأنه بذلك صار جميع أهل الحجاز الذين كفروا بما جاء به من الحق حربا له، المشركين وأهل الكتاب سواء، فناسب بعد ذلك أن يبين تعالى للمؤمنين ما يجب عليهم في حال الحرب التي كانت أمرا واقعا لم يكونوا هم المحدثين له ولا البادئين بالعدوان فيه، كما أنه سنة من سنن الاجتماع البشري في المصارعة بين الحق والباطل، والقوة والضعف.
وذلك قوله عزَّ وجلَّ :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ( ٦٠ ) ﴾.
﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ﴾ الإعداد تهيئة الشيء للمستقبل، والرباط في أصل اللغة الحبل الذي تربط به الدابة كالمربط [ بالكسر ] ورباط الخيل حبسها واقتناؤها ورابط الجيش : أقام في الثغر، والأصل أن يربط هؤلاء وهؤلاء خيولهم ثم سمى الإقامة في الثغر مرابطة ورباطا اه من الأساس.
أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأن يجعلوا الاستعداد للحرب «التي علموا أن لا مندوحة عنها لدفع العدوان والشر ولحفظ الأنفس ودعاية الحق والعدل والفضيلة » بأمرين : أحدهما : إعداد جميع أسباب القوة لها بقدر الاستطاعة. وثانيها : مرابطة فرسانهم في ثغور بلادهم وحدودها وهي مداخل الأعداء ومواضع مهاجمتهم للبلاد، والمراد أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فاجأها العدو على غرة : قوامه الفرسان لسرعة حركتهم وقدرتهم على الجمع بين القتال وإيصال أخباره من ثغور البلاد إلى عاصمتها وسائر أرجائها. ولذلك عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها. وهذان الأمران هما اللذان تعول عليهما الدول الحربية إلى هذا العهد التي ارتقت فيه الفنون العسكرية وعتاد الحرب إلى درجة لم يسبق لها نظير بل لم تكن تدركها العقول ولا تتخيلها الأفكار.
ومن المعلوم بالبداهة أن إعداد المستطاع من القوة يختلف امتثال الأمر الرباني به باختلاف درجات الاستطاعة في كل زمان ومكان بحسبه. وقد روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلا هذه الآية على المنبر يقول :( ألا إن القوة الرمي )١ قالها ثلاثا، وهذا كما قال بعض المفسرين من قبيل حديث «الحج عرفة »٢ بمعنى أن كلا منهما أعظم الأركان في بابه، وذلك أن رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة، وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كل ما يرمي به العدو من سهم أو قذيفة منجنيق أو طيارة أو بندقية أو مدفع وغير ذلك وإن لم يكن كل هذا معروفا في عصره صلى الله عليه وسلم فإن اللفظ يشمله والمراد منه يقتضيه ولو كان قيده بالسهام المعروفة في ذلك العصر فكيف وهو لم يقيده، وما يدرينا لعل الله تعالى أجراه على لسان رسوله مطلقا ليدل على العموم لأمته في كل عصر بحسب ما يرمى به فيه وهنالك أحاديث في الحث على الرمي بالسهام، لأنه كرمي الرصاص في هذه الأيام. على أن لفظ الآية أدل على العموم لأنه أمر بالمستطاع موجه إلى الأمة في كل زمان ومكان كسائر خطابات التشريع حتى ما كان منها واردا في سبب معين.
ومن قواعد الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن صنع المدافع بأنواعها والبنادق والدبابات والطيارات والمناطيد وإنشاء السفن الحربية بأنواعها ومنها الغواصات التي تغوص في البحر، ويجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب بدليل «ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب » وقد ورد أن الصحابة استعملوا المنجنيق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر وغيرها. وكل الصناعات التي عليها مدار المعيشة من فروض الكفاية كصناعات آلات القتال.
وقد أدرك بعض هذه الآلات الحربية السيد الآلوسي من المفسرين المتأخرين فقال بعد إيراد بعض الأحاديث الواردة في الرمي ما نصه : وأنت تعلم أن الرمي بالنبال اليوم لا يصيب هدف القصد من العدو لأنهم استعملوا الرمي بالبندق والمدافع ولا يكاد ينفع معهما نبل. وإذا لم يقابلوا بالمثل عمّ الداء العضال، واشتد الوبال والنكال، وملك البسيطة أهل الكفر والضلال، فالذي أراه والعلم عند الله تعالى تعين تلك المقابلة على أئمة المسلمين، وحماة الدين، ولعل فضل ذلك الرمي يثبت لهذا الرمي لقيامه في الذب عن بيضة الإسلام، ولا أرى ما فيه من النار للضرورة الداعية إليه إلا سببا للفوز بالجنة إن شاء الله تعالى، ولا يبعد دخول مثل هذا الرمي في عموم قوله تعالى :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ اه.
وأقول : قد جزم العلماء قبله بعموم نص الآية قال الرازي بعد أن أورد ثلاثة أقوال في تفسيرها منها الرمي الوارد في الحديث : قال أصحاب المعاني : الأولى أن يقال إن هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة، ثم ذكر حديث الرمي وأنه كحديث الحج عرفة. وأنا لا أدري سببا لالتجاء الآلوسي في المسألة إلى الرأي والاجتهاد، واكتفائه بدخول هذه الآلات في عموم نص الآية بعدم الاستبعاد، إلا أن يكون بعض المعممين في عصره حرموا استعمال هذه الآلات النارية بشبهة أنها من قبيل التعذيب بالنار الذي منعه الإسلام كما يشير إليه قوله : ولا أرى ما فيه من النار الخ.
نعم إن الإسلام دين الرحمة قد منع من التعذيب بالنار كما كان يفعل الظالمون والجبارون من الملوك بأعدائهم كأصحاب الأخدود الملعونين في سورة البروج، ولكن من الجهل والغباوة أن يعد حرب الأسلحة النارية للأعداء الذين يحاربوننا بها من هذا القبيل بأن يقال إن ديننا دين الرحمة يأمرنا أن نحتمل قتالهم إيانا بهذه المدافع وأن لا نقاتلهم بها رحمة بهم مع العلم بأن الله تعالى أباح لنا في التعامل فيما بيننا أن نجزي على السيئة بمثلها عملا بالعدل وجعل العفو فضيلة لا فريضة فقال :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾ [ الشورى : ٤٠، ٤١ ] الخ الآيات قال أفلا يكون من العدل بل فوق العدل في الأعداء أن نعاملهم بمثل العدل الذي نعامل به إخواننا أو بما ورد بمعنى الآية في بعض الآثار : قاتلوهم بمثل ما يقاتلونكم به ؟ وهم ليسوا أهلا للعدل في حال الحرب. نعم ورد في الحديث الصحيح النهي عن تحريق الكفار الحربيين بالنار ولكن هذا ليس منه، على أن علماء السلف وفقهاء الأمصار اختلفوا في حكمه فأباحه بعضهم مطلقا وبعضهم عند الحاجة الحربية كإحراق سفن الحرب ولو لم يكن جزاء بالمثل والجزاء أولى.
وأما قوله تعالى :﴿ ترهبون به عدو الله وعدوكم ﴾ فمعناه أعدوا لهم ما استطعتم من القوة الحربية الشاملة لجميع عتاد القتال وما يحتاج إليه الجند ومن الفرسان المرابطين في ثغوركم وأطراف بلادكم حالة كونكم ترهبون بهذا الإعداد أو المستطاع من القوة والرباط عدو الله الكافرين به وبما أنزله، وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر ويناجزونكم الحرب عند الإمكان. والإرهاب الإيقاع في الرهبة ومثلها الرهب بالتحريك وهو الخوف المقترن بالاضطراب كما قال الراغب. وكان مشركو مكة ومن والاهم هم الجامعين لهاتين العداوتين في وقت نزول الآية عقب غزوة بدر، وفيهم نزل في المدينة ﴿ لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ﴾ [ الممتحنة : ١ ] وقيل يدخل فيهم أيضا من والاهم من اليهود كبني قريظة. وقيل لا، وإيمان هؤلاء بالله وبالوحي لم يكن يومئذ على الوجه الحق الذي يرضي الله تعالى.
واليهود الذين والَوْهُمْ على عداوته صلى الله عليه وسلم هم المعنيون أو بعض المعنيين بقوله تعالى :﴿ وآخرين من دونهم ﴾ أي وترهبون به أناسا من غير هؤلاء الأعداء المعروفين أو من ورائهم ﴿ لا تعلمونهم الله يعلمهم ﴾ أي لا تعلمون الآن عداوتهم، أو لا تعرفون ذواتهم وأعيانهم بل الله يعلمهم وهو علام الغيوب. قال مجاهد هم بنو قريظة، وعزاه البغوي إلى مقاتل وقتادة أيضا وقال السدي هم أهل فارس. قال مقاتل وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم هم المنافقون وسيأتي توجيهه، وقال السهيلي المراد كل من لا تعرف عداوته، والمعنى أنه عام فيهم وفي غيرهم من الأقوام الذين أظهرت الأيام بعد ذلك عداوتهم للمسلمين في عهد الرسول ومن بعده كالروم، وعجيب ممن ذكر الفرس في تفسيرها ولم يذكر الروم الذين كانوا أقرب إلى جزيرة العرب، بل قال بعضهم ما معناه إنه يشمل من عادى جماعة المسلمين وأئمتهم من المسلمين أنفسهم وقاتلهم كالمبتدعة الذين خرجوا على الجماعة وقاتلوهم أو أعانوا أعداءهم عليهم.
وقال الحسن هم الشياطين والجن ورووا فيه حديثا عن عبد الله بن عريب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( هم الجن ولا يخبل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق ) قال الآلوسي وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه أيضا واختاره الطبري وإذا صح الحديث لا ينبغي العدول عنه اه. وهو ظاهر في اختياره له أيضا بظنه أن الحديث صحيح، وبمثل هذه الروايات المنكرة عن المجهولين يصرفون المسلمين عن المقاصد المهمة التي عليها مدار شوكتهم وحياتهم إلى مثل هذا المعنى الخرافي الذي حاصله أن اقتناء الخيل العتاق يرهب الجن ويحفظ الناس من خبلهم، كأنها تعاويذ للوقاية من الجنون، لا عدة لإرهاب العدو، وهو خلاف المتبادر من الآية ومن سائر السياق الذي هو في قتال المحاربين من أعداء المؤمنين، والحديث فيه لم يصح قال الحافظ ابن كثير بعد أن أورده وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه اه.
وأقول : إن من سقطات ابن جرير اختياره له واستدلاله على بطلان سائر الأقوال التي رواها في معنى الآية وتقدم ذكرها بقوله تعالى :﴿ لا تعلمونهم الله يعلمهم ﴾ وزعمه أنهم كانوا يعلمون عداوة بني قريظة وفارس والمنافقين لهم قبل نزول الآية، وهو غير مسلم على إطلاقه فأما نقض قريظة للعهد فقد اعتذروا عنه فقبل النبي صلى الله عليه وسلم عذرهم ولم يعاملهم معاملة الأعداء ولا سيما عند نزول هذه السورة عقب غزوة بدر، وأما الفرس فلم تكن عداوتهم تخطر ببال أحد من المسلمين في ذلك العهد، وكذلك المنافقون لم يكونوا يعدون من الأعداء الذين يرهبون بإعداد قوى الحرب ورباط الخيل إذ لم يفضح الوحي كفر الكثيرين منهم إلا بعد ذلك في غزوة تبوك وبقي باقيهم على ظاهر إسلامه، قال ابن كثير بعد نقل الأقوال السابقة وما تقدم عنه في حديث عبد الله بن عريب : وقال مقاتل بن حيان وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم هم المنافقون وهذا أشبه الأقوال ويشهد له قوله تعالى :﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ﴾ [ التوبة : ١٠١ ] اه وقال بعضهم بالوقف عن تعيينهم لقوله تعالى لنبيه ﴿ لا تعلمهم نحن نعلمهم ﴾ ولكن عدم علمهم عند نزول الآية لا ينافي هذا العلم بعد ذلك. والمختار عندنا أن العبارة تشمل كل من ظهرت عداوته بعد ذلك لجماعة المسلمين من أعداء الله ورسوله ومن المبتدعين في دينه الكارهين لجماعة المسلمين كما تقدم بعد نقل عبارة السهيلي.
وقال الرازي في التعليل ثم إن الله تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال :﴿ ترهبون به عدو الله وعدوكم ﴾ وذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم وذلك الخوف يفيد أمورا كثيرة ( أولها ) : أنهم لا يقصدون دار الإسلام. و( ثانيها ) : أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية و( ثالثها ) : أنه ربما صار ذلك داعيا لهم إلى الإيمان و( رابعها ) : أنهم لا يعينون سائر الكفار و( خامسها ) : أن يصير
١ ـ أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٦٧، وأبو داود في الجهاد باب٢٣، والترمذي في تفسير سورة ٨، باب ٥، وابن ماجه في الجهاد باب ١٩، والترمذي في الجهاد باب ١٤، وأحمد في المسند ٤/١٥٧..
٢ ـ روي الحديث بلفظ: «الحج عرفات»، أخرجه بهذا اللفظ الترمذي في تفسير سورة٢، باب ٢٢، وأبو داود في المناسك باب٦٨، وابن ماجه في المناسك باب ٥٧، والدارمي في المناسك باب ٥٤..
﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ( ٦٠ ) إن جنحوا إلى السلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ( ٦١ ) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ( ٦٢ ) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ( ٦٣ ) ﴾.
علم من الآيات التي قبل هذه أن أهل الكتاب من اليهود الذين عقد النبي صلى الله عليه وسلم معهم العهود التي أمنهم بها على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم قد خانوه ونقضوا عهده وساعدوا عليه أعداءه من المشركين الذين أخرجوه هو ومن آمن به من ديارهم ووطنهم ثم تبعوه إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه لأجل دينهم، وأنه بذلك صار جميع أهل الحجاز الذين كفروا بما جاء به من الحق حربا له، المشركين وأهل الكتاب سواء، فناسب بعد ذلك أن يبين تعالى للمؤمنين ما يجب عليهم في حال الحرب التي كانت أمرا واقعا لم يكونوا هم المحدثين له ولا البادئين بالعدوان فيه، كما أنه سنة من سنن الاجتماع البشري في المصارعة بين الحق والباطل، والقوة والضعف.
ولما كان السلم هو المقصود الأول كما أفاد مفهوم الآية السابقة، أكده بمنطوق الآية اللاحقة، فقال جلت حكمته، وسبقت رحمته :﴿ وإن جنحوا إلى السلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ﴾. قرأ الجمهور السلم بفتح السين وأبو بكر بكسرها وهما لغتان. وهي كالسلام والصلح ضد الحرب، والإسلام دين السلم والسلام ﴿ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ﴾ [ البقرة : ٢٠٨ ] ولفظ السلم مؤنث كمقابله [ الحرب ] وبعض العرب يذكرهما. وجنح للشيء وإليه مال أو هو خاص بالميل إلى أحد الجناحين أي الجانبين المتقابلين كجناحي الطير والإنسان والسفينة والعسكر وقالوا أجنحت الشمس للغروب أي مالت إلى جانب الغرب الذي تغيب في أفقه وهو مقابل لجانب الشرق الذي تطلع منه، ولا يقال جنحت للشرق لأننا لا نراها قبل شروقها مائلة إلى جانب غير الذي انقلبت عنه، ولكن يقال جنح الليل بمعنى مال للذهاب وللمجيء. والمعنى : وإن مالوا عن جانب الحرب إلى جانب السلم خلافا للمعهود منهم في حال قوتهم، فاجنح لها أيها الرسول لأنك أولى بالسلم منهم. وعبر عن جنوحهم ب( إنْ ) التي يعبر بها عن المشكوك في وقوعه أو ما من شأنه ألا يقع للإشارة إلى أنهم ليسوا أهلا لاختياره لذاته وأنه لا يؤمن أن يكون جنوحهم إليه كيدا وخداعا ولذلك قال :
﴿ وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ﴾ اقبل منهم السلم وفوض أمرك إلى الله تعالى، فلا تخف كيدهم ومكرهم وتوسلهم بالصلح إلى العذر، كما فعلوا بنقض العهد، إنه عز وجل هو السميع لما يقولون، العليم بما يفعلون، فلا يخفى عليه ما يخفى عليك من ائتمارهم وتشاورهم، ولا من كيدهم وخداعهم.
قيل إن الآية خاصة بأهل الكتاب لأنها نزلت في بني قريظة الذين نقضوا العهد كما تقدم في أول هذا السياق وإن نظر فيه ابن كثير محتجا بأن السورة كلها نزلت في وقعة بدر، وتقدم أنها من أنباء الغيب، ويرد التخصيص قبوله صلوات الله وسلامه عليه الصلح من المشركين في الحديبية وترك الحرب إلى مدة عشر سنين مع ما اشترطوا فيه من الشروط الثقيلة التي كرهها جميع الصحابة رضوان الله عليهم وكادت تكون فتنة، وقيل إنها عامة ولكنها نسخت بآية السيف في سورة المائدة، لأن مشركي العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام، وروي القول بنسخها عن ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة. نقله ابن كثير وتعقبه بقوله : وفيه نظر أيضا لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك فأما إذا كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم اه.
وقد يقال في الجواب أيضا إن المشركين لم يثبت أنهم جنحوا إلى السلم وأباه عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بل أجابهم إليه في الحديبية كما تقدم آنفا ثم ظلوا يقاتلونه إلى ما بعد فتح مكة عاصمة دينهم ودنياهم كما فعلوا في الطائف، إلى أن ذهبت ريحهم، وخضدت شوكة زعمائهم، وصار سائر العرب يدخلون في دين الله أفواجا، وتم ما أراد الله من إسلام أهل جزيرة العرب إلا قليلا من أهل الكتاب، لأجل أن يكون مهد الإسلام حصنا ومأرزا للإسلام.
﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ( ٦٠ ) إن جنحوا إلى السلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ( ٦١ ) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ( ٦٢ ) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ( ٦٣ ) ﴾.
علم من الآيات التي قبل هذه أن أهل الكتاب من اليهود الذين عقد النبي صلى الله عليه وسلم معهم العهود التي أمنهم بها على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم قد خانوه ونقضوا عهده وساعدوا عليه أعداءه من المشركين الذين أخرجوه هو ومن آمن به من ديارهم ووطنهم ثم تبعوه إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه لأجل دينهم، وأنه بذلك صار جميع أهل الحجاز الذين كفروا بما جاء به من الحق حربا له، المشركين وأهل الكتاب سواء، فناسب بعد ذلك أن يبين تعالى للمؤمنين ما يجب عليهم في حال الحرب التي كانت أمرا واقعا لم يكونوا هم المحدثين له ولا البادئين بالعدوان فيه، كما أنه سنة من سنن الاجتماع البشري في المصارعة بين الحق والباطل، والقوة والضعف.
ثم بين تعالى معنى أمره بالتوكل في حال قبول السلم إن جنحوا إليه على خلاف المعهود منهم اختيارا فقال :﴿ وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ( ٦٢ ) ﴾.
﴿ وإن يريدوا أن يخدعوك ﴾ بجنوحهم للسلم، ويفترصوه لأجل الاستعداد للحرب أو انتظار غرة تمكنهم من أهل الحق ﴿ فإن حسبك الله ﴾ أي كافيك أمرهم من كل وجه. " حسْب " تستعمل بمعنى الكفاية التامة ومنها قولهم : أحسب زيدا عمرا، أو أعطاه حتى أحسبه، أي أجزل له وكفاه حتى قال حسبي، أي لا حاجة لي في الزيادة. وقال المدققون من النحاة إنها صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل من أحسبه ومنه قول البيضاوي وغيره في تفسيرها هنا أي محسبك وكافيك، قال جرير :
إني وجدت من المكارم حسبكم أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا١
١ ـ البيت من الكامل، وهو ليس في ديوان جرير، وهو لعبد الرحمان بن حسان في خزانة الأدب ٤/٧١، والدرر٤/ ٦٠، والكتاب ٣/١٥٣، ولسعيد بن عبد الرحمان بن حسان في شرح أبيات سيبويه ٢/١٦٨، ولبعض المحدثين في العقد الفريد ٣/٢٠، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٤١٨، وهمع الهوامع ٢/ ٣..
﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ( ٦٠ ) إن جنحوا إلى السلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ( ٦١ ) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ( ٦٢ ) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ( ٦٣ ) ﴾.
علم من الآيات التي قبل هذه أن أهل الكتاب من اليهود الذين عقد النبي صلى الله عليه وسلم معهم العهود التي أمنهم بها على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم قد خانوه ونقضوا عهده وساعدوا عليه أعداءه من المشركين الذين أخرجوه هو ومن آمن به من ديارهم ووطنهم ثم تبعوه إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه لأجل دينهم، وأنه بذلك صار جميع أهل الحجاز الذين كفروا بما جاء به من الحق حربا له، المشركين وأهل الكتاب سواء، فناسب بعد ذلك أن يبين تعالى للمؤمنين ما يجب عليهم في حال الحرب التي كانت أمرا واقعا لم يكونوا هم المحدثين له ولا البادئين بالعدوان فيه، كما أنه سنة من سنن الاجتماع البشري في المصارعة بين الحق والباطل، والقوة والضعف.
ثم بين تعالى أن هذه الكفاية بالتأييد الرباني وأن منه تسخير المؤمنين للرسول صلى الله عليه وسلم وجعلهم أمة متحدة متآلفة متعاونة على نصره فقال :
﴿ هو الذي أيدك بنصره ﴾ بتسخير الأسباب وما هو وراء الأسباب من خوارق العادات كالملائكة التي ثبتت القلوب في يوم بدر ﴿ وبالمؤمنين ﴾ من المهاجرين والأنصار. وروي أن المراد بهم الأنصار بدليل قوله :﴿ وألف بين قلوبهم ﴾ أي بعد التفرق والتعادي الذي رسخ بالحرب الطويلة والضغائن الموروثة، وجمعهم على الإيمان بك، وبذل النفس والنفيس في مناصرتك.
قال أصحاب القول الثاني : كان هذا بين الأوس والخزرج من الأنصار ولم يكن منه شيء بين المهاجرين، أي وفيهم نزلت ﴿ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبهم فأصبحتم بنعمته إخوانا ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ] الخ ولكن هذا لا يمنع إرادة مجموع المهاجرين والأنصار، فقد كانوا بنعمة إخوانا لم يقع بينهم تحاسد ولا تعاد كما هو شأن البشر في مثل هذا الشأن، كما ألف بين الأوس والخزرج فكانوا بنعمته إخوانا بعد طول العداء والعدوان، وقد كان يقع التغاير بين المهاجرين والأنصار عند قسمة الغنائم في حنين فكفاهم الله شر ذلك بفضله وحكمة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد كان عدد المهاجرين في غزوة بدر ثمانين رجلا أو زيادة كما ذكر الحافظ في فتح الباري وكان الباقون من الأنصار وهم تتمة ثلاثمائة وبضعة عشر.
والعمدة في إرادة الفريقين أن التأييد بالفعل والنصر حصل بكل منهما في جميع الوقائع وكان المهاجرون في المرتبة الأولى في كل شيء لسبقهم إلى الإيمان والعلم، ونصر الله ورسوله في زمن القلة والشدة والخوف، وقد أسند إليهم هذا النصر في سورة الحشر التي نزلت في غزوة بني النضير عند ذكر مراتب المؤمنين فقال في قسمة فيئهم ﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ﴾ [ الحشر : ٨ ] ثم قال في الأنصار ﴿ والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ [ الحشر : ٩ ] الخ الآية، وهي دليل على أن النصر ينال بالأسباب وأن ذلك يتوقف على التآلف والاتحاد : وكل ذلك بفضل مقدر الأسباب ورحمته بالعباد. ولذلك قال :
﴿ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ﴾ يعني أنه لولا نعمة الله عليهم بالإيمان، وأخوته التي هي أقوى عاطفة ومودة من أخوة الأنساب والأوطان، لما أمكنك يا محمد أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية، ولو أنفقت جميع ما في الأرض من الأموال والمنافع في سبيل هذا التأليف، أما الأنصار فلأن الأضغان الموروثة، وأوتار الدماء المسفوكة، وحمية الجاهلية الراسخة، لا تزول بالأعراض الدنيوية العارضة، وإنما تزول بالإيمان الصادق الذي هو مناط سعادة الدنيا والآخرة، وأما المهاجرون فلأن التأليف بين غنيهم وفقيرهم وسادتهم ومواليهم وأشرافهم ودهمائهم على ما كان فيهم من كبرياء الجاهلية وجمع كلمتهم على احتمال عداوة بيوتهم وعشائرهم وحلفائهم في سبيل الله لم يكن كله مما يمكن نيله بالمال وآمال الدنيا ولم يكن في يد الرسول صلى الله عليه وسلم شيء منهما في أول الإسلام، ولكن صار بيده في المدينة شيء عظيم منهما بنصر الله له في قتال المشركين واليهود جميعا.
وأما مجموع المهاجرين والأنصار فقد كان اجتماعهما لولا فضل الله وعنايته مدعاة التحاسد والتنازع لما سبق لهما من عصبية الجاهلية وما كان لدى المهاجرين من مزية قرب الرسول والسبق إلى الإيمان به، وما لدى الأنصار من القوة وإنقاذ الرسول والمهاجرين جميعا من ظلم قومهم، ومن المنة عليهم بإيوائهم ومشاركتهم في أموالهم، وفي هذا وذاك من دواعي التغاير والتحاسد مالا يمكن أن يزول بالأسباب الدنيوية، فهو تعالى يقول للرسول لست أنت المؤلف بينهم. ﴿ ولكن الله ألف بينهم ﴾ بهدايتهم إلى هذا الإيمان بالفعل، الذي دعوتهم إليه بالقول :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ [ القصص : ٥٦ ] وإنما عليك البلاغ، وهداية الدعوة والبيان، ﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] بالدعاية، وتدعو الله أنت ومن آمن معك بقوله :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ [ الفاتحة ٥ ] أي بالفعل والتوفيق والعناية. وهذا ثناء من الله عز وجل على صحابة رسوله تفند مطاعن الرافضة الضالة الخاسرة فيهم.
لا يوجد سبب للتوحيد والتعاون بين البشر كالتآلف والتحاب، ولا يوجد سبب للتحاب والتآلف كأخوة الإيمان، قال ابن عباس رضي الله عنه : قرابة الرحم تقطع، ومنة النعمة تكفر، ولم ير مثل تقارب القلوب، وقرأ الآية. رواه البيهقي، ورواه عبد الرزاق والحاكم عنه بلفظ : إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء. ثم قرأ ﴿ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ﴾ الآية.
وقد ورد من الأحاديث في التحاب في الله ما ينبئ بشأن هذه الفضيلة ويرغب فيها، واتفق حكماء البشر غابرهم وحاضرهم على أن المحبة أعظم الروابط بين البشر وأقوى الأسباب لسعادة الاجتماع الإنساني وارتقائه. وأيضا على أن المحبة إذا فقدت لا يحل محلها شيء في منع الشر، والوقوف عند حدود الحق، إلا فضيلة العدل. ولما كانت المحبة وهبية غير اختيارية، وكان العدل من الأعمال الكسبية، جعل الإسلام المحبة فضيلة والعدل فريضة، وأوجبه لجميع الناس في الدولة الإسلامية، وحكومتها الشرعية، لا يختص به مسلم دون كافر، ولا بر دون فاجر، ولا قريب من الحاكم دون بعيد، ولا غني دون فقير، وتقدم تفصيل هذا في تفسير الآيات المقررة له.
وقد ختم الله تعالى هذه الآية بقوله :﴿ إنه عزيز حكيم ﴾ لأنه تعليل لكفاية الله لرسوله شر خداع الأعداء، وتأييده بنصره وبالمؤمنين، لا للتأليف بين المؤمنين، فإن العمدة في الكلام هو الكفاية والتأييد، وهو المناسب لكونه تعالى هو العزيز أي الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين، ولا كيد الماكرين، الحكيم في أفعاله كنصره الحق على الباطل، وفي أحكامه كتفضيله الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب كما تقدم ولو كان تعليلا للتأليف بين المؤمنين وحده لكان الأنسب أن يعلل بقوله «إنه رؤوف رحيم » على أن هذا التأليف في هذا المقام ما كان إلا بعزة الله وحكمته في إقامة هذا الدين.
﴿ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( ٦٤ ) يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ( ٦٥ ) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ( ٦٦ ) ﴾
لما أمر الله تعالى رسوله في الآية ٦١ أن يجنح للسلم إذا جنح لها الأعداء وكان جنوح الأعداء لها مظنة الخداع والمكر كما تقدم قريبا في تفسيرها، وعده عز وجل في الآية ٦٢ بأن يكفيه أمرهم إذا هم أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب، أو غيرها من الإيذاء والشر، وامتن عليه بما يدل على كفايته إياه وهو تأييده له بنصره وبالمؤمنين إذ سخرهم له وألف بين قلوبهم باتباعه. ثم إنه تعالى وعده بكفايته له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف قلوبهم عليه في حال الحرب كحال السلم وفي كل حال، وجعل هذا الوعد تمهيدا لما بعده من أمره بتحريضهم على القتال، عند الحاجة إليه من بدء العدو بالحرب، أو خيانتهم في الصلح، أو نقضهم للعهد، أو غير ذلك فقال :{ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( ٦٤ )
أي إن الله تعالى هو كاف لك كل ما يهمك من أمر الأعداء وغيره، وكاف لمن أيدك بهم من المؤمنين فالحسب في تلك الآية كفاية خاصة به صلى الله عليه وسلم في حال خاصة، وفي هذه كفاية عامة له ولمن اتبعه من المؤمنين في كل حال من قتال أو صلح يفي به العدو أو يخون، وفي غير ذلك من الشؤون. ويحتمل لأن يكون العطف على معنى : وحسبك من اتبعك من المؤمنين أي فإنه ينصرك بهم. ولكن مقتضى كمال التوحيد هو الأول وهو كفاية الله تعالى له ولهم كما قال تعالى في المؤمنين في سياق غزوة أحد أو غزوة حمراء الأسد ﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾ فالحسبلة مقتضى التوكل وإنما يكون التوكل على الله وحده كما قال لنبيه ﴿ قل حسبي الله عليه فليتوكل المتوكلون ﴾ [ الزمر : ٣٨ ] أي عليه وحده بدلالة تقديم الظرف ومثله في هذا الحصر آيات كثيرة. وقال في المنافقين ﴿ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ﴾ [ التوبة : ٥٩ ] أي لكان خيرا لهم، وعلمهم الله تعالى أن يسندوا الإعطاء من الصدقات إلى الله لأنه المعطي الذي فرض الصدقات وأوجبها، وإلى رسوله لأنه هو الذي يقسمها وأن يسندوا كفاية الإحساب إلى الله وحده وتكون رغبتهم إلى الله وحده، ولم يأمرهم أن يقولوا : حسبنا الله ورسوله، إذ لا يكفي العباد إلا ربهم وخالقهم كما قال تعالى :﴿ أليس الله بكاف عبده ﴾ [ الزمر : ٣٦ ] ولا سيما الكفاية الكاملة التي يعبر عنها بحسبك أي التي يقول فيها المكفي حسبي حسبي، وهي المرادة هنا كما تقدم. وإذا كان من دأب آحاد المؤمنين وهجيراهم « حسبنا الله ونعم الوكيل » فأنبياء الله ورسله أولى بهذا لأنهم أكمل توحيدا وتوكلا من غيرهم. وناهيك بخاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم ثم ناهيك بوعد الله تعالى إياه بهذه الكفاية، وهذا المعنى هو الذي اقتصر عليه ابن كثير راويا عن الشعبي أنه قال في الآية : حسبك الله وحسب من شهد معك ( قال ) وروي عن عطاء الخراساني مثله وعبد الرحمان بن زيد اه.
أقول : وهذا المعنى قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وأبطل مقابله. فاحتمال عطف من اتبعه من المؤمنين على اسم الجلالة باطل من حيث المعنى كما قال، وإن عده النحاة أظهر في الإعراب على قواعد البصريين التي يتعصب لها جمهورهم، وما من طائفة من علماء علم ولا فن لهم مذهب يخالفه آخرون إلا ويوجد فيهم من يتعصب لكل ما يقوله أهل مذهبهم ولأئمة فنهم. وقد قال الفراء والزجاج ههنا إن قوله تعالى :﴿ ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ في موضع النصب على المفعول معه أي الواو بمعنى «مع » كقول الشاعر :
إذا كانت الهيجاء واشتجر القنا فحسبك والضحاك سيف مهنّدُ١
قال الفراء وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا حسبك وأخاك بل المعتاد أن يقال حسبك وحسب أخيك ولهذا فضل الفراء الوجه الآخر وهو أن المعنى يكفيك الله ويكفيك من اتبعك من المؤمنين، إيثارا منه للراجح في عرف النحاة البصريين، على الراجح في أصول الدين، وكذلك أبو حيان النحوي فإنه تعقب إعراب الوجه الأول بأنه مخالف لقول سيبويه فإنه جعل زيدا في قولهم :«حسبك وزيدا درهم » منصوبا بفعل مقدر أي كفى زيدا درهم. ولاغرو فأبو حيان هذا كان معجبا بشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية وشديد الإطراء له وقد مدحه في حضرته بأبيات شبهه فيها بالصحابة جملة رضي الله عنهم وبأبي بكر رضي الله عنه خاصة وشهد له بتجديد الدين حتى قال فيها :
يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ هذا الإمام الذي قد كان ينتظر
ثم إنه ذاكره في شيء من العربية واحتج عليه بقول سيبويه فقال له شيخ الإسلام ما كان سيبوبه نبي النحو ولا معصوما بل أخطأ في الكتاب ( أي كتابه المشهور في النحو ) في ثمانين موضعا ما تفهمها أنت. ويروى أنه قال له : يفشر سيبويه. فقاطعه أبو حيان وذكره في تفسيره بكل سوء كما ذكره الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة. ولولا تعصب هؤلاء لأئمة فنهم لما جعلوا فهم سيبويه حجة في مثل هذه المسألة على ما تقتضيه أصول التوحيد من معنى عبارة القرآن. ولولا إرادة التذكير بهذه الجناية التي يرتكبها العلماء بعصبيتهم المذهبية لزعمائهم لما أطلت في هذه المسألة.
هذا وإن المراد بالمؤمنين هنا جماعتهم من المهاجرين والأنصار كما تقدم في الآيتين السابقتين لهذه الآية ولا سيما الذين شهدوا بدرا منهم في الأنصار وحدهم كما قيل هنا وهناك فإن جل هذه السورة نزل في شأن تلك الغزوة الكبرى كما تقدم أيضا، وعن الكلبي أن هذه الآية نزلت قبلها. وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت عند ما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصار المسلمون بإسلامه أربعين نسمة منهم ست نسوة. رواه البزار من طريق عكرمة بسند ضعيف وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عنه بسند صححه السيوطي وفيه نظر ورواه عنه الطبراني أيضا وأخرج أبو الشيخ مثله عن سعيد بن المسيب. ومقتضى هذا أن الآية مكية والسورة مدنية بالإجماع، ولا يظهر معناها الذي قررناه إلا في وقت نزول سورتها، ولا المعنى الآخر المرجوح الذي أراده واضع الرواية فيما يظهر فإن أولئك الأربعين لم تتحقق بهم كفاية الإحساب بالنصر على الكفار ولا بأمن شرهم واضطهادهم للمؤمنين بل اضطرهم المشركون إلى الهجرة العامة بعد هجرة الحبشة الخاصة.
١ ـ يروى صدر البيت: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا
والبيت من الطويل، وهو لجرير في ذيل الأمالي ص ١٤٠، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧/ ٥٨١، وسمط اللآلي ص ٨٩٩، وشرح الأشموخي ١/٢٢٤، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٧٤، وشرح شواهد المغني ٢/ ٩٠٠، وشرح عمدة الحافظ ص٤٠٧، ٦٦٧، وشرح المفصل ٢/٥١، ولسان العرب (حسب)، (هيج)، (عصا)، ومغني اللبيب ٢/ ٥٦٣، والمقاصد النحوية ٣/ ٨٤..

ولما ضمن الله تعالى إحسابه لنبيه وللمؤمنين قال :﴿ يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال ﴾ قال الراغب : التحريض الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض نحو مرّضته وقذيته أي أزلت عنه المرض والقذى اه. والحرض بالتحريك المشفى أي المشرف على الهلاك. ويطلق على ما لا خير فيه وما لا يعتد به وهو مجاز في الأساس. وقال الزجاج التحريض في اللغة أن يحث الإنسان على شيء حتى يعلم أنه مقارب للهلاك أي إن لم يفعله.
والمعنى يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، ورغبهم فيه. لدفع عدوان الكفار، وإعلاء كلمة الحق والعدل وأهلها، على كلمة الباطل والظلم وأنصارهما، لأنه من ضرورات الاجتماع البشري وسنة التنازع في الحياة والسيادة كما تقدم بيانه في تفسير هذا السياق، ويشير إليه هنا اختيار التحريض على ما هو في معناه العام كالتحضيض والحث كأنه يقول حثهم على ما يقيهم أن يكونوا حرضا أو يكونوا من الهالكين، بعدوان الكافرين عليهم وظلمهم لهم إذا رأوهم ضعفاء مستسلمين.
ثم قال :﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ﴾ هذا شرط بمعنى الأمر فهو خبر يراد به الإنشاء بدليل التخفيف في الآية التالية وكون المقام مقام التشريع لا الإخبار، وأما استدلالهم عليه بعدم مطابقة الخبر للواقع ففيه ما سيأتي من مطابقته للواقع عند استكمال شروطه في درجتي العزيمة والرخصة. ومعنى اللفظ الخبري إن يوجد منكم عشرون صابرون يغلبوا بتأثير إيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الذين كفروا المجردين من هذه الصفات الثلاث. وهل هم الذين تقدم وصفهم في الآيتين ( ٥٥ و٥٦ ) من هذا السياق على القاعدة في إعادة المعرفة ؟ أم يعد هذا سياقا آخر فيعم نصه كل الكفار المتصفين بما بينه من سبب هذا الغلب في منطوق ذلك ﴿ بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ وفي مفهوم وصف المؤمنين بالصابرين ؟ وجهان أوجهما الثاني، والمعنى الإنشائي له أنه يجب في حال العزيمة والقوة أن يكون جماعة المؤمنين الصابرين أرجح من الكفار بهذه النسبة العشرية سواء قلوا أو كثروا. بحيث يؤمرون بقتالهم وعدم الفرار منهم إذا بدءوهم بالقتال، ولذلك ذكر النسبة بين العشرات مع المئات وبين المائة مع الألف وهو نهاية أسماء العدد عند العرب. ونكتة إيراد هذا الحكم بلفظ الخبر الإشارة إلى جعله بشارة بأن المؤمنين الصابرين الفقهاء يكونون كذلك فعلا، وكذلك كانوا كما ترى بيانه في تفسير الآية التالية.
ومعنى هذا التعليل لأن هذه النسبة العشرية بين الصابرين منكم وبينهم بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما تفقهون من حكمة الحرب، وما يجب أن تكون وسيلة له من المقاصد العالية في الإيجاب والسلب، وما يقصد بها من سعاد الدنيا والآخرة، ومرضاة الله عز وجل في إقامة سننه العادلة، وإصلاح حال عباده بالعقائد الصحيحة والآداب العالية، ومن وجوب مراعاة أحكامه وسننه ووعوده تعالى فيها بإعداد كل ما يستطاع من قوة مادية، ومرابطة دائمة، ومن قوة معنوية كالصبر والثبات، وعدم الفرار من الزحف إلا تحيزا إلى فئة أو تحرفا للقتال، وذكر الله تعالى واستمداد نصره في تلك الحال، ومن كون غاية القتال عند المؤمن إحدى الحسنيين : النصر والغنيمة الدنيوية، أو الشهادة والسعادة الأخروية، وغير ذلك مما مر أكثره في هذا السياق، وهو كاف في تفسير القرآن بالقرآن.
وذلك كله بخلاف حال الكافرين ولا سيما منكري البعث والجزاء كمشركي العرب في ذلك العهد، وكذلك اليهود الذين غلبت عليهم المطامع المادية وحب الشهوات، فأغراض الفريقين من القتال حقيرة خسيسة مؤقتة يصرفهم عن الصبر والثبات فيها اليأس من حصولها، وهم أحرص من المؤمنين على الحياة لعدم إيمان المشركين منهم بسعادة الآخرة ولغرور أهل الكتاب بحصولها لهم بنسبهم وشفاعة أنبيائهم وإن لم يسعوا لها سعيها، كما تقدم في بيان حالهم من سورة البقرة، ومنه قوله تعالى :﴿ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ﴾ [ البقرة : ٩٦ ].
وقد حققنا معنى الفقه والفقاهة في مواضع أوسعها بيانا وتفصيلا تفسير قوله تعالى :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] الخ ففيه بيان لما في القرآن من استعمال هذه المادة في المواضع المختلفة ومنها القتال وذكرنا من شواهد هذا النوع هذه الآية التي نزلت في المشركين وقوله تعالى في اليهود الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ونصروا المشركين عليه ﴿ لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ [ الحشر : ١٣ ] فراجعه يزدك علما بما هنا ( وهو في ج ٩ تفسير ) فالفقه الذي هو العلم بالحقائق المتعلقة بالحرب من مادية وروحية ركن من أركان النجاح، وسبب للنصر جامع لسائر الأسباب.
والآية تدل على أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين و وأفقه بكل علم وفن يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم، وأن حرمان الكفار من هذا العلم هو السبب في كون المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين. وهكذا يكون المسلمون في قرونهم الأولى والوسطى بهداية دينهم على تفاوت علمائهم وحكامهم في ذلك، حتى إذا ما فسدوا بترك هذه الهداية التي سعدوا بها في دنياهم فكانوا أصحاب ملك واسع وسيادة عظيمة، ودانت لهم بها الشعوب الكثيرة زال ذلك المجد والسؤدد، ونزع منهم أكثر ذلك الملك، وما بقي منه فهو على شفا جرف هار، وإنما بقاؤه بما يسمى في عرف علماء العصر بحركة الاستمرار، إذ صاروا أبعد عن العلم والفقه الذي فضلوا به غيرهم من المشركين ومن أهل الكتاب جميعا، ثم انتهى المسخ والخسف بأكثر الذين يتولون أمورهم إلى اعتقاد منافاة تعاليم الإسلام للملك والسيادة والقوة والعلوم والفنون التي هي قوامها، فصاروا يتسللون من الإسلام أفرادا، ثم صرح جماعات من زعمائهم ورؤسائهم بالكفر به والصد عنه جهارا، ولكن بعد أن صار علماؤهم يعادون أكثر تلك العلوم والفنون التي أرشدهم إليها القرآن، وأوجب منها ما يتوقف عليه الجهاد في سبيل الله والعمران.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وذهب المفسرين إلى أن آية العزيمة من هاتين الآيتين منسوخة بآية الرخصة التي بعدها بدليل التصريح بالتخفيف فيها، ولكن الرخصة لا تنافي العزيمة ولا سيما وقد عللت هنا بوجود الضعف. ونسخ الشيء لا يكون مقترنا بالأمر به وقبل التمكن من العمل به، وظاهر أن الآيتين نزلتا معا. وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما نزلت ﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ﴾ شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف فقال :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ﴾ قال فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم اهـ.
قال الحافظ في الفتح في شرح الجملة الأخيرة : كذا في رواية ابن المبارك، وفي رواية وهب بن جرير عن أبيه عند الإسماعيلي : نقص من النصر اهـ وأقول معنى الرواية الأولى أن الصبر في مقاتلة الضعفين دون الصبر في مقاتلة العشرة الأضعاف بهذه النسبة العددية. ومعنى الرواية الثانية أن النصر على الضعفين أقل أو أنقص من الصبر على العشرة الأضعاف، وكلاهما لازم ضروري للآخر. وهذه الرواية لا تدل على النسخ الأصولي الذي زعمه بعضهم على ما بيناه من كون الآية الأولى عزيمة أو مقيدة بحال القوة، والثانية رخصة مقيدة بحال الضعف، وما رواه ابن مردويه من طريق إسحاق بن راهويه عن عطاء عنه وفيه التصريح بالنسخ قال الحافظ : في سنده محمد بن إسحاق وليست هذه القصة عنده مسندة بل معضلة وصنيع ابن إسحاق وتبعه الطبراني وابن مردويه يقتضي أنها موصولة والعلم عند الله تعالى اهـ.
وأقول : حسبنا أن الحافظ لم يقف لها على سند متصل. على أن النسخ في عرف الصحابة أعم من النسخ المصطلح عليه في الأصول، وجمهور الفقهاء يجعلون حكم الثانية الوجوب وحكم الأولى الندب، ويستدلون على ذلك بتفسير ابن عباس الذي جعل بعضهم لروايته حكم الحديث المرفوع. قال الحافظ في الفتح : وهذا قاله الحافظ توقيفا على ما يظهر ويحتمل أن يكون قاله بطريق الاستقراء اهـ ونقول إن التوقيف من الشارع مستبعد أن يختص به ابن عباس الذي كان عند نزول السورة صغير السن فلم يحضر غزوة بدر ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقوله فيها يومئذ، وكونه سمعه بعد سنين ولم يصرح بسماعه مستبعد جدا، فالوجه المختار أن ما قاله ابن عباس فهم منه معناه إن قتال المثلين فرض، لا ينافي أن قتال العشرة ندب، وقد عبر عنه بعض رواته بالنسخ.
وقال الحافظ في أحكام الحديث من الفتح عند قوله :« فجاء التخفيف» ما نصه :
في رواية الإسماعيلي فنزلت الآية الأخرى وزاد : ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين ولا قوم من مثليهم. واستدل بهذا الحديث على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما سواء طلباه أو طلبهما : وسواء وقع ذلك وهو واقف في الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر. وهذا هو ظاهر تفسير ابن عباس ورجحه ابن الصباغ من الشافعية وهو المعتمد لوجود نص الشافعي عليه في الرسالة الجديدة رواية الربيع، ولفظه ومن نسخة عليها خط الربيع نقلت : قال بعد أن ذكر للآية آيات في كتابه إنه وضع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة وأثبت عليهم أن يقوم الواحد بقتال الاثنين. ثم ذكر حديث ابن عباس المذكور في الباب وساق الكلام عليه لكن المنفرد لو طلباه وهو على غير أهبة جاز له التولي عنهما جزما، وإن طلبهما فهل يحرم ؟ وجهان أصحهما عند المتأخرين لا، لكن ظاهر هذه الآثار المتضافرة عن ابن عباس يأباه وهو ترجمان القرآن، وأعرف الناس بالمراد، لكن يحتمل أن يكون ما أطلقه إنما هو في صورة ما إذا قاوم الواحد المسلم من جملة الصف في عسكر المسلمين اثنين من الكفار. أما المنفرد وحده بغير العسكر فلا، لأن الجهاد إنما عهد بالجماعة دون الشخص المنفرد، وهذا فيه نظر فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه سرية وحده، وقد استوعب الطبري وابن مردويه طرق هذا الحديث عن ابن عباس وفي غالبها التصريح بمنع تولي الواحد عن الاثنين واستدل ابن عباس في بعضها بقوله تعالى :﴿ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ﴾ [ البقرة : ٢٠٧ ] وبقوله تعالى :﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ﴾ [ النساء : ٨٤ ] اهـ.
ومن مباحث القراءات اللفظية في الآيتين أن ابن كثير ونافعا وابن عامر قرأوا « يكن» المسند إلى المائة في الآيتين بالتاء على التأنيث اللفظي ووافقهم أبو عمرو ويعقوب في «يكن» التي في الآية الثانية، وأما « يكن» المسند إلى «عشرون صابرون» يقرأها الجميع بالتذكير لأن المسند إليه جمع مذكر موصوف بمثله.
ومن مباحث البلاغة فيهما أن المعنى المراد في تفضيل المؤمنين على الكافرين في القتال مقيد بأن يكون المؤمنون صابرين دون الكافرين أو فوق صبرهم، ويكون الكافرون من الذين لا يفقهون من المقاصد الدينية والاجتماعية ما يفقه المؤمنون. فكان من إيجاز القرآن أن في الآية الأولى أن قيد العشرين بوصف صابرين ولم يقيد بذلك المائة، وقيد الغلب في قتال المائة للألف بأن يكون للذين كفروا الذين وصفهم بأنهم قوم لا يفقهون، ولم يذكر هذا القيد في غلب العشرين للمائة منهم وكل من القيدين مراد فأثبت في كل من الشرطين ما حذف نظيره في الآخر وهو ما يسمى في البديع بالاحتباك. ثم إنه وصف المائة في آية التخفيف بالصابرة لأن الصبر شرط لا بد منه في كل حال وكل عدد مع عدم وصف المائة به في الأولى لئلا يتوهم أنه شرط في العدد القليل كالعشرين دون الكثير كالمائة والألف، ولم يذكره في الألف استغناء بما قبله وبما بعده من قوله :﴿ والله مع الصابرين ﴾ وهو مع قوله قبله :﴿ بإذن الله ﴾ يدل على أن سنة الله تعالى في الغلب أن يكون للصابرين على غير الصابرين، وكذا على من هم أقل منهم صبرا، وفي هذا تحذير للمؤمنين من الغرور بدينهم لئلا يظنوا أن الإيمان وحده يقتضي النصر والغلب وإن لم يقترن بصفاته اللازمة لكماله، ومن أعظمها الصبر والعلم بحقائق الأمور وسنن الله تعالى في الخلق المعبر عنه هنا بالفقه.

وبعد أن بين الله تعالى هذه المرتبة العليا للمؤمنين التي ينبغي أن تكون لهم في حال القوة وهو ما يسمى بالعزيمة، قفى عليه ببيان ما دونها من مرتبة الضعف وهي ما يسمى الرخصة، فقال :
﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ قرأ الجمهور ضعفا بضم الضاد وعاصم وحمزة بفتحها على أنه مصدر وعن الخليل أن الضم لما كان في البدن والفتح لما كان في الرأي والعقل أو النفس. وقرأ أبو جعفر ( وعلم أن فيكم ضعفاء ) جمع ضعيف، وقد تقدم بيان حال ضعفاء المسلمين الذين كانوا يكرهون القتال في بدر وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى في هذه السورة :﴿ يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ﴾ [ الأنفال : ٦ ] فالضعف على هذا عام يشمل المادي والمعنوي، والمعنى أن أقل حالة المؤمنين مع الكفار في القتال أن ترجح المائة منهم على المائتين والألف على الألفين، وأن هذه الحالة رخصة خاصة بحال الضعف، كما كان عليه المؤمنون في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات وهو وقت غزوة بدر.
فقد تقدم أن المؤمنين كانوا لا يجدون ما يكفيهم من القوت، ولم يكن لديهم إلا فرس واحد، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدين للحرب، ومع هذا كله كانوا أقل من ثلث المشركين الكاملي العدة والأهبة. ولما كملت للمؤمنين القوة، كما أمرهم الله تعالى أن يكونوا في حال العزيمة كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم، وهل تم لهم فتح ممالك الروم والفرس وغيرهم إلا بذلك ؟ وكان القدوة الأولى في ذلك أصحاب رسول الله ( صلوات الله وسلامه عليهم ) في عهده ومن بعده ! كان الجيش الذي بعثه صلى الله عليه وسلم إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله ( الحارث بن عمير الأزدي ) إلى أمير بصرى ثلاثة آلاف، وأقل ما روي في عدد الجيش الذي قاتلهم من الروم ومنتصرة العرب مائة وخمسون ألفا، وروى الواحدي في البسيط أنه كان مائة ألف من الروم ومائة ألف من عرب لخم وجذام، فمن شك أو شكك في هذين العددين من المسلمين والروم في هذه الغزوة فماذا يقول في وقعة اليرموك الشهيرة ؟
روى المؤرخون أن الجموع التي جمعها هرقل للمعركة الفاصلة فيها بينه وبين العرب من الروم والشام والجزيرة وأرمينية كانت زهاء مائتي ألف وكان يأتيها المدد خشية الهزيمة وكان عدد جيش الصحابة رضي الله عنهم أربعة وعشرين ألفا، ورووا أن قتلى الروم بلغت سبعين ألفا فمن شك أو مارى في العدد في هذه المعركة وغيرها من المعارك، المعينة فهل يمكنه أن يماري في القدر المشترك في جملة المعارك التي فتح بها الصحابة رضي الله عنهم تلك الممالك الواسعة على قلة عددهم، وكونهم كانوا في مجموعها أو أكثرها أقل من عشر أعدائهم ؟ أنى وهو عين التواتر المعنوي الذي يفيد علم اليقين ؟
وأما قوله تعالى في تعليل هذا الغلب ( بإذن الله ) فقد فسروه هنا بإرادته ومشيئته تعالى، وأصل الإذن في اللغة إباحة الشيء والرخصة في فعله ولا سيما إذا كان الشأن فيه أن يكون ممنوعا فيكون حاصل الإذن إزالة المنع وهي إما أن تكون بالقول لمن يقدر على الفعل، وإما أن تكون بالفعل لمن لا يقدر عليه، فالإذن من الله تعالى إما أمر تكليف أو إباحة وترخيص، وهو من متعلق صفة الكلام فالأول كقوله تعالى :﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ﴾ [ الحج : ٣٩ ] وقوله :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ﴾ [ النساء : ٦٤ ] والثاني كقوله تعالى :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ] [ البقرة : ٢٥٥ ] وقوله :{ يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه ﴾ [ هود : ١٠٥ ].
وإما أمر تكوين أي بيان لسنة الله تعالى أو فعله أو تقديره أو إقداره لمن شاء على ما شاء فيكون من متعلق الإرادة ومن متعلق القدرة كقوله تعالى للمسيح عليه السلام ﴿ وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني ﴾ [ المائدة : ١١٠ ] وقوله :﴿ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ﴾ [ الأعراف : ٥٨ ] أي بقدرته وإرادته وكقوله :﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ] أي بإقداره ومعونته وتوفيقه، وفي معناها هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها وقد ختم كل منهما بقوله تعالى :﴿ والله مع الصابرين ﴾ وهذه المعية لا ندرك حقيقتها وكنهها وإنما نعلم علم يقين أن من كان الله تعالى معه فهو الغالب المنصور ولن يغلبه أحد، فنفسرها بمعية المعونة والنصر، كما تقدم في تفسير مثل هذه الجملة من الآية ٤٦ من هذه السورة في سياق الحرب وغزوة بدر، وقد أحلت فيه على تفسير مثل تلك الجملة من سورة البقرة وهو قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ﴾ [ البقرة : ١٥٣ ] وقد قلت هناك : ثم قال :﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ ولم يقل معكم ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم. ومن المفيد أن يراجع القارئ تفسير تلك الآية ( في ج ٢ تفسير ) فإنه يفيد في إتمام معنى ما هنا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وذهب المفسرين إلى أن آية العزيمة من هاتين الآيتين منسوخة بآية الرخصة التي بعدها بدليل التصريح بالتخفيف فيها، ولكن الرخصة لا تنافي العزيمة ولا سيما وقد عللت هنا بوجود الضعف. ونسخ الشيء لا يكون مقترنا بالأمر به وقبل التمكن من العمل به، وظاهر أن الآيتين نزلتا معا. وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما نزلت ﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ﴾ شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف فقال :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ﴾ قال فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم اهـ.
قال الحافظ في الفتح في شرح الجملة الأخيرة : كذا في رواية ابن المبارك، وفي رواية وهب بن جرير عن أبيه عند الإسماعيلي : نقص من النصر اهـ وأقول معنى الرواية الأولى أن الصبر في مقاتلة الضعفين دون الصبر في مقاتلة العشرة الأضعاف بهذه النسبة العددية. ومعنى الرواية الثانية أن النصر على الضعفين أقل أو أنقص من الصبر على العشرة الأضعاف، وكلاهما لازم ضروري للآخر. وهذه الرواية لا تدل على النسخ الأصولي الذي زعمه بعضهم على ما بيناه من كون الآية الأولى عزيمة أو مقيدة بحال القوة، والثانية رخصة مقيدة بحال الضعف، وما رواه ابن مردويه من طريق إسحاق بن راهويه عن عطاء عنه وفيه التصريح بالنسخ قال الحافظ : في سنده محمد بن إسحاق وليست هذه القصة عنده مسندة بل معضلة وصنيع ابن إسحاق وتبعه الطبراني وابن مردويه يقتضي أنها موصولة والعلم عند الله تعالى اهـ.
وأقول : حسبنا أن الحافظ لم يقف لها على سند متصل. على أن النسخ في عرف الصحابة أعم من النسخ المصطلح عليه في الأصول، وجمهور الفقهاء يجعلون حكم الثانية الوجوب وحكم الأولى الندب، ويستدلون على ذلك بتفسير ابن عباس الذي جعل بعضهم لروايته حكم الحديث المرفوع. قال الحافظ في الفتح : وهذا قاله الحافظ توقيفا على ما يظهر ويحتمل أن يكون قاله بطريق الاستقراء اهـ ونقول إن التوقيف من الشارع مستبعد أن يختص به ابن عباس الذي كان عند نزول السورة صغير السن فلم يحضر غزوة بدر ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقوله فيها يومئذ، وكونه سمعه بعد سنين ولم يصرح بسماعه مستبعد جدا، فالوجه المختار أن ما قاله ابن عباس فهم منه معناه إن قتال المثلين فرض، لا ينافي أن قتال العشرة ندب، وقد عبر عنه بعض رواته بالنسخ.
وقال الحافظ في أحكام الحديث من الفتح عند قوله :« فجاء التخفيف» ما نصه :
في رواية الإسماعيلي فنزلت الآية الأخرى وزاد : ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين ولا قوم من مثليهم. واستدل بهذا الحديث على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما سواء طلباه أو طلبهما : وسواء وقع ذلك وهو واقف في الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر. وهذا هو ظاهر تفسير ابن عباس ورجحه ابن الصباغ من الشافعية وهو المعتمد لوجود نص الشافعي عليه في الرسالة الجديدة رواية الربيع، ولفظه ومن نسخة عليها خط الربيع نقلت : قال بعد أن ذكر للآية آيات في كتابه إنه وضع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة وأثبت عليهم أن يقوم الواحد بقتال الاثنين. ثم ذكر حديث ابن عباس المذكور في الباب وساق الكلام عليه لكن المنفرد لو طلباه وهو على غير أهبة جاز له التولي عنهما جزما، وإن طلبهما فهل يحرم ؟ وجهان أصحهما عند المتأخرين لا، لكن ظاهر هذه الآثار المتضافرة عن ابن عباس يأباه وهو ترجمان القرآن، وأعرف الناس بالمراد، لكن يحتمل أن يكون ما أطلقه إنما هو في صورة ما إذا قاوم الواحد المسلم من جملة الصف في عسكر المسلمين اثنين من الكفار. أما المنفرد وحده بغير العسكر فلا، لأن الجهاد إنما عهد بالجماعة دون الشخص المنفرد، وهذا فيه نظر فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه سرية وحده، وقد استوعب الطبري وابن مردويه طرق هذا الحديث عن ابن عباس وفي غالبها التصريح بمنع تولي الواحد عن الاثنين واستدل ابن عباس في بعضها بقوله تعالى :﴿ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ﴾ [ البقرة : ٢٠٧ ] وبقوله تعالى :﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ﴾ [ النساء : ٨٤ ] اهـ.
ومن مباحث القراءات اللفظية في الآيتين أن ابن كثير ونافعا وابن عامر قرأوا « يكن» المسند إلى المائة في الآيتين بالتاء على التأنيث اللفظي ووافقهم أبو عمرو ويعقوب في «يكن» التي في الآية الثانية، وأما « يكن» المسند إلى «عشرون صابرون» يقرأها الجميع بالتذكير لأن المسند إليه جمع مذكر موصوف بمثله.
ومن مباحث البلاغة فيهما أن المعنى المراد في تفضيل المؤمنين على الكافرين في القتال مقيد بأن يكون المؤمنون صابرين دون الكافرين أو فوق صبرهم، ويكون الكافرون من الذين لا يفقهون من المقاصد الدينية والاجتماعية ما يفقه المؤمنون. فكان من إيجاز القرآن أن في الآية الأولى أن قيد العشرين بوصف صابرين ولم يقيد بذلك المائة، وقيد الغلب في قتال المائة للألف بأن يكون للذين كفروا الذين وصفهم بأنهم قوم لا يفقهون، ولم يذكر هذا القيد في غلب العشرين للمائة منهم وكل من القيدين مراد فأثبت في كل من الشرطين ما حذف نظيره في الآخر وهو ما يسمى في البديع بالاحتباك. ثم إنه وصف المائة في آية التخفيف بالصابرة لأن الصبر شرط لا بد منه في كل حال وكل عدد مع عدم وصف المائة به في الأولى لئلا يتوهم أنه شرط في العدد القليل كالعشرين دون الكثير كالمائة والألف، ولم يذكره في الألف استغناء بما قبله وبما بعده من قوله :﴿ والله مع الصابرين ﴾ وهو مع قوله قبله :﴿ بإذن الله ﴾ يدل على أن سنة الله تعالى في الغلب أن يكون للصابرين على غير الصابرين، وكذا على من هم أقل منهم صبرا، وفي هذا تحذير للمؤمنين من الغرور بدينهم لئلا يظنوا أن الإيمان وحده يقتضي النصر والغلب وإن لم يقترن بصفاته اللازمة لكماله، ومن أعظمها الصبر والعلم بحقائق الأمور وسنن الله تعالى في الخلق المعبر عنه هنا بالفقه.

﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ( ٦٧ ) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ( ٦٨ ) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ( ٦٩ ﴾.
ختم الله تعالى سياق القتال في هذه السورة بأحكام تتعلق بالأسرى لأن أمورهم يفصل فيها بعد القتال في الغالب كما وقع في غزوة بدر، وكما يقع في كل زمان. وفصله عما قبله لأنه بيان مستأنف لما شأنه أن يسأل عنه ولا سيما عارفي قصة غزوة بدر وأهلها.
والأسرى جمع أسير كالقتلى والجرحى جمع جريح وقتيل، وقال الزجاج إن هذا الجمع خاص بمن أصيب في بدنه أو عقله كمريض ومرضى وأحمق وحمقى. والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد بالإسار بالكسر أي السير وهو القد من الجلد، وكان من يؤخذ من العسكر في الحرب يشد لئلا يهرب، ثم صار لفظ الأسير يطلق على أخيذ الحرب وإن لم يشد، ويجمع لغة على أسارى وقرئ به في الشواذ، وقال بعضهم إنه جمع أسرى أي جمع الجمع، وعلى أسراء كضعيف وضعفاء وعليم وعلماء. وقرأ أبو عمرو ويعقوب «تكون » بالفوقية بناء على تأنيث لفظ الجمع ( أسرى ). والثخانة من الثخن بكسر ففتح والثخانة وهي الغلظ والكثافة، وثوب ثخين ضد رقيق والعامة تجعل الثاء المثلثة من هذه المادة مثناة.
ومعنى ﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾ ما كان من شأن نبي من الأنبياء ولا من سنته في الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المن والفداء إلا بعد أن يثخن في الأرض أي حتى يعظم شأنه فيها ويغلظ ويكثف بأن تتم له القوة والغلب فلا يكون اتخاذه الأسرى سببا لضعفه أو قوة أعدائه، وهو في معنى قول ابن عباس رضي الله عنه حتى يظهر على الأرض وقول البخاري حتى يغلب في الأرض. وفسره أكثر المفسرين بالمبالغة في القتل، وروي عن مجاهد وهو تفسير بالسبب لا بمدلول اللفظ، وفي التفسير الكبير للرازي : قال الواحدي الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته يقال قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوة المرض عليه وكذلك أثخنه الجراح، والثخانة الغلظة، فكل شيء غليظ فهو ثخين فقوله :﴿ حتى يثخن في الأرض ﴾ معناه حتى يقوى ويشتد ويغلب ويبالغ ويقهر. ثم إن كثيرا من المفسرين قالوا : المراد منه حتى يبالغ في قتل أعدائه قالوا وإنما حملنا اللفظ عليه لأن الملك والدولة وإنما تقوى وتشتد بالقتل. قال الشاعر :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
ولأن كثرة القتل توجب الرعب وشدة المهابة وذلك يمنع من الجرأة ومن الإقدام على مالا ينبغي فلهذا السبب أمر الله بذلك اه.
وأقول : إن من المجربات التي لا شك فيها أن الإثخان في قتل الأعداء في الحرب سبب من أسباب الإثخان في الأرض، أي التمكن والقوة وعظمة السلطان فيها، وقد يحصل هذا الإثخان بدون ذلك أيضا : يحصل بإعداد كل ما يستطاع من القوى الحربية ومرابطة الفرسان والاستعداد التام للقتال الذي يرهب الأعداء كما تقدم في تفسير ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ﴾ وما هو ببعيد. وقد يجتمع السببان، فيكمل بهما إثخان العزة والسلطان. كما أن الإسراف في القتل قد يكون سببا لجمع كلمة الأعداء واستبسالهم.
وأما قوله تعالى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم التي تسمى سورة القتال أيضا ﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ﴾ [ محمد : ٤ ] فهو في إثخان القتلى الذي يطلب في معركة القتال بعد الإثخان في الأرض، فإذا التقى الجيشان فالواجب علينا بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى لئلا يفضي ذلك إلى ضعفنا ورجحانهم علينا، وإذا كان هذا القتل قبل أن نثخن في الأرض بالعزة والقوة التي ترهب أعداءنا حتى إذا أثخناهم في المعركة جرحا وقتلا، وتم لنا الرجحان عليهم فعلا، رجحنا الأسر المعبر عنه بشد الوثاق لأنه يكون حينئذ من الرحمة الاختيارية وجعل الحرب ضرورة تقدر بقدرها، لا ضراوة بسفك الدماء، ولا تلذذا بالقهر والانتقام، ولذلك خيرنا الله تعالى فيهم بين المن عليهم وإعتاقهم بفك وثاقهم وإطلاق حريتهم، وإما بفداء أسرانا عند قومهم ودولتهم إن كان لنا أسرى عندهم بمال نأخذه منهم، ولم يأذن لنا في هذه الحال بقتلهم، فقد وضع الشدة في موضعها والرحمة في موضعها. وإذا كان بيننا وبين دولة عهد يتضمن اتفاقا على الأسرى وجب الوفاء به وبطل التخيير بينه وبين غيره.
وأما قوله تعالى بعد هذا التخيير الذي يختار الإمام منه في غير حال العهد الخاص معهم ما فيه المصلحة العامة ( حتى تضع الحرب أوزارها ) أي أثقالها وقيل آثامها فهو غاية لما قبله قالوا أي إلى أن تنقضي الحرب ولم يبق إلا مسلم أو مسالم، أي بأن لا يتعدى على المسلمين ذلك الاعتداء الذي يكون به القتال فرض عين عليهم، وقيل حتى تزول الحرب من الأرض ويعم السلم، وهي الغاية العليا التي يتمناها فضلاء البشر من جميع الأمم الراقية، ولكن الله تعالى بين بعد هذا أن الحرب سنة اجتماعية اقتضتها الحكمة الإلهية في ابتلاء البشر بعضهم ببعض ليظهر استعداد كل فريق منهم فقال :﴿ ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ﴾ [ محمد : ٤ ] أي الأمر ذلك الذي ذكر لكم، ولو شاء الله لانتصر لكم بإهلاكهم بعذاب من عنده لا جهاد لكم فيه ولا عمل، ولكن مضت سنته بأن يجعل سعادة الدنيا والآخرة للناس بأعمالهم ليبلو ويختبر بعضكم ببعض وسنبين ذلك بالتفصيل في تفسير هذه الآية من سورتها إذا أحيانا الله تعالى.
وجملة القول في تفسير الآيتين أن اتخاذ الأسرى إنما يحسن ويكون خيرا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل : أما في المعركة الواحدة فبإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين، وأما في الحالة العامة التي تعم كل معركة وكل قتال فبإثخانهم في الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء.
ثم قال تعالى بعد هذه القاعدة العامة التي تقرها ولا تنكرها علوم الحرب وفنونها في هذا العصر ﴿ تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ﴾ وهو إنكار على عمل وقع من الجمهور على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة معا بقصد دنيوي وهو فداء الأسرى بالمال، ليس من شأن الأنبياء ولا مما ينبغي لهم مخالفتها ولو بإقرار مثل ذلك العمل، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أسرى بدر الفداء برأي أكثر المؤمنين بعد استشارتهم فتوجه العتاب إليهم بعد بيان سنة النبيين في المسألة الدال بالإيماء على شمول الإنكار والعتاب له صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وسنذكر حكمة ذلك وحكمة هذا الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم بعد بيان ما ورد في الواقعة.
والمعنى تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا الفاني الزائل وهو المال الذي تأخذونه من الأسرى فداء لهم والعرض في الأصل ما يعرض ولا يدوم ولا يثبت واستعاره علماء المعقول لما يقوم بغيره لا بنفسه كالصفات وهو يقابل الجوهر وهو عندهم ما يقوم بنفسه كالأجسام. والله يريد لكم ثواب الآخرة الباقي بما يشرعه لكم من الأحكام الموصلة إليه ما عملتم بها، ومنه الاستعداد للقتال بقدر الاستطاعة بقصد الإثخان في الأرض، والسيادة فيها لإعلاء كلمة الحق وإقامة العدل، فهو كقوله في رخصة ترك الصيام في السفر والمرض ﴿ يريد الله بكم اليسر ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] وليس المراد به إرادة الخلق والتكوين فإن هذا لا يظهر ههنا ولا هناك، ولذلك لجأ من لم يفطن من المفسرين لما ذكرنا في تفسير الإرادة إلى قول المعتزلة فقالوا أي يحبه ويرضاه لكم، بإعزاز الحق والإيمان، وإزالة قوة الشرك والطغيان.
﴿ والله عزيز حكيم ﴾ فيحب للمؤمنين أن يكونوا أعزة غالبين، ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ [ المنافقون : ٨ ] كما يحب لهم أن يكونوا حكماء ربانيين، يضعون كل شيء في موضعه. وإنما يكون هذا بتقديم الإثخان في الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية بمثل فداء أسرى المشركين وهم في عنفوان قوتهم وكثرتهم، وهذه القاعدة تعدها دول المدنية العسكرية من أسس السياسة الاستعمارية فإذا رأوا من البلاد التي يحتلونها أدنى بادرة من أعمال المقاومة بالقوة ينكلون بأهلها أشد تنكيل فيخربون البيوت ويقتلون الأبرياء مع المقاومين بل لا يتعففون عن قتل النساء والأطفال بما يمطرون البلاد من نيران المدافع وقذائف الطيارات، والإسلام لا يبيح شيئا من هذه القسوة، فإنه دين العدل والرحمة.
لأصحاب التفسير المأثور في هذه النازلة عدة روايات عن علماء الصحابة رضي الله عنهم نذكر أهمها وأكثرها فائدة : روى ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال لما كان يوم بدر جيء بالأسارى فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه انظروا واديا كثير الحطب فاضرمه عليهم نارا. فقال العباس رضي الله عنه وهو يسمع ما يقول أقطعت رحمك. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا. فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر رضي الله عنه وقال أناس يأخذ برأي عمر رضي الله عنه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة. مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ [ المائدة : ١١٨ ] ومثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾ [ نوح : ٢٦ ] ومثلك يا عبد الله كمثل موسى عليه السلام إذ قال :﴿ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٨٨ ] أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق » فقال عبد الله رضي الله عنه : يا رسول الله إلا سهيل ابن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة منى في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سهيل ابن بيضاء. فأنزل الله تعالى :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾ إلى آخر الآيتين.
وروى أحمد ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه والتفصيل لأحمد قال لما أسروا الأسارى يعني يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر «ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ » فقال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال صلى الله عليه وسلم « ما ترى يا ابن الخطاب ؟ » فقال لا والله لا أرى الذي رأى أبو بكر ولكنني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل ( أي أخيه ) فيضرب عنقه وتمكنني من فلان نسيبا لعمر فأضرب عنقه، ومكن فلانا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ) شجرة قريبة منه وأنزل الله عز وجل ﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾١.
وفي هذا الحديث أن الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر في أكثر الر
١ ـ أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٥٨، وأحمد في المسند ١/٣١، ٣٣..
﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ( ٦٧ ) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ( ٦٨ ) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ( ٦٩ ﴾.
ختم الله تعالى سياق القتال في هذه السورة بأحكام تتعلق بالأسرى لأن أمورهم يفصل فيها بعد القتال في الغالب كما وقع في غزوة بدر، وكما يقع في كل زمان. وفصله عما قبله لأنه بيان مستأنف لما شأنه أن يسأل عنه ولا سيما عارفي قصة غزوة بدر وأهلها.
﴿ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ( ٦٨ ) ﴾.
أقول وقد استشكل بعض العلماء حديث علي كرم الله وجهه بأنه مخالف لمضمون الآية وقوله تعالى بعدها :﴿ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ﴾ قالوا لو خيرهم بين الأمرين لما آخذهم على اختيار أحدهما. وأجيب عن ذلك بأن لله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء، ليظهر بالعمل من أحسن ومن أساء، فيترتب على كل منهما ما يستحقه من الجزاء. قال تعالى في أول سورة العنكبوت :﴿ الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ] وقال تعالى في سياق الكلام على غزوة أحد من سورة آل عمران ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ﴾ [ آل عمران : ١٤٢ ] وقال في أول سورة الكهف :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾ [ الكهف : ٨ ] وفي القرآن آيات كثيرة بهذا المعنى، وإن الذي يعنينا من هذا البحث وتحقيق الروايات فيه هو تحقيق الموضوع ومنه كون الذي رجحوا مفاداة الأسرى كثيرون وبحث اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وشمول العتاب في الآيتين له وقد حاول بعض المفسرين أن يجعل إنكار القرآن خاصا بالمؤمنين دونه صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم إن أخذ الفداء هو أرجح الرأيين وأفضل الخطتين، ووجهه ابن القيم في الهدي بما يأتي من براعته وسعة مجال أدلته، كما يأتي قريبا مع تحقيق الحق فيه بفضل الله ومشيئته.
ومعنى الآية : لولا كتاب من الله سبق في علمه الأزلي أو في أم الكتاب أو في القرآن الكريم يقتضي أن لا يعذبهم في هذا الذنب، أو أن لا يعذبكم عذابا عاما، والرسول فيكم، وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم، لمسكم فيما أخذتم من الفداء عذاب عظيم، أي بسببه كحديث الصحيحين « دخلت النار امرأة في هرة »١ الخ أي بسببها إذ حبستها حتى ماتت. وورد في معنى الآية والكتاب الذي سبق روايات وآراء تدل على أنه مما أبهم لتذهب الأفهام إلى كل ما يحتمله اللفظ ويدل عليه المقام منها.
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق نافع عن ابن عمر قال اختلف الناس في أسارى بدر فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أبار بكر وعمر فقال أبو بكر فادهم وقال عمر اقتلهم قال قائل أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدم الإسلام ويأمره أبو بكر بالفداء، وقال قائل لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمر بقتلهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر ففاداهم فأنزل الله ﴿ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ﴾ فقال رسول صلى الله عليه وسلم :( إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر ).
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال لم يكن من المؤمنين أحد ممن نصر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه وقال يا رسول الله ما لنا وللغنائم نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو عذبنا في الأمر يا عمر ما نجا غيرك قال الله لا تعودوا تستحلون قبل أن أحل لكم ) وأخرج عن ابن إسحاق لما نزلت ﴿ لولا كتاب من الله سبق ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو نزل عذاب من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ لقوله : يا نبي الله كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى ﴾ قال ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى ﴿ فإما منا بعد وإما فداء ﴾ [ محمد : ٤ ] فجعل الله النبي والمؤمنين في أمر الأسرى بالخيار : إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وإن شاؤوا فادوهم ( أقول ولم يذكر الثالثة وهي المن عليهم بإعتاقهم وإطلاق سراح أسرهم ) وفي قوله :﴿ لولا كتاب من الله سبق ﴾ يعني في الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم ﴿ لمسكم فيما أخذتم ﴾ من الأسارى ﴿ عذاب عظيم * فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ﴾ قال وكان الله قد كتب في أم الكتاب المغانم والأسارى حلال لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته ولم يكن أحله لأمة قبلهم، وأخذوا المغانم وأسروا الأسارى قبل أن ينزل إليهم في ذلك.
وروى ابن المنذر وأبو الشيخ عنه ﴿ لولا كتاب من الله سبق ﴾ قال : سبقت لهم من الله الرحمة قبل أن يعملوا بالمعصية، اه والظاهر أن المراد بذلك أهل بدر خاصة فقد ورد في الصحيحين وغيرهما ما يثبت أن الله تعالى قد غفر لأهل بدر كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر حين استأذنه بقتل حاطب بن أبي بلتعة ( أليس من أهل بدر ؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم ) ٢ وفي رواية« وما يدريك ؟ لعل الله اطلع على أهل بدر » الخ وهذا تمثيل وتصوير لمغفرة الله وليس أمرا إباحيا أمر الله رسوله أن يبلغهم إياه بل هو أشبه بأمر التكوين والتقدير منه بأمر التكليف، وقال بعض العلماء إنه للتشريف والتكريم، واتفقوا على أن البشارة المذكورة خاصة بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود ونحوها وقد ورد أن واحدا منهم شرب الخمر فحده عمر رضي الله عنه.
وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله :﴿ لولا كتاب من الله سبق ﴾ قال في أنه لا يعذب أحدا حتى يبين له ويتقدم إليه.
وقال ابن جرير في الآية : لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ بأنه محل لكم الغنيمة وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وأنه لا يعذب أحدا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصرا دين الله لنالكم من الله بأخذكم الغنيمة والفداء عذاب عظيم. اه ثم ذكر رواياته في هذه الوجوه وصوب إرادتها كلها.
وهذا خلط بين الغنائم وفداء الأسرى وإشراك بين تفسير هذه الآية وتفسير الآية التي بعدها. واختار ابن كثير الجمع بينهما وفاقا لابن جرير والأظهر المختار أن مسألة الفداء غير مسألة الغنائم فإن الغنائم أحلت في أول هذه السورة وفي أول هذا الجزء منها.
وقال بعض العلماء إن الذي سبق في كتاب الله أي في حكمه أوفي علمه هو أن المجتهد إذا أخطأ لا يعاقب بل يثاب على اجتهاده وإذا كان نبيا لا يقره الله على خطئه بل يبينه له ويبين له ما كان من شأنه أن يترتب عليه من العقاب لولا الاجتهاد وحسن النية.
وقد فند الرازي جميع الروايات المأثورة في الكتاب الذي سبق بعضها بحق وبعضها بغير حق، واختار على مذهب أصحابه الأشعرية في جواز العفو عن الكبائر أن المعنى : لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمسهم عذاب عظيم ( قال ) وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ [ الأنعام : ١٢ ] ومن قوله ﴿ سبقت رحمتي غضبي ﴾٣ ( قال ) وأما على قول المعتزلة فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر فكان معناه ﴿ لولا كتاب من الله سبق ﴾ في أن من احترز عن الكبائر صارت كبائره مغفورة وإلا لمسهم عذاب عظيم. وهذا الحكم وإن كان ثابتا في جميع المسلمين إلا أن طاعات أهل بدر كانت عظيمة وهو قبولهم الإسلام وانقيادهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة فلا يبعد أن يقال إن الثواب الذي استحقوه على هذه الطاعات كان أزيد من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب فلا جرم صار هذا الذنب مغفورا ولو قدرنا صدور هذا الذنب من سائر المسلمين لما صار مغفورا فبسبب هذا القدر من التفاوت حصل لأهل بدر هذا الاختصاص اه.
وأقول : إن هذا الذي ذكره الرازي على طريقة المعتزلة تعليل حسن لمغفرة الله تعالى لأهل بدر ما يحتمل أن يقع منهم من الذنوب، وهو موافق لمذهب أهل السنة ونصوص القرآن في تغليب الحسنات على السيئات، ولكنه لا يتجه في تفسير الآية، وما ذكره على مذهب الأشعرية مثله في هذا، فما اعتمده أضعف مما رده وأبطله.
وقد أشرنا آنفا إلى احتمال تفسير الكتاب الذي سبق بقوله تعالى في هذه السورة ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] وقد تقدم تفسيره وهو وإن كان قد نزل في المشركين أولى أن يكون للمؤمنين أو هم أحق به وأولى، وهل يصح أن يمتنع نزول العذاب بالمشركين وفيهم نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وهم يؤذونه ويصدون عنه، ولا يمتنع نزوله بالمؤمنين به الناصرين له وهو فيهم وهم يستغفرونه تعالى حق الاستغفار لتوحيدهم إياه وعدم إشراكهم أحدا ولا شيئا في عبادته ؟ ولا أذكر أنني رأيته لأحد على شدة ظهوره، وتألق نوره، ولكنه خاص بعذاب الاستئصال، ومن البعيد جدا أن يكون هو المراد أو يشمل كل عذاب عام كما يشير إليه روايات استثناء عمر وسعد رضي الله عنها، ويصح تسمية هذا كتابا بمعنى كونه قضاء سبق وكتب في أم الكتاب، أو بمعنى أنه تعالى كتبه على نفسه كما قال ﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ﴾ [ الأنعام : ٥٤ ]. وقد فسر بعضهم الكتاب الذي سبق بهذه الرحمة بناء على أنهم يتوبون مما ذكر بعد إنكاره عليهم، ويلحون عملهم بما يذهب بتأثيره من أنفسهم، وكذلك كان.
ويجوز أن يكون المراد بالكتاب الذي سبق ما قضاه الله تعالى وقدره من أعمال هؤلاء الأسرى وإيمان أكثرهم. والمختار عندنا وفاقا لما ذهب إليه ابن جرير هو جواز إرادة كل ما يحتمله اللفظ من المعاني التي ذكر بعضها في رواياته وأن هذا سبب تنكيره وإبهامه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وجملة القول في تفسير الآيات أنه ليس من سنة الأنبياء ولا مما ينبغي لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمن عليهم إلا بعد أن يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين، لئلا يفضي أخذه الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعداءهم وجرأتهم وعدوانهم عليهم ـ وأن ما فعله المؤمنون من مفاداة أسرى بدر بالمال كان ذنبا سببه إرادة جمهورهم عرض الحياة الدنيا على ما كان من ذنب أخذهم لهم قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة الله تعالى وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، ولولا ذلك لسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، كما سألوه عن الأنفال من قبله، - وأنه لولا كتاب من الله سبق مقتضاه عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى وعلى خلاف سنته وبالغ حكمته لمسهم بعذاب عظيم في أخذه ذلك ـ وأنه تعالى أحل لهم ما أخذوا وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله لهم والله غفور رحيم.
فإن قيل : تبين بعد نزول هذه الآيات أن ما حصل من أخذ الفداء لم يكن مضعفا للمؤمنين، ولا مزيدا في شوكة المشركين، بل كان خيرا ترتب عليه فوائد كثيرة بينها المحقق ابن القيم من بضعة وجوه ـ وسيأتي سردها.
قلنا : ما يدرينا ما كان يكون لو عمل المسلمون بما دلت الآية الأولى من قتل أولئك الأسرى أو من عدم أخذ الأسرى يومئذ ؟ على أنه هو الذي تقتضيه الحكمة، وسنة أنبياء الرحمة، أليس من المعقول أن يكون ذلك مرهبا للمشركين، وصادا لهم عن الزحف بعد سنة على المؤمنين، وأخذ الثأر منهم في أحد ثم اعتداؤهم في غيرها من الغزوات ؟
فإن قيل : وما رحمة الله تعالى في ترجيح رسوله لرأي الجمهور المرجوح بحسب القاعدة أو السنة الإلهية التي كان عليها الأنبياء قبله وهو أرجحهم ميزانا، وأقواهم برهانا، ثم إنكاره تعالى ذلك عليهم ؟ قلت : إن لله تعالى في ذلك لحكما أذكر ما ظهر لي منها :
الحكمة الأولى : عمل الرسول صلى الله عليه وسلم برأي الجمهور الأعظم فيما لا نص فيه من الله تعالى وهو ركن من أركان الإصلاح السياسي والمدني الذي عليه أكثر أمم البشر في دولها القوية في هذا العصر، كما عمل صلى الله عليه وسلم برأيهم الذي صرح به الحباب بن المنذر في منزل المسلمين يوم بدر وتقدم ( في ج ٩ ) وقد كان هذا من فضائله صلى الله عليه وسلم ثم فرضه الله عليه في غزوة أحد بقوله :﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] ( ج ٤ ).
الحكمة الثانية : بيان أن الجمهور قد يخطئون ولا سيما في الأمر الذي لهم فيه هوى ومنفعة. ومنه يعلم أن ما شرعه تعالى في العمل برأي الأكثرين فسببه أنه هو الأمثل في الأمور العامة لا أنهم معصومون فيها.
الحكمة الثالثة : أن النبي نفسه قد يخطئ في اجتهاده ولكن الله تعالى يبين له ذلك ولا يقره عليه كما صرح به العلماء، فهو معصوم من الخطأ في التبليغ عن الله تعالى لا في الرأي والاجتهاد. ومنه ما سبق من اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه بمكة في الإعراض عن الأعمى الفقير الضعيف عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه حين جاءه يسأله وهو يدعو كبراء أغنياء المشركين المتكبرين إلى الإسلام لئلا يعرضوا عن سماع دعوته فعاتبه الله تعالى على ذلك بقوله :﴿ عبس وتولى أن جاءه الأعمى ﴾ [ عبس : ١، ٢ ] إلى قوله تعالى :﴿ كلا ﴾ [ عبس : ١٠ ].
الحكمة الرابعة : أن الله تعالى يعاتب رسوله على الخطأ في الاجتهاد مع حسن نيته فيه ويعده ذنبا له ويمنّ عليه بعفوه عنه ومغفرته له، على كون الخطأ في الاجتهاد معفوا عنه في شريعته، لأنه في علو مقامه وسعة عرفانه يعد عليه من مخالفة الأولى والأفضل والأكمل ما لا يعد على من دونه من المؤمنين، على قاعدة : حسنات الأبرار سيئات المقربين١. ومثال ذلك قوله تعالى له لما أذن بالتخلف عن غزوة تبوك لبعض المنافقين ﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ﴾ [ التوبة : ٤٣ ] فهذه أمثلة ذنوبه صلى الله عليه وسلم تسليما، المغفورة بنص قوله تعالى :﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ﴾ [ الفتح : ٢ ] والذنب ما له عاقبة ضارة أو مخالفة للمصلحة تكون وراءه كذنب الدابة وإن لم يكن معصية.
الحكمة الخامسة : بيان مؤاخذة الله تعالى الناس على الأعمال النفسية وإرادة السوء بعد تنفيذها بالعمل بقوله تعالى :﴿ تريدون عرض الدنيا ﴾ وإنما كانت إرادة هذا ذنبا لأنه باستشراف أشد من استشرافهم أولا لإيثار عير أبي سفيان على الجهاد، ولذلك لم يسألوا عن حكمه كما سألوا من قبل عن الأنفال، ولم يبالوا في سبيله بأن يقتل المشركون منهم بعد عام مثل عدد من قتلوا هم ببدر كما ورد في بعض الروايات، وما قاله بعض المفسرين من أن سبب هذا حبهم للشهادة فلا دليل عليه من نص ولا قرينة حال ويرده أنه ليس للمؤمنين أن يحبوا أو يختاروا قتل المشركين لكثير منهم ولا قليل، ويكفي من حب الشهادة الإقدام على القتال وعدم الفرار من الزحف خوفا من القتل.
الحكمة السادسة : الإيذان بأنهم استحقوا العذاب على أخذ الفداء ولم يذكر معه مخالفة المصلحة المذكورة لأنها لم تكن قد بينت لهم، وإنما كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم هذه المصلحة ويعمل بمقتضاها والظاهر أنه علمها ولكنه رجح عليها العمل بالمشاورة والأخذ برأي الجمهور الذي فرضه الله تعالى عليه فرضا في غزوة أحد، بعد أن ألهمه إياه إلهاما في غزوة بدر، ولهذا لم يمن عليه هنا بالعفو عنه خاصة كما منَّ عليه بعد ذلك في الإذن للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك الذي هو مخالف للمصلحة أيضا.
الحكمة السابعة : بيان منَّة الله تعالى على أهل بدر أنه لم يعذبهم فيما أخذوا بسوء الإرادة أو بغير حق وتقدم وجهه، وفي هذه المنة بعد الإنذار الشديد خير تربية لأمثالهم من الكاملين تربأ بأنفسهم عن مثل ذلك الاستشراف، لا أنها تجرئهم عليه كما توهم بعض الناس.
الحكمة الثامنة : علمه تعالى بأن أولئك الأسرى ممن كتب لهم طول العمر وتوفيق أكثرهم للإيمان.
الحكمة التاسعة : أن يكون من قواعد التشريع أن ما نفذه الإمام من الأعمال السياسية والحربية بعد الشورى لا ينقض وإن ظهر أنه خطأ. ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما شرع في تنفيذ رأي الجمهور في الخروج إلى أحد على خلاف رأيه ثم راجعوه فيه وفوضوا إليه الأمر في الرجوع فلم يرجع وقال في ذلك كلمته العظيمة التي تعمل بها دول السياسة الكبرى إلى هذا العصر لحسنها لا لاتباعه صلى الله عليه وسلم فتراجع في ( ص ٩٦-٩٨، ج ٤ ).
هذا ما فتح الله تعالى به وهو مخالف لما ذهب إليه العلامة ابن القيم في الهدي، وأشار إليه الحافظ في الفتح، وتارة معزوا إليه وتارة بغير عزو، وإننا ننقله بنصه، ونقفي عليه بما نراه ناقضا له، مع الاعتراف لأستاذنا ابن القيم بالإمامة والتحقيق ( لا العصمة ) في أكثر ما وجه إلى تحقيقه فكره الوقاد. ذلك أنه عقد في كتابه ( زاد المعاد ) فصلا لهديه صلى الله عليه وسلم في الأسارى ذكر فيه حديث الاستشارة في أسرى بدر ورأي الشيخين رضي الله عنهما والترجيح بينهما ما قال فيه ما نصه ـ والعنوان لنا ـ :
الترجيح بين رأيي الصديق والفاروق في أسرى بدر
وقد تكلم الناس في أي الرأيين كان أصوب فرجحت طائفة قول عمر لهذا الحديث ورجحت طائفة قول أبي بكر لاستقرار الأمر عليه ـ وموافقته الكتاب الذي سبق من الله وإحلال ذلك لهم ـ ولموافقته الرحمة التي غلبت الغضب ـ ولتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك بإبراهيم وعيسى وتشبيهه لعمر بنوح وموسى ـ ولحصول الخير العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى ـ ولخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين ـ ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء ـ ولموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أولا ـ ولموافقة الله له آخرا حيث استقر الأمر على رأيه ولكمال نظر الصديق فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخرا وغلبة جانب الرحمة على جانب العقوبة.
قالوا : وأما بكاء النبي صلى الله عليه وسلم فإنما كان رحمة لنزول العذاب لمن أراد بذلك عرض الدنيا، ولم يرد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وإن أراده بعض الصحابة، فالفتنة كانت تعم ولا تصيب من أراد ذلك خاصة كما هزم العسكر يوم حنين بقول أحدهم : لن نغلب اليوم من قلة، وبإعجاب كثرتهم لمن أعجبته منهم. فهزم الجيش بذلك فتنة ومحنة ثم استقر الأمر على النصر والظفر والله أعلم»اهـ.
أقول : إن في هذا الكلام على حسنه وكثرة فوائده مغالطات غير مقصودة وبعدا عن معنى الآيتين يجب بيانه لتحرير الموضوع وإظهار علو أحكام القرآن وحكمه وكونها فوق اجتهاد جميع المجتهدين، لأنها كلام رب العالمين. وما صرف المحقق ابن القيم فقهها وبيان علوها وفوقيتها إلا توجيه ذكائه ومعارفه إلى تفضيل اجتهاد أبي بكر على اجتهاد عمر لإجماع أهل السنة على كونه أفضل منه وإن كانوا لم يختلفوا في أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل أو الأفضل فكيف وقد اختاره الرسول بعد العلم بموافقة جمهور الصحابة له ماعدا عمر وكذا عبد الله بن رواحة وسعد بن أبي وقاص في بعض الروايات. وهذا الجمهور هو الذي كان يريد من الفداء عرض الدنيا لفقرهم وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه الأكبر من إرادة ذلك لذاته، ولا يقدح في مقامهما إرادتهما لمواساة الجمهور وتعويض شيء مما فاتهم من عير أبي سفيان، بعد ما كان من بلائهم في القتال على جوعهم وعدم استعدادهم له، وليس الذنب من الفتن التي يعم بها العذاب كما أشار إليه ابن القيم وهو مما لا يمكن وقوعه مع وجوده صلى الله عليه وسلم.
والتحقيق في المسألة الذي تدل عليه الآيتان دلالة واضحة تؤيدها الروايات الواردة في موضوعها وكذا آية سورة محمد عليه الصلاة والسلام أن رأي عمر هو الصواب الذي كان ينبغي العمل به في مثل الحال التي كان عليها المسلمون مع أعدائهم في وقت غزوة بدر. وأما رأي الصديق فهو الذي تقتضي الحكمة والرحمة العمل به بعد الإثخان في الأرض بالغلب والسلطان، ولكن كان من قدر الله تعالى أن نفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي أبي بكر لأنه رأى أن جمهور المسلمين يوافقه فيه وإن كان للكثيرين منهم قصد دون قصده الذي بنى عليه رأيه، وهو إرادتهم للمال لحاجتهم الدنيوية إليه كما صرحت به الآية الكريمة، وفي الحديث الذي تقدم أنه صلى الله عليه وسلم هوي رأي أبي بكر ولم يهو رأي عمر، وعندي أن أسباب هواه لرأي أبي بكر :
١ ـ حرصه صلى الله عليه وسلم على إرضاء الجمهور لعذرهم الذي بيناه آنفا في إرادتهم لعرض الدنيا.
٢ ـ تغليبه صلى الله عليه وسلم للرحمة على العقوبة إذا لم يكن في الرحمة إضاعة لحد من حدود الله ولا مخالفة لأمره تعالى.
٣ ـ رجاء إيمانهم كلهم أو بعضهم، وكان من حكمة الله تعالى ورحمته في هذا القدر أن بين لرسوله وللمؤمنين سنته تعالى في التغالب بين الأمم وما ينبغي لأنبيائه وأتباعهم في حالتي الضعف والإثخان في الأرض وسائر ما دلت عليه الآيات من الأحكام الحربية والسياسية والتشريعية.
بيان ما في كلام ابن القيم
من الأغلاط التي تشبه المغالطات الجدلية
١ـ ذكر أن المرجح الأول لرأي أبي بكر : استقرار الأمر عليه، فإذا كان يريد به ترجيحه والعمل به في تلك الحال فهو غلط ظاهر فإن العمل به هو الذي أنكره القرآن فكيف يكون دليلا على أنه الأصوب أو أنه صواب ؟ وأما


١ ـ أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ١٦، ومسلم في التوبة حديث٢٥، وابن ماجة في الزهد باب ٣٠، والدارمي في الرقاق باب ٩٣، وأحمد في المسند ٢/ ٢٦١، ٢٦٩، ٤٥٧، ٤٦٧، ٥٠١، ٥٠٧..
٢ ـ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في المغازي باب ٩، ٤٦، وتفسير سورة ٦٠، باب ١، والأدب باب ٧٤، والاستتابة باب ٩، والجهاد باب ١٤١، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ١٦١، وأبو داود في الجهاد باب٩٨، والسنة باب ٨، والترمذي في تفسير سورة ٦٠، باب ١، والدارمي في الرقاق باب ٤٨، وأحمد في المسند ١/ ٨٠، ١٠٥، ٣٣١، ٢/ ١٠٩، ٢٢٥، ٣/ ٣٥٠..
٣ ـ وروي أيضا الحديث بلفظ: « غلبت رحمت غضبي »، أخرجه البخاري في التوحيد باب ١٥، ٢٢، ٢٨، ٥٥، وبدء الخلق باب١، ومسلم في التوبة حديث ١٤ ـ ١٦، وابن ماجة في الزهد باب ٣٥، وأحمد في المسند ٢/ ٢٤٢، ٢٥٨، ٢٦٠، ٣١٣، ٣٥٨، ٣٨١، ٣٩٧، ٤٣٣، ٤٦٦..
﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ( ٦٧ ) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ( ٦٨ ) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ( ٦٩ ﴾.
ختم الله تعالى سياق القتال في هذه السورة بأحكام تتعلق بالأسرى لأن أمورهم يفصل فيها بعد القتال في الغالب كما وقع في غزوة بدر، وكما يقع في كل زمان. وفصله عما قبله لأنه بيان مستأنف لما شأنه أن يسأل عنه ولا سيما عارفي قصة غزوة بدر وأهلها.
﴿ فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ( ٦٩ ) ﴾
ثم إنه تعالى أباح لهم أكل ما أخذوه من الفداء وعده من جملة الغنائم التي أباحها لهم في أول هذه السورة وفي قوله في أول هذا الجزء ﴿ واعلموا أن ما غنمتم من شيء ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] الخ فقال :﴿ فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ﴾ [ الأنفال : ٦٩ ] أي وإذا كان الله تعالى قد سبق منه كتاب في أنه لا يعذبكم أو يقتضي أن لا يعذبكم بهذا الذنب الذي خالفتم به سنته وهدي أنبيائه فكلوا مما غنمتم من الفدية حالة كونه حلالا بإحلاله لكم الآن، طيبا في نفسه لا خبث فيه مما حرم لذاته كالميتة ولحم الخنزير واجعلوا باقيه في المصالح التي بينت لكم في قسمة الغنائم ﴿ واتقوا الله ﴾ في العود إلى أكل شيء من أموال الناس كفارا كانوا أو مؤمنين من قبل أن يحله الله لكم. وقال ابن جرير في تفسير هذه الجملة : وخافوا الله أن تعودوا أن تفعلوا في دينكم شيئا بعد هذا من قبل أن يحل لكم.
﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ قال : غفور لذنوب أهل الإيمان من عباده رحيم بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها. اه وفسر بعضهم الاسمين الكريمين هنا بما يقتضيه المقام من مغفرته تعالى لذنبهم بأخذ الفداء وإيثار جمهورهم لعرض الدنيا على ما يقتضيه إيثار الآخرة من طلب الإثخان في الأرض أولا، لإعزاز الحق وأهله، بإذلال الشرك وكبت حزبه ومن رحمته بهم بإباحة ما أخذوا والانتفاع به. والأقرب تفسيره بأنه غفور للمتقين رحيم بهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وجملة القول في تفسير الآيات أنه ليس من سنة الأنبياء ولا مما ينبغي لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمن عليهم إلا بعد أن يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين، لئلا يفضي أخذه الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعداءهم وجرأتهم وعدوانهم عليهم ـ وأن ما فعله المؤمنون من مفاداة أسرى بدر بالمال كان ذنبا سببه إرادة جمهورهم عرض الحياة الدنيا على ما كان من ذنب أخذهم لهم قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة الله تعالى وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، ولولا ذلك لسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، كما سألوه عن الأنفال من قبله، - وأنه لولا كتاب من الله سبق مقتضاه عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى وعلى خلاف سنته وبالغ حكمته لمسهم بعذاب عظيم في أخذه ذلك ـ وأنه تعالى أحل لهم ما أخذوا وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله لهم والله غفور رحيم.
فإن قيل : تبين بعد نزول هذه الآيات أن ما حصل من أخذ الفداء لم يكن مضعفا للمؤمنين، ولا مزيدا في شوكة المشركين، بل كان خيرا ترتب عليه فوائد كثيرة بينها المحقق ابن القيم من بضعة وجوه ـ وسيأتي سردها.
قلنا : ما يدرينا ما كان يكون لو عمل المسلمون بما دلت الآية الأولى من قتل أولئك الأسرى أو من عدم أخذ الأسرى يومئذ ؟ على أنه هو الذي تقتضيه الحكمة، وسنة أنبياء الرحمة، أليس من المعقول أن يكون ذلك مرهبا للمشركين، وصادا لهم عن الزحف بعد سنة على المؤمنين، وأخذ الثأر منهم في أحد ثم اعتداؤهم في غيرها من الغزوات ؟
فإن قيل : وما رحمة الله تعالى في ترجيح رسوله لرأي الجمهور المرجوح بحسب القاعدة أو السنة الإلهية التي كان عليها الأنبياء قبله وهو أرجحهم ميزانا، وأقواهم برهانا، ثم إنكاره تعالى ذلك عليهم ؟ قلت : إن لله تعالى في ذلك لحكما أذكر ما ظهر لي منها :
الحكمة الأولى : عمل الرسول صلى الله عليه وسلم برأي الجمهور الأعظم فيما لا نص فيه من الله تعالى وهو ركن من أركان الإصلاح السياسي والمدني الذي عليه أكثر أمم البشر في دولها القوية في هذا العصر، كما عمل صلى الله عليه وسلم برأيهم الذي صرح به الحباب بن المنذر في منزل المسلمين يوم بدر وتقدم ( في ج ٩ ) وقد كان هذا من فضائله صلى الله عليه وسلم ثم فرضه الله عليه في غزوة أحد بقوله :﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] ( ج ٤ ).
الحكمة الثانية : بيان أن الجمهور قد يخطئون ولا سيما في الأمر الذي لهم فيه هوى ومنفعة. ومنه يعلم أن ما شرعه تعالى في العمل برأي الأكثرين فسببه أنه هو الأمثل في الأمور العامة لا أنهم معصومون فيها.
الحكمة الثالثة : أن النبي نفسه قد يخطئ في اجتهاده ولكن الله تعالى يبين له ذلك ولا يقره عليه كما صرح به العلماء، فهو معصوم من الخطأ في التبليغ عن الله تعالى لا في الرأي والاجتهاد. ومنه ما سبق من اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه بمكة في الإعراض عن الأعمى الفقير الضعيف عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه حين جاءه يسأله وهو يدعو كبراء أغنياء المشركين المتكبرين إلى الإسلام لئلا يعرضوا عن سماع دعوته فعاتبه الله تعالى على ذلك بقوله :﴿ عبس وتولى أن جاءه الأعمى ﴾ [ عبس : ١، ٢ ] إلى قوله تعالى :﴿ كلا ﴾ [ عبس : ١٠ ].
الحكمة الرابعة : أن الله تعالى يعاتب رسوله على الخطأ في الاجتهاد مع حسن نيته فيه ويعده ذنبا له ويمنّ عليه بعفوه عنه ومغفرته له، على كون الخطأ في الاجتهاد معفوا عنه في شريعته، لأنه في علو مقامه وسعة عرفانه يعد عليه من مخالفة الأولى والأفضل والأكمل ما لا يعد على من دونه من المؤمنين، على قاعدة : حسنات الأبرار سيئات المقربين١. ومثال ذلك قوله تعالى له لما أذن بالتخلف عن غزوة تبوك لبعض المنافقين ﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ﴾ [ التوبة : ٤٣ ] فهذه أمثلة ذنوبه صلى الله عليه وسلم تسليما، المغفورة بنص قوله تعالى :﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ﴾ [ الفتح : ٢ ] والذنب ما له عاقبة ضارة أو مخالفة للمصلحة تكون وراءه كذنب الدابة وإن لم يكن معصية.
الحكمة الخامسة : بيان مؤاخذة الله تعالى الناس على الأعمال النفسية وإرادة السوء بعد تنفيذها بالعمل بقوله تعالى :﴿ تريدون عرض الدنيا ﴾ وإنما كانت إرادة هذا ذنبا لأنه باستشراف أشد من استشرافهم أولا لإيثار عير أبي سفيان على الجهاد، ولذلك لم يسألوا عن حكمه كما سألوا من قبل عن الأنفال، ولم يبالوا في سبيله بأن يقتل المشركون منهم بعد عام مثل عدد من قتلوا هم ببدر كما ورد في بعض الروايات، وما قاله بعض المفسرين من أن سبب هذا حبهم للشهادة فلا دليل عليه من نص ولا قرينة حال ويرده أنه ليس للمؤمنين أن يحبوا أو يختاروا قتل المشركين لكثير منهم ولا قليل، ويكفي من حب الشهادة الإقدام على القتال وعدم الفرار من الزحف خوفا من القتل.
الحكمة السادسة : الإيذان بأنهم استحقوا العذاب على أخذ الفداء ولم يذكر معه مخالفة المصلحة المذكورة لأنها لم تكن قد بينت لهم، وإنما كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم هذه المصلحة ويعمل بمقتضاها والظاهر أنه علمها ولكنه رجح عليها العمل بالمشاورة والأخذ برأي الجمهور الذي فرضه الله تعالى عليه فرضا في غزوة أحد، بعد أن ألهمه إياه إلهاما في غزوة بدر، ولهذا لم يمن عليه هنا بالعفو عنه خاصة كما منَّ عليه بعد ذلك في الإذن للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك الذي هو مخالف للمصلحة أيضا.
الحكمة السابعة : بيان منَّة الله تعالى على أهل بدر أنه لم يعذبهم فيما أخذوا بسوء الإرادة أو بغير حق وتقدم وجهه، وفي هذه المنة بعد الإنذار الشديد خير تربية لأمثالهم من الكاملين تربأ بأنفسهم عن مثل ذلك الاستشراف، لا أنها تجرئهم عليه كما توهم بعض الناس.
الحكمة الثامنة : علمه تعالى بأن أولئك الأسرى ممن كتب لهم طول العمر وتوفيق أكثرهم للإيمان.
الحكمة التاسعة : أن يكون من قواعد التشريع أن ما نفذه الإمام من الأعمال السياسية والحربية بعد الشورى لا ينقض وإن ظهر أنه خطأ. ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما شرع في تنفيذ رأي الجمهور في الخروج إلى أحد على خلاف رأيه ثم راجعوه فيه وفوضوا إليه الأمر في الرجوع فلم يرجع وقال في ذلك كلمته العظيمة التي تعمل بها دول السياسة الكبرى إلى هذا العصر لحسنها لا لاتباعه صلى الله عليه وسلم فتراجع في ( ص ٩٦-٩٨، ج ٤ ).
هذا ما فتح الله تعالى به وهو مخالف لما ذهب إليه العلامة ابن القيم في الهدي، وأشار إليه الحافظ في الفتح، وتارة معزوا إليه وتارة بغير عزو، وإننا ننقله بنصه، ونقفي عليه بما نراه ناقضا له، مع الاعتراف لأستاذنا ابن القيم بالإمامة والتحقيق ( لا العصمة ) في أكثر ما وجه إلى تحقيقه فكره الوقاد. ذلك أنه عقد في كتابه ( زاد المعاد ) فصلا لهديه صلى الله عليه وسلم في الأسارى ذكر فيه حديث الاستشارة في أسرى بدر ورأي الشيخين رضي الله عنهما والترجيح بينهما ما قال فيه ما نصه ـ والعنوان لنا ـ :
الترجيح بين رأيي الصديق والفاروق في أسرى بدر
وقد تكلم الناس في أي الرأيين كان أصوب فرجحت طائفة قول عمر لهذا الحديث ورجحت طائفة قول أبي بكر لاستقرار الأمر عليه ـ وموافقته الكتاب الذي سبق من الله وإحلال ذلك لهم ـ ولموافقته الرحمة التي غلبت الغضب ـ ولتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك بإبراهيم وعيسى وتشبيهه لعمر بنوح وموسى ـ ولحصول الخير العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى ـ ولخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين ـ ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء ـ ولموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أولا ـ ولموافقة الله له آخرا حيث استقر الأمر على رأيه ولكمال نظر الصديق فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخرا وغلبة جانب الرحمة على جانب العقوبة.
قالوا : وأما بكاء النبي صلى الله عليه وسلم فإنما كان رحمة لنزول العذاب لمن أراد بذلك عرض الدنيا، ولم يرد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وإن أراده بعض الصحابة، فالفتنة كانت تعم ولا تصيب من أراد ذلك خاصة كما هزم العسكر يوم حنين بقول أحدهم : لن نغلب اليوم من قلة، وبإعجاب كثرتهم لمن أعجبته منهم. فهزم الجيش بذلك فتنة ومحنة ثم استقر الأمر على النصر والظفر والله أعلم»اهـ.
أقول : إن في هذا الكلام على حسنه وكثرة فوائده مغالطات غير مقصودة وبعدا عن معنى الآيتين يجب بيانه لتحرير الموضوع وإظهار علو أحكام القرآن وحكمه وكونها فوق اجتهاد جميع المجتهدين، لأنها كلام رب العالمين. وما صرف المحقق ابن القيم فقهها وبيان علوها وفوقيتها إلا توجيه ذكائه ومعارفه إلى تفضيل اجتهاد أبي بكر على اجتهاد عمر لإجماع أهل السنة على كونه أفضل منه وإن كانوا لم يختلفوا في أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل أو الأفضل فكيف وقد اختاره الرسول بعد العلم بموافقة جمهور الصحابة له ماعدا عمر وكذا عبد الله بن رواحة وسعد بن أبي وقاص في بعض الروايات. وهذا الجمهور هو الذي كان يريد من الفداء عرض الدنيا لفقرهم وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه الأكبر من إرادة ذلك لذاته، ولا يقدح في مقامهما إرادتهما لمواساة الجمهور وتعويض شيء مما فاتهم من عير أبي سفيان، بعد ما كان من بلائهم في القتال على جوعهم وعدم استعدادهم له، وليس الذنب من الفتن التي يعم بها العذاب كما أشار إليه ابن القيم وهو مما لا يمكن وقوعه مع وجوده صلى الله عليه وسلم.
والتحقيق في المسألة الذي تدل عليه الآيتان دلالة واضحة تؤيدها الروايات الواردة في موضوعها وكذا آية سورة محمد عليه الصلاة والسلام أن رأي عمر هو الصواب الذي كان ينبغي العمل به في مثل الحال التي كان عليها المسلمون مع أعدائهم في وقت غزوة بدر. وأما رأي الصديق فهو الذي تقتضي الحكمة والرحمة العمل به بعد الإثخان في الأرض بالغلب والسلطان، ولكن كان من قدر الله تعالى أن نفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي أبي بكر لأنه رأى أن جمهور المسلمين يوافقه فيه وإن كان للكثيرين منهم قصد دون قصده الذي بنى عليه رأيه، وهو إرادتهم للمال لحاجتهم الدنيوية إليه كما صرحت به الآية الكريمة، وفي الحديث الذي تقدم أنه صلى الله عليه وسلم هوي رأي أبي بكر ولم يهو رأي عمر، وعندي أن أسباب هواه لرأي أبي بكر :
١ ـ حرصه صلى الله عليه وسلم على إرضاء الجمهور لعذرهم الذي بيناه آنفا في إرادتهم لعرض الدنيا.
٢ ـ تغليبه صلى الله عليه وسلم للرحمة على العقوبة إذا لم يكن في الرحمة إضاعة لحد من حدود الله ولا مخالفة لأمره تعالى.
٣ ـ رجاء إيمانهم كلهم أو بعضهم، وكان من حكمة الله تعالى ورحمته في هذا القدر أن بين لرسوله وللمؤمنين سنته تعالى في التغالب بين الأمم وما ينبغي لأنبيائه وأتباعهم في حالتي الضعف والإثخان في الأرض وسائر ما دلت عليه الآيات من الأحكام الحربية والسياسية والتشريعية.
بيان ما في كلام ابن القيم
من الأغلاط التي تشبه المغالطات الجدلية
١ـ ذكر أن المرجح الأول لرأي أبي بكر : استقرار الأمر عليه، فإذا كان يريد به ترجيحه والعمل به في تلك الحال فهو غلط ظاهر فإن العمل به هو الذي أنكره القرآن فكيف يكون دليلا على أنه الأصوب أو أنه صواب ؟ وأما

﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ( ٧٠ ) وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ( ٧١ ) ﴾.
هاتان الآيتان متمتان للكلام في أسرى بدر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بترغيبهم في الإسلام ببيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة، وبتهديدهم وإنذارهم عاقبة بقائهم على الكفر وخيانته صلى الله عليه وسلم، ويتضمن ذلك البشارة بحسن العاقبة والظفر له ولمن اتبعه من المؤمنين.
قال تعالى :﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ﴾ أي قل للذين في تصرف أيديكم من الأسرى وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر من الأسارى الذين أخذتم منهم الفداء ﴿ إن يعلم الله في قلوبكم خيرا ﴾ إن كان الله تعالى يعلم أن في قلوبكم إيمانا كامنا بالفعل أو بالاستعداد الذي سيظهر في إبانه أو كما يدعي بعضكم بلسانه، والله أعلم بما في قلوبكم ﴿ يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ﴾ أي يعطكم إذ تسلمون ما هو خير لكم مما أخذه المؤمنون منكم من الفداء بما تشاركونهم فيه من الغنائم وغيرها من نعم الدين التي وعدهم الله بها.
روى أبو الشيخ عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أن ابن عباس وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله فنزل ﴿ إن يعلم الله في قلوبكم خيرا ﴾ أي إيمانا وتصديقا يخلف لكم خيرا مما أصيب منكم ﴿ ويغفر لكم ﴾ أي ما كان من الشرك وما ترتب عليه من السيئات. فكان عباس يقول ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا وأن لي ما في الدنيا من شيء، فلقد أعطاني الله خيرا مما أخذ مني مائة ضعف، وأرجو أن يكون غفر لي الله. وقد أخذ هذا من قوله :﴿ والله غفور رحيم ﴾ أي غفور لمن تاب من كفره ومن ذنبه بالأولى رحيم بالمؤمنين. والمراد بهذه الرحمة الخاصة التي تشمل سعادة الآخرة، وأما الرحمة العامة فقد وسعت كل شيء. وهذا ترغيب لهم في الإسلام ودعوة إليه، وعدم عدهم مسلمين بما قاله بعضهم، ولذلك قال :﴿ وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ويؤخذ من الآيتين ما يجب على المؤمنين من ترغيب الأسرى في الإيمان، وإنذارهم عاقبة خيانتهم إذا ثبتوا على الكفر والطغيان، وعادوا إلى البغي والعدوان، وفيه بشارة للمؤمنين باستمرار النصر وحسن العاقبة في كل قتال يقع بينهم وبين المشركين، ما داموا قوامين بأسباب النصر المادية والمعنوية، العلمية والعملية التي تقدم بيانها في هذه السورة. وقد ورد من التفسير المأثور في معنى الآيتين ما يحسن نشره لما فيه من إيضاح المعنى، وما كان من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة فداء الأسرى.
روى البخاري في مواضع من صحيحه عن أنس أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك فداء عمه العباس رضي الله عنه، وكان في أسرى المشركين يوم بدر، فقالوا : ائذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم ( والله لا تذرون منه درهما )١ وقد عنوا بقولهم ابن أختنا العباس جدته أم عبد المطلب فهي أنصارية من بني النجار، لا أم العباس نفسه فإنها ليست من الأنصار. وإنما وصفوه بكونه ابن أختهم ولم يصفوه بكونه عمه صلى الله عليه وسلم لئلا يكون في هذا الوصف رائحة منَّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأذن صلى الله عليه وسلم لهم في محاباته لأنه ابن عمه بل ساوى بينه وبين سائر الأسرى. بل ورد أنه أخذ منه أكثر مما أخذ من غيره، وأنه أمره بفداء ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث لغناه وفقرهما، وقيل الأول فقط، وقيل وحليفه عتبة بن ربيعة. وقد روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره بذلك قال : إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني. فقال صلى الله عليه وسلم ( الله أعلم بما تقول إن كان ما تقول حقا فإن الله يجزيك ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا ).
قال الحافظ ابن حجر بعد إيراد ما ذكر : وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم كان أربعين أوقية ذهبا، وعند أبي نعيم في الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس كان فداء كل واحد أربعين أوقية فجعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين فقال له العباس : أللقرابة صنعت هذا ؟ قال فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم ﴾ الخ فقال العباس وددت لو كنت أخذ مني أضعافها لقوله تعالى :﴿ ويؤتكم خيرا مما أخذ منكم ﴾ اهـ أي قال ذلك بعد إسلامه وما أعطاه صلى الله عليه وسلم من بعض الغنائم كما نص عليه في بعض الروايات.
وذكر الحافظ في الإصابة أن العباس حضر بيعة العقبة من الأنصار قبل أن يسلم وشهد بدرا مع المشركين مكرها، فأسر فافتدى نفسه وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب ورجع إلى مكة، فيقال إنه أسلم وكتم قومه ذلك، وصار يكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخبار ثم هاجر قبل الفتح بقليل وشهد يوم حنين اهـ.
في تتمة خبر عائشة أن ابن العباس اعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمره بالفداء له ولابن أخيه ولحليفه عتبة بن ربيعة بأنه لا يجد، قال له صلى الله عليه وسلم ( فأين الذي دفنت أنت وأم الفضل فقلت لها إن أصبت فإن هذا المال لبني ) فقال : والله يا رسول الله إن هذا لشيء ما علمه غيري وغيرها الخ.
وروى الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله عنه قالت لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة لها في فداء زوجها فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال :( إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ) هكذا في الدر المنثور وعزاه الحافظ في الإصابة إلى الواقدي بسند له عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة بأبسط مما هنا قليلا وفيه أنه كلم الناس فأطلقوه ورد عليها القلادة وأخذ على أبي العاص ( زوجها ) أن يخلي سبيلها ففعل اهـ وقد أسلم العاص بعد ذلك ورواية الواقدي ضعيفة وتصحيح الحاكم ينظر فيه.

﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ( ٧٠ ) وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ( ٧١ ) ﴾.
هاتان الآيتان متمتان للكلام في أسرى بدر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بترغيبهم في الإسلام ببيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة، وبتهديدهم وإنذارهم عاقبة بقائهم على الكفر وخيانته صلى الله عليه وسلم، ويتضمن ذلك البشارة بحسن العاقبة والظفر له ولمن اتبعه من المؤمنين.
﴿ وإن يريدوا خيانتك ﴾ بما يظهر بعضهم من الميل إلى الإسلام، أو دعوى إبطال الإيمان، أو الرغبة عن قتال المسلمين من بعد وهذا مما اعتيد من البشر في مثل تلك الحال، فلا تخف ما عسى أن يكون من خيانتهم وعودتهم إلى القتال، ﴿ فقد خانوا الله من قبل ﴾ باتخاذ الأنداد والشركاء، وبعد ذلك من الكفر بنعمه ثم برسوله، وقال بعض المفسرين إن خيانتهم لله تعالى هي ما كان من نقضهم لميثاقه الذي أخذه على البشر بما ركب فيهم من العقل وما أقامه على وحدانيته من الدلائل العقلية والكونية على الوجه الذي تقدم بيانه في آية أخذه تعالى الميثاق على بني آدم من سورة الأعراف فتراجع ( في ج ٩ تفسير ).
﴿ فأمكن منهم ﴾ الإمكان من الشيء والتمكين منه واحد، أي فمكنك أنت وأصحابك منهم، بنصره إياك عليهم ببدر على التفاوت العظيم بين قوتك وقوتهم، وعدد أصحابك وعددهم، وكذلك يمكنك ممن يخونك من بعد، كما مكنك ممن خانه من قبل ﴿ والله عليم حكيم ﴾ أي عليم بما سيكون من أمرهم، حكيم في نصر المؤمنين وإظهارهم عليهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ويؤخذ من الآيتين ما يجب على المؤمنين من ترغيب الأسرى في الإيمان، وإنذارهم عاقبة خيانتهم إذا ثبتوا على الكفر والطغيان، وعادوا إلى البغي والعدوان، وفيه بشارة للمؤمنين باستمرار النصر وحسن العاقبة في كل قتال يقع بينهم وبين المشركين، ما داموا قوامين بأسباب النصر المادية والمعنوية، العلمية والعملية التي تقدم بيانها في هذه السورة. وقد ورد من التفسير المأثور في معنى الآيتين ما يحسن نشره لما فيه من إيضاح المعنى، وما كان من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة فداء الأسرى.
روى البخاري في مواضع من صحيحه عن أنس أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك فداء عمه العباس رضي الله عنه، وكان في أسرى المشركين يوم بدر، فقالوا : ائذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم ( والله لا تذرون منه درهما )١ وقد عنوا بقولهم ابن أختنا العباس جدته أم عبد المطلب فهي أنصارية من بني النجار، لا أم العباس نفسه فإنها ليست من الأنصار. وإنما وصفوه بكونه ابن أختهم ولم يصفوه بكونه عمه صلى الله عليه وسلم لئلا يكون في هذا الوصف رائحة منَّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأذن صلى الله عليه وسلم لهم في محاباته لأنه ابن عمه بل ساوى بينه وبين سائر الأسرى. بل ورد أنه أخذ منه أكثر مما أخذ من غيره، وأنه أمره بفداء ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث لغناه وفقرهما، وقيل الأول فقط، وقيل وحليفه عتبة بن ربيعة. وقد روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره بذلك قال : إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني. فقال صلى الله عليه وسلم ( الله أعلم بما تقول إن كان ما تقول حقا فإن الله يجزيك ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا ).
قال الحافظ ابن حجر بعد إيراد ما ذكر : وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم كان أربعين أوقية ذهبا، وعند أبي نعيم في الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس كان فداء كل واحد أربعين أوقية فجعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين فقال له العباس : أللقرابة صنعت هذا ؟ قال فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم ﴾ الخ فقال العباس وددت لو كنت أخذ مني أضعافها لقوله تعالى :﴿ ويؤتكم خيرا مما أخذ منكم ﴾ اهـ أي قال ذلك بعد إسلامه وما أعطاه صلى الله عليه وسلم من بعض الغنائم كما نص عليه في بعض الروايات.
وذكر الحافظ في الإصابة أن العباس حضر بيعة العقبة من الأنصار قبل أن يسلم وشهد بدرا مع المشركين مكرها، فأسر فافتدى نفسه وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب ورجع إلى مكة، فيقال إنه أسلم وكتم قومه ذلك، وصار يكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخبار ثم هاجر قبل الفتح بقليل وشهد يوم حنين اهـ.
في تتمة خبر عائشة أن ابن العباس اعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمره بالفداء له ولابن أخيه ولحليفه عتبة بن ربيعة بأنه لا يجد، قال له صلى الله عليه وسلم ( فأين الذي دفنت أنت وأم الفضل فقلت لها إن أصبت فإن هذا المال لبني ) فقال : والله يا رسول الله إن هذا لشيء ما علمه غيري وغيرها الخ.
وروى الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله عنه قالت لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة لها في فداء زوجها فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال :( إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ) هكذا في الدر المنثور وعزاه الحافظ في الإصابة إلى الواقدي بسند له عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة بأبسط مما هنا قليلا وفيه أنه كلم الناس فأطلقوه ورد عليها القلادة وأخذ على أبي العاص ( زوجها ) أن يخلي سبيلها ففعل اهـ وقد أسلم العاص بعد ذلك ورواية الواقدي ضعيفة وتصحيح الحاكم ينظر فيه.

ثم ختم الله تعالى هذه السورة الجامعة لأهم قواعد السياسة في الحرب والسلم والأسرى والغنائم بما يناسبها من القواعد في ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزمهما من الأعمال، واختلاف ذلك باختلاف الأحوال، وكولاية الكافرين بعضهم لبعض في مقابلة أهل الإيمان، من المحافظة على الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار ما دام معقودا غير منبوذ، وغزله عند الكفار مبرما غير منكوث، فقال :
﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ( ٧٢ ) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ( ٧٣ ) والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم ( ٧٤ ) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضكم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ( ٧٥ ) ﴾
كان المؤمنون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أصناف : الأول : المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة قبل غزوة بدر، وربما تمتد أو يمتد حكمها إلى الحديبية سنة ست. الثاني : الأنصار. الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا. والرابع : المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية، وقد بين في هذه الآيات حكم كل منها ومكانتها.
فقال :﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل ﴾ هذا الصنف الأول، وهو الأفضل الأكمل. وقد وصفهم بالإيمان والمراد به الإيمان بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من توحيد الله تعالى وتنزيهه ووصفه بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ومن عالم الغيب كالملائكة والبعث والجزاء، ومن الوحي والكتب المنزلة وغير ذلك من العقائد والعبادات والآداب والحلال والحرام، والأحكام السياسية والمدنية، وناهيك بسبق هؤلاء إلى هذا الإيمان ومعاداة الأهل والولد والأقربين والأولياء لأجله ووصفهم بالمهاجرة من ديارهم وأوطانهم فرارا بدينهم من فتنة المشركين إرضاء لله تعالى ونصرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ووصفهم بالجهاد في سبيل الله تعالى بأموالهم وأنفسهم، فالجهاد بذل الجهد بقدر الوسع ومصارعة المشاق، فأما ما كان منه بالأموال فهو قسمان : إيجابي وهو إنفاقها في التعاون والهجرة ثم في الدفاع عن دين الله ونصر رسوله وحمايته، وسلبي وهو سخاء النفس بترك ما تركوه في وطنهم عند خروجهم منه وأما ما كان منه بالنفس فهو قسمان أيضا : قتال الأعداء وعدم المبالاة بكثرة عَددهم وعُددهم، وما كان قبل إيجاب القتال من احتمال المشاق ومغالبة الشدائد والصبر على الاضطهاد، والهجرة من البلاد، وما في ذلك من سغب وتعب وغير ذلك.
قال :﴿ والذين آووا ونصروا ﴾ وهذا هو الصنف الثاني في الفضل كالذكر، وصفهم بأنهم الذين آووا الرسول ومن هاجر إليهم من أصحابه الذين سبقوهم بالإيمان، ونصروهم، ولولا ذلك لم تحصل فائدة الهجرة. ولم تكن مبدأ القوة والسيادة. فالإيواء يتضمن معنى التأمين من المخافة، إذ المأوى هو الملجأ والمأمن ومنه ﴿ إذ أوى الفتية إلى الكهف ﴾ [ الكهف : ١٠ ] ﴿ فأووا إلى الكهف ﴾ [ الكهف : ١٦ ] ﴿ ألم يجدك يتيما فآوى ﴾ [ الضحى : ٦ ] ﴿ وفصيلته التي تؤويه ﴾ [ المعارج : ١٣ ] ﴿ آوى إليه أخاه ﴾ [ يوسف : ٦٩ ] وقد أطلق المأوى في التنزيل على الجنة وهو على الأصل في استعماله، وعلى نار الجحيم وهو من باب التهكم ونكتته بيان أن من كانت النار مأواه لا يكون له ملجأ ينضوي إليه ولا مأمن يعتصم به. وقد كانت يثرب مأوى وملجأ للمهاجرين شاركهم أهلها في أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، وكانوا أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتلون من قاتله ويعادون من عاداه، ولذلك جعل الله حكمهم وحكم المهاجرين واحدا في قوله :
﴿ أولئك بعضهم أولياء بعض ﴾ أي يتولى بعضهم من أمر الآخرين أفرادا أو جماعات ما يتولونه من أمر أنفسهم عند الحاجة، من تعاون وتناصر في القتال وما يتعلق به من الغنائم وغير ذلك، لأن حقوقهم ومرافقهم ومصالحهم مشتركة، حتى أن المسلمين يرثون من لا وارث له من الأقارب، ويجب عليهم إغاثة المضطر وكفاية المحتاج منهم، كما أنه يشترط فيمن يتولى أمورهم العامة أن يكون منهم، فالأولياء جمع ولي وهو كالمولى مشتق من الولاية، بفتح الواو وبه قرأ الجمهور في الجملة الآتية وكسرها وبه قرأ حمزة فيها، سواء قيل إن معناهما واحد كالدلالة والدلالة أو قيل إن لفظ الولاية بالفتح خاص بالنصرة والمعونة وكذا النسب والدين، وبالكسر خاص بالإمارة وتولى الأمور العامة لأنها من قبيل الصناعات والحرف كالتجارة والنجارة والكتابة والزراعة، واستعمال الأولياء في المعاني الأولى أكثر.
وقال بعض المفسرين إن الولاية هنا خاصة بولاية الإرث لأن المسلمين كانوا يتوارثون في أول الأمر بالإسلام والهجرة دون القرابة بمعنى أن المسلم المقيم في البادية أو في مكة أو غيرها من بلاد الشرك لم يكن يرث المسلم الذي في المدينة وما في حكمها إلا إذا هاجر إليها. واستمر ذلك إلى أن فتحت مكة، وزال وجوب الهجرة، وغلب حكم الإسلام في بدو العرب وحضرها، فنسخ التوارث بالإسلام، وهذا التخصيص باطل.
والمتعين أن يكون لفظ الأولياء عاما يشمل كل معنى يحتمله والمقام الذي نزلت فيه الآية بل السورة كلها يأبى أن يكون المراد به حكما مدنيا من أحكام الأموال فقط، فهي في الحرب وعلاقة المؤمنين بعضهم ببعض وعلاقتهم بالكفار، وكل ما يصح أن يقال في مسألة التوارث أنها داخلة في عموم هذه الولاية، سواء كان بالإسلام أم بالقرابة. ولا بأس بذكر صفوة ما ورد وما قيل في المؤاخاة بين الصحابة رضي الله عنهم ليعلم بالتفصيل بطلان ما قيل في حمل هذه الولاية على الإرث بها.
جاء في الصحيحين من حديث أنس قال : قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في داري١. قاله لمن سأله عن حديث «لا حلف في الإسلام »٢. وقد ذكر البخاري في مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمان بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه٣ وأسنده في عدة أبواب وكذلك المؤاخاة بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنه٤ وأسند مسلم في صحيحه مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين أبي عبيدة بن الجراح وأبي طلحة٥.
وقال الحافظ في الفتح قال ابن عبد البر كانت المؤاخاة مرتين مرة بين المهاجرين خاصة، وذلك بمكة، ومرة بين المهاجرين والأنصار على المواساة، وكان يتوارثون وكانوا تسعين نفسا بعضهم من المهاجرين وبعضهم من الأنصار، وقيل كانوا مائة. فلما نزل ﴿ أولوا الأرحام ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ] بطلت المواريث بينهم بتلك المؤاخاة اه.
وأقول : الظاهر أن المراد بآية ﴿ وأولو الأرحام ﴾ آية سورة الأحزاب كما علم مما تقدم، ثم اشتبه الأمر على بعض المفسرين وغيرهم، فظنوا أنها آية الأنفال. وكل منهما مشكل. ولكن القول بأنها آية الأنفال أظهر إشكالا، بل لا يبقى معها لذلك التوارث فائدة ولا لنسخه حكمة لقرب الزمن بين هذا الإرث وبين نسخه، فإن سورة الأنفال نزلت عقب غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة ولم تكن الحاجة إلى ذلك الإرث قد تغير منها شيء، ولاسيما على القول بأن المؤاخاة كانت بعد الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، وكذلك لم تكن الحال قد تغيرت عند نزول سورة الأحزاب عقب وقعتها وكانت سنة أربع على الأرجح، وقال ابن إسحاق كانت في شوال سنة خمس، وإنما تظهر حكمة النسخ بعد فتح مكة سنة ثمان لقوله صلى الله عليه وسلم ( لا هجرة بعد الفتح )٦ رواه البخاري، وكذا بعد صلح الحديبية سنة ست بإباحة الهجرة بها.
وقال الحافظ : قال السهيلي : آخى بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويتأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أبطلت المواريث وجعل المؤمنين كلهم أخوة، وأنزل ﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ [ الحجرات : ١٠ ] يعني في التوادد وشمول الدعوة. واختلفوا في ابتدائها فقيل بعد الهجرة بخمسة أشهر وقيل بتسعة، وقيل وهو يبني المسجد، وقيل قبل بنائه وقيل بسنة وثلاثة أشهر قبل بدر اه.
أقول : فهل يعقل أن يكون التوارث بالمؤاخاة حصل قبل غزوة بدر بقليل أو كثير ونسخ بعدها في سنتها ؟ وهل تظهر الحكمة التي ذكرها السهيلي في هذه المدة ؟ كلا إن الإسلام قد عز بغزوة بدر ولكن الشمل لم يجتمع، والوحشة لم تذهب، والسعة في الرزق لم تحصل، وكان لا يزال أكثر أولي القربى مشركين.
ثم قال : وذكر محمد بن إسحاق المؤاخاة فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد أن هاجر :( تآخوا أخوين أخوين ) فكانوا : هو وعلي أخوين وحمزة وزيد بن حارثة أخوين وجعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين. وتعقبه ابن هشام بأن جعفر كان يومئذ بالحبشة الخ.
أقول : وقد تكلفوا الجواب عن هذا، ولكن في بقية الرواية تعقبات أخرى مثلها، وابن إسحاق غير ثقة في الحديث عند الجمهور، ومن وثقه لم ينكر أنه كان مدلسا فكيف إذا لم يذكر سندا كما هو المتبادر هنا، إذ لو ذكر سندا لما سكت عنه الحافظ ابن حجر هنا، وفيه أيضا أن بعض هذه المؤاخاة بين المهاجرين وحدهم، فإن عليا وحمزة وزيد بن حارثة رضي الله عنهم من المهجرين، هذا مناف لقول من قالوا : إن المؤاخاة بين المهاجرين كانت بمكة.
ثم قال الحافظ : محاولا حل إشكال بعض التعقبات : وكان ابتداء المؤاخاة أوائل قدومه المدينة واستمر يجددها بحسب من يدخل في الإسلام أو يحضر إلى المدينة، والإخاء بين سلمان وأبي الدرداء صحيح كما في الباب. وعند ابن سعد. وآخى بين أبي الدرداء وعوف بن مالك وسنده ضعيف، والمعتمد ما في الصحيح، وعبد الرحمان بن عوف وسعد بن الربيع مذكور في هذا الباب، وسمى ابن عبد البر جماعة آخرين « وأنكر ابن تيمية في الرد على ابن المطهر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين خصوصا مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي قال لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضا وليتألف قلوب بعضهم على بعض فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لأحد منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري »
« وهذا الرد للنص بالقياس وإغفال عن حكمة المؤاخاة لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى. وبهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة لأن زيدا مولاهم فقد ثبتت أخوتهما وهما من المهاجرين » الخ وما ذكره لا يؤيد تعليله فإنه بين النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه من قبيل تحصيل الحاصل.
واحتج الحافظ على ابن تيمية بالمؤاخاة بين ابن الزبير وابن مسعود المروية بسند حسن عند الحاكم وابن عبد البر وعند الضياء في المختارة التي يصرح ابن تيمية بأن أحاديثها أقوى من أحاديث المستدرك ثم قال :
وقصة المؤاخاة الأولى أخرجها الحاكم من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر وبين طلحة والزبير وبين عبد الرحمان بن عوف وعثمان وذكر جماعة قال : فقال يا رسول الله إنك آخيت بين أصحابك فمن أخي ؟ قال :( أنا أخوك ) قال الحافظ : وإذا انضم هذا إلى ما تقدم تقوى به اه وأقول إنما احتاج هذا الحديث إلى التقوية بما روي من المؤاخاة بين بعض المهاجرين لأن راويه جميع ابن عمير التيمي مجروح أهون ما طعنوه به قول البخاري : في أحاديثه نظر، ووافقه ابن عدي. وأشدها قول ابن نمير كان من أكذب الناس وقول ابن حبان كان رافضيا يضع الحديث. والظاهر أن الحافظ لم يطلع على رواية تؤيده في موضوعه ولو إجمالا ومنه ابن عبد البر في الاستيعاب.
وقد صرح الحافظ العراقي شيخ الحافظ ابن حجر بأن روايات مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه ضعيفة فهو موافق لابن تيمية في ذلك، وقد ذكر ابن تيمية المؤاخاة بين بعض المهاجرين فهو إذا ينكر ما قيل من تلك المؤاخاة العامة، وتحقيق هذا ليس من موضوعنا هنا وإنما ذكرناه استطرادا للحاجة إليه في إيضاح هذا البحث، وسنذكر ما يتعلق بذلك من الإرث في تفسير ﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ].
﴿ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ﴾ وهذا هو الصنف الثالث من أصناف المؤمنين، وهم المقيمون في أرض الشرك تحت سلطان المشركين وحكمهم وهي دار الحرب والشرك بخلاف من يأسره الكفار من أهل دار الإسلام فله حكم أهل هذه الدار، ويجب على المسلمين السعي في فكاكهم بما يستطيعون من حول وقوة باتفاق العلماء بل يجب مثل هذه الحماية
١ ـ لفظ الحديث قي الصحيحين وسنن أبي داود: « حالف النبي بين الأنصار وقريش في داري» أخرجه البخاري في الاعتصام باب ١٦، والكفالة باب٢، والأدب باب ٦٧، ومسلم في فضائل الصحابة حديث٢٠٤، وأبو داود في الفرائض باب ١٨، وأحمد في المسند ٣/١١١، ١٤٥، ٢٨١..
٢ ـ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الكفالة باب٢/، والأدب باب ٦٧، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٠٤، ٢٠٦، وأبو داود في الفرائض باب١٧، والترمذي في السير باب ٢٩، والدارمي في السير باب ٨٠، وأحمد في المسند ١/ ١٩٠، ٣١٧، ٣٢٩، ٢/ ١٨٠، ٢٠٥، ٢٠٧، ٢١٣، ٢١٥، ٣/ ١٦٢، ٢٨١، ٤ / ٨٣، ٥ / ٦١..
٣ ـ أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب ٣، ٥٠، والبيوع باب ١، والكفالة باب ٢، والأدب باب ٦٧، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٠٣. والترمذي في البر باب ٢٢، وأحمد في المسند ٣/ ١٥٢، ١٩٠، ٢٠٤، ٢٧١..
٤ ـ أخرجه البخاري في الصوم باب ٥١، ومناقب الأنصار باب ٥٠، والأدب باب ٦٧، ٦٨، والترمذي في الزهد باب ٦٤.
.

٥ ـ أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٠٣..
٦ ـ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الصيد باب ١٠، والجهاد باب١، ٢٧، ١٩٤، ومناقب الأنصار باب ٥٤، والمغازي باب ٥٣، ومسلم في الإمارة حديث ٨٦، والترمذي في السير باب ٣٣، والنسائي في البيعة باب ١٥، وابن ماجة في الكفارات باب ١٢، والدارمي في السير باب ٦٩، وأحمد في المسند ١/ ٢٢٦، ٣١٦، ٣٥٥، ٢/ ٢١٥، ٣/ ٢٢، ٤٠١، ٤٢٠، ٤٣١، ٣٦٨، ٥/ ٧١، ١٨٧، ٦/ ١٦٦..
ثم ختم الله تعالى هذه السورة الجامعة لأهم قواعد السياسة في الحرب والسلم والأسرى والغنائم بما يناسبها من القواعد في ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزمهما من الأعمال، واختلاف ذلك باختلاف الأحوال، وكولاية الكافرين بعضهم لبعض في مقابلة أهل الإيمان، من المحافظة على الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار ما دام معقودا غير منبوذ، وغزله عند الكفار مبرما غير منكوث، فقال :
﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ( ٧٢ ) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ( ٧٣ ) والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم ( ٧٤ ) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضكم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ( ٧٥ ) ﴾
كان المؤمنون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أصناف : الأول : المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة قبل غزوة بدر، وربما تمتد أو يمتد حكمها إلى الحديبية سنة ست. الثاني : الأنصار. الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا. والرابع : المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية، وقد بين في هذه الآيات حكم كل منها ومكانتها.
ثم قال عز وجل :﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ﴾ أي في النصرة والتعاون على قتال المسلمين فهم في جماعتهم فريق واحد تجاه المسلمين وإن كانوا مللا كثيرة يعادي بعضها بعضا، ولما نزلت هذه الآية بل السورة لم يكن في الحجاز منهم إلا المشركون واليهود، وكان اليهود يتولون المشركين وينصرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد ما تقدم تفصيله من عقده صلى الله عليه وسلم العهود معهم، وما كان من نقضهم لها. ثم ظهرت بوادر عداوة نصارى الروم له في الشام، وسيأتي بيان ذلك في الكلام على غزوة تبوك من سورة التوبة وهي المتمة لما هنا من أحكام القتال مع المشركين وأهل الكتاب، وقيل إن الولاية هنا ولاية الإرث كما قيل بذلك في ولاية المؤمنين فيما قبلها، وجعلوه الأصل في عدم التوارث بين المسلمين والكفار وبإرث ملل الكفر بعضهم لبعض. وقال بعض المفسرين إن هذه الجملة تدل بمفهومها على نفي المؤازرة والمناصرة بين جميع الكفار وبين المسلمين وإيجاب المباعدة والمصارمة وإن كانوا أقارب، وتراهم يقلد بعضهم بعضا في هذا القول. وقولهم إنه مفهوم الآية أو هو المراد منها غير مسلم، وقد تقدم النقل بأن صلة الرحم عامة في الإسلام للمسلم والكافر كتحريم الخيانة. ولا بأس أن نذكر هنا الخلاف في مسألة التوارث بين المختلفين في الدين وما ورد فيها :
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة من حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم )١ قال الحافظ في الفتح وأخرجه النسائي من رواية هُشَيم عن الزهري بلفظ ( لا يتوارث أهل ملتين )٢ وجاءت رواية شاذة عن ابن عيينة عن الزهري مثلها، وله شاهد عند الترمذي من حديث جابر وآخر من حديث عائشة عند أبي يعلى وثالث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في السنن الأربعة وسند أبي داود فيه إلى عمرو صحيح اه.
وأقول إن في كل رواية من الروايات لهذا اللفظ علة، ولكن يؤيد بعضها بعضا : فهشيم مدلس كثير التدليس وأعدل الأقوال فيه قول ابن سعد : إذا قال أخبرنا فهو ثقة وإلا فلا، وههنا قال عن الزهري ولم يصرح بالسماع منه وقد كان كتب عنه صحيفة فقدت منه فكان يحدث ما فيها من حفظه ونقلوا عنه أنه كان يحدث من حفظه فيحتمل أيضا أنه سمع الحديث بلفظ أسامة فذكره بهذا اللفظ كما رواه به الحاكم عن أسامة، وخالف فيه نص الصحيحين وسائر الجماعة، ولذلك ذكره عن ابن كثير وقفى عليه بذكر لفظ الصحيحين، وإشارة إلى ما فيه من علة مخالفة الثقات أو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه النافية للصحة، وليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ آية الأنفال ﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ﴾ كما روى الحاكم. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه خلاف مشهور والأكثرون يحتجون به.
ثم قال الحافظ بعد ذكر هذه الرواية وشواهدها : وتمسك بها من قال لا يرث أهل ملة كافرة أهل ملة أخرى كافرة، وحملها الجمهور على أن المراد بإحدى الملتين الإسلام وبالأخرى الكفر، فيكون مساويا للرواية التي بلفظ الباب، وهو أولى من حملها على ظاهر عمومها حتى يمتنع على اليهودي مثلا أن يرث من النصراني. والأصح عند الشافعية أن الكافر يرث الكافر وهو قول الحنفية والأكثر، ومقابله عن مالك وأحمد، وعنه التفرقة بين الذمي والحربي وكذا عند الشافعية. وعن أبي حنيفة لا يتوارث حربي من ذمي فإن كانا حربيين شرط أن يكونا من دار واحدة وعند الشافعية لا فرق، وعندهم وجه كالحنفية. وعن الثوري وربيعة وطائفة : الكفر ثلاث : يهودية ونصرانية وغيرهم فلا ترث ملة من هذه من ملة من الملتين. وعن طائفة من أهل المدينة والبصرة كل فريق من الكفار ملة فلم يورثوا مجوسيا من وثني ولا يهوديا من نصراني، وهو قول الأوزاعي وبالغ فقال : ولا يرث أهل نحله من دين واحد أهل نحلة أخرى منه كاليعقوبية والملكية من النصارى اه وأقرب هذه الأقوال إلى ما عليه تلك الملل قول الأوزاعي ومن وافقهم ممن قبله.
ثم قال الحافظ : واختلف في المرتد فقال الشافعي وأحمد يصير ماله فيئا للمسلمين وقال مالك يكون فيئا إلا إن قصد بردته أن يحرم ورثته المسلمين فيكون لهم. وكذا قال في الزنديق، وعن أبي يوسف ومحمد لورثته المسلمين وعن أبي حنيفة : ما كسبه قبل الردة لورثته المسلمين وبعد الردة لبيت المال ". الخ.
وذكر : ٍالحافظ قبل ذلك ما روي عن معاذ رضي الله عنه أنه كان يورث المسلم من الكافر ولا عكس، ومنه أن أخوين اختصما إليه مسلم ويهودي مات أبوهما يهوديا فحاز ابنه اليهودي ماله فنازعه المسلم فورّث معاذ المسلم. وروى ابن أبي شيبة مثل هذا عن معاوية قال : نرث أهل الكتاب ولا يرثونا كما يحل لنا النكاح منهم ولا يحل لهم منا، وبه قال مسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وإسحاق اه وعليه الإمامية وبعض الزيدية.
﴿ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾ أي أن لم تفعلوا ما ذكر وهو ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض وتناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم، ومن الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار إلى أن ينقضي عهدهم أو ينبذ على سواء يقع من الفتنة والفساد الكبير في الأرض ما فيه أعظم الخطر عليكم بتخاذلكم وفشلهم المفضي إلى ظفر الكفار بكم، واضطهادكم في دينكم لصدكم عنه، كما كانوا يفتنون ضعفاءهم بمكة قبل الهجرة، وقيل إن لم تفعلوا ما أمرتم به في الميراث، وهو قول ابن عباس وتقدم ما فيه، وقد ذكره عنه البغوي هنا ثم قال : وقال ابن جريح إلا تعاونوا وتناصروا، وقال ابن إسحاق : جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم، وجعل الكافر بعضهم أولياء بعض، ثم قال :﴿ إن لا تفعلوه ﴾ وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن « تكون فتنة في الأرض وفساد كبير » فالفتنة في الأرض قوة الكفر والفساد الكبير ضعف الإسلام اه.
وأقول : الأظهر أن الفتنة في الأرض ما ذكرنا من اضطهادهم المسلمين وصدهم عن دينهم كما يدل عليه ما سبق في هذه السورة وفي سورة البقرة وهي من لوازم قوة الكفر وسلطان أهله الذي كانوا عليه. ولا يزال الذين يدعون حرية الدين منهم في هذا العصر يفتنون المسلمين عن دينهم حتى في بلاد المسلمين أنفسهم بما يلقيه دعاة النصرانية منهم من المطاعن فيه وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبما يغرون به الفقراء من العوام الجاهلين من المال وأسباب المعيشة، كذلك الفساد الكبير من لوازم ضعف الإسلام الذي يوجب على أهله تولي بعضهم لبعض في التعاون والنصرة وعدم تولي غيرهم من دونهم، ويوجب على حكومته القوية العدل المطلق والمساواة فيه بين المؤمن والكافر والبر والفاجر والقوي والضعيف والغني والفقير والقريب والبعيد، كما تقدم شرحه مرارا والذي يحرم الخيانة ونقض العهود حتى مع الكفار كما تقدم في هذه السورة أيضا مفصلا وذكرنا به آنفا. ومن وقف على تاريخ الدول الإسلامية التي سقطت وبادت والتي ضعفت بعد قوة يرى أن السبب الأعظم لفساد أمرها ترك تلك الولاية أو استبدال غيرها بها، ومن الظاهر الجلي أن مسألة التوارث لا تقتضي هذه الفتنة العظيمة ولا هذا الفساد الكبير.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الشرطية : أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس، وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين، يقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل، اه وأقول إن اختلاط المؤمنين الأقوياء في إيمانهم بالكافرين سبب قوي لانتشار الإسلام وظهور حقيته وفضائله كما وقع بعد صلح الحديبية، ولذلك سماه الله تعالى فتحا مبينا. وكذلك كان انتشار المسلمين في كثير من بلاد الكفر بقصد التجارة سببا لإسلام أهلها كلهم أو بعضهم كما وقع في جزائر الهند الشرقية ( جاوه وما جاورها ) وفي أواسط إفريقية. فهذا القول على إطلاقه ضعيف بل مردود، وإنما يصح في حال ضعف المسلمين في الدين والعلم واختلاطهم بمن هم أعلم منهم بالجدل وإيراد الشبهات في صورة الحجج، مع تعصبهم في كفرهم ودعوتهم إليه، كحال هذا الزمان في بلاد كثيرة، ولولا هذا التنبيه لما نقلت هذا القول.
ورجح ابن جرير بعد نقل الخلاف قول من قال : إن هذا في ولاية التناصر والتعاون ووجوب الهجرة في ذلك العهد، وتحريم المقام في دار الحرب، وعلله بأن المعروف المشهور في كلام العرب من معنى الولي أنه النصير والمعين، أو ابن العم والنسيب، فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه ثم قال ما نصه : وإذا كان ذلك كذلك تبين أن أولى التأويلين بقوله :﴿ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾ تأويل من قال :«إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين »الخ.
١ ـ أخرجه البخاري في الحج باب ٤٤، والمغازي باب ٤٨، والفرائض باب ٢٦، ومسلم في الفرائض حديث ١، وأبو داود في الفرائض باب ١٠، والترمذي في الفرائض باب ١٥، وابن ماجه في الفرائض باب ٦، والدارمي في الفرائض باب ٢٦، ومالك في الفرائض حديث ١٠، وأحمد في المسند ٢/ ٢٠٠، ٢٠٨..
٢ - أخرجه أبو داود في الفرائض باب ١٠ن والترمذي في الفرائض باب ١٦ن وابن ماجة في الفرائض باب ٦ن والدارمي باب٦٩، وأحمد في المسند ٢/ ١٨٧، ١٩٥..
ثم ختم الله تعالى هذه السورة الجامعة لأهم قواعد السياسة في الحرب والسلم والأسرى والغنائم بما يناسبها من القواعد في ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزمهما من الأعمال، واختلاف ذلك باختلاف الأحوال، وكولاية الكافرين بعضهم لبعض في مقابلة أهل الإيمان، من المحافظة على الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار ما دام معقودا غير منبوذ، وغزله عند الكفار مبرما غير منكوث، فقال :
﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ( ٧٢ ) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ( ٧٣ ) والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم ( ٧٤ ) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضكم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ( ٧٥ ) ﴾
كان المؤمنون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أصناف : الأول : المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة قبل غزوة بدر، وربما تمتد أو يمتد حكمها إلى الحديبية سنة ست. الثاني : الأنصار. الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا. والرابع : المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية، وقد بين في هذه الآيات حكم كل منها ومكانتها.
﴿ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا ﴾ هذا تفضيل للصنفين الأولين من المؤمنين على غيرهم وشهادة من الله تعالى للمهاجرين الأولين والأنصار بأنهم هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله دون من لم يهاجر من المؤمنين وأقام بدار الشرك مع حاجة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى هجرته إليهم، وأعاد وصفهم الأول لأنهم به كانوا أهلا لهذه الشهادة وما يليها من الجزاء في قوله :﴿ لهم مغفرة ورزق كريم ﴾ الجملة استئناف بياني وتنكير مغفرة لتعظيم شأنها، بدليل ما ذكر من أسبابها قبلها، ومن وصف الرزق بعدها بكونه كريما : أي لهم مغفرة من ربهم تامة ماحية لما فرط منهم كأخذ الفداء من الأسرى يوم بدر، ورزق كريم في دار الجزاء : أي رزق حسن شريف بالغ درجة الكمال في نفسه وفي عاقبته. وهذه الشهادة المقرونة بهذا الجزاء العظيم ترغم أنوف الروافض وتلقم كل نابح بالطعن في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الحجر، ولا سيما زعمهم بأن أكثرهم قد ارتدوا بعده صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير : وهذه الآية تنبئ عن صحة ما قلنا أن معنى قول الله ﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ في هذه الآية، وقوله :﴿ ما لكم من ولايتهم من شيء ﴾ إنما هو النصرة والمعونة دون الميراث لأنه جل ثناؤه عقب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار والخبر عما لهم عنده دون من لم يهاجر بقوله :﴿ والذين آمنوا وهاجروا... ﴾ الآية ولو كان مرادا بالآيات قبل ذلك الدلالة على حكم ميراثهم لم يكن عقيب ذلك إلا الحث على مضي الميراث على ما أمر. وفي صحة ذلك كذلك الدليلُ الواضحُ على أنه لا ناسخ في هذه الآيات لشيء ولا منسوخ اه.
ثم ختم الله تعالى هذه السورة الجامعة لأهم قواعد السياسة في الحرب والسلم والأسرى والغنائم بما يناسبها من القواعد في ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزمهما من الأعمال، واختلاف ذلك باختلاف الأحوال، وكولاية الكافرين بعضهم لبعض في مقابلة أهل الإيمان، من المحافظة على الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار ما دام معقودا غير منبوذ، وغزله عند الكفار مبرما غير منكوث، فقال :
﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ( ٧٢ ) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ( ٧٣ ) والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم ( ٧٤ ) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضكم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ( ٧٥ ) ﴾
كان المؤمنون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أصناف : الأول : المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة قبل غزوة بدر، وربما تمتد أو يمتد حكمها إلى الحديبية سنة ست. الثاني : الأنصار. الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا. والرابع : المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية، وقد بين في هذه الآيات حكم كل منها ومكانتها.
﴿ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ﴾ هذا هو الصنف الرابع من المؤمنين في ذلك العهد وهم من تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى أو عن نزول هذه الآيات فيكون الماضي « آمنوا » وما بعده بمعنى المستقبل، وقيل عن صلح الحديبية، وكان في ذي القعدة سنة ست، والسورة كلها نزلت عقب غزوة بدر، وحكمهم على كل حال أنهم يلتحقون بالمهاجرين الأولين والأنصار فيما تقدم بيانه من أحكام ولايتهم وجزائهم. قال ابن جرير :﴿ فأولئك منكم ﴾ في الولاية يجب لكم عليهم من الحق والنصرة في الدين والموارثة مثل الذي يجب لكم عليهم ولبعضهم على بعض، وروي ذلك عن ابن إسحاق ولا خلاف فيه على ما أعلم.
وأقول إن جعلهم تبعا لهم وعدوهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين ولاسيما بعد اختلاف الحالين من قوة وضعف وغنى وفقر وقال تعالى :﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ﴾ [ الحديد : ١٠ ] ( رضي ) وقال تعالى :﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ﴾ [ التوبة : ١٠٠ ] وقد بين في سياق قسمة الفيء من سورة الحشر هذه الدرجات الثلاث فقال عز من قائل :﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ﴾ [ الحشر : ٨ ١٠ ] وفضيلة السبق معلومة بالنقل والعقل ﴿ والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ﴾ [ الواقعة : ١٠ ١٢ ] والروافض يكفرون بهذه الآيات كلها بما يطعنون به على جمهور الصحابة وعلى السابقين الأولين خاصة، ومن المعلوم بالتواتر أن أول أولئك السابقين بالإيمان والهجرة معا الذين شهد الله تعالى بصدقهم هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وسخط على أعدائه والطاعنين فيه المكذبين بهذه الآيات ضمنا.
﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ وأولوا الأرحام هم أصحاب القرابة وهو جمع رحم « ككتف وقفل » وأصله رحم المرأة الذي هو موضع تكوين الولد من بطنها ويسمى به الأقارب لأنهم في الغالب من رحم واحد. وفي اصطلاح علماء الفرائض هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب، وهم عشرة أصناف الخال والخالة والجد للأم، وولد البنت، وولد الأخت، وبنت الأخ، وبنت العم، والعمة، والعم للأم، وابن الأخ للأم، ومن أدلى بأحد منهم. وقد اختلف علماء السلف والخلف في إرثهم لمن لا وارث له بما ذكر، واستدل المثبتون بعموم هذه الآية فإنه يشملهم وكذا عموم قوله تعالى :﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ [ النساء : ٧ ] وبأحاديث آحادية في إرث الخال فيها مقال وبحديث «ابن أخت القوم منهم »١ وهو في الصحيحين وغيرهما وعليه أكثر العلماء : وممن قال بتوريثهم من الصحابة علي وابن مسعود وأبو الدرداء ومن التابعين وأئمة الأمصار مسروق ومحمد بن الحنفية والنخعي والثوري وبعض أئمة العترة وأبو حنيفة وغيرهم وهو المختار عندي ولاسيما في هذا الزمان. وترى في كتب الفرائض ما يستحقه كل وارث منهم، وري عن ابن عباس أن هذه الآية وما قبلها نزلت في نسخ هذا الإرث وهذا مشهور عنه وهو من أضعف التفسير عنه رضي الله عنه.
وروى البخاري وأبو داود والنسائي عنه في تفسير ﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ [ النساء : ٣٣ ] أنه فسر الموالي بالورثة. ثم قال في تفسير ﴿ والذين عقدت أيمانكم ﴾ كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت ﴿ ولكل جعلنا موالي ] نسخت. ثم قال :{ والذين عقدت أيمانهم ﴾ من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث فيوصى له اه. هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير، وهو أوضح من لفظه في كتاب الفرائض وفي كل منهما غموض وإشكال في إعرابه ومعناه، والمراد لنا منه أنه فسر المعاقدة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وبأن الناسخ لها هذه الآية.
قال الحافظ في هذه الرواية : وحملها غيره على أعم من ذلك، أي مما كانوا يتعاقدون عليه من الإرث، ثم ذكر عنه مثل هذا وأن الناسخ له آية الأحزاب :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله تعالى من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا ﴾ [ الأحزاب : ٦ ] وهي مفصلة وسورتها قد نزلت بعد سورة الأنفال وفيها الكلام على غزوة الأحزاب التي كانت بعد غزوة بدر بسنتين وقيل بثلاث سنين فالتحقيق أن آية الأنفال وسورتها نزلت قبل آيات الإرث وقبل سورتي النساء والأحزاب فهي مطلقة عامة.
والمعنى المتبادر من نص الآية وقرينة السياق أنها في ولاية الرحم والقرابة، بعد بيان ولاية الإيمان والهجرة، فهو عزَّ وجلَّ شأنه يقول : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتناصر والتعاون وكذا التوارث في دار الهجرة في عهد وجوب الهجرة ثم في كل عهد هم أولى بذلك في كتاب الله أي في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين وأوجب عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذي القربى في هذه الآية وغيرها مما نزل قبلها، وأكده فيما نزل بعدها كآية الأحزاب في معناها وكقوله بعد محرمات النكاح ﴿ كتاب الله عليكم ﴾ [ النساء : ٢٤ ] فهو قد أوجبه في دين الفطرة، كما جعله من مقتضى غرائز الفطرة، فالقريب ذو الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره، ومقدم عليهم في جميع أنواع الولايات المتعلقة بأمره، كولاية النكاح وصلاة الجنازة وغير ذلك. وهذه الأولوية لا تقتضي عدم التوارث العارض بين المهاجرين والأنصار والمتعاقدين على أن يرث كل منهما الآخر كما كانت تفعل العرب، وإذا وجد قريب وبعيد يستحقان البر والصلة فالقريب مقدم كما قال تعالى :﴿ وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين ﴾ [ البقرة : ٨٣ ] وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي من حديث جابر بسند صحيح ( ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا )٢ أي فللمستحق من كل جانب.
وهذا موافق لقوله تعالى في وصف أولي الألباب من المؤمنين بالقرآن من سورة الرعد المكية ﴿ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ﴾ [ الرعد : ٢٠ ]. وعهد الله هنا يشمل جميع ما عهده إلى البشر من التكاليف سواء كانت بلفظ العهد كقوله :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ﴾ [ ياسين : ٦٠ ] الآيتين أو بلفظ آخر ومنه ﴿ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان [ الأعراف : ٢٧ ] وأمثاله من النداء في هذه السورة ومن الوصايا في السورة التي قبلها ( الأنعام ) كما يشمل ما عاهدوا الله عليه بلفظ العهد أو بدونه، وما يعاهد بعضهم بعضا عليه بشروطه، ومنها أن لا يكون على شيء محرم. ويدخل في العهد العام ما أوجبه من موالاة المؤمنين وحقوقهم، ثم ذكر بعد صفة هؤلاء ما يقابلها من صفات الكافرين الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وهو ما ذكر هنا. وقفى عليه بالأمر بصلة الرحم وهو أهم ما أمر الله به أن يوصل. ثم قال تعالى في صفة من يضلون عن هداية القرآن من سورة البقرة المدنية { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ﴾ [ البقرة : ٢٧ ] وقد سبق في تفسيرها أن العهد الإلهي قسمان : فطري خلقي، وديني شرعي.
وجملة القول أن أولوية أولي الأرحام بعضهم ببعض هو تفضيل لولايتهم على ما هو أعم منها من ولاية الإيمان وولاية الهجرة في عهدها ولكن في ضمن دائرتهما فالقريب أولى بقريبه ذي رحمه المؤمن المهاجري والأنصاري من المؤمن الأجنبي، وأما قريبه الكافر فإن كان محاربا للمؤمنين فالكفر مع القتال يقطعان له حقوق الرحم كما قال تعالى في سورة الممتحنة :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ﴾ [ الممتحنة : ١ ]. وإن كان معاهدا أو ذميا فله من حق البر وحسن العشرة ما ليس لغيره. قال تعالى في الوالدين المشركين :﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بما ليس لك به علم فلا تطمعها وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ [ لقمان : ١٥ ] ثم قال في الكفار عامة ﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ﴾ [ الممتحنة : ٨ ] فالبر والعدل مشروعان عامان في حدود الشرع، ومحل تفصيل هذا البحث تفسير سورة الممتحنة.
ثم ختم الله تعالى السورة بقوله تعالى :﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ فهو تذييل استئنافي لأحكام هذا السياق الأخير بل لجميع أحكام السورة وحكمها، مبين أنها محكمة لا وجه لنسخها ولا نقضها، فالمعنى أنه تعالى شرع لكم هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود وصلة الأرحام، وما قبلها مما سبق من أحكام القتال والغنائم وقواعد التشريع وسنن التكوين والاجتماع، وأصول الحكم المتعلقة بالأنفس ومكارم الأخلاق والآداب، عن علم واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدينية والدنيوية. كما قال في السورة السابقة :﴿ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ﴾ [ الأعراف : ٥٢ ].
فنسأله تعالى في خاتمة تفسير هذه السورة أن يزيدنا علما وفقها بأحكام كتابه وحكمه، وأن يزيدنا هداية بعلومه وآدابه، وأن يوفقنا لإتمام تفسيره على ما يحب ويرضى، والصلاة والسلام على من أنزله عليه هدى للمتقين، وأرسله به رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلام على المرسلين، والحم لله رب العالمين.
١ ـ أخرجه الترمذي في المناقب باب ٦٥، والبخاري في الفرائض٢٤، والنسائي في الزكاة باب ٩٦، والدارمي في السير باب ٨١..
٢ ـ أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٤١، والنسائي في الزكاة باب ٦٠، والبيوع باب ٨٤..
Icon