تفسير سورة الأنفال

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
آياتها خمس وسبعون نزلت بعد البقرة
وهي مدنية إلا من آية ٣٠ لغاية ٣٦ فمكية ومناسبتها لسورة الأعراف أنها في بيان أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه. وسورة الأعراف مبينة لأحوال الرسل مع أقوامهم.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين١ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون٢ الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون٣ أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ﴾ [ الأنفال : ١ ٤ ].
تفسير المفردات : الأنفال : واحدها نفل بالتحريك من النفل، وبالسكون : وهو الزيادة على الواجب، ومنه صلاة النفل، والمراد به هنا الغنيمة وقيل الغنيمة كل ما حصل مستغنما بتعب أو بغير تعب وقبل الظفر أو بعده، والنفل يحصل للإنسان قبل القسمة من الغنيمة، والبين : يطلق على الاتصال والافتراق وعلى كل ما بين طرفين كما قال :﴿ لقد تقطع بينكم ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ] وذات البين : الصلة التي تربط بين شيئين.
المعنى الجملي : نزلت هذه الآيات في غنائم غزوة بدر، إذ تنازع فيها من حازها من الشبان وسائر المقاتلة، فقد روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا ) فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان : إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت :﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ﴾ وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص أنه قتل سعيد بن العاص وأخذه سيفه واستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه إياه وأن الآية نزلت في ذلك فأعطاه إياه لأن الأمر كله إليه صلى الله عليه وسلم.
الإيضاح :﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ أي يسألونك أيها الرسول عن الأنفال لمن هي ؟ أللشبان أم للشيوخ ؟ أو للمهاجرين هي، أم للأنصار ؟ أم لهم جميعا ؟
﴿ قل الأنفال لله والرسول ﴾ أي قل لهم الأنفال لله يحكم فيها بحكمه، وللرسول يقسمها بحسب حكم الله تعالى، وقد قسمها صلى الله عليه وسلم بالسواء.
وقد بين الله بهذا أن أمرها مفوض إلى الله ورسوله، ثم بين مصارفها وكيفية قسمتها في آية الخمس :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] الخ، وللإمام أن ينفّل من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : إن الله شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف، فقال لي عليه الصلاة والسلام :( ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القبض ) فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا سعد سألتني السيف وليس لي وقد صار لي فخذه ).
﴿ فاتقوا الله ﴾ أي فاجتنبوا ما كنتم فيه من المشاجرة والتنازع والاختلاف الموجب لسخط الله، لما فيه من المضار ولاسيما في حال الحرب.
﴿ وأصلحوا ذات بينكم ﴾ أي وأصلحوا ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، وهذا الإصلاح واجب شرعا وعليه تتوقف قوة الأمة وعزتها وبه تحفظ وحدتها، روي عن عبادة بن الصامت قال : نزلت هذه الآية فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسوله، فقسمه بين المسلمين على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين.
﴿ وأطيعوا الله ورسوله ﴾ في كل ما يأمر به وينهى عنه ويقضي به ويحكم ؛ فالله تعالى مالك أمركم، والرسول مبلغ عنه ومبين لوحيه بالقول والفعل والحكم.
وعلى هذه الطاعة تتوقف النجاة في الآخرة والفوز بثوابها، والرسول صلى الله عليه وسلم يطاع في اجتهاده أمر الدنيا المتعلق بالمصالح العامة ولاسيما في الشؤون الحربية، لأنه القائد العام فمخالفته تخل بالنظام وتؤدي إلى الفوضى التي لا تقوم للأمة معها قائمة، ولأئمة المسلمين من حق الطاعة في تنفيذ الشرع وإدارة شؤون الأمة وقيادة الجند ما كان له صلى الله عليه وسلم بشرط عدم معصية الله تعالى ومشاورة أولي الأمر.
﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي إن كنتم كاملي الإيمان فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة، إذ كماله يقتضي ذلك لأن الله أوجبه، فالمؤمن بالله حقا يكون له من نفسه وازع يسوقه إلى الطاعة واتقاء المعاصي إلا أن يعرض له ما يغلبه عليها أحيانا من ثورة شهوة أو سورة غضب ثم لا يلبث أن يفيء إلى أمر الله ويتوب إليه ما عرض له.
تفسير المفردات : الوجل : الفزع والخوف.
المعنى الجملي : نزلت هذه الآيات في غنائم غزوة بدر، إذ تنازع فيها من حازها من الشبان وسائر المقاتلة، فقد روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا ) فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان : إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت :﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ﴾ وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص أنه قتل سعيد بن العاص وأخذه سيفه واستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه إياه وأن الآية نزلت في ذلك فأعطاه إياه لأن الأمر كله إليه صلى الله عليه وسلم.
الإيضاح : ثم وصف الله تعالى المؤمنين بخمس صفات تدل على وجوب التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله فقال :
﴿ إنما المؤمنون ﴾ أي إنما المؤمنون حقا المخلصون في إيمانهم هم الذين اجتمعت فيهم خصال خمس :
( ١ ) ﴿ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾ أي الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم فزعوا لعظمته وسلطانه أو لوعده ووعيده ومحاسبته لخلقه، والآية بمعنى قوله :﴿ وبشر المخبتين٣٤ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ﴾ [ الحج : ٣٤ ٣٥ ].
( ٢ ) ﴿ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ﴾ أي وإذا تليت عليهم آياته المنزلة على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم زادتهم يقينا في الإيمان، وقوة في الاطمئنان، ونشاطا في الأعمال، إذ أن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج يوجب زيادة اليقين، فإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كان مؤمنا بإحياء الله الموتى حين دعا ربه أن يريه كيف يحييها كما قال تعالى :﴿ أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ] فمقام الطمأنينة في الإيمان يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالا، ويروى أن عليا المرتضى قال : لو كشف عني الحجاب ما ازددت يقينا، والعلم التفصيلي في الإيمان أقوى من العلم الإجمالي، فمن آمن بأن الله علما محيطا بالمعلومات، وحكمة قام بها نظام الأرض والسماوات، ورحمة وسعت جميع المخلوقات ويعلم ذلك علما إجماليا ولو سألته أن يبين لك شواهده في الخلق لعجز لا يوزن إيمانه بإيمان صاحب العلم التفضيلي بسنن الله في الكائنات في كل نوع من أنواع المخلوقات، ولاسيما في العصور الحديثة التي اتسعت فيها معارف البشر بهذه السنن، فعرفوا منها ما لم يكن يخطر عشر معشاره لأحد من العلماء في القرون الخوالي.
وفي معنى الآية قوله تعالى في وصف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح في غزوة أحد :﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾ [ آل عمران : ١٧٣ ] وقوله :﴿ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ﴾ [ الفتح : ٤ ].
( ٣ ) ﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ أي إنهم يتوكلون على ربهم وحده ولا يفوضون أمرهم إلى سواه، فمن كان موقنا بأن الله هو المدبر لأموره وأمور العالم كله لا يمكن أن يكل شيئا منها إلى غيره.
وإذا كان الشرع والعقل حاكمين بأن للإنسان كسبا اختياريا كلفه الله العمل به وأنه يجازي على عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وجب على الإنسان يسعى في تدبير أمور نفسه بحسب ما وضعه الله في نظام الأسباب وارتباطها بالمسببات، وأن هذا الارتباط لم يكن إلا بتسخير الله تعالى وأن ما يناله باستعمالها فهو فضل من الله الذي سخرها وجعلها أسبابا وعلّمه ذلك، وأن ما لا يعرف له سبب يطلب به، فالمؤمن يتوكل على الله وحده وإليه يتوجه فيما يطلبه منه.
أما ترك الأسباب وتنكب سنن الله في الخلق فهو جهل بالله وجهل بدينه وجهل بسننه التي لا تتبدل ولا تتحول.
( ٤ ) ﴿ الذين يقيمون الصلاة ﴾.
( ٥ ) ﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾.
المعنى الجملي : نزلت هذه الآيات في غنائم غزوة بدر، إذ تنازع فيها من حازها من الشبان وسائر المقاتلة، فقد روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا ) فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان : إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت :﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ﴾ وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص أنه قتل سعيد بن العاص وأخذه سيفه واستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه إياه وأن الآية نزلت في ذلك فأعطاه إياه لأن الأمر كله إليه صلى الله عليه وسلم.
الإيضاح :( ٤ ) ﴿ الذين يقيمون الصلاة ﴾ أي يؤدونها مقومة كاملة في صورتها وأركانها الظاهرة من قيام وركوع وسجود وقراءة وذكر وفي معناها وروحها الباطن من خشوع وخضوع في مناجاة الرحمان، واتعاظ وتدبر في تلاوة القرآن، وبهذا كله تحصل ثمرة الصلاة من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
( ٥ ) ﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ أي وينفقون بعض ما رزقناهم في وجوه البر في الزكاة المفروضة وبالنفقات الواجبة والمندوبة للأقربين والمعوزين، وفي مصالح الأمة ومرافقها العامة التي بها يعلو شأنها بين الأمم ويكون عليها تقدمها وعمرانها.
تفسير المفردات : الدرجات : منازل الرفعة ومراقي الكرامة.
المعنى الجملي : نزلت هذه الآيات في غنائم غزوة بدر، إذ تنازع فيها من حازها من الشبان وسائر المقاتلة، فقد روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا ) فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان : إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت :﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ﴾ وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص أنه قتل سعيد بن العاص وأخذه سيفه واستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه إياه وأن الآية نزلت في ذلك فأعطاه إياه لأن الأمر كله إليه صلى الله عليه وسلم.
الإيضاح :﴿ أولئك هم المؤمنون حقا ﴾ أي أولئك الذين اتصفوا بتلك الصفات هم دون من سواهم هم المؤمنون حق الإيمان، وهو نتيجة لتصديق إذعاني له أثر في أعمال القلوب والجوارح وبذل المال في سبيل الله.
روى الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له :( كيف أصبحت يا حارثة ؟ ) قال أصبحت مؤمنا حقا : قال : انظر ماذا تقول فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك ؟ فقال عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال :( يا حارثة عرفت فالزم ) ثلاثا. وروي عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت ؟ قال الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله ﴾ الخ فوالله لا أدري أنا منهم أم لا.
وبعد أن ذكر سبحانه أوصافهم ذكر جزاءهم عند ربهم فقال :
﴿ لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ﴾ أي لهم درجات من الكرامة والزلفى لا يقدر قدرها عند ربهم الذي خلقهم وسواهم وهو القادر على جزائهم على جميل أعمالهم في دار الجزاء والثواب، والله تعالى فضل بعض الناس ورفعهم على بعض درجة أو درجات في الدنيا وفي الآخرة وعند الله تعالى كما قال تعالى :﴿ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ﴾ [ التوبة : ٢٠ ] وقال تعالى في الرسل :﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ] الآية. وقال في درجات الدنيا وحدها :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ [ الأنعام : ١٦٥ ].
وله مغفرة من الله لذنوبهم التي سبقت وصولهم إلى درجة الكمال، ولهم رزق كريم وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة، والكريم تصف به العرب كل شيء حسن لا قبح في ولا شكوى.
﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون٥ يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون٦ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين٧ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ﴾ [ الأنفال : ٥ ٨ ].
المعنى الجملي : بدئت القصة بغزوة بدر الكبرى التي كانت أول فوز للمؤمنين، وخذلان للمشركين، مع بيان أحكام الغنائم التي غنمها المسلمون منهم ـ ثم ذكر هنا أول القصة وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وكراهة فريق من المؤمنين لذلك، وقد كان من مقتضى الإيمان الإذعان لطاعته والرضا بما يفعله بأمر ربه وما يحكم أو يأمر به.
الإيضاح :﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ﴾ أي إن الأنفال لله يحكم فيها بالحق، ولرسوله يقسمها بين من جعل الله لهم الحق فيها بالسوية وإن كره ذلك بعض المتنازعين فيها ممن كانوا يرون أنهم أحق بها، كإخراج ربك إياك من بيتك بالحق للقاء إحدى الطائفتين من المشركين، وقد كان كثير من المؤمنين كارهين لذلك، لعدم استعدادهم للقتال، ولنحو هذا من الأسباب التي تعلم مما يلي.
وبيان ذلك : أن رسول الله لما سمع بأبي سفيان مقبلا بعيره من الشام ندب المسلمين إليهم، وقال ( هذه عير قريش فيها أموالهم، فأخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها )، فخف بعضهم وثقل بعضهم ظنا منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حربا وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز من يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ذفران حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر من مسير قريش إليهم ليمنعوا عيرهم فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بذلك واستشارهم فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى :﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ﴾ [ المائدة : ٢٤ ] ولكن اذهب أنت وربك إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد " مدينة باليمن " لجادلنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أشيروا عليّ أيها الناس ) وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال :" أجل "، فقال قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق، لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول سعد ونشطه ذلك ثم قال :( سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين : العير القادمة من الشام وعلى رأسها أبو سفيان، أو النفير الآتي من مكة لنجدتهم وعلى رأسهم أبو جهل والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ).
المعنى الجملي : بدئت القصة بغزوة بدر الكبرى التي كانت أول فوز للمؤمنين، وخذلان للمشركين، مع بيان أحكام الغنائم التي غنمها المسلمون منهم ـ ثم ذكر هنا أول القصة وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وكراهة فريق من المؤمنين لذلك، وقد كان من مقتضى الإيمان الإذعان لطاعته والرضا بما يفعله بأمر ربه وما يحكم أو يأمر به.
الإيضاح :﴿ يجادلونك في الحق بعدما تبين ﴾ أي يجادلك المؤمنون في الحق وهو تلقي النفير، لإيثارهم عليه تلقي العير، كراهية للقاء المشركين، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم بعد أن تبين لهم الحق بإخبارك أنهم سينصرون أينما توجهوا ويقولون ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا نستعد ونتأهب، وما كان هذا إلا لكراهتهم للقتال.
إذ أنهم كانوا في حال ضعف، فكان من حكمة الله أن وعدهم أولا إحدى طائفتي قريش تكون لهم على طريق الإبهام لا على طريق التعيين، فتعلقت آمالهم بطائفة العير القادمة من الشام، لأنها كسب عظيم لا مشقة في إحرازه لضعف الحامية، فلما ظهر لهم أنها فاتتهم ونجت إذ ذهبت من طريق سيف البحر " طريق الشاطئ " وأن طائفة النفير خرجت من مكة بكل ما لدى قريش من قوة، وأنها قد قربت منهم ووجب عليهم قتالها، إذ تبين أنها هي الطائفة التي وعدهم الله تعالى بالنصر عليها صعب على بعضهم لقاؤها على قلتهم وكثرتها، وضعفهم وقوتها، وعدم استعدادهم للقتال كاستعدادها، وطفقوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يخرجوا إلا للعير، لأنه لم يذكر لهم قتالا فيستعدوا له.
ولكن الحق تبين بحيث لم يبق للجدل فيه وجه فلا ينبغي أن يقال إن طائفة العير هي مراد الله لأنها نجت، ولا بأن يقال إننا لم نعد للقتال عدته، لأنه مهما تكن حالها فلا بد من الظفر بها لوعد الله له، فإذا لا وجه للجدل إلا الجبن والخوف من القتال.
﴿ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ﴾ أي كأنهم لشدة ما هم فيه من جزع ورهب يساقون إلى موت محقق لا مهرب منه، لوجود أماراته وأسبابه حتى كأنهم ينظرون إليه بأعينهم، إذ ما بين حالهم وحال عدوهم من التفاوت في القوة والعدد والخيل والزاد قاض بذلك، ولكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين بالظفر والنظر عليهم " ووعده لا يتخلف " أما هذه الأسباب العادية فكثيرا ما تتخلف، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله الذي بيده كل شيء وهو القادر على كل شيء، وهكذا أنجز الله وعده لرسوله والمؤمنين وكان لهم الظفر والفوز على عدوهم وكان هذا نصرا مؤزرا للمسلمين على المشركين، وبه علا ذكرهم في البلاد العربية وهابهم قاصيها ودانيها.
تفسير المفردات : الشوكة : الحدة والقوة، وأصلها واحدة الشوك، شبهوا بها أسنة الرماح، والطائفتان : طائفة العير الآتية من الشام، وطائفة النفير التي جاءت من مكة للنجدة، وغير ذات الشوكة، هي العير، ودابر القوم : آخرهم الذي يأتي في دبرهم ويكون من ورائهم.
المعنى الجملي : بدئت القصة بغزوة بدر الكبرى التي كانت أول فوز للمؤمنين، وخذلان للمشركين، مع بيان أحكام الغنائم التي غنمها المسلمون منهم ـ ثم ذكر هنا أول القصة وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وكراهة فريق من المؤمنين لذلك، وقد كان من مقتضى الإيمان الإذعان لطاعته والرضا بما يفعله بأمر ربه وما يحكم أو يأمر به.
الإيضاح :﴿ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ﴾ أي واذكروا حين وعد الله إياكم أن إحدى الطائفتين لكم تتسلطون عليها وتتصرفون فيها.
﴿ وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ﴾ أي وتتمنون أن الطائفة غير ذات الشوكة : وهي العير، تكون لكم، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، وعبر عنها بذلك تعريضا لكراهتهم للقتال وطمعهم في المال.
﴿ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ﴾ أي ويريد الله بوعده غير ما أردتم، يريد أن يثبت الحق الذي أراده بكلماته، أي بآياته المنزلة على رسوله في محاربة ذات الشوكة، وبما أمر به الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى به من أسر المشركين وقتلهم وطرحهم في قليب : بئر بدر.
﴿ ويقطع دابر الكافرين ﴾ أي ويهلك المعاندين جملة، ويستأصل شأفتهم، ويمحق قوتهم، وقد كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها إلى أن قطع الله دابر المشركين بفتح مكة.
قال صاحب الكشاف : يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور وإلا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم، والله عز وجل يريد معالي الأمور وما يرجع إلى عمارة الدين ونصرة الحق وعلو الكلمة والفوز في الدارين، وشتان بين المرادين ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسر قوتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم وأعزكم وأذلهم اه.
تفسير المفردات : يحق الحق : أي يعز الإسلام لأنه الحق، ويبطل الباطل : أي يزيل الباطل وهو الشرك ويمحقه.
المعنى الجملي : بدئت القصة بغزوة بدر الكبرى التي كانت أول فوز للمؤمنين، وخذلان للمشركين، مع بيان أحكام الغنائم التي غنمها المسلمون منهم ـ ثم ذكر هنا أول القصة وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وكراهة فريق من المؤمنين لذلك، وقد كان من مقتضى الإيمان الإذعان لطاعته والرضا بما يفعله بأمر ربه وما يحكم أو يأمر به.
الإيضاح :﴿ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ﴾ أي وعد الله بما وعد، وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة، ليحق الحق وهو الإسلام ويثبته، ويبطل الباطل وهو الشرك ويزيله، ولو كره المجرمون أولو الاعتداء والطغيان، ولا يكون ذلك بالاستيلاء على العير بل بقتل أئمة الكفر من صناديد قريش الذين خرجوا إليكم من مكة ليستأصلوكم.
﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين٩ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم١٠ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام١١ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان١٢ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب١٣ ذالكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ﴾ [ الأنفال : ٩ ١٤ ].
تفسير المفردات : الاستغاثة : طلب الغوث، وهو التخليص من الشدة والنقمة، وممدكم : ناصركم ومغيثكم، ومردفين : من أردفه إذا أركبه وراءه.
المعنى الجملي : روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون. وروى البخاري عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد ) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك. فخرج وهو يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ].
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسبابا حسية ومعنوية، وأن لله سننا مطردة، وهو مع ذلك يعلم أن لله توفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم بالقوة المعنوية التي تكون أجدر بالنصر من القوة المادية، وكان كل من علم بدعائه يتأسى به في هذا الدعاء ويستغيث ربه كما استغاث.
الإيضاح :﴿ إذ تستغيثون ربكم ﴾ أي اذكروا وقت استغاثتكم ربكم قائلين ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا، والأمر بهذا الذكر لبيان نعمة الله عليهم حين التجائهم إليه، إذ ضاقت عليهم الحيل وطلبوا مخلصا من تلك الشدة فاستجاب دعاءهم كما قال :
﴿ فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ أي فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من الملائكة يردف بعضهم بعضا ويتبعه، وهذا الألف هي وجوههم وأعيانهم وبهذا يطابق ما جاء في سورة آل عمران ﴿ بثلاثة ألاف من الملائكة منزلين ﴾ [ آل عمران : ١٢٤ ]، ﴿ بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ﴾ [ آل عمران : ١٢٥ ].
تفسير المفردات : تطمئن : تسكن بعد ذلك الزلزال والخوف الذي عرض لكم في جملتكم، وعزيز : أي غالب على أمره، حكيم لا يضع شيئا في غير موضعه.
المعنى الجملي : روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون. وروى البخاري عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد ) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك. فخرج وهو يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ].
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسبابا حسية ومعنوية، وأن لله سننا مطردة، وهو مع ذلك يعلم أن لله توفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم بالقوة المعنوية التي تكون أجدر بالنصر من القوة المادية، وكان كل من علم بدعائه يتأسى به في هذا الدعاء ويستغيث ربه كما استغاث.
الإيضاح :﴿ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم ﴾ أي وما جعل ذلك الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون، ولتسكن به قلوبكم من الزلزال الذي عرض لكم فكان من مجادلتكم للرسول في أمر القتال ما كان، وبهذا تلقون أعداءكم ثابتين موقنين بالنصر.
﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ أي ليس النصر إلا من عند الله دون غيره من الملائكة أو سواهم من الأسباب، فهو سبحانه الفاعل للنصر والمسخر له كتسخيره للأسباب الحسية والمعنوية، ولاسيما ما لا كسب للبشر فيه كتسخير الملائكة تخالط المؤمنين فتفيد أرواحهم الثبات والاطمئنان.
﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾ أي إنه تعالى غالب على أمره، حكيم لا يضع شيئا في غير موضعه.
وظاهر الآية يدل على أن لإنزال الملائكة وإمداد المسلمين بهم فائدة معنوية، فهو يؤثر في القلوب فيزيدها قوة وإن لم يكونوا محاربين وهناك روايات تدل على أنهم قاتلوا فعلا.
في يوم أحد وعدهم الله وعدا معلقا على الصبر والتقوى ولكن الشرط الأخير قد انتفى فانتفى ما علق عليه.
تفسير المفردات : يغشيكم : يجعله مغطيا لكم ومحيطا بكم، والنعاس : فتور في الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم فهو يضعف الإدراك ولا يزيله كله فإذا أزاله كان نوما، والرجز والرجس والركس : الشيء المستقذر حسا أو معنى، ويراد به هنا وسوسة الشيطان، والربط على القلوب : تثبيتها وتوطينها على الصبر.
المعنى الجملي : روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون. وروى البخاري عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد ) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك. فخرج وهو يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ].
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسبابا حسية ومعنوية، وأن لله سننا مطردة، وهو مع ذلك يعلم أن لله توفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم بالقوة المعنوية التي تكون أجدر بالنصر من القوة المادية، وكان كل من علم بدعائه يتأسى به في هذا الدعاء ويستغيث ربه كما استغاث.
الإيضاح :﴿ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ﴾ أي إنه تعالى ألقى عليهم النعاس حتى غشيهم غلب عليهم تأمينا لهم من الخوف الذي كان يساورهم من الفرق الشاسع بينهم وبين عدوهم في العدد والعدة ونحو ذلك، إذ من غلب النعاس لا يشعر بالخوف، كما أن الخائف لا ينام ولكن قد ينعس إذ تفتر منه الحواس والأعصاب.
روى البيهقي في الدلائل عن علي كرم الله وجهه قال :( ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح ) والمتبادر من الآية : أن النعاس كان في أثناء القتال، وهو يمنع الخوف، لأنه ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر.
﴿ وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ﴾ روى ابن المنذر من طريق ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه : أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمئ المسلمون، وصلوا مجنبين محدثين، وكان بينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال : أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء وتصلون مجنبين محدثين، فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء فشرب المسلمون وتطهروا وثبتت أقدامهم أي : على الرمل اللين لتلبده بالمطر، وذهبت وسوسته.
وقال ابن القيم : أنزل الله في تلك مطرا واحدا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم وكان على المسلمين طلا طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان ووطّأ به الأرض، وصلّب الرمل، وثبّت الأقدام ومهّد به المنزل، وربط على قلوبهم، فسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل وصنعوا الحياض ثم غوّروا ما عداها من المياه ونزل رسول الله وأصحابه على الحياض وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش على تلّ مشرف على المعركة، ومشى في موضع المعركة وجعل يشير بيده : هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى فما تعدّى أحد منهم موضع إشارته اه.
وقال ابن إسحاق : إن الحباب بن المنذر قال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل ؟ أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة قال :( بل هو الحرب والرأي والمكيدة ) قال : يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه من القلب " الآباء غير المبينة " ثم نبني عليها حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لقد أشرت بالرأي، وفعلوا ذلك ).
وقد فهم من الآية أنه كان لهذا المطر أربع فوائد :
( ١ ) تطهيرهم حسيا بالنظافة التي تنشط الأعضاء وتدخل السرور على النفس، وشرعيا بالغسل من الجنابة والوضوء من الحدث الأصغر.
( ٢ ) إذهاب رجس الشيطان ووسوسته.
( ٣ ) الربط على القلوب : أي توطين النفس على الصبر وتثبيتها كما قال :﴿ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ﴾ [ القصص : ١٠ ] وهذا لمّا للمطر من المنافع التي تكون أثناء القتال.
( ٤ ) تثبيت الأقدام به، ذاك أن هذا المطر لبد الرمل وصيره بحيث لا تغوص فيه أرجلهم فقدروا على المشي كيف أرادوا، ولولاه لما قدروا على ذلك.
تفسير المفردات : الرعب : الخوف الذي يملأ القلب فوق الأعناق : أي الرؤوس، والبنان : أطراف الأصابع من اليدين والرجلين.
المعنى الجملي : روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون. وروى البخاري عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد ) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك. فخرج وهو يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ].
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسبابا حسية ومعنوية، وأن لله سننا مطردة، وهو مع ذلك يعلم أن لله توفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم بالقوة المعنوية التي تكون أجدر بالنصر من القوة المادية، وكان كل من علم بدعائه يتأسى به في هذا الدعاء ويستغيث ربه كما استغاث.
الإيضاح :﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ﴾ أي يثبت الله الأقدام بالمطر وقت الكفاح الذي يوحى فيه ربك إلى الملائكة آمرا لهم أن يثبًّتوا به قلوب المؤمنين ويقووا عزائمهم، فيلهموها تذكر وعد الله لرسوله وأنه لا يخلف الميعاد، فالمراد بالمعية في قوله ﴿ أني معكم ﴾ معية الإعانة والنصر والتأييد في مواطن الجد ومقاساة شدائد القتال، وهذه منة خفية أظهرها الله تعالى ليشكروه عليها.
أخرج البيهقي في الدلائل أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول : أبشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم، كروا عليهم.
وقال الزجاج : كان ذلك بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم، وللملك قوة إلقاء الخير ويقال له إلهام، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال لها وسوسة.
﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ هذا تفسير لقوله ﴿ أني معكم ﴾، كأنه قيل : أني معكم في إعانتكم بإلقاء الرعب في قلوبهم.
﴿ فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ﴾ أي فاضربوا الهام، وافلقوا الرؤوس، واحتزوا الرقاب وقطعوها وقطعوا الأيدي ذات البنان التي هي أداة التصرف في الضرب وغيره.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بين القتلى ببدر بعد انتهاء المعركة ويقول " نفلق هاما " فيتم البيت أبو بكر رضي الله عنه وهو :
نفلق هاما من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وفي ذلك دليل على ألمه صلوات الله عليه من الضرورة التي ألجأته إلى قتل صناديد قومه، فالمشركون هم الذين ظلموه هو ومن آمن به حتى أخرجوهم من وطنهم بغيا وعدوانا ثم تبعوهم إلى دار هجرتهم يقاتلونهم فيها.
ثم بين سبب ذلك التأييد والنصر فقال :﴿ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ﴾.
تفسير المفردات : شاقوا : أي عادوا وخالفوا، وسميت العداوة مشاقة لأن كلا من المتعاديين يكون في شق غير الذي يكون فيه الآخر.
المعنى الجملي : روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون. وروى البخاري عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد ) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك. فخرج وهو يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ].
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسبابا حسية ومعنوية، وأن لله سننا مطردة، وهو مع ذلك يعلم أن لله توفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم بالقوة المعنوية التي تكون أجدر بالنصر من القوة المادية، وكان كل من علم بدعائه يتأسى به في هذا الدعاء ويستغيث ربه كما استغاث.
الإيضاح :﴿ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ﴾ أي ذلك الذي ذكر من تأييد الله للمؤمنين وخذلانه للمشركين بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله : أي عادوهما فكان كل منهما في شق غير الذي فيه الآخر فالله هو الحق والداعي إلى الحق، ورسوله هو المبلغ عنه، والمشركون على الباطل وما يستلزمه من الشرور والآثام والخرافات.
﴿ ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ﴾ أي ومن يخالف أمر الله ورسوله فهو الحقيق بعقابه، فلا أجدر بالعقاب من المشاقين له الذين يؤثرون الشرك وعبادة الطاغوت على توحيده تعالى وعبادته، ويعتدون على أولياءه بمحاولة ردهم عن دينهم بالقوة والقهر وإخراجهم من ديارهم ثم إتباعهم إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه.
المعنى الجملي : روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون. وروى البخاري عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد ) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك. فخرج وهو يقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ].
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسبابا حسية ومعنوية، وأن لله سننا مطردة، وهو مع ذلك يعلم أن لله توفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم بالقوة المعنوية التي تكون أجدر بالنصر من القوة المادية، وكان كل من علم بدعائه يتأسى به في هذا الدعاء ويستغيث ربه كما استغاث.
الإيضاح :﴿ ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ﴾ أي هذا العقاب الذي عجلت لكم أيها الكافرون المشاقون لله ورسوله في الدنيا من انكسار وانهزام مع الخزي والذل أما فئة قليلة العدد والعدد من المسلمين، فذوقوه عاجلا، وعلموا أن لكم في الآخرة عذاب النار إن أصررتم على كفركم، وهو شر العذابين وأبقاهما.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار١٥ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير١٦ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم١٧ ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين١٨ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ﴾ [ الأنفال : ١٥ ١٩ ].
تفسير المفردات : الزحف : من زحف إذا مشى على بطنه كالحية، أو دب على مقعده كالصبي أو على ركبتيه، أو مشى بثقل في الحركة واتصال وتقارب في الخطو كزحف صغار الجراد والعسكر المتوجه إلى العدو، لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف، إذ الكل يرى كجسم واحد متصل فتحس حركته بطيئة وإن كانت في الواقع سريعة، والأدبار : واحدها دبر وهو الخلف، ومقابله القبل ومن ثم يكنى بهما من السوءتين، وتولية الدبر والأدبار : يراد بهما الهزيمة لأن المنهزم يجعل خصمه متوجها إلى دبره ومؤخره.
المعنى الجملي : ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب في مستأنف الزمان، وجاء به في أثناء قصة عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا ﴾ أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إذا لقيتم الذين كفروا حال كونهم زاحفين لقتالكم زحفا، إذ الكفار هم الذين زحفوا من مكة إلى المدينة لقتال المؤمنين فقابلوهم ببدر.
﴿ فلا تولوهم الأدبار ﴾ أي فلا تولوهم ظهوركم وأقفيتكم منهزمين منهم وإن كانوا أكثر منكم عددا وعدة، ولكن أثبتوا لهم، فإن الله معكم عليهم.
تفسير المفردات : المتحرف للقتال وغيره : هو المنحرف عن جانب إلى آخر، من الحرف وهو الطرف، والفئة : الطائفة من الناس، والمآوى : الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان.
المعنى الجملي : ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب في مستأنف الزمان، وجاء به في أثناء قصة عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.
الإيضاح :﴿ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ﴾ أي ومن يولهم حين تلقونهم ظهره إلا متحرفا لمكان رآه أحوج إلى القتال فيه، أو لضرب من ضروبه رآه أنكى بالعدو كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه بإتباعه حتى إذا انفرد عن أنصاره كر عليه فقتله أو متنقلا إلى فئة من المؤمنين في جهة غير التي كان فيها ليشد أزرهم وينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم فصاروا أحوج إليه ممن كان معهم من فعل ذلك فقد رجع متلبسا بغضب عظيم من الله، ومأواه الذي يلجأ إليه في الآخرة جهنم دار العقاب وبئس المصير هي :
ذاك أن المنهزم أراد أن يأوي إلى مكان يأمن فيه الهلاك، فعوقب بجعل عاقبته دار الهلاك والعذاب الدائم وجوزي بضد غرضه.
وفي الآية دلالة على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي، وجاء التصريح بذلك في صحيح الأحاديث فقد روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا :( اجتنبوا السبع الموبقات ) ( المهلكات ) قالوا يا رسول الله وما هن ؟. قال :( الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ).
وقد خصص بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين. قال الشافعي : إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولوا، ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة. وروي عن ابن عباس قال : من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن فر من اثنين فقد فر.
المعنى الجملي : ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب في مستأنف الزمان، وجاء به في أثناء قصة عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.
الإيضاح :﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ﴾ أي يا أيها الذين آمنوا لا تولوا الكفار ظهوركم أبدا فأنتم أولى منهم بالثبات والصبر ثم بنصر الله تعالى، انظروا إلى ما أوتيتم من نصر عليهم على قلة عددكم وعدتكم وكثرتهم واستعدادهم، ولم يكن ذلك إلا بتأييد من الله تعالى لكم وربطه على قلوبكم وتثبيت أقدامكم، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذي أفنى كثيرا منهم بقوتكم وعدتكم ولكن قتلهم بأيديكم، بما كان من تثبيت قلوبكم بمخالطة الملائكة وملابستها لأرواحكم، وبإلقائه الرعب في قلوبهم، وهذا بعينه هو ما جاء في قوله تعالى :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾ [ التوبة : ١٤ ].
والمؤمن أحرى بالصبر الذي هو من أجل عوامل النصر من الكافر، إذ هو أقل حرصا على متاع الدنيا وأعظم رجاء لله والدار الآخرة، يؤيد هذا قوله تعالى :﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ﴾ [ النساء : ١٠٤ ].
ثم انتقل من خطاب المؤمنين الذين قتلوا أولئك الصناديد بسيوفهم إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قائدهم الأعظم فقال :
﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾ أي وما رميت أيها الرسول أحدا من المشركين في الوقت الذي رميت فيه القبضة من التراب بإلقائها في الهواء فأصابت وجوههم فإن ما فعلته لا يكون له من التأثير مثل ما حدث، ولكن الله رمى وجوههم كلهم بذلك التراب الذي ألقيته في الهواء على قلته أو بعد تكثيره بمحض قدرته.
فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب وقال :( شاهت الوجوه ) ثلاثا، فأعقبت رميته هزيمتهم.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال في اسغاثته يوم بدر ( يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ) قال له جبريل : خذ قبضة من التراب فارم بها وجوههم، ففعل فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين.
والفرق بين قتل المسلمين للكفار وبين رمي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالتراب : أن الأول فعل من أفعالهم المقدورة لهم بحسب سنن الله في الأسباب الدنيوية، وأن الثاني لم يكن سببا عاديا لإصابتهم وهزيمتهم، لا مشاهدا كضرب أصحابه لأعناق المشركين، ولا غير مشاهد، إذ هو لا يكون سببا لشكاية أعينهم وشوهة وجوههم لقتله وبعده عن راميه وكونهم غير مستقبلين له كلهم، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى بيان نقص الأول وعدم استقلاله بالسببية وبيان أنه لولا تأييد الله ونصره لما وصل كسبهم المحض إلى هذا القتل : لأنك قد علمت ما كان من خوفهم وكراهتهم للقتال وبمجادلة النبي صلى الله عليه وسلم، فهم لو ظلوا على هذه الحال مع قلتهم وضعفهم لكان مقتضى الأسباب العادية أن يمحقهم المشركون محقا.
فالفرق بين فعله تعالى في القتل وفعله في الرمي أن الأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل كما هو الحال في جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل في حصوله غاياتها إلا بفعل الله وتسخيره لهم، وللأسباب التي لا يصل إليها كسبهم عادة كما بين ذلك سبحانه بقوله :﴿ أفرأيتم ما تحرثون٦٣ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ﴾ [ الواقعة : ٦٣ ٦٤ ] فالإنسان يحرث الأرض ويلقي فيها البدر ولكنه لا يملك إنزال المطر ولا إنبات الحب وتغذيته بمختلف عناصر التربة ولا دفع الجوائح عنه.
وأن الثاني من فعله تعالى وحده بدون كسب عادي للنبي صلى الله عليه وسلم في تأثيره، فالرمي منه كان صوريا لتظهر الآية على يده صلى الله عليه وسلم، فما مثله في ذلك إلا مثل أخيه موسى صلى الله عليه وسلم في إلقائه العصا ﴿ فإذا هي حية تسعى ﴾ [ طه : ٢٠ ]
﴿ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ﴾ أي فعل الله ما ذكر لإقامته حجته وتأييد رسوله، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا بالنصر والغنيمة وحسن السمعة.
﴿ إن الله سميع عليم ﴾ أي إنه تعالى سميع لما كان من استغاثة الرسول والمؤمنين ربهم ودعاءهم إياه وحده ولكل نداء وكلام، عليم بنياتهم الباعثة عليه والعواقب التي تترتب عليه.
تفسير المفردات : الموهن : المضعف، من أوهنه إذا أضعفه، والكيد : التدبير الذي يقصد به غير ظاهره فتسوء عاقبة من يقصد به.
المعنى الجملي : ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب في مستأنف الزمان، وجاء به في أثناء قصة عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.
الإيضاح :﴿ ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ﴾ أي ذلكم البلاء الحسن هو الذي سمعتم إلى أنه تعالى مضعف كيد الكافرين ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ومحاولتهم القضاء على دعوة التوحيد والإصلاح قبل أن يقوى أمرها وتشتد.
وبعد أن ذكر خذلانهم وإضعاف كيدهم انتقل منه إلى توبيخهم على استنصارهم إياه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتى بما لا يعرف فأحنه الغداة فكان ذلك منه استفتاحا. وقال السدي : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين، فأجابهم الله بقوله :﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ﴾.
تفسير المفردات : الاستفتاح : طلب الفتح، والفصل في الأمر، كالنصر في الحرب.
المعنى الجملي : ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب في مستأنف الزمان، وجاء به في أثناء قصة عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.
الإيضاح :﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ﴾ أي إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما فقد جاءكم الفتح ونصر أعلاهما وأهداهما.
وهذا من قبيل التهكم بهم، لأنه قد جاءهم الهلاك والذلة.
﴿ وإن تنتهوا فهو خير لكم ﴾ أي وإن تنتهوا عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وقتاله فالانتهاء خير لكم، لأنكم قد ذقتم من الحرب ما ذقتم من قتل وأسر بسبب ذلك العدوان.
﴿ وإن تعودوا نعد ﴾ أي وإن تعودوا إلى حربه وقتاله نعد إلى مثل ما رأيتم من الفتح له عليكم حتى يجيء الفتح الأعظم الذي به تدول الدولة للمؤمنين عليكم، وبه يذل شرككم وتذهب ريحكم.
﴿ ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت ﴾ أي ولن يدفع عنكم رهطكم شيئا من بأس الله وشديد نقمته ولو كثرت عددا، إذ لا تكون الكثرة وسيلة من وسائل النصر أمام القلة إلا إذا تساوت معها في أمور كثيرة كالصبر والثبات والثقة بالله تعالى، فهو الذي بيده النصر والقوة.
﴿ وأن الله مع المؤمنين ﴾ بمعونته وتوفيقه فلا تضرهم قلتهم ولا كثرة عددكم، فهو يؤتي النصر من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون٢٠ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون٢١ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون٢٢ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ﴾ [ الأنفال : ٢٠ ٢٣ ].
المعنى الجملي : بعد أن هدد الله المشركين بقوله :﴿ وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ﴾ [ الأنفال : ١٨ ] قفى على ذلك بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الرسول وإجابة دعوته إذا دعا للقتال في سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف في طريق تبليغ دعوته.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ﴾ أي أطيعوا الله ورسوله في الإجابة إلى الجهاد وترك المال إذا أمر الله بتركه، ولا تعرضوا عن طاعته، وعن قبول قوله، وعن معونته في الجهاد، وأنتم تسمعون كلامه الداعي إلى وجوب طاعته وموالاته ونصره، ولا شك أن المراد بالسماع هنا سماع الفهم والتصديق بما يسمع، كما هو شأن المؤمنين الذين من دأبهم أن يقولوا ﴿ سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ].
المعنى الجملي : بعد أن هدد الله المشركين بقوله :﴿ وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ﴾ [ الأنفال : ١٨ ] قفى على ذلك بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الرسول وإجابة دعوته إذا دعا للقتال في سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف في طريق تبليغ دعوته.
الإيضاح :﴿ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ﴾ وهؤلاء القائلون فريقان : فريق الكفار المعاندين، وفريق المنافقين الذين قال في بعض منهم :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ﴾ [ محمد : ١٦ ].
المعنى الجملي : بعد أن هدد الله المشركين بقوله :﴿ وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ﴾ [ الأنفال : ١٨ ] قفى على ذلك بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الرسول وإجابة دعوته إذا دعا للقتال في سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف في طريق تبليغ دعوته.
الإيضاح :﴿ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ﴾ الدواب : واحدها دابة : وهي كل ما دب على الأرض كما قال :﴿ والله خلق كل دابة من ماء ﴾ [ النور : ٤٥ ] وقل أن يستعمل في الإنسان بل الغالب أن يستعمل في الحشرات ودواب الركوب، فإذا استعمل فيه كان ذلك في موضع الاحتقار، أي إن شر ما دب على الأرض في حكم الله وقضائه هم الصم الذين لا يصغون بأسماعهم ليعرفوا الحق ويعتبروا بالموعظة الحسنة، فهم بفقدهم لمنفعة السمع كانوا كأنهم فقدوا حاسته، البكم الذين لا يقولون الحق، ومن ثم كانوا كأنهم فقدوا النطق الذين لا يعقلون الفرق بين الحق والباطل والخير والشر، إذ هم لو عقلوا لطلبوه واهتدوا إلى ما فيه المنفعة والفائدة لهم كما قال :﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ﴾ [ ق : ٣٧ ].
والخلاصة : إنهم حين فقدوا منفعة السمع والنطق والعقل كانوا كأنهم فقدوا هذه المشاعر والقوى، بأن خلقوا خداجا ناقصي هذه المشاعر، أو طرأت عليهم آفات أذهبت هذه القوى بل هم شر منهم، لأن هذه المشاعر خلقت لهم فأفسدوا على أنفسهم، إذ لم يستعملوها فيما خلقت لأجله حين التكليف.
المعنى الجملي : بعد أن هدد الله المشركين بقوله :﴿ وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ﴾ [ الأنفال : ١٨ ] قفى على ذلك بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الرسول وإجابة دعوته إذا دعا للقتال في سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف في طريق تبليغ دعوته.
الإيضاح :﴿ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ﴾ أي ولو علم الله فيهم استعدادا للإيمان والهداية بنور النبوة ولم يفسد قبس الفطرة سوء القدوة وفساد التربية، لأسمعهم بتوفيقه الكتاب والحكمة سماع تدبر وتفهم، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم فهم ممن ختم الله على قلوبهم وأحاطت بهم خطاياهم.
﴿ ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ﴾ أي ولو أسمعهم وقد علم أنه لا خير فيهم لتولوا عن القبول والإذعان وهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به كراهة وعنادا للداعي إليه ولأهله فقد فقدوا الاستعداد لقبول الحق والخير فقدا تاما لا فقدا عارضا موقوتا.
والخلاصة : إن للسماع درجات باعتبار ما يطالب الله به من الاهتداء بكتابه :
( ١ ) أن يتعمد من يتلى عليه ألا يسمعه مبارزة له بالعدوان بادئ ذي بدء خوفا من سلطانه على القلوب أن يغلبهم.
( ٢ ) أن يستمع وهو لا ينوي أن يفهم ويتدبر كالمنافقين الذين قال الله فيهم :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ﴾.
( ٣ ) أن يستمع لأجل التماس شبهة للطعن والاعتراض، كما كان يفعل المعاندون من المشركين وأهل الكتاب وقت التنزيل وفي كل حين إذا استمعوا إلى القرآن أو نظروا فيه.
( ٤ ) أن يسمع ليفهم ويتدبر ثم يحكم له أو عليه، وهذا هو المنصف، وكم من السامعين أو القارئين آمن بعد أن نظر وتأمل ؛ فقد نظر طبيب فرنسي في ترجمة القرآن فرأى أن كل النظريات الطبية التي فيه كالطهارة والاعتدال في المآكل والمشارب وعدم الإسراف فيهما ونحو ذلك من المسائل التي فيها محافظة على الصحة توافق أحدث النظريات التي استقر عليها رأي الأطباء في هذا العصر فرغب في هذا كله وأسلم ؛ ورأى ربان بارجة إنكليزية ترجمة القرآن واستقصى كل ما فيها من الكلام عن البحار والرياح فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من كبار الملاحين في البحار. وبعد أن سأل عن ذلك وعرف أنه لم يركب البحر قط، وهو مع ذلك أمي لم يقرأ كتابا ولا تلقى عن أحد درسا قال : الآن علمت أنه كان بوحي من الله لأن فيه حقائق لا يعلمها إلا من اختبر البحار بنفسه، أو تلقاها عن غيره من المختبرين، ثم أسلم وتعلم العربية.
وكثير من المسلمين يستمعون القراء ويتلون القرآن فلا يشعرون بأنهم في حاجة إلى فهمه وتدبر معناه، بل يستمعونه للتلذذ بتجويده وتوقيع التلاوة على قواعد النغم، أو يقصدون بسماعه التبرك فقط، ومنهم من يحضر الحفاظ عنده في ليالي رمضان، ويجلسهم في حجرة البوابين أو غيرهم من الخدم تشبها بالأكابر والوجهاء.
﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون٢٤ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب٢٥ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ﴾ [ الأنفال : ٢٤ ٢٦ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم التولي حين الجهاد، أردفه الأمر بالاستجابة له إذا دعاهم لهدى الدين وأحكامه عامة، لما في ذلك من تكميل الفطرة الإنسانية وسعادتها في الدنيا والآخرة، وكرر النداء بلفظ المؤمنين تنشيطا لهم إلى الإصغاء لما يرد بعده من الأوامر والنواهي، وإيماء إلى أنهم قد حصلوا ما يوجب عليهم الاستجابة وهو الإيمان.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾ أي إن الرسول دعاكم بأمر ربكم لما فيه حياتكم الروحية : من علم بسننه في خلقه ومن حكمة وفضيلة ترفع نفس الإنسان وترقى بها إلى مراتب الكمال حتى تحظى بالقرب من ربها وتنال رضوانه في الدار الآخرة فأجيبوا دعوته بقوة وعزم. كما قال في آية أخرى :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ [ البقرة : ٦٣ ] وطاعته صلى الله عليه وسلم واجبة في حياته، وبعد مماته فيما علم أنه دعا إليه دعوة من أمور الدين الذي بعثه الله به كبيانه لصفة الصلاة وعددها قولا أو فعلا ؛ فقد صلى بأصحابه وقال :( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وقال :( خذوا عني مناسككم ) وبيانه لمقادير الزكاة وغيرها من السنن العملية المتواترة وأقواله كذلك، فكل من ثبت لديه شيء منها ببحثه أو بحث العلماء الذين يثق بهم وجب عليه الاهتداء بهم.
أما الإرشادات النبوية في أمور العادات كاللباس والطعام والشراب والنوم، فلم يعدها أحد من الأئمة دينا يجب الافتداء به فيه.
﴿ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ﴾ نبهنا الله في هذه الآية لأمرين لهما خطرهما في سعادة الإنسان الأخروية، وهما :
( ١ ) أنه قد جرت سنة الله في البشر أن يحول بين المرء وقلبه، وهو مركز الإحساس والوجدان والإدراك الذي له السلطان على الإرادة والعمل، أي إنه تعالى يميت القلب فتفوت الفرصة التي هو واجدها من التمكن من معالجة أدوائه وعلله، ورده سليما كما يريده الله، وهذا أخوف ما يخافه المتقي على نفسه إذا غفل عنها وفرّط في جنب الله، وكذلك هو أرجى شيء يرجوه المسرف إذا لم ييأس من روح الله، فإنا لنشاهد أن كثيرا من الناس يسيرون على الهدى ويتقون الطرق التي تصل بهم إلى مهاوي الهلاك والردى فإذا بقلوبهم قد تقلبت بعواصف تميل بهم عن الصراط المستقيم كشبهة تزعزع الاعتقاد أو شهوة يغلب بها الغي الرشاد فيطيعون أهواءهم ويسيرون وراء وساوس الشيطان.
وفي ذلك إيماء إلى أن الطائع المجد لا يأمن مكر الله فيغتر بطاعته ويعجب بنفسه، والعاصي المنصرف عن الطاعة لا ييأس من روح الله فيسترسل في إتباع هواه، حتى تحيط به خطاياه ومن لم يأمن عقاب الله ولا ييأس من روح الله كان جديرا بأن يراقب قلبه، ويحاسب نفسه على خواطره ويعاقب نفسه على هفواته، لتظل على الصراط المستقيم.
والخلاصة : إن من سننه تعالى في البشر أن من يتبع هواه في أعماله تضعف إرادته في مقاومته فلا تؤثر فيه المواعظ القولية ولا العبر المبصرة ولا المعقولة.
روى البخاري وأصحاب السنن قال : كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم ( لا ومقلب القلوب ).
( ٢ ) أن نتذكر حشرنا إليه ومحاسبته إيانا على أعمالنا القلبية والبدنية، ومجازاته إيانا بالعذاب أو النعيم، فلا نألو جهدا في انتهاز الفرصة لنعمل صالح الأعمال.
وبعد أن أمرنا سبحانه بتلك الأوامر ونهانا عن النواهي التي تخص أعمال الإنسان الاختيارية، أمرنا أن نتقي الفتن الاجتماعية التي لا تخص الظالمين، بل تتعداهم إلى غيرهم، وتصل إلى الصالح والطالح فقال :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم التولي حين الجهاد، أردفه الأمر بالاستجابة له إذا دعاهم لهدى الدين وأحكامه عامة، لما في ذلك من تكميل الفطرة الإنسانية وسعادتها في الدنيا والآخرة، وكرر النداء بلفظ المؤمنين تنشيطا لهم إلى الإصغاء لما يرد بعده من الأوامر والنواهي، وإيماء إلى أنهم قد حصلوا ما يوجب عليهم الاستجابة وهو الإيمان.
الإيضاح :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ الفتنة : البلاء والاختبار، أي اتقوا وقوع الفتن التي لا تختص إصابتها بمن يباشرها وحده، بل تعمه وغيره كالفتن القومية التي تقع بين الأمم في التنازع على المصالح العامة من الملك والسيادة أو التفرق في الدين والشريعة والانقسام إلى الأحزاب الدينية والأحزاب السياسية، ونحو ذلك من ظهور البدع والتكاسل في الجهاد وإقرار المنكر الذي يقع بين أظهرهم والمداهنة في الأمر بالمعروف ونحو ذلك من الذنوب التي جرت سنة الله بأن تعاقب عليها الأمم في الدنيا قبل الآخرة.
أخرج ابن جرير من طريق الحسن قال : لقد خوفنا بهذه الآية، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ظننا أننا خصصنا بها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر في الآية قال : نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : علم والله ذوو الألباب من أصحاب محمد حين نزلت هذه الآية أن سيكون فتن.
وروي عن ابن عباس قال : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب. وقال عدي بن عميرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة ). وروى أحمد والبزار وابن مردويه عن مطرّف قال : قلنا للزبير يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة " عثمان " حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه فقال : إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت.
وعلى الجملة : ففتنة عثمان كانت أول الفتن التي اختلفت فيها الآراء، فاختلفت أعمال أهل الحل والعقد، وخلا الجو للمفسدين من زنادقة اليهود والمجوس وغيرهم، ثم أعقبتها فتنة الجمل بصفين، ثم فتنة ابن الزبير مع بني أمية، ثم قتل الحسين بكربلاء، إلى نحو ذلك من الفتن التي كان لها آثارها في الإسلام، ولو تداركوها كما تدارك أبو بكر رضي الله عنه أهل الردة لما كانت فتنة تبعتها فتن كثيرة أكبرها فتن الخلافة والملك وفتن الآراء والمذاهب الدينية والسياسية.
﴿ واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ أي إنه تعالى شديد عقابه للأمم والأفراد خالفت سنته التي لا تبديل لها ولا تحويل أو خالفت هدى دينه المزكي للأنفس المطهر للقلوب.
وهذا العقاب منه ما هو في الدنيا وهو مطرد في الأمم، وقد أصيبت به الأمة الإسلامية في القرن الأول الذي كان أهله خير القرون بعده، إذ قصروا في درء الفتنة الأولى فعاقبهم الله عقابا شديدا على ذلك، ثم تسلسل العقاب في كل جيل وقع فيه ذلك، ثم امتزجت الفتن المذهبية بالفتن السياسية على الملك والسلطان حتى دالت الخلافة التي تنافسوا فيها وتقاتلوا لأجلها.
وقد يقع هذا العقاب للأفراد لكنهم ربما لا يشعرون به، لأنه يقع تدريجيا فلا يكاد يحس به، وأما العقاب الأخروي فأمره إلى الله العالم بالسر والنجوى والذي جعل العقاب آثارا طبيعية للذنوب التي تجترحها الأفراد والأمم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم التولي حين الجهاد، أردفه الأمر بالاستجابة له إذا دعاهم لهدى الدين وأحكامه عامة، لما في ذلك من تكميل الفطرة الإنسانية وسعادتها في الدنيا والآخرة، وكرر النداء بلفظ المؤمنين تنشيطا لهم إلى الإصغاء لما يرد بعده من الأوامر والنواهي، وإيماء إلى أنهم قد حصلوا ما يوجب عليهم الاستجابة وهو الإيمان.
الإيضاح :﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ﴾ هذا خطاب للمهاجرين يذكرهم فيه سبحانه بما كان من ضعفهم وقلتهم، وقد يكون الخطاب للمؤمنين عامة في عصر التنزيل يذكرهم فيه بما كان من ضعف أمتهم العربية في الجزيرة بين الدول القوية من فارس والروم.
﴿ تخافون أن يتخطفكم الناس ﴾ أي تخافون من مبدإ الإسلام إلى حين الهجرة أن يتخطفكم مشركو العرب من قريش وغيرها، والمراد أن ينتزعوكم بسرعة فيفتكوا بكم كما كان يتخطف بعضهم بعضا في خارج الحرم وتتخطفهم الأمم من أطراف جزيرتهم كما قال تعالى :﴿ أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ].
﴿ فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ﴾ أي فآواكم أيها المهاجرون إلى الأنصار وأيدكم وإياهم بنصره في غزواتكم، وسيؤيدكم على من سواكم من فارس والروس وغيرهما كما وعدكم بذلك في كتابه الكريم، ورزقكم من الطيبات رجاء أن تشكروا هذه النعم وغيرها مما يؤتيكم من فضله كما وعد في كتابه :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾ [ إبراهيم : ٧ ].
وقد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله :﴿ واذكروا إذ أنتم قليل ﴾ الآية. قال : كان هذا الحي أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالة، معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم، لا والله ما في بلادهم ما يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلا من حاضر الأرض يومئذ كان أشر منهم منزلا، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من نعم الله عز وجل.
وفي الآية من العبرة التي يجب على المؤمنين أن يتذكروها أنه أورث من اهتدى بهديه سعادة الدنيا وبسطة السلطان ومكن لأهله في الأرض وأنالهم ما لم يكونوا يرجونه لولا هدى الدين، وأورثهم في الآخرة فوزا ورضوانا من ربهم وروحا وريحانا وجنة نعيم هذا حين كانوا يعملون بهديه، فلما أعرضوا عنه ونأوا بجانبهم عاقبهم الله بما جرت به سننه في الأرض فأضاعوا ملكهم وسلّط عليهم أعداءهم، فليعتبر المسلمون بما حل بهم، وليرجعوا إلى تاريخ أسلافهم، وليستضيئوا بنورهم وليثوبوا إلى رشدهم، لعله يعيد إليهم تراثهم الغابر وعزهم الماضي :﴿ إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ].
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون٢٧ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ﴾ [ الأنفال : ٢٧ ٢٨ ].
تفسير المفردات : الخيانة : لغة تدل على الإخلاف والخيبة بنقص ما كان يرجى ويؤمل من الخائن، فقد قالوا خانه سيفه إذا نبا عن الضريبة، وخانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي، ومنه قوله :﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] أي تنقصونها بعض ما أحل لها من اللذات ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء لأن الرجل إذا خان الرجل فقد أدخل عليه النقصان. والأمانة : كل حق مادي أو معنوي يجب عليك أداؤه إلى أهله قال تعالى :﴿ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ]، ﴿ وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ].
المعنى الجملي : روي أن أبا سفيان خرج من مكة : وكان لا يخرج إلا في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فأعلم الله رسوله بمكانه، فكتب رجل من المنافقين على أبي سفيان : إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله ﴿ لا تخونوا الله والرسول ﴾ الآية.
وروي أنها نزلت في أبي لبابة وكان حليفا لبني قريظة من اليهود، فلما خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد إجلاء إخوانهم من بني النضير، أرادوا بعد طول الحصار أن ينزلوا من حصنهم على حكم سعد بن معاذ وكان من حلفائهم من قبل غدرهم ونقضهم لعهد النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إليهم أبو لبابة ألا تفعلوا وأشار إلى حلقه يريد : أن سعدا سيحكم بذبحهم فنزلت الآية.
قال أبو لبابة : ما زالت قدماي عن مكانهما حتى علمت أني خنت الله ورسوله، وروي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل امرأته : أيصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة ؟ فقالت إنه ليصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة ويحب الله ورسوله ).
وقد روي ( أن أبا لبابة شد نفسه على سارية من المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ، ثم مكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له : قد تيب عليك، فقال : والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء فحله بيده ).
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ﴾ أي لا تخونوا الله فتعطلوا فرائضه أو تتعدوا حدوده وتنتهكوا محارمه التي بينها لكم في كتابه، ولا تخونوا الرسول فترغبوا عن بيانه لكتابه إلى بيانه بأهوائكم أو آراء مشايخكم أو آبائكم أو أوامر أمرائكم، أو ترك سنته إلى سنة آبائكم وزعمائكم زعما منكم أنهم أعلم بمراد الله ورسوله منكم.
﴿ وتخونوا أماناتكم ﴾ أي ولا تخونوا أماناتكم فيما بين بعضكم وبعض من المعاملات المالية وغيرها حتى الشؤون الأدبية والاجتماعية، فإفشاء السر خيانة محرمة ويكفي في العلم بكونه سرا قرينة قولية كقول محدثك : هل يسمعنا أحد ؟ أو فعلية كالالتفات لرؤية من عساه يجيء، وآكد أمانات السر وأحقها بالحفظ ما يكون بين الزوجين.
وكذلك لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وبين أولي الأمر من شؤون سياسية أو حربية فتطلعوا عليها عدوكم وينتفع بها في الكيد لكم.
والخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين، قال أنس بن مالك : قلما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال :( لا إيمان لمن لا عهد له ) رواه الإمام أحمد.
وروى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ).
﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أي وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم الله لها وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة، وقد يكون المعنى وأنتم تعلمون أن ما فعلتموه خيانة لظهوره، فإن خفي عليكم حكمه فاجهل له عذر إذا لم يكن مما علم من الدين ضرورة، أو مما يعلم ببداهة العقل، أو باستفتاء القلب كفعلة أبي لبابة التي كان سببها الحرص على المال والولد، ومن ثم فطن لها قبل أن يبرح مكانه.
تفسير المفردات : الفتنة : الاختبار والامتحان بما يشق على النفس فعله أو تركه أو قبوله أو إنكاره، فهي تكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء، فيمتحن الله المؤمنين والكافرين والصادقين والمنافقين، ويجازيهم بما يترتب على فتنتهم من إتباع الحق والباطل وعمل الخير أو الشر.
المعنى الجملي : روي أن أبا سفيان خرج من مكة : وكان لا يخرج إلا في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فأعلم الله رسوله بمكانه، فكتب رجل من المنافقين على أبي سفيان : إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله ﴿ لا تخونوا الله والرسول ﴾ الآية.
وروي أنها نزلت في أبي لبابة وكان حليفا لبني قريظة من اليهود، فلما خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد إجلاء إخوانهم من بني النضير، أرادوا بعد طول الحصار أن ينزلوا من حصنهم على حكم سعد بن معاذ وكان من حلفائهم من قبل غدرهم ونقضهم لعهد النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إليهم أبو لبابة ألا تفعلوا وأشار إلى حلقه يريد : أن سعدا سيحكم بذبحهم فنزلت الآية.
قال أبو لبابة : ما زالت قدماي عن مكانهما حتى علمت أني خنت الله ورسوله، وروي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل امرأته : أيصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة ؟ فقالت إنه ليصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة ويحب الله ورسوله ).
وقد روي ( أن أبا لبابة شد نفسه على سارية من المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ، ثم مكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له : قد تيب عليك، فقال : والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء فحله بيده ).
الإيضاح :﴿ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾ أي إن فتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذوي الألباب، إذ أموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه وشهواته ودفع كثير من المكاره عنه، من أجل ذلك يتكلف في كسبها المشاق ويركب الصعاب ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام ويرغّبه في القصد والاعتدال، ويتكلف العناء في حفظها وتتنازعه الأهواء في إنفاقها، ويفرض عليه الشارع فيها حقوقا معينة وغير معينة : كالزكاة ونفقات الأولاد والأزواج وغيرهم.
وأما الأولاد فحبهم مما أودع في الفطرة، فهم ثمرات الأفئدة وأفلاذ الأكباد لدى الآباء والأمهات، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهم من مآل وصحة وراحة، وقد روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم :( الولد ثمرة القلب وإنه مجبنة مبخلة محزنة ).
فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الذنوب والآثام في سبيل تربيتهم والإنفاق عليهم وتأثيل الثروة لهم، وكل ذلك قد يؤدي إلى الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الأمة أو الدين وإلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة والحقوق الثابتة ؛ كما يحملهم ذلك على الحزن على من يموت منهم بالسخط على المولى والاعتراض عليه إلى نحو ذلك من المعاصي كنوح الأمهات وتمزيق ثيابهن ولطم وجوههن ؛ وعلى الجملة ففتنة الأولاد أكثر من فتنة الأموال، فالرجل يكسب المال الحرام ويأكل أموال الناس بالباطل لأجل الأولاد.
فيجب على المؤمن أن يتقي الفتنتين، فيتقي الأولى بكسب المال من الحلال وإنفاقه في سبيل البر والإحسان، ويتقي خطر الثانية من ناحية ما يتعلق منها بالمال ونحوه بما يشير إليه الحديث. ومن ناحية ما أوجبه الدين من حسن تربية الأولاد وتعويدهم الدين والفضائل وتجنيبهم المعاصي والرذائل.
﴿ وأن الله عنده أجر عظيم ﴾ فعليكم أن تؤثروا ما عند ربكم من الأجر العظيم بمراعاة أحكام دينه في الأموال والأولاد على ما عساه قد يفوتكم في الدنيا من التمتع بهما.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ﴾ [ الأنفال : ٢٩ ].
تفسير المفردات : التقوى : ترك الذنوب والآثام، وفعل ما يستطاع من الطاعات والواجبات الدينية، وبعبارة أخرى : هي اتقاء ما يضر الإنسان في نفسه وفي جنسه، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة، والفرقان : أصله الفرق بين الشيئين أو الأشياء، ويراد به هنا نور البصيرة الذي به يفرق بين الحق وبالباطل والضار والنافع، وبعبارة ثانية : هو العلم الصحيح والحكم الرجيح، وقد أطلق هذا اللفظ على التوراة والإنجيل والقرآن وغلب على الأخير قال تعالى :﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾ [ الفرقان : ١ ] من قبل أن كلامه تعالى يفرق في العلم والاعتقاد بين الإيمان والكفر، والحق والباطل، والعدل والجور، والخير والشر.
المعنى الجملي : لما حذر الله تعالى من الفتنة بالأموال والأولاد، قفى على ذلك بطلب التقوى التي ثمرتها ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ﴾ أي إن تتقوا الله فتتبعوا أوامر دينه وتيسروا بمقتضى سننه في نظام خلقه يجعل لكم في نفوسكم ملكة من العلم تفرقون بها بين الحق والباطل، وتصلون بين الضار والنافع، وهذا النور في العلم الذي لا يصل إليه طالبه إلا بالتقوى هو الحكمة التي قال الله تعالى فيها ﴿ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴾ [ البقرة : ٢٦٩ ].
واتقاء الله يتحقق بمعرفة في الإنسان وحده أو فيه وهو في المجتمع الإنساني كما ترشد إلى ذلك آيات الكتاب الحكيم في مواضع متفرقة منه، ومن ثم كانت ثمرة التقوى حصول ملكة الفرقان التي بها يفرق صاحبها بين الأشياء التي تعرض له من علم وحكمة وعمل فيفصل فيها بين ما ينبغي فعله وما يجب تركه.
وعلى الجملة : فالمتقي لله يؤتيه الله فرقانا يميز به بين الرشد والغي، ومن ثم كان الخلفاء والحكام من الصحابة والتابعين من أعدل حكام الأمم في الأرض، حتى لقد قال بعض المؤرخين من الإفرنج، ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.
﴿ ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ﴾ أي ويمح بسبب ذلك الفرقان وتأثيره ما كان من دنس الآثام في النفوس، فتزول منها داعية العودة إليها، ويغطيها فيسترها عليكم فلا يؤاخذكم بها، والله الذي يفعل ذلك بكم له الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه.
وفي قوله :﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ إيماء وتنبيه إلى أن ما وعد به المتقين من المثوبة فضل منه وإحسان تفضل به علينا واسطة وبدون التماس عوض.
﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين٣٠ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ٣١ ].
تفسير المفردات : ليثبتوك : أي ليشدوك بالوثائق ويرهقوك بالقيد والحبس حتى لا تقدر على الحركة، والمكر : هو التدبير الخفي لإيصال المكروه إلى الممكور به من حيث لا يحتسب، والغالب أن يكون فيما يسوء ويذم من الكذب والحيل، وإذا نسب إلى الله كان من المشاكلة في الكلام بتسمية خيبة المسعى في مكرهم أو مجازاتهم عليه باسمه.
المعنى الجملي : لما ذكر المؤمنين عامة بنعمه عليم بقوله :﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ﴾ ذكر هنا نعمه على رسوله خاصة بدفع كيد المشركين ومكر الماكرين بنصره عليهم وخيبة مسعاهم في إيقاع الأذى به بعد أن تآمروا عليه وقطعوا برأي معين فيه.
الإيضاح :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ أي واذكر أيها الرسول نعمته تعالى عليك في ذلك الزمن القريب الذي يمكر بك فيه قومك الذين كفروا بما يدبرون في السر من وسائل الإيقاع بك، فإن في ذلك القصص على المؤمنين والكافرين في عهدك ومن بعدك لأكبر الحجج على صدق دعوتك ووعد ربك بنصرتك.
﴿ ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾ أي إن كلمتهم قد اتفقت على إيقاع الأذى بك بإحدى خلال ثلاث : إما الحبس الذي يمنعك من لقاء الناس ودعوتهم إلى الإسلام، وإما القتل بطريق لا يكون ضررها عظيما عليهم كما سيأتي، وإما الإخراج والنفي من الوطن.
وقد روي أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر بك قومك ؟ قال :( يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني )، قال من حدثك بهذا ؟ ( قال ربي )، قال نعم الرب فاستوص به خيرا. قال أنا أستوصي ؟ ( بل هو يستوصي بي ) فنزلت :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ الآية.
وقد تحدثوا بهذا الحديث فسمعه أبو طالب فبلغه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إجماع الرأي عليه والشروع في تنفيذه قد وقع بعد موت أبي طالب.
﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ أي إن دأبهم معكم ومع من اتبعك من المؤمنين تدبير الأذى لكم والله محبط ما دبروا، فقد أخرجك من بينهم إلى دار الهجرة، ووطن السلطان والقوة، والله خير الماكرين، لأن مكره نصر للحق، وإعزاز لأهله، وخذلان للباطل وحزبه.
وفي الآية إيماء إلى أن هذه حالهم الدائمة في معاملته صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من المؤمنين.
وحديث ذلك المكر الذي ترتبت عليه الهجرة إلى المدينة، وبها ظهر الإسلام وخذل الشرك روي من طرق عدة أقربها رواية ابن إسحاق في سيرته قال :
إن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة واعتراضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا من أنت ؟ قال شيخ من أهل نجد : سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح، قالوا أجل فادخل، فدخل معهم، فقال : انظروا في شأن هذا الرجل فوالله ليوشكن أن يؤاتيكم في أمركم بأمره، فقال قائل : احبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء : زهير والنابغة فإنما هو كأحدهم، فقال عدو الله الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأي والله ليخرجن رائد من محسبه لأصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ثم يمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، فانظروا في غير هذا الرأي، فقال قائل : فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه، فإذا خرج لم يضركم ما صنع وأين وقع، وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي : لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجمعن إليه ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا صدق والله، فانظروا رأيا غير هذا فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي لا أرى غيره قالوا وما هذا ؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاما وسطا شابا نهدا ثم يعطي كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربونه به ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل كلها، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل " الدية " واسترحنا وقطعنا عنا أذاه، فقال الشيخ النجدي : هذا والله هو الرأي، القول ما قال الفتى لا أرى غيره وتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك في الخروج وأمره وصحبه بالهجرة. وافترض عليهم القتال فأنزل :﴿ أذن للذين يقاتلون ﴾ [ الحج : ٣٩ ] الآيتين فكان أول ما أنزل في الحرب وأنزل بعد قومه المدينة يذكره نعمته عليه.
﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ الآيتين.
ولما قص عليهم مكرهم في ذات محمد قص علينا مكرهم في دين محمد فقال :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ﴾.
تفسير المفردات : الأساطير : واحدها أسطورة كأرجوحة وأراجيح وأحدوثة وأحاديث وهي الأقاصيص التي سطرت في الكتب بدون تمحيص ولا تثبت من صحتها. وفي القاموس : الأساطير : الأحاديث لا نظام لها واحد إسطار وإسطير وبالهاء في الكل، وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر اه.
المعنى الجملي : لما ذكر المؤمنين عامة بنعمه عليم بقوله :﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ﴾ ذكر هنا نعمه على رسوله خاصة بدفع كيد المشركين ومكر الماكرين بنصره عليهم وخيبة مسعاهم في إيقاع الأذى به بعد أن تآمروا عليه وقطعوا برأي معين فيه.
الإيضاح :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ﴾ أي وإذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آيات الله الواضحة لمن شرح الله صدره لفهمه قالوا جهلا منهم وعنادا للحق وهم يعلمون أنهم كاذبون : لو نشاء لقلنا مثل الذي تلى علينا، وقد نسب هذا القول إلى النضر بن الحارث من بني عبد الدار وكان يختلف إلى أرض فارس فيسمع أخبارهم عن رستم واسفنديار وكبار العجم، ويمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل.
ثم عللوا هذه الدعوة الكاذبة بما هو أصرح منها في الكذب فقالوا :
﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ أي إن أخبار القرآن عن الرسل وأقوامهم تشبه قصص أولئك الأم، فهم يستطيعون أن يأتوا بمثلها فما هي من خبر الغيب الدال على أنه وحي من الله.
وقد يكون النضر أول من قال هذه الكلمة فقلده فيها غيره، ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلقة وأن محمدا هو الذي افتراها، إذ لم يكونوا يتهمونه بالكذب كما قال تعالى :﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ]. ونحو الآية قوله :﴿ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ﴾ [ الفرقان : ٥ ] وهم ما كانوا يعتقدون صدق هذه المقالة، لأنهم يعلمون أنه أمي لا يتعلم شيئا، بل قالوا ذلك ليصدوا العرب عن القرآن وقد كذبهم الله فيه فما استطاعوا له إثباتا.
وقد روى أن النضر هو الذي أنزل فيه ﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ﴾ [ لقمان : ٦ ] فقد اشترى قينة جميلة تغني الناس بأخبار الأمم لصرفهم عن سماع القرآن، وهذا منتهى الجحود والعناد.
وقد كان زعماء قريش كالنضر بن الحارث وأبي جهل والوليد بن المغيرة يتواصون بالإعراض عن سماع القرآن ويمنعون الناس عنه، ثم يختلفون أفرادا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلا يستمعون إليه ويعجبون منه ومن تأثيره وسلطانه على القلوب حتى قال الوليد بن المغيرة كلمته المشهورة : إنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه يحطم ما تحته، فخافوا أن تسمعها العرب وما زالوا يلحون عليه ليقول كلمة منفّرة فقال :﴿ إن هذا إلا سحر يؤثر ﴾ [ المدثر : ٢٤ ].
﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم٣٢ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون٣٣ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون٣٤ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ٣٥ ].
المعنى الجملي : روي أنه لما قال النضر : إن هذا إلا أساطير الأولين، قال له النبي صلى الله عليه وسلم :( ويلك إنه كلام رب العالمين ) فقال :( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ) الآية.
الإيضاح :﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ أي اللهم إن كان هذا القرآن وما يدعو إليه هو الحق منزلا من عندك ليدين به عبادك كما يدعي محمد صلى الله عليه وسلم فافعل بنا كذا وكذا.
وفي هذا إيماء إلى أنهم لا يتبعونه وإن كان هو الحق المنزل من عند الله، بل يفضلون الهلاك بحجارة يرجمون بها من السماء أو بعذاب أليم سوى ذلك، كما أن فيه تهكما وإظهارا للحزم واليقين بأنه ليس من عند الله وحاشاه ومنه يعلم أيضا أن دعاءهم كفر وعناد، لا لأن ما يدعوهم إليه قبيح وضار.
روي أن معاوية قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة ! فقال : أجهل من قومي قومك حين قالوا :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ ولم يقولوا : فاهدنا له.
المعنى الجملي : روي أنه لما قال النضر : إن هذا إلا أساطير الأولين، قال له النبي صلى الله عليه وسلم :( ويلك إنه كلام رب العالمين ) فقال :( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ) الآية.
الإيضاح : ثم قال تعالى بيانا للموجب لإمهالهم والتوقف في إجابة دعائهم.
﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ أي وما كان من سنة الله ولا من مقتضى رحمته وحكمته أن يعذبهم وأنت الرسول فيهم، لأنه إنما أرسلك رحمة ونعمة لا عذابا ونقمة إلى أنه قد جرت سنته أيضا ألا يعذب أمثالهم من مكذبي الرسل وهم بين أظهرهم، بل كان يخرج الرسل أولا كما حدث لهود وصالح ولوط.
﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ أي وما كان الله ليعذبهم هذا العذاب الذي عذب بمثله الأمم قبلهم فاستأصلهم، وهم يستغفرون، وهم المسلمون الذين بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين.
روى ابن جرير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ ثم خرج إلى المدينة فأنزل الله :﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ وكان من بقي في مكة من المؤمنين يستغفرون فلما خرجوا أنزل الله :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ﴾ الآية فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم به.
المعنى الجملي : روي أنه لما قال النضر : إن هذا إلا أساطير الأولين، قال له النبي صلى الله عليه وسلم :( ويلك إنه كلام رب العالمين ) فقال :( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ) الآية.
الإيضاح :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ﴾ أي وأي شيء يمنع تعذيبهم بما دون عذاب الاستئصال عند زوال المانع منه، وكيف لا يعذبون وهم يمنعون المسلمين من دخول المسجد الحرام ولو لأداء النسك ؟ فما كان مسلم يقدر أن يدخل المسجد الحرام فإن دخل مكة عذبوه إذا لم يكن فيها من يجيره، والمراد بالعذاب هنا عذاب بدر إذ قتل صناديدهم ورؤوس الكفر كأبي جهل وأسر سراتهم.
﴿ وما كانوا أولياءه ﴾ أي وما كانوا مستحقين للولاية عليه لشركهم وعمل المفاسد فيه كطوافهم فيه عراة رجالا ونساء، وهذا رد لقولهم : نحن ولاة البيت والحرم، نصد من نشاء وندخل من نشاء.
﴿ إن أولياؤه إلا المتقون ﴾ أي إنه لا يلي أمره إلا من كان برا تقيا، لا من كان كافرا عابدا للصم.
﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ أنهم ليسوا أولياء الله، ولا أن أولياءه ليسوا إلا المتقين، فهم الآمنون من عذابه بمقتضى عدله في خلقه والجديرون بولاية بيته.
وقد نسب هذا الجهل إلى الأكثر، إذ كان فيهم من لا يجهل حالهم في جاهليتهم وضلالهم في شركهم وكون الله لا يرضى عنهم، كما كان فيهم من يكتم إيمانه خوفا من الفتنة ومنهم المستعدون له بسلامة الفطرة، وقد جرت سنة القرآن أن يدقق في الحكم، ولا يقول إلا الحق ولا يقول كما يقول الناس : إن القليل لا حكم له.
هذا، وإن جماهير المسلمين الآن يجهلوا ولاية الله لأوليائه، فصارت هذه الولاية عندهم تشمل المجانين والمجاذيب الذي يسيل اللعاب من أشداقهم وترتع الحشرات في ثيابهم وأجسادهم، وتشمل أصحاب الدجل والخرافات، والدعاوى الباطلة للكرامات، وصاروا يؤيدون دعاويهم من رؤيا الأنبياء والأقطاب في المنام.
ثم بين عز اسمه سوء حالهم في أفضل ما بني لأجله، وهي الصلاة، فقد كانوا يطوفون عراة فقال :﴿ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ﴾.
المعنى الجملي : روي أنه لما قال النضر : إن هذا إلا أساطير الأولين، قال له النبي صلى الله عليه وسلم :( ويلك إنه كلام رب العالمين ) فقال :( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ) الآية.
الإيضاح :﴿ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ﴾ المكاء : الصفير، والتصدية : التصفيق، وكان أحدهم يضع يده على الأخرى ويصفر، قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق، وروي عنه أن الرجال والنساء منهم كانوا يطوفون عراة مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها يصفقون، وروي عن سعيد بن جبير قال : كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون ويصفرون فنزلت :﴿ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ﴾.
وعلى الجملة فقد كانت صلاتهم وطوافهم من قبيل اللهو واللعب سواء عارضوا الرسول صلى الله عليه وسلم في طوافه وخشوع صلاته وحسن تلاوته أم لا.
﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ أي فذوقوا عذاب القتل لبعض كبرائكم والأسر للآخرين منهم وانهزام الباقين مدحورين مكسورين يوم بدر.
والخلاصة : فذوقوا العذاب الذي طلبتموه، وما كان لكم أن تستعجلوه إذ قلتم ﴿ أو ائتنا بعذاب أليم ﴾.
﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون٣٦ ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ﴾ [ الأنفال : ٣٦ ٣٧ ].
المعنى الجملي : لما بين سبحانه أحوال هؤلاء المشركين في الطاعات البدنية بقوله : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ـ قفى على ذلك بذكر أحوالهم في الطاعات المالية.
روي عن ابن عباس ومجاهد أن الآية نزلت في أبي سفيان وما كان من إنفاقه على المشركين في بدر ومن إعانته على ذلك في أحد ـ ذلك أنه لما نجا بالعير بطريق البحر إلى مكة مشى ومعه نفر من المشركين يستنفرون الناس للقتال فجاؤوا كل من كان لهم تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا ندرك منه ثأرا ففعلوا.
وقال سعيد بن جبير : إنه استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش واحدها حباشة : الجماعة ليسوا من قبيلة واحدة، يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالا من الذهب.
الإيضاح :﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ﴾ سبيل الله : دينه وإتباع رسوله : أي مقصدهم بالإنفاق الصد عن إتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك.
﴿ فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ﴾ أي إنه سيقع هذا الإنفاق وتكون عاقبته الحسرة لأنه سيذهب المال ولا يصلون إلى المقصود، بل يغلبون كما قال تعالى :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ﴾ [ المجادلة : ٢١ ] وسينكسرون المرة بعد المرة.
﴿ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ﴾ أي والذين كفروا يساقون يوم القيامة إلى جهنم إذا هم أصروا على كفرهم حتى ماتوا فيكون لهم شقاء الدارين وعذابهما.
وقد كان للمسلمين العبرة في هذه الآية فينفقون أموالهم في سبيل الله لأن لهم بها سعادة الدارين، وهكذا كانوا أيام قاموا بحقوق الإسلام والإيمان.
والكفار في هذا العصر ينفقون الكثير من الأموال للصد عن الإسلام وفتنة الضعفاء من العامة بالدعوة إلى دينهم وتعليم أولاد المسلمين في مدارسهم ومعالجة رجالهم ونسائهم في مستشفياتهم إلى نحو ذلك من الوسائل الناجعة في نشر دينهم وفتنة المسلمين عن دينهم وهم لا يبالون ماذا يفعلون ألا ساء ما كانوا يعملون.
المعنى الجملي : لما بين سبحانه أحوال هؤلاء المشركين في الطاعات البدنية بقوله : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ـ قفى على ذلك بذكر أحوالهم في الطاعات المالية.
روي عن ابن عباس ومجاهد أن الآية نزلت في أبي سفيان وما كان من إنفاقه على المشركين في بدر ومن إعانته على ذلك في أحد ـ ذلك أنه لما نجا بالعير بطريق البحر إلى مكة مشى ومعه نفر من المشركين يستنفرون الناس للقتال فجاؤوا كل من كان لهم تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا ندرك منه ثأرا ففعلوا.
وقال سعيد بن جبير : إنه استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش واحدها حباشة : الجماعة ليسوا من قبيلة واحدة، يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالا من الذهب.
الإيضاح :﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ﴾ أي إن الله كتب النصر والغلب لعباده المتقين والخذلان والحسرة لمن يعاديهم ويقاتلهم من الكفار للصد عن سبيل الله، ليميز الكفر من الإيمان، والحق والعدل من الجور والطغيان.
وهذا التمييز بين الأمرين في سنن الاجتماع هو بقاء أمثل الأمرين وأصلحهما :﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ [ الرعد : ١٧ ] وسنن الله في الدنيا والآخرة واحدة، فالخبيث في الدنيا خبيث في الآخرة ومن ثم قال :
﴿ ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ﴾ أي ويجعل الله الخبيث بعضه منضما متراكبا على بعض بحسب سنته تعالى في اجتماع المتشاكلات واختلاف المتناكرات كما جاء في الحديث :( الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ) ثم جعل أصحابه في جهنم إلى يوم القيامة، وبئس المصير لمن خسر نفسه وماله.
﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين٣٨ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير٣٩ وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ٤٠ ].
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه حال من يصر على الكفر والصد عن سبيل الله وقتال رسوله والمؤمنين وعاقبة أعمالهم في الدنيا والآخرة ـ قفى على ذلك ببيان من يرجعون عنه ويدخلون في الإسلام لأن الأنفس في حاجة إلى هذا البيان فقال :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾.
الإيضاح :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء الكفار : أن ينتهوا عما هم عليه من عداوتك وعنادك بالصد عن سبيل الله، يغفر لهم الله ما قد سلف منهم من ذلك ومن سواه من الذنوب، فلا يعاقبهم على شيء من ذلك في الآخرة، ويغفر لهم الرسول والمؤمنون فلا يطالبون قاتلا منهم بدم ولا سالبا أو غانما بسلب ولا غنم.
روى مسلم من حديث عمرو بن العاص قال :( فلما جعل الله الإيمان في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فقبضت يدي، قال :" ما لك ؟ " قلت : أردت أن أشترط. قال :" ماذا تشترط ؟ " قلت أن يغفر لي قال :( أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ ).
﴿ وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ﴾ أي وإن يعودوا إلى العداء والصد والقتال تجر عليهم سننه المطردة في أمثال لهم من الأولين الذين عادوا الرسل وقاتلوهم، ومن نصر المؤمنين وخذلانهم وهلاكهم كما حدث لهم يوم بدر قال :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ].
ثم بين ما سلف من قوله :﴿ فقد مضت سنة الأولين ﴾، ورغب المؤمنين في قتالهم فقال :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه حال من يصر على الكفر والصد عن سبيل الله وقتال رسوله والمؤمنين وعاقبة أعمالهم في الدنيا والآخرة ـ قفى على ذلك ببيان من يرجعون عنه ويدخلون في الإسلام لأن الأنفس في حاجة إلى هذا البيان فقال :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾.
الإيضاح :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴾ أي وقاتلهم أيها الرسول أنت ومن معك من المؤمنين حتى تزول الفتنة في الدين بالتعذيب وضروب الإيذاء لأجل تركه كما فعلوا ذلك حين كانت لهم القوة والبطش في مكة، إذ أخرجوكم منها لأجل دينكم ثم أتوا لقتالكم في دار الهجرة، وحتى يكون الدين كله لله فلا يستطيع أحد أن يفتن أحد عن دينه ويكرهه على تركه إلى دين المكره تقية وخوفا.
وخلاصة ذلك : قاتلوهم حتى يكون الناس أحرارا في عقائدهم لا يكره أحد أحدا على ترك عقيدته إكراها ولا يؤذي ويعذب لأجلها كما قال تعالى :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ] والمسلمون إنما يقتلون لحرية دينهم ولا يكرهون عليه أحدا من دونهم.
وروي عن ابن عباس تفسير الفتنة بالشرك والمعنى عليه : قاتلوهم حتى لا يبقى شرك وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام.
ويؤيد الرأي الأول أنه جاء رجلان في فتنة ابن الزبير إلى عبد الله بن عمر فقالا : إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج ؟ قال : يمنعني أن الله حرم علي دم أخي المسلم. قالا ولم يقل الله ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴾ قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.
﴿ فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ﴾ أي فإن انتهوا عن الكفر وعن قتالكم فإن الله يجازيهم على ما فعلوا بحسب علمه.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه حال من يصر على الكفر والصد عن سبيل الله وقتال رسوله والمؤمنين وعاقبة أعمالهم في الدنيا والآخرة ـ قفى على ذلك ببيان من يرجعون عنه ويدخلون في الإسلام لأن الأنفس في حاجة إلى هذا البيان فقال :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾.
الإيضاح :﴿ وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ﴾ أي وإن أعرضوا عن سماع تبليغكم ولم ينتهوا عن كفرهم وفتنتهم وقتالهم لكم فأيقنوا بنصر الله ومعونته لكم وهو متولي أموركم فلا تبالوا بهم ولا تخشوا بطشهم، وهو نعم المولى ونعم النصير فلا يضيع من تولاه ولا يغلب من نصره.
وما غلب المسلمون في العصور الأخيرة وذهب أكثر ملكهم إلا لأنهم تركوا الاهتداء بهدي دينهم وتركوا الاستعداد المادي والحربي الذي طلبه الله بقوله :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ] واتكلوا على خوارق العادات وقراءة الأحاديث والدعوات، وذلك ما لم يشرعه الله ولم يعمل به رسوله إلى أنهم تركوا العدل والفضائل وسنن الله في الاجتماع التي انتصر بها السلف الصالح، وأنفقوا أموال الأمة والدولة فيما حرم الله عليهم من الإسراف في شهواتهم.
وعلى العكس من ذلك : اتبع الإفرنج تعاليم الإسلام فاستعدوا للحرب واتبعوا سنن الله في العمران فرجحت كفتهم، ولله الأمر.
وما مكن الله لسلف المسلمين من فتح بلاد كسرى وقيصر وغيرهما من البلاد إلا لما أصاب أهلها من الشرك وفساد العقائد في الآداب ومساوئ الأخلاق والعادات والانغماس في الشهوات وإتباع سلطان البدع والخرافات فجاء الإسلام وأزال كل هذا واستبدل التوحيد والفضائل به، ومن ثم نصر الله أهله على الأمم كلها.
ولما أضاع جمهرة المسلمين هذه الفضائل واتبعوا سنن من قبلهم في إتباع البدع والرذائل وقد حذرهم الإسلام من ذلك، ثم قصروا في الاستعداد المادي والحربي للنصر في الحرب عاد الغلب عليهم لغيرهم ومكن لسواهم في الأرض :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ] أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بما أودع فيها من كنوز وخيرات.
وفق الله المسلمين إلى الهدى والرشاد وجعلهم يعيدون سيرتهم الأولى ويهتدون بهدى دينهم ويستمسكون بآدابه ويتبعون سيرة السلف الصالح، فيكتب لهم العز في الدنيا والسعادة في الآخرة، والحمد لله أولا وآخرا.
وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء في ليلة العشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف بمدينة حلوان من أرباض القاهرة، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ *وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤١ ) إِذْ أنتم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٤٢ ) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ٤٣ ) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾( الأنفال : ٤١-٤٤ ).
المعنى الجملي : لما أمر الله سبحانه بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم، وكان ذلك مستتبعا لأخذ الغنائم منهم ناسب أن يذكر بعده ما يرضيه سبحانه في قسمة الغنائم على الوجه الذي شرعه، والجمهور على أن هذه الآية نزلت في غزوة بدر، وعلى أن ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها.
تفسير المفردات :
الغنم والمغنم والغنيمة : ما يناله الإنسان ويظفر به بلا مقابل ماديّ، وقولهم الغُرم بالغُنْم : أي يقابَل به، والفيء : كل ما صار إلى المسلمين من أموال أهل الشرك بعد أن تضع الحرب أوزارها، وتصير الدار دار إسلام، وهو لكافة المسلمين. وليس فيه الخمس، والنفل : ما يحصل للإنسان من الغنيمة قبل قسمتها.
الإيضاح :
﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمسكين وابن السبيل ﴾ أي واعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين، فاجعلوا أولا خمسه لله تعالى يُنْفق فيما يرضيه من مصالح الدين العامة كالدعوة للإسلام، وإقامة شعائره وعمارة الكعبة وكسوتها، ثم أعطوا للرسول منه كفايته لنفسه ونسائه مدة سنة، ثم أعطوا منه ذوي القربى من أهله وعشيرته نسبا وولاء، وقد خص الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ببني هاشم وبني أخيه المطّلب المسلمين، دون بني عبد شمس ونوفل، ثم المحتاجين من سائر المسلمين، وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل.
روى البخاري عن مُطعم بن جُبير- من بني نَوفل- قال : مشيت أنا وعثمان بن عفان- من بني عبد شمس- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد ".
وسرُّ هذا أن قريشا لما كتبت الصحيفة وأخرجت بني هاشم من مكة وحصرتهم في الشِعْب لحمايتهم له صلى الله عليه وسلم دخل معهم فيه بنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل إلى ما كان من عداوة بني أمية بن عبد شمس لبني هاشم في الجاهلية والإسلام، فقد ظل أبو سفيان يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم ويؤلّب عليه المشركين وأهل الكتاب إلى أن أظفر الله رسوله ودانت له العرب بفتح مكة، وكذلك بعد الإسلام خرج معاوية على عليّ وقاتله.
والحكمة في تقسيم الخمس على هذا النحو أن الدولة التي تدير سياسة الأمة لا بد لها من المال لتستعين به على القيام بالمصالح العامة كشعائر الدين والدفاع عن الأمة، وهو ما جعل لله في الآية، ثم نفقة رئيس حكومتها، وهو سهم الرسول فيها، ثم ما كان لأقوى عصبته وأخلصهم له وأظهرهم تمثيلا لشرفه وكرامته وهو سهم ذوي القربى، ثم ما يكون لذوي الحاجات من ضعفاء الأمة وهم الباقون.
ولا يزال هذا الاعتبار مراعى معمولا به في كثير من الدول مع اختلاف شؤون الاجتماع والمصالح العامة، فالمال الذي يُرْصَد للمصالح العامة يدخل في موازين الوزارات المختلفة ما بين جهرية وسرية، ولاسيما الأمور الحربية، وكذلك راتب ممثل الدولة من ملك أو رئيس جمهورية منه ما هو خاص بشخصه، ومنه ما هو لأسرته وعياله، ومن موازين الدولة ما يبذل لإعانة الجماعات الخيرية والعلمية ونحوهما.
ولكن اليتامى والمساكين وابن السبيل لا تجعل لهم الدولة في هذا العصر حقّا في أموال الدولة، وإن كان بعض الدول يعطيهم أموالا من الأوقاف الخيرية التي تتولى أمر استغلالها وإنفاق ريعها على المستحقين له، وبعضها يخصص إعانات للعمال المتعطلين في وقت الحاجة فحَسبُ.
وعن ابن عباس أنه قال ﴿ فأن لله خمسه ﴾ مفتاح كلام أي إنه ذكر على سبيل التبرك وإنما أضافه سبحانه إلى نفسه، لأنه هو الحاكم فيه فيقسمه كيف شاء، وليس المراد منه أن لله تعالى سهما مفردا، لأن ما في السماوات والأرض فهو لله، وبهذا قال الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم النخعي، فقد قالوا سهم الله وسهم رسوله واحد، وذكر الله للتعظيم.
﴿ إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ﴾ أي إن كنتم آمنتم بما ذكر إيمان إذعان، فاعلموا أن ما غنمتم من شيء قلّ أو كثر فإن لله خمسه لأنه هو مولاكم وناصركم، وللرسول الذي هداكم به وفضلكم على غيركم واقطعوا الأطماع عنكم، وارضوا بحكم الله في الغنائم، وبقسمة رسوله فيها.
ويوم الفرقان هو اليوم الذي فَرَق الله فيه بين الإيمان والكفر وهو يوم بدر الذي التقى فيه الجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين في الحرب والنزال، وقد كان ذلك لسبعَ عشرة خَلَت من شهر رمضان، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ ومن قدرته أن نصركم على قلتكم وجوعكم وضعفكم وبلوغ عدوّكم ثلاثة أضعاف عددكم أو أكثر، وأيد رسوله وأنجز وعده له.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ *وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤١ ) إِذْ أنتم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٤٢ ) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ٤٣ ) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾( الأنفال : ٤١-٤٤ ).
المعنى الجملي : لما أمر الله سبحانه بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم، وكان ذلك مستتبعا لأخذ الغنائم منهم ناسب أن يذكر بعده ما يرضيه سبحانه في قسمة الغنائم على الوجه الذي شرعه، والجمهور على أن هذه الآية نزلت في غزوة بدر، وعلى أن ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها.
الإيضاح :
﴿ إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى ﴾ العدوة :-مثلثة العين- جانب الوادي، والدنيا : مؤنث الأدنى وهو الأقرب، والقصوى : مؤنث الأقصى وهو الأبعد.
والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا في ذلك اليوم في الوقت الذي كنتم مرابطين فيه بأقرب الجانبين من الوادي إلى المدينة، وفيه نزل المطر لا في غيره والأعداء في الجانب الأبعد عنها ولا ماء فيه، وأرضه رِخْوة تسوخ فيها الأقدام.
﴿ والركب أسفل منكم ﴾ أي والعير التي خرج المسلمون للقائها في مكان أسفل من مكانكم وهو ساحل البحر كما تقدم، إذ كان أبو سفيان قادما بها من الشام.
﴿ ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ﴾ أي ولو تواعدتم أنتم وهم القتال، وعلمتم ما لهم وما لكم لاختلفتم في الميعاد، كراهة للحرب لِقلّتكم، وعدم إعداد العدة لها، وانحصار همكم في العير، ويأسا من الظفر بها، ولأن غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال، لأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يأمنون نصر الله، لأن كفر الكثيرين منهم به كان استكبارا وعنادا لا اعتقادا.
﴿ ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾ أي ولكن تلاقيتم على غير موعد ولا رغبة في القتال ليقضي الله أمرا كان في علمه وحكمته أنه واقع لا محالة، وهو القتال المفْضي إلى خِزْيهم ونصركم عليهم، وصدق وعده لرسوله، وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيها من حيّ عن بينة ﴾ البينة : الحجة الظاهرة، أي فعل ذلك ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من الكفار من هلك عن حجة بينة مشاهدة بالبصر، على حقية الإسلام، بإنجاز وعده لرسوله ومن معه من المؤمنين، بحيث تنتفي الشبهة، ولا يكون هناك مجال للاعتذار عند الله عن إجابة الدعوة، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها وعاينها فيزداد يقينا بالإيمان ونشاطا في الأعمال.
﴿ وإن الله لسميع عليم ﴾ لا يخفى عليه شيء من أقوال الكافرين والمؤمنين، ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو يسمع ما يقول كل فريق منهم من الأقوال الصادرة عن عقيدة، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره في أعماله، ويعلم ما يكنه من ذلك ومن غيره، ويجازي كُلّا بحسب ما يسمع ويعلم.
والخلاصة : إن غزوة بدر قامت بها الحجة البالغة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم. وحجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم كما أنذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا مجال في ذلك للمكابرة والتأويل.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ *وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤١ ) إِذْ أنتم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٤٢ ) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ٤٣ ) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾( الأنفال : ٤١-٤٤ ).
المعنى الجملي : لما أمر الله سبحانه بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم، وكان ذلك مستتبعا لأخذ الغنائم منهم ناسب أن يذكر بعده ما يرضيه سبحانه في قسمة الغنائم على الوجه الذي شرعه، والجمهور على أن هذه الآية نزلت في غزوة بدر، وعلى أن ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها.
الإيضاح :
﴿ إذ يريكهم الله في منامك قليلا ﴾ أي إنه تعالى سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك الله عدد عدوك وعدوهم قليلا في الرؤيا المنامية، فتخبر بها المؤمنين، وتطمئن قلوبهم، وتقوي آمالهم بالنصر، فيجترئون عليهم.
﴿ ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ﴾ أي ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرا لفشل أصحابك وخافوا ولم يقدروا على حرب القوم، ولوقع بينهم النزاع وتفرق الآراء في أمر القتال، إذ منهم القويّ الإيمان والعزيمة، فيطيع الله ورسوله ويقاتل، ومنهم الضعيف الذي يثبّط عن القتال بمثل الأعذار التي جادلوا بها الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم في قوله ﴿ يجادلونك في الحق بعدما تبين ﴾ ( الأنفال : ٦ ).
﴿ ولكن الله سلم ﴾ أي ولكن الله سلمكم من الفشل والتنازع وتفرق الآراء، وما يعقب ذلك من الانكسار والخذلان.
﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ أي إنه تعالى عليم بما تخفيه الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فتحجم عن القتال، ومن شعور الإيمان والتوكل الذي يبعث في النفس الطمأنينة والصبر فيحملها على الإقدام، ويسخر لكل منهما الأسباب التي تفضي إلى ما يريده منها.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ *وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤١ ) إِذْ أنتم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٤٢ ) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ٤٣ ) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾( الأنفال : ٤١-٤٤ ).
المعنى الجملي : لما أمر الله سبحانه بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم، وكان ذلك مستتبعا لأخذ الغنائم منهم ناسب أن يذكر بعده ما يرضيه سبحانه في قسمة الغنائم على الوجه الذي شرعه، والجمهور على أن هذه الآية نزلت في غزوة بدر، وعلى أن ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها.
الإيضاح :
﴿ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾ الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أي وفي الوقت الذي يريكم الله الكافرين عند التلاقي معهم عددا قليلا، بما أودع في قلوبكم من الإيمان بوعد الله بنصركم وبتثبيتكم بملائكته والاستهانة بهم، ويقللكم في أعينهم لقلتكم بالفعل، ولما كان عندهم من عُجْب وغرور بأنفسهم حتى لقد قال أبو جهل : إنما أصحاب محمد أَكَلَة جُزور أي لقلتهم يكفيهم جزور واحد في اليوم.
والخلاصة إنه فعل ذلك ليُقدم كل منكم على قتال الآخر، فهذا واثق بنفسه مُدِلّ ببأسه، وهذا متَّكِل على ربه، واثق بوعده، حتى إذا ما التقيتم ثبتكم، وثبّطهم ليقضي بنصركم عليهم أمرا كان في علمه مفعولا، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ومن ثم هيأ الأسباب وقدرها تقديرا.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ( ٤٥ ) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ( الأنفال : ٤٥-٤٦ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه نعمه على رسوله وعلى المؤمنين يوم بدر، قفّى على ذلك بذكر أدبين عظيمين إذا التقوا بعدوهم :
الثبات وتوطين النفس على اللقاء مع عدم التواني والتكاسل.
ذكر الله كثيرا وهو ذكره بألسنتهم وقلوبهم، تنبيها إلى أن الإنسان يجب ألا يخلو قبله من ذكره في أشد الأوقات حرجا. وقد طلب إلينا الثبات والطاعة لله ورسوله حتى لا نفشل وتدول علينا الدُّولة.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ﴾ أي إذا لقيتم فئة من أعدائكم الكفار فاثبتوا لهم ولا تفروا أمامهم، فإن الثبات قوة معنوية طالما كانت السبب في النصر والغَلَب بين الأفراد والجيوش، انظر إلى الرجلين الجَلْدين يتصارعان فيعيا كل منهما وتضعف قوته، ويتوقع كل لحظة أن يقع صريعا، ولكن قد يخْطُر له أن خصمه ربما وقع قبله فيثيب إلى اللحظة الأخيرة، فيكون له الفَلَج والفوز على خصمه، وهكذا في الحروب، فإن من أهم أسباب النصر فيها الثبات وعدم اليأس، بل الثبات نافع في كل أعمال البشر، فهو الوسيلة في الفوز والنجاح فيها.
﴿ واذكروا الله كثيرا ﴾ أي وأكثروا من ذكر الله في أثناء القتال في قلوبكم بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين ونصر كل من يتبع سنتهم بنصر دينه وإقامة سننه، وبأن النصر بيده ومن عنده يؤتيه من يشاء، وبألسنتكم بالتكبير ونحوه، وبالدعاء والتضرع إليه مع اليقين بأنه لا يعجزه شيء.
﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي إن الثبات وذكر الله هما وسيلتان من وسائل الفوز ؛ ويُعِدّان للفلاح في القتال في الدنيا، وفي نيل الثواب في الآخرة.
وفي ذلك إيماء إلى أنه يجب على البعد ألا يَفْتر عن ذكر الله أكثر ما يكون هَمّا، وأشغل ما يكون قلبا، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزّعة عن غيره.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ( ٤٥ ) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ( الأنفال : ٤٥-٤٦ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه نعمه على رسوله وعلى المؤمنين يوم بدر، قفّى على ذلك بذكر أدبين عظيمين إذا التقوا بعدوهم :
الثبات وتوطين النفس على اللقاء مع عدم التواني والتكاسل.
ذكر الله كثيرا وهو ذكره بألسنتهم وقلوبهم، تنبيها إلى أن الإنسان يجب ألا يخلو قبله من ذكره في أشد الأوقات حرجا. وقد طلب إلينا الثبات والطاعة لله ورسوله حتى لا نفشل وتدول علينا الدُّولة.
الإيضاح :
﴿ وأطيعوا الله ورسوله ﴾ أي وأطيعوا الله فيما أمركم به من الأسباب الموجبة للفلاح في القتال وفي غيره، وأطيعوا رسوله كذلك، فهو المبيّن لكلام ربه، والمنَفِّذ له بالقول والعمل والحكم، وهو القائد الأعظم في القتال، فطاعته هي جماع النظام، والنظام ركن من أركان الظفر، وهو المشارك لكم في الرأي والتدبير والاستشارة في الأمور.
﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ أي ولا يكن منكم تنازع واختلاف، فإن ذلك مَدْعاة للفشل والخيبة وذهاب القوة، فيتغلب عليكم العدو.
وأصل الريح : الهواء المتحرك ثم استعيرت للقوة والغلبة، لأنه لا يوجد في الأجسام ما هو أقوى منها، فهي تهيج البحار وتقتلع الأشجار وتهدم الدور والقلاع، ومن ثم يقال هبت رياح : فلان إذا جرى أمره على ما يريد كما يقال ركدت رياحه : إذا ضعف أمره وولّت دولته.
﴿ واصبروا إن الله مع الصابرين ﴾ أي واصبروا على الشدائد وعلى ما تلاقونه من بأس العدو واستعداده وكثرة عدده، فالله مع الصابرين يمدُّهم بمعونته وتأييده، ومن كان الله معينا له فلا يغلبه غالب.
﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( ٤٧ ) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٤٨ )إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٤٧-٤٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه عباده المؤمنين بما أمر به من جلائل الصفات ومحاسن الآداب التي تكون سبب الظفر في القتال، ونهاهم عن التنازع قفّى على ذلك بنهيهم عما كان عليه مشركو قريش حين خرجوا لحماية العير من البطر والكبرياء والصد عن سبيل الله.
تفسير المفردات : الذين خرجوا : هم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير. والبطر : إظهار الفخر والاستعلاء بنعمة القوة أو الغنى أو الرياسة، ويعرف ذلك في الحركات المتكلفة والكلام الشاذ، والرئاء : أن يعمل المرء ما يحب أن يراه الناس منه ليُثنوا عليه ويُعجبوا به.
الإيضاح :﴿ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ﴾ أي عليكم أن تمتثلوا ما أمرتم به وتنتهوا عما نُهيتم عنه، ولا تكونوا كأعدائكم المشركين الذين خرجوا من ديارهم في مكة وغيرها من الأماكن التي استنفرهم منها أبو سفيان بَطِرين بما أتوا من قوة ونعم لا يستحقونها، مرائين الناس بها ليُعْجبوا ويُثنوا عليهم بالغنى والقوة والشجاعة.
﴿ ويصدون عن سبيل الله ﴾ أي وهم بخروجهم يصدون عن سبيل الله وهو الإسلام بحملهم الناس على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإعراض عن تبليغ دعوته، وتعذيب من أجابها إذا لم يكن لهم من يمنعهم ويحميهم من قرابة أو حِلف أو جوار.
﴿ والله بما يعملون محيط ﴾ أي والله عليم بما جاؤوا لأجله، ومن ثم فهو يجازيهم عليه في الدنيا والآخرة بمقتضى سننه في ترتيب الجزاء على الأعمال وصفات النفوس. وفي هذا زجر وتهديد على الرياء والتصنع والبطر والكبرياء، وأنه سيجازي عليها أشد الجزاء.
قال البغوي : نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغي وفخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيَلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرَك الذي وعدتني )، قالوا ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم، فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدرا- وكان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام- فنقيم ثلاثا فننحر الجزور ونطعم ونسقي الخمر وتعْزِف علينا القِيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا، أبدا فوافَوْها فسُقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.
فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصر دينه ومؤازرة رسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( ٤٧ ) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٤٨ )إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٤٧-٤٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه عباده المؤمنين بما أمر به من جلائل الصفات ومحاسن الآداب التي تكون سبب الظفر في القتال، ونهاهم عن التنازع قفّى على ذلك بنهيهم عما كان عليه مشركو قريش حين خرجوا لحماية العير من البطر والكبرياء والصد عن سبيل الله.
تفسير المفردات :
وتراءت الفئتان : قربت كل منهما من الأخرى، وصارت بحيث تراها وتعرف حالها. ونكص : رجع القهقرى وتولى إلى الوراء.
الإيضاح :
﴿ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ﴾ أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين حين زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته، وقال لهم لما ألقاه في روعهم، وخَيّل إليهم أنهم لا يُغلبون لكثرة عددهم وعُددهم، وأوهمهم أن إتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات، مجير لهم حتى قالوا : اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين.
﴿ فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ﴾ أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر وصار بحيث يراه ويعرف حاله، وقبل أن يصطلي نار القتال معه نكص على عقبيه أي رجع القهقرى وتولّى إلى الوراء وهي الجهة التي فيها العَقِبان، والمراد : أنه كفّ عن تزيينه لهم وتغريره بهم.
﴿ وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله ﴾ أي تبرأ منهم ويئس من حالهم لما رأى إمداد الله تعالى المسلمين بالملائكة.
﴿ والله شديد العقاب ﴾ قد تكون هذه العبارة من كلام الشيطان، وقد تكون من كلامه تعالى.
والخلاصة : إن جند الشيطان كانوا منبثّين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة بما يُغريهم ويغرُّهم، كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم فلما تراءت الفئتان وأوشكا أن يتلاحما فرّ الشيطان بجنوده من بين المشركين، لئلا تصل إليهم الملائكة الملابسة للمؤمنين، وهما ضدان لا يجتمعان، ولو اجتمعا لقَضى أقواهما وهم الملائكة على أضعفهما وهم الشياطين.
فخوف الشيطان إنما كان من إحراق الملائكة لجنوده لا على المشركين، كما يُقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق متلاش أمامه لا يبقى منه شيء.
﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( ٤٧ ) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٤٨ )إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٤٧-٤٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه عباده المؤمنين بما أمر به من جلائل الصفات ومحاسن الآداب التي تكون سبب الظفر في القتال، ونهاهم عن التنازع قفّى على ذلك بنهيهم عما كان عليه مشركو قريش حين خرجوا لحماية العير من البطر والكبرياء والصد عن سبيل الله.
تفسير المفردات :
والمنافق : من يُظهر الإسلام ويُسِرّ الكفر. والذين في قلوبهم مرض : هم ضعفاء الإيمان تملأ قلوبهم الشكوك والشبهات، فتزلزل اعتقادهم حينا وتسكن حينا آخر.
الإيضاح :
﴿ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ﴾ أي وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم حين يقول المنافقون ومن في حكمهم من مرْضَى القلوب : ما حمل هؤلاء المؤمنين على الإقدام على ما أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم إلا غرورهم بدينهم، ولا غرو أن تصدر هذه المقالة ممن حُرِم الإيمان الكامل والثقة بالله والتوكل عليه.
روي عن مجاهد أنه قال : هم فئة من قريش، قَيْس ابن الوليد بن المغيرة والحارث بن زَمْعة بن الأسود بن المطلب ويعلى بن أمية والعاص بن منَبّه، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ما أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم.
﴿ ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ﴾ أي ومن يكل أمره إلى الله ويؤمن إيمان اطمئنان بأنه ناصره ومعينه، وأنه لا يعجزه شيء ولا يمتنع عليه شيء أراده- يَكْفه ما يُهمه وينصره على أعدائه وإن كثر عددهم وعظم استعدادهم، لأنه العزيز الغالب على أمره، الحكيم الذي يضع كل أمر في موضعه بمقتضى سننه في نظام العالم، ومن ذلك أن ينصر الحق على الباطل.
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ( ٥٠ ) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ( ٥١ ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ( ٥٢ ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٥٣ ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ ( الأنفال : ٥٠-٥٤ ).
المعنى الجملي : بعد أن بيّن سبحانه حال هؤلاء الكفار من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرا ورئاء الناس، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم- قفّى على ذلك بذكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت.
تفسير المفردات : أدبارهم : أي ظهورهم وأقفيتهم. وعذاب الحريق : عذاب النار بعد البعث.
الإيضاح :﴿ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ﴾ أي لو عاينت أيها الرسول حال الكفار حين يتوفاهم الملائكة فينزعون أرواحهم من أجسادهم ضاربين وجوههم وأقفيتهم، قائلين لهم : ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ؛ وهذا الضرب والكلام من عالم الغيب، فلا يقتضي أن يراه الذين يحضرون وفاتهم، ولا أن يسمعوا كلامهم حين يقولون ذلك لهم، لو رأيت ذلك لرأيت أمرا عظيما هائلا يَرُدّ الكافر عن كفره، والظالم عن ظلمه إذا هو علم عاقبة أمره.
وقد روي أن ضرب الوجوه والأدبار كان ببدر، كان المؤمنون يضربون من أقٌبل من المشركين من وجوههم والملائكة يضربونهم من أدبارهم.
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ( ٥٠ ) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ( ٥١ ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ( ٥٢ ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٥٣ ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ ( الأنفال : ٥٠-٥٤ ).
المعنى الجملي : بعد أن بيّن سبحانه حال هؤلاء الكفار من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرا ورئاء الناس، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم- قفّى على ذلك بذكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت.
الإيضاح :
﴿ ذلك بما قدمت أيديكم ﴾ أي هذا العذاب الذي ذقتموه بسبب ما كسبت أيديكم من سيء الأعمال في حياتكم الدنيا ومن كفر وظلم، وهذا يشمل القول والعمل.
ونسب ذلك إلى الأيدي وإن كان قد يقع من الأيدي والأرجل وسائر الحواس أو بتدبير العقل، ومن أجل أن العادة قد جرت بأن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها.
﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾ أي وبأن الله لا يظلم أحدا من عبيده، فلا يعذب أحدا منهم إلا بجُرْم اجترمه، ولا يعاقبه إلا بمعصيته إياه وقد وقع ذلك منكم، فأنتم الظالمون لأنفسكم فلوموها، ولا لوم إلا عليها. روى مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله يقول يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا ؛ يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه ".
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ( ٥٠ ) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ( ٥١ ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ( ٥٢ ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٥٣ ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ ( الأنفال : ٥٠-٥٤ ).
المعنى الجملي : بعد أن بيّن سبحانه حال هؤلاء الكفار من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرا ورئاء الناس، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم- قفّى على ذلك بذكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت.
تفسير المفردات :
والدأب : العادة المستمرة.
الإيضاح :
﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم ﴾ أي فِعْل هؤلاء المشركين من قريش الذين قتلوا ببدر كعادة قوم فرعون وفعلهم وفعل من قبلهم من الأمم الخالية، كفروا بآيات ربهم فأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر ولم يظلم أحدا منهم مثقال ذرة، ونصر رسله والمؤمنين.
وكما كانت سنته تعالى في أولئك أن أخذهم بذنوبهم، فسنته في هؤلاء كذلك، فقد نصر رسوله والمؤمنين في بدر، وأهلك هؤلاء بذنوبهم.
﴿ إن الله قوي شديد العقاب ﴾ أي إن الله قويّ لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، شديد العقاب لمن استحق عقابه وكفر بآياته وجحد حججه، وقد جعل لكل شيء أجلا.
روى البخاري ومسلم وابن ماجة عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ).
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ( ٥٠ ) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ( ٥١ ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ( ٥٢ ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٥٣ ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ ( الأنفال : ٥٠-٥٤ ).
المعنى الجملي : بعد أن بيّن سبحانه حال هؤلاء الكفار من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرا ورئاء الناس، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم- قفّى على ذلك بذكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت.
الإيضاح :
﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ أي ذلك الذي ذكر من أخذه لقريش بكفرها بنعم الله عليها، إذثيبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته، فكذبوه وأخرجوه من بينهم وحاربوه، كأخذه للأمم قبلهم بذنوبهم- فقد جرت سنة الله ألا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأحوال التي استحقوا بها تلك النعمة.
وفي الآية إيماء إلى أن نعم الله على الأمم والأفراد منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وصفات وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشؤون ثابتة لهم متمكنة منهم، كانت تلك النعم ثابتة لهم، والله لا ينتزعها منهم بغير ظلم منهم ولا جُرم فإذا هم غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يلزم ذلك من محاسن الأعمال، غيّر الله حالهم وسلب نعمتهم منهم فصار الغني فقيرا والعزيز ذليلا والقوي ضعيفا.
وليست سعادة الأمم وقوتها وغلبتها منوطة بسعة الثروة ولا كثرة العدد كما كان يظن بعض المشركين وحكاه الله عنهم بقوله :﴿ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾ ( سبأ : ٣٥ ).
وكذلك لا يحابي الله تعالى بعض الشعوب والأمم بنسبها وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوّة وما دونها فيؤتيهم الملك والسيادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إليهم كما كان في شأن بني إسرائيل في غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم، وهكذا شأن النصارى والمسلمين من بعدهم، إذا اتبعوا سنتهم واغتروا بدينهم وإن كانوا من أشد المخالفين له.
﴿ وأن الله لسميع عليم ﴾ أي إنه تعالى سميع لما يقول مكذبو الرسل، عليم بما يأتون وما يذرون، وهو مجازيهم على ما يقولون ويعملون إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
الإيضاح :
﴿ كدأب إلى فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ﴾ أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا مماثلا لدأب آل فرعون، فهم قد كذبوا كما كذب أولئك فحل بهم مثل ما حل بأولئك السابقين.
والدأب الأول : في بيان كفرهم بجحد ما قامت عليه أدلة الرسل من وحدانية الله ووجوب إفراده بالعبادة، وفي تعذيب الله إياهم في الآخرة، فهو دأب وعادة فيما يتعلق بحقه تعالى من حيث ذاته وصفاته، وفي الجزاء الدائم على الكفر به الذي يبتدئ بالموت وينتهي بدخول النار.
والدأب الثاني : في تكذيبهم بآيات ربهم ونعمه من حيث إنه هو المرَبِّي لهم، ويدخل في ذلك تكذيب الرسل وعنادهم وإيذائهم وكفر النعم المتعلقة ببعثتهم، وفي الجزاء على ذلك بتغيير حالهم وعذابهم في الدنيا.
وخلاصة ذلك : إما ما دوّنه التاريخ من دأب الأمم وعادتها في الكفر والتكذيب والظلم في الأرض، ومن عقاب الله إياها ؛ جار على سننه تعالى المطردة في الأمم، ولا يظلم ربك أحدا بسبب نعمة منهم ولا بإيقاع أذى بهم، وإنما عقابه لهم أثر طبيعي لكفرهم وظلمهم لأنفسهم.
وأما عذاب الاستئصال بعذاب سماويّ فهو خاص بمن طلبوا الآيات من الرسل وأنذروهم العذاب إذا هم كفروا بها بعد مجيئها ثم فعلوا ذلك.
﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ٥٥ ) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمّ َيَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ( ٥٦ ) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ٥٧ ) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ( ٥٨ ) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴾ ( الأنفال : ٥٥-٥٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن بيّن حال مشركي قريش في قتالهم ببدر قفّى على ذلك بذكر حال فريق آخر من الكفار الذي عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوه وهم اليهود الذين كانوا في بلاد الحجاز.
قال سعيد ابن جبير : نزلت هذه الآيات في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت، وقال مجاهد : نزلت في يهود المدينة وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف، وهو فيهم كأبي جهل في مشركي مكة. ثم ذكر سبحانه ما يجب أن يعمل مع أمثالهم من الخونة، وبين أن الرسول آمن من عاقبة كيدهم ومكرهم.
تفسير المفردات :
الدابة : لفظ غلب استعماله في ذوات الأربع، وأصله كل ما دبّ على وجه الأرض، وهو المراد هنا. عند الله : أي حكمه وعلمه. والذين عاهدت منهم : هم طوائف من يهود المدينة.
الإيضاح :
﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون* الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ﴾ أي إن شر ما يدب على وجه الأرض في حكم الله وعدله هم الكافرون الذين اجتمعت فيهم صفتان :
الإصرار على الكفر والرسوخ فيه بحيث لا يرجى إيمان جملتهم أو إيمان جمهورهم، لأنهم إما رؤساء حاسدون للرسول صلى الله عليه وسلم معاندون له جاحدون بآياته المؤيدة لرسالته على علم منهم، وفيهم يقول سبحانه :﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾ ( البقرة : ١٤٦ ) وإما مقلدون جامدون على التقليد لا ينظرون في الدلائل والآيات.
وقد لقبهم الله بالدواب وهو اللفظ الذي غلب استعماله في ذوات الأربع، لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط، بل هم أضل من العجماوات، لأن لها منافع وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم، كما قال تعالى في أمثالهم :﴿ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ﴾ ( الفرقان : ٤٤ ).
نقض العهد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عقد مع يهود المدينة عقب هجرته إليهم عهدا أقرّهم فيه على دينهم وأمّنهم على أنفسهم وأموالهم، فنقض كل منهم عهده.
روي عن ابن عباس أنهم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه بالسلاح في يوم بدر ثم قالوا : نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالئوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة فخالفهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٥:﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ٥٥ ) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمّ َيَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ( ٥٦ ) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ٥٧ ) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ( ٥٨ ) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴾ ( الأنفال : ٥٥-٥٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن بيّن حال مشركي قريش في قتالهم ببدر قفّى على ذلك بذكر حال فريق آخر من الكفار الذي عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوه وهم اليهود الذين كانوا في بلاد الحجاز.
قال سعيد ابن جبير : نزلت هذه الآيات في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت، وقال مجاهد : نزلت في يهود المدينة وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف، وهو فيهم كأبي جهل في مشركي مكة. ثم ذكر سبحانه ما يجب أن يعمل مع أمثالهم من الخونة، وبين أن الرسول آمن من عاقبة كيدهم ومكرهم.

تفسير المفردات :

الدابة : لفظ غلب استعماله في ذوات الأربع، وأصله كل ما دبّ على وجه الأرض، وهو المراد هنا. عند الله : أي حكمه وعلمه. والذين عاهدت منهم : هم طوائف من يهود المدينة.

الإيضاح :

﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون* الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ﴾ أي إن شر ما يدب على وجه الأرض في حكم الله وعدله هم الكافرون الذين اجتمعت فيهم صفتان :
الإصرار على الكفر والرسوخ فيه بحيث لا يرجى إيمان جملتهم أو إيمان جمهورهم، لأنهم إما رؤساء حاسدون للرسول صلى الله عليه وسلم معاندون له جاحدون بآياته المؤيدة لرسالته على علم منهم، وفيهم يقول سبحانه :﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾ ( البقرة : ١٤٦ ) وإما مقلدون جامدون على التقليد لا ينظرون في الدلائل والآيات.
وقد لقبهم الله بالدواب وهو اللفظ الذي غلب استعماله في ذوات الأربع، لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط، بل هم أضل من العجماوات، لأن لها منافع وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم، كما قال تعالى في أمثالهم :﴿ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ﴾ ( الفرقان : ٤٤ ).
نقض العهد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عقد مع يهود المدينة عقب هجرته إليهم عهدا أقرّهم فيه على دينهم وأمّنهم على أنفسهم وأموالهم، فنقض كل منهم عهده.
روي عن ابن عباس أنهم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه بالسلاح في يوم بدر ثم قالوا : نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالئوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة فخالفهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم.


الإيضاح :
وقوله :﴿ وهم لا يتقون ﴾ أي لا يتقون الله في نقض العهد ولا فيما قد يترتب عليه من قتالهم والظفر بهم.
﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ٥٥ ) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمّ َيَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ( ٥٦ ) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ٥٧ ) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ( ٥٨ ) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴾ ( الأنفال : ٥٥-٥٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن بيّن حال مشركي قريش في قتالهم ببدر قفّى على ذلك بذكر حال فريق آخر من الكفار الذي عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوه وهم اليهود الذين كانوا في بلاد الحجاز.
قال سعيد ابن جبير : نزلت هذه الآيات في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت، وقال مجاهد : نزلت في يهود المدينة وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف، وهو فيهم كأبي جهل في مشركي مكة. ثم ذكر سبحانه ما يجب أن يعمل مع أمثالهم من الخونة، وبين أن الرسول آمن من عاقبة كيدهم ومكرهم.
تفسير المفردات :
وثقفه : أدركه وظفر به. فشرد بهم : أي نكّل بهم تنكيلا يشَرّد غيرهم من ناقضي العهد. من خلفهم : هم كفار مكة وأعوانهم من مشركي القبائل الموالية لهم.
الإيضاح :
وبعد أن بيّن سبحانه أنهم قد تكرر منهم نقض العهد- أردف ذلك ما يجب أن يعاملوا به فقال :
﴿ فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ﴾ أي إنك إن تدرك هؤلاء الناقضين لعهدهم وتظفر بهم في الحرب- فنكِّل بهم أشد التنكيل حتى يكون ذلك سببا لشرود من وراءهم من الأعداء وتفرقهم، فيكون مثلهم مثل الإبل الشاردة النادّة عن أمكنتها.
وإنما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإثخان في هؤلاء الأعداء الذين تكررت مسالمته لهم وتجديده لعهدهم بعد نقضه، لئلا ينخدع مرة أخرى بكذبهم، لما جبل عليه من الرحمة وحب السلم واعتبار الحرب ضرورة تترك إذا زال سببها كما قال تعالى :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾ ( الأنفال : ٦١ ) وهم قد أوهموه المرة بعد المرة أنهم يرغبون في السلم واعتذروا عن نقضهم العهد وكانوا في ذلك مخادعين.
﴿ لعلهم يذكرون ﴾ أي لعل من خلفهم من الأعداء يتذكّرون النكال فيمنعهم ذلك من نقض العهد ومن القتال.
روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في بعض أيامه التي لقي فيها العدو فقال :( أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ضلال السيوف )، ثم قال :( اللهم منزل الكتاب ومجزي السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم ).
وفي ذلك إيماء إلى شيئين :
إن الحرب ليست محبوبة عند الله ولا عند رسوله، وإنما هي ضرورة يراد بها منع البغي والعدوان وإعلاء كلمة الحق ودحْض الباطل :﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ ( الرعد : ١٧ ).
إن استعمال القسوة مع الناقضين للعهد والبادئين بالحرب والتنكيل بهم لتشريد من ورائهم أمر لا بد منه للعظة والاعتبار حتى لا يعودوا إلى مثلها هم ولا غيرهم.
ولا يزال الأمر كذلك في هذا العصر، وإن كانوا يريدون به الانتقام وشفاء ما في الصدور من الأحقاد، والتمتع بالمغانم من مال وعقار.
﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ٥٥ ) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمّ َيَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ( ٥٦ ) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ٥٧ ) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ( ٥٨ ) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴾ ( الأنفال : ٥٥-٥٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن بيّن حال مشركي قريش في قتالهم ببدر قفّى على ذلك بذكر حال فريق آخر من الكفار الذي عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوه وهم اليهود الذين كانوا في بلاد الحجاز.
قال سعيد ابن جبير : نزلت هذه الآيات في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت، وقال مجاهد : نزلت في يهود المدينة وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف، وهو فيهم كأبي جهل في مشركي مكة. ثم ذكر سبحانه ما يجب أن يعمل مع أمثالهم من الخونة، وبين أن الرسول آمن من عاقبة كيدهم ومكرهم.
تفسير المفردات :
والنبذ : الطرح. على سواء : أي على طريق واضح لا خداع فيه ولا خيانة ولا ظلم.
الإيضاح :
وبعد أن ذكر حكم ناقضي العهد حين سنوح الفرصة قفى على ذلك بحكم من لا ثقة بعهودهم فقال :
﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ﴾ أي وإن توقعت من قوم معاهدين خيانة ونكثا للعهد بوجود أمارات ظاهرة وقرائن تنذر بها، فانقطع عليهم طريق الخيانة قبل وقوعها بأن تَنْبِذ إليهم عهدهم وتنذرهم بأنك غير مقيّد ولا مهتم بأمرهم، بطريق واضح لا خداع فيه ولا استخفاء.
والحكمة في هذا : أن الإسلام لا يبيح الخيانة مطلقا.
وخلاصة ذلك : لا تحاربهم قبل أن تُعْلِمهم أنك قد فسخت العهد الذي بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب عليهم.
﴿ إن الله لا يحب الخائنين ﴾ أي إن الخيانة مبغوضة بجميع ضروبها، ولا وسيلة لاتقاء ضررها من الكفار، إذا ظهرت أماراتها إلا بنبذ عهدهم جهرة.
روى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء : من عاهدته فوفّ بعهده مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله، ومن كانت بينك وبينه رحم فصِلْها، مسلما كان أو كافرا، ومن ائتمنك على أمانة فأدّها إليه، مسلما كان أو كافرا ".
وبعد هذا أنذر أولئك الخائنين ما سيحل بهم من عقاب فقال :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا ﴾.
﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ٥٥ ) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمّ َيَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ( ٥٦ ) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ٥٧ ) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ( ٥٨ ) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴾ ( الأنفال : ٥٥-٥٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن بيّن حال مشركي قريش في قتالهم ببدر قفّى على ذلك بذكر حال فريق آخر من الكفار الذي عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوه وهم اليهود الذين كانوا في بلاد الحجاز.
قال سعيد ابن جبير : نزلت هذه الآيات في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت، وقال مجاهد : نزلت في يهود المدينة وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف، وهو فيهم كأبي جهل في مشركي مكة. ثم ذكر سبحانه ما يجب أن يعمل مع أمثالهم من الخونة، وبين أن الرسول آمن من عاقبة كيدهم ومكرهم.
تفسير المفردات :
سبقوا : أي أفْلتوا من الظفر بهم. لا يُعْجِزون : أي لا يجدون الله عاجزا عن إدراكهم، بل سيجزيهم على كفرهم.
الإيضاح :
﴿ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا ﴾ أي ولا يظننّ الذين كفروا أنهم سبقونا ونَجَوْا من عاقبة خيانتهم وشرهم، ونحو الآية قوله :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ﴾ ( العنكبوت : ٤ ).
﴿ إنهم لا يعجزون ﴾ أي إنهم لا يعجزون الله تعالى ولا يفوتونه بمكرهم وخيانتهم بل هو سيجزيهم ويمكّن منهم في الدنيا بتسليط رسوله والمؤمنين عليهم وإذاقتهم عاقبة كيدهم، والآية بمعنى قوله تعالى :﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ﴾ ( التوبة : ٢ ).
وخلاصة ذلك : قطع أطماعهم في الانتفاع بهذا النبذ والغلبة على المؤمنين.
وفي الآية إيماء إلى أن ما أوجبه الإسلام من المحافظة على العهود مع الأعداء المخالفين في الدين، وما حرّمه من الخيانة فيها- لم يكن عن ضعف ولا عن عجز، بل قوة وتأييد إلهي، فقد نصر الله رسوله والمؤمنين على اليهود الخائنين الناقضين لعهودهم، وأجلى من أبقاه السيف منهم من جوار مَعْقِل الإسلام : شبه جزيرة العرب.
﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ( ٦٠ )* وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٦١ ) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ( ٦٢ ) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٦٠-٦٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن أبان عز اسمه فيما سلف أن اليهود الذين عقدوا العهود مع النبي صلى الله عليه وسلم وبها أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم- قد خانوه ونقضوا العهود وساعدوا عليه أعداءه المشركين الذين أخرجوه من دياره ووطنه وتبعوه إلى مَهْجَرِه يقاتلون فيه لأجل دينهم، وبذلك صاروا هم والمشركون سواء- أردف ذلك ذِكر ما يجب على المؤمنين في معاملتهم أثناء الحرب التي أصبحت لا مناص منها بما أحدثوه من الخيانة والغدر والبُداءة بالعدوان، وذلك سنة من سنن الاجتماع البشري، إذ حصول الصراع بين الحق والباطل والقوة والضعف أمر لا مندوحة منه.
تفسير المفردات :
الإعداد : تهيئة الشيء للمستقبل. والرباط والمربط : الحبل الذي تربط به الدابة. ورباط الخيل : حبسها واقتناؤها. والإرهاب والترهيب : الإيقاع في الرهبة وهي الخوف المقترن بالاضطراب.
الإيضاح :
﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ﴾ أمر الله المؤمنين بالاستعداد للحرب التي لا بد منها لدفع العدوان وحفظ الأنفس والحق والفضيلة.
ويكون ذلك بأمرين :
إعداد المستطاع من القوة، ويختلف هذا باختلاف الزمان والمكان، فالواجب على المسلمين في هذا العصر : صنع المدافع والطيارات والقنابل والدبابات وإنشاء السفن الحربية والغواصات ونحو ذلك، كما يجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب.
وقد استعمال الصحابة المَنْجَنيق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر وغيرها، روى مسلم عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلا هذه الآية يقول :( ألا إن القوّة الرمي ) قالها ثلاثا، وذلك أن رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة أو نحو ذلك، وهذا يشمل السهم وقَذيفة المنجنيق والطيارة والمِدفع والبندقية ونحوها، فاللفظ يشملها وإن لم تكن معروفة في عصره صلى الله عليه وسلم.
مرابطة الفرسان في ثغور البلاد وحدودها، إذ هي مداخل الأعداء، ومواضع مهاجمتهم للبلاد.
والحكمة في هذا : أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فاجأها العدو على غِرّة، وقوام ذلك الفرسان لسرعة حركتهم وقدرتهم على القتال وإيصال الأخبار من الثغور إلى العواصم وسائر الأرجاء، ومن أجل هذا عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها، ولا يزال للفرسان نصيب كبير في الحرب في هذا العصر الذي ارتقت فيه الفنون العسكرية في الدول الحربية.
﴿ ترهبون به عدو الله وعدوكم ﴾ أي أعدوا لهم المستطاع من القوة الحربية ومن الفرسان المرابطة لترهبوا عدو الله الكافرين به، وبما أنزله على رسوله وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر، إذ لا شيء يمنع الحرب إلا الاستعداد للحرب، فالكفار إذا علموا استعداد المسلمين وتأهبهم للجهاد واستكمالهم لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وإلى هذا يشير أبو تمام إذ يقول :
وأخافكم كي تُغْمِدوا أسيافكم إن الدّم المغبّر يحْرُسه الدم
وهذا الخوف يفيد المسلمين من وجوه :
يجعل أعداءهم لا يعينون عدوا آخر عليهم.
يجعلهم يؤدون الالتزامات المطلوبة منهم.
ربما حملهم ذلك على الدخول في الإسلام والإيمان بالله ورسوله.
﴿ وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ﴾ أي وترهبون به أناسا غير هؤلاء الأعداء المعروفين لكم، وهم مشركو مكة ومن والاهم ممن يجمعون بين هاتين العداوتين حين نزول الآية عقب غزوة بدر- ممن لا تعلمون الآن عداوتهم بل يعلمهم الله وهو علام الغيوب.
والخلاصة : إن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يُرْهب الأعداء الذين نعلم أنهم أعداء يُرْهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء، فالاستعداد للحرب يرهبهم جميعا ويمنعهم من الإقدام على القتال، وهذا ما يسمى في العصر الحديث : السلام المسلح.
﴿ وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم ﴾ أي وما تنفقوا من شيء قليلا كان أو كثيرا في إعداد المستطاع من القوة والمرابطة في سبيل الله فالله يعطيكم عليه الجزاء الوافي التام.
﴿ وأنتم لا تظلمون ﴾ أي والحال أنه لا يلحقكم ظلم ولا اضطهاد من أعدائكم، فإن القويّ المستعد لمقاومة المعتدي قلما يعتدي عليه أحد، وإن اعتدى عليه فقلّ أن يظفر به.
وفي هذا إيماء إلى أن إعداد المستطاع من القوة الحربية والمرابطة في سبيل الله لا يمكن تحقيقها إلا بإنفاق الكثير من المال، ومن ثم رغّب سبحانه عباده المؤمنين في الإنفاق في سبيله، ووعدهم بأن كل ما ينفقون فيها يوفى إليهم إما في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فحسب.
وإذا كان السلم هو المقصد الأول لا الحرب أكده بقوله :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾.
﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ( ٦٠ )* وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٦١ ) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ( ٦٢ ) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٦٠-٦٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن أبان عز اسمه فيما سلف أن اليهود الذين عقدوا العهود مع النبي صلى الله عليه وسلم وبها أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم- قد خانوه ونقضوا العهود وساعدوا عليه أعداءه المشركين الذين أخرجوه من دياره ووطنه وتبعوه إلى مَهْجَرِه يقاتلون فيه لأجل دينهم، وبذلك صاروا هم والمشركون سواء- أردف ذلك ذِكر ما يجب على المؤمنين في معاملتهم أثناء الحرب التي أصبحت لا مناص منها بما أحدثوه من الخيانة والغدر والبُداءة بالعدوان، وذلك سنة من سنن الاجتماع البشري، إذ حصول الصراع بين الحق والباطل والقوة والضعف أمر لا مندوحة منه.
تفسير المفردات :
وجنح للشيء إليه : مال، يقال جنحت الشمس للغروب : أي مالت إلى جانب الغرب الذي تغيب في أفقه. والسلم بفتح السين وكسرها والسلام : الصلح وضد الحرب، والإسلام دين السلم والسلام كما قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ﴾ ( البقرة : ٢٠٨ ) وحسبك الله : أي كافيك وناصرك عليهم.
الإيضاح :
﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾ أي وإن مال العدو عن جانب الحرب إلى جانب السلم ولم يعتز بقوته فاجنح لها، لأنك أولى بالسلم منهم.
﴿ وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ﴾ أي اقبل السلم وفوِّض الأمر إلى الله ولا تخف غدرهم ومكرهم، فالله هو السميع لما يقولون، العليم بما يفعلون، فلا يخفى عليه ما يأتمرون به من الكيد والخداع وإن خفي عليك.
﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ( ٦٠ )* وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٦١ ) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ( ٦٢ ) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٦٠-٦٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن أبان عز اسمه فيما سلف أن اليهود الذين عقدوا العهود مع النبي صلى الله عليه وسلم وبها أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم- قد خانوه ونقضوا العهود وساعدوا عليه أعداءه المشركين الذين أخرجوه من دياره ووطنه وتبعوه إلى مَهْجَرِه يقاتلون فيه لأجل دينهم، وبذلك صاروا هم والمشركون سواء- أردف ذلك ذِكر ما يجب على المؤمنين في معاملتهم أثناء الحرب التي أصبحت لا مناص منها بما أحدثوه من الخيانة والغدر والبُداءة بالعدوان، وذلك سنة من سنن الاجتماع البشري، إذ حصول الصراع بين الحق والباطل والقوة والضعف أمر لا مندوحة منه.
الإيضاح :
﴿ وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله ﴾ أي وإن يريدوا بجنوحهم للسلم الكيد والخداع ليفترصوا الفرص كانتظار الغِرّة التي تمكنهم من أهل الحق، أو الاستعداد للحرب، فالله يكفيك أمرهم وينصرك عليهم.
﴿ هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ﴾ أي إن من آثار عنايته بك أن أيدك بتسخير المؤمنين لك، وجعلهم أمة متحدة متآلفة متعاونة على نصرك، وأن سخر لك ما وراء الأسباب من خوارق العادات كالملائكة التي ثبتت القلوب يوم بدر.
﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ( ٦٠ )* وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٦١ ) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ( ٦٢ ) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٦٠-٦٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن أبان عز اسمه فيما سلف أن اليهود الذين عقدوا العهود مع النبي صلى الله عليه وسلم وبها أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم- قد خانوه ونقضوا العهود وساعدوا عليه أعداءه المشركين الذين أخرجوه من دياره ووطنه وتبعوه إلى مَهْجَرِه يقاتلون فيه لأجل دينهم، وبذلك صاروا هم والمشركون سواء- أردف ذلك ذِكر ما يجب على المؤمنين في معاملتهم أثناء الحرب التي أصبحت لا مناص منها بما أحدثوه من الخيانة والغدر والبُداءة بالعدوان، وذلك سنة من سنن الاجتماع البشري، إذ حصول الصراع بين الحق والباطل والقوة والضعف أمر لا مندوحة منه.
الإيضاح :
﴿ وألف بين قلوبهم ﴾ أي إنه تعالى جمعهم على الإيمان بك، وبذل النفس والمال في مناصرتك، بعد التفرق والتعادي الذي كان إثر حروب طويلة وضغائن موروثة كما كان بين الأوس والخزرج من الأنصار.
ونحو الآية قوله في سورة آل عمران :﴿ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ﴾ ( آل عمران : ١٠٣ ).
وقد كاد يقع شيء من التباغض بين المهاجرين والأنصار حين قسمة الغنائم في حُنين فكفاهم الله شر ذلك بفضله وحكمة رسوله.
وفي الآية إيماء إلى أن النصر يُنال بالأسباب التي من أهمها التآلف والاتحاد بفضل مقَدر الأسباب ورحمته بالعباد ومن جرّاء ذلك قال :
﴿ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ﴾ أي إنه لولا نعمة الله عليهم بأخوّة الإيمان التي هي أقوى من أخوّة الأنساب والأوطان- لما أمكنك أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية، فالضغائن الموروثة والدماء المسفوكة في الأنصار لا تزول بالأعراض الزائلة، وإنما تزول بصادق الإيمان الذي هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة كما أن التآلف بين أغنياء المهاجرين وفقرائهم، أشرافهم وعامتهم، على ما كان بينهم من فوارق في الجاهلية، وجمع كلمة البيوت والعشائر مع رسوخ العداوات والإحَنِ، لم يكن مما يُنال بالمال والآمال في المغانم ونحوها، على أن شيئا من ذلك لم يكن في يد الرسول أول الإسلام وإن كان قد صار في يده شيء كثير منه في المدينة بنصر الله له في قتال المشركين واليهود جميعا.
وكذلك جمع كلمة المهاجرين والأنصار على ما يدل به كل منهما بميزة لا تتوافر لسواه فالمهاجرون لهم مزية القرب من الرسول والسبق إلى الإيمان، والأنصار لهم ميزة المال والقوة وإنقاذ الرسول وقومه من ظلم مشركي مكة وإيواؤهم ومشاركتهم لهم في أموالهم، فكل هذا من عوامل التحاسد والتنازع ولولا فضل الله وعنايته، ومن ثم قال :
﴿ ولكن الله ألف بينهم ﴾ إذ هداهم إلى الإيمان الذي دعوتهم إليه فتآلفت قلوبهم.
ونحو الآية قوله :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ ( القصص : ٥٦ ).
وقد دلت التجارب على أن التآلف من أقوى وسائل التعاون وأنجعها، وأجدى وسائل التحاب والتآلف قوة الإيمان، ومن ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الرحم لتُقْطع، وإن النعمة لتُكْفَر، وإن الله إذا قارب بين القلوب قلم يزحزحها شيء، ثم قرأ :﴿ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ﴾ الآية.
﴿ إنه عزيز حكيم ﴾ أي إنه تعالى الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين ولا كيد الماكرين، الحكيم في أفعاله، فينصر الحق على الباطل، ويفضّل الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٦٤ ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ( ٦٥ ) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ( الأنفال : ٦٤-٦٦ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله رسوله بالجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء وربما كان جنوحهم لها مظنّة الخداع والمكر، ووعده أنه يكفيه أمرهم إذا أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب وضروب الإيذاء والشر، وامتن عليه بتأييده له بنصره بالمؤمنين، إذ سخرهم له وألف بين قلوبهم باتباعه- قفىّ على ذلك بوعده بكفايته له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف قلوبهم في حالي الحرب والسلم وجعل هذا تَقْدِمَة لأمره بتحريضهم على القتال حين الحاجة إليه، كما إذا بدأ العدو بالحرب أو نقض العهد أو خان في الصلح.
تفسير المفردات :
حسبك : أي كافيك ما يُهِمّك.
الإيضاح :
﴿ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ أي إن الله تعالى كاف لك كل ما يهمك من أمر الأعداء وغيرهم، وكاف لمن أيدك من المؤمنين.
ونحو الآية قوله :﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾ ( آل عمران : ١٧٣ ) وقوله :﴿ قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ﴾ ( الزمر : ٣٨ ).
وإذا كان دأب المؤمنين أن يقولوا ﴿ حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾ فأجدر بأنبيائه أن يكونوا أكمل توحيدا وتوكلا عليه من غيرهم ولاسيما خاتم أنبيائهم.
والمراد بالمؤمنين جماعتهم من المهاجرين والأنصار ولاسيما من شهد منهم بدرا.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٦٤ ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ( ٦٥ ) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ( الأنفال : ٦٤-٦٦ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله رسوله بالجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء وربما كان جنوحهم لها مظنّة الخداع والمكر، ووعده أنه يكفيه أمرهم إذا أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب وضروب الإيذاء والشر، وامتن عليه بتأييده له بنصره بالمؤمنين، إذ سخرهم له وألف بين قلوبهم باتباعه- قفىّ على ذلك بوعده بكفايته له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف قلوبهم في حالي الحرب والسلم وجعل هذا تَقْدِمَة لأمره بتحريضهم على القتال حين الحاجة إليه، كما إذا بدأ العدو بالحرب أو نقض العهد أو خان في الصلح.
تفسير المفردات :
والتحريض : الحث على الشيء. لا يفقهون : أي لا يدركون حكمة الحرب وما يقصد بها من سعادة في الدنيا والآخرة.
الإيضاح :
﴿ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ﴾ أي حرض المؤمنين على القتال ورغّبهم فيه لدفع عدوان الكفار من إعلاء كلمة الحق والعدل وأهلها على كلمة الباطل والظلم وأنصارهما، إذ ذاك من ضرورات الاجتماع البشري وسنة التنازع في الحياة والسيادة.
والخلاصة : حُثّهم على ما يقيهم أن يكونوا حَرَضا أو يكونوا من الهالكين بعدوان الكافرين عليهم وظلمهم إياهم إذا رأوهم ضعفاء مستسلمين.
﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ﴾ أي إن يوجد منكم عشرون صابرون يغلبوا بتأثير إيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الكافرين الذين جُرِّدوا من هذه الصفات الثلاث، وهذا عِدة منه تعالى وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكافرين بعون الله وتأييده.
والخلاصة : ليصبرنّ الواحد لعشرة، فجماعة المؤمنين الصابرين ترْجُحْ جماعة الكافرين بهذه النسبة العَشْرية، سواء قلوا أو كثروا بحيث يؤمرون بقتالهم وعدم الفرار منهم إذا بدءوهم بالقتال.
﴿ ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ أي أنتم تغلبونهم وهم بهذه النسبة بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما تفقهون من حكمة الحرب وما يراد بها من مرضاة الله عز وجل في إقامة سننه العادلة وإصلاح حال عباده بالعقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة ومن وجوب مراعاة أحكامه وسننه بإعداد كل ما يستطاع من قوة، ومن كون غاية القتال عند المؤمنين إحدى الحسنيين النصر والغنيمة الدنيوية، أو الشهادة والسعادة الأخروية.
وحالهم يخالف حالكم في كل ما تقدم، ولا سيما منكري البعث والجزاء منهم كمشركي العرب وفي ذلك العصر، واليهود الذين أعمتهم المطامع المادية وحب الشهوات، فهم أحرص على الحياة منكم لعدم اعتقادهم بسعادة أخروية، إلى أن أهل الكتاب يظنون أنهم يحصلون عليها بنسبهم وشفاعة أنبيائهم.
وفي الآية إيماء أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم، ومن ثم كانت المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين.
وهكذا كان المسلمون في العصور الأولى حين كانوا يعملون بهداية دينهم وكانوا بها أرباب ملك واسع وعز وجاه عريض ودانت لهم الشعوب الكثيرة، حتى إذا ما تركوا هذه الهداية زال مجدهم وسؤْدُدهم وذهب ريحهم ونزع منهم أكثر ذلك الملك.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٦٤ ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ( ٦٥ ) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ( الأنفال : ٦٤-٦٦ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله رسوله بالجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء وربما كان جنوحهم لها مظنّة الخداع والمكر، ووعده أنه يكفيه أمرهم إذا أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب وضروب الإيذاء والشر، وامتن عليه بتأييده له بنصره بالمؤمنين، إذ سخرهم له وألف بين قلوبهم باتباعه- قفىّ على ذلك بوعده بكفايته له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف قلوبهم في حالي الحرب والسلم وجعل هذا تَقْدِمَة لأمره بتحريضهم على القتال حين الحاجة إليه، كما إذا بدأ العدو بالحرب أو نقض العهد أو خان في الصلح.
تفسير المفردات :
والضعف- بالفتح والضم- : يشمل المادي والمعنوي، وقيل : هو بالضم لما يكون في البدن، وبالفتح لما يكون الرأي والعقل والنفس.
الإيضاح :
وبعد أن بيّن المرتبة العليا التي ينبغي أن تكون للمؤمنين، قفّى على ذلك ببيان ما دونها من مرتبة الضعف فقال :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت ﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ﴾ شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفر الواحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ﴾ قال : فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
وبهذا الحديث استدل العلماء على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما، سواء طلبهما، وسواء وقع ذلك وهو واقف في الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر.
والخلاصة : إن أقلّ حال للمؤمنين مع الكفار في القتال أن ترجح المائة منهم على المائتين والألف على الألفين، وإن هذه رخصة خاصة بحال الضعف كما كان الحال في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات وهو وقت غزوة بدر حين كان المؤمنون لا يجدون ما يكفيهم من القوت ولم يكن لديهم إلا فرس واحد، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدين للحرب، وكانوا أقل من ثلث المشركين الكاملي الأهْبَة والعُدّة.
ولما كملت للمؤمنين القوة كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم، وما تم لهم فتح ممالك الفرس والروم وغيرهم إلى بذلك.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده القدوة في ذلك فقد كان الجيش الذي أرسل إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله الحارث بن عُمَيْر الأزدي ثلاثة آلاف وكان الجيش الذي قاتلهم من الروم ومتنصرة العرب مائة وخمسين ألفا.
وقوله :﴿ بإذن الله ﴾ : أي بمعونته وتوفيقه، وبمعنى الآية قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ﴾ ( البقرة : ١٥٣ ).
وفي ذلك إيماء إلى أن من سنن الله في الغلب أن يكون للصابرين على غيرهم، وفي هذا تحذير للمؤمنين أن يغتروا بدينهم ويظنوا أن الإيمان وحده يقتضي النصر والغلب وإن لم يقترن بالصفات اللازمة لكماله، ومن أهمها وأعظمها الصبر والعلم بحقائق الأمور ومعرفة سنن الله في خلقه.
﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٦٨ ) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٦٨ ) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٦٧-٦٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في حال الغزو والجهاد أمام أعدائهم الكافرين من الصبر والثبات على القتال، ومن تفضيل السلم إذا جنح العدو إليها- قفّى على ذلك بذكر أحكام الأسرى لأن أمورهم يفصل فيها بعد القتال غالبا كما وقع في وقعة بدر وكما يقع في كل زمان.
روى ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال :( لما كان يوم بدر جيء بالأساري، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر : يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه : أنت في واد كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس رضي الله عنه وهو يسمع ما يقول : أقطعت رحمك ؟ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يردّ عليهم شيئا، فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس : يأخذ بقول عمر، وقال أناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( إن الله ليُلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدّه قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ؛ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال ﴿ فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾ ( إبراهيم : ٣٦ ) ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ ( المائدة : ١١٨ ). ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال :﴿ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ﴾ ( يونس : ٨٨ ) وإن مثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام قال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾ ( نوح : ٢٦ ) أنتم عالة فلا يفلتن أحد إلا بفداء أو ضرب عنق ) فقال عبد الله رضي الله عنه : يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ الحجارة مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إلا سهيل بن بيضاء ) فأنزل الله تعالى ﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى ﴾ إلى آخر الآيتين ).
روى أحمد من حديث ابن عباس قال :( لما أسروا الأساري يعني يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر :( ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ ) فقال أبو بكر : يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ) قال : لا والله لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ؛ فتمكن عليا من عقيل أخيه فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان- نسيب لعمر- فأضرب عنقه، ومكّن فلانا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.
فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة- شجرة قريبة منه ) وأنزل الله عز وجل ﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾.
وفي هذا الحديث تصريح بأن الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر في أكثر الروايات أبو بكر رضي الله عنه، لأنه أول من أشار بذلك، ولأنه أكبرهم مقاما.
وروى ابن المنذر عن قتادة قال : أراد أصحاب محمد الفداء يوم بدر ففادَوْهم بأربعة آلاف، أربعة آلاف.
تفسير المفردات :
الأسرى : واحدهم أسير، وهو من الأسر وهو الشد بالإسار أي القِدّ من الجلد، وكان من يؤخذ من العسكر في الحرب يشد لئلا يهرب، ثم صار يطلق على أخيذ الحرب وإن لم يُشدّ. والإثخان في كل شيء : قوّته وشدّته، يقال قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه، وكذلك أثخنته الجراح، والثخانة الغلظ، فكل شيء غليظ فهو ثخين. والعرض : ما يعرض ولا يدوم سمى به حطام الدنيا لأنه حدث قليل اللبث.
الإيضاح :
﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾ أي ما كان من شأن نبي من الأنبياء ولا من سنته في الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المنّ والفداء إلا بعد أن يثخن في الأرض، أي إلا بعد أن يعظم شأنه فيها ويتم له الغلب والقوة بقتل أعدائه، لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتال والقتل كما قال :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
إلى أن كثرة القتل توجد الرعب وشدة المهابة، وذلك يمنع من الجرأة والإقدام على ما لا ينبغي، ومن ثم أمر الله به.
وخلاصة ذلك : أن اتخاذ الأسرى إنما يكون خيرا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل- ففي المعركة الواحدة بإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين، وفي الحالة العامة التي تعم كل معركة وكل قتال ؛ فبإثخانهم في الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يُرْهِب الأعداء.
﴿ تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ﴾ أي تريدون عرض الدنيا الفاني الزائل وهو المال الذي تأخذونه من الأسرى فداء لهم، والله يريد لكم ثواب الآخرة الباقي بما يشرعه لكم من الأحكام الموصلة إليه ما دمتم تعملون بها، ويدخل في ذلك الاستعداد للقتال بقدر الاستطاعة إرادة الإثخان في الأرض والسيادة فيها لإعلاء كلمة الحق وإقامة العدل.
وفي ذلك إنكار لعمل وقع من جمهور المؤمنين على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم إقرار مثل هذا العمل، ومن ثم عاتبهم الله على ما فعلوا بعد بيان سنة النبيين، كما عاتب رسوله أيضا.
﴿ والله عزيز حكيم ﴾ ومن ثم يجعل أولياءه يغلبون أعداءه ويتمكنون منهم قتلا وأسرا، ويطلق لهم أخذ الفداء، لكنه يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعِزوا ونحو الآية قوله :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ ( المنافقون : ٨ ).
ولا تتم لهم العزة إلا بتقديم الإثخان في الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية بمثل فداء الأسرى من المشركين وهم في عُنْفُوان قوتهم وكثرتهم.
وعلى هذه القاعدة جرت الدول العسكرية في العصر الحديث، فإذا رأت من البلاد التي تحتلها أدنى بادرة من المقاومة بالقوة نكلت بأهلها أشد التنكيل، فتُخرّب البلاد وتقتل الأبرياء مع المشاغبين، بل لا تتعفف من قتل النساء والأطفال بنيران المدافع وقذائف الطائرات والدبابات.
ولكن الإسلام- وهو دين الرحمة والعدل- لا يبيح شيئا من ذلك. /خ٦٩
﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٦٨ ) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٦٨ ) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٦٧-٦٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في حال الغزو والجهاد أمام أعدائهم الكافرين من الصبر والثبات على القتال، ومن تفضيل السلم إذا جنح العدو إليها- قفّى على ذلك بذكر أحكام الأسرى لأن أمورهم يفصل فيها بعد القتال غالبا كما وقع في وقعة بدر وكما يقع في كل زمان.
روى ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال :( لما كان يوم بدر جيء بالأساري، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر : يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه : أنت في واد كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس رضي الله عنه وهو يسمع ما يقول : أقطعت رحمك ؟ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يردّ عليهم شيئا، فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس : يأخذ بقول عمر، وقال أناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( إن الله ليُلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدّه قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ؛ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال ﴿ فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾ ( إبراهيم : ٣٦ ) ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ ( المائدة : ١١٨ ). ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال :﴿ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ﴾ ( يونس : ٨٨ ) وإن مثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام قال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾ ( نوح : ٢٦ ) أنتم عالة فلا يفلتن أحد إلا بفداء أو ضرب عنق ) فقال عبد الله رضي الله عنه : يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ الحجارة مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إلا سهيل بن بيضاء ) فأنزل الله تعالى ﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى ﴾ إلى آخر الآيتين ).
روى أحمد من حديث ابن عباس قال :( لما أسروا الأساري يعني يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر :( ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ ) فقال أبو بكر : يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ) قال : لا والله لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ؛ فتمكن عليا من عقيل أخيه فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان- نسيب لعمر- فأضرب عنقه، ومكّن فلانا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.
فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة- شجرة قريبة منه ) وأنزل الله عز وجل ﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾.
وفي هذا الحديث تصريح بأن الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر في أكثر الروايات أبو بكر رضي الله عنه، لأنه أول من أشار بذلك، ولأنه أكبرهم مقاما.
وروى ابن المنذر عن قتادة قال : أراد أصحاب محمد الفداء يوم بدر ففادَوْهم بأربعة آلاف، أربعة آلاف.
تفسير المفردات :
ومسكم : أي أصابكم، وفيما أخذتم : أي لأجل ما أخذتم من الفداء.
الإيضاح :
﴿ ولولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ﴾ أي ولولا كتاب الله سبق في علمه الأزلي ألا يعذبكم الرسول فيكم وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم لمسكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم.
أخرج ابن المنذر عن نافع عن ابن عمر قال :( اختلف الناس في أسارى بدر، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر فادِهِمْ، وقال عمر اقتلهم، فقال قائل : أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدم الإسلام ويأمره أبو بكر بالفداء، وقال قائل :( لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أَمَر بقتلهم ).
فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر ففاداهم فنزل ﴿ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ﴾ فقال رسول الله :( إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر ). /خ٦٩
﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٦٨ ) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٦٨ ) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٦٧-٦٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في حال الغزو والجهاد أمام أعدائهم الكافرين من الصبر والثبات على القتال، ومن تفضيل السلم إذا جنح العدو إليها- قفّى على ذلك بذكر أحكام الأسرى لأن أمورهم يفصل فيها بعد القتال غالبا كما وقع في وقعة بدر وكما يقع في كل زمان.
روى ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال :( لما كان يوم بدر جيء بالأساري، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر : يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه : أنت في واد كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس رضي الله عنه وهو يسمع ما يقول : أقطعت رحمك ؟ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يردّ عليهم شيئا، فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس : يأخذ بقول عمر، وقال أناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( إن الله ليُلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدّه قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ؛ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال ﴿ فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾ ( إبراهيم : ٣٦ ) ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ ( المائدة : ١١٨ ). ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال :﴿ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ﴾ ( يونس : ٨٨ ) وإن مثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام قال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾ ( نوح : ٢٦ ) أنتم عالة فلا يفلتن أحد إلا بفداء أو ضرب عنق ) فقال عبد الله رضي الله عنه : يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ الحجارة مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إلا سهيل بن بيضاء ) فأنزل الله تعالى ﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى ﴾ إلى آخر الآيتين ).
روى أحمد من حديث ابن عباس قال :( لما أسروا الأساري يعني يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر :( ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ ) فقال أبو بكر : يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ) قال : لا والله لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ؛ فتمكن عليا من عقيل أخيه فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان- نسيب لعمر- فأضرب عنقه، ومكّن فلانا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.
فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة- شجرة قريبة منه ) وأنزل الله عز وجل ﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾.
وفي هذا الحديث تصريح بأن الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر في أكثر الروايات أبو بكر رضي الله عنه، لأنه أول من أشار بذلك، ولأنه أكبرهم مقاما.
وروى ابن المنذر عن قتادة قال : أراد أصحاب محمد الفداء يوم بدر ففادَوْهم بأربعة آلاف، أربعة آلاف.
الإيضاح :
وبعد أن عاتبهم على أخذ الفداء أباح لهم أكل ما أخذوه، وعدّه من جملة الغنائم التي أباحها لهم في أول السورة فقال :
﴿ فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ﴾ أي فكلوا مما غنمتم من الفدية حال كونه حلالا بإحلاله لكم، طيبا في نفسه لا خبث فيه مما حرم لذاته كالدم ولحم الخنزير.
﴿ واتقوا الله ﴾ في أن تعودوا إلى أكل شيء من أموال الناس كفارا كانوا أو مؤمنين من قبل أن يُحلّه لكم ربكم.
﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ أي إنه غفور لذنبكم بأخذ الفداء وإيثار جمهوركم لعرض الدنيا على ما يقتضيه إيثار الآخرة من طلب الإثخان أولا لإعزاز الحق وأهله بإذلال الشرك وكبْت حزبه، رحيم بكم إذ أباح لكم ما أخذتم، وأباح لكم الانتفاع به.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وخلاصة ما تقدم : إنه ليس من سنة الأنبياء، ولا مما ينبغي لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمن عليهم إلا بعد أن يكون له الغَلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين، لئلا يفضي أخذه فداء الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعدائهم وجرأتهم عليهم، وما فعله المؤمنون من مفاداة أسرى بدر بالمال كان ذنبا سببه إرادةُ جمهورهم عرض الحياة الدنيا قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة الله تعالى، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، ولولا كتاب من الله سبق من عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى وعلى خلاف سنته- لمسهم عذاب عظيم في أخذهم ذلك، وإنه أحل لهم ما أخذوا وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله لهم، والله غفور رحيم.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٧٠ ) وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٧٠-٧١ ).
المعنى الجملي : لما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الفداء من الأسرى شق عليهم أخذ أموالهم، فأنزل الله هذه الآية استمالة لهم وترغيبا في الإسلام ببيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة، وتهديدا وإنذارا لهم ببقائهم على الكفر وخيانته صلى الله عليه وسلم وبشارة للنبي صلى الله عليه وسلم، بحسن العاقبة والظفر له ولمن تبعه من المؤمنين.
روي أن الآية نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب ونَوْفل بن الحارث وكان العباس أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر، فلم تبلغه النوبة حتى أسر، فقال العباس : كنت مسلما إلا أنهم أكرهوني، فقال عليه الصلاة والسلام :( إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا )، قال العباس : فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب عليّ فقال :( أما شيء خرجت لتستعين به علينا فلا )، قال : وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحارث، فقال العباس : تركتني يا محمد أتكفف قريشا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أين الذهب الذي دفعته أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني ؟ فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل، فقال العباس : وما يريدك ؟ قال أخبرني ربي ) قال : فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابا في أمرك، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب.
قال العباس : فأبدلني الله خيرا من ذلك، لي الآن عشرون عبدا، وإنّ أدناهم ليضرب في عشرين ألفا، وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال مكة ؛ وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
الإيضاح :
﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ﴾ أي قل للذين في أيديكم من الأسرى الذين أخذتم منهم الفداء : إن كان الله تعالى يعلم أن في قلوبكم الآن إيمانا أو سيظهر في حينه- كما يدّعي بعضكم - يعطكم إذ تُسْلِمون ما هو خير لكم مما أخذه المؤمنون منكم من الفداء بما تشاركونهم في المغانم وغيرها من النعم التي وعد المؤمنون بها.
روى أبو الشيخ عن ابن عباس : أن العباس وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله فنزل :﴿ إن يعلم الله في قلوبكم خيرا ﴾ الآية.
﴿ ويغفر لكم والله غفور رحيم ﴾ أي ويغفر لكم ما كان من الشرك وما استتبعه من السيئات والأوزار، والله غفور لمن تاب من كفره وذنوبه، رحيم بالمؤمنين فيشملهم بعنايته وتوفيقه ويعدّهم للسعادة في الدنيا والآخرة.
وفي ذلك من الحضّ على الإسلام والدعوة إليه ما لا يخفى.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٧٠ ) وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٧٠-٧١ ).
المعنى الجملي : لما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الفداء من الأسرى شق عليهم أخذ أموالهم، فأنزل الله هذه الآية استمالة لهم وترغيبا في الإسلام ببيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة، وتهديدا وإنذارا لهم ببقائهم على الكفر وخيانته صلى الله عليه وسلم وبشارة للنبي صلى الله عليه وسلم، بحسن العاقبة والظفر له ولمن تبعه من المؤمنين.
روي أن الآية نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب ونَوْفل بن الحارث وكان العباس أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر، فلم تبلغه النوبة حتى أسر، فقال العباس : كنت مسلما إلا أنهم أكرهوني، فقال عليه الصلاة والسلام :( إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا )، قال العباس : فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب عليّ فقال :( أما شيء خرجت لتستعين به علينا فلا )، قال : وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحارث، فقال العباس : تركتني يا محمد أتكفف قريشا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أين الذهب الذي دفعته أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني ؟ فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل، فقال العباس : وما يريدك ؟ قال أخبرني ربي ) قال : فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابا في أمرك، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب.
قال العباس : فأبدلني الله خيرا من ذلك، لي الآن عشرون عبدا، وإنّ أدناهم ليضرب في عشرين ألفا، وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال مكة ؛ وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
الإيضاح :
﴿ وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل ﴾ أي وإن يريدوا خيانتك بإظهار الميل إلى الإسلام والرغبة عن قتال المسلمين، فلا تخف مما عسى أن يكون من خيانتهم وعودتهم إلى القتال، فإنهم قد خانوا الله من قبل، فنقضوا الميثاق الذي أخذه على البشر بما أقامه على وحدانيته من الدلائل العقلية والكونية، وبما آتاهم من العقل الذي يتدبرون به سنن الله في خلقه.
﴿ فأمكن منهم ﴾ يقال مكنه من الشيء وأمكنه منه. أي فمكنك أنت وصحبك منهم بنصرك عليهم ببدر مع التفاوت العظيم بين قوتك وقوتهم وعددك وعددهم، وهكذا سيمكنك ممن يخونوك من بعد.
﴿ والله عليم حكيم ﴾ فهم يعلم ما ينتوونه وما يستحقونه من عقاب، حكيم يفعل ما يفعل بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة، فينصر المؤمنين ويظهرهم على الكافرين.
وفي الآية من العبر :
إنه يجب على المؤمنين ترغيب الأسرى في الإيمان، وإنذارهم عاقبة الخيانة إذا ثبتوا على الكفر وعادوا إلى البغي والعدوان.
إن فيها بشارة للمؤمنين باستمرار النصر وحسن العاقبة في كل قتال يقع بينهم وبين المشركين ما داموا محافظين على أسباب النصر المادية والمعنوية التي عُلِمتْ مما تقدم.
روى البخاري عن أنس أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك فداء عمه العباس رضي الله عنه وكان في أسرى المشركين يوم بدر فقالوا : ائذن لنا فنترك لابن أختنا العباس فداءه كانت ( كانت جدته أنصارية ) فقال صلى الله عليه وسلم :( والله لا تذرون منه درهما ).
وقد كان فداء الأسير أربعين أوقية ذهبا، فجعل على العباس مائة أوقية وعلى عَقيل ثمانين فقال له العباس : أللقرابة صنعت هذا ؟ قال : فأنزل الله تعالى ﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ﴾ الآية. فقال العباس بعد إسلامه : وودت لو كان أخذ مني أضعافها لقوله تعالى :﴿ يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ﴾ ا ه.
وبعد أن ذكر تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم وما يجب أن يعمل مع الأسرى ختم السورة بولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزم ذلك، وولاية الكافرين بعضهم لبعض، ثم أمر بالمحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار ما دام العهد محفوظا غير منبوذ ولا منكوث فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٧٢ ) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ( ٧٣ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ( ٧٤ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٧٢-٧٥ ).
المعنى الجملي : قسم الله المؤمنين أربعة أقسام، وبين حكم كل منها ومنزلته من بينها :
المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية.
الأنصار الذين كانوا بالمدينة وآووا النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون عند هجرتهم إليهم.
المؤمنون الذين لم يهاجروا.
المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
الإيضاح :( ١ ) ﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ أي هؤلاء الكلمة هم المؤمنون الذين هجروا أوطانهم فرارا بدينهم من فتنة المشركين إرضاء لربهم ونصرا لرسوله صلى الله عليه وسلم، ﴿ وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ : أي بذلوا الجهد بقدر الوسع، واقتحموا المشاق.
أما ما كان من بذل الأموال فهو قسمان :
ما ينفق في التعاون والهجرة والدفاع عن دين الله ونصر دينه وحماية رسوله.
ما يكون بسخاء الأنفس بترك ما تركوه في أوطانهم عند خروجهم منها.
وما كان من بذل الأنفس فهو أيضا ضربان :
قتال الأعداء وعدم المبالاة بكثرة عَددهم وعُددهم.
ما يكون قبل القتال من احتمال المشاق ومغالبة الشدائد والصبر على الاضطهاد والهجرة من البلاد، وما يصحب ذلك من سَغَب وتعب ونحو ذلك.
( ٢ ) ﴿ والذين آووا ونصروا ﴾ أي والذين آووا الرسول ومن هاجر من أصحابه ونصروهم وأمنوهم من المخاوف، فقد كانت يثرب ملجأ المهاجرين، شاركهم أهلها في أموالهم وآثروهم وعلى أنفسهم وقاتلوا من قاتلهم وعادَوْا من عاداهم، ومن جَراء هذا جعل الله حكمهم حكم المهاجرين في قوله :
﴿ أولئك بعضهم أولياء بعض ﴾ أي يتولى بعضهم من أمر الآخرين ما يتولونه من أمر أنفسهم حين الحاجة إلى التعاون والتناصر في القتال وما يتعلق به من الغنائم لأن حقوقهم ومرافقهم مشتركة، ويجب عليهم كفاية المحتاج، وإغاثة المضطر منهم.
﴿ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ﴾ الولاية بفتح الواو وكسرها، وقيل : هي بالفتح خاصة بالنصرة والمعونة والنسب والدين، وبالكسر في الإمارة وتولي الأمور العامة، لأنها من قبيل الصناعات والحرف، أي إن المؤمنين المقيمين في أرض المشركين وتحت سلطانهم وحكمهم، ودارهم دار الحرب وشرك لا يثبت لهم شيء من ولاية المؤمنين الذين في دار الإسلام، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم.
أما من أسرة الكفار من دار الإسلام فله حكم أهل هذه الدار، ويجب على المسلمين السعي في فكاكهم بقدر ما يستطيعون من الحول والقوة، بل يجب بذل هذه الحماية لأهل الذمة أيضا.
﴿ وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ أي إنه لا ولاية لكم عليهم إلا إذا قاتلهم الكفار أو اضطهدوهم لأجل دينهم وطلبوا نصركم عليهم، فعليكم أن تساعدوهم بشرط أن يكون الكفار حربيين لا عهد بينكم وبينهم، أما إن كانوا معاهدين فيجب الوفاء بعهدهم ولا تباح خيانتهم وغدرهم بنقض العهود والمواثيق.
﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ فعليكم أن تقفوا عند حدوده، وأن تراقبوه وتتذكروا اطلاعه على أعمالكم، وتتوخَّوْا فيها الحق والعدل ؛ وتتقوا الهوى الذي يصد عن ذلك.
وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سرا وجهرا امتازت الشريعة الإسلامية على الشرائع الوضعية، فشعار أهلها الوفاء بالعهود والبعد عن الخيانة والغدر.
وإن أعظم دول المدينة في العصر الحاضر تنقض عهودها جهرة متى وجدت الفرصة سانحة، ولاسيما عهودنا للضعفاء، وتتخذها خداعا مع الأقوياء، وما أكثر ما تنقضها بالتأويل والتحايل في التفسير إذا رأت في ذلك مصلحتها، حتى قال رئيس الدولة الألمانية : ما المعاهدات إلا قصاصات ورق، وقال بسمارك أكبر ساسة هذه الدولة : المعاهدات حجة القوي على الضعيف، وأبرع الساسة في التفَصّي منها والتأويل هم الإنكليز.
وبعد أن ذكر تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم وما يجب أن يعمل مع الأسرى ختم السورة بولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزم ذلك، وولاية الكافرين بعضهم لبعض، ثم أمر بالمحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار ما دام العهد محفوظا غير منبوذ ولا منكوث فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٧٢ ) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ( ٧٣ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ( ٧٤ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٧٢-٧٥ ).
المعنى الجملي : قسم الله المؤمنين أربعة أقسام، وبين حكم كل منها ومنزلته من بينها :
المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية.
الأنصار الذين كانوا بالمدينة وآووا النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون عند هجرتهم إليهم.
المؤمنون الذين لم يهاجروا.
المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
الإيضاح :
﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ﴾ أي في النصرة والتعاون على قتال المشركين، فهم في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين. وإن كانوا شيعا يعادي بعضهم بعضا، ولم يكن في الحجاز حين نزلت هذه السورة إلا المشركون واليهود، وكان اليهود يتولون المشركين وينصرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونقضوا العهود التي كانت بينه وبينهم فقاتلهم حين أجلاهم من خَيْبَر.
﴿ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾ أي إن لم تفعلوا ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، ومن تناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم، ومن الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار إلى أن ينقضي عهدهم وينبذوه على سواء- يقع من الفتنة والفساد في الأرض ما فيه أعظم الضرر عليكم بتخاذلكم الذي يفضي إلي فشلكم وظفر الأعداء بكم واضطهادكم في دينكم بصدكم عنه كما وقع ذلك بضعفائكم بمكة قبل الهجرة.
وبعد أن ذكر تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم وما يجب أن يعمل مع الأسرى ختم السورة بولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزم ذلك، وولاية الكافرين بعضهم لبعض، ثم أمر بالمحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار ما دام العهد محفوظا غير منبوذ ولا منكوث فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٧٢ ) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ( ٧٣ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ( ٧٤ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٧٢-٧٥ ).
المعنى الجملي : قسم الله المؤمنين أربعة أقسام، وبين حكم كل منها ومنزلته من بينها :
المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية.
الأنصار الذين كانوا بالمدينة وآووا النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون عند هجرتهم إليهم.
المؤمنون الذين لم يهاجروا.
المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
الإيضاح :
ثم فضل الله المهاجرين والأنصار على غيرهم فقال :
﴿ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا ﴾ أي هؤلاء المهاجرون والأنصار هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله دون من لم يهاجر وأقام بدار الشرك ولم يغز مع المسلمين عدوهم.
ثم وعدهم بحسن العاقبة فقال :
﴿ لهم مغفرة ورزق كريم ﴾ أي لهم مغفرة تامة من ربهم تمحو ما فرط منهم من السيئات، ورزق كريم في دار الجزاء، لأنهم قد تركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال وأعرضوا عن سائر اللذات الجسمانية، وعملوا ما يقربهم من ربهم في دار النعيم.
وبعد أن ذكر تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم وما يجب أن يعمل مع الأسرى ختم السورة بولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزم ذلك، وولاية الكافرين بعضهم لبعض، ثم أمر بالمحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار ما دام العهد محفوظا غير منبوذ ولا منكوث فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٧٢ ) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ( ٧٣ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ( ٧٤ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ( الأنفال : ٧٢-٧٥ ).
المعنى الجملي : قسم الله المؤمنين أربعة أقسام، وبين حكم كل منها ومنزلته من بينها :
المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية.
الأنصار الذين كانوا بالمدينة وآووا النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون عند هجرتهم إليهم.
المؤمنون الذين لم يهاجروا.
المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
﴿ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ﴾ أي والذين تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى وهاجروا وجاهدوا معكم أعداءكم- فأولئك منكم أي فيلتحقون بالمهاجرين الأولين والأنصار وبما تقدم من الولاية والجزاء.
وفي جعلهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين يرشد إلى ذلك قوله تعالى :﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ﴾ ( الحديد : ١٠ ) وقوله :﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ ( التوبة : ١٠٠ ).
ولا يخفى ما في الآية من ترغيب في الإيمان والهجرة.
﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ أولوا الأرحام : هم أصحاب القرابات، والأرحام واحدها رحم : بزنة قُفْل وكَتِف، وأصله رحم المرأة وهو موضع تكوين الولد، سمي به الأقارب لأنهم من رحم واحد، أي وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتعاون والتناصر، وبالتوارث في دار الهجرة في ذلك العهد وفي كل عهد، وقوله :﴿ في كتاب الله ﴾، أي في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين، وأوجب به عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذي القربى.
والخلاصة : إن القريب ذا الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره ومقدم عليه في جميع الولايات المتعلقة به كولاية النكاح وصلاة الجنازة وغيرها، وإذا وجد قريب وبعيد يستحقان البر والصلة فالقريب أولى كما قال تعالى :﴿ وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين ﴾ ( النساء : ٣٦ ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا )، أي فللمستحق من الأجانب.
﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ أي فهو سبحانه إنما شرع لكم هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود والمواثيق وصلة الأرحام وأحكام القتال والغنائم وسنن التشريع، والأحكام- عن علم واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدينية والدنيوية، ونحو الآية قوله :﴿ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ﴾ ( الأعراف : ٥٢ ).
زادنا الله علما يفقه كتابه، ووفقنا للعمل بأحكامه وآدابه، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه هو السميع المجيب.
Icon