تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
( مدنية، وآياتها خمس وسبعون )
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ أي عن الغنائم، وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهرا بقتال : جمع نفل، وأصله للزيادة. تقول : نفلتك وأنفلتك، أي زدتك. وسميت أنفالا لأنها زيادة خص الله تعالى بها هذه الأمة، إذ كانت محرمة على من قبلهم من الأمم. سأل بعض أهل بدر النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمها، حين تنازعها في قسمتها، فنزلت الآية باختصاص حكمها بالله ورسوله، يقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم كما أمره الله تعالى، فقسمها بينهم على السواء.
﴿ و أصلحوا ذات بينكم ﴾ بعد أن أمرهم الله تعالى بالتقوى وامتثال أمره وأمر رسوله، أمرهم بإصلاح ذات بينهم.
﴿ و ذات ﴾ كلمة بمعنى صاحبة، ولا تستعمل إلا مضافة إلى الظاهر، كذات الصدور، وذات الشوكة، والبين يطلق على الوصلة وعلى الفرقة، أي راعوا أحوالا تحقق اتصالكم، وهي ما يقتضيه كمال الإيمان من الموادة والمصافاة فاحرصوا عليها. أو راعوا أحوالا توجب فرقتكم فاجتنبوها. ثم وصف الله كاملي الإيمان بالصفات الخمس الآتية، ترغيبا للسائلين والاتصاف بها.
﴿ و جلت قلوبهم ﴾خافت وفزعت، استعظاما لجلالته، وحذرا من عقابه. والوجل : استشعار الخوف. يقال : وجل وجلا فهو وجل، إذا خاف. ﴿ زادتهم إيمانا ﴾أي زادتهم تلاوتها تصديقا ويقينا. والتصديق لا شك في تفاوته للفرق الظاهر بين تصديق الأنبياء وآحاد الناس، ولتفاوت مراتب اليقين إلى علم اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين. ﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ يعتمدون فيفوضون أمورهم كلها إليه تعالى وحده، فلا يرجون غيره، ولا يطلبون إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه.
﴿ يقيمون الصلاة ﴾( آية ٣ البقرة١٥ ). ﴿ أولئك هم المؤمنون ﴾ أي أولئك المتصفون بهذه الصفات، الجامعون بين الإيمان والعمل، هم المؤمنون إيمانا حقا، أي ثابتا صدقا، وهو الإيمان الكامل.
﴿ كما أخرجك ربك ﴾ أي حال بعض أهل بدر في كراهة قسمة الغنيمة بالسوية، مثل حال بعضهم في كراهة الخروج للقتال، مع ما في هذه القسمة والقتال من الخير. فالكاف بمعنى مثل، خير لمبتدأ محذوف وهو المشبه، والمذكور هو المشبه به، ووجه الشبه مطلق الكراهة، ما يترتب على كل من المكروهين من الخير للمؤمنين.
و قد وقعت في هذه الغزوة كراهتان بحكم الطبيعة البشرية، أعقبها إذعان وتسليم ورضى من الصحابة رضوان عليهم. الأولى- كراهة شبان أهل بدر قسمة الغنيمة بالسوية، وكانوا يحبون الاستئثار بها، لأنهم هم الذين باشروا القتال دون الشيوخ الذين كانوا معهم في الغزوة، مع أنهم كانوا ردءا لهم. فكان في الأمر بالقسمة بالسوية خير للمؤمنين، إذ أصلح الله بينهم وردهم إلى حالة الرضا والصفاء والثانية- كراهة بعض أهل بدر قتال قريش، بعد نجاة العير التي خرجوا لأجلها، لخروجهم من غير استعداد للقتال لا بعدد ولا بعدد، فكان في القتال الذي أمروا به عزة الإسلام وخضد شوكة الكفر والطغيان. وفي هذه الآية تنويه بأن الخير فيما قدره الله لا فيما يظنون.
﴿ يجادلونك في الحق.. ﴾ أي يجادلونك في أمر القتال بقولهم : ما كان خروجنا إلا للعير دون تأهب للقتال. ﴿ بعد ما تبين لهم ﴾ الحق بإعلامك أنهم ينصرون أينما توجهوا، وقد أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل نجاة العير بأن الله وعده الظفر بإحدى الطائفتين : العير أو النفير، فلما نجت العير علم أن الظفر الموعود به إنما هو على النفير والعير : الإبل الحاملة لأموالهم، الآتية من الشام إلى مكة. والنفير : المشركون الذين استنفرهم أبو سفيان للقتال دون العير. والطائفة من الناس : الجماعة منهم. ومن الشيء : القطعة منه.
﴿ ذات الشوكة ﴾ أي السلاح. أو الشدة والقوة. وذات الشوكة هي النفير. وقد أحبوا أن تكون لهم طائفة العير دون طائفة النفير التي فيها القتال بالسلاح، ولكن الله أراد لهم وللإسلام ما هو خير، فمكنهم من أعدائهم وأعز الإسلام بنصرهم ﴿ و يقطع دابر الكافرين ﴾أي آخرهم ( آية ٤٥ الأنعام ص ٢٢٣ ) وقد هلك في هذه الغزوة صناديد قريش وعصابة المستهزئين، وهو أئمة الكفر في مكة.
﴿ إذ تستغيثون ربك ﴾ تطلبون منه الغوث والنصر على عدوكم. والغوث : التخليص من الشدة، فأجاب دعاءكم بأنه مرسل إليكم مددا ألفا من الملائكة﴿ مردفين ﴾ أي متتابعين بعضهم في إثر بعض.
يقال : أردفته وردفته بمعنى تبعته. وقد قاتلت الملائكة في بدر على الصحيح، ولم تقاتل في غيرها، وإنما كانت تنزل لتكثير عدد المسلمين( آية ١٢٤و ١٢٥ آل عمران ص ١٢٣ ).
﴿ إذ يغشيكم النعاس ﴾ يجعله غاشيا لكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم، من غشاه تغشية غطاه. والنعاس : أول النوم قبل أن يثقل. ﴿ أمنة منه ﴾ تعالى لكم، يزيل به عن قلوبكم الرعب ويقويكم بالاستراحة به على القتال في الغد. مصدر بمعنى الأمن، هو طمأنينة القلب وزوال الخوف. يقال : أمنت من كذا أمنة وأمنا وأمانا، بمعنى﴿ رجز الشيطان ﴾ وسوسته لكم وتخويفه إياكم من العطش. وأصل الرجز : الاضطراب، ويطلق على كل ما تشتد مشقته على النفوس.
﴿ أني معكم ﴾ أي بالعون والنصر. وقد بين الله ذلك بقوله :﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ أي الخوف والانزعاج. وأصله : الانقطاع من امتلاء النفس بالخوف من المكروه﴿ فضربوا فوق الأعناق ﴾ بيان لكيفية التثبيت. والأعناق : الرءوس. والبنان : الأصابع، جمع بنانة، من قولهم : ابن الرجل بالمكان، وبن يبن إذا أقام به. وسميت بنانا لأن بها إصلاح الأحوال التي بها يمكن أن يبن أي يقيم. وقيل البنان هنا " مطلق الأطراف لوقوعها في مقابلة الأعناق.
﴿ شاقوا الله ورسوله ﴾ خالفوا أمرهما. والمشاقة : المخالفة وأصلها المجانية، لأنهم صاروا في شق وجانب عن شق المؤمنين وجانبهم.
﴿ زحفا ﴾ زاحفين نحوكم، أو يزحفون زحفا لقتالكم. والزحف : انبعاث مع جر الرجل، كانبعاث الصبي قبل أن يمشى، والبعير إذا أعيا. أو هو الدبيب في السير. سمي به الجيش الكثيف المتوجه للعدو، لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه جسم واحد يزحف ببطء وإن كان سريع السير.
﴿ فلا تولوهم الأدبار ﴾ أي تديروا لهم ظهوركم منهمزين، والمنهزم يولي ظهره من انهزم منه.
والأدبار : جمع دبر، وهو خلاف القبل، ويطلق على الظهر وهو المراد هنا.
﴿ إلا متحرفا لقتال ﴾أي إلا أن يكون في توليه منعطفا عن موقفه إلى موقف آخر أصلح للقتال فيه. أو إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء. أو خادعا للعدو بالفرة، مريدا الكرة، والحرب خدعة. وأصل التحرف : الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف والطرف، ومنه الاحتراف والتحريف. ﴿ أو متحيزا إلى فئة ﴾ أو إلا أن يكون في توليه منحازا إلى جماعة أخرى من الجيش، ومنضما إليها للتعاون معها على القتال، من التحيز وهو الانضمام. يقال : حزت الشيء أحوزه، إذا ضممته. والفئة : الجماعة من الناس، سميت فئة لرجوع بعضهم إلى بعض في التعاضد، وجمعها فئات
﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ﴾ أي فلم تقتلوهم بحولكم وقوتكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم، ولكن الله هو الذي أظفركم بهم بحوله وقوته. ﴿ وما رميت ﴾ بالرعب يوم بدر في قلوب الأعداء
﴿ إذ رميت ﴾ في وجوههم بالحصباء﴿ ولكن الله رمى ﴾ بالرعب في قلوبهم فهزهم ونصركم عليهم.
أو ما أوصلت الحصباء إلى أعينهم، أو رميتهم بها ولكن الله هو الذي أوصلها إليها. ﴿ ليبلى المؤمنين منه ﴾ اللام للتعليل متعلقة بمحذوف مؤخر، أي وليحسن إليهم وينعم عليهم بالنصر والغنيمة فعل ما فعل، لا لشيء آخر، والبلاء هنا محمول على الإحسان والنعمة، ويطلق أيضا على المحنة. وأصله الاختبار، وهو كما يكون بالنقمة لإظهار الشكر، يكون بالمحنة لإظهار الصبر.
﴿ إن تستفتحوا ﴾ إن تطلبوا لأعلى الجندين وأهدى الفئتين فقد جاءكم النصر من حيث نصر الأعلى والأهدى. قيل لهم هذا تهكما بهم. روى أنهم حين أرادوا الخروج إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر على الجندين وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، فكان ذلك في نفس الأمر دعاء على أنفسهم، لا على الرسول وأصحابه.
﴿ إن شر الدواب... ﴾نزلت في نفر من بني عبد الدار بن قصى، كانوا يقولون : نحن صم بكم عمى عما جاء به محمد، فقتلوا جمعا يوم بدر، ولم يسلم منهم إلا رجلان. وإطلاق الدابة على الإنسان حقيقي، لأنها تطلق على كل حيوان في الأرض مميزا أو غير مميز.
﴿ أن الله يحول بين المرء وقلبه ﴾ أي يحول بين المرء وخواطر قلبه، فيمنعه من حصول ما لم يرده منه، فلا يقدر الإنسان أن يدرك شيئا من إيمان أو كفر، أو أن يعي شيئا إلا بمشيئته تعالى، من الحول بين الشيء والشيء، بمعنى الحجز والفصل بينهما. وهو مجاز عن غاية قربه تعالى من العبد.
﴿ واتقوا فتنة ﴾ احذروا ابتلاء من الله تعالى ومحنة تنزل بكم، تعم المسيء وغيره، كالقحط والغلاء، وتسلط الظلمة وغير ذلك. والمراد التحذير من الذنوب التي هي أسباب الابتلاء، كإقرار المنكرات والبدع والرضا بها، والمداهنة في الأمر بالمعروف، وافتراق الكلمة في الحق، وتعطيل الحدود، وفشو المعاصي ونحو ذلك. وفي حديث عائشة مرفوعا( إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأهل الأرض بأسه ) فقالت : وفيهم أهل لطاعة الله ؟ قال :( نعم ثم يصبرون إلى رحمة الله ).
﴿ لا تخونوا الله والرسول ﴾ أي بترك فرائض الله وسنن رسوله وارتكاب المعاصي، من الخون وهو النقص. يقال : خونه تخوينا، نسبه إلى الخيانة ونقصه. والخائن : ينقص المخون شيئا مما خانه فيه.
﴿ يجعل لكم فرقانا ﴾ هداية في قلوبكم، تفرقون بها بين الحق والباطل. أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل. أو مخرجا من الشبهات. أو نجاة مما تخافون. أو جميع ذلك.
﴿ ليثبتوك ﴾ أي بالوثاق. أو بالإثخان بالجراح حتى لا تستطيع حراكا، ومنه : رجل مثبت، لا حراك به من المرض. وأثبته السقم : إذا لم يفارقه. ﴿ ويمكر الله ﴾يرد مكرهم، ويحبط كيدهم، ويدبر أمرك ويحفظك منهم. أو يجازيهم على مكهرهم ( آية ٥٤ آل عمران ص ١٠٩ ).
﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا ﴾ أي مثل هذا القرآن﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ما سطروه في كتبهم من الأحاديث المكذوب، والقصص المتخيلة ( آية ٢٥ الأنعام ص ٢١٩ ).
﴿ وإذ قالوا.. ﴾
القائل هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، قاله استهزاءا وإمعانا في الجحود، فنزل جوابا له.
﴿ و ما كان الله ليعذبهم ﴾ أي وما كان الله مريدا لتعذيبهم تعذيب استئصال، وأنت مقيم بين أظهرهم بمكة. وقد جرت سنة الله ألا يهلك قرية مكذبة وفيها نبيها والمؤمنون به، حتى يخرجهم منها ثم يعذب الكافرين﴿ و ما كان الله معذبهم... ﴾أي وما كان الله معذب هؤلاء الكافرين وبين أظهرهم بمكة من المؤمنين المستضعفين من يستغفر الله، وهم الذين لم يستطيعوا الهجرة حين هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو كقوله تعالى :﴿ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ﴾ وإسناد الاستغفار إلى ضمير الجمع لوقوعه فيما بينهم، ولجعل ما صدر عن البعض بمنزلة ما صدر عن الكل، كقولهم : بنوا تميم قتلوا فلانا، والقاتل أحدهم.
﴿ و ما لهم ألا يعذبهم الله ﴾ وأي شيء يمنع من عذابهم بعد خروجك وخروج المستضعفين من بين أظهرهم، أي لا مانع منه بعد ذلك خصوصا بعد وجود مقتضيه. وقد أوقع الله بهم بأسه يوم بدر فقتل صناديدهم، وأسر سراتهم وأذلوا.
﴿ مكاء ﴾ صفيرا. يقال : مكا الطير يمكوا مكوا ومكاء، إذا صفر. وهو في الأصل اسم طائر أبيض يوجد بالحجاز له صفير. ﴿ و تصدية ﴾ تصفيفا. وكانوا يطوفون بالبيت عراة، يصفرون ويصفقون، وكانوا إذا سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي ويتلوا القرآن صفروا وصفقوا، ليخلطوا عليه قراءته، ويشغلوا عنه من يسمعه.
﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ﴾نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا أثنى عشر رجلا من قريش – منهم أبو جهل- يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر. ﴿ ثم تكون عليهم حسرة ﴾ أي ندامة وأسفا لقواتها من غير ثمرة. يقال : حسر يحسر، ندم. والحسرة اسم منه، وهي التلهف والتأسف على الفائت ( آية١٦٧ البقرة ص ٥٥ ).
﴿ فيركمه جميعا ﴾ يجمعه ويضم بعضه إلى بعض. يقال : ركم الشيء يركمه، إذا جمعه وألقى بعضه على بعض. وارتكم الشيء وتراكم : اجتمع، ومنه :﴿ سحاب مركوم ﴾.
﴿ لا تكون فتنة ﴾ لا يوجد منهم شرك. أو لا يفتتن مؤمن عن دينه.
﴿ واعلموا أنما غنمتم... ﴾ الغنيمة : ما أخذ من أموال الكفار قهرا بقتال : أو إيجاف خيل أو ركاب، من الغنم وهو الفوز. يقال : غنم غنما وغنيمة، إذا ظفر بالشيء. وأما ما أخذ منها بغير قتال ولا إيجاف فهو الفيء، وسيأتي في سورة الحشر. والغنيمة تخمس، فيعطى أربعة أخماسها ملكا للمقاتلة الذين احرزوها. والخمس الباقي كان في عهد النبوة خمسة أسهم : للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وقوله :﴿ فأن لله خمسه ﴾ أي فحكمه أن لله خمسه. وذكر الله تعالى لبيان أنه لا بد في الخمس من إخلاصه له تعالى، وأنه هو الحاكم به فيقسمه كيف شاء. ليس المراد أن له سهما منه مفردا، لأن له كل شيء، فسهم الله وسهم رسوله شيء واحد. وأما بعده صلى الله عليه وسلم فقد سقط سهمه كما سقط سهم ذوي القربى، وإنما يعطون لفقرهم ولا يعطى أغنياؤهم، فيقسم الخمس على اليتامى وا لمساكين وأبناء السبيل. وقيل : يصرف سهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعده لمصالح المسلمين وما فيه قوة لهم. وتفصيل المذاهب في قسمة الخمس وفي الفيء في كتب الفروع. ﴿ يوم الفرقان ﴾أي يوم بدر، الذي فرق فيه بين الحق والباطل.
﴿ بالعدوة الدنيا.. ﴾ بجانب الوادي وحافته الأقرب إلى المدينة، ﴿ و هم بالعدوة القصوى ﴾أي الجانب الآخر الأبعد. و﴿ الركب ﴾أي العير وأصحابها أبو سفيان ومن معه﴿ أسفل منكم ﴾أي في مكان أسفل من مكانكم إلى ساحل البحر الأحمر، على ثلاثة أميال من بدر. ﴿ و لو تواعدتم لاختلفتم ﴾أي لو تواعدتم أنتم وهم للقتال، ثم علمتم حالهم وحالكم لتخلفتم عن لقائهم في الميعاد، هيبة منهم وبأسا من الظفر بهم، بسبب قلتكم وكثرتهم، وضعفكم وقوتكم، ﴿ ولكن ﴾تلاقيتم على غير موعد ﴿ ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾ وهو نصركم وخذلانهم ﴿ ليهلك من هلك عن بينة ﴾ ليموت من مجال للتعليل بالأعذار. أو ليكفر من كفر، ويؤمن من آمن عن حجة واضحة ظاهرة.
﴿ لفشلتم ﴾ لجبنتم وتهيبتم الإقدام عليهم، لكثرة عددهم وعددهم. من الفشل وهو ضعف مع جبن.
﴿ و يقللكم في أعينهم ﴾حين الالتقاء قبل الالتحام، حتى قال أبو جهل : إنما هم أكلة جزور.
وذلك ليجترئوا، ويتركوا الاستعداد والاستمداد. ثم عند الالتحام كثركم في أعينهم حتى رأوكم مثليهم، لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا ( آية ١٣آل عمران ص ٩٩ ).
﴿ وتذهب ريحكم ﴾ قوتكم ودولتكم. وأطلق على الدولة – بالفتح – ريح لشبهها بها في نفوذ الأمر وتمشيه. تقول العرب : هبت رياح فلان، إذا دالت له الدولة، وجرى أمره على ما يريد. وذهبت رياحه : إذ ولت عنه وأدرب أمره.
﴿ ولا تكونوا كالذين خرجوا ﴾ نزلت في مشركي مكة الذين خرجوا الاستنقاذ العبر﴿ بطرا ﴾ طغيانا في النعمة بترك شكرها، واتخاذها وسيلة إلا ما لا يرضى الله. أو فخرا وخيلاء،
والبطر : دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها، وصرفها إلى غير وجهها. وفعله كفرح ﴿ ورئاء الناس ﴾ ومراءاة للناس ليحمدوا لهم شجاعتهم وسماحتهم.
﴿ و إني جار لكم ﴾ مجير ومعين وناصر لكم. والجار : الذي يجير غيره، أي يؤمنه مما يخاف. والجار : الناصر والحليف. ﴿ نكص على عقبيه ﴾ رجع القهقري وولى هاربا. أو بطل كيده
وذهب ما خيله إليهم من النصرة والعون. يقال : نكص عن الأمر نكوصا ونكصا، تكأكأ عنه
و أحجم. والعقب : مؤخر القدم. ونكص على عقبيه : رجع عما كان عليه من خير.
﴿ ولا ترى إذ يتوفى... ﴾ ولو رأيت ما يصيب قتلى بدر من أشد صنوف العذاب حين تقبض الملائكة أرواحهم، لرأيت منظرا فظيعا.
﴿ ليس بظلام للعبيد ﴾ أي ليس بذى ظلم لهم، إذ يعذبهم بسبب ما قدمت أيدهم من الذنوب، بل ذلك عدل. فظلام صيغة نسب، كلبان وتمار، أو هي صيغة مبالغة والتكثير لكثرة العبيد، كأنه قيل : ليس بظالم لفلان ولا بظالم لفلان، وهكذا، فلما جمع هؤلاء عدل إلى ظلام لذلك.
﴿ كدأب آل فرعون ﴾( آية ١١ آل عمران ص ٩٩ ).
﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيرا.. ﴾ ذلك التعذيب على الأعمال السيئة عدل إلاهي، فقد جرت سنته تعالى في خلقه، واقتضت حكمته في حكمه ألا يبدل نعمة بنقمة إلا بسبب ارتكاب الذنوب، فإذا لم يتلق المنعم عليهم نعمته تعالى بالشكر والطاعة، وقابلوها بالكفر والعصيان، بدل نعمهم بنقم جزاء وفاقا، وهو كقوله تعالى :﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾
﴿ إن شر الذنوب ﴾ نزلت في يهود قريظة، الذين عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم على ألا يمالئوا عليه، فأعانوا المشركين بالسلاح واعتذروا، ثم عاهدهم بعد ذلك فنكثوا ومالئوا المشركين عليه يوم الخندق، وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة فخالف المشركين على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم. فهم شر الدواب في حكم الله، لتماديهم في الكفر ورسوخهم فيه، ولذا قال تعالى :﴿ فهم لا يؤمنون ﴾.
﴿ فإما تثقفهم في الحرب... ﴾ فإن ظفرت بهم في الحرب فافعل بهم فعلا من القتل والتنكيل تفرق به جمع كل ناقض للعهد، حتى يخافك من وراءهم من أهل مكة وغيرها. يقال : ثقفه يثقفه، صادفه أو ظفر به أو أدركه. وشردت بني فلان : قلعتهم عن مواطنهم وطردتم عنها حتى فارقوها.
﴿ و إما تخافن من قوم خيانة ﴾ أي وإما تعلمن من قوم بينك وبينهم عهد مشارفتهم نقضه خيانة منهم، بأمارات تلوح لك كما ظهر من بني النضير فاطرح إليهم عهدهم﴿ على سواء ﴾ أي على طريق مستو ظاهر، بأن تعلمهم بنبذك عهدهم قبل أن تحاربهم، حتى تكون أنت وهم في العلم بنبذ العهد سواء، فلا يتوهم أحد فيك الغدر.
أما إذا ظهر نقضهم العهد ظهورا مقطوعا به، فلا حاجة إلى إعلامهم بالنبذ : إلقاء الشيء
وطرحه لقلة الاعتداد به، وفعله كضرب. والسواء : المساواة والعدل والوسط.
﴿ و لا يحسبن الذين كفروا... ﴾ لا يحسبن كفار مكة الذين نجوا يوم بدر من القتل والأسر أنفسهم قد سبقوا الله، فخلصوا من عذابه ونجوا منه. ﴿ إنهم لا يعجزون ﴾ أي لا يجدونه عاجزا عن إدراكهم. أو لا يفوتونه بل يدركهم بعذابه لا محالة. يقال : أعجزه الشيء أي فاته. وقوله :﴿ إنهم ﴾ تعليل للنهي.
﴿ وأعدو لهم ما استطعتم ﴾ أي أعدو لقتال أعدائكم : ما أمكنكم من كل ما يتقوى به عليهم في الحرب، من نحو حصون وقلاع وسلاح، وآلات ومصانع، وتعليم للفروسية وفنون الحرب.
وما روى من تفسير القوة بالرمى فإنما هو على سيبل المثال، وخص بالذكر أنه كان إذ ذاك أقوى ما يتقوى به، فهو من قبيل :( الحج عرفة، والندم توبة ). ولذا فسرها ابن عباس بأنواع الأسلحة، وعكرمة بالحصون والمعاقل. ﴿ ومن رباط الخيل ﴾ أي ومن ربط الخيل للغزو، وخصت بالذكر من بين ما يتقوى به لمزيد فضلها وغنائها في الحرب. ﴿ ترهبون به عدو الله ﴾ تخوفون بهذا الأعداد أعداء الله ﴿ وعدوكم ﴾ أعداءكم وهم كفار مكة ﴿ و آخرين من دونهم ﴾ أي من غيرهم من الكفار كالمنافقين واليهود. والرهبة والرهب : مخافة مع تحرز واضطراب. يقال : رهب يرهب رهبة ورهبا، خاف.
﴿ و إن جنحوا للسلم ﴾ أي إن مال الأعداء المحاربون إلى المسالمة والمصالحة على المهادنة
والأمان فمل إليها، واقبل ذلك منهم، ما دام في خير وصلاح بين للإسلام وأهله، ولذلك قبل الرسول صلى الله عليه وسلم الصلح مع المشركين عام الحديبية على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، مع ما اشترطوا من الشروط. أما المصالحة على الجزية فلا تصح إلا مع أهل الكتاب، لا، المشركين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. يقال : جنح إليه يجنح – مثلث النون – جنوحا، مال. والسلم- بفتح السين وكسرها يؤنث ويذكر - : الاستسلام والصلح والمهادنة.
﴿ و إن يريدوا أن يخدعوك ﴾ نزلت في بني قريظة. أي وإن أرادوا بإظهار الميل إلى السلم الخديعة لتكف عنهم أو ليستعدوا، فصالحهم مع ذلك إذا كان فيه مصلحة ظاهرة للإسلام وأهله، ولا تخش منهم، فإن الله كافيك بنصره ومعونته، وقد أيدك الله بنصره ومعونته، وقد أيدك الله بنصره والمؤمنين، وألف بين قلوبهم فتحابوا في الله، واجتمعوا لإعلاء كلمته، واتبعوا أمرك وأطاعوك. ويظهر لي – والله أعلم – أنها من قضايا الأعيان الخاصة بالرسول المقطوع بتأييده ونصره، كما يشير إليه التعليل في الآية.
﴿ حسبك الله ومن اتبعك ﴾ أي كافيك الله وكافي متبعيك من المؤمنين، وناصركم ومؤيدكم
على عدوكم، وإن كثر عددهم وقل عددكم، وحسب : صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل،
والكاف في محل جر.
﴿ حرض المؤمنين على القتال ﴾ بالغ في حثهم وإحمائهم على القتال بصبر وجلد، من التحريض وهو الحث على الشيء بكثرة التزيين له وتسهيل الخطب فيه. كأنه في الأصل إزالة الحرض، وهو الإشراف على الهلاك من شدة الضنى، نحو مرضته، أي أنزلت عنه المرض. ﴿ إن يكن منكم عشرون صابرين... ﴾ خبر بمعنى الأمر. ففرض الله على المؤمنين أول الأمر ألا يفر الواحد من العشرة من الكفار، وكان ذلك في وسعهم، فأعز الله بهم الدين على قلتهم وخذل بأيديهم المشركين على كثرتهم، وكانت السرايا تهزم من المشركين أكثر من عشر أمثالها تأييدا من الله لدينه. ولما شق على المؤمنين الاستمرار على ذلك، وضعفوا عن تحمله، ولم يبق ضرورة لدوام هذا الحكم لكثرة عدد المسلمين ممن دخلوا في دين الله أفواجا نزل التخفيف، ففرض على الواحد الثبات للاثنين من الكفار، ورخص له في الفرار إذا كان العدو أكثر من اثنين. وهو – كما اختاره مكي- رخصة كالفطر للمسافر. وذهب الجمهور إلى أنه نسخ.
﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى ﴾ استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسرى بدر، فأشار أبو بكر باستبقائهم رجاء توبتهم، وأخذ فدية منهم تكون قوة للمسلمين. وأشار عمر – اجتهاد منه- وآخرون بقتلهم إعزازا للإسلام. فمال صلى الله عليه وسلم إلى الرأي الأول. وكان فداء كل أسير أربعين أوقية من الذهب، إلا العباس ففداؤه ثمانون. فنزلت الآية عتابا على الإقدام على الفداء قبل الإثخان اللازم له قوة الإسلام له وعزته والمعنى : ما ينبغي لنبي أن يكون له أسرى﴿ حتى يثخن في الأرض ﴾ أي حتى يبالغ في قتال الأعداء، إذلالا للكفر وإعزازا لدين الله، من الثخانة، وهي في الأصل الغلظ والصلابة. يقال : ثخن الشيء يثخن ثخونة وثخانة وثخنا، غلظ وصلب فهو ثخين. ثم استعمل في النكاية في العدو فقيل : أثخن فيه، أي بالغ فيه قتلا وجراحة، لأنه بذلك يمنعه من الحركة فيصير كالثخين الذي يسيل.
﴿ تريدون عرض الدنيا ﴾ أي حطامها وهو الفداء ﴿ و الله يريد الآخرة ﴾ أي يريد لكم ثوابها بسبب الإثخان في أعداء دينه.
﴿ لولا كتاب ﴾ لولا حكم ﴿ من الله سبق ﴾ في كتابه ألا يعذب قوما قبل تقديم البيان إليهم. أو ألا يعذب المخطئ في الاجتهاد. أو سبق بإحلال الغنائم ومنها الفداء، لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء قبل أن تؤمروا به ﴿ عذاب عظيم ﴾.
﴿ فكلوا مما غنمتم.. ﴾ لما نزلت الآية السابقة كف الصحابة علما أخذوا من الفداء، فنزلت هذه الآية بيان لحل أخذه، إذ هو من الغنيمة.
﴿ فأمكن منهم ﴾ فأقدرك الله عليهم حسبما رأيت يوم بدر، فإن عادوا إلى الخيانة فسيمكنك الله منهم ويقدرك عليهم. يقال : مكنته من الشيء وأمكنته منه فتمكن واستمكن.
﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا ﴾أي سبقوا إلى الهجرة قبل عام الحديبية، وهو عام ست من الهجرة. ﴿ والذين آووا ونصرهم ﴾ هم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سماهم الأنصار
لنصرتهم له ولدين الله ﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ في النصرة والميراث. روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين هؤلاء المهاجرين والأنصار، فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري، إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري وبالعكس، واستمر ذلك إلى فتح مكة، ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة ﴿ والذين آمنوا ولم يهاجروا... ﴾ أي ليس بين المؤمنين الذين لم يهاجروا وبين المهاجرين وبين الأنصار ولاية الإرث، إذا كان بينهم
وبينهم قرابة وعصوبة لانقطاع حكمها بسبب عدم الهجرة، وإنما بينهم بحكم الإسلام ولاية النصر إلا على قوم معاهدين.
﴿ و الذين آمنوا من بعد وهاجروا... ﴾ أي من بعد صلح الحديبية وقبل الفتح وهاجروا، وهي الهجرة الثانية ﴿ فأولئك منكم ﴾ أي مثلكم في النصرة والموالاة، وإن كانوا أنزل درجة من السابقين في الهجرة.
﴿ وأولوا الأرحام... ﴾ وأولوا القرابات بعضهم أولى ببعض في الميراث. فنسخ بهذه الآية ما كان بين المهاجرين والأنصار من التوارث بالهجرة والمؤاخاة. والله أعلم