تفسير سورة الأنفال

مراح لبيد
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة الأنفال
مدنية، غير قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، خمس وسبعون آية، ألف ومائتان وثلاث وأربعون كلمة، خمسة آلاف وثلاثمائة وثمانية وثمانون حرفا
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ أي يسألك يا أشرف الخلق أصحابك منهم: سعد بن أبي وقاص أو قرابتك عن الغنائم يوم بدر وسميت الغنائم أنفالا، لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم، ولأنها عطية من الله تعالى زائدة على الثواب الأخروي للجهاد. قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي قل يا أشرف الخلق حكم الأنفال يوم بدر مختص به تعالى يقسمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم كيف أمر به من غير أن يدخل فيه رأي أحد فَاتَّقُوا اللَّهَ في أخذ الغنائم واتركوا المنازعة فيها وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي أصلحوا الحال فيما بينكم بترك النزاع وتسليم أمر الغنائم إلى الله ورسوله وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أمر الصلح وارضوا بما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) فالإيمان لا يتم حصوله إلا بالتزام هذه الطاعة فاحذروا الخروج عنها إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي إنما الكاملون في الإيمان الذين فزعت قلوبهم لمجرد ذكر الله من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله استعظاما له تعالى.
وقال أصحاب الحقائق: الخوف على قسمين: خوف العقاب، وخوف العظمة والجلال.
أما خوف العقاب: فهو للعصاة. وأما خوف الجلال والعظمة: فهو لا يزول عن قلب أحد من المحققين سواء كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا وكل من كان أعرف بجلال الله كان هذا الخوف في قلبه أكمل، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أي الله التي هي القرآن زادَتْهُمْ إِيماناً أي يقينا بقول الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) أي ويعتمدون بالكلية على فضل الله وينقطعون بالكلية عما سوى الله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يتمون الصلوات الخمس بحقوقها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أي ويؤدون زكاة أموالهم أُولئِكَ أي الموصوفون بالصفات الخمس هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أي
416
إيمانا حقا، لأنهم حققوا إيمانهم بضم الأعمال القلبية والقالبية إليه لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فمراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة وَمَغْفِرَةٌ بأن يتجاوز الله عن سيئاتهم.
وقال العارفون: هي إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) - قال هشام بن عروة هو ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) أي إنهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من المدينة بسبب حق يظهر وهو علو كلمة الإسلام والنصر على أعداء الله، والحال أن فريقا من المؤمنين لكارهون الخروج للقتال لقلة العدد، أو المعنى الأنفال ثابتة لله ثبوتا بالحق كإخراجك من بيتك بالمدينة بالحق أي بالوحي،
وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم: أبو سفيان، وعمرو بن العاص، وعمرو بن هشام. فأخبر جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا وبلغوا وادي دقران وهو قريب من الصفراء نزل عليه صلّى الله عليه وسلّم جبريل فقال: يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا فاستشار النبي أصحابه فقال: «ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير؟» - وهو اسم عسكر مجتمع- فقالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو.
فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم ردد عليهم فقال: «إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل» - أي بجميع أهل مكة- «ومضى إلى بدر» فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير، ودع العدو. فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام عند ذلك أبو بكر وعمر فأحسنا في القول، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فامض، فو الله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال مقداد بن عمرو: يا رسول الله امض كما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «أشيروا عليّ أيها الناس». فقال سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقي بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله ففرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبسطه قول سعد ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم»
«١». يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ تلقي النفير
(١) رواه الطبري في التفسير (٩: ١٢٤)، وابن كثير في التفسير (٣: ٥٥٧)، والبيهقي في دلائل النبوة (٣: ٣٤)، وابن كثير في البداية والنهاية (٣: ٢٦٢).
417
بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أي بعد إعلامك أنهم ينصرون أينما توجهوا وجدالهم هو قولهم ما كان خروجنا إلا للعير وهلا ذكرت لنا القتال لنتأهب له وكان ذلك لكراهتهم القتال كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف إلى القتل والحال أنهم ينظرون إلى أسباب الموت وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ أي واذكروا وقت أن يعدكم الله بأن إحدى الطائفتين العير أو العسكر مختصة بكم تسلطون عليها تسلط الملاك وتنصرفون فيهم كيف شئتم وَتَوَدُّونَ أي وتحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ أي القوة تَكُونُ لَكُمْ وهو العير إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، ورئيسهم أبو سفيان وذات الشوكة: وهي العسكر وهم ألف مقاتل ورئيسهم أبو جهل وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يثبت النصر على الأعداء بِكَلِماتِهِ أي بأسباب النصر من أوامره تعالى للملائكة بالإمداد وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) والمعنى أنتم تريدون سفساف الأمور وهو العير للفوز بالمال والله تعالى يريد معاليها بأن تتوجهوا إلى النفير لما فيه من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين لِيُحِقَّ الْحَقَّ أي ليظهر الشريعة ويقوى الدين وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أي وليظهر بطلان الباطل بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤساء الباطل وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) أي المشركون ذلك الإظهار إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ أي تطلبون منه الغوث كأن يقولوا: ربنا انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا أي فرّج عنا.
قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف استقبل القبلة ومديده وهو يقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» «١» ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ورده أبو بكر، ثم التزمه ثم قال: كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فنزلت هذه الآية
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ بدل من «إذ يعدكم» معمول لعامله، ويجوز أن يكون العامل في «إذ» هو قوله تعالى: «ويبطل الباطل» فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ أي معينكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩).
وقرأ عيسى بن عمر، ويروى أيضا عن عمرو «إني» بكسر الهمزة على إضمار القول، أو على إجراء «استجاب» مجرى قال. والعامة على فتح الهمزة بتقدير حرف الجر. وقرأ نافع أبو بكر بن عاصم، ويروى عن قنبل أيضا «مردفين» بفتح الدال، أي إن الله أردف المسلمين بهم وأيدهم بهم بمعنى إن الملائكة كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم. والباقون بكسرها أي متتابعين يأتي بعضهم إثر بعض.
(١) رواه أحمد في (م ١/ ص ٣٢).
418
وروي أنه نزل جبريل بخمسمائة، وقاتل بها في يمين العسكر وفيه أبو بكر، ونزل ميكائيل بخمسمائة قاتل بها في يسار الجيش وفيه على وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة عيانا إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ أي بالأمداد قُلُوبُكُمْ كما كانت السكينة لبني إسرائيل كذلك وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا من عند غيره أي إن الله ينصركم أيها المؤمنون فثقوا بنصره، ولا تتكلوا على قوتكم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي قاهر لا يقهر، حَكِيمٌ (١٠) فيما ينزل من النصرة فيضعها في موضعها
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ أي يجعل الله النعاس مغطيا لكم آمنا من خوف العدو من الله تعالى وإذ بدل ثان من إذ يعدكم.
قال الزجاج: محلها نصب على الظرفية، والمعنى وما جعله الله إلا بشرى في ذلك الوقت.
قرأ العامة «يغشيكم» بضم الياء والفتح الغين وتشديد الشين، وقرأ نافع بضم الياء وسكون الغين والفاعل في الوجهين هو الله تعالى، وقرأ أبو عمر وابن كثير «يغشاكم» بفتح الياء والشين وسكون الغين و «النعاس» فاعل، أي إذ يلقى عليكم النوم الخفيف أمانا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم، وحصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على زوال الخوف وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً. قرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الأحداث، وفي الخبر:
«أن المشركين سبقوا إلى موضع الماء وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة، وعطش المؤمنون وخافوا من أن يأتيهم العدو في تلك الحالة، وأكثرهم احتملوا وموضعهم كان رملا تغوص فيه الأرجل، ويرتفع فيه الغبار الكثير. وكان الخوف في قلوبهم شديدا بسبب كثرة العدو وكثرة آلتهم، فلما أنزل الله ذلك المطر صار ذلك دليلا على حصول النصرة وعظمت النعمة به» وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسته. روي أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم تمثل لهم إبليس وقال: أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء، فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي، واتخذ المسلمون حيضانا واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي ليحفظ قلوبكم بالصبر وَيُثَبِّتَ بِهِ أي الماء الْأَقْدامَ (١١) على الرمل فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فإنه تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي فانصروهم وبشروهم بالنصرة.
وقد روي أنه كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه فيأتي ويقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن ويمشي بين الصفين فيقول: أبشروا فإن الله تعالى ناصركم سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي المخافة من محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ
(١٢) أي فاضربوا رؤوسهم واضربوا أطراف
419
الأصابع، أي اضربوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلها كيف شئتم لأن الله تعالى ذكر الأشرف والأخس فهو إشارة إلى كل الأعضاء. لِكَ
أي لقاؤهم الخزي من الوجوه الكثيرةأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أي خالفوهما في الأوامر والنواهي مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
(١٣) أي ومن يخالفهما فإن الله يعاقبه في القيامة وهو شديد العقاب فالذي نزل بهم في ذلك اليوم قليل بالنسبة لما أعده الله لهم من العقاب في القيامة ذلِكُمْ أي الأمر ذلكم فالخطاب للكفرة فَذُوقُوهُ في الدنيا وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤) والمعنى حكم الله ذلكم من أن ثبوت هذا العقاب لكم عاجلا وثبوت عذاب النار لكم آجلا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً أي مثل الزاحفين على أدبارهم في بطء السير لاجتماعهم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم قل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ بأن يخيل عدوه أنه منهزم، ثم ينعطف عليه أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي متنحيا إلى جماعة أخرى من المؤمنين لينضم إليهم، ثم يقاتل معهم العدو فَقَدْ باءَ أي رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) والفرار من الزحف من أكبر الكبائر إذا لم يزد العدد على الضعف فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أنتم بقوتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، أي فلم تؤثر قوتكم في قتلهم ولكن التأثير لله وَما رَمَيْتَ يا أكرم الرسل إِذْ رَمَيْتَ أي وما رميت في الحقيقة وقت رميت التراب إلى وجوه المشركين وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي أوصل رميك إليهم.
روي أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني». فنزل إليه جبريل وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال صلّى الله عليه وسلّم لعلي رضي الله عنه: «أعطني قبضة من التراب من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم وقال: شاهدت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه»
فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ولكن الله قتلهم»، «ولكن الله رمى» بكسر النون مخففة ورفع اسم الجلالة وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ولينعم الله عليهم من رمي التراب نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والثواب، وهذا معطوف على قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتهم عَلِيمٌ (١٧) بأحوال قلوبهم الداعية إلى الإجابة ذلِكُمْ أي الأمر ذلكم أي البلاء الحسن وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) معطوف على ذلكم. وقرأ حفص عن عاصم موهن كيد بالإضافة وسكون الواو. وقرأ ابن عامر والكوفيون بعدم الإضافة، ونافع وابن كثير وأبو عمرو كذلك لكن مع فتح الواو وتشديد الهاء أي والأمر أن الله مضعف صنيع الكافرين
420
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ.
قال الحسن ومجاهد والسدي: وهذا خطاب للكفار على سبيل التهكم بهم. وقال السدي:
إن المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا أستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين. والمعنى إن تستنصروا أيها الكفار لأعلى الجندين فقد جاءكم النصر لأعلاهما وقد زعمتم أنكم الأعلى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهزيمة، فالتهكم في نفس الفتح، وإن تنتهوا عن قتال الرسول وعداوته وتكذيبه فهو خير لكم في الدين بالخلاص من العقاب. والفوز بالثواب، وفي الدنيا بالخلاص من القتل والأسر والنهب، وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى تسليط المسلمين على قتلكم ولن تدفع عنكم جماعتكم شيئا من الضرر ولو كثرت. وقيل: هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى إن تستنصروا أيها المؤمنون فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وعن طلب الفداء على الأسرى فهو خير لكم، وإن تعودوا إلى تلك المنازعة نعد إلى ترك نصرتكم ثم لا تنفعكم كثرتكم وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩).
قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «وأن» بفتح الهمزة وهو خبر مبتدأ محذوف، أي والأمر أن الله مع الكاملين في الإيمان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الإجابة إلى الجهاد وإلى ترك المال إذا أمره بتركه وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أي ولا تعرضوا عن الرسول أي عن قبول قوله وعن معونته في الجهاد وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) دعاءه إلى الجهاد
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا بألسنتهم سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) أي إنا قبلنا تكاليف الله تعالى، والحال أنهم بقلوبهم لا يقبلونها إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) أي إن شر كل حيوان في حكم الله تعالى من لا يسمع الحق ولا ينطق به ولا يفقه أمر الله تعالى.
قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدار بن قصي كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، فقتلوا جميعا يوم بدر وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أي ولو حصل في بني عبد الدار خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تفهم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ بعد أن علم أنه لا خير فيهم لَتَوَلَّوْا عنها ولم ينتفعوا بها وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) أي والحال أنهم مكذبون بها. قيل:
إن الكفار سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحيى لهم قصي بن كلاب وغيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوته صلّى الله عليه وسلّم فبين الله تعالى أنه لو علم فيهم خيرا وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم الله تعالى حتى يسمعوا كلامهم ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون: أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك إلا على سبيل العناد والتعنت وإنه لو أسمعهم الله كلام
421
قصي وغيره لتولوا عن قبول الحق على أدبارهم ولأعرضوا عما سمعوه بقلوبهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ أي أجيبوا الله والرسول بحسن الطاعة إذا دعاكم الرسول إلى ما فيه سبب حياتكم الأبدية من الإيمان أو القرآن أو الجهاد.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرّ على باب أبي بن كعب وهو في الصلاة، فدعاه، فعجل في صلاته، ثم جاء فقال صلّى الله عليه وسلّم له: «ما منعك عن إجابتي؟» قال: كنت في الصلاة، قال: «ألم تخبر فيما أوحي إلي اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ» «١» فقال: لا جرم لا تدعوني إلا أجيبك
وَاعْلَمُوا يا معشر المؤمنين أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أي يحول بين المرء وبين ما يريده بقلبه فإن الأجل يحول دون الأمل، فكأنه قال تعالى: بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء فإن ذلك غير موثوق به.
وقال مجاهد: المراد من القلب هنا العقل، أي فإن الله يحول بين المرء وعقله، والمعنى فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون فإنكم لا تأمنون زوال العقل والله يحول بين المرء والكافر وطاعته ويحول بين المرء المطيع ومعصيته والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن
يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»
«٢» ولا يستطيع المرء أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه تعالى وَأَنَّهُ أي واعلموا أن الشأن إِلَيْهِ أي الله تعالى تُحْشَرُونَ (٢٤) في الآخرة فيجزيكم بحسب مراتب أعمالكم فسارعوا إلى طاعة الله ورسوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصروا على الظالمين خاصّة بل تتعدى إليكم جميعا وتصل إلى الصالح والطالح، وحذر تلك الفتنة بالنهي عن المنكر فالواجب على كل من رآه أن يزيله إذا كان قادرا على ذلك فإذا سكت عليه فكلهم عصاة هذا بفعله وهذا برضاه وقد جعل الله تعالى الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة.
وعلامة الرضا بالمنكر: عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي فلا يتحقق كون الإنسان كارها له إلا إذا تألم له تألمه لفقد ماله أو ولده فكل من لم يكن
بهذه الحالة فهو راض بالمنكر فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشر سببه، والمعنى الزموا الاستقامة خوفا من عذاب الله تعالى وَاذْكُرُوا يا معشر المهاجرين إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ في العدد في أول الإسلام مُسْتَضْعَفُونَ فِي
(١) رواه ابن حجر في فتح الباري (٨: ٣٠٧).
(٢) رواه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: ٨٩، وابن ماجة في كتاب الدعاء، باب: دعاء الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأحمد في (م ٤/ ص ١٨٢).
422
الْأَرْضِ أي مقهورون في أرض مكة تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ تخافون إذا خرجتم من البلد أن تأخذكم مشركو العرب بسرعة لشدة عداوتهم لكم ولقربهم منكم فَآواكُمْ أي نقلكم إلى المدينة فصرتم آمنين من كفار مكة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ أي قواكم بنصرته يوم بدر وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي من الغنائم وهي كانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) هذه النعم العظيمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ في الدين وفي الإشارة إلى بني قريظة أن لا تنزلوا على حكم سعد بن معاذ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ فيما بينكم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) أن ما وقع منكم خيانة.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاصر يهود بني قريظة خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار فسألوه صلّى الله عليه وسلّم الصلح كما صالح بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم في أذرعات وأريحا من الشام، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا:
أرسل إلينا أبا لبابة وهو رفاعة بن عبد المنذر نستشيره في أمرنا وكان مناصحا لهم لأن ماله وعياله عندهم، فأرسله إليهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى لنا أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه أي حكم سعد هو القتل فلا تفعلوا فكان منه خيانة لله ورسوله وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة لأنه يشغل القلب بالدنيا ويصيّره حجابا عن خدمة المولى وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
(٢٨) فإن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم في الشرف وفي المدة لأنها تبقى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً أي نجاة مما تخافون في الدارين وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي يسترها في الدنيا وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي يزلها في الآخرة وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) على عباده بالمغفرة والجنة وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي واذكر يا أشرف الخلق وقت احتيالهم بك في إيصال الضرر والهلاك لِيُثْبِتُوكَ أي ليسجنوك أو ليثبتوك بالوثائق كما قرئ ليقيدوك أَوْ يَقْتُلُوكَ بسيوفهم أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكة وَيَمْكُرُونَ أي يريدون هلاكك يا أكرم الرسل وَيَمْكُرُ اللَّهُ أي يرد مكرهم عليهم، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا ما لقوا وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) أي أقواهم فكل مكر يبطل في مقابلة فعل الله تعالى.
قال المفسرون: إن مشركي قريش عرفوا لما أسلمت الأنصار أن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يظهر، فاجتمع نفر من كبار قريش في دار الندوة. أي في الدار التي يقع فيها الاجتماع للتحدث ورؤوسهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان وطعيمة بن عدي، وجبير بن معطم والحرث بن عامر، والنضر بن الحرث، وأبو البحتري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل، وأمية بن خلف، ونبيهة ومنبه ابنا الحجاج ودخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا من أهل
423
نجد، وتشاوروا في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عمرو بن هشام: قيدوه وسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء. فقال إبليس: لا مصلحة فيه لأنه يغضب له قومه فنسفك فيه الدماء. فقال أبو البحتري بن هشام: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم، فقال إبليس: لا مصلحة فيه لأنه يجمع طائفة على نفسه ويقاتلكم بهم، وقال أبو جهل: الرأي أن نجمع من كل قبيلة رجلا فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على محاربة قريش كلها، فيرضون بأخذ الدية. فقال إبليس: هذا هو الرأي الصواب. فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن له في الهجرة إلى المدينة،
وأمر عليا أن يبيت في مضجعه وقال له: تسج ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه وهم المشركون بالولوج عليه صلّى الله عليه وسلّم فصاحت امرأة من الدار فقال بعضهم لبعض: إنها لسبة في العرب أن يتحدثوا عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا سر حرمتنا، وباتوا مترصدين على الباب، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الباب وأخذ تعالى أبصارهم عنه فأخذ قبضة من تراب ونثره على رؤوسهم كلهم ومضى هو وأبو بكر إلى الغار، فلما أصبحوا ساروا إلى مضجعه صلّى الله عليه وسلّم فأبصروا عليا فقالوا له: وأين صاحبك؟ فقال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخله لم تنسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثا من الليالي ثم قدم المدينة
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي القرآن قالُوا قَدْ سَمِعْنا ما قال محمد صلّى الله عليه وسلّم لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) أي ما هذا القرآن إلا ما كتب الأولون من القصص.
روي أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة بلدة بقرى الكوفة تاجرا، واشترى أحاديث كليلة ودمنة وكان يقعد مع المستهزئين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين، كالفرس والروم وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين وإسناد القول إلى الكل مع أن القائل هو النضر لما أنه كان رئيسهم وقاضيهم وهو الذي يقولون بقوله ويأخذون برأيه. وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا أي الذي يقوله محمد صلّى الله عليه وسلّم هُوَ الْحَقَّ بالنصب خبر كان ودخلت هو للفصل مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ عقوبة على إنكارنا أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) غير الحجارة قاله النضر استهزاء وقد أسره المقداد يوم بدر فقتله النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو قاله أبو جهل وقد ذبحه ابن مسعود يوم بدر وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ أي لا يفعل الله بهؤلاء الكفار عذاب الاستئصال ما دام سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم حاضرا معهم تعظيما له، وأيضا إن عادة الله مع جميع الأنبياء المتقدمين لم يعذب أهل قرية إلا بعد أن يخرج رسولهم منها كما كان في حق هود وصالح ولوط وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) أي وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون لأنه صلّى الله عليه وسلّم لما خرج من مكة بقي فيها من لم يستطع الهجرة من مكة من المسلمين وَما
424
لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
أي ولا مانع من إهلاك الله لهم بعد ما خرجت من بينهم وحالهم يمنعونك والمسلمين عن الطواف ببيت الله يوم الحديبية وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي والحال أنهم ما كانوا أولياء المسجد وهذا رد لقولهم: نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أي ما أولياء المسجد إلا الذين يتحرزون عن المنكرات كما كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية، ومن كانت هذه حاله لم يكن وليا للمسجد الحرام بل هم أهل لأن يقتلوا بالسيف ويحاربوا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) أنه لا ولاية لهم عليه وَما كانَ صَلاتُهُمْ أي عبادتهم عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً أي صفيرا وَتَصْدِيَةً أي تصفيقا أي ما كان شيء مما يعدونه عبادة إلا هذين الفعلين.
قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون بإحدى اليدين بالأخرى فَذُوقُوا الْعَذابَ أي عذاب السيف يوم بدر بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه.
قال مقاتل والكلبي: نزلت هذه الآية في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش أبي جهل وأصحابه يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: نزلت في أبي سفيان وكان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالا، وأخرج ابن إسحاق عن مشايخه أنها نزلت في أبي سفيان ومن كان له في العير من قريش تجارة فَسَيُنْفِقُونَها أي أموالهم ثُمَّ تَكُونُ أي الأموال عَلَيْهِمْ
حَسْرَةً
أي ندامة لفواتها وفوات قصدهم من نصرتهم على محمد ثُمَّ يُغْلَبُونَ آخر الأمر وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي أصروا على الكفر أبو جهل وأصحابه إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) أي يساقون يوم القيامة لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ أي ليميز الله الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين و «اللام» متعلقة ب «يحشرون» أو ب «يغلبون»، أو المعنى ليميز الله نفقة الكافر على عداوة محمد من نفقة المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ حمزة والكسائي: ليميز بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء المكسورة وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ أي ويجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فَيَرْكُمَهُ أي فيجمعه جَمِيعاً لفرط ازدحامهم فَيَجْعَلَهُ أي يطرحه فِي جَهَنَّمَ. وقيل: المعنى يضم الله تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذبهم بها أُولئِكَ أي
425
الذين كفروا هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) أي الكاملون في الغبن قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أبي سفيان وأصحابه أي قل يا أشرف الخلق لأجلهم: إِنْ يَنْتَهُوا عن الكفر وعداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من الذنوب
قال صلّى الله عليه وسلّم: «الإسلام يجب ما قبله»
«١» وَإِنْ يَعُودُوا إلى الكفر ومعاداة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي وإن يرتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ويرجعوا للكفر وقتال النبي ننتقم منهم بالعذاب فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) أي لأنه قد سبقت سيرة الأولين الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتدمير كما جرى على أهل بدر وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أي قاتلوا كفار أهل مكة لئلا توجد فتنة فقد خرج المسلمون إلى الحبشة وتآمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم حين بايعت الأنصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيعة العقبة، وليكون الدين كله لله في أرض مكة وما حولها لا يعبد غيره فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر وسائر المعاصي بالتوبة والإيمان فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) أي عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم وَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوبة والإيمان فَاعْلَمُوا يا معشر المؤمنين أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أي حافظكم ورافع البلاء عنكم نِعْمَ الْمَوْلى أي الولي بالحفظ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) لا يغلب من نصره وكل من كان في حماية الله تعالى كان آمنا من الآفات مصونا عن المخوّفات، والمعنى وإن تولوا عن الإيمان فلا تخشوا بأسهم لأن الله مولاكم
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أي واعلموا يا معشر المؤمنين أن الذي أصبتموه كائنا من شيء قليلا كان أو كثيرا، فواجب أن لله خمسه بمعنى أنه تعالى أمر بقسمته على هؤلاء الخمسة فذكر الله للتعظيم. وقوله: إن لله خمسه خبر مبتدأ محذوف أي فكون خمسه لله واجب وهذه الجملة خبر ل «أن» وَلِلرَّسُولِ أما بعد وفاته فيصرف سهمه إلى مصالح المسلمين عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: سهمه ساقط بسبب موته.
وقال مالك: مفوض إلى رأي الإمام وَلِذِي الْقُرْبى أي ولقرابة النبي صلّى الله عليه وسلّم من بني هاشم وبني المطلب دون من عداهم من أغنيائهم وفقرائهم يقسم الخمس بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وَالْيَتامى أي الذين مات آباؤهم وهم فقراء غير يتامى بني عبد المطلب وَالْمَساكِينِ أي ذوي الحاجة من المسلمين وَابْنِ السَّبِيلِ أي المحتاج في سفره ولا معصية بسفره إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا محمد صلّى الله عليه وسلّم من الآيات والملائكة والفتح يَوْمَ الْفُرْقانِ أي يوم بدر سمي به لفرقه بين الحق والباطل، وهو منصوب ب «أنزلنا» أو ب «آمنتم» يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي الفريقان من المسلمين والكافرين وهو بدل من يوم الفرقان أو منصوب بالفرقان. والمعنى إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزّل على محمد يوم بدر فاعلموا أن خمس الغنيمة مصروف إلى هذه الوجوه الخمسة فاقطعوا أطماعكم عنه واقنعوا بالأخماس الأربعة وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) يقدر
(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٣: ١٥٤).
426
على نصر القليل على الكثير إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وهو بدل ثان من يوم الفرقان أي إذ أنتم كائنون في شط الوادي القربى من المدينة وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي والمشركون في شفير الوادي البعدي منها وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي العير التي خرجوا لها التي يقودها أبو سفيان وأصحابه كائنون بمكان أسفل منكم على ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم وأهل مكة على القتال لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لخالف بعضكم بعضا في الميعاد هيبة منهم لكثرتهم وقلتكم وَلكِنْ جمع الله بينكم على هذه الحال بغير ميعاد لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي ليمضي أمرا كان مفعولا في علمه وهو النصرة والغنيمة للنبي وأصحابه والهزيمة والقتل لأبي جهل وأصحابه ويكون استيلاء المؤمنين على المشركين معجزة دالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وهو بدل من ليقضي أي ليموت من مات عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن بينة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ لدعائكم عَلِيمٌ (٤٢) بحاجتكم وضعفكم فأصلح مهمكم إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قبل يوم بدر قَلِيلًا مع كثرتهم فأخبر بذلك أصحابه فقالوا: رؤيا النبي حق، فصار بذلك تشجيعا للمؤمنين وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أي ولو أراك الله المشركين كثيرا لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لجبنوا وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي لاختلفتم في أمر القتال ولتفرقت آراؤكم في الفرار والثبات وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي سلمكم من المخالفة فيما بينكم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) أي بالخطرات التي تقع في القلوب من الصبر والجزع والجراءة والجبن ولذلك دبر ما دبر وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا أي وإذ يبصركم أيها المؤمنون إياهم قليلا حتى قال ابن مسعود لمن في جنبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مائة، وهم في نفس الأمر ألف تصديقا لرؤيا الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولتزداد جراءة المؤمنين عليهم وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال أبو جهل: إنما أصحاب محمد أكلة جزور، أي قليل يشبعهم جزور واحد، فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال، وقلل الله عدد المؤمنين في أعين المشركين قبل التحام الحرب لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر فيصير ذلك سببا لانكسارهم، فلما التحم القتال أرى الكفار المسلمين مثلي الكفار، وكانوا ألفا فرأوا المسلمين قدر ألفين ليهابوا، وتضعف قلوبهم لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي ليصير سببا لاستيلاء المؤمنين عليهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤) بالبناء للمفعول أي ترد وللفاعل أي تصير ويصرف الله الأمور كلها كيفما يريد ولا تجري على ما يظنه العبيد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا أي إذا حاربتم جماعة من الكفرة فجدوا في المحاربة ولا تنهزموا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً بالقلب واللسان في أثناء القتال ومن الذكر ما يقع حال القتال من التكبير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) أي تفوزون بمرامكم من النصرة والمثوبة وَأَطِيعُوا اللَّهَ
427
وَرَسُولَهُ
في أمر القتال وغيره وَلا تَنازَعُوا أي لا تختلفوا في أمر الحرب فَتَفْشَلُوا أي فتجبنوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي شدتكم وَاصْبِرُوا على شدائد الحرب إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) بالنصرة والكلاءة وَلا تَكُونُوا في الاستكبار والفخر كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ مكة لحماية العير بَطَراً أي شديد المرح وَرِئاءَ النَّاسِ أي ولثناء الناس عليهم بالشجاعة والسماحة، وذلك أن قريشا خرجوا من مكة لحفظ الغير، فلما بلغوا جحفة أتاهم رسول أبي سفيان وقال: ارجعوا إلى مكة فقد سلمت عيركم. فأبوا إلا إظهار آثار الجلادة، وأيضا لما وردوا الجحفة بعث الحقاف الكناني إلى أبي جهل وهو صديق له بهدايا مع ابن له، فلما أتاه قال: إن أبي يقول لك: إن شئت أن أمدك بالرجال أمددنك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت. فقال أبو جهل: قل لأبيك جزاك الله خيرا إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فو الله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس فو الله إن بنا على الناس لقوة، والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان، وتنحر الجزور في بدر فيقنى الناس علينا بالشجاعة والسماحة وقد بدلهم الله شرب الخمور بشرب كأس
الموت، وبدّل ضرب الجواري على نحو الدفوف بنوح النائحات، وبدّل نحر الجزور بنحر رقابهم حيث قتل منهم سبعون وأسر سبعون.
واعلم أن النعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد فإن صرفها إلى مرضاته تعالى وعرف أنها من الله تعالى فذاك هو الشكر، وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمغالبة بالكثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ويمنعون الناس من الدخول في دين الله، وهذا معطوف على «بطرا»، وإنما ذكر البطر والرياء بصيغة الاسم، والصد بصيغة الفعل لأن أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على المفاخرة والرياء، وأما صدّهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزمان الذي ادعى سيدنا محمد النبوة وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) أي واللَّه أعلم بما في دواخل القلوب وهذا كالتهديد عن التصنع فإن الإنسان بما أظهر من نفسه أن الحامل له إلى ذلك الفعل طلب مرضاة الله تعالى مع أنه لا يكون الأمر في الحقيقة كذلك وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي واذكر وقت تزيين الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وخروجهم من مكة فإن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة لأنهم كانوا قتلوا منهم واحدا فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم فتصور لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو من بني بكر بن كنانة، وكان من أشرافهم في جند من الشياطين ومعه راية وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أي لا غالب عليكم اليوم من بني كنانة ومن محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي حافظكم من مضرتهم فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي التقى الجمعان جمع المؤمنين وجمع الكافرين بحيث رأت كل واحدة الأخرى، ورأى إبليس نزول الملائكة من السماء نَكَصَ عَلى
428
عَقِبَيْهِ
أي رجع إلى خلفه هاربا وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ فكان إبليس في صف المشركين وهو آخذ بيد الحارث بن هشام فقال له الحارث: إلى أين تترك نصرتنا في هذه الحالة؟ قال إبليس: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ وأرى جبريل بين يدي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي يده اللجام يقود الفرس ولم تروه، ودفع إبليس في صدر الحارث وإِنِّي أَخافُ اللَّهَ أن يهلكني بتسليط الملائكة عليّ.
وقيل: لما رأى إبليس الملائكة ينزلون من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر، فقال ما قال إشفاقا على نفسه وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) قاله الشيطان بسطا لعذره، وحينئذ فهو تعليل أو مستأنف من محض كلامه تعالى تهديدا لإبليس إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وهم قوم من الأوس والخزرج وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك وهم قوم من قريش أسلموا ولم يقو إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا منهم: عتبة بن ربيعة، وقيس بن الوليد، وأبو قيس الفاكه، والحارث بن زمعة، وعدي بن أمية، والعاص بن منبه، والعامل في «إذ زيّن» أو اذكر مقدرا غَرَّ هؤُلاءِ أي محمدا وأصحابه دِينُهُمْ فإنهم خرجوا وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل وما ذاك إلا أنهم اعتمدوا على دينهم. وقال هؤلاء: لما خرج قريش لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا، فلما خرجوا مع قريش ورأوا قلة المسلمين وكثرة الكفّار رجعوا للكفر وقالوا ذلك القول، وقتلوا جميعا مع المشركين يوم بدر ولم يحضر منافق في بدر مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا واحد وهو عبد الله بن أبي وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) أي ومن يعول على إحسان الله ويثق بفضله ويسلم أمره إلى الله فإن الله حافظه وناصره، لأنه عزيز لا يغلبه شيء، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه والرحمة إلى أوليائه وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ أي ولو رأيت يا أشرف الخلق الكفرة حين يتوفاهم الملائكة في بدر يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ويقولون لهم: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) أي النار لأنه كان مع الملائكة مقامع، وكلما ضربوا بها التهبت النار منها في الأجزاء. وجواب «لو» محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا لا يكاد يوصف.
ذلِكَ العذاب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي بسبب ما عملت أيديكم من الكفر والمعاصي وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من جهتهم كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي عادة كفار قريش فيما فعلوه من الكفر، وما فعل بهم من العذاب كعادة آل فرعون وقوم ونوح وعاد وأضرابهم من الكفر والعناد في ذلك كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي أنكروا الدلائل الإلهية، وهذه الجملة تفسير لدأب كفار قريش فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي بسبب ذنوبهم إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ بالأخذ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) أي إذا عاقب ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي تعذيب الكفرة بما قدمت أيديهم بسبب أن الله لم يكن مغيرا نعمة أنعم بها عليهم- كالعقل وإزالة الموانع- حتى يغيروا أحوالهم، فإذا صرفوا تلك النعمة إلى الفسق
429
والكفر فقد غيروا نعمة الله تعالى على أنفسهم فاستحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) أي وبسبب أنه تعال يسمع ويعلم جميع ما يأتون وما يذرون كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا كائنا كتغيير الأمم الماضية كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي كذب آل فرعون ومن قبلهم بأنه تعالى رباهم وأنعم عليهم فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها وتواليها عليهم كما كذب أهل مكة ذلك فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالحجارة، وبعضهم بالريح، وبعضهم بالمسخ كذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) أي وكل من الفرق المكذبة كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر والمعصية، ولأنبيائهم بالتكذيب، ولسائر الناس بالإيذاء والإيحاش، فالله تعالى إنما أهلكهم بسبب ظلمهم. اللهم أهلك الظالمين وطهر وجه الأرض منهم، فلا يقدر أحد على دفعهم إلا أنت فادفع يا قهار يا جبار يا منتقم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) أي إن شر الخلق في حكم الله وعلمه الذين أصروا على الكفر فهم لا يرجى منهم إيمان الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أي من مرات المعاهدة.
قال ابن عباس: هم قريظة، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عاهد يهود بني قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه فنقضوا العهد وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم مرة ثانية فنقضوا العهد أيضا، وساعدوا معهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم على محاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) عن نقض العهد فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) أي إن تظفرن بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد في أثناء الحرب فافعل بهم فعلا من القتل والتعذيب يفرق بسببهم من خلفهم من أهل مكة واليمن أي إذا فعلت بقريظة العقوبة فرقت شمل قريش إذ يخافون منك أن تفعل بهم مثل ما فعلت بحلفائهم- وهم قريظة- فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفرقهم في ذلك الوقت تفريقا عنيفا موجبا للاضطراب وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أي وإن تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد بأمارات ظاهرة فاطرح إليهم عهدهم على طريق ظاهر مستو، بأن تعلمهم قبل حربك إياهم أنك قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، ولا تبادرهم الحرب وهم على توهّم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) في العهود. والحاصل إن ظهرت الخيانة بأمارات ظاهرة من غير أمر مستفيض وجب على الإمام أن ينبذ إليهم العهد ويعلمهم الحرب، وذلك كما في قريظة فإنهم عاهدوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم عليه صلّى الله عليه وسلّم: وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد
430
وإعلامهم بالحرب بل يفعل كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأهل مكة فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصل إليهم جيش النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمر الظهران وذلك على أربع فراسخ من مكة وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا.
قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم بالياء التحتية، أي ولا يحسبنّ الذين كفروا من قريش أنفسهم فاتوا من عذابنا بهر بهم يوم بدر. وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم أي ولا تحسبن يا أشرف الخلق الذين كفروا الذين خلصوا منك في بدر فائتين من عذابنا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) أي إنهم بهذا الفرار لا يعجزون الله من الانتقام منهم إما بالقتل في الدنيا، وإما بعذاب النار في الآخرة. وقرأ ابن عامر «أنهم» بفتح الهمزة على التعليل وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِباطِ الْخَيْلِ
. قيل: إنه لما اتفق لأصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قصة بدر أنهم قصدوا الكفار بلا آلة أمرهم الله تعالى أن لا يعودوا لمثله فقال: وَأَعِدُّوا إلخ أي هيئوا لحرب الكفار ما استطعتم من كل ما يتقوى به في الحرب من كل ما هو آلة للجهاد ومن الخيل المربوط سواء كان من الفحول أو من الإناث.
وروي أنه كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند البيات والغارات تُرْهِبُونَ بِهِ أي بذلك الإعداد. وقرئ تخزون عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وهم كفار مكة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي من غير كفار مكة من الكفرة لا تَعْلَمُونَهُمُ على ما هم عليه من العداوة. أي فإن تكثير آلات الجهاد كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء، سواء كانوا مسلمين أو كفارا اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ لا غيره. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ قل أو جل فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي لا يضيع الله في الآخرة أجره ويعجل عوضه في الدنيا وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) أي لا تنقصون من الأجر
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها أي وإن مال الكفار للصلح بوقوع الرهبة في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعداد فاقبله. وقرأ أبو بكر عن عاصم «للسلم» بكسر السين.
وقرئ «فاجنح» بضم النون. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوّض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عونا لك على السلام، ولكي ينصرك عليهم إذا نقضوا العهد إِنَّهُ تعالى: هُوَ السَّمِيعُ لما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع، الْعَلِيمُ (٦١) بنياتهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي وإن يريدوا الكفار بإظهار الصلح خديعتك لتكف عنهم فاعلم أن الله كافيك من شرورهم وناصرك عليهم هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ أي قواك ببصره في سائر أيامك وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) من المهاجرين والأنصار وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ أي إن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى
431
قوم تكبرهم شديد حتى لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثاره ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أخاه وأباه وابنه، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصارا.
وأيضا كانت الخصومة بين الأوس والخزرج شديدة، والمحاربة دائمة، ثم زالت الضغائن وحصلت الألفة- فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى- وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. إِنَّهُ تعالى عَزِيزٌ أي قاهر يقلب القلوب من العداوة إلى الصداقة حَكِيمٌ (٦٣) أي يفعل ما يفعله مطابقا للمصلحة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) أي كفاك الله وكفى أتباعك ناصرا. أو المعنى كفاك الله والمؤمنون. وهذه الآية نزلت في البيداء في غزوة بدر قبل القتال، فالمراد بالمؤمنين هنا أهل غزوة بدر وهم المهاجرون والأنصار.
وقيل: نزلت في إسلام عمر بن الخطاب. قال سعيد بن جبير: أسلم مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، ثم أسلم عمر رضي الله عنه فنزلت هذه الآية، فعلى هذا القول تكون الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ أي بالغ في حثّهم عليه إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ أي إن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مائتين وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وإنما وجب هذا الحكم عند حصول هذه الشروط: منها: أن يكون المؤمن شديد الأعضاء قويا جلدا. ومنها: أن يكون قوي القلب شديد البأس، شجاعا غير جبان. ومنها: أن يكون غير متحرف لقتال أو متحيزا إلى فئة، فعند حصول هذه الشروط وجب على الواحد أن يثبت للعشرة بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) متعلق بيغلبوا في الموضعين أي بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون امتثالا لأمر الله تعالى وإعلاء لكلمته وابتغاء لمرضاته، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية، وإثارة العدوان. وهم يعتمدون على قوتهم، والمسلمون يستعينون بربهم بالتضرع ومن كان كذلك كان النصر أليق به الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً في البدن أو في معرفة القتال لا في الدين فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته. وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة فلم يثبت ذلك الحكم. وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ ألبتة، فقد أنكر أبو مسلم الأصفهاني النسخ. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦) أي إن العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين بقي ذلك الحكم، وإن لم يقدروا على مصابرتهم، فالحكم المذكور هناك زائل، وهذا يدل على صحة مذهب أبي مسلم ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي ما ينبغي لنبي أن يكون له أسرى من الكفار حتى يقوى ويغلب بل اللائق قتلهم تُرِيدُونَ أيها المؤمنون عَرَضَ الدُّنْيا أي متاع الدنيا الذي هو الفداء وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي إنما يرضى الله ما يفضي إلى
432
السعادات الأخروية المصونة عن الزوال وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياءه على أعدائه حَكِيمٌ (٦٧) يعلم ما يليق بكل حال كما أمر بالأثخان، ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخير بين أخذ الفداء وبين المن لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) أي لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب شديد فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم حال كونه حلالا مستلذا.
روي أنهم أمسكوا عن الغنائم في بدر ولم يمدوا أيديهم إليها، فنزلت هذه الآية. وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أمره ونهيه في المستقبل إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) في الحالة الماضية من استباحة الفداء قبل ورود الإذن من الله تعالى فيه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى.
قرأ أبو عمرو «من الأسارى» بضم الهمزة وفتح السين بعدها ألف، وبالإمالة، أي من الذين أسرتموهم وأخذتم منهم الفداء إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي إيمانا وعزما على طاعة الله ورسوله في جميع التكاليف وتوبة عن الكفر وجميع المعاصي يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما سلف منكم قبل الإيمان وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن آمن وتاب من كفره ومعاصيه رَحِيمٌ (٧٠) بأهل طاعته.
روي أن العباس كان أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس فكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لمن خرجوا من مكة إلى بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر، وأخذ ذلك العشرون منه فقال العباس: كنت مسلما إلا أنهم أكرموني فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا». قال العباس: فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب عليّ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا». قال العباس: وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحارث فقال العباس:
يا محمد تتركني أتكفف قريشا ما بقيت؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حادث فهذا المال لك ولعبد الله، ولعبيد الله، والفضل، وقثم». وما يدريك يا ابن أخي؟ قال صلّى الله عليه وسلّم:
«أخبرني به ربي» «١». قال العباس: أنا أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابا في
(١) رواه الطبري في التفسير (٩: ١٢٤)، وابن كثير في التفسير (٣: ٥٥٧)، والبيهقي في دلائل النبوة (٣: ٣٤)، وابن كثير في البداية والنهاية (٣: ٢٦٢).
433
أمرك، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب وأمر ابني أخيه عقيلا ونوفل بن الحارث فأسلما، قال العباس: فأبدلني الله خيرا مما أخذ مني، ولي الآن عشرون عبدا كلهم تاجر يضرب بمال كثير أدناهم يضرب بعشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
وروي أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة
وَإِنْ يُرِيدُوا أي الأسرى خِيانَتَكَ أي بنقض العهد، فاعلم أنه سيمكّنك منهم فإنه صلّى الله عليه وسلّم كلما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته صلّى الله عليه وسلّم، وإلى معاهدة المشركين بالعون عليه صلّى الله عليه وسلّم فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ أي من قَبْلُ هذا بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي أقدر المؤمنين عليهم قتلا وأسرا في بدر وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي ببواطنهم حَكِيمٌ (٧١) يفعل كل ما يفعله حسبما تقتضيه حكمته البالغة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد والقرآن وَهاجَرُوا من مكة إلى المدينة حبا لله تعالى ولرسوله وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ بأن صرفوها إلى السلاح وأنفقوها على المحاويج وَأَنْفُسِهِمْ بمباشرة القتال، وبالخوض في المهالك فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله وَالَّذِينَ آوَوْا أي أنزلوا المهاجرين منازلهم وَنَصَرُوا لهم على أعدائهم يوم بدر أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي يكونون يدا واحدة على الأعداء ويكون حب كل واحد للآخر جاريا مجرى حبه لنفسه وَالَّذِينَ آمَنُوا بمحمد والقرآن وَلَمْ يُهاجِرُوا من مكة إلى المدينة ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ أي من تعظيمهم مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا فلو هاجروا لحصل الإكرام والإجلال.
وقرأ حمزة «من ولايتهم» بكسر الواو. والباقون بالفتح وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي إن قطع التعظيم بين تلك الطائفة ليس كما في حق الكفار بل هؤلاء لو استعانوكم في الدين على المشركين فواجب عليكم أن تعاونوهم عليهم إلا على قوم منهم بينكم معاهدة فإنه لا يجوز لكم نقض عهدهم بنصرهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) فلا تخالفوا أمره كي لا يحل بكم عقابه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي في النصرة فإن كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود فلما ظهرت دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم تعاونوا على إيذائه ومحاربته والمشركون واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم صارت هذه الجهة سببا لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض. وتلك العداوة لمحض الحسد لا لأجل الدين، لأن كل واحد منهم كان في نهاية الإنكار لدين صاحبه إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) أي إن لم تفعلوا ما أمرتكم به من التواصل
434
بين المسلمين ومن قطع المحبة بينهم وبين الكفار تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة فإن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم، فربما صارت تلك المخالطة سببا لالتحاق المسلم بالكفار، وأن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم فيصير ذلك سببا لجراءة الكفار عليهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فالله تعالى ذكرهم أولا لتبيين حكمهم وهو إكرام بعضهم بعضا، ثم ذكرهم ها هنا لبيان تعظيم شأنهم وعلو درجتهم، وأثنى عليهم من ثلاثة أوجه وهي: وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين لأن من لم يكن محقا في دينه لم يفارق الأهل والوطن ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين لَهُمْ مَغْفِرَةٌ تامة عن جميع الذنوب والتبعات وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) ثواب حسن في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ أي بعد الهجرة الأولى وهؤلاء هم التابعون بإحسان وَهاجَرُوا من مكة إلى المدينة بعد المهاجرين الأولين وَجاهَدُوا مَعَكُمْ في بعض مغازيكم فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار في السر والعلانية وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ آخر منهم في التوارث من الأجانب فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكم الله الذي بينه في كتابه بالسهام المذكورة في سورة النساء إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥) فالعالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب.
435
Icon