صرح كثير من المفسرين بأنها مدنية لم يستثنوا منها شيئا. وبه قال الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء وعبد الله بن الزبير وزيد ابن ثابت، وعن ابن عباس أنه قال : نزلت في بدر، وفي لفظ تلك سورة بدر. قال القرطبي وعنه : هي مدنية إلا سبع آيات من قوله :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ إلى آخرها، يعني فإنها مكية.
" قلت " وإن كانت في شأن الواقعة التي وقعت بمكة فلا يلزم أن تكون كذلك فالآيات نزلت بالمدينة تذكيرا بما وقع في مكة. فهذا القول ضعيف والأول هو الأصح. وجملة آياتها خمس أوست أو سبع وسبعون آية، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب كما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن أبي أيوب.
ﰡ
ويطلق النفل على معان أخر منها اليمين والابتغاء ونبت معروف، والنافلة التطوع لكونها زائدة على الواجب والنافلة ولد الولد لأنه زيادة على الولد.
وهو سؤال استفتاء لأن هذا أول تشريع الغنيمة، وفاعل السؤال من حضر بدراً، وقال الضحاك وعكرمة: هو سؤال طلب، وعن بمعنى من، وهذا لا ضرورة تدعو إليه، وقيل صلة ويؤيده قراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وغيرهم بدون عن، والصحيح أنها على إرادة حرف الجر.
وكان سبب نزول الآية اختلاف الصحابة في غنائم يوم بدر، فقال الشبان: هي لنا لأنا باشرنا القتال، وقال الشيوخ: كنا رِدْءاً لكم تحت الرايات، ولو انكشفتم أي انهزمتم لفئتم أي لرجعتم إلينا، فنزع الله ما غنموه من أيديهم وجعله لله والرسول فقال: (قل) لهم (الأنفال لله والرسول) أي حكمها مختص بهما يقسمها بينكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أمر الله سبحانه حيث شاء، وليس لكم حكم في ذلك، فقسمها صلى الله عليه
وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء حتى نزل قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) فهي على هذا منسوخة، وبه قال مجاهد وعكرمة والسدي، وقال ابن زيد: محكمة مجملة، وقد بين الله مصارفها في آية الخمس، وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس.
(فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) أي نفس ما بينكم، والذي بينهم هو الوصلة الإسلامية، فالبين هنا بمعنى الاتصال كما في قوله: (لقد تقطع بينكم) والبين يطلق على الضدين الاتصال والفراق، وذات هذا البين هي حاله أي الأمور التي تحققه بالمودة وترك النزاع (وأطيعوا الله ورسوله) أمرهم بالتقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله والرسول بالتسليم لأمرهما وترك الاختلاف الذي وقع بينهم، وقال: امتثلوا هذه الأوامر الثلاثة (إن كنتم مؤمنين) بالله جوابه كما ذهب إليه أبو العباس المبرد وغيره أطيعوا الله السابق، إذ يجوز عندهم تقديم الجواب على الشرط، والصحيح ما ذهب إليه سيبويه وهو أنه محذوف لدلالة ما قبله عليه.
وفيه من التهييج والإلهاب والتنشيط للمخاطبين والحث لهم على المسارعة إلى الامتثال ما لا يخفى مع كونهم في تلك الحال على الإيمان فكأنه قال إن كنتم مستمرين على الإيمان بالله لأن هذه الأمور الثلاثة لا يكمل الإيمان بدونها، بل لا يثبت أصلاً لمن لم يمتثلها، فإن من ليس بمتق وليس بمطيع لهما ليس بمؤمن، قال عطاء: طاعة الله والرسول اتباع الكتاب والسنة. أخرجه ابن أبي حاتم.
(الذين إذا ذكر الله) أي وعيده (وجلت) أي فزعت وخضعت وخافت ورقت (قلوبهم) لذكر الله استعظاماً له وتهيباً من جلاله، والوجل الخوف والفزع، يقال وجل بالكسر في الماضي يوجل بالفتح، وقرئ كوعد يعد ويقال بإثبات الواو في المضارع، والمراد أن حصول الخوف من الله والفزع منه عند ذكره هو شأن المؤمنين الكاملي الإيمان المخلصين لله، فالحصر باعتبار كمال الإيمان لا باعتبار أصل الإيمان.
قال جماعة من المفسرين: هذه الآية متضمنة للتحريض على طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أمر به من قسمة الغنائم، ولا يخفاك أن هذا وأن صح إدراجه تحت معنى الآية من جهة أن وجل القلوب عند الذكر وزيادة الإيمان عند تلاوة آيات الله يستلزمان امتثال ما أمر به سبحانه. من كون الأنفال لله والرسول.
ولكن الظاهر أن مقصود الآية هو إثبات هذه المزية لمن كمل إيمانه من غير تقييد بحال دون حال، ولا بوقت دون وقت، ولا بواقعة دون واقعة.
وعن ابن عباس: وجلت فرقت، وقال المنافقون: لا يدخل قلوبهم شيء
وعن أم الدرداء قالت: إنما الوجل في القلب كاحتراق السعفة يا شهر ابن حوشب أما تجد قشعريرة؟ قلت: بلى، قالت: فادع عندها فإن الدعاء يستجاب عند ذلك، وقال ثابت البناني: قال فلان إني لأعلم متى يستجاب لي، قالوا: ومن أين لك؟ قال: إذا اقشعر جلدي ووجل قلبي وفاضت عيناي فذلك حين يستجاب لي.
وعن عائشة قالت: ما الوجل في قلب المؤمن إلا كضرمة السعفة فإذا وجل أحدكم فليدع عند ذلك، وعن السدي قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له اتق الله فيجل قلبه، فإن قيل، قال: هنا وجلت قلوبهم وقال في آية أخرى (وتطمئن قلوبهم) فكيف الجمع بينهما، قلت: الاطمئنان بذكره بصفات الجمال، والوجل إنما هو بذكر وعيده.
(وإذا تليت عليهم آياته) المراد من التلاوة الآيات المنزلة أو التعبير عن بديع صنعته وكمال قدرته في آياته التكوينية بذكر خلقها البديع وعجائبها التي يخشع عند ذكرها المؤمنون (زادتهم ايماناً) أي تصديقاً، قاله ابن عباس، وعن الربيع بن أنس قال خشية، والمراد بزيادة الإيمان هو زيادة انشراح الصدر وطمأنينة القلب وانفلاح الخاطر عند تلاوة الآيات.
وقيل المراد بها زيادة العمل لأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، والآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة ترد ذلك وتدفعه، والآية صريحة في زيادة الإيمان، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
وفي هذا دليل على أن الإيمان فيه أعلى وأدنى، وإذا كان كذلك كان قابلاً للزيادة والنقصان، قال الواحدي عن عامة أهل العلم: إن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان إيمانه أزيد، قال الكرخي: إن نفس التصديق يقبل القوة وهي التي عبر عنها بالزيادة للفرق المميز بين يقين الأنبياء وأرباب المكاشفات ويقين آحاد الأمة.
ويؤيد ذلك قول عليّ رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، وكذا من قام عليه دليل واحد ومن قامت عليه أدلة كثيرة لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه، وعليه يحمل ما نقل عن الشافعي من أنه يقبل الزيادة والنقص، فلا يرد كيف قال ذلك مع أن حقيقة الإيمان عند الأكثر لا تزيد ولا تنقص كالإلهية والوحدانية اهـ. وقيل المعنى أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد وتصديق جديد فكان ذلك زيادة في إيمانهم.
(وعلى ربهم يتوكلون) التوكل على الله تفويض الأمر إليه في جميع الأمور قال ابن عباس: لا يرجون غيره، وعلى بمعنى الباء ويتوكلون بمعنى يثقون، وتقديم المعمول للحصر، وقال السمين التقديم يفيد الأختصاص أي عليه لا على غيره والجملة في محل الحال أو مستأنفة أو معطوفة على الصلة.
_________
(١) مسلم/٥٩ - البخاري/٣١.
(أولئك) أي المتصفون بالأوصاف المتقدمة (هم المؤمنون) أي الكاملون الإيمان البالغون فيه إلى أعلى درجاته وأقصى غاياته (حقاً) أي حق ذلك حقاً أو ايماناً حقاً يعني يقيناً لا شك في إيمانهم وصدقاً لا ريب فيه، قال ابن عباس: برئوا من الكفر، وحقاً أي خالصاً وقيل التقدير حقاً لهم درجات، وهذا إنما يجوز على رأي ضعيف أعني تقديم المصدر المؤكد لمضمون جملة عليها.
وقد استدل بظاهر هذه الآية أبو حنيفة ومن قال بقوله أنه يجوز أن يقول أنا مؤمن حقاً ولا يجوز الاستثناء، وأجيب عنه بأن الاستثناء ليس على طريق الشك بل للتبرك كقوله: وأنا إن شاء الله بكم لاحقون مع العلم القطعي أنه لاحق بهم أو المراد صرف الاستثناء إلى الخاتمة، والنزاع عند التحقيق لفظي كما تقرر في موطنه، وإنما حكم سبحانه بكونهم مؤمنين حقاً في هذه الآية إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة كما يفيده لفظة إنما لأنها للحصر.
(لهم درجات) يعني فضائل ورحمة، قاله سعيد بن جبير، وعن مجاهد قال: أعمال رفيعة، وقال الضحاك: أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه، ولا يرى الأسفل فضل أحد عليه، ذكر ما أعد لمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف من الكرامة فقال لهم منازل خير وكرامة وشرف في الجنة كائنة (عند ربهم) وفي كونها عنده سبحانه زيادة تشريف لهم وتكريم وتعظيم وتفخيم.
(ومغفرة) لذنوبهم، وعن ابن زيد قال: بترك الذنوب (ورزق كريم) دائم مستمر يكرمهم الله به من واسع فضله وفائض جوده، وعن ابن زيد قال: هو الأعمال الصالحة، وعن محمد بن كعب القرظي قال: إذا سمعتم الله يقول: (ورزق كريم) فهي الجنة.
(كما أخرجك ربك) قال الزجاج: أي الأنفال ثابتة لك مثل إخراج ربك، وبه قال المبرد، والمعنى امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا لأن بعض الصحابة قال لرسول الله ﷺ حين جعل لكل من أتى بأسير شيئاً قال: بقي أكثر الناس بغير شيء، فموضع الكاف نصب، وقال أبو عبيدة: هو قسم أي والذي أخرجك فالكاف بمعنى الواو، وما بمعنى الذي.
وقال الأخفش: المعنى أولئك هم المؤمنون حقاً كما أخرجك ربك، وقال عكرمة: المعنى أطيعوا الله ورسوله كما أخرجك ربك، وقيل الكاف كاف التشبيه على سبيل المجازاة، وقيل بمعنى على أي امض على الذي أخرجك فإنه حق، وقيل بمعنى إذ أي اذكر يا محمد إذ أخرجك.
وقيل هذه الحال كحال إخراجك يعني أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب، ذكره صاحب الكشاف، وقال السمين فيه عشرون وجهاً، (الثاني) منها أن تقديره أصلحوا ذات بينكم إصلاحاً كما أخرجك، وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد.
(الثالث) تقديره وأطيعوا الله ورسوله طاعة ثابتة محققة كما أخرجك (الرابع) تقديره يتوكلون توكلاً حقيقياً كما أخرجك (السادس عشر) منها تقديره قسمتك الغنائم حق كما كان إخراجك حقاً (السابع عشر) أن التشبيه وقع بين إخراجين اهـ.
(من بيتك) أي المدينة أو بيتك الذي بها (بالحق) أي إخراجاً متلبساً بالحق لا شبهة فيه وقال مجاهد كما أخرجك ربك من بيتك بالحق كذلك
وقيل هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة كما أخرجك ربك من بيتك بالحق الواجب له فأنجز وعدك وظفرك بعدوك وأوفى لك، ذكره النحاس واختاره، وفي الجمل أي أخرجك من المدينة لتأخذ العير التي مع أبي سفيان أي فتغنمها فأصل خروج النبي والمؤمنين لأجل أن يغنموا القافلة فلم تكن في خروجهم كراهة وإنما عرضت لهم الكراهة بعد الخروج قريب بدر لما أخبروا أن العير نجت منهم وأن قريشاً أتوا إلى بدر.
وأشار عليهم النبي ﷺ بأنهم يمضون إلى قتال قريش الذين خرجوا ليذبوا المسلمين عن القافلة فكره المسلمون القتال لا عصياناً بل بالطبع، حيث خرجوا من غير استعداد للقتال لا بعدد ولا بعدة، وإنما كان أصل خروجهم لأخذ الغنيمة لقوله:
(وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون) حال مقدرة لما علمت أن الكراهة لم تقارن الخروج وقيل أي كما أخرجك في حال كراهتهم لذلك لأنه لما وعدهم الله إحدى الطائفتين إما العير أو النفير، رغبوا في العير لما فيها من الغنيمة والسلامة من القتال وكرهوه لقلة عددهم وسلاحهم وكثرة عدوهم وسلاحهم، وفي (لكارهون) مراعاة معنى الفريق.
(في الحق) أي في القتال (بعد ما تبين) لهم أنك لا تأمر بشيء إلا بإذن الله، أو بعد ما تبين لهم أن الله وعدهم بالظفر بإحدى الطائفتين وأن العير إذا فاتت ظفروا بالنفير (كأنما يساقون إلى الموت) أي حال كونهم في شدة فزعهم من القتال يشبهون حال من يساق بالعنف والصغار ليقتل (وهم ينظرون) يعني إلى الموت كمن هو مشاهد لأسباب قتله ناظر إليها بعينه لا يشك فيها، والجامع بينهما الكراهة في كل.
(أنها) أي إحدى الطائفتين مسخرة (لكم) وأنكم تغلبونها وتغنمون منها وتصنعون بها ما شئتم من قتل وأسر وغنيمة لا يطيقون لكم دفعاً، ولا يملكون لأنفسهم منكم ضراً ولا نفعاً، وفي هذه الجملة تذكير لهم بنعمة من
(وتودون) أي تريدون وتتمنون، معطوف على يعدكم من جملة الحوادث التي أمروا بذكر وقتها (أن غير ذات الشوكة) من الطائفتين وهي طائفة العير التي ليس فيها قتال ولا شوكة (تكون لكم) دون ذات الشوكة وهي طائفة النفير، قال أبو عبيدة: أي غير ذات الحد، والشوكة السلاح والنبت الذي له حد، ومنه رجل شائك السلاح أي حديد السلاح ثم يقلب فيقال شاكي السلاح فالشوكة مستعارة من واحدة الشوك.
والمعنى: وتودون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح وهي طائفة العير لأنها غنيمة صافية عن كدر القتال، إذ لم يكن معها من يقوم بالدفع عنها، قال الضحاك: وهي عير أبي سفيان، ودّ أصحاب محمد ﷺ أن العير كانت لهم وأن القتال صرف عنهم.
(ويريد الله أن يحق الحق بكلماته) وهو من جملة ما أمروا بذكر وقته أي ويريد الله غير ما تريدون وهو أن يحق الحق بإظهاره لما قضاه من ظفركم بذات الشوكة وقتلكم لصناديدهم، وأسر كثير منهم واغتنام ما غنمتم من أموالهم التي أجلبوا بها عليكم وراموا دفعكم بها، والمراد بالكلمات الآيات التي أنزلها في محاربة ذات الشوكة، ووعدكم منه بالظفر بها، وقيل الكلمات عداته التي سبقت لكم من إظهار الدين وإعزازه، وقيل أسباب النصر مثل نزول الملائكة وأوامره لهم بالإمداد.
(ويقطع دابر الكافرين) الدابر الآخر، وقطعه عبارة عن الاستئصال، والمعنى ويستأصلهم جميعاً حتى لا يبقى منهم أحد.
وليس في هذه الجملة تكرير لما قبلها لأن الأولى لبيان التفاوت فيما بين الإرادتين، وهذه لبيان الحكمة الداعية إلى ذلك، والعلة المقتضية له والمصلحة المترتبة عليه، وقيل لا يقال فيه تحصيل الحاصل إذ المراد بالحق الإيمان، وبالباطل الشرك وقيل المراد بالأول تثبيت ما وعد به في هذه الواقعة من النصرة والظفر بالأعداء، وبالثاني تقوية الدين وإظهار الشريعة لأن الذي وقع يوم بدر من نصر المؤمنين مع قلتهم، ومن قهر الكافرين مع كثرتهم كان سبباً لإعزاز الدين وقوته ولهذا قرنه بقوله ويبطل الباطل.
(ولو كره) أن يحق الحق ويبطل الباطل (المجرمون) أي المشركون من قريش أو جميع طوائف الكفار، ووقعة بدر قد اشتملت عليها كتب الحديث والسير والتواريخ مستوفاة فلا نطيل بذكرها.
والمعنى أن المسلمين لما علموا أنه لا بد من قتال الطائفة ذات الشوكة
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أن عدد المشركين يوم بدر ألف، وعدد المسلمين ثلثمائة وسبعة عشر رجلاً، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى ذلك استقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: " اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض "، فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبية ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل هذه الآية (١).
(فاستجاب لكم) عطف على (تستغيثون) داخل معه في التذكير وهو وإن كان مستقبلاً فهو بمعنى الماضي ولهذا عطف عليه استجاب (أني) أي بأني (ممدكم) بوعدي إياكم بالإمداد وذلك لأنه وقت الإجابة لم يحصل الإمداد بالفعل لأن الدعاء واستجابته كانا قبل وقوع القتال.
(بألف من الملائكة مردفين) قرئ بكسر الدال وفتحها وهما واضحتان لأنه يروى في التفسير أنه كان وراء كل ملك ملك رديفاً له، فقراءة الفتح تشعر بأن غيرهم أردفهم لركوبهم خلفهم وقراءة الكسر تشعر بأن الراكب خلف صاحبه قد أردفه فصح التعبير باسم الفاعل تارة واسم المفعول أخرى.
وجعل أبو البقاء مفعول مردفين بالكسر محذوفاً أي مردفين أمثالهم، ويجوز أن يكون معنى الإرداف المجيء بعد الأوائل أي جعلوا ردفاً للأوائل، قاله السمين.
_________
(١) مسلم/١٧٦٣.
وقال مجاهد: مردفين مجدين، وقال قتادة: متتابعين أمدهم الله بألف ثم بثلاثة ثم أكملهم خمسة آلاف، وعن علي قال: نزل جبريل في خمسمائة من الملائكة عن ميمنة النبي ﷺ وفيها أبو بكر، ونزل ميكائيل في خمسمائة من الملائكة عن ميسرة النبي ﷺ وأنا في الميسرة.
وعن مجاهد قال: ما أمد النبي - ﷺ - بأكثر من هذه الألف التي ذكر الله في الأنفال، وما ذكر الثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف إلا بشرى، قال في الجمل: لم يثبت أن الملائكة قاتلت في وقعة إلا في بدر، وأما في غيرها فكانت تنزل لتكثير عدد المسلمين ولا تقاتل كما وقع في حنين.
(وما النصر إلا من عند الله) لا من عند غيره ليس للملائكة في ذلك أثر فهو الناصر على الحقيقة وليسوا إلا سبباً من أسباب النصر التي سببها الله لكم وأمدكم بها، وفيه تنبيه على أن الواجب على المسلم أن لا يتوكل إلا على الله في جميع أحواله ولا يثق بغيره فإن الله تعالى بيده الظفر والإعانة (إن الله عزيز) لا يغالب (حكيم) في كل أفعاله.
قيل وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان.
أحدهما: أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد.
والثاني: أنه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم، وقيل أن النوم غشيهم في حال التقاء الصفين، وقد مضى في يوم أحد نحو من هذا في سورة آل عمران.
عن علي قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله ﷺ يصلي تحت شجرة حتى أصبح، قال مجاهد: أمنة منه أي أمنا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم.
وقال قتادة: رحمة منه أمنة من العدو، وعنه قال: النعاس في الرأس والنوم في القلب، وعنه قال: كان النعاس أمنة من الله وكان النعاس نعاسين يوم بدر ويوم أحد، وقال ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة من الشيطان، وقيل أن ذلك النعاس كان في حكم المعجزة لأنه أمر خارق للعادة.
والذي في سيرة ابن إسحق وغيره أن المؤمنين هم الذين سبقوا إلى ماء بدر وأنه منع قريشاً من السبق إلى الماء مطر عظيم، ولم يصب المسلمين منه إلا ما شد لهم دهس الوادى وأعانهم على المسير، وقال مجاهد: المطر أنزله الله عليهم قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار والتبدت به الأرض وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم.
وعن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهساً وأصاب رسول الله - ﷺ - وأصحابه ما لبد الأرض ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشاً ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.
(ليطهركم به) أي ليرفع عنكم الأحداث والجنابة، عن ابن عباس: أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمأ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين، وقد قدمنا أن المشهور في كتب السير المعتمدة أن المشركين لم يغلبوا المؤمنين على الماء بل المؤمنون هم الذين غلبوا عليه من الابتداء، وهذا المروي عن ابن عباس في إسناده العوفي وهو ضعيف جداً.
(ويذهب عنكم رجز الشيطان) أي وسوسته لكم بما كان قد سبق إلى قلوبكم من الخواطر التي منها الخوف والفشل حتى كانت حالكم حال من يساق إلى الموت، والرجز في الأصل العذاب الشديد، وأريد به هنا نفس وسوسة الشيطان مجازاً لمشقتها على أهل الإيمان كما قيل كل ما اشتدت مشقته على النفوس فهو رجز.
(وليربط على قلوبكم) بالنصر واليقين فيجعلها صابرة قوية ثابتة في مواطن الحرب، والربط في اللغة الشد، وكل من صبر على أمر فقد ربط نفسه عليه، قيل لفظة على صلة كذا في الوسيط وقيل للإستعلاء أي أن القلوب
(ويثبت به) أي بالماء الذي أنزله الله عند الحاجة اليه، وقيل الضمير راجع إلى الربط المدلول عليه بالفعل (الأقدام) أي أقدامكم في مواطن القتال ومعارك الجدال، وقال قتادة: كان الوادي دهاساً فلما مطروا اشتدت الرملة وسهل المشي عليه لأن العادة أن المشي في الرمل عسر فإذا نزل عليه الماء وجمد سهل المشي ولم يبق فيه غبار يشوش على الماشي فيه.
عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: قال لي أبي: يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليسير سيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف وعن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب على الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحترق به.
(فثبتوا الذين آمنوا) أي بشروهم بالنصر والظفر أو ثبتوهم على القتال بالحضور معهم وتكثير سوادهم، أو قووا قلوبهم، وهذا أمر منه سبحانه للملائكة الذين أوحى إليهم بأنه معهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
واختلفوا في كيفية هذه التقوية والتثبيت فقيل كما أن الشيطان له قوة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم بالشر، فكذلك للملك قوة إلقاء الإلهام في قلب ابن آدم بالخير، ويسمى ما يلقي الشيطان وسوسة، وما يلقي الملك لمة وإلهاماً فهذا هو التثبيت.
(سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) أي الخوف فلا يكون لهم ثبات، وقد تقدم بيان معنى القاء الرعب في آل عمران، وكان ذلك نعمة من الله على المؤمنين حيث ألقى الرعب في قلوب الكفار، قيل هذه الجملة تفسير
وقال محمد بن يزيد: وهذا عند الجمهور خطأ لأن فوق يفيد معنى فلا يجوز زيادتها ولكن المعنى أنه أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها، وقيل المراد الرؤوس قال عكرمة: وهذا ليس بجيد لأن فوق لا يتصرف، وزعم بعضهم أنه يتصرف، وأنك تقول فوق رأسك برفع فوق وهو ظاهر قول الزمخشري، وقال أبو عبيدة إنها بمعنى (على) تقديره فاضربوهم على الأعناق وهو قريب من الأول.
وقال ابن قتيبة: هي بمعنى (دون) قال ابن عطية: وهذا خطأ بين، وغلط فاحش وإنما دخل عليه اللبس من قوله تعالى: (بعوضة فما فوقها) أي فما دونها، وليست فوق هنا بمعنى دون، وإنما المراد فما فوقها في القلة والصغر، وعن الضحاك قال: اضربوا الرقاب وقيل المراد بفوق الأعناق أعاليها لأنها المفاصل التي يكون الضرب فيها أسرع إلى القطع، قاله في الكشاف، قيل هذا أمر للملائكة فيكون متصلاً بما قبله، وقيل للمؤمنين فيكون منقطعاً عما قبله، وعلى الأول قيل هو تفسير لقوله فثبتوا الذين آمنوا.
(واضربوا منهم كل بنان) أي كل مفصل، قال الزجاج: واحد البنان بنانة وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء، والبنان مشتق من قولهم أبن الرجل بالمكان إذا أقام به لأنه يعمل بها ما يكون للإقامة والحياة، وقيل المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين وهو عبارة عن الثبات في الحرب، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء.
قال ابن فارس: البنان الأصابع، وقال عطية: كل مفصل بنانة، وقال ابن عباس: الأطراف، وقال أبو الهيثم: البنان المفاصل قيل أمرهم الله بضرب أعلى الجسد، وهو الرأس وفيه هلاك الإنسان، وبضرب أضعف الأعضاء وهو البنان، وفيه تعطيل حركة الإنسان فيدخل في ذلك كل عضو في الجسد.
(ومن يشاقق الله) أي يخالفه ويجانبه (ورسوله فإن الله شديد العقاب) له يعاقبه بسبب ما وقع منه من الشقاق يعني أن الذي نزل بهم في ذلك اليوم من القتل والأسر شيء قليل فيما أعد الله لهم من العقاب يوم القيامة، والشرطية تكملة لما قبلها وتكرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني، كأنه قيل ذلك العقاب الشديد بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله وكل من يشاقق الله ورسوله كائناً من كان فله بذلك عقاب شديد، فإذا لهم بسبب مشاقتهم عقاب شديد قاله أبو السعود
(وأنّ للكافرين عذاب النار) معطوفة على ما قبلها فتكون الإشارة على هذا إلى العقاب العاجل الذي أصيبوا به، ويكون ذلك إشارة إلى العقاب
(فلا تولوهم الأدبار) أي ظهوركم منهزمين منهم، فإن المنهزم يولي ظهره ودبره. نهى الله المؤمنين أن ينهزموا عن الكفار إذا لقوهم وقد دب بعضهم إلى بعض للقتال وظاهر هذه الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن وعلى كل حال إلا في حالة التحريف والتحيز.
وقد روي عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأبي بصرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة وزيد بن أبي حبيب والضحاك أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية مختص بيوم بدر، وأن أهل بدر لم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ولا لهم فئة إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض، وبه قال أبو حنيفة، قالوا ويؤيده قوله:
وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة وأن الفرار من الزحف محرم، ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر وأجيب عن قول الأولين بأن الإشارة في (يومئذ) إلى يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق.
ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف بل هذه الآية مقيدة بها فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله في آية الضعف.
ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي ﷺ بالخروج، لأنه ﷺ ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال.
ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث: اجتنبوا السبع الموبقات وفيه " والتولي يوم الزحف " ونحوه من الأحاديث، وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه وهو مبين في مواطنه، وورد عن جماعة من الصحابة أن التولي يوم الزحف من الكبائر.
قال ابن عطية: والإدبار جمع دبر، والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفار والذم له.
قلت ويطلق الدبر على مقابل القبل وعلى الظهر وهو المراد هنا، والمقصود ملزوم تولية الظهر وهو الانهزام، وهذا من باب التعريض حيث ذكر لهم حالة تستهجن من فاعلها فأتى بلفظ الدبر دون الظهر لذلك، وبعض أهل علم البيان يسمي هذا النوع كناية وليس بشيء.
(ومنِ يولهم يومئذ) أي يوم لقيتموهم (دبره إلا متحرفاً لقتال) أي منعطفاً ومائلاً إليه، والنصب على الحال أو الاستثناء من ضمير المؤمنين أي ومن يولهم إلا رجلاً منهم متحرفاً، واللام للتعليل أي لأجل قتال أي لأجل التمكن منه، والتحرف الزوال عن جهة الاستواء والمراد به هنا التحريف من جانب إلى جانب في المعركة طلباً لمكائد الحرب وخدعاً للعدو، كمن يوهم أنه منهزم ليتبعه العدو، فيكر عليه ويتمكن منه ونحو ذلك من مكائد الحرب، فإن الحرب خدعة.
(أو متحيزاً إلى فئة) أي منضماً وصائراً إلى جماعة من المسلمين غير الجماعة المقابلة للعدو أي رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً، ووزن متحيز متفيعل لا متفعل لأنه من حاز يحوز فبناء متفعل منه متحوز، والتحيز والتحوز الإنضمام وتحوزت الحية انطوت، وحزت الشيء ضممته والحوزة ما يضم الأشياء.
(فقد باء) أي من ينهزم ويفر من الزحف إلا في هاتين الحالتين فقد رجع (بغضب) كائن (من الله ومأواه جهنم) أي المكان الذي يأوي إليه هو النار ففراره أوقعه إلى ما هو أشد بلاء مما فر منه وأعظم عقوبة، والمأوى ما يأوي إليه الإنسان (وبئس المصير) ما صار إليه من عذاب النار.
وقد اشتملت هذه الآية على هذا الوعيد الشديد لمن يفر عن الزحف وفي ذلك دلالة على أنه من الكبائر الموبقة.
(وما رميت إذ رميت) اختلف المفسرون في هذا الرمي على أقوال فروي عن مالك أن المراد به ما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم في يوم حنين فإنه رمى المشركين بقبضة من حصباء الوادي، فأصابت كل واحد منهم، وقيل المراد به الرمية التي رمى رسول الله ﷺ أبي بن خلف بالحربة في عنقه فانهزم ومات منها، وقيل المراد به السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حصن خيبر، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه.
وهذه الأقوال ضعيفة فإن الآية نزلت عقب وقعة بدر، وأيضاً المشهور في كتب السير والحديث في قتل ابن أبي الحقيق أنه وقع على صورة غير هذه الصورة والصحيح كما قال ابن إسحاق وغيره: أن المراد بالرمي المذكور في هذه الآية هو ما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم في يوم بدر، فإنه أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين فأصابت كل واحد منهم، ودخلت في عينيه ومنخريه وأنفه.
وقيل المعنى أن الرمية بتلك القبضة من التراب التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله ﷺ لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله عز وجل فكأن الله فاعل الرمية على الحقيقة وكأنها لم توجد من رسول الله ﷺ أصلاً، هكذا في الكشاف.
وفي الآية بيان أن فعل العبد مضاف إليه كسباً وإلى الله خلقاً لا كما تقوله الجبرية والمعتزلة لأنه أثبت الفعل للعبد ثم نفاه عنه وأثبته لنفسه، فصح هذا النفي والإثبات، قال الكرخي: نفى الفعل عنهم وعنه باعتبار الإيجاد إذ الموجد حقيقة هو الله تعالى، وإثباته لهم وله باعتبار الكسب والصورة.
قال مجاهد: هذا لمحمد- ﷺ - حين حصب الكفار، وقال قتادة: رماهم يوم بدر بالحصباء، وعن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله - ﷺ - بتلك الحصباء وقال: شاهت الوجوه فانهزمنا فذلك قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت) الآية وعن جابر نحوه.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ لعلي: ناولني قبضة من حصباء فناوله فرمى بها في وجوه القوم فما بقي أحد من القوم إلا
قال ابن كثير: وهذا القول عن هذين الإمامين غريب جداً، ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها وهكذا قال فيما قاله عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله - ﷺ - دعا بقوس فرمى بها الحصن فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (١).
(وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً) البلاء يستعمل في الخير والشر على حد (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) والمراد هنا الخير والنعمة، وعليه أجمع المفسرين والمعنى ولينعم على المؤمنين بالغنيمة إنعاماً جميلاً أي للإنعام عليكم بنعمه الجليلة فعل ذلك لا لغيره.
وقيل التقدير لكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي المؤمنين، وقال عروة ابن الزبير: أي ليعرف المؤمنين من نعمته عليهم في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم وقلة هؤلاء ليعرفوا بذلك حقه، ويشكروا بذلك نعمته (إن الله سميع) لدعائهم (عليم) بأحوالهم.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٢٩٦.
ومعنى بقية الآية على هذا القول (وإن تنتهوا) عما كنتم عليه من الكفر والعداوة لرسول الله - ﷺ - (فهو) أي الانتهاء (خير لكم وإن تعودوا) إلى ما كنتم عليه من الكفر والعداوة (نعد) بتسليط المؤمنين عليكم ونصرهم كما سلطناهم ونصرناهم في يوم بدر، وقال قتادة: نعد لكم بالقتل والأسر.
(ولن تغني عنكم فئتكم) أي جماعتكم (شيئاً ولو كثرت) أي لا تغني عنكم في حال من الأحوال ولو في حال كثرتها، ثم قال (وإن) بالكسر استئنافاً وبفتحها على تقدير اللام (الله مع المؤمنين) أي محمد وأصحابه قاله السدي ومن كان الله معه فهو المنصور ومن كان الله عليه فهو المخذول.
وقيل أن الآية خطاب للمؤمنين والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر في يوم بدر، وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم وفداء
ولا يخفى أنه يأبى هذا القول معنى (ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً) ويأباه أيضاً أن الله مع المؤمنين وتوجيه ذلك لا يمكن إلا بتكلف وتعسف.
وقيل أن الخطاب في أن تستفتحوا للمؤمنين وفيما بعده للكافرين، ولا يخفى ما في هذا من تفكيك النظم وعود الضمائر الجارية في الكلام على نمط واحد إلى طائفتين مختلفتين.
هذا تفسير الآية على ظاهر الخطاب للمؤمنين وبه قال الجمهور وقيل أنه خطاب للمنافقين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط قال ابن عطية: وهذا وإن كان محتملاً على بعد فهو ضعيف جداً لأن الله وصف من خاطبه في هذه الآية بالإيمان وهو التصديق، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء.
وأبعد من هذا من قال الخطاب لبني إسرائيل فإنه أجنبي من الآية (وأنتم تسمعون) ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين والقرآن والمواعظ وتصدقون بها ولستم كالصم البكم.
(عند الله) أي في حكمه (الصم البكم) أي الذين لا يسمعون ولا ينطقون، وصفوا بذلك مع كونهم ممن يسمع وينطق لعدم انتفاعهم بالسمع والنطق (الذين لا يعقلون) ما فيه النفع لهم فيأتونه وما فيه الضرر عليهم فيجتنبونه فهم شر الدواب عند الله لأنها تميز بعض تمييز، وتفرق بين ما ينفعها ويضرها، قال ابن عباس: هم نفر من قريش من بني عبد الدار، وعن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث وقومه.
(ولو أسمعهم) فرضاً وقد علم أن لا خير لهم (لتولوا) عنه ولم ينتفعوا بما يسمعون من المواعظ والدلائل ولم يستقيموا (وهم معرضون) عن قبوله عناداً وجحوداً لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون.
(إذا دعاكم) وحد الضمير هنا كما وحده في قوله: (ولا تولوا عنه) لان استجابة الرسول استجابة لله تعالى، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، وقد تقدم وجه ذلك (لما يحيييكم) أي استجيبوا لما يحيييكم إذا دعاكم، ولا مانع من أن تكون اللام متعلقة بدعا أي إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم من علوم الشريعة، لأن العلم حياة، كما أن الجهل موت.
لا تعجبنّ الجهولَ حلّته... فذاك ميت وثوبه كفن
قال الجمهور من المفسرين: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي ففيه الحياة الأبدية والنعمة السرمدية، وقيل المراد الجهاد فإنه سبب الحياة في الظاهر لأن العدو إذا لم يغُز غزا، قاله ابن إسحق، وقال السدي: هو الإيمان لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان، وقال مجاهد: هو الحق.
وقيل هو الشهادة لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وعن قتادة
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله - ﷺ - فلم أجبه ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله تعالى: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) الحديث (١).
وعن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - خرج على أبي بن كعب وهو يصلي فقال: يا أُبَيّ فالتفت أبي ولم يجبه، الحديث وفيه فقال: إني كنت في الصلاة فقال: أفلم تجد فيما أوحى الله إلى (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم)؟ قال: بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى، أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح.
وهذه الإجابة مختصة بالنبي - ﷺ - وليس لأحد أن يقطع صلاته لدعاء أحد آخر وقيل لو دعاه أحد لأمر مهم لا يحتمل التأخير فله أن يقطع صلاته والأول أولى.
ويستدل بهذا الأمر بالاستجابة على أنه لا بد من الإجابة في كل ما دعا الله ورسوله إليه، فيجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية أن يبادر إلى العمل به كائناً ما كان، ويدع ما خالفه من الآراء وأقوال الرجال.
وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة وترك التقليد بالمذاهب وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائناً ما كان.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٢٩٧.
ولا يخفاك أنه لا مانع من حمل الآية على هذه المعاني، وقال ابن عباس: يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله، ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله، وبه قال سعيد بن جبير والضحاك ومجاهد، وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإذنه وإرادته.
قيل وهذا القول هو الذي دلت عليه البراهين العقلية لأن أحوال القلوب اعتقادات ودواع وإرادات، وتلك الإرادات لا بد لها من فاعل مختار وهو الله تعالى، فثبت بذلك أن المتصرف في القلب كيف شاء هو الله، فالمعنى أنه يحول بين المرء وخواطر قلبه أو وإدراك قلبه بمعنى أنه يمنعه من حصول مراده أو يمنعه من الإدراك والفهم.
وفي الشهاب أصل الحول كما قال الراغب: تغير الشيء وانفصاله عن غيره وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول، وباعتبار الانفصال قيل حال بينهما كذا، فحقيقة كون الله يحول بين المرء وقلبه أنه يفصل بينهما، ومعناه الحقيقي غير متصور في حقه فهو مجاز عن غاية القرب من العبد لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما وانفصال أحدهما عن الآخر، وهو إما استعارة تبعية فمعنى يحول يقرب أو تمثيلية.
وقيل أن الأنسب أن يكون مجازاً مركباً مرسلاً لاستعماله في لازم معناه
وقال الربيع بن أنس: علمه يحول، وقال مجاهد: يحول حتى يتركه لا يعقل، وعن الحسن قال: في القرب منه، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: أن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك (١) أخرجه مسلم، وفي الباب أحاديث.
(وأنه إليه تحشرون) أي وأنكم محشورون إليه وهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً، قال الفراء: ولو استأنفت فكسرت همزة إنه لكان صواباً، ولعل مراده أن مثل هذا جائز في العربية.
وهذا الحديث من أحاديث الصفات يجب إمراره على ما جاء من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، وكذا هذه الآية وكونه من الصفات يرد تأويلها بالتمثيل.
_________
(١) مسلم ٢٦٥٤.
وروى الترمذي ٢/ ٣٦ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله - ﷺ - يكثر أن يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " فقلت: يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: " نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء ". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وهذا واضح من هذه الجهة إلا أنه يشكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط وفيه خلاف.
وقد اختلف النحاة في هذه النون المؤكدة في تصيبن فقال الفراء: هو جواب الأمر بلفظ النهي، ومثله قوله تعالى: (ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم) أي إن تدخلوا، وقال المبرد: أنه نهي بعد أمر، والمعنى النهي للظالمين أي لا يقربن الظلم ومثله ما روي عن سيبويه لا أريتك ههنا أي لا تكن ههنا فإن من كان ههنا رأيته وقال الجرجاني: نهي في موضع وصف لفتنة.
وقيل (لا تصيبن) جواب قسم محذوف، والجملة القسمية صفة لفتنة أي فتنة والله لا تصيبن ودخول النون أيضاً قليل لأنه منفي، قال الزبير: الفتنة البلاء والأمر الذي هو كائن.
وعن الحسن قال: نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير، وعن الضحاك قال: نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، وعن السدي
روى البغوي بسنده عن عدي بن عدي قال: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة (١).
والذي ذكره ابن الأثير في جامع الأصول عن عدي بن عميرة الكندي أن النبي - ﷺ - قال: إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها (٢).
وأخرج أبو داود عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه ولم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا (٣).
وقال ابن زيد: أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضاً.
وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: تكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأً أو معاذاً فليعذ به (٤).
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ١٦٧٥.
(٢) أبو داوود كتاب الملاحم باب ١٧.
(٣) أبو داوود كتاب الملاحم باب ١٧.
(٤) مسلم ٢٨٨٧.
وعلامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارهاً له إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده، فكل من لم يكن بهذه الحالة فهو راض بالمنكر فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار، هكذا قرره القسطلاني على البخاري.
(واعلموا أن الله شديد العقاب) ومن شدة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه، وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه ولا يعذب إلا بجنايته، فيمكن حمل ما في هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض، ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة والله أعلم.
وممكن أن يقال إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبة بأسباب كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون الإصابة المتعدية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم، وعن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب (١).
(تخافون أن يتخطفكم الناس) والخطف الأخذ بسرعة والمراد بالناس مشركو قريش وكفار مكة، وقال عكرمة: كفار العرب وقيل فارس والروم، قاله وهب (فآواكم) يقال أوى إليه بالمد والقصر بمعنى الضم إليه، والمعنى ضمكم الله إلى المدينة أو إلى الأنصار.
(وأيدكم بنصره) أي وقواكم بالنصر في مواطن الحرب التي منها يوم بدر، أو قواكم بالملائكة يوم بدر (ورزقكم من الطيبات) التي من جملتها الغنائم أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم (لعلكم تشكرون) أي إرادة أن تشكروا هذه النعم التي أنعم الله بها عليكم.
وقال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً وأشقاه عيشاً وأجوعه بطناً وأعراه جلوداً وأبينه ضلالة، من عاش عاش شقياً، ومن مات منهم ردّي في النار يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلاً من حاضري الأرض يومئذ كان أشر منزلاً منهم حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله عز وجل (١).
_________
(١) روى البخاري ٥/ ٩٤ - ٢١٦ عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - قال: " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديههم نجوا ونجوا جميعاً ".
نهاهم الله عن أن يخونوه بترك شيء مما افترضه عليهم أو يخونوا رسوله بترك شيء مما آمنهم الله عليه أو بترك شيء مما سنه لهم، أو يخونوا شيئاً من الأمانات التي ائتمنوا عليها، وسميت أمانات لأنه يؤمن معها من منع الحق، مأخوذة من الأمن، قال ابن عباس: لا تخونوا الله بترك فرائضه والرسول بترك سننه وارتكاب معصيته.
وقال المغيرة بن شعبة: نزلت هذه الآية في قتل عثمان، وقال يزيد بن أبي حبيب: هو الإخلال بالسلاح في المغازي، ولعل مرادهما أن هذا مما يندرج تحت عمومها.
قال جابر بن عبد الله: إن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل النبي - ﷺ - فقال إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه بمكان كذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله هذه الآية.
وعن عبد الله بن أبي قتادة قال: نزلت هذه الآية في أبي لبابة بن عبد المنذر سألوه يوم قريظة ما هذا الأمر فأشار إلى حلقه أنه الذبح فنزلت، وعن
ولما اشتد الحصار ببني قريظة أطاعوا وانقادوا أن ينزلوا على ما يحكم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكم فيهم سعد بن معاذ وقال: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة (١).
وفي رواية محمد بن صالح: لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات، والقصة بطولها في المواهب اللدنية (وأنتم تعلمون) أن ذلك الفعل خيانة فتفعلون الخيانة عن عمد، أو أنتم من أهل العلم لا من أهل الجهل.
ثم قال:
_________
(١) ذكره القرطبي في ٧/ ٣٩٤ روى أنها نزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قُريظة بالذبح. قال أبو لُبابة: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله؛ فنزلت هذه الآية. فلما نزلت شدّ نفسه إلى سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت، أو يتوب الله عليّ. الخبر مشهور. مسلم ١٧٦٨.
عن ابن مسعود قال: ما منكم من أحد إلا وهو يشتمل على فتنة، لأن الله يقول: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مضلات الفتن، وقال ابن زيد: فتنة الاختبار اختبرهم، وقرأ [ونبلوكم بالشر والخير فتنة] (وأن الله عنده أجر عظيم) فآثروا حقه على أموالكم وأولادكم ليحصل لكم ما عنده من الأجر المذكور.
وقال الفراء: المراد بالفرقان الفتح والنصر، قال ابن إسحاق الفرقان الفصل بين الحق والباطل وبمثله قال ابن زيد، وقال السدي: الفرقان النجاة ويؤيد تفسير الفرقان بالمخرج والنجاة قوله: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) وبه قال مجاهد ومالك بن أنس.
(ويكفر عنكم سيئاتكم) أي يسترها حتى تكون غير ظاهرة (ويغفر لكم) ما اقترفتم من الذنوب، وقد قيل إن المراد بالسيئات الصغائر وبالذنوب التي تغفر الكبائر، وقيل المعنى أنه يغفر لهم ما تقدم من الذنوب وما تأخر (والله ذو الفضل العظيم) فهو المتفضل على عباده بتكفير السيئات ومغفرة الذنوب.
وقال عكرمة: هذه الآية مكية، والمكر الاحتيال في إيصال الضرر للغير.
(ليثبتوك) أي يثخنوك بالجراحات كما قال ثعلب وأبو حاتم وغيرهما، وقيل المعنى ليحبسوك يقال أثبته إذا حبسه، وقيل ليوثقوك لأن كل من شد شيئاً وأوثقه فقد أثبته لأنه لا يقدر على الحركة، وهذا أشار لرأي أبي البختري ومنه فشدوا الوثاق، وقرأ الشعبي: ليبيتوك من البيات.
(أو يقتلوك) أي كلهم قتلة رجل واحد كما أشار عليهم أبو جهل (أو يخرجوك) منفياً من مكة التي هي بلدك وبلد أهلك، وهذا أشار لرأي هشام ابن عمرو، كذا في شرح المواهب، عن ابن عباس قال: تشاورت قريش بمكة ليلة فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه ﷺ على ذلك فبات عليّ على فراش النبي - ﷺ - حتى لحق بالغار، فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوه علياً رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا، فقال: لا أدري فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال.
وروى البيهقي وغيره عنه بأطول مما هنا وفيها ذكر الشيخ النجدي أي إبليس ومشورته عليهم عند اجتماعهم في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي - ﷺ - وأن أبا جهل أشار بأن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش غلاماً ويعطوا كل واحد منهم سيفاً ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في
(ويمكرون) بك (ويمكر الله) بهم، والمكر التدبير في الأمر في خفية، والمعنى أنهم يخفون ما يعدونه لرسول الله - ﷺ - من المكائد فيجازيهم الله على ذلك ويرد كيدهم في نحورهم بأن يخرجهم إلى بدر، ويقلل المسلمين في أعينهم حتى يحملوا عليهم فيقتلوا، وسمى ما يقع منه تعالى مكراً مشاكلة كما في نظائره، والمشاكلة تزيده حسناً، على حسن، وقيل استعارة تبعية وقيل مجاز مرسل بعلاقة السببية، وقيل استعارة تمثيلية.
(والله خير) المجازين لمكر (الماكرين) بمثل فعلهم فهو يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون فيكون ذلك أشد ضرراً عليهم وأعظم بلاء من مكرهم، ووضع خير موضع أقوى، فيه تنبيه على أن كل مكر يبطل بفعل الله.
(إن هذا إلا أساطير الأولين) أي ما يسطره الوراقون من أخبار الأولين وقد تقدم بيانه مستوفى، وعن السدي أنها نزلت في النضر بن الحرث وكان يختلف إلى أرض فارس والحيرة ويسمع أخبارهم عن رستم واسفنديار، وأحاديث العجم، فلما جاء مكة ووجد النبي - ﷺ - قد أوحى إليه قال: (قد سمعنا) الآية.
(من عندك فأمطر) قال أبو عبيدة: يقال أمطر في العذاب، ومطر في الرحمة وقال في الكشاف: قد كثر الإمطار في معنى العذاب، والإمطار استعارة أو مجاز عن الإنزال أي أنزل (علينا حجارة) فائدة توصيف الحجارة بقوله (من السماء) الدلالة على أن المراد بالحجارة السجيل، وهو حجارة مسومة أي معلمة معدة لتعذيب قوم من العصاة.
(أو ائتنا بعذاب أليم) قالوا هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار، سألوا أن يعذبوا بالرجم بالحجارة من السماء أو غيرها من أنواع العذاب الشديدة فأجاب الله عليهم بقوله.
أخرج البخاري وابن أبي حاتم والبيهقي عن أنس بن مالك قال: قال
(وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) روي أنهم كانوا يقولون في الطواف غفرانك فنزلت أي (وما كان الله معذبهم) في حال كونهم مستغفرين، قال ابن عباس: كان فيهم أمانان النبي - ﷺ - والاستغفار، فذهب النبي ﷺ وبقي الاستغفار.
وأخرج الترمذي وضعفه عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي - ﷺ -: أنزل الله عليّ أمانين لأمتي (وما كان الله ليعذبهم) الآية فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار (١)، وقيل معنى الآية لو كانوا ممن يؤمنون بالله ويستغفرونه لم يعذبهم، وقيل أن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم أي وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده.
وقيل المعنى وفي أصلابهم من يستغفر الله، وقيل هذا دعاء لهم إلى الإسلام والاستغفار بهذه الكلمة، وقال مجاهد وعكرمة: وهم يستغفرون أي يسلمون يعني لو أسلموا لما عذبوا، قال أهل المعاني دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب، والأحاديث عن رسول الله - ﷺ - في مطلق الاستغفار كثيرة جداً معروفة في كتب الحديث.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ١٣٤١.
(وهم) أي والحال أنهم (يصدون) الناس (عن المسجد الحرام) كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله - ﷺ - وأصحابه من البيت (وما كانوا أولياءه) كما زعموا أي مستحقين ولاية أمره مع شركهم، وهذا كالرد لما كانوا يقولونه من أنهم ولاة البيت والحرم، وأن أمرهم مفوض إليهم، ثم قال مبيناً لمن له ذلك (إن أولياؤه إلا المتقون) أي من كان في عداد المتقين للشرك والمعاصي، وعن مجاهد قال: من كانوا حيث كانوا.
(ولكن أكثرهم) أى أكثر الناس (لا يعلمون) ذلك، والحكم على الأكثرين بالجهل يفيد أن الأقلين يعلمون ولكنهم يعاندون، أو أراد به الكل كما يراد بالقلة العدم.
ومعنى الآية أن المشركين كانوا يصفرون ويصفقون عند البيت الذي هو موضع للصلاة والعبادة، فوضعوا ذلك موضع الصلاة قاصدين به أن يشغلوا المصلين من المسلمين عن الصلاة، وعن عكرمة قال: " كان المشركون يطوفون بالبيت على الشمال فالمكاء مثل نفخ البوق والتصدية طوافهم على الشمال.
وقال السمين: التصدية فيها قولان " أحدهما " أنها من الصدى وهو ما يسمع من رجع الصوت في الأمكنة الخالية الصلبة، يقال منه صدى يصدي تصدية، والمراد بها هنا ما يسمع من صوت التصفيق بإحدى اليدين على الأخرى، وقيل مأخوذ من التصدد وهو الضجيج والصياح والتصفيق، ويدل عليه قراءة [إذا قومك منه يصدون] بالكسر أى يضجون ويلغطون " والثاني " أنها من الصد وهو المنع، ويؤيده قراءة يصدون بالضم أي يمنعون انتهى، والمكاء الصفير وهو الصوت الخالي عن الحروف.
والمعنى أنهم فوتوا ما حقهم أن يشتغلوا به في هذا المكان من الصلاة وشغلوه بهذا اللعب والخراف والهوس، واستثنى المكاء والتصدية مع أنهما ليسا من جنس الصلاة تقريعاً للمشركين بتركهم ما أمروا به في المسجد الحرام، فإن ما لا يدخل تحت الشيء قد يستثنى منه لمصلحة وغرض كقصد المدح والذم؛ فعلى هذا يكون التقدير وما كان موضع صلاتهم أي عوضها إلا مكاء وتصدية.
(فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) هذا التفات إلى مخاطبة الكفار تهديداً لهم ومبالغة في إدخال الروعة في قلوبهم، والمراد به عذاب الدنيا كيوم بدر، وعذاب الآخرة، قال الضحاك: يعني أهل بدر عذبهم الله بالقتل والأسر.
وعن ابن عباس قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعن مجاهد وسعيد بن جبير نحوه. وعن الحكم بن عتيبة قال: نزلت في أبي سفيان أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب، وكانت الأوقية يومئذ أربعين واثنين مثقالاً من ذهب.
ثم أخبر الله سبحانه عن الغيب على وجه الإعجاز فقال (فسينفقونها) أى سيقع منهم هذا الإنفاق وسيعلمون عاقبة إنفاقها من الخيبة وعدم الظفر بالمقصود فحصلت المغايرة (ثم تكون) أي عاقبة ذلك أن يكون إنفاقهم (عليهم حسرة) كأن ذات الأموال تنقلب حسرة وتصير ندماً لفوات ما قصدوه بها (ثم) آخر الأمر (يُغلبون) في الدنيا كما وعد الله في مثل قوله (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) ومعنى ثم في الموضعين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل الأموال وعدم حصول المقصود من المباينة.
ثم قال (والذين كفروا) أي استمروا على الكفر لأن من هؤلاء الكفار المذكورين سابقاً من أسلم وحسن إسلامه (إلى جهنم يحشرون) أي يساقون إليها لا إلى غيرها.
ثم بين العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعل فقال:
قال في الكشاف: واللام على هذا متعلقة بقوله: ثم تكون عليهم حسرة، وعلى الأول بيحشرون، انتهى. وعن شمر بن عطية قال: يميز يوم القيامة ما كان من عمل صالح في الدنيا ثم تؤخذ الدنيا بأسرها فتلقى في جهنم.
(ويجعل الخبيث) أي يجعل فريق الكفار الخبيث (بعضه على بعض) أي فوق بعض (فيركمه) الركوم عبارة عن الجمع والضم، أي يجمع بعضهم إلى بعض ويضم بعضهم إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامهم، يقال ركم الشيء يركمه إذا جمعه وألقى بعضه على بعضه، وبابه نصر، وارتكم الشيء وتراكم اجتمع والركام الرمل المتراكم والسحاب ونحوه.
(جميعاً) حال من الهاء في يركمه أو توكيد لها (فيجعله) أي الخبيث فيه مراعاة اللفظ (في جهنم أولئك) أي الفريق الخبيث (هم الخاسرون) أي الكاملون في الخسران، فيه مراعاة المعنى لأن الضمير راجع على الخبيث.
والمعنى إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله ﷺ وقتاله بالدخول في الإسلام (يغفر لهم ما قد سلف) لهم من العداوة اهـ.
وقيل معناه إن ينتهوا عن الكفر، قال ابن عطية: والحامل على ذلك جواب الشرط بيغفر لهم ما قد سلف، ومغفرة ما قد سلف لا يكون إلا لمنته عن الكفر وفي هذه الآية دليل على أن الإسلام يحبّ ما قبله.
وأخرج أحمد ومسلم عن عمرو بن العاص قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي ﷺ فقلت: ابسط يدك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي قال: مالك؟ فقلت أردت أن أشترط، قال تشترط ماذا؟ قلت: أن تستغفر لي قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله (١).
_________
(١) مسلم ١٢١.
(وإن يعودوا) إلى القتال والعداوة أو إلى الكفر الذي هم عليه، ويكون العود بمعنى الاستمرار، وفي الجمل العود يشعر بسبق التلبس بالشيء الذي حصل العود اليه، فالمعنى وإن يرتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ويرجعوا إلى الكفر وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجواب الشرط محذوف تقديره ننتقم منهم بالعقاب والعذاب.
وقوله: (فقد مضت سنة الأولين) تعليل للمحذوف ولا يصلح للجوابية كما لا يخفي أي سبقت واستقرت سنة الله في إهلاك أعدائه ونصر أوليائه.
وهذه العبارة مشتملة على الوعيد والتهديد والتمثيل بمن أهلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله، أي قد مضت سنة الله فيمن فعل مثل فعل هؤلاء من الأولين من الأمم أن يصيبه بعذاب فليتوقعوا مثل ذلك.
عن مجاهد قال: فقد مضت سنة الأولين في قريش وغيرها يوم بدر والأمم قبل ذلك، وقد فسر كثير من السلف هذه الآية بما مضى في الأمم المتقدمة من عذاب من قاتل الأنبياء وصمم على الكفر، وقال السدي ومحمد ابن إسحاق: المراد بالآية يوم بدر، وترسم سنت هذه بالتاء المجرورة وكذا الثلاثة التي في فاطر، وكذا التي في آخر غافر والإضافة على معنى في.
_________
(١) الإمام أحمد ٤/ ١٩٩.
(ويكون الدين كله) أي الطاعة والعبادة كلها (لله) خالصة دون غيره وقال قتادة: حتى يقال لا إله إلا الله عليه قاتل رسول الله ﷺ وإليه دعا، وقيل يضمحل عنهم كل دين باطل، ويبقى فيهم دين الإسلام وحده والمعاني متقاربة.
(فإن انتهَوا) عما ذكر من الشرك وافتتان المؤمنين وإيذائهم (فإن الله بما يعملون) بالتحتية باتفاق السبعة، وقرأ بالفوقية يعقوب من العشرة (بصير) لا يخفى عليه ما وقع منهم من انتهاء فيجازيهم به.
_________
(١) روى مسلم في " صحيحه " ١/ ١١١ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: " من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخذ بالأول والآخر ".
وروى مسلم أيضاً في " صحيحه " ١/ ١١٢ من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ".
(غنمتم) لما أمر الله سبحانه بالقتال بقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وكانت المقاتلة مظنة حصول الغنيمة، ذكر حكم الغنيمة، والغنيمة قد قدمنا أن أصلها إصابة الغنم من العدو، ثم استعملت في كل ما يصاب منهم، وقد يستعمل في كل ما ينال بسعي.
وأما معنى الغنيمة في الشرع فحكى القرطبي الاتفاق على أن المراد بقوله أنما غنمتم مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر قال: ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص، ولكن عرف الشرع قيد هذا اللفظ بهذا النوع.
وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله:
(يسألونك عن الأنفال) وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين، وأن قوله: (يسألونك عن الأنفال) نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر وقيل أنها يعني قوله: (يسألونك عن الأنفال) محكمة غير منسوخة، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست مقسومة بين الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة حكاه الماوردي عن كثير من المالكية.
وقالوا: وللإمام أن يخرجها عنهم، واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين،
وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وممن حكى ذلك ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن العربي، والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين وكيفيتها كثيرة جداً.
قال القرطبي: ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال) الآية ناسخ لقوله: (واعلموا أنما غنمتم) الآية بل قال الجمهور أن قوله: (واعلموا أنما غنمتم) ناسخ وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله.
وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها قال: وأما قصة حنين فقد عوض الأنصار لما قالوا يعطي الغنائم قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه، فقال لهم أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيوتكم (١) كما في مسلم وغيره، وليس لغيره أن يقول هذا القول بل ذلك خاص به، وقوله: (أنما غنمتم) يشمل كل شيء يصدق عليه اسم الغنيمة قليلاً كان أو كثيراً.
و (من شيء) بيان لما الموصولة، وقد خصص الإجماع من عموم الآية الأسارى فإن الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف، وكذلك سَلَب المقتول إذا نادى به الإمام قيل وكذلك الأرض المغنومة، ورد بأنه لا إجماع على الأرض.
(فأن) أي فحق أو فواجب أن (لله خمسه وللرسول) وقد اختلف
_________
(١) مسلم ١٠٥٩.
القول الأول: قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة.
فيجعل السدس للكعبة وهو الذي لله.
والثاني: لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثالث: لذوي القربى.
والرابع: لليتامى.
والخامس: للمساكين.
والسادس: لابن السبيل.
القول الثاني: قاله أبو العالية والربيع أنها تقسم الغنيمة على خمسة فيعزل منها سهم واحد، ويقسم أربعة على الغانمين ثم يضرب يده في السهم الذي عزله فما قبضه من شيء جعله للكعبة ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة للرسول ومن بعده في الآية.
القول الثالث: روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: الخمس لنا فقيل له أن الله يقول: (واليتامى والمساكين وابن السبيل) فقال: يتامانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا.
والقول الرابع: قول الشافعي: أن الخمس يقسم على خمسة وأن سهم الله وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية.
القول الخامس: قول أبي حنيفة: أنه يقسم الخمس على ثلاثة اليتامى
القول السادس: قول مالك: أنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده فيأخذ منه بغير تقدير، ويعطي منه الغزاة باجتهاد ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال القرطبي: وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم فانه لم يقسمه أخماس ولا أثلاثاً، وإنما ذكر ما في الآية من ذكره على وجه التنبيه عليهم لأنهم من أهم من يدفع إليه.
وقال الزجاج: محتجاً لهذا القول قال الله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل) وجائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك.
أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل سهم الله في السلاح والكراع وفي سبيل الله وفي كسوة الكعبة وطيبها وما تحتاج إليه الكعبة، ويجعل سهم الرسول في الكراع والسلاح ونفقة أهله، وسهم ذي القربى لقرابته يضعه رسول الله فيهم مع سهمهم مع الناس، ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلاثة أسهم يضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيمن شاء وحيث شاء ليس لبني عبد المطلب في هذه الثلاثة الأسهم ولرسول الله سهم مع سهام الناس.
وعن ابن بريدة قال: الذي لله لنبيه والذي للرسول لأزواجه، وعن
واجتمع رأي أصحاب رسول الله - ﷺ - على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، فكان ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ وأبو الحاكم عن قيس بن مسلم الجدلي عن محمد بن الحنفية.
وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن " عباس قال: (فأن لله خمسه) مفتاح كلام أي على سبيل التبرك، وإنما أضافه لنفسه لأنه هو الحاكم فيه فيقسمه كيف شاء وليس المراد منه أن سهماً منه لله مفرداً لأن لله ما في السموات وما في الأرض، وبه قال الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم النخعي قالوا: سهم الله وسهم رسوله واحد، وذكر الله للتعظيم فجعل هذين السهمين في الخيل والسلاح وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه غيرهم وجعل الأربعة الأسهم الباقية للفرس سهمين ولراكبه سهماً وللراجل سهماً.
وعنه رضي الله عنه قال: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس، فأربعة منها بين من قاتل عليها وخمس واحد يقسم على أربعة أخماس فربع لله وللرسول ولذي القربى يعني قرابة رسول الله - ﷺ -، فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي - ﷺ - ولم يأخذ النبي- ﷺ - من الخمس شيئاً، والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين والربع الرابع لابن السبيل، وهو الضعيف الفقير
(ولذي القربى) قيل إعادة اللام في ذي القربى دون من بعدهم لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي - ﷺ -، والمعنى أن سهماً من خمس الخمس لذوي القربى، وقد اختلف العلماء فيهم على أقوال الأول أنهم قريش كلها، روي ذلك عن بعض السلف، واستدل بما روي عن النبي ﷺ أنه لما صعد الصفا جعل يهتف ببطون قريش كلها قائلاً يا بني فلان يا بني فلان.
وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد: هم بنو هاشم وبنو المطلب وليس لبني عبد شمس وبني نوفل منه شيء وإن كانوا أخوة لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه وهو في الصحيح (١).
وأخرج ابن إسحق وابن أبي حاتم عن الزهري وعبد الله بن أبي بكر عن جبير بن مطعم أن النبي - ﷺ - قسم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، قال: فمشيت أنا وعثمان بن عفان حتى دخلنا عليه فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك منهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم دوننا فإنما نحن وهم بمنزلة واحدة في النسب، فقال: إنهم لم يفارقونا في الجاهلية والإسلام (٢)، وقد أخرجه مسلم في صحيحه.
وقيل هم بنو هاشم خاصة وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم وهو مروي عن علي بن الحسين ومجاهد، وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم قال: آل محمد الذين أعطوا الخمس آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل.
_________
(١) رواه ابن ماجه كتاب الجهاد باب ٤٦ بلفظ: " إنما أرى بني هاشم بني المطلب شيئاً واحداً ".
(٢) روى الإمام أحمد نظيره في مسنده ٤/ ٨١.
واختلفوا في سهمهم هل هو ثابت اليوم أم لا فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت فيعطى فقراؤهم وأغنياؤهم من خمس الخمس للذكر مثل حظ الانثيين، وبه قال مالك والشافعي، وقيل إنه غير ثابت وسقط سهمه وسهمهم بوفاته، وصار الكل مصروفاً إلى الثلاثة الباقية وبه قال أبو حنيفة وأصحاب الرأي.
وحجة الجمهور أن الكتاب والسنة يدلان على ثبوت سهم ذوي القربى وكذا الخلفاء بعد الرسول - ﷺ - كانوا يعطونهم ولا يفضلون فقيراً على غني، لأن النبي ﷺ أعطى العباس مع كثرة غناه وكذا الخلفاء بعده، وألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة غير أنهم يعطون القريب والبعيد.
(واليتامى والمساكين وابن السبيل) قد تقدم بيان سهمهم قريباً والمراد باليتيم هنا هو الصغير المسلم الذي لا أب له فيعطى مع الحاجة إليه، والمساكين هم أهل الفاقة من المسلمين، وابن السبيل هو المسافر البعيد عن ماله المنقطع في سفره، فهذا مصرف خمس الغنيمة، ويقسم أربعة أخماسها الباقية بين الغانمين الحاضرين في الواقعة الحائزين للغنيمة، فيعطى للفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه، وللراجل سهم واحد لحديث ابن عمر في الصحيح، وبه قال أكثر أهل العلم وإليه ذهب الثوري والأوزاعي ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق.
وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان وللراجل سهم والحديث يرد عليه، وظاهر الآية يدل على أنه لا فرق بين العقار والمنقول، وعند أبي حنيفة يخير الإمام في العقار بين قسمه ووقفه على المصالح، ومن قتل من المسلمين مشركاً
(إن كنتم آمنتم بالله) قال الزجاج: عن فرقة أن المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم آمنتم بالله وقالت فرقة أخرى أن " إن " متعلقة بقوله: (واعلموا أنما غنمتم) قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح لأن قوله واعلموا يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم، فعلق إن بقوله واعلموا على هذا المعنى أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وأسلموا الأمر لله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة.
وقال في الكشاف: إنه متعلق بمحذوف يدل عليه واعلموا بمعنى إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم العلم المجرد ولكن العلم المضمن بالعمل والطاعة لأمر الله لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر اهـ.
(وما أنزلنا على عبدنا) أي إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه إضافة تشريف وتعظيم للنبي ﷺ (يوم الفرقان) يوم بدر، وبدر ماء بين مكة والمدينة وسمي يومه يوم الفرقان لأن الله فرق بين أهل الحق بإظهاره وأهل الباطل بإخماده.
(يوم التقى الجمعان) أي الفريقان من المسلمين والكافرين، عن علي ابن أبي طالب قال: كانت ليلة الفرقان ليلة التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، وهو أول مشهد شهده رسول الله ﷺ (والله على كل شيء قدير) ومن قدرته العظيمة نصر الفريق الأقل على الفريق الأكثر.
_________
(١) مسلم ١٧١٥.
(والركب أسفل منكم) أي والحال أن الركب في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه مما يلي البحر، وأجاز الأخفش والكسائي والفراء رفع أسفل على معنى أشد سفلاً منكم، وقيل الواو للعطف، والركب اسم جمع لراكب أو جمع له وهم العشرة فصاعداً، ولا تقول العرب ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل، وقد يقال لمن كان على فرس وغيرها ركب والجمع أركب وركوب كذا قال ابن فارس وحكاه ابن السكيت عن أكثر أهل اللغة.
والمراد بالركب هنا ركب أبي سفيان وهي المراد بالعير فإنهم كانوا في موضع أسفل منهم مما يلي ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر، قيل وفائدة ذكر هذه الحالة التي كانوا عليها من كونهم بالعدوة الدنيا وعدوهم بالعدوة
(ولو تواعدتم) أي أنتم والمشركون من أهل مكة على أن تلتقوا في هذا الموضع للقتال وأعلم كل منكم الآخر للخروج له (لاختلفتم في الميعاد) أي لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالوعد وثبطهم ما في قلوبهم من المهابة لرسول الله ﷺ فالميعاد معناه التواعد والميعاد المواعدة ووقتها ومكانها كما في القاموس.
(ولكن) جمع الله بينكم في هذا الموطن بغير ميعاد (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً) أي حقيقاً بأن يفعل من نصر أوليائه وخذلان أعدائه وإعزاز دينه وإذلال الكفر فأخرج المسلمين لأخذ العير وغنيمتها عند أنفسهم، وأخرج الكافرين للمدافعة عنها ولم يكن في حسبان الطائفتين أن يقع هذا الاتفاق على هذه الصفة.
(ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة) أي ليموت من يموت عن بينة ويعيش من يعيش عن بينة رآها وعبرة عاينها وحجة قامت عليه، لئلا تبقى لأحد على الله حجة، وقيل الهلاك والحياة مستعاران للكفر والإسلام أي ليصدر إسلام من أسلم عن وضوح بينة ويقين بأنه دين الحق، ويصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة، وهو معنى قول ابن إسحق وقتادة (وأن الله لسميع) بكفر الكافرين وإيمان المؤمنين (عليم) بهما لا يخفى عليه خافية.
(ولكن الله سلّم) وعصمهم من الفشل والتنازع فقللهم في عين رسول الله ﷺ في المنام، قال ابن عباس: (سلّم) أي أتم يقول سلم لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم، وقيل عنى بالمنام محل النوم وهي العين أي في موضع منامك وهو عينك، روي ذلك عن الحسن، قال الزجاج: هذا مذهب حسن، ولكن الأول أسوغ في العربية لقوله:
(وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً) أي واذكروا وقت إراءتكم إياهم حال كونهم قليلاً حتى قال القائل من المسلمين لآخر أتراهم سبعين قال هم نحو المائة، قال ابن مسعود: حتى أخذنا رجلاً منهم فسألناه قال: كنا ألفاً.
(ويقللكم في أعينهم) أي وقلل المسلمين في أعين المشركين حتى قال قائلهم إنما هم أكلة جزور، وكان هذا قبل القتال والتحام الحرب، فلما شرعوا فيه كثر الله المسلمين في أعين المشركين كما قال في آل عمران (يرونهم مثليهم رأي العين) ووجه تقليل المسلمين في أعين المشركين هو أنهم إذا رأوهم قليلاً أقدموا على القتال غير خائفين ثم يرونهم كثيراً فيفشلون وتكون الدائرة عليهم ويحل بهم عذاب الله وسوط عقابه.
(ليقضي الله أمراً كان مفعولاً) في علمه، وإنما كرره لاختلاف الفعل المعلل به، عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: ليلف بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والأنعام على من أراد النعمة عليه من أهل ولايته، وقيل المراد بالأمر إعلاء كلمة الإسلام ونصر أهله، وإذلال كلمة الشرك وخذلان أهله، والمعاني متقاربة (وإلى الله ترجع) أي تصير (الأمور) كلها يفعل فيها ما يريد ويقضي في شأنها ما يشاء.
(واذكروا الله كثيراً) عند جزع قلوبكم فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد، وقيل المعنى اثبتوا بقلوبكم واذكروا بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان.
قيل وينبغي أن يكون الذكر في هذه الحالة بما قاله أصحاب طالوت (ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).
وفي الآية دليل على مشروعية الذكر في جميع الأحوال حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب، وتزيغ عندها البصائر.
قال قتادة: افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف وأخرج الحاكم وصححه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثنتان لا يردان الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً (١)، وأخرج الحاكم وصححه عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره الصوت عند القتال (٢).
(لعلكم تفلحون) أي كونوا على رجاء الفلاح والنصر والظفر
_________
(١) المستدرك كتاب الجهاد ٢/ ١١٣.
(٢) المستدرك كتاب الجهاد ٢/ ١١٦.
(وتذهب ريحكم) الريح القوة والنصر كما يقال الريح لفلان إذا كان غالباً في الأمر، وقيل الريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها بالريح في هبوبها، والمختار أن الريح يطلق ويراد به القوة والغلبة والرحمة والنصرة والدولة، قال في الخازن: الريح هنا كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد، تقول العرب هبت ريح فلان إذا أقبل أمره على ما يريد، وقال قتادة وابن زيد: هي ريح النصر ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدو ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور (١).
(واصبروا إن الله مع الصابرين) أمرهم بالصبر على شدائد الحرب وأخبرهم بأنه مع الصابرين بالنصر والعون في كل أمر ينبغي الصبر فيه، ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب، ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات وإن كانت كثيرة
_________
(١) مسلم ٩٠٠.
قيل والبطر في اللغة التقوِّي بنعم الله على معاصيه أي خرجوا بطرين مرائين أو خرجوا للبطر والرياء، قال الزجاج البطر الطغيان في النعمة وترك
_________
(١) المغنيات.
وظاهر النظم الكريم أن قوله بطراً متعلق بخرجوا وهو لا يوافق الواقع لأن خروجهم كان لغرض مهم، وهو المنع عن عيرهم ولهذا جعله السيوطي متعلقاً بمحذوف وقدر لخرجوا علة أخرى حيث قال خرجوا من ديارهم ليمنعوا عيرهم ولم يرجعوا بعد نجاتها بطراً، فجعله علة لهذا المقدر وهو قوله ولم يرجعوا والمعنى عليه واضح ولم يسلك هذا المسلك غيره ممن رأيناه من المفسرين.
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ قال يومئذ: " اللهم إن قريشاً قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك "، وقال: جاءت من مكة أفلاذها وقد احتج بهذه الآية الشيخ عبد العزيز الدهلوي على أنه لا يجوز طوف البلد للعروس بركوب الخيل وغيرها كما اعتاده أهل الهند في عقود مناكحاتهم.
(ويصدون عن سبيل الله) عطف على بطراً إن جعل مصدراً في موضع الحال وكذا إن جعل مفعولاً له لكن على تأويل المصدر يعني صادين عن دين الله أو للصد عنه، والصد إضلال الناس والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية، ويجوز أن يكون ويصدون معطوفاً على يخرجون والمعنى يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصد، ونكتة التعبير بالاسم أولاً ثم الفعل أن البطر والرثاء كانا دأبهم بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة قاله الشهاب (والله بما يعملون محيط) لا يخفى عليه من أعمالهم خافية، فهو مجازيهم عليها.
(وقال) لهم (لا غالب لكم اليوم من الناس) أي كنانة وغيرها (وإني جار) أي مجير ومعين وناصر (لكم) من كل عدو أو من بني كنانة، ومعنى الجار هنا الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار، وقيل المعنى أنه ألقى في روعهم هذه المقالة وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون.
(فلما تراءت) التقت (الفئتان) أي فئة المسلمين والمشركين ورأى الملائكة وكان يده في يد الحرث بن هشام (ونكص) أي رجع (على عقبيه) هارباً أي رجع القهقرى يمشي إلى ظهره، وقيل معنى نكص هاهنا بطل كيده وذهب ما خيله.
(وقال إني بريء منكم) أي من جواركم وحفظكم ونصركم والذب عنكم وتبرأ منهم لما رأى أمارات النصر مع المسلمين بإمداد الله لهم بالملائكة، ثم علل ذلك بقوله: (إني أرى ما لا ترون) من الملائكة ثم علل بعلة أخرى فقال (إني أخاف الله) قيل خاف أن يصاب بمكروه من الملائكة الذين حضروا
_________
(١) قال ابن السائب: كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة، آخذاً بيد الحارث بن هشام؛ فرأى الملائكة فنكص على عقبيه، فقال له الحارث: أفراراً من غير قتال؛ فقال: (إِني أرى ما لا ترون)؛ فلما هُزم المشركون، قالوا: هَزَمَ الناس سراقة؛ فبلغه ذلك، فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. قال قتادة: صدق عدو الله في قوله: (إني أرى ما لا ترون)، ذُكر لنا أنه رأى جبريل ومعه الملائكة، فعلم أنه لا يد له بالملائكة، وكذب عدو الله في قوله: (إني أخاف الله)، والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له بهم.
(غر هؤلاء) المسلمين (دينهم) حتى تكلفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش، وعن الشعبي نحوه، وقيل هم المشركون ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون في المدينة وما حولها وأنهم هم والمنافقون من أهل المدينة قالوا هذه المقالة عند خروج المسلمين إلى بدر لما رأوهم في قلة من العدد، وضعف من العدد.
فأجاب الله عليهم بقوله: (ومن يتوكل على الله) يثق به (فإن الله عزيز) لا يغلبه غالب ولا يذل من توكل عليه (حكيم) له الحكمة البالغة التي تقصر عندها العقول.
وقيل هي فيمن قتل ببدر، وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً (يضربون وجوههم) أي جهة الأمام (وأدبارهم) أي جهة الخلف يعني أستاههم كنى عنها بالأدبار، وقيل ظهورهم بمقامع من حديد، وهذا نص في أن ملائكة الموت عند قبضها لروح الكافر تضربه بما ذكر وتقول له ما ذكر وإن كنا محجوبين عن رؤية ذلك وسماعه.
واختلفوا في وقت هذا الضرب، فقيل يكون عند الموت تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم بسياط من نار كما يفيده ذكر التوفي، وقيل هو يوم القيامة حين يسيرون بهم إلى النار، قال ابن جريج: يريد ما أقبل من أجسادهم وأدبر يعني يضربون جميع أجسادهم، قيل كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم على المسلمين ضربت الملائكة وجوههم بالسيوف، وإذا ولوا أدبارهم ضربت الملائكة أدبارهم، قيل كان معهم مقامع من حديد محماة بالنار يضربون بها الكفار فتلتهب النار في جراحاتهم.
(و) يقول لهم خزنة جهنم عند القتل (ذوقوا عذاب الحريق) أي المحرق وقال ابن عباس: تقول لهم الملائكة ذلك بعد الموت، وقال الحسن: هذا يوم القيامة، والذوق قد يكون محسوساً وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، وأصله من الذوق بالفم.
(كفروا بآيات الله) مفسرة لدأب آل فرعون وبيان لفعلهم أي دأبهم هذا هو أنهم كفروا بها (فأخذهم الله بذنوبهم) هذا بيان لما فعل بهم أي فتسبب عن كفرهم أخذ الله سبحانه لهم، والراد بذنوبهم معاصيهم المترتبة على كفرهم، فالباء للملابسة أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها (إن الله قوي) على ما يريده (شديد العقاب) جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها.
(حتى يغيروا ما بأنفسهم) من الأحوال والأخلاق بكفران نعم الله وغمص (١) إحسانه وإهمال أوامره ونواهيه، وهذا يعم الحال المرضية والقبيحة، فكما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة كذلك تغير الحال المسخوطة إلى ما هو أسوأ منها، هذا حاصل ما في الكشاف، وذلك كما كان من آل فرعون ومن قبلهم ومن قريش ومن يماثلهم من المشركين، فإن الله فتح لهم أبواب الخيرات في الدنيا ومنّ عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فقابلوا هذه النعم بالكفر فاستحقوا تغيير النعم كما غيروا ما كان يجب عليهم سلوكه والعمل به من شكرها وقبولها.
وجملة (وأن الله سميع عليم) معطوفة على ما قبلها داخلة معها في التعليل، أي ذلك بسبب أن الله لم يك مغيراً وبسبب أن الله سميع يسمع ما
_________
(١) الغمص كفران النعمة إ. هـ منه.
ثم كرر ما تقدم فقال:
وفي قوله: (كذبوا بآيات ربهم) زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق والكلام في (فأهلكناهم بذنوبهم) كالكلام المتقدم في (فأخذهم الله بذنوبهم) قيل المعنى أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالحجارة وبعضهم بالريح وبعضهم بالمسخ، فكذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف.
(وأغرقنا آل فرعون) أي قومه معه معطوف على أهلكناهم عطف الخاص على العام لفظاعته وكونه من أشد أنواع الإهلاك (وكل كانوا ظالمين) حكم على كلا الطائفتين من آل فرعون والذين من قبلهم ومن كفار قريش بالظلم لأنفسهم بما تسببوا به لعذاب الله من الكفر بالله وآياته ورسله بالظلم لغيرهم كما كان يجري منهم في معاملاتهم للناس بأنواع الظلم وبالتكذيب لأنبيائهم، وجمع الضمير في (كانوا) وفي ظالمين مراعاة لعنى (كل) هو لأن كلاًّ متى قطعت عن الإضافة جاز مراعاة لفظها تارة ومعناها أخرى، وإنما اختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل ولو روعي اللفظ فقط فقيل وكل كان ظالماً لم تتفق الفواصل، قاله السمين.
وهذا حكم مترتب على تماديهم في الكفر ورسوخهم فيه وتسجيل عليهم بكونهم من أهل الطبع لا يلويهم صارف ولا يثنيهم عاطف أصلاً. جيء به على وجه الاعتراض لا أنه عطف على كفروا داخل معه في حيز الصلة التي لا حكم فيها بالفعل، قاله أبو السعود
(ثم ينقضون عهدهم) الذي عاهدتهم، وعطف المستقبل على الماضي للدلالة على استمرار النقض منهم، وهؤلاء هم قريظة عاهدهم رسول الله ﷺ على أن لا يعينوا الكفار فلم يفوا بذلك (في كل مرة) من مرات المعاهدة فنقصوا وأعانوهم بالسلاح وقالوا نسينا العهد ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوا الكفار عليه يوم الخندق (وهم) أي والحال أنهم (لا يتقون) الله في النقض والغدر، ولا يخافون عاقبته ولا يتجنبون أسبابه.
ثم أمر رسول الله - ﷺ - بالشدة والغلظة عليهم فقال:
(فشرِّد بهم) أي ففرق بقتلهم والتنكيل بهم والعقوبة لهم (من خلفهم) من المحاربين لك من أهل الشرك كفار مكة حتى يهابوا جانبك ويكفوا عن حربك مخافة أن ينزل بهم ما نزل بهؤلاء أو يخافك من وراءهم من أهل مكة واليمن والتشريد التفريق مع الاضطراب والإزعاج، وقال أبو عبيدة: شرد بهم سمّع بهم وقال الزجاج: افعل بهم فعلاً من القتل تفرق به من خلفهم، يقال شردت بني فلان قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها، ومنه شرد البعير إذا فارق صاحبه.
وقرأ ابن مسعود بالذال، قال قطرب: التشريذ هو التنكيل، وبالمهملة هو التفريق، وقال المهدوي: الذال المعجمة لا وجه لها ولا يعرف في اللغة (لعلهم) أي الذين خلفهم (يذكرون) أي يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك، قاله السدي.
(على سواء) أي طريقة مستوية والمعنى أنه يخبرهم إخباراً ظاهراً مكشوفاً بالنقض ولا يناجزهم الحرب بغتة، وقيل معنى على سواء على وجه يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم أو تستوي أنت وهم فيه لئلا يتهموك بالغدر، قال الكسائي: السواء العدل، وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله: (في سواء الجحيم).
وقيل معنى على سواء على جهر لا على سر، والظاهر أن هذه الآية عامة في كل معاهد يخاف من وقوع النقض منه، قال ابن عطية: والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله: (فشرد بهم من خلفهم) ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة (إن الله لا يحب الخائنين) تعليل لما قبلها يحتمل أن تكون تحذيراً لرسول الله ﷺ عن المناجزة قبل أن ينبذ إليهم على سواء، ويحتمل أن تكون عائدة إلى القوم الذين تخاف منهم الخيانة.
الأول: أن حمزة وحفصاً وابن عامر وغيرهم قرأوا بها.
الثاني: أن قوله أنها غير نيرة ليس كما زعم فإنها أنور من الشمس في وسط النهار لأن فاعل يحسبن ضمير أي لا يحسبن هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو الحاسب أو من خلفهم أو أحد لأنه معلوم من الكلام فلا يرد عليه أنه لم يسبق له ذكر، وأما حذف الفاعل فلا يخطر بالبال كما توهم، وعليه فمفعولاه (الذين كفروا سبقوا) وقيل الفعل مسند إلى الذين كفروا، والمفعول الأول محذوف وسبقوا هو الثاني أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين انتهى.
(إنهم لا يعجزون) هو تعليل لما قبلها أي أنهم بهذا السبق لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم والانتقام منهم، وقيل المراد بهذه الآية من أفلت من وقعة بدر من المشركين والمعنى أنهم وإن أفلتوا من هذه الوقعة ونجوا فإنهم لا يعجزون بل هم واقعون في عذاب الله في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بعذاب النار، وفيه تسلية للنبي - ﷺ - فيمن فاته من المشركين ولم ينتقم منهم فأعلمه الله أنهم لا يعجزونه (١).
_________
(١) روى مسلم عن أبي سعيد الخُدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ " لكل غادر لواءٌ يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة " قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة.
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - ﷺ - وهو على المنبر يقول: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي قالها ثلاث مرات " (١)، وقيل هي الحصون والمعاقل، والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله - ﷺ - متعين.
وعن ابن عباس: القوة الرمي والسيوف والسلاح، وقال ابن الزبير: أمرهم بإعداد الخيل، وعن عكرمة قال: القوة ذكور الخيل والرباط الأناث، وعن مجاهد مثله، وعن ابن المسيب قال: القوة السهم إلى الفرس فما دونه، وقال عكرمة: الحصون وقيل كل ما هو آلة يستعان بها في الجهاد فهو من جملة القوة المأمور بإعدادها، وقوله - ﷺ - ألا إن القوة الرمي لا ينفى كون غير الرمي ليس من القوة فهو كقوله: (الحج عرفة) (٢) وقوله: (الندم توبة) (٣) فهذا لا
_________
(١) مسلم ١٩١٧.
(٢) صحيح الجامع الصغير ٣١٦٧.
(٣) الإمام أحمد ١/ ٣٧٦.
(ومن رباط الخيل) قال أبو حاتم: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها وهي الخيل التي ترتبط بإزاء العدو، قال في الكشاف: الرباط اسم للخيل التي ترتبط في سبيل الله، ويجوز أن تسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال اهـ والرباط ما تربط به القربة وغيرها والجمع ربط مثل كتاب وكتب ويقال للمصاب ربط الله على قلبه بالصبر كما يقال أفرغ الله عليه الصبر أي ألهمه، والرباط الذي يبنى للفقراء مولد ويجمع في القياس على ربط بضمتين ورباطات والرابطة إقامة المسلمين بالثغور للحراسة فيها.
وربط الخيل للجهاد من أعظم ما يستعان به، قال ابن محيريز: كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند الشتات والغارات، وقيل ربط الفحول أولى من الإناث لأنها أقوى على الكر والفر والعدو، وقيل لفظ الخيل عام يتناول الفحول والإناث فأي ذلك ربط بنية الغزاة كان في سبيل الله.
ومن فسر القوة بكل ما يتقوى به في الحرب جعل عطف الخيل من عطف الخاص على العام، وقد ورد في استحباب الرمي وما فيه من الأجر، واستحباب اتخاذ الخيل وإعدادها وكثرة ثواب صاحبها أحاديث كثيرة لا يسع المقام بسطها وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات.
(ترهبون به عدو الله وعدوكم) الترهيب التخويف والضمير في به راجع
(وآخرين من دونهم) معطوف على عدو الله وعدوكم ومعنى من دونهم من غيرهم، قيل هم اليهود، وقيل فارس والروم، وقيل المنافقون وفيه بعد، وقيل كفار الجن، قاله الحسن ورجحه ابن جرير الطبري وهو أبعد، وقيل المراد كل من لا تعرف عداوته، قاله السهيلي وقيل هم بنو قريظة خاصة، وقيل غير ذلك والأولى الوقف في تعيينهم لقوله.
(لا تعلمونهم) أي لا تعرفونهم بأعيانهم، ومن عينهم قال: أي لا تعلمون بواطنهم وما انطووا عليه من النفاق، والعلم فيه قولان.
أحدهما: أنه متعدّ لواحد لأنه بمعنى المعرفة ولذلك تعدى لواحد.
والثاني: أنه على بابه فيتعدى لاثنين والثاني محذوف أي لا تعلمونهم فازعين أو محاربين.
وهذان القولان لا يجوز أن يجريا في قوله: (والله يعلمهم) بل يجب أن يقال إنه المتعدي إلى اثنين وأن ثانيهما محذوف للفرق بين العلم والمعرفة بوجوه (منها) أن المعرفة تستدعي سبق جهل ومنها أن متعلقها الذوات دون النسب، وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يطلق الوصف بالمعرفة على الله تعالى، وهذا لا يرد لأنه ليس في الآية إطلاق اسم العارف عليه، وإنما فيها إطلاق
(وما تنفقوا من شيء في سبيل الله) وأي في الجهاد وإن كان يسيراً حقيراً، وقيل هو أمر عام في كل وجوه الخيرات والطاعات ويدخل فيه نفقة الغزو، دخولاً أولياً (يوف إليكم) أجره وجزاؤه في الآخرة فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة كما قررناه سابقاً، ويعجل لكم عوضه في الدنيا (وأنتم لا تظلمون) في شيء من هذه النفقة التي تنفقونها في سبيل الله أي من ثوابها بل يصير ذلك إليكم وافياً وافراً كاملاً وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً (أني لا أضيع عمل عامل منكم).
والتعبير عنه بالظلم مع أن الأعمال غير موجبة الثواب حتى يكون ترك ترتيبه عليها ظلماً لبيان كمال نزاهته سبحانه عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى.
_________
(١) ذكره ابن كثير في " تفسيره " ٢/ ٣٢٢ من رواية ابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد الله ابن غريب عن أبيه عن جده أن رسول الله - ﷺ - كان يقول في قول الله تعالى: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم). قال: " هم الجن " ثم قال: ورواه الطبراني عن يزيد بن عبد الله بن غريب به وزاد: قال رسول الله - ﷺ -: " لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل " وقال: وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه.
قال النضر بن شميل: جنح الرجل إلى فلان ولفلان إذا خضع له، والجنوح الاتباع أيضاً لتضمنه الميل والجناح من ذلك لميلانه إلى الطائر، والسلم
وعن مجاهد قال: وإن جنحوا يعني قريظة وعن ابن عباس قال: السلم الطاعة.
وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية منسوخة أم محكمة، فقيل هي منسوخة بقوله: (فاقتلوا المشركي) قاله ابن عباس. وقيل ليست بمنسوخة لأن المراد بها قبول الجزية وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم فتكون خاصة بأهل الكتاب، قاله مجاهد وقيل إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه.
وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى: (ولا تهنوا) وتدعوا إلى السلم (وأنتم الأعلون) والله معكم وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزة وقوة لا إذا لم يكونوا كذلك، فإنه جائز كما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من مهادنة قريش، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك، وهذا كله مبني على أن المراد بالصلح هو عقد الجزية، أما لو أريد غيره من العقود التي تفيدهم الأمن وهي الهدنة والأمان فلا نسخ مطلقاً إذ يصح عقدهما لكل كافر، وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرر في مواطنه.
(وتوكل على الله) في جنوحك للسلم ولا تخف من مكرهم وفوض أمرك إليه فيما عقدته معهم ليكون ذلك عوناً لك في جميع أحوالك (إنه) سبحانه (هو السميع) لما يقولون (العليم) بما يفعلون.
(هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) تعليلية أي لا تخف من خدعهم ومكرهم، فإن الله الذي قواك عليهم بالنصر فيما مضى وهو يوم بدر، هو الذي سينصرك ويقويك عليهم عند حدوث الخدع والنكث، والمراد بالمؤمنين المهاجرون والأنصار.
فإن قلت: إذا كان الله قد أيده بنصره فأي حاجة إلى نصر المؤمنين حتى يقول وبالمؤمنين؛ قلت التأييد والنصر من الله عز وجل وحده لكنه يكون بأسباب باطنة غير معلومة، وبأسباب ظاهرة معلومة، فأما الذي يكون بالأسباب الباطنة فهو المراد بقوله: (وهو الذي أيدك بنصره) لأن أسبابه باطنة بغير وسائط معلومة وأما الذي يكون بالأسباب الظاهرة فهو المراد بقوله: (وبالمؤمنين) لأن أسبابه ظاهرة بوسائط معلومة وهم المؤمنون، والله تعالى هو مسبب الأسباب، وهو الذي أقامهم لنصره.
ثم بين كيف كان تأييده بالمؤمنين فقال:
وقال جمهور المفسرين: المراد الأوس والخزرج، فقد كان بينهم عصبية شديدة وأنفة عظيمة وانطواء على الضغينة من أدق شيء وحروب عظيمة وفتن
وقيل أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والحمل على العموم أولى، فقد كانت العرب قبل البعثة المحمدية يأكل بعضهم بعضاً ولا يحترم ماله ولا دمه حتى جاء الإسلام فصاروا يداً واحدة، وذهب ما كان بينهم من العصبية والأنفة والحمية الجاهلية.
(لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم) مقررة لمضمون ما قبلها، والمعنى أن ما كان بينهم من العصبية والعداوة قد بلغ إلى حد لا يمكن دفعه بحال من الأحوال، ولو أنفق الطالب له جمِيع ما في الأرض لم يتم له طلبه من التأليف لأن أمرهم في ذلك قد تفاقم جداً.
(ولكنّ الله ألّف بينهم) بعظيم قدرته وبديع صنعه، وفيه دليل على أن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء (إنه عزيز) لا يغالبه مغالب ولا يستعصي عليه أمر من الأمور (حكيم) في تدبيره ونفوذ أمره ونهيه.
وعن ابن مسعود قال: إن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله، وهذا يدل على أن التأليف المذكور هو بين المؤمنين الذين أيد الله بهم رسوله - ﷺ - وفيه رد على الرافضة حيث اعتقدوا في الصحابة ما يخالف تأليف الله تعالى بينهم، وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال: مكتوب على العرش لا إله إلا الله أنا الله وحدي لا شريك لي محمد عبدي ورسولي أيدته بعلي (١) وذلك قوله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين والله أعلم.
_________
(١) من أين جاء هذا لأبي هريرة وهو غيب؛ هذا لا يصح.
والواو في قوله: (ومن اتبعك من المؤمنين) يحتمل أن تكون للعطف على الاسم الجليل والعلم الشريف على أنه في محل الرفع، والمعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون أي كافيك الله وكافيك المؤمنون.
قال علي المهايمي في تفسيره تبصير الرحمن: حسبك الله وإن لم يكن معك أحد وإن نظرت إلى السببية حسبك من اتبعك من المؤمنين وإن لم يألفهم من لم يتم اتباعهم لك فإن لمتابعتك أثراً عظيماً في سببية النصر انتهى. وقال أبو السعود والقاضي: الجملة في محل النصب على أنه مفعول معه أي كفاك وكفى اتباعك الله ناصراً كقوله:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا | فحسبك والضحاك عضب مهند |
واختاره النحاس، وقال الفراء: أنه يقدر نصبه على موضع الكاف واختاره ابن عطية ورده السفاقسي بأن إضافته حقيقية لا لفظية فلا محل له اللهم إلا أن يكون من عطف التوهم وكونه مفعولاً معه، ذكره الزجاج.
وقال أبو حيان: أنه مخالف لكلام سيبويه فإنه جعل زيداً في قولهم حسبك وزيداً درهم منصوباً بفعل مقدر أي وكفى زيداً درهم وهو من عطف الجمل عنده لا يضرنا، وذكره الفراء في تفسيره، وقيل في محل الجر عطفاً على الضمير أي اسم الله تعالى أي كافيك وكافي المؤمنين الله لأن عطف الظاهر على
قال الفراء: ليس بكثير في كلامهم أن تقول حسبك وأخيك بل المستعمل أن تقول حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار، فلو كان قوله: (ومن اتبعك) مجروراً لقيل حسبك الله وحسب من اتبعك، وبه قال الشعبي.
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رضي الله عنه: أي وحده حسبك وحسب المؤمنين الذين اتبعوك، ومن قال أن المعنى أن الله والمؤمنين حسبك فقد ضل بل قوله من جنس الكفر، فإن الله وحيده هو حسب كل عبد مؤمن، والحسب الكافي كما قال تعالى: (أليس الله بكاف عبده) وقال تعالى (وقالوا حسبنا الله) ولم يقل ورسوله وقالوا إنا إلى الله راغبون ولم يقل هنا وإلى رسوله اهـ.
وضعف في الهدي النبوي رفعه عطفاً اسم الله وقال إنما هو عطف على الكاف فإن المعنى عليه، قال الخفاجي: وإلا وجه له فإن الفراء والكسائي رجحاه وما قبله وما بعده يؤيده اهـ. قلت وليس كما ينبغي فتأمل.
وقيل يجوز أن يكون التقدير ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله فحذف الخبر. وعبارة البغوي في المعالم، اختلفوا في محل (من) فقال أكثر المفسرين محله خفض عطفاً على الكاف في قوله حسبك معناه حسبك الله وحسب من اتبعك اهـ.
قال الزهري: نزلت في الأنصار، وقيم في جميع المهاجرين والأنصار، وقال سعيد بن جبير: لما أسلم مع النبي - ﷺ - ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر نزلت هذه الآية، وعن ابن عباس نحوه.
قال الشيخ معين الدين في جامع البيان: اعترض عليه بأن الأنفال كلها مدنية وإسلام عمر قبل الهجرة فلا يصح هذا اهـ. لكن قال الخازن وسليمان الجمل إن هذه الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله - ﷺ -، وقيل نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.
ثم بشرهم تثبيتاً لقلوبهم وتسكيناً لخواطرهم بأن الصابرين منهم في القتال يغلبون عشرة أمثالهم من الكفار فقال: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) أي فيهم قوة وشجاعة فالمقاومة مدارها على العدد مع مراعاة المعنى لا على العدد وحده كما هو مقرر في الفروع، وفي البحر انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر وحذف نظيره من الثانية وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة وحذفه من الأولى وهو غاية الفصاحة.
وقال الخفاجي: ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه، ثم ختمت بقوله: (والله مع الصابرين) ومبالغة في شدة المطلوبية ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر اكتفاء بما قبله.
ثم زاد هذا إيضاحاً مفيداً لعدم اختصاص هذه البشارة بهذا العدد بل هي جارية في كل عدد فقال: (وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا) وفي هذا دلالة على أن الجماعة من المؤمنين قليلاً كانوا أو كثيراً لا يغلبهم عشرة أمثالهم من الكفار بحال من الأحوال.
وقد وجد في الخارج ما يخالف ذلك فكم من طائفة من طوائف الكفار يغلبون من هو مثل عشرهم من المسلمين بل مثل نصفهم بل مثلهم، وأجيب عن ذلك بأن وجود هذا في الخارج لا يخالف ما في الآية لاحتمال أن لا تكون الطائفة من المؤمنين متصفة بصفة الصبر عند اللقاء.
وقيل أن هذا الخبر الواقع في الآية هو في معنى الأمر كقوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن)، (والمطلقات يتربصن) فالمؤمنون كانوا مأمورين من جهة الله سبحانه بأن يثبت الجماعة منهم لعشرة أمثالهم.
وفي الخطيب حاصل هذه العبارة المطولة أن الواحد يثبت للعشرة فما الفائدة في العدول إلى تلك.
أجيب بأن هذا إيماء ورد على وفق الواقعة فكان رسول الله - ﷺ - يبعث السرايا، والغالب أن تلك السرايا ما كان ينقص عددها عن العشرين وما كانت تزيد على المائة، فلهذا المعنى ذكر الله هذين العددين.
(بأنهم قوم لا يفقهون) أي أن هذا الغلب بسبب جهلهم بالله وباليوم
ثم لما شق ذلك عليهم واستعظموه خفف عنهم ورخص لهم لما علمه سبحانه من وجود الضعف فيهم فقال:
قال سفيان وابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا إن كانا رجلين أمرهما وإن كانوا ثلاثة فهو في سعة من تركهم، وقد قيل في نكتة التنصيص على غلب المائة للمائتين والألف للألفين أنه بشارة للمسلمين بأن عساكر الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف.
ثم أخبرهم بأن هذا الغلب هو (بإذن الله) وتسهيله وتيسيره وإرادته لا بقوتهم وجلادتهم، ثم بشرهم بأنه مع الصابرين فقال: (والله مع الصابرين) بعونه، وفيه الترغيب إلى الصبر والتأكيد عليهم بلزومه والتوصية به وأنه من أعظم أسباب النجاح والفلاح والنصر والظفر لأن من كان الله معه لم يستقم لأحد أن يغلبه.
وعن النصر باذى: إن هذا التخفيف كان للأمة دون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي يقول بك أصول وبك أجول، ومن كان كذا لا يثقل عليه شيء حتى يخفف، وقد اختلف أهل العلم هل هذا التخفيف نسخ أم لا ولا يتعلق بذلك كثير فائدة.
وقال أبو عمرو بن العلاء الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون ربطاً، والإثخان كثرة القتل والمبالغة فيه تقول العرب أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ فيه فالمعنى ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يبالغ في قتل الكافرين ويستكثر من ذلك، وقيل معنى الإثخان التمكن وقيل هو القوة، وقيل الثخانة هي الغلظة والصلابة فاستعمل هنا في لازم المعنى الأصلي وهو القوة اللازمة وأثخن في الأرض إثخاناً سار إلى العدو وأوسعهم قتلاً وأثخنته أوهنته بالجراحة وأضعفته.
وعن ابن عباس: حتى يثخن حتى يظهر على الأرض، وعن مجاهد قال: الإثخان هو القتل أخبر الله سبحانه أن قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم وفدائهم ثم لما كثر المسلمون رخص الله في ذلك فقال فإما مناً بعد وإما فداء كما يأتي في سورة القتال.
قال الرازي: أن هذا الكلام يوهم أن قوله فإما مناً بعد وإما فداء يزيل
وقال غيره: لا تظهر دعوى النسخ من أصلها إذ النهي الضمني كما هنا مقيد بالإثخان أي كثرة القتال اللازمة لها قوة الإسلام وعزته، وما في سورة القتال من التخيير محله بعد ظهور شوكة الإسلام بكثرة القتال، فلا تعارض بين الآيتين إذ ما هناك بيان للغاية التي هنا.
(تريدون عرض الدنيا) الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد بعرض الدنيا نفعها ومتاعها بما قبضوا من الفداء، وسمى عرضاً لأنه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابلة الجواهر، قال قتادة: أراد أصحاب محمد ﷺ يوم بدر الفداء ففادوهم بأربعة آلاف درهم، وقيل كان الفداء لكل أسير أربعين أوقيه والأوقية أربعون درهما فيكون مجموع ذلك ألفاً وستمائة درهم، وعن عكرمة قال عرض الدنيا الخراج.
(والله يريد) لكم (الدار الآخرة) بما يحصل لكم من الثواب في الإثخان بالقتل، والمراد بالارادة هنا الرضاء وعبر بها للمشاكلة فلا يرد أن الآية تدل على عدم وقوع مراد الله وهو خلاف مذهب أهل السنة، قاله الشهاب: (والله عزيز) لا يغالب (حكيم) في أفعاله، وقد استدل بهذه الآية من يقدح في عصمة الأنبياء واشتغل المفسرون برده وجوابه وما أقل فائدة ذلك (١).
_________
(١) سبق لنا تعليق في هذا الموضوع ص ٣٦١ ج ٢.
الأول: أنه ما سبق في علم الله من أنه سيحصل لهذه الأمة الغنائم والأسرى بعد أن كانت محرمة على سائر الأمم.
القول الثالث: هو أنه لا يعذبهم ورسول الله فيهم كما قال تعالى (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم).
القول الرابع: أنه لا يعذب أحداً بذنب فعله جاهلاً لكونه ذنباً.
القول الخامس: أنه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر.
القول السادس: إنه لا يعذب أحداً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ولم يتقدم نهي عن ذلك، وذهب ابن جرير الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها.
(لمسكم) أي لحل بكم (فيما) أي لأجل ما (أخذتم) من الفداء (عذاب عظيم) وهذا عتاب له ﷺ على ترك الأولى إذ كان الأولى له تدارك كثرة القتل فيهم لا الفداء وليس عتاباً على فعل محرم تنزيهاً لمنصب النبوة عن ذلك.
وقد أخرج أحمد عن أنس قال: استشار النبي ﷺ الناس في الأسارى يوم بدر فقال: " إن الله قد أمكنكم منهم، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى الفه عليه وآله وسلم ثم عاد فقال: مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق فقال: نرى أن تعفو عنهم وإن تقبل منهم الفداء فعفا عنهم وقبل منهم الفداء فأنزل الله ولولا كتاب من الله سبق) الآية "، وفي الباب روايات كثيرة بطرق عديدة بألفاظ مختلفة (٢).
_________
(١) مسلم ٢٤٩٤ - البخاري/١٤٢٩.
(٢) الإمام أحمد ٣/ ٢٤٣.
روي أنهم أمسكوا عن الغنائم فنزل
_________
(١) مسند الإمام أحمد ١/ ٣٨٣.
(حلالاً طيباً) أي أكلاً حلالاً أو النصب على الحال، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " ولم تحل الغنائم لأحد قبلنا ثم أحل الله لنا وذلك بأن رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا " (١) أخرجه البخاري ومسلم (واتقوا الله) فيما يستقبل فلا تقدموا على شيء لم يأذن الله لكم به (إن الله غفور) لما فرط منكم (رحيم) بكم فلذلك رخص لكم في اخذ الفداء في مستقبل الزمان.
_________
(١) البخاري كتاب الخمس باب ٨.
وقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله ﷺ في فداء أبي العاص (١) وبعثت فيه بقلادة، فلما رآها رسول الله - ﷺ - رق رقة شديدة وقال إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها (٢).
وقال العباس (٣) إني كنت مسلماً يا رسول الله قال: الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحرث وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ونزلت (قل لمن في أيديكم من الأسرى) الأية (٤)، الحديث مختصراً والروايات
_________
(١) زوجها.
(٢) المستدرك كتاب زينب بنت خديجة ٤/ ٤٥.
(٣) عم رسول الله ﷺ قبل أن يظهر إسلامه.
(٤) الإمام أحمد ١/ ٣٥٣.
قال العباس: فأبدلني الله خيراً مما أخذ مني، عشرين عبداً كلهم تاجر يضرب بمال كثير أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان عشرين أوقية، وأعطاني زمزم وأنا أنتظر المغفرة.
ولما ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيراً ذكر من هو على ضد ذلك منهم فقال:
_________
(١) قال مقاتل: إن الله غفور لما أخذتم من الغنيمة قبل حلها، رحيم بكم إذ أحلها لكم. فجعل رسول الله ينهييه عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت يوم بدر على القبض، وقسمها النبي - ﷺ - بالمدينة، وانطلق بالأسارى، فيهم العباس، وعقيل، ونوفل بن الحارث ابن عبد المطلب. وكان مع العباس يومئذ عشرون أوقية من ذهب، فلم تحسب له من فدائه، وكلف أن يفدي ابني أخيه، فأدى عنهما ثمانين أوقية من ذهب. وقال النبي - ﷺ -: " أضعفوا على العباس الفداء " فأخذوا منه ثمانين) وقية، وكان فداء كل أسير أربعين أوقية. فقال العباس لرسول الله - ﷺ -: لقد تركتني ما حييت أسأل قريشاً بكفي. فقال له: " أين الذهب الذي تركته عند أم الفضل "؟ فقال: أي الذهب؟ فقال: " إنك قلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث، فهو لك ولولدك " فقال: ابن أخي، من أخبرك؟ فقال: " الله أخبرني "، فقال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول الله قبل اليوم؛ وأمر ابني أخيه فأسلما. وفيهم نزلت: (قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية.
(والذين آووا) هم الأنصار آووا رسول الله ﷺ ومن معه من المهاجرين وأسكنوهم منازلهم، وبذلوا لهم أموالهم وآثروهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (ونصروا) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإشارة بقوله (أولئك) إلى الموصول الأول والآخر وخبره الجملة المذكورة بعده (بعضهم أولياء بعض) في النصرة والمعونة، وقيل في الميراث وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض.
(والذين آمنوا ولم يهاجروا) من مكة بل أقاموا بها (مالكم من ولايتهم) بفتح الواو وكسرها أي من نصرتهم وإعانتهم أو من ميراثهم (من شيء) ولو كانوا من قراباتكم لعدم وقوع الهجرة منهم فلا إرث بينكم وبينهم
(وإن استنصروكم في الدين) أي هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا إذا طلبوا منكم النصرة لهم على المشركين (فعليكم) أي فواجب عليكم (النصر) قال الزجاج: ويجوز النصر بالنصب على الإغراء أثبت للقسمين الأوّلين النصرة والإرث ونفى عن هذا القسم الإرث وأثبت له النصرة.
(إلا) أن يستنصروكم (على قوم بينكم وبينهم ميثاق) عهد فلا تنصرونهم عليهم ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم حتى تنقضي مدته وهي عشر سنين (والله بما تعملون بصير) تحذير عن تعدي حد الشرع الشريف.
(إلا تفعلوه) الضمير يرجع إلى ما أمروا به قبل هذا من موالاة المؤمنين ومناصرتهم على التفصيل المذكور وترك موالاة الكافرين (تكن) أي تقع (فتنة في الأرض) إن لم تفعلوا ذلك وهي قوة الكفار (وفساد كبير) أي مفسدة كبيرة في الدين والدنيا وهو ضعف المسلمين.
ثم بين سبحانه حكماً آخر يتعلق بالمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله والمؤمنين الذين آووا من هاجر إليهم ونصروهم وهم الأنصار فقال:
وقال أبو السعود: كلام مسوق للثناء عليهم والشهادة لهم بفوزهم بالقدح المعلى من الإيمان مع الوعد الكريم اهـ. والحاصل أنهم هم الكاملون في الإيمان لأنهم حققوه بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والسكن، والانسلاخ من المال والدنيا لأجل الدين والعقبى، وليس في هذا تكرير لما قبله فإنه وارد في الثناء على هؤلاء، والأول وارد في إيجاب الموالاة والنصرة.
ثم أخبر سبحانه أن (لهم) منه (مغفرة) لذنوبهم في الآخرة (و) لهم في الدنيا (رزق كريم) خالص عن الكدر طيب مستلذ لا تبعة له ولا منة فيه.
ثم ألحق بهم في الأمرين من سيلحق بهم ويتسم بسيمتهم فقال:
_________
(١) مسلم ٢٦٤٠ - البخاري ٢٣٥٧.
قال القرطبي: وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة الأولى، والهجرة الثانية هي التي وقع فيها الصلح ووضعت الحرب أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة اهـ. وقيل بعد نزول هذه الآية، وقيل من بعد غزوة بدر، وقال الخازن: الأصح أن المراد بهم أهل الهجرة الثانية لأنها بعد الهجرة الأولى لأن الهجرة قد انقطعت بعد فتح مكة لأنها صارت دار الإسلام بعد الفتح.
(فأولئك منكم) أي مثلكم في استحقاق ما استحقيتموه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم، لكن فيه دليل على أن مرتبة المهاجرين الأولين أشرف وأعظم من مرتبة المهاجرين المتأخرين بالهجرة لأن الله تعالى ألحق المهاجرين المتأخرين بالمهاجرين السابقين وجعلهم معهم، وذلك معرض المدح والشرف، ولولا أن الأولين أفضل وأشرف لما صح هذا الإلحاق.
قال في الجمل: ولم ينبهوا هنا على حكم التوارث بالهجرة الثانية هل هو ثابت كما في الهجرة الأولى أو في ثابت لانحطاط رتبة أهل الهجرة الثانية عن رتبة أهل الهجرة الأولى إلا ما رأيته في الخطيب ونصه فأولئك منكم أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار فلهم مالكم وعليهم ما عليكم من المواريث والغنائم وغيرهما (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) بين سبحانه بأن ذوي القرابات بعضهم أولى ببعض من غيرهم ممن لم يكن بينه وبينهم رحم في الميراث فيتناول كل قرابة، وقيل المراد بهم هنا العصبات قالوا: ومنه قول العرب وصلتك رحم فإنهم لا يريدون قرابة الأم، ولا يخفاك أنه ليس في هذا ما يمنع من إطلاقه على غير العصبات.
وقد قيل أن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والنصرة عند من فسر ما تقدم من قوله: (بعضهم أولياء بعض) وما بعده بالتوارث وأما من فسرها بالنصرة والمعونة فيجعل هذه الآية إخباراً منه سبحانه وتعالى بأن القرابات بعضهم أولى ببعض (في كتاب الله) أي في حكم الله أو في اللوح المحفوظ أو في القرآن وهو أن قسمة المواريث مذكورة في سورة النساء من كتاب الله وهو القرآن، وكذا إعطاء أهل الفروض فروضهم وما بقي للعصبات، وبهذا أجاب الشافعي أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، ويدخل في هذه الأولوية الميراث دخولاً أولياً لوجود سببه. أعني القرابة.
(إن الله بكل شيء عليم) لا يخفى عليه شيء من الأشياء كائناً ما كان ومن جملة ذلك ما تضمنته هذه الآيات من التوارث بمقتضى الإيمان والهجرة ولو بدون قرابة الذي قد نسخ، والتوارث بمقتضى القرابة ولو بدون مشاركة في الهجرة أو النصرة والله سبحانه وتعالى أعلم (١).
_________
(١) ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: " الخال وارث ". وروي عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله ﷺ عن ميراث العمة والخالة فقال: " لا أدري حتى يأتيني جبريل " ثم قال: " أين السائل عن ميراث العمة والخالة "؛ قال: فأتى الرجل فقال: " سارني جبريل أنه لا شيء لهما ". قال الدارقطني: لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف، والصواب مرسل. ورُوي عن الشعبي قال قال زياد بن أبي سفيان لجليسه: هل تدري كيف قضى عمر في العمة والخالة؛ قال لا. قال: إني لأعلم خلق الله كيف قضى فيهما عمر، جعل الخالة بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة الأب.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة براءةهي مائة وثلاثون آية، وقيل مائة وسبع وعشرون آية، ولها أسماء منها سورة التوبة لأن فيها ذكر التوبة على المؤمنين، وعن حذيفة إنكم تسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب أهـ وتسمى الفاضحة لأنه ما زال ينزل فيها (ومنهم، ومنهم) حتى كادت أن لا تدع أحداً، وتسمى البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين وتسمى المبعثرة والبعثرة البحث، وتسمى أيضاً بأسماء أخر كالمقشقشة لأنها تقشقش من النفاق أي تبرئ منه، والمخزية لكونها أخزت المنافقين والمثيرة لأنها تثير أسرارهم، والحافرة لكونها تحفر عنها، والمنكلة لما فيها من التنكيل لهم والمدمدمة لأنها تدمدم عليهم أي تهلكهم، قال الخفاجي: وأسماؤها كلها بصيغة الفاعل إلا البحوث بفتح الباء فإنه صيغة مبالغة بمعنى اسم الفاعل أهـ.
وقد اختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أولها على أقوال منها ما روي عن المبرد وغيره أنه كان من شأن العرب إذا كان بينهم وبين قوم عهد فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتاباً ولم يكتبوا فيه بسمله، فلما نزلت براءة ينقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين بعث بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب فقرأها عليهم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادة العرب في نقض العهد من ترك التسمية.
وعن علي قال: البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف، أشار إلى وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها دون غيرها، قال الخفاجي: وللسلف فيه أقوال ثلاثة أصحها هذا أهـ.
قلت: وروي نحوه عن سفيان بن عيينة، وروي عن مالك بن أنس وابن عجلان وابن جبير أنها كانت تعدل سورة البقرة أو قريباً منها وأنه لما سقط أولها سقطت البسملة.
ومن جملة الأقوال في سقوطها أنهم لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلفت الصحابة، فقال بعضهم براءة والأنفال سورة واحدة، وقال بعضهم هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان وتركت البسملة لقول من قال هما سورة واحدة فرضي الفريقان معاً، قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما وقول من جعلهما سورة واحدة أظهر لأنهما جميعاً نزلتا في القتال ومجموعهما مائتان وخمس آيات ويعدان جميعاً سابعة السبع الطوال.
ومنها ما قال السيوطي: أنه لم تكتب فيها البسملة لأنه ﷺ لم يأمر بذلك كما يؤخذ من حديث رواه الحاكم. اهـ.
والصحيح أنها لم تكتب لأن جبريل ما نزل بها في هذه السورة، قاله القشيري قال أبو السعود: واشتهارها بهذه الأسماء يقضي بأنها سورة مستقلة وليست بعضاً من سورة الأنفال، وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها خلاف الظاهر فيكون حكمة ترك التسمية عند النزول نزولها في رفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى مشفوعاً بوصف الرحمة، كما روي عن ابن عيينة رضي الله عنه: لا الاشتباه في استقلالها وعدمه، كما يحكى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولا رعاية ما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم من الاختلاف في ذلك.
على أن ذلك ينزع إلى القول بأن التسمية ليست من القرآن، وإنما كتبت للفصل بين السور كما نقل عن قدماء الحنفية، وإن مناط إثباتها في المصاحف، وتركها إنما هو رأي من تصدى لجمع القرآن دون التوقيف، ولا ريب في أن الصحيح من المذهب أنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها، وأن لا مدخل لرأي أحد في الإثبات والترك، وإنما المتبع في ذلك هو الوحي والتوقيف ولا مرية في عدم نزولها هاهنا، وإلا لامتنع أن يقع في الاستقلال اشتباه أو اختلاف فهو إما لاتحاد السورتين أو لما ذكرنا، لا سبيل إلى الأول وإلا لبينه عليه الصلاة والسلام لتحقق مزيد الحاجة إلى البيان لتعاضد أدلة الاستقلال من كثرة الآيات وطول المدة فيما بين نزولهما فحيث لم يبينه عليه الصلاة والسلام تعين الثاني لأن عدم البيان من الشارع في موضع البيان بيان للعدم.