تفسير سورة الفجر

الماوردي
تفسير سورة سورة الفجر من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى ﴿ والفَجْر ﴾ قسم أقسم الله تعالى به، وهو انفجار الصبح من أفق المشرق، وهما فجران : فالأول منهما مستطيل كذنب السرحان يبدو كعمود نور لا عرض له، ثم يغيب لظلام يتخلله، ويسمى هذا الفجر المبشر للصبح، وبعضهم يسميه الكاذب لأنه كذب بالصبح.
وهو من جملة الليل لا تأثير له في صلاة ولا صوم.
وأما الثاني فهو مستطيل النور منتشر في الأفق ويسمى الفجر الصادق لأنه صدقك عن الصبح، قال الشاعر :
شعب الكلاب الضاريات فزاده ناراً بذي الصبح المصدق يخفق
وبه يتعلق حكم الصلاة والصوم، وقد ذكرنا ذلك من قبل.
وفي قسم الله بالفجر أربعة أقاويل :
أحدها : أنه عنى به النهار وعبر عنه بالفجر لأنه أوله، قاله ابن عباس.
الثاني : أن الفجر الصبح الذي يبدأ به النهار من كل يوم، قاله علّي رضي الله عنه.
الثالث : أنه عنى به صلاة الصبح، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً.
الرابع : أنه أراد به فجر يوم النحر خاصة، قاله مجاهد.
وفي ﴿ وليالٍ عشْرٍ ﴾ - وهي قسم ثان - أربعة أقاويل :
أحدها : هي عشر ذي الحجة، قاله ابن عباس، وقد روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله ﷺ قال :« » والفجر وليال عشر «، قال : عشر الأضحى ».
الثاني : هي عشر من أول المحرم، حكاه الطبري.
الثالث : هي العشر الأواخر من شهر رمضان، وهذا مروي عن ابن عباس.
الرابع : هي عشر موسى عليه السلام التي أتمها الله سبحانه له، قاله مجاهد.
﴿ والشّفْعِ والوَتْرِ ﴾ وهذا قسم ثالث، وفيهما تسعة أقاويل :
أحدها : أنها الصلاة، فياه شفع وفيها وتر، رواه عمران بن حصين عن النبي ﷺ.
الثاني : هي صلاة المغرب، الشفع منها ركعتان، والوتر الثالثة، قاله الربيع بن أنس وأبو العالية.
الثالث : أن الشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة، رواه ابن الزبير عن جابر عن النبي ﷺ.
الرابع : أن الشفع يوما منى الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة، والوتر الثالث بعدهما، قاله ابن الزبير.
الخامس : أن الشفع عشر ذي الحجة، والوتر أيام منى الثلاثة، قاله الضحاك.
السادس : أن الشفع الخلق من كل شيء، والوتر هو آدم وحواء، لأن آدم كان فرداً فشفع بزوجته حواء فصار شفعاً بعد وتر، رواه ابن نجيح.
التاسع : أنه العدد لأن جميعه شفع ووتر، قاله الحسن.
ويحتمل حادي عشر : أن الشفع ما يَنْمى، والوتر مالا يَنْمى.
﴿ واللّيْلِ إذا يَسْرِ ﴾ وهذا قسم رابع، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هي ليلة القدر لسراية الرحمة فيها واختصاصها بزيادة الثواب فيها.
الثاني : هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله، وسئل محمد بن كعب عن قوله تعالى ﴿ والليل إذا يَسْرِ ﴾ فقال أسْر يا ساري، ولا تبيتنّ إلا بجمع، يعني بمزدلفة.
414
الثالث : أنه أراد عموم الليل كله.
وفي قوله ﴿ إذا يسرِ ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : إذا أظلم، قاله ابن عباس.
الثاني : إذا سار، لأن الليل يسير بمسير الشمس والفلك فينتقل من أفق إلى أفق، ومنه قولهم جاء الليل وذهب النهار.
الثالث : إذا سار فيه أهله، لأن السرى سير الليل.
﴿ هل في ذلك قَسَمٌ لذي حجْرٍ ﴾ وفي ذي الحجر لأهل التأويل خمسة أقاويل :
أحدها : لذي عقل، قاله ابن عباس.
الثاني : لذي حلم، قاله الحسن.
الثالث : لذي دين، قاله محمد بن كعب.
الرابع : لذي ستر، قاله أبو مالك.
الخامس : لذي علم، قاله أبو رجاء.
والحجر : المنع، ومنه اشتق اسم الحجر لامتناعه بصلابته، ولذلك سميت الحجرة لامتناع ما فيها بها، ومنه سمي حجر المَولَّى عليه لما فيه من منعه عن التصرف، فجاز أن يحمل معناه على كل واحد من هذه التأويلات لما يضمنه من المنع.
وقال مقاتل « هل » ها هنا في موضع إنّ، وتقدير الكلام : إن في ذلك قسماً لِذي حِجْر.
﴿ ألم تَرَ كيف فَعَل ربُّك بعادٍ * إرَمَ ﴾ فيه سبعة أقاويل :
أحدها : أن إرم هي الأرض، قاله قتادة.
الثاني : دمشق، قاله عكرمة.
الثالث : الإسكندرية، قاله محمد بن كعب.
الرابع : أن إرم أُمة من الأمم، قاله مجاهد، قال الشاعر :
كما سخرت به إرم فأضحوا... مثل أحلام النيام.
الخامس : أنه اسم قبيلة من عاد، قاله قتادة.
السادس : أن إرم اسم جد عاد، قاله محمد بن إسحاق، وحكى عنه أنه أبوه، وأنه عاد بن إرم بن عوض بن سام بن نوح.
السابع : أن معنى إرم القديمة، رواه ابن أبي نجيح.
الثامن : أنه الهلاك، يقال : أرم بنو فلان، أي هلكوا، قاله الضحاك.
التاسع : أن الله تعالى رمّهم رّماً فجعلهم رميماً، فلذلك سماهم، قاله السدي.
﴿ ذاتِ العمادِ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : ذات الطُّول، قال ابن عباس مأخوذ من قولهم رجل معمّد، إذا كان طويلاً، وزعم قتادة. أنه كان طول الرجل منهم اثني عشر ذراعاً.
الثاني : ذات العماد لأنهم كانوا أهل خيام وأعمدة، ينتجعون الغيوث، قاله مجاهد.
الثالث : ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة، قاله الضحاك، وحكى ثور بن يزيد أنه قال : أنا شداد بن عاد، وأنا الذي رفعت العماد، وأنا الذي شددت بذراعي بطن السواد، وأنا الذي كنزت كنزاً على سبعة أذرع لا تخرجه إلا أمة محمد.
الرابع : ذات العماد المحكم بالعماد، قاله ابن زيد.
﴿ التي لم يُخْلَقْ مِثْلُها في البلادِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد في البلاد، قاله عكرمة.
415
الثاني : لم يخلق مثل قوم عاد في البلاد، لطولهم وشدتهم، قاله الحسن.
﴿ وثمودَ الذين جابُوا الصّخْرَ بالوادِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني قطعوا الصخر ونقبوه ونحتوه حتى جعلوه بيوتاً، كما قال تعالى :
﴿ وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين ﴾ قال الشاعر :
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطِلٌ وكلُّ نعيمِ لا مَحالةَ زائلُ
وقال آخر :
وهم ضربوا في كل صماءَ صعدة بأيدٍ شديد من شداد السواعد.
الثاني : معناه طافوا لأخذ الصخر بالوادي، كما قال الشاعر :
ولا رأَيْت قلوصاً قبْلها حَمَلَتْ ستين وسقاً ولا جابَتْ به بَلَدا
وأما « الواد » فقد زعم محمد بن إسحاق أنه وادي القرى، وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة قال : أتى رسول الله ﷺ في غزاة تبوك على وادي ثمود، وهو على فرس أشقر، فقال : أسرعوا السير فإنكم في واد ملعون.
﴿ وفرعونَ ذِي الأوْتادِ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن الأوتاد الجنود، فلذلك سمي بذي الأوتاد لكثرة جنوده، قاله ابن عباس.
الثاني : لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد يشدها في أيديهم، قاله الحسن، ومجاهد، قال الكلبي : بمثل ذلك عذب فرعون زوجته آسية بنت مزاحم عندما آمنت حتى ماتت.
الثالث : أن الأوتاد البنيان فسمي بذي الأوتاد لكثرة بنائه، قاله الضحاك.
الرابع : لأنه كانت له فطال وملاعب على أوتاد وحبال يلعب له تحتها، قاله قتادة.
ويحتمل خامساً : أنه ذو الأوتاد لكثرة نخلة وشجرة، لأنها كالأوتاد في الأرض.
﴿ فَصَبَّ عليهم ربُّك سَوْطَ عذابٍ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : قسط عذاب كالعذاب بالسوط، قاله ابن عيسى.
الثاني : خلط عذاب، لأنه أنواع ومنه قول الشاعر :
أحارثُ إنّا لو تُساطُ دماؤنا تَزَيّلْنَ حتى لا يَمسَّ دَمٌ دَمَا
الثالث : أنه وجع من العذاب، قاله السدي.
الرابع : أنه كل شيء عذب الله به فهو سوط عذاب، قاله قتادة.
وقال قتادة : كان سوط عذاب هو الغرق.
﴿ إنّ ربك لبالمرصاد ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بالطريق.
الثاني : بالانتظار، كما قال طرفة :
416
﴿ وتأكُلون التُّراثَ أكْلاً لمّاً ﴾ والتراث : الميراث، وفي قوله « لمّاً » أربعة تأويلات :
أحدها : يعني شديداً، قاله السدي.
الثاني : يعني جمعاً، من قولهم لممت الطعام لَمّاً، إذا أكلته جمعاً، قاله الحسن.
الثالث : معناه سفه سفاً، قاله مجاهد.
الرابع : هو أنه إذا أكل مال نفسه ألمّ بمال غيره فأكله، ولا يتفكر فيما أكل من خبيث وطيب، قاله ابن زيد.
ويحتمل خامساً : أنه ألمّ بما حرم عليه ومنع منه.
﴿ وتُحِبُّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني كثيراً، قاله ابن عباس، والجمّ الكثير، قال الشاعر :
أعاذلُ إنّ الجهْلَ من لَذِةِ الفتى وإنّ المنايا للرجال بمرصَد.
إنْ تَغْفِر اللهم تغْفِرْ جَمّا وأيُّ عبدٍ لك لا أَلَمّاً
الثاني : فاحشاً تجمعون حلاله إلى حرامه، قاله الحسن :
ويحتمل ثالثاً : أنه يحب المال حب إجمام له واستبقاء فلا ينتفع به في دين ولا دنيا وهو أسوأ أحوال ذي المال.
﴿ يومئذٍ يَتذكّرُ الإنسانُ وأنَّى له الذِّكْرَى ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يتوب وكيف له بالتوبة، لأن التوبة بالقيامة لا تنفع، قاله الضحاك.
الثاني : يتذكر ما عمل في دنياه وما قدم لآخرته، وأنى له الذكرى في الآخرة، وإنما ينتفع في الدنيا، قاله ابن شجرة.
﴿ يقولُ يا ليتني قَدَّمْتُ لحياتي ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : قدمت من دنياي لحياتي في الآخرة، قاله الضحاك.
الثاني : قدمت من حياتي لمعادي في الآخرة ذكره ابن عباس.
﴿ فيومئذٍ لا يُعَذِّب عذابَه أَحَدٌ * ولا يُوثِقُ وثاقهَ أَحَدٌ ﴾ قرأ الكسائي لا يعذَّب ولا يوثق بفتح الذال والثاء وتأويلها على قراءته لا يعذَّب عذاب الكافر الذي يقول « يا ليتني قدمت لحياتي » أحدٌ، وقرأ الباقون بكسر الذال والثاء وتأويلها أنه لا يعَذِّب عذابَ الله أحدٌ غَفَر الله له، قاله ابن عباس والحسن، فيكون تأويله على القراءة الأولى محمولاً على الآخرة، وعلى القراءة الثانية محمولاً على الدنيا.
﴿ يا أيّتُها النّفْسُ المطْمئِنّةُ ﴾ فيه سبعة تأويلات :
أحدها : يعني المؤمنة، قاله ابن عباس.
الثاني : المجيبة، قاله مجاهد.
الثالث : المؤمنة بما وعد الله، قاله قتادة.
الرابع : الآمنة، وهو في حرف أُبيّ بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة. الخامس : الراضية، قاله مقاتل.
السادس : ما قاله بعض أصحاب الخواطر : المطمئنة إلى الدنيا، ارجعي إلى ربك في تركها.
السابع : ما قاله الحسن أن الله تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن اطمأنت النفس إلى الله تعالى، واطمأن الله إليها.
﴿ ارْجِعي إلى ربِّكِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : إلى جسدك عند البعث في القيامة، قاله ابن عباس.
الثاني : إلى ربك عند الموت في الدنيا، قاله أبو صالح.
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : إلى ثواب ربك في الآخرة.
﴿ راضيةً مَرْضِيّةً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : رضيت عن الله ورضي عنها، قاله الحسن.
الثاني : رضيت بثواب الله ورضي بعملها، قاله ابن عباس.
﴿ فادْخُلي في عِبادي ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في عبدي، وهو في حرف أُبيّ بن كعب : فادخلي في عبدي.
الثاني : في طاعتي، قاله الضحاك.
الثالث : معناه فادخلي مع عبادي، قاله السدي.
﴿ وادْخُلي جَنَتي ﴾ فيه قولان :
أحدهما : في رحمتي، قاله الضحاك.
الثاني : الجنة التي هي دار الخلود ومسكن الأبرار، وهو قول الجمهور.
وقال أسامة بن زيد : بشرت النفس المطمئنة بالجنة عند الموت، وعند البعث وفي الجنة.
واختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في أبي بكر، فروى ابن عباس أنها نزلت وأبو بكر جالس فقال : يا رسول الله ما أَحسن هذا، فقال ﷺ :« أما أنه سيقال لك هذا ».
الثاني : أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة، قاله الضحاك.
الثالث : أنها نزلت في حمزة، قاله بريدة الأسلمي.
الرابع : أنها عامة في كل المؤمنين، رواه عكرمة والفراء.
Icon