تفسير سورة هود

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة هود من كتاب زهرة التفاسير .
لمؤلفه أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ
تمهيد :
عدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة، كلها مكية إلا ثلاث، الآية الثانية عشرة، والسابعة عشرة، والرابعة عشرة بعد المائة.
ابتدأت السورة بالحروف المعجمة، التي ذكرنا من قبل أنها من المشتبهات التي لا يعلم علمها إلا الله تعالى، وذكرنا ما نظنه حكمة في ابتداء السور بها، وأنها في أكثر أحوالها يكون ذكر الكتاب والتنويه بأمره مما جعل بعض العلماء يقول : إنها أسماء للكتاب نفسه، وقد قال الله تعالى من بعد الحروف﴿.... كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير١ ﴾. ومن بعد ذكر القرآن وأحكامه ذكر القصد الأسمى من الدين وهو عبادة الله﴿ ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ٢ ﴾، ثم طلب الاستغفار والتوبة وهي سبيل الله تعالى وسبيل الاستجابة، وأن الإيمان بالله وصدق الإخلاص يأتي بخيري الدنيا والآخرة، وأن الإقامة في الدنيا إلى أجل مسمى عند الله﴿.... وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ٣ إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ٤ ﴾لكنهم يكفرون بالرجوع إلى الله تعالى ويصرفون صدورهم عنه ويستخفون منه، والله تعالى يعلم ما يسرون وما يعلنون ويعلم كل ما في الوجود﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ٦ ﴾ ؛ وذلك لأنه الخالق لكل شيء﴿ وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا.... ٧ ﴾. ومع أنه الخالق المبدع فإنه سبحانه وتعالى يذكر بالبعث﴿.... ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين٧ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون٨ ﴾.
ولقد ذكر سبحانه أن من طبيعة الإنسان الفرح عند النعماء واليأس في الضراء﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ٩ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ١٠ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ١١ ﴾.
ويبين الله تعالى رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في أن يؤمنوا جميعا، وأنه يضيق صدره بكفرهم فيقول سبحانه :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليك كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ١٢ ﴾.
ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى إفراطهم في طلب المعجزات ومكانة القرآن في الإعجاز بقوله تعالى :﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ١٣ فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ١٤ ﴾.
وبعد ذلك بين سبحانه منزلة الذين يريدون العاجلة وزينتها وأنه يوفي إليهم أعمالهم فيها ولا يبخسون ثم تكون عاقبتهم السوءى﴿ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ١٦ ﴾.
ثم يوازن سبحانه وتعالى بين المؤمن الذي يكون على بينة من ربه الذي هو شاهد بين على خلقه وتكوينه وما نزل من قبله على موسى، أيتساوى مع من يكفر بالله ويتحزب في الكفر فالنار موعده﴿ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون١٧ ﴾.
وأنه لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا... ١٨ ﴾كما بين سبحانه أنهم ضعفاء أمام الله تعالى وأنهم ليسوا بمعجزيه، وأنه يضاعف العذاب ويتحدى صاحب الجبروت والطواغيت، وأنهم يوم القيامة هم الأخسرون، وعلى عكسهم المؤمنون الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أي أنابوا واطمأنوا إليه. وأنهم أصحاب الجنة هم فيها خالدون. وقد لخص القرآن الكريم الموازنة بين الهدى والضلال بقوله تعالى :﴿ مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ٢٤ ﴾.
لقد كان المشركون في مكة يعبدون أوثانا ويعاندون ويجحدون ويؤذون، فناسب أن يذكر سبحانه قصص النبيين الذين جاءوا في بلاد العرب وجوبهوا بالعناد والجحود والاستهزاء والسخرية ليتأسى بهم النبي صلى الله عليه وسلم وليعرفوا عاقبتهم إذا استمروا في عنادهم.
وقد ابتدأ بذكر نوح أبي البشرية الثاني بعد آدم وقالوا : إن بعثه كان في البلاد العربية أو ببلاد تدانيها، وجاء في قصة نوح- وإنها لصادقة- أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده، وكانت إجابة الملأ من قومه مماثله لما أجاب به المشركون في مكة وأنهم كانوا يعيرونه كما عيروا محمدا صلى الله عليه وسلم بأن الضعفاء والعبيد هم الذين اتبعوه.
قال الملأ من قوم نوح الذين سارعوا في الكفر وبادروه ﴿.... ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ٢٧ ﴾.
وقد قالت قريش مثل هذا القول للنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق... ٧ ﴾( الفرقان )، وقد قال نوح لقومه إنه على بينة من ربه الذي آتاه رحمة﴿.... فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ٢٨ ﴾، كما أنه لا يسألهم أجرا، وطالبوه أن يطرد من معه لأجل أن يدخلوا في دعوته فيقول نوح عليه السلام :﴿ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ٢٩ ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ٣٠ ﴾، ثم عيره قومه أنه ليس غنيا مثل كبرائهم في الشرك فيقول لهم :﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا.... ٣١ ﴾.
تململ الكافرون الذين أصموا آذانهم عن الحق فقالوا :﴿ يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٣٢ ﴾، فيرد قولهم بأن الله تعالى هو الذي يأتيهم به إن شاء، ويبأس منهم نبي الله عليه السلام فيقول لهم ﴿ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ٣٤ ﴾.
وقد تشابه موقف مشركي مكة مع مشركي نوح الذين تشابه تحديهم مع حال مشركي قريش في إهمالهم المعجزة الكبرى وهي القرآن وادعائهم أنه صلى الله عليه وسلم قد افتراه.
يئس نوح من إيمان أكثر قومه وأوحي إليه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، كما امره تعالى بأن يصنع الفلك وسط سخرية قومه وهو يقول :﴿.... إن تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون ٣٨ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ٣٩ ﴾، والفلك يصنع ويسير ببخار الماء الذي يغلى ويفور كقوله تعالى :﴿ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل٤٠ ﴾.
ثم نادى نوح عليه السلام ابنه وكان في معزل﴿.... يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ٤٢ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ٤٣ ﴾.
وينادي نوح ربه حزينا﴿... رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ٤٥ ﴾. فيجيبه سبحانه :﴿ قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ٤٦ ﴾، يتدارك نوح عليه السلام قائلا :﴿ قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ٤٧ ﴾.
وإنه بعد غرق الكافرين برسالة نوح، ذهب الطوفان﴿ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك... ٤٨ ﴾.
وهذه القصة ليست مكررة في مواضع أخرى بهذا السياق الذي جاء في هذا الموضع لبيان المشابهة فيما لقيه نوح من المشركين، وهو يتشابه تماما مع ما لقيه محمد صلى الله عليه وسلم من قريش، وإن كانت النتيجة مختلفة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرجو الإيمان من قومه فلم يطلب هلاكهم. ولقد قال تعالى بعد قصة نوح وبيان العبرة فيها :﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ٤٩ ﴾.
بين سبحانه وتعالى الخبر الصادق عن عاد مع نبيهم هود عليه السلام. فنجد أن إجابتهم كإجابة مشركي مكة من العرب للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن كنتم إلا مفترون ٥٠ ﴾.
وانه بين لهم التوحيد دين الحق وبين أنه لا يريد منهم أجرا، إن أجره إلا على الله، ويقول لهم :﴿ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ٥٢ ﴾. ويردون بأنه لا دليل على نبوته :﴿ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ٥٣ ﴾.
نرى الإجابة واحدة، إجابة عاد وإجابة مشركي العرب، الذين قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم ﴿... رجلا مسحورا٤٨ ﴾( الإسراء )، وأنه يعتريه الجنة ويحسبون أنهم يستطيعون علاجه وكذلك قالت عاد لهود من قبل﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ٥٤ ﴾.
ويندد بهلاكهم إذ لم يجيبوا دعوة التوحيد﴿... ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ٥٧ ﴾.
ثم ينزل بهم أمر الله تعالى بريح عاصف كما بين الله في سورة الأحقاف ﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه إلا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ٢١ قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٢٢ قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون ٢٣ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ٢٤ تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين٢٥ ﴾.
كانت هذه عاد وعاقبة جحودها ولقد قال تعالى :﴿ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد٥٩ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عاد كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود٦٠ ﴾.
ثم جاء ذكر صالح عليه السلام وقد بعث في ثمود فقال تعالى :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ٦١ ﴾.
دعاهم إلى دين الله تعالى وهو الوحدانية، وذكر معها دليلها الذي هو الإنشاء والخلق والتكوين، ولكنهم أجابوا بالكفر كما أجاب مشركو العرب﴿ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب٦٢ ﴾.
آتاهم بالبينة وهي ناقة الله﴿ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب٦٤ فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب٦٥ ﴾. ثم نجى الله تعالى صالحا ومن آمن معه وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمبن.
وقد جاء بعد هؤلاء ذكر إبراهيم أبي العرب وأبي الأنبياء، وابتدأ بذكر رسل الله تعالى من الملائكة إليه عليه السلام.﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ٦٩ ﴾.
كان إب

آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ١ ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ٢ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ٣ إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ٤ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ٥
إن ما نعلمه عن الابتداء بالحروف المفردة ذكرناه في أول سورة البقرة وآل عمران وأول سورة يونس، ولا يفيد هنا تكرار ما ذكرناه هناك، وإن التكرار بغير غرض مقصود لا يجوز ممن يتكلم في القرآن لأنه المنزه عن اللغو، فلا نغلو في معانيه. ﴿ آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير١ ﴾.
جاء ذكر الكتاب بعد الحروف المفردة التي فهم بعض المفسرين أنها رمز للكتاب الكريم، وفي كلمة﴿ كتاب ﴾ التنكير للتعظيم، أي أنه كتاب عظيم لا يطاول ولا يأتي أحد مثله، ﴿ أحكمت آياته ﴾ أي نسقت ألفاظه فهي متآخية في نغمتها وتآلفها وهو نسق بياني مؤتلف غير مختلف، ومعانيه متساوقة فالخواطر تتسابق إلى النفس بإيماء من الله يمهد كل معنى لما يليه كعقد من الجواهر تتبع كل حبة أختها، وأحكم مدلوله لا يعروه تضليل ولا تبديل، ولا تناقض أو تضارب في معانيه، بل إنها متلاقية متعاونة مدعمة بالحجج والبراهين القاطعة الحاسمة تسير متهادية متصلة، ولكلمات الله المثل الأعلى.
﴿ ثم فصلت ﴾ ( ثم ) للترتيب والتراخي، والتراخي هو التراخي المعنوي، ذلك لأن الناس ألفوا أن الكلام المحكم في نغمه وألفاظه وكلماته وأسلوبه لا يكون مفصلا في معانيه، أي لايكون مبينا واضحا لان النغم يشغل القارئين عن المعاني ولكن هذا القرآن كتاب الله الخالد في الوجود الإنساني، كان مع حلاوة نغمه وتواصله وعبارته وتساوق معانيه مبنيا مفصلا لأبواب الحلال والحرام والعقائد والمواعظ. والترتيب ليس للترتيب الزمني، إنما هو للترتيب الفكري والترابط النفسي فكلمة﴿ ثم ﴾ هنا للترتيب والتراخي.
ولقد أعطى الله تعالى القرآن شرفا إضافيا بعد شرفه الحقيقي في إعجازه وأنه لا يزال يتحدى الخليقة عربا وعجما أن يأتوا بمثله وأنى يكون، فيقول تعالى :﴿ من لدن حكيم خبير ﴾كلمة﴿ من لدن ﴾ معناها من عند، وقل أن تستعمل في القرآن الكريم في غير جانب الله العليم القادر. ويقول الزمخشري في معنى الآية الكريمة :﴿ أحكمت ﴾ دون الباطل ﴿ ثم فصلت ﴾ كما تفصل القلائد الفرائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص. إذ جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية ووقت في التنزيل فلم تنزل جملة واحدة، فإن قلت ما معنى كلمة﴿ ثم ﴾ ؟ قلت : ليس معناها التراخي في الوقت بل في الحال، فتقول هي المحكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفيه طباق حسن لأن المعاني أحكمها حكيم، وفصلها، أي بينها وشرحها خبير عالم أي قوله تعالى :﴿ حكيم خبير ؛ ﴾ فيه هذا الطباق بين أحكمت وفصلت ووصفها الله تعالى بأنها﴿ من لدن حكيم خبير ﴾.
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك المقصد الأصلي من القرآن ألا وهو التوحيد وإثبات رسالة النبي صلى الله علبيه وسلم. لذا قال تعالى :
﴿ ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ٢ ﴾.
النفي والإثبات دليل على قصر العبادة على الله وحده لا يعبدون غيره من أوثان أو أشخاص أو أي كائن من مخلوقاته سبحانه وتعالى. أي أن الله تعالى أحكم القرآن وفصل آياته تفصيلا، وأقام فيه الدلائل القاطعة على أنه الخالق لتعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا.
ثم يقول تعالى حاكيا عن قول نبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ إنني لكم منه نذير ﴾ لمن عصى وأشرك أنذره بالسعير، ﴿ وبشير ﴾لمن آمن بالله تعالى وحده وكلل إيمانه بطاعة الله فيما أمر به من طاعات فيها خير الدنيا والآخرة، وفيما نهى عنه من معاص فيها فساد في الأرض وعذاب في الآخرة، والضمير في كلمة﴿ منه ﴾ يعود على الله تعالى.
ويأتي ذكر النذير البشير صلى الله عليه وسلم بعد عبادة الله تعالى وحده، إيماء بأن القرآن الكريم قد أحكمت آياته وفصلت ليكون آية النبوة ومعجزة الرسالة المحمدية الخالدة إلى يوم الدين. فالقرآن الكريم هو البرهان لعبادة الله وحده، وهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك المعجزة الكبرى التي لا تدانيها في بقائها وثمراتها معجزة أخرى من معجزات النبيين قبله صلى الله عليه وسلم.
بعد أن نهى سبحانه عن عبادة غير الله وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم نذير وبشير أمر بالاستغفار والتوبة فقال :
﴿ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ٣ ﴾.
( الواو ) عاطفة على قوله تعالى :﴿ ألا تعبدوا إلا الله ﴾ ولتضمنها معنى الأمر، وإن كانت للحكاية، ولكن لأنها غاية أحكام الآيات وتفصيلها، وكون النبي صلى الله عليه وسلم له الإنذار المؤكد، والبشارة كانت في معنى الطلب بدليل الإنذار والتبشير، إذ لا بد أن يسبقها الطلب، ولذا جاء عطف الطلب.
كلمة﴿ وأن ﴾ في قوله تعالى :﴿ وأن استغفروا ربكم ﴾، يصح أن نقول إنها تفسيرية، ويصح أن تكون مصدرية. والاستغفار طلب المغفرة، والخطاب لقوم مشركين فطلب إليهم أولا الإقلاع عن عبادة الأوثان، ثم الاستغفار، وطلب عفو الله فيما ارتكبوا من آثام في حقه سبحانه، ثم يكون بعد ذلك الرجوع إلى الله والعيش في رحابه، وذلك بالتوبة إليه. كأن الاستعفار هو الدخول إلى الوحدانية مع طلب عفو الله ومغفرته، ولهذا قدم الاستغفار على التوبة ؛ لأن الاستغفار كان عن الشرك وما اتصل به من جحود وعناد، والتوبة الرجوع إلى الله وطاعته فيما أمر ونهى. والتعبير بكلمة﴿ ثم ﴾ الدالة على الترتيب والتراخي للدلالة على البعد بين المقامين، مقام الاستغفار عن الشرك ومقام التوبة، فالتوبة ذاتها عبادة، ولا تراخي في الزمن بل الزمن واحد ولكن البعد في الرتبة. وفي قوله تعالى :﴿ استغفروا ربكم ﴾ معنى قرب الله تعالى من العبد لانه ربه الذي برأه ورباه وقام على تدبير حياته وحياة ما حوله.
﴿ ثم توبوا إليه ﴾ أي عودوا بالتوبة إليه سبحانه ؛ لأن العبد بالشرك يبعد عن الله بعد أن خلقه حنيفا، وبالتوبة عاد إلى ما ابتدأ وهو القرب من الله.
و﴿ توبوا ﴾ فعل أمر له جواب كجواب الشرط ؛ وقوله تعالى :﴿ يمتعكم متاعا إلى أجل مسمى ﴾ أي إن تتوبوا بعد أن تستغفروا يكن الجزاء أن يمتعكم متاعا حسنا، أي يمكنكم من أن تتمتعوا متاعا حسنا. والمتاع الحسن هو المتاع الحلال الذي يكون من مكسب حلال وفي حلال كالرجل مع زوجته، والمتاع الحسن مادي كالذي أشرنا إليه، ومعنوي وهو الاطمئنان إلى الحق، والقرار، وعدم الظلم، والرضا والقناعة، والاستمساك بالفضائل، والبعد عن الرذائل، والسكون إلى جانب الله، ولقد قال تعالى :﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة... ٩٧ ﴾( النحل ). وأن هذه المتعة التي تعم المجتمع الفاضل هي إلى أجل مسمى وهو الحياة الدنيا.
﴿ ويؤت كل ذي فضل فضله ﴾هذا الإيتاء في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فإنه يتكون مجتمع فاضل كريم حيث يكون كل ذي فضل في مكانته، فيعطى حقه غير منقوص، ويتمتع الجميع بمتاع حسن وتكون الحقوق قائمة أدبية ومادية، فالمجتمعات التي لا تظلها الفضيلة لا تعرف فيها قيم الأفاضل وتضطرب الموازين اضطرابا شديدا بل تنقلب للرجال والأعمال معا.
وأما في الآخرة يؤتى ذو الفضل فضله بالنعيم المقيم والرضوان من رب العالمين وهو الجزاء الأكبر. وفي قوله تعالى :﴿ ويؤت كل ذي فضل فضله ﴾ معناه جزاء فضله ولم تذكر كلمة الجزاء، وإن قدرت في مطوى الكلام، للإشارة إلى أن الجزاء مساو للفضل تماما حتى كأنه هو، فالله تعالى عادل حكيم. وفي مقابل جزاء الذين يحسنون قال تعالى مهددا من يعرضون :﴿ وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ﴾ تولوا أصلها تتولوا وحذفت التاء لتوالي التاءات وذلك كثير في العربية وفي القرآن الكريم، ويكون خطابا للمخاطبين في قوله تعالى﴿ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ﴾ ولكن من الذي يخاطبهم، أهو الله تعالى أم نبيه صلى الله عليه وسلم، والله جل جلاله لا ينسب له الخوف﴿ فإني أخاف عليكم ﴾ فيكون أليق بالنبي صلى الله عليه وسلم على أساس بشارته وإنذاره. الكلمات إنذار للذين يعرضون وينصرفون عن كلام الله وهو محل خوف ممن ارسله هاديا ومبشرا ونذيرا وقد اكد الله تعالى الخوف عليهم بالجملة الاسمية وبكلمة﴿ إن ﴾، وقوله تعالى :﴿ عذاب يوم كبير ﴾ الكبر وصف لليوم، وكبره لأن فيه أهوالا شديدة ولأنه يوم الشدة يحس الإنسان بطوله كما أنه في ذاته كبير فيه الحساب والثواب والعقاب.
﴿ إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير٤ ﴾
قدم الجار والمجرور للدلالة على القصر، أي إلى الله وحده مرجعكم لا إلى أحد سواه ولا شريك له في الحكم على أعمالكم وأقوالكم وما كسبتم واكتسبتم، ولذكر لفظ الجلالة تربية للمهابة في قلوبهم، وفي ذلك إنذار شديد للمشركين الذين أشركوا غيره باطلا، ثم يؤكد سبحانه الإنذار بقوله :﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾.
فعقابه عقاب القادر القاهر فوق عباده ويحكم يوم الحساب، إذ هو قادر على كل شيء في الوجود وليس على درجة الكمال سواه.
بعد أن بين الله قدرته بين علمه الذي يحاسب على مقتضاه فقال :
﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور٥ ﴾.
﴿ يثنون ﴾ فعله ثنى بمعنى طوى. وكلمة﴿ ألا ﴾ للتنبيه، والمعنى : ألا إنهم يطوون صدورهم على عداوة وبغضاء وكراهية شديدة، فأولئك الذين كانوا يعادون النبي ويزدرون عند سماع الحق وكأنه يكون منهم أمران :
أولهما : العداوة والبغضاء يطوون قلوبهم عليها وتدفعهم إلى عمل ما لا يجوز ويفتنون المؤمنين عن دينهم.
ثانيهما : الازورار عن الحق ازورارهم عما لا يحبون، وانصراف صدورهم عنه ويريدون أن يستخفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وينسون أن الله بكل شيء عليم.
ثم يبين سبحانه كمال إحاطة علمه فيقول :﴿ ألا حين يستغشون ثيابهم ﴾ ويريدون أن تكون غاشية لهم تلف إحساسهم، أي أنه سبحانه يعلم ما يطوون عليه صدورهم وما يستخفون في حسهم وفي نومهم، ولذا قال تعالى موضحا مؤكدا﴿ يعلم ما يسرون وما يعلنون ﴾.
وأنه سبحانه يجازيهم بذلك الذي يطوون. ثم يقول سبحانه في بيان صفة علمه﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ وهذا التعبير القرآني يبين دقة علم الله تعالى، و( ذات ) هي الحقائق التي تلازم الصدور من خواطر خير وغيره، ومن خلجات القلوب ومتا تخفي السرائر، وكلمة( ذات ) بمعنى صاحبة أو متلازمة الصدور لا تخرج إلى الجهر والإعلان، ولا تكون كذلك إذا خرجت من مكنونها إلى موضع الإعلان.
وإن ذكر هذا العلم الشامل المحيط بكل صغيرة وكبيرة، لبيان أنهم يتحملون جزاءه سبحانه، وهو جزاء ممن لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض الذي يعلم ما تكن الأفئدة وتكسب الجوارح ويجازي كلا ما يستحق، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وكل بما اكتسب رهين.
خالق الكون ومدبره
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ٦ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ٧ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحسبه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون٨ }
﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ٦ ﴾.
﴿ ما ﴾ نافية، وكلمة﴿ من ﴾ للدلالة على عموم الآحاد في كل الدواب، أي يعلم كل دابة علما دقيقا في مفردتها وجماعتها، أي أن كل دابة على الله رزقها، وكانت التعدية للدلالة على أن ذلك متحقق ثابت بمقتضى وعد الله تعالى الذي لا يخلفه، فعبر ب﴿ على ﴾وهذا لأن الله لا يجب عليه شيءإلا ما كتبه سبحانه على نفسه، كما قال تعالى :﴿.... كتب ربكم على نفسه الرحمة... ٥٤ ﴾( الأنعام ).
وليس هناك إلزام، ولكن هناك وعدا والتزاما، والدواب ما يدب على الأرض من أصعر الكائنات إلى الإنسان، وعلى الله رزق كل هؤلاء، والإنسان بكل ما يتخذه من أسباب ليس هو المنشيء للرزق فقد يتخذ كل الأسباب ولا يكون إلا الحرمان، فكل شيء من فضل الله، وعلى الإنسان أن يسعى ولابد من الأخذ بالأسباب بعد التوكل وتفويض الأمر لله، وليس لأحد أن يسحب أن أسبابه وحدها تموله وتمونه، بل لا بد من التوكل على الله والتفويض إليه.
والرزق بالنسبة للدواب والأحياء، هو ما يتمول به ويتغذى، فينمي جسده ونفسه ويكون بقاؤه، وذلك عام في الدواب جميعها، وبمقتضى إرادته الحكيمة يكون بعض الدواب رزقا للآخر، وكل ذلك بتقدير الله تعالى وبفضله الذي أنشأ ودبر وحكم.
وأكد سبحانه أن كل دابة في ظل فضله وسلطانه يدبر أمرها ويحكم بتدبيره فقال :﴿ ويعلم مستقرها ومستودعها ﴾ المستقر هو الإقامة في الأرض، ويصح أن نعدها مصدرا ميميا، فيكون المعنى ويعلم استقرارها، كما يصح أن نعدها اسم مكان أو زمان، أي يعلم مقامها في الأرض وزمان إقامتها.
ومستودعها هو مكان إيداعها في قبورها إن كانت في الأحياء التي تدفن، وإن الذي يعلم مكان استقرارها ومكان إيداعها هو يعلم مقدار حاجتها في الرزق فلا يمكن أن يفوت الرزق أحدا.
ثم يؤكد سبحانه كل هذا بقوله :﴿ كل في كتاب مبين ﴾ أي أن كل دابة ورزقها ومقامها واستيداعها في باطن الأرض وديعة مستردة بعد حين، كل ذلك مكتوب في كتاب واضح هو اللوح المحفوظ والعلم المكنون.
وإن من ألفاظ القرآن أنه﴿.... لقوم يوقنون ١١٨ ﴾ وإن وعده سبحانه الحق لا يقبل إخلافا ولا تخلفا، ولكن ناسا لا يؤمنون بالخالق ذي القوة المتين يحسبون أنهم يرزقون أنفسهم، ويريدون أن يفعلوا فعل أهل الموءودة ويظنون أنهم إن قضوا على نسلهم ضمنوا رزقهم، ولقد نسوا قول الله تعالى :﴿.... ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم... ١٥١ ﴾( الأنعام ).
وقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم... ٣١ ﴾ ( الإسراء ).
ولقد قال بعض الذين يتخذون الأسباب :
وكيف أخشى الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم وللضب في البيداء والحوت في البحر
ثم بين سبحانه كمال سلطانه في خلقه وتدبيره لأمورهم فيقول :
﴿ وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ٧ ﴾.
الضمير﴿ هو ﴾ يعود إلى الله جل جلاله، وهو في نفس كل إنسان وعقله وقلبه إذا كان يؤمن بالله واليوم الآخر، والآية تؤكد تدبير الله تعالى لخلقه وإمداده بالرزق وإمساكه لملكوته كله. والأيام الستة ليست هي أيامنا فلا يقال ابتدأ بالأحد وانتهى بالجمعة ؛ لأن أيامنا نشأت بعد خلق السموات والأرض، وارتباط الأرض بالشمس والقمر والنسبة بينهما وكل يدور في فلكه، والشمس والقمر بحسبان.
إنما يراد بالستة أيام الأدوار الكونية، وقد أشار الله تعالى إلى هذه الأدوار في سورة فصلت :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ٩ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ١٠ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتنا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ١١ فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ١٢ ﴾( فصلت ).
فالأيام هي أدوار الخلق والتكوين كما تشير الآيات.
﴿ وكان عرشه على الماء ﴾ يصح أن نقول- والله سبحانه أعلم بمراده- إن العرش كناية عن السلطان الكامل، وفي ذلك تصوير لتدبير ملكه وخلقه في أرزاقهم وأقواتهم وبقائهم والتماسك بين أجزاء السماء والأرض وكيف ينزل الغيث ومنبت الأرض بعد موتها وكيف يمسك السموات والأرض أن تزولا، وكيف يحفظ الوجود كله وهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. وهذا قد يكون معنى العرش فيما أحسب، والله لا إله إلا هو وحده عنده العلم الكامل.
وذكر سبحانه أنه على الماء للإشارة إلى أنه سبحانه هو الذي يدبر أمر الأحياء كلها، وأن رزق الذي يسبح في الماء في كفالة الله كرزق الذي يدب على الأرض.
ثم يقول سبحانه :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ أي ليعاملهم معاملة المختبر، إذ إن لهم إرادة تتجه إلى الخير وتتجه إلى الشر، وهو سبحانه خلقكم ومكن لكم في الأرزاق والأقوات والاستقرار في الأرض ؛ ليظهر المؤمن فيشكر ويظهر الكافر فيكفر، و﴿ أيكم أحسن عملا ﴾فيها﴿ أحسن ﴾ بمعنى أخلص والمخلص الذي بلغ إخلاصه أعلى الدرجات.
ويلاحظ هنا ذكر الذين يظهر خيرهم ولم يذكر الذين يظهر شرهم، وكأنهم همل لا يعدون في الأحياء، فالحياة حياة الروح، ولقد قال تعالى :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ١٢٢ ﴾( الأنعام ).
فالذي ظهر شره يعد ميتا وإن لم يمت، وإن المشركين مع هذا الخلق وذلك الإبداع منكرون اليوم الآخر، وأن الله يعيدهم كما بدأهم أول مرة، ولذلك قال تعالى :﴿ ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ﴾، ( اللام ) الموطئة للقسم، أي إن قلت لهم مؤكدا القول بعد هذه الآيات البينات في دلالتها وكمال وضوحها في قدرة الحكيم العليم الخالق لكل شيء، لئن قلت لهم يا محمد إنكم لمبعوثون من بعد الموت، لا يكون الجواب بالإيجاب بل يكون السلب ؛ لأن موضع استغرابهم أنه بعد الموت.
وقد أكد الله تعالى قول النبي بالقسم وبالجملة الاسمية وإن المؤكدة﴿ إنكم مبعوثون من بعد الموت ﴾، كما أكد إجابتهم باللام وبنون التوكيد الثقيلة ﴿ ليقولن الذين كفروا ﴾ وقد كانت إجابتهم سلبا مع استغراب وجحود﴿ إن هذا إلا سحر مبين ﴾ أي إن إجابتهم، إن هذا أمر باطل كما أن السحر أمل باطل، وأن ذكره خيالات وأوهام كما أن السحر خيالات وأوهام، وإن الإخبار بهذا لا دليل عليه إلا القرآن وإنه لسحر وقول ساحر وما هم بمصدقين لساحر أو مجنون.
﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحسبه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ماكانوا به يستهزءون٨ ﴾.
في قوله تعالى :﴿ ولئن ﴾ اللام موطئة للقسم، ولئن أخرنا عنهم العذاب الذي نال مثله الذين من قبلهم إلى أمة أي مدة معدودة من السنين المحدودة القليلة ؛ لأن التعبير بمعدودة يومئ إلى أنها قليلة، كما قال تعالى عن قول اليهود :﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة... ٨٠ ﴾ ( البقرة ) فالأمة هنا بمعنى مدة.
وكلمة أمة وردت في فالقرآن بمعان مختلفة، فتجيء بمعنى المدة كهذه الآية، وتكون بمعنى الجماعة في قوله تعالى :﴿ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون... ٢٣ ﴾ ( القصص )، وتطلق على الرجل المهيب الجامع لمكارم الأخلاق كقوله تعالى :﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا.... ١٢٠ ﴾ ( النحل ).
وتطلق بمعنى الملة كقوله تعالى :﴿..... إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ٢٢ ﴾( الزخرف ).
وهذه معان مشتركة في لفظ واحد كإطلاق لفظ"القرء" على الطهر وعلى الحيض، ومعنى الآية الكريمة أنه إذا أخرالله تعالى العذاب الدنيوي الذي ينالهم بريح عاصف أو رجفة تجعل عالي الأرض سافلها أو بحرب مخزية لهم ترد الحق إلى أصحابه وتقمع الباطل وتزهقه فإنهم يقولون متحدين النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ ما يحبسه ﴾، ما يمنعه، وكلامهم هذا يتضمن تحديا وإنكارا وتكذيبا مثل الذين سبقوهم إلى الكفر والجحود.
إن سنة الله في الذين خلوا من قبلهم أنه سبحانه يمهل الكافرين، يدارسهم رسولهم الحق يدعوهم إليه ويؤيدهم بالبرهان ويردده المرة بعد الأخرى حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كما أخذ قوم نوح وعاد وثمود وآل مدين وآل فرعون، وإذا كانت الدعوة خالدة كدعوة محمد صلى الله عليه وسلم غالبهم الحق وغالبهم، فقد صابرهم صلى الله عليه وسلم حتى هاجر وكان الجهاد والمغالبة حتى وضع الله الباطل وأزهقه إنه كان زهوقا.
ولذلك لما جاء لم يكن مصروفا بل كان لونا آخر ليس من نوع ما نزل بمن سبقوهم.
إنهم تحدوا الله منكرين مستنكرين يقولون :﴿ ما يحبسه ﴾ فالاستفهام للاستنكار والإنكار والاستهزاء بما هددهم به القرآن، وإنهم إذا تحدوا محمدا ذلك التحدي السافر المستهزئ فإن الله تعالى يقول :﴿ ألا يوم يأتيهم ﴾ ألا للتنبيه الزاجر الموقظ لغفلتهم التي كانت من فرط الاغترار بقوتهم الظاهرة.
﴿ ليس مصروفا عنهم ﴾ أي ساعة أن يجيئهم لا يصرفه عنهم رجاء أو شفاعة شافعين، وإنهم إذ يندمون فقد فات وقت الندم، كذلك كان الأمر في ماضي الأمم مع الكافرين، وإن ما قدره الله لكم معشر كفار قريش إذا جاء العذاب على أيدي المجاهدين بأمر من الله تعالى لن يرفع عنكم حتى تستسلموا خاضعين، وحتى يتمكن الإيمان من الكفر والكافرين.
﴿ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾ ( حاق ) معناها أحاط وهي تتضمن معنى لإنزال الجزاء. جاء في تفسير معنى ( حاق ) في مفردات الراغب الأصفهاني : قوله تعالى :﴿ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾ وقال عز وجل :﴿.... ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله... ٤٣ ﴾ ( فاطر )، أي لا ينزل ولا يصيب، وأصله "حق".
وخلاصة المعنى على هذا، أنه أحاط بهم ونزل الأمر الذي كانوا به يستهزئون، وهو حق عليهم استحقوه بأعمالهم واستهزائهم فكان جزاء وفاقا لما فعلوا من قبل، وقوله تعالى :﴿ ما كانوا به يستهزئون ﴾ يفيد أن استهزائهم كان دائما ومستمرا، ولذا عبر بالماضي الدال على وقوعه في ماضيهم واستمراره في حاضرهم ومستقبلهم حتى نزل بهم ما تعجلوه.
الصبر خلق الإيمان
قال تعالى :
ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ٩ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور١٠ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ١١ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ١٢
﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ٩ ﴾.
هذا نص كبير في بيان طبيعة النفس التي تخضع للحس دون العقل المدرك الذي يوازن بين الماضي والحاضر ويضبط نفسه ووجدانه، بل يكون هلوعا عندما يصيبه ما يسوؤه وطموعا أشرا بطرا عندما ينال خيرا ويذهب عنه ما يسوؤه، فإذا أصابه خير بطر، وإذا أصابه سوء جزع.
أما المؤمن المدرك صبور لا تبطره النعمة، ولا توئسه النقمة، وهو يضبط نفسه، وضبط النفس والصبر متلازمان لا يفترقان.
﴿ ولئن ﴾ ( اللام ) هي الممهدة للقسم، إن حرف شرط ودخول اللام يؤكد فعل الشرط أي أن أذاق الإنسان منه سبحانه رحمة ثم نزعها إنه ليؤس كفور.
وهنا ملاحظات بيانية موضحة ومقربة للنص الكريم :
الملاحظة الأولى : قال سبحانه :﴿ أذقنا الإنسان ﴾ أي جعله يذوق ويحس متنعما، وأضاف سبحانه وتعالى ذلك إليه لبيان عظمها وأنها منحة جليلة، وسماها سبحانه رحمة لوجوب شكرها وبيان أنه أعطاها لتكون مصدر خير للناس تعم ولا تخص، فهي ليست له خاصة ولكن ليكون شكرها نفعا للناس.
الملاحظة الثانية : قوله تعالى :﴿ ثم نزعناها منه ﴾ يشير إلى التفاوت بين العطاء الكريم والنزع الحكيم، وفيه تفاوت بين العطاء والنزع، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم، وفيه بيان أن نعيم الدنيا ليس بدائم بل فيها العطاء والمنع، ونعيم الآخرة دائم غير مجذوذ.
الملاحظة الثالثة : هي الانتقال إلى حال شديد مؤكد في قوله تعالى :﴿ إنه ليؤس كفور ﴾ بصيغة المبالغة الدالة على الهلع والجزع واليأس من رحمة الله التي لا ييأس منها إلا القوم الكافرون. وكان القول :﴿ كفور ﴾ ؛ لأنه لا يرجو الله ولا يؤمن بما عنده.
الملاحظة الرابعة : جواب القسم في قوله تعالى :﴿ إنه ليؤس كفور ﴾ فيه تأكيد لعمق يأسه واستيلائه عليه وكفره، وكان التأكيد بصيغة المبالغة وباللام وبالجملة الاسمية وب﴿ إن ﴾ المؤكدة.
وكل ذلك لأنه مادي لا يؤمن إلا بالمادة ولا يرجو ما عند الله الذي يعطي ويمنع ويغز ويذل، وهذا حال الإنسان الذي لا يؤمن إلا بالدنيا، إذا كان المنع بعد العطاء.
أما حاله في النعماء بعد الضراء فقال تعالى فيه :
﴿ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ١٠ ﴾.
( اللام ) ممهدة للقسم وما قلناه في قوله تعالى :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ﴾، يقال هنا، والنعماء هي النعمة السابغة، والضراء ما يضر في الجسم أو المال ويصيب النفس فيوجد بأسا وضرا لا يرجى زواله عند غير المؤمن.
جواب القسم﴿ ليقولن ذهب السيئات عني ﴾، وكان جواب القسم لدخول اللام، والتأكيد بنون التوكيد الثقيلة، والقسم واللام ذاته تأكيد.
والسيئات الأمور التي ساءته والتعبير بالماضي دليل على تأكيد الذهاب، وهو لا يسند ذلك لله، بل يذكره من غير إسناد للمنعم وكأنه جاء عفوا من غير سبب الأسباب ومقدر الأقدار.
ومن قوله تعالى، إنه يفرح بذلك ويفاخر به فقال :﴿ إنه لفرح فخور ﴾ أي إنه يغمره الفرح فينسبه ما كان فيه من ضراء وما أصابه من شقاء.
هكذا المادي لا يؤمن إلا بما هو فيه ناسيا ما كان معتبرا به، فله الساعات التي هو فيها لا يفكر فيها سواها، وفي وصفه يقول الله تعالى :﴿ فخور ﴾ أنه يتطاول على غيره مغترا بما آلت إليه حاله، والفخر فيه أمران مفسدان للنفس :
الأمر الأول : المطاولة على الغيروغمط الناس حقوقهم.
الأمر الثاني : إنكار نعمة المنعم معتقدا أنه مجهوده وعمله وليس بعطاء من الله وإن التفاخر يوهم صاحبه أنه في حال لم يصل إليها غيره فيتخيل ما ليس عنده، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا حين قال، "كلوا واشربوا والبسوا من غير سرف ولا مخيلة" وقال تعالى :﴿... إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ٣٦ ﴾( النساء ).
وهذا شأن الإنسان الذي لم يؤته الله تعالى صبر المؤمنين ولا ضبط نفوسهم، ولذلك استثنى الذين صبروا وآمنوا وعملوا الصالحات من عموم الإنسان فقال تعالى :
﴿ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ١١ ﴾.
إن الصبر وضبط النفس كريمان متلازمان، بل إن ضبط النفس شعبة من شعب الصبر الثلاث :
الشعبة الأولى : تحمل المشاق النفسية والبدنية، ومن المشاق النفسية المحن والنعم، ويكون تحمل المحن بتلقيها من غير تململ ولا تزلزل، أما النعم فيتلقاها بالشكر والصبر على القيام بحقها.
الشعبة الثانية : تكون بعدم الأنين أو الشكوى والضجر، وهذا هو الصبر الجميل الذي التزمه يعقوب عليه السلام.
الشعبة الثالثة : هي رجاء زوال ما يمتحنه به الله تعالى، فلا ييأس من رحمة الله ولا يكفر بنعمه وألا تغريه نعمة الله بالكبر والبطر.
وإن ضبط النفس يكون في مطوى هذه الشعب، فلا تكون نفس الصابر رعناء تبئسها الشدة وتقرها النعمة فيكون في اضطراب مستمر، وهوج في النعم والنقم.
وقد استثنى الله تعالى الصابرين، وذكر في أوصافهم العمل الصالح ﴿ وعملوا الصالحات ﴾، أي عملوا كل شيء فيه صلاح أنفسهم وجماعتهم، وصلاح دينهم الذي هو عصمة أمرهم، وإن اقتران العمل الصالح بالصبر يدل :
أولا : على أن العمل الصالح يقتضي صبرا على الاستمرار فلا بد أن يكون مستمرا دائما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :"أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"١، كما أنه قال :" إن الله يحب الديمة في الأعمال"٢.
ثانيا : يدل اقتران العمل الصالح بالصبر على أن العمل الصالح يحتاج إلى تحمل بعض المشاق، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن"٣.
وقد بين سبحانه وتعالى جزاء الصابرين العاملين فقال :﴿ أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ﴾ الإشارة إلى أن الجزاء مغفرة، إذ إن الله يستر ما لهم من أعمال غير مقبولة بغفرانه ؛ لأن الصبر والعمل الصالح يستران بذاتهما العمل غير الصالح بأمر الله تعالى :﴿.... إن الحسنات يذهبن السيئات... ١١٤ ﴾، وبعد هذه المغفرة الساترة يكون الأجر الكبير الذي هو عظيم في ذاته وبلغ قدرا لا يدرك كنهه إلا الله معطيه.
وإذا كان للصبر هذه المنزلة، فأول أوصاف النبيين الصبر، الصبر في سبيل الدعوة والاستمرار في التبليغ، والصبر على الأذى والتحديات الآفنة ٤ والمطالب الجائرة والحائرة، ولذلك قال تعالى :
١ رواه البخاري: الرقائق –القصد والمداومة على العمل (٦٤٦٤)، وبنحوه مسلم: صلاة المسافرين وقصرها – فضيلة العمل الدائم من قيام الليل ونحوه (٧٨٣).
٢ رواه البخاري: الرقائق –القصد والمداومة على العمل (٦٤٦٤)، وبنحوه مسلم: صلاة المسافرين وقصرها – فضيلة العمل الدائم من قيام الليل ونحوه (٧٨٣)
.

٣ جزء من حديث رواه مسلم: الزهد والرقائق –المؤمن أمره كله خير (٢٩٩٩)..
٤ الآفنة: التي تجمع بين النقص، وضعف العقل، والحمق. راجع لسان العرب- أفن..
﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل١٢ ﴾.
( الفاء ) فاء الإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر، والشرط تحريض على الصبر وتقديره، إذا لم تصبر فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك. أي أنه لا مناص من الصبر على الأذى والتأني لهم حتى يكون النصر المبين، وإلا فإنك تنزل عند رغباتهم الآثمة.﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ﴾.( لعل ) هنا فيها إشارة إلى ما يرجون، فلعلك أنت يا رسول الله إلى خلقه أجمعين تجاريهم في ترك بعض ما يوحى إليك من شرع مرضاة لهم، فتحرم ما يحرمون وتبيح ما يبيحون. تحرم ما يحرمون من طيبات، وتجيز طواف العرايا ثم تنزل في مرضاتهم حتى تسيغ لهم عبادة الأوثان أو يكون السكوت عنهم فيها.
﴿ وضائق به صدرك ﴾ الضمير في ﴿ به ﴾ يعود إلى ﴿ ما يوحى ﴾ ﴿ ضائق ﴾ أي يعرض أمر غريب على نفسك وهو أن يضيق صدرك ببعض ما أنزل عليك وبعثت من أجله وبه اهتديت وبه تهدى.
ليس المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ضاق صدره أو يضيق، إنما المعنى أنهم يرجون أن تترك بعض ما أوحى إليك وأن يضيق صدرك بإيذائهم فتتركه مضطرا.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن منه شيء من ذلك ولا يفكر في شيء منه ولكن يحرضه الله تعالى على البقاء على الدعوة وتبليغ الرسالة غير ملتفت إلى أحد منهم، ثم قال تعالى :﴿ أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ﴾ وهذا متعلق بمحذوف "كراهة أن يقولوا لولا" أو نقول إنه متعلق ب﴿ ضائق ﴾ ويكون المعنى على هذا : لعلك تارك بعض ما يوحى إليك بسبب إيذائهم المتوالي وسفاهتهم معك، أو يضيق صدرك في عدم خضوعهم للمعجزة الكبرى وقد تحديتهم فعجزوا، ثم طلبوا معجزات أخرى. وهذا هو الذي نختاره.
وقد أنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه فقير﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٣١ ﴾( الزخرف ).
وأنكروا أن يكون بشرا منهم رسولا﴿ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق... ٧ ﴾ ( الفرقان ).
أنكروا الأمرين وطلبوا معجزة واقعة لأحدهما وقالوا :﴿ لولا أنزل عليه كنز ﴾أي مال مكنوز يفعل فيه مثل الذين يكنزون الذهب والفضة. والمعجزة أن ينزل عليه إنزالا من غير أي سبب من أسباب الكسب فيكون له جبل من ذهب وآخر من فضة، وبذلك يدفع فقره ويكون اتباعه لثروته ولإنزال هذه الثورة والإعجاز بها، أما الأمر الثاني فيدفع بأن يكون معه ملك، وتكون الرسالة برسول سماوي لا برجل يمشي في الأسواق مثلهم، وقد بين الله استحالة ذلك بقوله تعالى :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون٩ ﴾( الأنعام ).
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمانهم راغبا فيه، ولذا قال تعالى :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ٥٦ ﴾( القصص ).
ولذا قال تعالى :﴿ إنما أنت نذير ﴾، أي إنك مقصور على الإنذار بمقتضى الرسالة وليس عملك الهداية، بل التوجيه والتخويف لمن عصى، والتبشير لمن اهتدى، ووضع العلامات على الطريق لكيلا يضل أحد ﴿ والله على كل شيء وكيل ﴾، أي إنه جل جلاله حفيظ على كل شيء، فتوكل عليه في دعوتك ولا تأبه لهم، فالله سبحانه حافظك منهم ومن طغواهم وهو سبحانه عالم بكل ما يصنعون، ومعاقبهم عليه، وهم راجعون إليه سبحانه وتعالى، ولن يفلتوا من جزاء ما يفعلون، فتوكل علىالله الحي القيوم، وامض فيما أمرك به ؛ إنه عليم بذات الصدور.
القرآن هو المعجزة الكبرى
قال تعالى :
أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ١٣ فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ١٤ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ١٥ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ١٦
﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ١٣ ﴾.
﴿ أم ﴾ هنا بمعنى ( بل )، فهي منقطعة وسياق القول أنهم بطلبهم أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم كنز من السماء أو يكون معه ملك ينكرون المعجزة القرآنية، فواجههم الله تعالى بالتحدي المتجدد المستمر، والإضراب هنا فيه انتقال إلى هذا التحدي.
لقد تحداهم القرآن الكريم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا فتحداهم بسورة فعجزوا، وقد صور الزمخشري أن الانتقال من العشر إلى الواحدة تنزل في التحدي كمن يقول لمن يتعلم الكتابة، اكتب عشر أسطر فلا يستطيع، فيقول له اكتب سطرا فإذا لم يكتب كان ذلك على العجز المطلق، ولقد ادعوا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتراه، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، مثله في حسن بلاغته وانسجام عباراته وتوافق فواصله من غير سجع مرهق للمعاني، ولا جفوة في الألفاظ.
لقد تضمن اعتراضهم أمرين، إنكار أن يكون القرآن معجزة، والثاني أنه مفترى وليس نازلا من الله تعالى، ولقد اتجه الرد عليهم إلى إعجازهم وعجزهم، لأنه الأمر الذي أنكروه ابتداء. فقل لهم يا محمد أن يأتوا بعشر مفتريات، واختلقوها اختلاقا لتكون على النهج الذي جاء به القرآن فإنكم أرباب البيان وأهل الفصاحة واللسان، واجعلوا الحكام في هذا الأمر منكم ممن يلغون لغوكم وينكرون الإعجاز مثلكم، وقوله من دون الله تعالى يعني غير الله من أمثالكم ممن يضادون الله تعالى ويعاندونه ولا تتقيدوا بواحد أو اثنين بل ادعوا من استطعتم عددا وقوة وعلما بأساليب البيان إن كنتم صادقين في أنه ليس بمعجز وأنه ليس من عند الله وإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فأنتم الكاذبون.
( الفاء ) في قوله تعالى :﴿ فأتوا ﴾ تفصح عن شرط مقدر يناسب ما بعده، والتقدير، فإن كان افتراه كما ادعيتم فأتوا بعشر سور مثله مفتريات إن كنتم صادقين في ادعائكم افتراءه، وما هو بمفترى فلستم صادقين.
﴿ فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ١٤ ﴾.
( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، تحداهم بأن ياتوا بمن يحكم في هذا الأمر بأن يأتوا بعشر مفتريات، ثم يوازنوا بين القرآن وما جاءوا به فإن لم يستجيبوا فقد قامت الحجة، والاستجابة طلب الإجابة، ويراد بها التحدي للإجابة، والإجابة بقوة، والضمير في قوله تعالى :﴿ لكم ﴾للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن اتبعه، وذكر المفسرون أنه قد يكون للنبي وحده مخاطبا بضمير الخطاب للجمع تضخيما وتعظيما لشأنه، ولكن لم يعهد ذلك في القرآن كثيرا، وإن كان صلى الله عليه وسلم في المقام الأعلى عند الله فهو صفيه وحبيبه وخاتم النبيين. ويتضح هنا أمرين :
الأمر الأول : كان خطاب الله تعالى لمن مع النبي صلى الله عليه وسلم لأنه تحدي النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه تكذيب لمن اتبعه وآمن به، وللإشعار بالتعاون التام بينه صلى الله عليه وسلم وبين صحبه الأولين الذين هم كالحواريين أنصار عيسى- عليه السلام- إلى الله تعالى، ولأن عليهم التبليغ بعد أن آمنوا ؛ إذ هو جهاد، وهم المجاهدون الأولون الدين خوطبوا بالجهاد ابتداء، وهم حملة الرسالة المحمدية من بعده وحاملوها معه صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانوا لم يستجيبوا ويأتوا بعشر سور مثله فقد لزمتهم الحجة، فوجب عليهم أن يؤمنوا ووجب عليكم معشر المؤمنين أن توثقوا علمكم بأنه من عند الله تعالى، ولذا قال تعالى مخاطبا المؤمنين :﴿ فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو ﴾ ( الفاء ) واقعة في جواب الشرط، واعلموا بالبرهان القاطع الحاسم أنه ما أنزل إلا بعلم الله تعالى.
وكلمة﴿ أنما ﴾ أداة حصر تنفي وتثبت، فهي تنفي أن تكون مفترى وأثبتت أنه أنزل بعلم الله فليس مفترى عليه سبحانه. وهذا يدل على أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم به ليكون معجزته الكبرى ودليله على رسالة ربه، وإن الله تعالى معلمكم صدقه ولو كان من غيره ما كان معلمه.
الأمر الثاني : هو أن لا إله إلا هو، لأنه إذا ثبت أن القرآن من عند الله وبعلمه نزل، فيكون ما اشتمل عليه حقا وصدقا، ومما اشتمل عليه الوحدانية فلا معبود إلا الله تعالى وهو العزيز الحكيم.
ولقد قال بعد ذلك، والخطاب للمسلمين﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾ ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا قامت الحجة على أنه من عند الله، فبايعوا محمدا صلى الله عليه وسلم على الإسلام وأخلصوا وجهوكم لله وأحسنوا، والاستفهام هنا يتضمن معنى الطلب، وقال علماء البلاغة : إن أبلغ صيغة تدل على الطلب المؤكد هي الصيغة التي تصدر بالاستفهام مثل :﴿.... فهل أنتم منتهون٩١ ﴾( المائدة )، ومثل ﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾.
هذا على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويصح أن يكون الخطاب للمشركين، ويكون الضمير الذي للغائب في قوله تعالى :﴿ فإن لم يستجيبوا ﴾ يعود على قوله تعالى﴿ من استطعتم ﴾ في الآية السابقة ويكون المعنى أنهم إذا لم يستجيبوا لكم معشر المشركين بألا يحضروا هذه الموازنة أو يحضروها ولا يستجيبوا لرغباتكم بأن يحكموا بأنه ليس مفترى – فاعلموا معشر المشركين أنه قد بطلت دعواكم بأنه صلى الله عليه وسلم قد افتراه وقامت الحجة عليكم، وأنه نزل بعلم الله ومنه سبحانه وتعالى، وأنه لا إله إلا هو فانتهوا عن الشرك وبايعوا على الإسلام وكونوا مؤمنين.
والتخريجان محتملان وإني أميل إلى التخريج الأول فهو أقرب. ولأنه لا تقدير فيه، وإن أولئك الذين أنكروا القرآن بعد قيام الدليل بمعجزتهم عند التحدي إنما يؤمنون بالحسيات فطلبوا أن يكون لمحمد كنز أو يكون معه ملك، وزين لهم ضلالهم أنه لا يمكن أن يكون الرسول من عند الله فقيرا، ولا بد أن يكون عظيما ﴿ وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم٣١ ﴾ ( الزخرف ).
ثم بين الله لهم أن الدنيا للبر والفاجر، والآخرة لا يعطيها إلا لمن أحب، وأن المتمتع في الدنيا لا يلزم أن يكون متمتعا في الآخرة، فهما مفترقان وليس ملازمين، ولكن التلازم في الإيمان والآخرة، ولذا قال تعالى :
﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ١٥ ﴾.
وفي هذه الآية يبين سبحانه أن الحياة الدنيا وزينتها تسير على سنة الله في الوجود مربوط بالأسباب والمسببات وليس لها صلة بالفضل في الآخرة، فالحياة وزينتها تكون للمؤمن والكافر إذا أخذ كل منهما بأسبابها، ومتعة الدنيا ليست دليلا على متعة الآخرة بل قد يكون اختيارا شديدا بعده العذاب، كما قال تعالى :''ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ٣٣ ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون ٣٤ وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ٣٥ } ( الزخرف ).
وقوله تعالى :﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ﴾ إرادة الحياة الدنيا لمتاعها وما يتصل بها من رغائب مثل البنين والقناطر المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وغير ذلك من متع الدنيا وشهواتها وزينتها وزخرفها والتفاخر بثيابها وأثاثها ومباهجها ومناظرها وما فيها من محاسن وزينة مما يتفاخرون به ويزهدون.
وقوله تعالى :﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ﴾ شرط جوابه قوله تعالى ﴿ نوف إليهم أعمالهم فيها ﴾ ومعنى وفاء الأعمال أي إعطاء نتائجها، فإذا زرع كان زرعه موفورا، وإذا صنع كانت ثمرات صناعته كاملة غير منقوصة، وكذلك إذا تاجر لا يحرم من شيء من نتائج عمله إلا أن يشاء الله تعالى :﴿ وهم فيها لا يبخسون ﴾ ؛لأنهم في الدنيا لا يبخسون ثمرة عمل من أعمالهم.
وقوله تعالى :﴿ نوف إليهم أعمالهم فيها ﴾ فيه إشارة إلى سنة الله تعالى في هذه الدنيا أن الأمور تربط بأسبابها، والأعمال تربط بنتائجها فمن أجاد عملا في الدنيا أخذ حظا فيه سواء أكان مؤمنا أو كافرا. وهذا قوله تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا١٨ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيها مشكورا ١٩ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا٢٠ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ٢١ ﴾( الإسراء ).
هذا أمر الدنيا ومتعاها وزينتها، أما الآخرة فقد قال تعالى فيها وفيمن اقتصر سعيهم على طلبها :
﴿ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ١٦ ﴾.
أولئك غرضهم الزينة والتفاخر كما قال تعالى :﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته... ٢٠ ﴾( الحديد ).
هؤلاء نالوا متعتهم ولم يعملوا لآخرتهم فليس لهم فيها إلا النار يصطلونها ؛ لأن طالب الدنيا وحدها لا يناله إلا الشر فهو يعتدي ولا يعرف حق غيره، ويكفر بالله ويعبد الأوثان، فهو لا يؤمن إلا بما يلمسه بين يديه وكل ذلك إلى النار، وإن طلب المتعة الدنيوية ذاتها أو طلب زينتها لا يؤدي إلىا النار، إنما الذي يؤدي إلى النار هو ما يقترن بطلب الدنيا وزخارفها من عدم الوقوف عند حد مباح من الطيبات، بل يكون الاعتداء والتطاول والشرك وإن هذا مآله النار، وقد قال تعالى :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب٢٠ ﴾ ( الشورى )وفي قوله تعالى :﴿ وحبط ما صنعوا فيها ﴾ أي فسد ما صنعوا.
والحبط أن يكون فساد العمل أو الشيء من ذاته وليس من أمر خارج منه، ويقول الراغب الأصفهاني في مفرداته، أصل الحبط من الحبط وهو أن تأكل الدابة حتى تنتفخ بطنها.
والحبط فساد الأمر من ذاته لا من أثر خارج عنه كما أشرنا، وقد قال الراغب رضي الله عنه في المفردات أيضا :"حبط العمل عن ثلاثة أضرب :
أحدها : أن تكون الأعمال دنيوية لا تغني في القيامة عنا كما قال تعالى :
﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ٢٣ ﴾( الفرقان ).
والثاني : أن تكون أعمالا أخروية في ظاهرها لكن لم يقصد بها صاحبها وجه الله تعالى، فإنه يؤتى بصاحبها يوم القيامة فيؤمر به إلى النار.
والثالث : أن تكون أعمالا صالحة ولكن بإزائها سيئات وهو ما يشار إليه بخفة الميزان.
وإن أولئك الذين قال فيهم سبحانه :﴿ وحبط ما صنعوا فيها ﴾ هم الذين ما نظروا إلا إلى الدنيا وزينتها ولم يكفروا في الآخرة ؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث ولقاء الله تعالى، وما كانوا يصنعون المعروف إلا للرياء والسمعة فكانوا مشركين.
وقوله تعالى :﴿ ما صنعوا ﴾ يفيد صنائع المعروف التي حبطت لأنهم لم تكن لهم فيه نيات حسنة، والأعمال في ثوابها بالنيات ومقاصد الخير ولم تكن لهم نيات صالحة. وحتم سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى :﴿ وباطل ما كانوا يعملون ﴾ أي كل عمل عملوا قد صار باطلا، كقوله تعالى :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ٢٣ ﴾ ( الفرقان ) ذلك أن قلوبهم قد فسدت بالشرك فلم يكن لهم خير يحمدون عليه.
أهل الحق وأهل الباطل
قال تعالى :
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ١٧ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ١٨الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا با وهم لآخرة هم كافرون ١٩ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العداب ما كانوا يستطيعون السمع وماكانوا يبصرون ٢٠ أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ٢١ لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ٢٢ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ٢٣ * مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير السميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ٢٤
﴿ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ١٧ ﴾.
هذه موازنة بين الذين يتبعون الحق والذين يطلبون الدنيا وزينتها وتكون وحدها مقصدهم ويشركون بالله تعالى، وبين الذين يؤمنون بالله.
﴿ أفمن كان على بينة من ربه ﴾ ( الفاء ) هنا مؤخرة عن تقديم، وهي تفيد أن الاستفهام المتسائل مترتب على ما قبله من عمل غير فاضل، وكلمة ﴿ من ﴾ اسم موصول بمعنى الذي، والمعنى أمن كان على بينة من ربه كمن هو في عماية عن الحق ولا يدرك إلا الحياة الدنيا، وحذفت الموازنة الدالة على المفارقة الواضحة بينهما، إذا فرق بين من يطلب الحق الباقي ومن يطلب العاجل الفاني.
( البينة ) الأمر البين الذي تدركه العقول السليمة في غير اعوجاج، ويصح أن يراد به الإسلام ؛ لأنه بين لا يأتي إلا بما تقبله العقول ولا ينهي إلا عن الأمر المنكر غير المعقول ؛ ولأنه دين الفطرة السليمة.
أسند الله تعالى البينة إلى ربه، للدلالة على أن الهادي إليها بمقتضى ما ركزه الله تعالى في النفوس، وبمقتضى ما هدى إليه بالرسلات الإلهية، وقال تعالى :﴿ بينة من ربه ﴾بالتعدية ب﴿ على ﴾ للدلالة على تمكنه من المعرفة، وأنها ليست وهما يتوهم ولا ظنا يظن بل عقيدة متمكنة.
ذكر الله تعالى بعد البينة أن لها شاهدا من الله تعالى :﴿ ويتلوه شاهدا منه ﴾ أي يجيء شاهدا من الله، فالضمير الأول في﴿ يتلوه ﴾ يعود إلى البينة، وعاد مذكرا لأن البينة البرهان القاطع الحاسم الذي تهدى إليه الفطرة، فعاد الضمير مذكرا للإشارة إلى أنها برهان بين واضح الدلالة على الوحدانية. والضمير الثاني في قوله ﴿ شاهد ﴾ يعود على الله ربك، أي أنه هداك وأيدك، والشاهد هو القرآن الكريم النازل من لدن عزيز حكيم.
وإن القرآن الكريم جاء مع البينة، وقلنا إنها الإسلام، فكيف يقال إنه وليها ونقول في ذلك إن الإسلام يكون دفعة واحدة ؛ لأن لبه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والقرآن نزل منجما فهو كان يتلى على بعده لا قبله، وإن قلنا إن البينة هي برهان العقل المدرك فالقرآن جاء واليا، جاء به الحق.
وقد نقول وبحق نقول : إن القرآن جاء مع البينة مؤيدا لها، والتعبير بأنه تلاها للإشارة إلى التلاوة فيه وهي الترتيل، كما قال تعالى :﴿.... ورتلناه ترتيلا٣٢ ﴾( الفرقان ) وكما قال سبحانه :﴿.... ورتل القرآن... ٤ ﴾ ( المزمل )، وللإشارة إلى أنه هناك مراتب في الإدراك، فالأولى أن تجيء البينة، والمرتبة الثانية هي التأييد من الله بالقرآن ولا تراخ بين المرتبتين بل هما متصاحبتان، كما تقول : فكر ثم اقرأ، أي اقرأ قراءة متفكر متدبر، وكأن القرآن شاهد ؛ لأنه ببلاغته، وفصاحة كلمه، وعمق معانيه مع وضوحها، وعلمه وقصصه الحكيم كان المعجزة الخالدة، فهو شاهد دائما ناطق بالحق إلى يوم القيامة، وفيه الدلالة الواضحة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين.
ثم أشار سبحانه إلى تصدقيه للكتب السابقة وبشارتها به فقال تعالى :﴿ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ﴾، فدلت هذه العبارة على أمرين.
الأمر الأول : بشارة التوراة والإنجيل به كما قال تعالى :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وغزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون١٥٧ ﴾( الأعراف ).
الأمر الثاني : الذي دلت عليه الآية أنه مصدق لما بين يديه من الكتاب، وأن الإيمان به إيمان برسالة الرسل أجمعين كما صرح بذلك القرآن الكريم.
وقوله تعالى :﴿ إماما ورحمة ﴾ وصف لكتاب موسى وهو التوراة التي نزلت عليه ولم ينس منها خط ولم يحرفوها أو يبدلوها، فلا يستدل بالمطبوع الذي يغير إلى الآن انا بعد آن تقرأه تجد في ذاته دليل بطلانه وبرهان بهتانه.
ومعنى قوله تعالى :﴿ إماما ﴾ أنه يؤتم به في الدين، ومعنى﴿ رحمة ﴾ أن ما اشتمل من شرائع في الزواج والطلاق والعقوبات هو الرحمة ؛ لأن من رحمة الله بعباده أن يؤخذ الجاني بشدة رادعة زاجرة فالشدة العادلة على الجاني رحمة بالمجني عليه، والرفق معه ظلم وقسوة على المجتمع، وهنا لا بد من الإشارة إلى أمرين :
الأمر الأول : كيف يكون ما جاء به موسى إماما يأتم به أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ؟.
الأمر الثاني : أشريعة موسى نسختها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أم لم تنسخها، والجواب عن الأول أن شريعة موسى في ضمن شريعة محمد، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فكتاب موسى إمام باعتباره مقدما في الزمن، والشريعتان في معناهما واحد والاختلاف في فروع جزئية تابعة للأزمنة. أما أن الإجابة على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت شريعة موسى عليه السلام فهو أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت من شريعة موسى فروعا ولم تنسخ أصولا، وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو ما يجب اتباعه. ولقد روى سعيد بن جبير عن أبي موسى رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصارني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار "١.
وقد قال تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى... ١٣ ﴾( الشورى ).
قال تعالى :﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ إشارة إلى الذين على بينة ويؤمنون بموسى عليه السلام، فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم جامعة للرسالات كلها، كما قال تعالى :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما انزل إلى إبراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ١٣٦ ﴾( البقرة ).
﴿ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ﴾ الأحزاب جمع حزب، وهو من يحزب لفكرة أو لقوم أو لعصبية غير مؤثر الحق في ذاته إنما يؤثر من يتعصب له حقا كان أو باطلا وإن التحزب كالتعصب يعمي عن الحق وهو يعمي ويصم، لا يطلب الحق في ذاته إنما يطلب على هوى من يتعصب لهم، والأحزاب يصح أن تفسر في موضوع الآية الكريمة بأنها القبائل المتعصبة المجتمعة لمحاربة الحق وكانت القبائل كذلك، وسماهم القرآن الأحزاب لأنهم تجمعوا متحزبين ضد الدعوة الإسلامية وذهبوا في غزوة الأحزاب ليقتلعوا الإسلام من المدينة فخاب فألهم وطاش سهمهم وارتدوا خاسرين بريح كريح ثمود، والذين كفروا به من الأحزاب لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يؤمنون بموسى عليه السلام ويهددهم الله تعالى بقوله :﴿ فالنار موعده ﴾ فالنار مكان تنفيذ وعد الله تعالى فيهم، وقوله تعالى هذا لا يخلو من تهكم لاذع بهم ؛ لأنهم كانوا يرجون رحمة، فإذا بهم يلقون عذابا وكأنهم عقدوا موعد اللقاء فخاب ظنهم وكانت النار موضعه.
ثم انتقل قول العزيز الحكيم إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه :﴿ فلا تك في مرية منه ﴾ من هذا البيان الذي بين الحق وأزهق الباطل، والمرية هي الشك، والأمر يمتد لمن خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه نهى على أبلغ الصور ؛ لأنه إذا كان نهيا من الله تعالى لنبيه المصطفى الذي لا يزيغ قلبه ولا يرتاب فأولى بهذا النهي ثم أولى الذين ربما يعتريهم ذلك وهم من أرسل إليهم.
وأكد سبحانه النهي عن الريب بقوله تعالى :﴿ إنه الحق من ربك ﴾ والضمير يعود إلى البيان والقرآن، والحق هو الأمر الثابت الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد جاء من ربك الذي خلقك ودبر أمورك بحكمته.
وقد أكد سبحانه وتعالى أنه الحق ب﴿ إن ﴾ المؤكدة، وبأنه من ربك الذي خلق فقدر وهدى، فاجتمع له فضلان فضل ذاتي لأنه الحق في ذاته، وفضل إضافي يؤكد أنه الحق وهو أنه من عند الله.
ثم قال تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ الاستدراك هنا معناه، أن مقتضى الإسلام بينة وبرهان، وأنه حق ثابت أن يؤمن الناس جميعا ما دامت لهم عقول تدرك وقلوب تؤمن، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون، وكان التعبير بالمضارع للإشارة إلى أن أكثر الناس لهم قلوب ليس الإيمان من شأنها بل هم دائما متمردون على الحق وظلم الحقيقة، وهم مفترون على الله تعالى ويكذبون عليه، ولذا قال تعالى :
١ رواه أحمد: أول مسند الكوفيين- حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه(١٩٠٦٨)..
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ١٨ ﴾.
إن الكفر مباءة للآثام، تعيش فيه وتفرخ، ويتبع الإثم إثم مثله، ويأخذ بعضه بحجز بعض في سلسلة متصلة تبدأ بالشرك بالله تعالى ثم بالكذب عليه بتحريم ما أحل الله على أنه من عند الله، والجحود بما أنزل سبحانه والافتراء عليه تعالى وفساد اعتقادهم بأن يعبدوا الأوثان ويقولوا إنهم شفعاؤنا. وهكذا يكون الشرك كالمعاطن التي تحوم حولها الحشرات والجراثيم وكل الموبقات.
وأوضح ما في الشرك الكذب على الله تعالى بما ذكرنا وغيره، ولذا قال تعالى :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾، الاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي مع التوبيخ، بمعنى لا أحد أظلم ممن افترى قاصدا الكذب على الله تعالى، وهم قد ارتكبوا أشد الظلم إمعانا في الشر والكذب على الله بأن يشركوا به غيره كما أشرنا، وبأن يخترعوا مفاسد وينسبوها إلى شريعة إبراهيم عليه السلام كطوافهم عرايا وأن يحرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله ويزعمون أن الله حرمها وغير ذلك مما حرموه ناسبين التحريم إليه افتئاتا عليه، فلا أحد أعظم منهم بهتانا وكفرا. افترى الكذب معناه قصده وأراده، والكلمة نكرت لبيان أن الكذب على الله تعالى أو كثر ظلم عظيم بل أعظم الظلم، وأن الشرك ظلم عظيم لأن من أشرك ضلل نفسه وضلل الناس ولأنه ارتكب بهتانا عظيما.
ويقول سبحانه :﴿ أولئك يعرضون على ربهم ﴾ الإشارة إلى الذين افتروا الكذب، يعرضون على ربهم الذي خلقهم ورباهم وحفظهم وهو الحي القيوم. وهم يعرضون على ربهم ويلقونه سبحانه غير مختارين، وهو اللقاء الذي لا يتمنونه ؛ لأنه لقاء الذين كفروا بربهم يعرضون عليه كما يعرض الجاني على شهوده ليشهدوا عليه، كما أنهم يرون ما أنكروا وكذبوا.
وفي المحشر والحشد الجامع يقول المشاهدون من ملائكة وأنبياء وصديقين ﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ﴾ مشيرين إليهم استنكارا لفعلهم وبيانا لشناعة ما كانوا عليه وحسبهم ذلك سواءا وفحشا واستحقاقا للعذاب. وإن ذلك العرض وتلك الشهادة أبلغ عقاب معنوي، ومن بعد ذلك يكون العقاب المادي على ذلك الظلم الفاجر الآثم والشرك الضال المضل.
والأشهاد جمع شاهد كأصحاب جمع صاحب، أو جمع شهيد كأشراف جمع شريف، والمعنى واحد، وقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :﴿ ألا لعنة الله على الظالمين ﴾( ألا ) أداة تنبيه وفيها توكيد للحكم الذي يجيء بعدها، و﴿ لعنة الله ﴾ مقته وعذابه والطرد من رحمته وقوله :﴿ الظالمين ﴾ إظهار في موضع الإضمار، وذلك لتسجيل الظلم عليهم، ولبيان أن هذا الظلم الذي قد بلغ أقصى حدوده هو السبب في بعدهم عن رحمة الله تعالى، ويعم الحكم بالعذاب على كل من عتى عن أمر ربه وأشاع الفساد في الأرض. إنه لا يحب المفسدين.
وقد ذكر الله أفعال أولئك الظالمين فقال تعالت كلماته :
﴿ الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ١٩ ﴾
يذكر الله تعالى أحوال الذين يفترون على الله الكذب، وقد ذكرنا كيف كانوا يفترون، وهذه الحال التي ذكرت هي الصد عن سبيل الله تعالى بإيذاء المؤمنين وفتنهم ليقولوا كلمة الكفر وهم لها كارهون، وقد بالغوا في إعناتهم حتى مات منهم من مات تحت حر العذاب الذي ابتدعوا فيه طرائق تتنافى مع كل إنسانية بل ووحشية، حيث كانوا يحمون الحديد ويصبونه محميا في فرج المسلمة حتى لقد اضطر بعد المسلمين أن ينطق كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وكان من صدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يذهب داعيا في الحج القبائل كان يذهب منهم من ينفرهم من الإسلام كأبى لهب، وأن الأوس والخزرج عندما استجابوا للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا يلتقون به على استخفاء منهم وفي سر لا إعلان فيه، وهم يتبعونهم كلما علموا باجتماعهم به، ولذا قال تعالى في وصف هذه الحال :﴿ الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ﴾ وسبيل الله هي سبيل الحق والإسلام كما قال تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله... ١٥٣ ﴾( الأنعام ).
﴿ يبغونها عوجا ﴾ أي يريدونها ملحفين في ذلك أن تكون معوجة بأن يلين معهم في عبادة الأوثان وتحريم ما أحل الله ويرضى بما يرضون، أو يريدون ويبغون أن يكون أتباعه معوجين منحرفين عن الحق وأن يرتدوا عن دينهم الذي ارتضوا، وقد أشار سبحانه إلى السبب الذي جعلهم يوغلون في الكفر ذلك الإيغال ويمنعون فيه هذا الإمعان، فقال تعالى في حالهم التي أضلتهم :﴿ وهم بالآخرة هم كافرون ﴾.
أي أن الكفر بالبعث جعلهم لا يؤمنون إلا بالدنيا وزينتها وظنوا أنها وحدها هي الحياة مما أدى بهم إلى هذا الغباء وهذه اللجاجة فيه.
وقد أكد سبحانه كفرهم بالبعث واليوم الآخر وأنه لاحساب ولا عقاب، أكده أولا بالضمير وهو قوله تعالى :﴿ وهم ﴾ وتكراره في قوله تعالى :﴿ هم كافرون ﴾ وأكده بالجملة الاسمية.
وذلك ضلالهم وهو الضلال البعيد، وأنهم بغوا وطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد وحسبوا أنهم الغالبون وأنه لا يعجزهم أحد وذلك سر طغيان الطغاة.
لذا قال تعالى ما يفيد أنهم أعجزوا العباد فلن يعجزوا رب العباد.
﴿ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العداب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ٢٠ ﴾.
الإشارة إلى الذين يصدون عن سبيل الله تعالى ويبغونها عوجا ويريدون أهلها معوجين غير سائرين في الجادة، والإشارة إلى الموصوفين بصفات تدل على أن هذه الصفات سبب لما يقومون به من تحد لله تعالى، ولذا قال سبحانه :﴿ لم يكونوا معجزين في الأرض ﴾، أي لم يكونوا معجزين لله عن أن ينزل بهم ما أنزل بمن سبقهم بجوائح ماحقة كخسف في الأرض أو رجفة أو ريح صرصر عاتية أو حرب مجلية مخزية، والمعنى أنهم لم يكونوا بحالهم وكينونتهم معجزين لله في الدنيا، فالله هو القهار والغالب على كل شيء فلا ولي لهم يقاوم إرادة الله تعالى فيهم، ولذا قال تعالى :﴿ وما كان لهم من دون الله من أولياء ﴾ أي ما كان لهم أولياء يعاندون الله تعالى فيما يريد فيهم ويقاومون إرادته، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى :﴿ من دون الله ﴾ فإنها تدل على المضادة لما يريد سبحانه وتعالى فهم لا يستطيعون نصرتهم ولا منع العذاب عنهم، قالوا بمعنى النصر المانع وكلمة﴿ من ﴾ في قوله تعالى :﴿ من أولياء ﴾ لتعميم النفي أي ما كان لهم أي ولي من الأولياء.
هذا في الدنيا إذا حسبوا أنه لا رقيب عليهم ولا دافع يدفعهم وهم مسلطون، فيبين الله تعالى أنه قاهر فوقهم. أما في الآخرة فقال الله تعالى عن حالهم فيها﴿ يضاعف لهم العذاب ﴾ أي يكرر العذاب عليهم فيكون ضعفين أو أضعافا ؛ لأنهم أشركوا بالله عبادة الأوثان، ولأنهم آذوا المؤمنين وحاولوا صدهم عن سبيل الله، ولأنهم طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، ولأنهم ظلموا الناس وفتنوهم في دينهم.
وما بعثهم على تلك الآثام التي ضاعفت لهم العذاب إلا أنهم لم يستمعوا إلى الحق ولم يبصروا الآيات، ولذا قال تعالى :﴿ ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ﴾ ذكر الله تعالى في هذا النص الكريم السبب في هذه المآثم فذكر أنه أمران :
الأمر الأول : أنهم لا يستطيعون السمع، وليس المراد أنهم صم حقيقة، بل شبهت حالهم بحال الأصم الذي لا يستطيع السمع ؛ ذلك لأنهم لا يتدبرون ما يسمعون من دعوة إلى الحق وآيات تتلى فيها الإعجاز فكانوا كأنهم لا يسمعون، وقد ذكرهم الله في مواضع أخرى﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ١٧٩ ﴾ ( الأعراف ).
الأمر الثاني : قوله تعالى :﴿ وما كانوا يبصرون ﴾ أي ينظرون نظرة تأمل للكون ويدركون أسراره، والجمع بين الماضي والمستقبل في قوله تعالى :﴿ وما كانوا يبصرون ﴾ للدلالة على استمرار غفلتهم عن الايات وتجددها وقتا بعد اخر فكلمة كان تدل على الماضي وكلمة يبصرون تدل على الستقبل كدلك قو له تعالى ''ماكانوا يستطعون السمع " والله أعلم بمراده في كتابه.
ولقد حكم سبحانه بعد ذكر عذابهم في الدنيا والآخرة فقال تعالى :
﴿ أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ٢١ ﴾.
الإشارة هنا إلى الذين هددوا بعذاب الدنيا وإنه لنازل بهم، وأنذروا بعذاب الآخرة، ومن قبل صدوا عن سبيل الله، وأرادوها ملحفين في إرادتهم أن تكون معوجة، والإشارة إلى الموصوف بصفات تدل على أن هذه الصفات هي سبب الحكم، وهذا الحكم هو الخسران المبين.
وأنهم خسروا بضلالهم عقولهم، وخسروا أنفسهم بظلمهم، فالظلم خسارة للنفس، وخسروا أنفسهم بكفرهم باليوم الآخر وعدم رجاء ما عند الله، وبعذاب الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى :﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ أي غابت عنهم الأوثان التي كانوا يحسبونها شفعاء عند الله، وتلفتوا فلم يجدوها والتعبير ب﴿ ضل ؛ يفيد أنهم طلبوها ولم يجدوها، أو توهموا أنها تنفعهم فلم تجدهم، وفي تعبيره سبحانه عن الأوثان بقوله تعالى :{ ما كانوا يفترون ﴾ إشارة إلى أنها لا وجود لها في ذاتها وإن وجودها كآلهة إنما هو في أوهامهم وافترائهم.
ثم يؤكد سبحانه خسارتهم البالغة إلى أقصى حد.
﴿ لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون٢٢ ﴾.
قال الخليل وسيبويه إن﴿ لا جرم ﴾ كلمة واحدة معناها حق ويكون المعنى : حق وثبت أنهم في الآخرة هم الأخسرون، فالنص يثبت أنهم خسروا وأنهم بلغوا في الآخرة أقصى درجات الخسارة، ولذا جاء جمع﴿ الأخسرون ﴾، وفعل التفضيل هنا يدل على أقسى درجات الخسارة، أي لا خسارة فوقها أو مثلها بل هي فوق كل خسارة، وما ظنك بخسارة مؤداها البقاء في الجحيم خالدين فيها إلى ما شاء الله تعالى.
وروى عن الخليل أيضا في﴿ لا جرم ﴾ أن معناها لا بد ولا محالة فهي تفيد التأكيد بأنهم في أعلى درجات الخسارة.
والأصل في﴿ لا جرم ﴾ أن لا نافية، وهي رد لهم في أطماعهم، وبيان بطلانهم، وجرم معناها كسب، والمعنى لا كسب ذلك الفعل لهم – أنهم الأخسرون. ومؤدي لا جرم حق كما ذكرنا أولا.
وهذا شأن الكافرين الجاحدين الذين يصدون عن سبيل الله تعالى ويبغونها عوجا، أما شأن المؤمنين فقد قال تعالى فيه :
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ٢٣ ﴾.
بعد أن بين سبحانه وتعالى حال الذين كفروا في الدنيا وفي الآخرة، وأنه في الدنيا غرور بها وزينتها، وفي الآخرة خسران مبين وشقاء جحيم، بين سبحانه حال المؤمنين فقال :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ﴾، ذكر سبحانه وتعالى لهم أعمالا ثلاثة :
أولها : الإيمان الذي يقذفه الله في قلب المؤمن فيخضع للحق ويذعن له وإن القلب إذا أشرق بالإيمان واستضاء به كانت الحكمة والاستقامة في القول والعمل فلا يكون منه إلا الخير والإذعان للحق.
والثانية : العمل الصالح وهو ثمرة الإيمان وأن الإيمان إن لم يصاحبه العمل كان ذلك نقصا في الإذعان، فإن الإخلاص يتولد عنه الحكمة التي يتولد عنها القول الطيب والعمل الطيب.
والحال الثالثة : هي الإخبات إلى الله، والإخبات هو الاطمئنان، والكلمة مثل للأرض والخبث، وهي الأرض المصمتة١ السهلة، والاطمئنان إلى الله يتضمن تصديق ما وعد، والخضوع لما أمر ونهى، وقال تعالى :﴿ إلى ربهم ﴾ لما يفيده معنى الربوبية والخلق والقيام على حفظهم وتربيتهم وما يترتب على ذلك من الاطمئنان والخضوع وعدم التمرد عليه سبحانه والخروج عن طاعته.
وقد أكد سبحانه هذه الأحوال ب﴿ إن ﴾ المؤكدة، وذكره بالاسم الموصول للدلالة على أنه سبب الجزاء الذي يعطيهم ربهم، والثناء الذي أضفاه عليهم خالقهم.
ثم ذكر بعد ذلك جزاءهم فقالت تعالت كلماته :﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾، وإن الإشارة إلى صفاتهم من إيمان وعمل صالح وإخبات إلى ربهم إيضاح إلى أنها سبب ذلك الجزاء العظيم، وقد أكد سبحانه وتعالى جزاءهم بأنهم ملازمون للجنة، وأنهم أصحابها الذين لهم اختصاص يشبه ملك المالك لما يملك وأكد أيضا بضمير الموصول فقال :﴿ هم فيها خالدون ﴾.
هذا مكان الذين آمنوا، وذلك مهوى الذين يصدون عن سبيل الله، وقد وازن سبحانه وتعالى بين الفريقين فقال تعالت كلماته :
١ أصمتت الأرض " أحالت آخر حولين. كما في القاموس، والمراد هنا الساكنة الممهدة للسير..
﴿ مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ٢٤ ﴾.
المثل هو الحال والشأن، الفريقان فريق من ضل وغوى فكان في السعير، ومن آمن واهتدى وعمل صالحا واطمأن إلى حكم ربه فكان في الجنة، فجعل فريق الغاوية كالأعمى الذي لا يبصر والأصم الذي لا يسمع، وفريق الهداية كالبصير الذي أوتي حدة في البصر حتى كان بصيرا يرى الأشياء والحقائق، والسميع الذي أرهف سمعه حتى صار يسمع دبيب النمل.
﴿ هل يستويان ﴾ ؟ هذا استفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، أي لا يستويان مثلا أي حالا وشأنا، بل يفترقان ويكونان بما يتفق مع حال كل منهما، فالأعمى الذي لا يرى حتى يعرف الطريق، والأصم الذي لا يسمع الهادي الذي يرشده فهو يتردى في المهاوي غير رشيد ولا مسترشد، والبصير الذي يرى أعلام سبيل الله تعالى وهو السميع الذي يسمع المرشد الهادي إلى سواءالسبيل لا بد أن يسلك الطريق الأقوم، فلا يستويان في الابتداء والانتهاء، ففريق في الجنة، وفريق في السعير.
والتشبيه فيه تخريجان :
التشبيه الأول : تشبيه الكافر بالأعمى الأصم الذي لا يرى الطريق ولا يسمع من يهديه، والمؤمن بالبصير السميع الذي يهتدي ببصره وبإرشاده وقد وضحناه.
والتشبيه الثاني : تشبيه الكافر بالأعمى في عدم إدراكه، وبالأصم في عدم الإصغاء للهداية والمؤدي فيهما واحد، ولقد قال تعالى :﴿ وما يستوي الأعمى والبصير ١٩ ولا الظلمات ولا النور٢٠ ولا الظل ولا الحرور ٢١ وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ٢٢ ﴾( فاطر ).
ختم الله الآية الكريمة موجها القول للناس﴿ أفلا تذكرون ﴾، ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وأخرت عن تقديم ؛ لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام للتنبيه والتحريض على التذكر والاعتبار وإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
القصص الحق
قال تعالى :
ولقد أرسنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين٢٥أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ٢٦ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ٢٧ قال يا قوم أرئيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم انلزمكموها وانتم لها كارهون ٢٨ وياقوم لا اسالكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون٢٩ويا قوم ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ٣٠ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ٣١
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ٢٥ ﴾
إن قصص القرآن ليس فيه تكرار إنما فيه بيان العبرة، وتساق القصة أو جزء منها في موضع العبرة فيها، وإذا كان فيه تكرار فهو ليس في الأخبار إنما هوفي موضع الاعتبار.
وموضع الاعتبار هنا أن قوم نوح يحاربونه بما حارب الملأ من قريش محمدا صلى الله عليه وسلم، ودعوته نوح هي دهوة محمد الخالدة، وهي دعوة النبيين من قبل، وهي الحقيقة الأزلية، هي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ الذين يألفهم ويألفونه ويعرفون مقامه فيهم، ونسبه منهم، وقد ناداه نداء الحدب عليهم المحب المنذر لهم، مبينا مغزى رسالته﴿ إني لكم نذير مبين ﴾ وهذا معنى أرسلنا والغاية من الرسالة، وهذا مشابه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لقومه عندما أبلغهم برسالته :"أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم"، قالوا : ما عهدنا عليك كذبا، قال :" إني لنذير لكم بين يدي عذاب شديد"١.
١ رواه البخاري: تفسير القرآن- ﴿وأنذر عشيرتك﴾ (٤٧٧٠)، وأطرافه في البخاري ستة، بنحو من هذا، كما رواه مسلم: الإيمان –﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾(٢٠٨)..
﴿ أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ٢٦ ﴾.
تضمن هذا النص الكريم لب الرسالة وهو الوحدانية في الذات وفي الصفات وفي العبادة، كما تضمن في ألطف مودة الإنذار بالعذاب الذي يكون في يوم مؤلم في أهواله وفي مآله، وإنه يوم المآل.
وقد تبعه من تبعه من الضعفاء والفقراء الذين يزدريهم الكبراء في هذه الدنيا كما ازدرى كفار مكة أتباع النبي صلى الله عليه وسلم من الفقراء والأرقاء واستهزءوا بهم، كذلك كان الذين كفروا بنوح ابتداء من الملأ والكبراء.
﴿ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ٢٧ ﴾.
وتتضمن إجابتهم ثلاثة أمور كلها لقيها النبي صلى الله عليه وسلم من قومه والملأ هم الأشراف الأقوياء المستكبرون في الأرض بغير الحق، ووصفهم سبحانه بالموصول ﴿ الذين كفروا ﴾ لبيان أن السبب هو كفرهم وليس ثمة باعث حقيقي مما تضمنه قولهم، إنما الباعث هو الكفر الذي سبق إليهم ابتداء، وكان ذلك القول مظهره وأول ما دل عليه، وهو استغرابهم أن يكون بشر منهم رسولا، وكذلك كان يقول مشركو مكة.
الأمر الأول :﴿ ما نراك إلا بشرا مثلنا ﴾ فأي ميزة جعلتك رسولا من بيننا، وهذا كقول المشركين في مكة :﴿.... ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.... ٧ ﴾( الفرقان )، وهذا هو أول ما تضمنته إجابتهم.
الأمر الثاني : أنهم قالوا :﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ﴾ جمع أراذل، وهم الأخساء في نظرهم لأنهم يقيسون الخسة والرفعة بمقدار القوة المادية، فمن كان غنيا مستعليا بماله ونفره كان عاليا، ومن كان قليلا في ماله ونفره كان خسيسا في نظرهم ومعنى :﴿ بادي الرأي ﴾ أي ظاهر من الرؤية لا يحتاج إلى دليل.
الأمر الثالث : ما نرى لكم يا نوح أنت ومن معك من فضل علينا حتى تستحقوا الثواب دوننا، ومن هذا البيان استغراق النفي، أي لا نرى لكم علينا أي فضل حتى تكونوا مستحقين للثواب دوننا، وذلك لربطهم الرفعة في الدنيا بالمادة ثم أكدوا بعد ذلك ما توهموا فقالوا :﴿ بل نظنكم كاذبين ﴾ وهو إضراب عما يوهم كلامهم في فرض صدق الأخبار بأنهم يستحقون ثوابا، ويقول المفسرون إن الظن هنا هو العلم، وأنا أقول إنه الظن الحقيقي ؛ لأن الكفار كل علمهم أوهام، والأوهام إذا كان منها اعتقاد لا يمكن أن يكون إلا ظنا، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا.
ولقد أجابهم نوح عليه السلام :
﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ٢٨ ﴾.
ابتدأ نوح عليه السلام نداءهم ب﴿ يا قوم ﴾ تقريبا وتأليفا، ﴿ أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ﴾ أي دليل وسلطان، ﴿ وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ﴾ أي خفيت عليكم ولم تهدكم، ﴿ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ﴾ أي لا نلزمكم إياها وأنتم كارهون لها، والرحمة من آثار الإيمان، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي جاءت البينة فلم تدركوها فخفيت عليكم، والخطاب أرفق ما يكون لقربهم إليه، ولم يقل كفرتم بل قال :" خفيت عليكم" وترك الأمر لاختيارهم، ووجه أنظارهم إلى أن الأمر ليس لفضل شخصي، ولكن لهدي إلهي، ولأن رسالات الله بينات وهداية.
ثم بين أن المسألة ليست أمرا دنيويا، حتى تتنافسوا عليه، انما هو أغلى مما عندكم وما تتنافسون فيه.
ثم ناداهم عليه السلام بما يؤلفهم :
﴿ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ٢٩ ﴾.
طمأنهم إلى أنه لا يسألهم مالا، والمال عنصر حياتهم المادية التي بها يستعلون وهو زخرف الحياة وزينتها، ولكن يسألهم الهداية، وأجره على الله وحده ﴿ إن أجري إلا على الله ﴾ ( إن ) نافية، لا أجر لي إلا عند الله فلا تحاولوا أن تنكروا الرسالة ما دمت لا تكلفكم مالا، بل تكلفكم إصغاء وإيمانا. ثم هم كانوا يطعنون في اتباعه ويغضون من مقامه عند الله ولا يرضون أن يكونوا صفا واحدا مع هؤلاء الأراذل في زعمهم المادي الفاسد، فيقول لهم قولا قاطعا حازما حاسما فيه شدة وقوة﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا ﴾ لأني جئت للهداية لا للثروة والمال، وعبر بالموصول في كلمة﴿ الذين آمنوا ﴾ لبيان سبب النفي، وهو كونهم آمنوا، فحققوا ما جئت به، فكيف أطردهم.
وإن الاعتبار بحالهم وحالكم إنما يكون في الآخرة وليس في الدنيا، ولذا قال :﴿ إنهم ملاقو ربهم ﴾ وعند لقاء ربهم الذي خلقهم ورباهم على تقوى منهم، فستكونون معهم وستعلمون أنهم أهدى سبيلا.
ويتجه نوح إلى أن يصدع بالحق فيهم بعد هذا الرفق الكريم يقول :﴿ ولكني أراكم قوما تجهلون ﴾، وهذا الاستدراك من القول اللين العطوف ألى القول الحق الذي لا يخلو من عنف في لطف، أراكم قوما تجمعتم وتحزبتم وأنتم تجهلون الحقائق وتمارون بالباطل، انتقل من عذرهم بخفاء الأمور عليهم إلى رميهم بالجهل المستمر الذي يتجدد آنا بعد آن وقد استمروا عليه. ثم من بعد ذلك مستنكرا طردهم.
﴿ ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ٣٠ ﴾.
ابتدأ أيضا بالنداء المقرب المؤلف ﴿ ويا قوم ﴾ إن كنتم تسترذلونهم وتستحقرونهم فهم عند الله أهل القربى فكيف أطردهم ومن ينصرني أمام الله لدفع انتقامه مني وقد طردت عباده المقربين، وكلمة﴿ من ﴾ في النص تدل على مجابهته لله، ومدافعته لإرادته، ومن ينصرني أمامه، ثم تختم الآية بقوله :﴿ أفلا تذكرون ﴾، أفلا تفكرون وتتدبرون لتعرفوا أن طردهم ليس بصواب ولا حسن العاقبة، وأنهم إذا كانوا فقراء فأنا أيضا فقير إلى الله تعالى ولست أفاخر بمنال، ولذا قال تعالى حاكيا عنه :
﴿ ولا قول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ٣١ ﴾.
نفي أربعة أمور :
الأمر الأول : أنه ليس عنده خزائن، فهو في الأموال دونهم، فالله تعالى لم يبعث رسولا يعطيه خزائن الأرض، لكن يبعثه بما هو أعز وأغلى وهو إثراء الروح والنفس بمحبة الله ورجاء ثوابه وتقوى الله تعالى وخوف عقابه.
الأمر الثاني :
نفى أنه يعلم الغيب، فما جاء إلا هاديا للحق وداعيا إلى الله تعالى، وذلك لا يقتضي علم الغيب الذي اختص الله تعالى به نفسه، وهو في هذا مثلكم.
الأمر الثالث : أنه لا يقول إنه ملك، وهو بشر مثلكم نشأ بينكم وعرفتم مولده، وأنه بشر كسائر البشر.
الأمر الرابع : نفى أنه يقول للمؤمنين الذين يحتقرهم أغنياؤكم، مجاوبة لكم، لن يؤتيهم الله خيرا بل لهم الخير كل الخير، وعبر عنهم :﴿ للذين تزدري أعينكم ﴾ للدلالة على أنهم ليسوا مزدرين في ذات أنفسهم، بل أعينكم الغاشية هي التي ترى هذا الازدراء.
ثم يشير إلى أن الاعتبار ليس للصورة ولكن إلى نور القلوب، ولذلك قال ﴿ الله أعلم بما في أنفسهم ﴾ وهي الجملة المعترضة بين قوله :﴿ ولا أقول للذين تزدري أعينهم لن يؤتيهم الله خيرا ﴾ وقوله تعالى :﴿ إني إذا لمن الظالمين ﴾ أي إذا قلت لهم ذلك مطاوعة لرغباتكم، وأكد ظلمه باللام وكونه- إذن- في زمرة الظالمين الذين لا يعرفون إلا بالظلم إذا اشتهروا به.
في سياق القصة
قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٣٢ قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ٣٣ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ٣٤ أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأن بريء مما تجرمون ٣٥
قال تعالى في المجاوبة بينهم :
﴿ قالوا يا نوح جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٣٢ ﴾.
لم يئن نوح عليه السلام عن دعوتهم وملاينتهم وأخذهم بالرفق حتى أعلنوامجافاته وقالوا :﴿ يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ﴾ فسموا دعوته إلى الحق جدالا يقصد به الغلب في البيان، وما هو إلا ناصح أمين يريد الهداية والإرشاد إلى الطريق الأقوم، ولكنهم لا يريدون رشادا بل أرادوا تحديا، ولذا قالوا ﴿ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ﴾ لقد أنذرهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاستعجلوا العذاب ولم يستعجلوا العظة والاعتبار والهدي ورفع الضلال.
وما كان العذاب في قبضة نوح، إنما هو بيد الله ينزله في الوقت الذي يعلمه سبحانه وتعالى مناسبا، لذا قال :
﴿ قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ٣٣ ﴾.
﴿ إنما ﴾ أداة قصر، أي لا يأتيكم به إلا الله، إن شاء يأتيكم به في زمانه الذي يشاء أن يكون فيه. ﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ أي إنه لا محالة نازل بكم في وقته الذي حدده الله تعالى في علمه، وأنكم لستم مع طاغوتكم بمعجزين لله سبحانه وتعالى ؛ ذلك أنهم ضعفاء لا يقفون أمام إرادة القاهر الجبار.
وإن عمل نوح ليس إنزال العذاب، إنما ذلك من عند الله، وعمله هو النصح، فإن لم ينفع النصح، فالله تعالى يريد أن تستمروا في طريقكم فتقعوا في العذاب بإرادتكم، إذا اخترتم طريقها وصرتم في مجرفها حتى انتهيتم إليها.
﴿ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ٣٤ ﴾.
أي لا تنفعكم نصيحتي الصادرة لكم في إخلاص وإيمان بالحق إن أردت أن أنصح لكم وأخلص لكم مرفقا بكم غير مغلظ، ﴿ إن كان الله يريد أن يغويكم ﴾ أي إن كانت إرادة الله تعالى أن تستمروا في طريق الغواية وهي الضلالة حتى تنتهوا إليها، فأنا أريد لكم النصح والله يريد لكم أن تستمروا في طريق الضلالة وإرادته سبحانه هي النافذة.
ثم ذكر نوح أن الله تعالى هو الذي خلقكم ويعرف مآل أعمالكم وأنكم راجعون إليه ولذا قال :﴿ هو ربكم وإليه ترجعون ﴾، هو ربكم الذي خلقكم ويعلم ما تخفي صدوركم ﴿ وإليه ترجعون ﴾ إنذار لهم فالمرجع إليه وأنه لمحاسبكم على كل ما صنعتم محاسبة العليم الخبير السميع البصير، وقوله تعالى :﴿ وإليه ترجعون ﴾ تدل بتقديم الجار والمجرور على أن المرجع إليه وحده، وإن في هذا القصص الحكيم لأمرين :
الأمر الأول : التخفيف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولبيان أنه لاقى النبيون مما لاقى هو، والعاقبة كانت لهم وحادهم المشركون بما حادوا به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك عبء يحتمل في سبيل أداء الرسالة الإلهية إلى خلق الله تعالى، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
الأمر الثاني : إثبات الإعجاز وهو أنه أتى بهذه الأخبار الصادقة عن النبيين السابقين من غير أن يتعلم على معلم، ومن غير أن يقرأ في كتاب﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ٤٨ ﴾ ( العنكبوت ).
ولذلك كان هذا القصص الحق مع الأسلوب المعجز من دلائل الإعجاز، ولقد أشار سبحانه إلى ذلك فقال :
﴿ أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ٣٥ ﴾.
﴿ أم ﴾ " هنا للإضراب الانتقالي أن أنه سبحانه في الأسلوب القرآني الحكيم ينتقل من السير في القصة إلى نهايتها وإلى ما تشير إليه من دلائل الإعجاز، أي يقولون قصد الكذب في هذا الكلام الدال على صدق الرسالة، قد يقولون ذلك وهم يعلمون أنه الصادق الأمين الذي لم يعرفوا له كذبا قبل البعث وبعده، ويأمره الله تعالى بأن يقول لهم :﴿ قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ﴾، قل إن افتريته وكان قصصه كاذبا فإن إجرامه علي، فعلي هذا الإجرام أي وباله وإثمه ﴿ وأنا بريء مما تجرمون ﴾ فإجرامكم كثير، إشراك بالله وأوهام تسيطر عليكم فتحرمون ما أحل الله وتحلون ما حرم الله تعالى وتؤذون أهل الحق وتصدون عن سبيل الله وتبغونها عوجا، وإن البراءة من إجرامكم خير لا ريب فيه وهداية لا شية فيها.
وفي قوله تعالى :﴿ إن افتريته فعلي إجرامي ﴾ كان التعبير بقوله ﴿ إن ﴾ لبطلان أصل الافتراء واستحالته ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعرف عنه كذب قط، ولأنه يوافق كتب أهل الكتاب التي لم يتلوها من قبل، ولأنه من الله العليم بكل شيء وقوله :﴿ فعلي إجرامي ﴾ يفيد أنه عليه السلام يتحمل تبعة قوله وأن إجرامهم ثابت وهو بريء منه.
الفلك
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ٣٦ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون٣٧ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ٣٨ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ٣٩ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وماءا من معه إلا قليل٤٠ وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم٤١ وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ٣٢ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ٤٣ وقيل يا أرض ابلعي مائك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعد للقوم الظالمين ٤٤ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ٤٥ قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ٤٦ قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين٤٧ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ٤٨
﴿ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون٣٦ واصنع الفلك بأعيينا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ٣٧ ﴾.
بذل أقصى جهده في التقريب والتأليف والنصيحة والإرشاد وتحمل سفه القول منهم حتى آمن من آمن، وما آمن معه إلا قليلا، ومن بعد إيمانهم أوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام أنه لن نؤمن غيرهم.﴿ فلا تبتئس ﴾ أي لا تحزن ولا تأسف بما كان يفعل من استكبروا في الأرض من سخرية وازدراء لأهل الإيمان، وأنما أنت نذير وقد أنذرت، ولم يبق إلا أن ينزل بهم ما كانوا يستعجلون ويقولونبتحد﴿ فأتنا بما تعدنا ﴾، وقد اشتبه حال نوح معهم بحال محمد صلى الله عليه وسلم مع قريش قبيل الهجرة، إذ لم يؤمن منهم أحد، وإن كان منهم من يلقي بالمودة من غير إيمان، ثم كانت الهجرة وكانت الحرب وأنزل الله بهم هزيمة بعد هزيمة ولم تكن إبادة كإبادة قوم نوح عليه السلام ؛ لأن رسالة محمد خالدة فكان من أصلاب المشركين بالله والجاحدين لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، من يعبد الله وحده ومن يدعو إلى الله ويجاهد في سبيله كخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل.
أما رسالة نوح فلم تكن خالدة، ولذا كانت الإبادة لمن كفروا وبقيت من المؤمنين بقية صالحة، ولذات أمر الله تعالى بأن يصنع الفلك لنجاة نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين، وإغراق المشركين حتى لا يذر منهم أحد، ولقد أمر سبحانه يصنع الفلك وهي السفينة، ويطلق على الجمع، فقال تعالى :
﴿ واصنع الفلك بأعيينا ﴾، أي رقابتنا وعاينتنا وحمايتنا، وعبر سبحانه عن ذلك بقوله﴿ بأعيننا ﴾ وذكرت العين لأنها أقوى إدراك الحس، وذكرت بالجمع "بأعيننا" جمع عين ؛ للدلالة على كمال الرعاية والحفظ والكلاءة، وقوله تعالى :﴿ ووحينا ﴾ أي بإرشاد منا إلى مواضع الإحكام فيها ودفع أي خلل في بنائها، ويبدو أن نوحا عليه السلام كان مع غضبه من قومه ومن جحودهم كان يرجو أن يكون منهم مؤمنون، ولكن الله تعالى رد وقرر أنه لا رجاء فيهم، وقد حق عليهم العذاب فقال سبحانه :﴿.... ولا تخاطبني في الذين ظلموا أنهم مغرقون ﴾ويصنع نبي الله ومن معه الفلك بمقدار ما يسع نوحا وأهله إلا ابنه ومن آسف معه.
﴿ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ٣٨ ﴾.
لم يترك قومه غيهم وما هم فيه من ضلال ﴿ وكلما مر عليه ملأ من قومه ﴾ أي طائفة من أشرافهم وكبرائهم ﴿ سخروا منه ﴾ كانوا يحسبون ذلك عملا لا ثمرة له فيبني لهم نوح عليه السلام نتيجة ما يفعلون ويقول لهم :
﴿ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيهم ويحل عليه عذاب مقيم ٣٩ ﴾.
وكلمة﴿ فسوف تعلمون ﴾ في قوله تعالى لتحقيق العلم لأنه سيكون علم معانيه لا علم إخبار.
( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل٤٠ }.
أمر الله تعالى هو الأمر الكوني وهو الغرق، والنجاة لمن نجا عليها، ﴿ وفار التنور ﴾، التنور مكان النار، وقالوا في تصوير ذلك إ ن كل جزء من الأرض صار فيه تنور يفور منه الماء وكانت المعجزة أن يخرج الماء من التنور ويصير غرقا.
وعلى ذلك يكون التنور في الأرض يكون منه الغرق، وليس التنور في السفينة أي أن التنور لما فار ووجدت أسباب الغرق أمر الله نوحا وقد استعدت السفينة للسير أن يحمل فيها من كل وحي زوجين اثنين ليكون التوالد في الحيوان والنبات بشكل عام.
وقد عرض لي خاطر أذكره وهو أن التنور في السفينة، وأنه فار وخرج منه بخار حرك السفينة للسير، فهي قد سارت بالبخار لا بالتجديف أو الرياح، إذ لم يذكر هنا ولكن ذكر فقط التنور وفورانه. وقد يقال أن البخار لم يكن قد اخترع، وما اكتشف إلا في القرن التاسع عشر، حيث سارت به القطر والسفن.
نقول في الجواب على ذلك بأن صنع السفينة قال فيه الله تعالى :
﴿ واصنع الفلك بأعيينا ووحينا ﴾ فالسفينة كانت تصنع تحت رعاية الله ووحيه فهل يعجز سبحانه عن تسييرها بالبخار الذي جعل سبحانه العقل البشري يتوصل إليه بعد ألوف السنين، إن هذا هو ظاهر الآية.
أولا : لأن ظاهر الآية يدل على أن ذلك كان عند تمام صنعها.
ثانيا : أنه جاء مقترنا للأمر بحمل زوجين اثنين من كل الأحياء.
ثالثا : أنه لم يكن ثمة ذكر للأرض ولكن ذكر للسفينة، فالتنور فيها، وليس معنى ذلك بالفعل أن السفينة فارت بالماء المغرق، إنما فارت بالماء المسير.
إن ذلك الخاطر استمر يطرق أبواب التفكير حتى آمنا به، والله أعلم بالصواب. بعد أن أعدت السفينة تحت رعاية الله وكلاءته، وصنعت بوحي في تركيبها جزءا جزءا، وما كان نوح صانع سفن، ولكن كان نبيا مرسلا موحى إليه، فكانت صناعتها معجزة، وإغراقهم معجزة، ونجاة من نجا معجزة وكل ذلك صار مرئيا للعيان.
حمل نوح عليه السلام. من كل زوجين اثنين وحمل أهله، إلا من سبق عليه القول منهم وهو ابنه، وحمل من آمن، وذكر سبحانه أن الذين آمنوا كانوا عددا قليلا.
وقد ذكر في الأخبار أن السفينة كانت ضخمة كأنها مدينة تسير في البحر، وروى أن طولها مائتا ذراعا وألف، وعرضها ستمائة ذراعا وارتفاعها ثلاثون، والله أعلم، وبعد صنعها أمر نوح بتكليف من ربه بأن يركبوا.
﴿ وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ٤١ وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ٤٢ ﴾.
ركب نوح وما معه وهله، ومن معه ممن آمن واتبعه، ومن بعد ركوبهم كان الغرق بالماء الذي جاءهم من حيث لا يحسبون، جاءهم الماء من السماء والأرض، جاءهم من السماء فانهمر المطر، وجاء من عيون الأرض كما ذكر سبحانه في سورة القمر :﴿ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر١١ وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ١٢ وحملناه على ذات ألواح ودسر١٣ تجري بأعيينا جزاء لمن كان كفر ١٤ ﴾( القمر ).
وهكذا نجد مجموعة آيات القرآن الكريم فيها القصة كاملة، لكن كل جزء ذكر في موضع عبرته، ولا تكاد نجد تكرارا، إنه كلام العزيز الحميد الذي أحاط بكل شيء علما.
﴿ بسم الله مجراها ومرساها ﴾ أي بسم الله تعالى من وقت جريها إلى وقت رسولها، وهناك قراءة﴿ بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ﴾ يغفر الذنوب لعباده المؤمنين برحمته، ثم وصف حال الفلك فقال تعالى :
﴿ وهي تجري بهم في موج كالجبال ﴾ أي إن الماء ارتفع وكثر حتى علا موجه واصطفق، وشبه الموج بالجبال لارتفاعه وصعوبة اختراقه.
وهنا تحركت عاطفة الأبوة الفطرية في نفس نوح، والفطرة السليمة تتحرك فيها العواطف الإنسانية، فنادى على ابنه خشية الغرق، وقد عزل نفسه عن أبيه الداعي إلى الحق وهذا معنى﴿ في معزل ﴾ أي مكان معزول عن أبيه لكفره، أو عن القوم فرارا بنفسه ولكن لا فرار من قضاء الله المحتوم، فقال مغرورا مخدوعا غير مقدر أن العذاب نازل لا محالة.
﴿ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين٤٣ ﴾.
يعصمني من الماء أي يمنعني من الماء فلا يغرقني، قال نوح الذي يعلم من الله أنه الهلاك المدمر﴿ لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ﴾ وهم الذين نجوا في السفينة مع أبيك وأهلك ومن تبعه.
وكان الموج الشديد الهائل كالجبال الذي حال بين نوح عليه السلام وابنه، وكان من المغرقين لأنه رضي أن يكون مع الكافرين فناله مما نالهم مع أنه ابن نوح، فليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى.
بعد أن أغرقوا ولم يبق منهم ديار جزاء ما اقترفوا وأشركوا، رفع الله الماء الذي كان إهلاكا لهم.
﴿ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستولت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ٤٤ ﴾.
في قوله تعالى :﴿ وقيل يا أرض ﴾ القول تكويني، وكان الفعل بالنداء لغير المعلوم، لمعرفة من ينادي بالتكوين جل جلاله، ولأنه في المظهر غاض الماء من ذات نفسه، وهو يأمر الله تعالى :﴿ ابلعي ماءك ﴾ فالأرض ابتلعت الماء الذي ملأها بعيونها، ومن المطر المنهمر، ﴿ ويا سماء اقلعي ﴾ وأقلعي أي أوقفي ماءك المنهمر، ﴿ وغيض الماء ﴾ أي نقص بعد أن تمت المعجزة ونزلت آية الله تعالى في القوم الكافرين وقضي الأمر أي أنجز الله وعده بإهلاكه، ﴿ واستولت على الجودي ﴾ الضمير يعود إلى سفينته، والجودي جبل، ﴿ واستولت على الجودي ﴾ بمعنى استقرت بجوار ذلك الجبل وكأنه منع استمرار سيرها.﴿ وقيل بعد للقوم الظالمين ﴾أي إبعادا وطردا وهلاكا للقوم الظالمين الذين اجتمعوا على الظلم، وتناصروا فيه، وبعد أن انتهى الأمر عاود نوحا عليه السلام كشأن الآباء حنينه وإشفاقه على ابنه فنادى ربه مناجيا.
﴿ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ٤٥ ﴾.
إذ وعده الله تعالى أنه ناج هو وأهله، فقال له ربه نافيا دخول ابنه في أهله فلا يكون داخلا في الوعد بالنجاة.
﴿ قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ٤٦ قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم و إلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين٤٧ ﴾.
إنه في ذاته عمل غير صالح، فشاقك وترك صفك وكان في صف المشركين، وهناك قراءة بكسر الميم في كلمة﴿ عمل ﴾ على أنه فعل وبفتح الراء في كلمة﴿ غير ﴾ فيكون اللفظ"عمل غير صالح"١ ذلك بانضمامه إلى صفوف المعاندين، ويكون في التقدير على القراءة الأولى أنه ذاته صار كأنه عمل غير صالح، وهي أبلغ في الدلالة على فساده من القراءة الثانية، وقد عاتبه الله تعالى :﴿ فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾، ( الفاء ) لترتيب ما قبلها على ما بعدها، فترتب على كونه عمل غير صالح وعده نوح من أهله-ذلك العتاب، وفي كلمة :﴿ فلا تسألن ﴾ النون نون التوكيد الخفيفة المؤكدة للطلب، ثم أكد العتب بذكر علته :﴿ أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾ أي أبصرك كراهة أن تكون من الجاهلين بأن الولاية مقطوعة بين المؤمن والكافر.
بعد هذا التنبيه الرقيق العاتب أدرك نوح خطأ موقفه فقال مناجيا ربه
١ (عمل غير صالح) قراءة يعقوب والكسائي، وقرأ الباقون (عمل غير). غاية الاختصار(١٠١١)..
﴿ رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ﴾ أي إني ألجأ إليك سبحانك أن تعينني ألا أسألك ما ليس لي به علم وأستعينك يا رب العالمين أن يقع مني في المستقبل سؤال لك فيما ليس لي به علم، وما هو من تقديرك وتدبيرك في أن الحق أولى من الآباء والأبناء وكان هذا عن المستقبل، أما عن الماضي فقال، ﴿ وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ﴾ أي إن كنت سبحانك لا تغفر لي هذا الخطأ برحمة منك أكن من الذين خسروا، وليس معنى ذلك أن نوحا وقع في ذنب يحتاج إلى الغفران، وإنما هو لإحساسه بجلالة الله، وقدره وعظم سمو أوامره ونواهيه، فقد ظن أنه ارتكب ذنبا، وما هو بذلك، أو أنه ارتكب في جنب الله ما حسبه خطيئة، وما هو من ذلك في شيء، وهذا ما يسميه علماء الصوفية "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، ولقد أقر الله قلب نوح وأوحى إليه أن يهبط من السفينة بسلام ولذا قال تعالى :
﴿ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم٤٨ ﴾.
القائل معلوم وإن بني الفعل لغير معلوم، ﴿ اهبط بسلام ﴾ أنزل من السفينة مصحوبا بسلام وأمن من الله، ﴿ وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ﴾، وجعل سبحانه منهم أمما مع أنهم عشرات أو على الأكثر مئات، ذلك لأنهم آباء لجماعات مؤمنة طاهرة أي ستكون منهم ذرية طاهرة، ﴿ وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ﴾، أي سيكون ممن معك أمم صالحة وأخرى ظالمة، والخلاصة أن الأمم الذين يجيئون ممن معك، على بعضهم بركات، ولبعضهم عذاب أليم.
العبرة في القصة
قال تعالى :
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ٤٩
الإشارة إلى القصص الحكيم من قصة نوح عليه السلام، وهي أنباء عظيمة أي أخبار ذات شأن وخطر، وقوله تعالى :﴿ ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾ لأنهم كانوا أميين ليس عندهم من يدرس، ولا عندهم كتب تكتب، ولم يكونوا أهل كتاب نزل فيها كالتوراة والإنجيل يعلمون علم النبوات منه قبل هذا، وقد علمت ما في هذه الأنباء من عبر وكيف جاهد نوح في الدعوة إلى الله، وكيف عانده قومه وكيف عابوا دعوته كما عاب قومك دعوتك، وأن الذين ابتدءوا بالاستجابة هم الضعفاء من عبيد وفقراء، وكيف كانت آية الله بالفلك المشحون، وانهمار الماء من السماء، وتفجير الأرض عيونا، حتى كان الغرق وسارت السفينة في موج كالجبال وكذلك كان عاقبة المكذبين.
﴿ فاصبر إن العاقبة للمتقين ﴾ ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، إذ ترتب على القصص الحق وما فيه من معاندة الكافرين ونزول آية الله فيهم بالإغراق- الأمر بالصبر حتى يرى آية الله في المشركين من قريش، وإنها آتية لا محالة، وإن كانت المجاهدة حتى صارت كلمة الله هي العليا. وفي قوله تعالى :﴿ العاقبة للمتقين ﴾ إشارة إلى أن التقوى هي السبب في حسن العاقبة، والنصر المبين لمن خاف واتقى، والخزي لمن ضل وشقى. وفي الآيات إشارة لأمرين :
الأمر الأول : الصبر وألا يأخذه ما هم عليه من مظاهر القوة والغرور.
الأمر الثاني : ما في القرآن من إعجاز إذ يأتي من أخبار الغيب ما يجتاز مجاهل التاريخ حتى تتبين الحقيقة نيرة بينة يوافقها الصادق الباقي على صدقه مما جاء في التوراة.
هود وقومه
قال تعالى :
وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ٥٠ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ٥١ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ٥٢ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين٥٣ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد واشهدوا أني بريء مما تشركوا٥٤ من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ٥٥ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ٥٦ فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ٥٧ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ٥٨ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ٥٩ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود٦٠
﴿ وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ٥٠ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ٥١ ﴾.
نجد الدعوة إلى التوحيد كما دعيت إليه قريش، وناوءوا هودا كما ناوءت قريش، وصابرهم كما يصابرهم، ولما أصروا على الشرك والإيذاء أنزل الله عليهم ما دمرهم.
ناداهم هود بما يقربهم إليه﴿ يا قوم اعبدوا الله ﴾ أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا ووضح ذلك بقوله :﴿ ما لكم من إله غيره ﴾ أي مالكم أي إله غيره فكلمة﴿ من ﴾لاستغراق النفي وشموله ؛ لأن الألوهية تقتضي الانفراد بالخلق والتدبير، وأن يكون المعبود واحدا في ذاته وصفاته ليس كمثله شيء، وقد كانوا يعرفون ذلك، فكيف يكون غيره، ولكنهم فعلوا غير المعقول وغير ما يوجبه العقل السليم، ولذا قال :﴿ إن أنتم إلا مفترون ﴾ وكلمة﴿ إن ﴾ نافية ثم جاء بعدها الإثبات بكلمة﴿ إلا ﴾ أي أنتم مقصورون على الافتراء والكذب المقصود بعبادتكم أوثانا لا تضر ولا تنفع ولا تتكلم ولا تتحرك.
وأنه في هذه الدعوة لا يريد مالا ولا سلطانا أو جاها يكون أجرا على دعوته ولذا قال تعالى عن هود :
﴿ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا ﴾ أي عرض من أعراض الدنيا، ولا أجر لي إلا الجزاء من الله على القيام بواجب إرشادكم وهدايتكم، وقال في ذلك :﴿ إن أجري على الذي فطرني ﴾ أي خلقني على الفطرة السليمة المستقيمة غير الملتوية، ﴿ أفلا تعقلون ﴾ يدعوهم على التدبر و( الفاء )لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهو أن حالهم أوجبت تنبيههم إلى أن ما هم فيه يجب أن يتدبروه ؛ لأنه غير معقول في ذاته إذ كيف يعبدون ما لا ينفع ولا يضر وهو حجر لا ينطق ولا يعقل، ويناديهم بعد ذلك نداء المحبة التي يريد بها النفع فيقول :
﴿ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ٥٢ ﴾.
﴿ استغفروا ربكم ﴾ أي اطلبوا الغفران، لأن تعبدوه وحده ولا تشركوا بع شيئا وعبر ب "ربكم" إلى ما يبعثهم على عبادته، وهو أنه الذي خلقهم وربهم ودبر أمورهم بحكمته وإرادته.
ويبين سبحانه ما يترتب على الاستغفار، وهو ذاته مما يوجب العبادة فقال تعالى :﴿ يرسل السماء عليكم مدرارا ﴾، المراد المطر، وعبر عنه بمكان نزوله من قبيل( إطلاق المحل وإرادة الحال )، ومدرارا أي كثيرا، ينبت به زرعكم ويكون قوام حياتكم، وفي ذلك الخير فائدتان :
الفائدة الأولى : أن القرب إلى الله وعبادته الخالصة يبسط الله بهما الرزق، كما قال تعالى :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون٩٦ ﴾( الأعراف ).
الفائدة الثانية : تذكيرهم بنعم الله تعالى عليهم وهي توجب أن يؤمنوا بدل أن يشركوا ويقول سبحانه على لسان نبيه هود﴿ ويزدكم قوة إلى قوتكم ﴾ أي يزيدكم قوة مضمومة إلى قوتكم، فشكر النعمة يزيدها﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد٧ ﴾( إبراهيم )، فالقوة نعمة فاشكروها تزدادوا قوة إلى قوتكم. وينهاهم عن الفساد والإجرام بهذه القوة التي إن لم تشكر كانت سببا للإجرام، ولذا قال لهم نبي الله ﴿ ولا تتولوا مجرمين ﴾ أي لا تتولوا حال كونكم بهذه القوة فتكونوا قوما مجرمين.
وقد أجابوا هذه الدعوة الرشيدة الحبيبة، الرقيقة القوية العميقة بالرفض القاطع فاطلبوا بعد الرفض بالبينة، أي الدليل الملزم، وكان هذا غريبا بعد الرفض كالقاضي الذي يرفض الدعوى ثم يطالب بالدليل.
﴿ قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ٥٣ ﴾.
هي أقوال ثلاثة رافضة :
أولها : ادعاؤهم أنه لم يأتهم ببينة أي بدليل يدل على رسالته، وهم بذلك يمضون في عنادهم غير معترفين بما جاءهم من معجزات هي علامة قاطعة.
ثانيها : أنهم ينفون إجابته نفيا لازما قاطعا لا يترددون فيه قائلين :﴿ وما نحن بتاركي آلهتنا ﴾ عن قولك ويردون النفي بإضافة الآلهة إليهم كأنهم منها وهي منهم.
ثالثها : أنهم لا يؤمنون بالحق إذ جاء، ولذا قال كما حكى الله تعالى عنهم :﴿ وما نحن لك بمؤمنين ﴾ أي وما نحن بمؤمنين استجابة لك، وقدم﴿ لك ﴾ للإشارة إلى اختصاص الكفر به وعدم التسليم، في مقابل إيمانهم بما آمن به آباؤهم وقد تأكد النفي بالباء في قوله ﴿ بمؤمنين ﴾.
وقد اتهموه بأنه قد اعتراه بعض آلهتهم بسوء، أي اتهموا عقله وأن يكون به مس من الجن، كما قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان هو رائيا قد جاءك التمسنا لك الطب، وقال أولئك :﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ﴾، أي إن الحال أن بعض آلهتنا أنزل بك سوءا فقلت ما قلت.
﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ٥٤ ﴾.
ولكن هودا عليه السلام يصابرهم، ويلين بالقول معهم، فلما طمعوا أن يمنعوه أو يجروه إليهم قال لهم قولا جازما :﴿ إني أشهد الله ﴾ أي أجعله شهيدا على ما أقول أي إني بريء من شرككم، فكلمة﴿ مما ﴾ وما بعدها من الفعل مصدر، وأكد براءته في الشرك ب﴿ أن ﴾ في كلمة﴿ أني ﴾ وبالجملة الاسمية، والتعبير بالفعل لتصوير حالهم القبيحة وهم يشركون بالله تعالى رب العالمين.
إنه إذ يبرأ منهم ومن إشراكهم، يعتمد على الله تعالى خالقهم فيقول :
﴿ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ﴾ أي فكيدوني مجتمعين غير متفرقين، ودبروا لي ما هو إيذاء وكيد وتدبير خبيث لي :﴿ ثم لا تنظرون ﴾ أي لا تؤجلون، والتعبير ب﴿ ثم ﴾ هنا يفيد أن يكيدوا غاية الكيد وأبعده، وأن يتدبروا أبعد التدبير ولا يؤجلونه.
ويفشل تدبيرهم لأن قوتهم لا تقف أمام قوة الله وتدبيره، وأكد هذا سبحانه وتعالى :
﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ٥٦ ﴾.
﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ﴾ أي اعتمدت عليه سبحانه فهو يحميني بحكمته وتقديره وتدبيره وهو ربي وربكم، يعرف طاقتكم وما عندكم من قوة وتدبير، وإنه لا ريب ضعيف بجوار تدبيره، وقاض عليه سبحانه، وأكد ذلك قوله تعالى :﴿ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ﴾ أي قادر عليها متمكن من أمرها، وفي قوله تعالى :﴿ آخذ بناصيتها ﴾ أي قادر عليها متمكن من أمرها، وفي قوله تعالى :﴿ آخذ ﴾ تمثيل لقوته تعالى وسيطرته وأنه آخذ بناصية خلقه لا يتمكن أحد من البعد عن قبضته، ثم بين لهم أن طريق الله هي الطريق فقال :﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾ أي إن ربي ممسك الطريق المستقيم متمكن منه، وأن ما يدعو إليه هود هو الصراط المستقيم كقوله تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه... ١٥٣ ﴾( الأنعام ).
وقد أبلغ هود رسالة ربه وحسبه ذلك، ولم يبق إلا أن ينزل بهم ما استعجلوه ولذا قال تعالى :
﴿ فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ٥٧ ﴾.
أبلغ هود رسالته في بيان ورفق، ولم يكن رفقه ضعفا في جنب الله، ولكنهم أصروا على الكفر والعصيان واستعجلوا العذاب الذي كان يذكرهم به أثناء تبليغ رسالة ربه، عندئذ ذكرهم بعاقبة أمرهم، فقال تعالى مخبرا عنه :﴿ فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به ﴾، ﴿ تولوا ﴾ فعل مضارع حذفت فيه تاء، أي فإن تتولوا بأن تعرضوا فقد أبلغتكم رسالة ربي الذي رباني وخلقني، ولم يبق بعد الرسالة إلا أن ينزل بكم ما أنذركم به وهو عذاب محيط مدمر، ولذا قال تعالى فيه :﴿ ويستخلف ربي قوما غيركم ﴾ أي بعد إزالتكم من الأرض، ولا تضرونه شيئا بزوالكم وذهاب جمعكم لأنه يحتاج إلى خلقه وهم يحتاجون إليه.
﴿ إن ربي على كل شيء حفيظ ﴾، أي رقيب لا تخفى عليه أعمالكم ويجازيكم عليها حق الجزاء وهو حفيظ على كل شيء، لا يمكن أن يضره شيء، وهو فوق كل شيء وعلى كل شيء قدير.
﴿ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ٥٨ ﴾.
بين سبحانه نزول العقاب بالكافرين ونجاة المؤمنين برحمة كريمة منه، وحسبها شرفا أنها من رب العالمين، وبين سبحانه أن النجاة كانت عظيمة ؛ لأنها نجاة من عذاب شديد، كما بين سبحانه أن العذاب غليظ أي شديد لا رفق فيه ؛ لأنه لا رفق مع ظالم، لأن الرفق بالظالم عنف بالمظلوم، ولم يذكر في هذه الآية نوع العذاب، وقد ذكر في آيات أخرى أنه عذاب بريح السموم، وقد جاء ذكره في سورة الأحقاف :﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ٢٤ ﴾( الأحقاف ).
﴿ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد٥٩ ﴾.
أشار الله تعالى إلى العبرة من عاد، كانت أقوى للعرب في أزمانها، وكانت منهم آفات ثلاث، أنهم جحدوا بآيات ربهم أي أنكروا دلالتها، وعصوا الرسل، واتبعوا الجبابرة في غيهم وطغيانهم.
﴿ وتلك ﴾ الإشارة إلى الذين تضمنت الأخبار السابقة ذكرهم، وكانت الإشارة إلى عاد لقوتها وطاغوتها وتمردها ومآل أمرها ولما فيها من عبرة، وأنبأت أخبارهم عن موطن الاعتبار، وهو طغيانهم ثم نزول العقاب بهم من غير هوادة لإنكارهم الآيات وعصيانهم الرسل، وقد استهوتهم القوة الظاهرة للجبارين في الأرض الذين عاندوا في الحق وتحدوا الله ورسوله المبعوث لهم رحمة ربهم. وقال تعالى في عذابهم عند الهلاك الذي اجتثهم من الأرض :
﴿ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود٦٠ ﴾.
أي أنهم قد ولاهم غضب الله تعالى، ومعنى﴿ أتبعوا ﴾ أي أتبعهم الله، ولعنته سخطه وطردهم من رحمته في هذه الدنيا، وكان مظهر اللعنة ما نزل بهم من عقاب قطع دابرهم، وتسجيل إثمهم وطغيانهم وما أحسوا به في ذات أنفسهم، وخروجهم عن سنن الفطرة والاتجاه إلى الأذى والإيذاء، ولعنتهم في الآخرة العداب في الجحيم وان الله لا ينظر اليهم ولا يكلمهم ( الا بعدا لعاد قوم هود ) أي ألا طردا من رحمة الله تعالى وهلاكا لهم مع هذا الطرد والإبعاد. وذكر سبحانه أنهم قوم للإشارة إلى مظهر كفرهم وعنادهم برسولهم الذي هو منهم وهم قومه وكان جديرا بهم أن يؤمنوا ولكنهم كفروا وطغوا.
صالح وثمود
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب، ٦١ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب٦٢ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ٦٣ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب٦٤ فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب٦٥ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز٦٦ وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ٦٧ كأن لم يغنوا ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود٦٨
قال تعالى :
﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب٦١ ﴾.
العطف في هذا الموضع على ما سبق في قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا نوحا... ٢٥ ﴾.
فالمعنى أن الله سبحانه وتعالى أرسل نوحا ومن بعده هودا وإن لم يتعاقبا، ومن بعدهما صالحا إلى ثمود.
وكانت دعوته الأولى هي التوحيد، لب الرسالات السماوية ومجتمعها والمشترك فيها جميعا ﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ﴾ حق عبادته لا تشركوا معه أحدا ولا حجرا ولذا قال سبحانه في تفسير معنى عبادته﴿ ما لكم من إله غيره ﴾ ثم آخذ يجري على لسان نبيه أسباب الألوهية له ونفيها عن غيره فقال :﴿ هو أنشأكم من الأرض ﴾ أي خلقكم من الطين، ﴿ واستعمركم فيها ﴾ أي جعلكم تعمرونها فتنشؤون فيها المباني والحدائق الغناء، والسين والتاء في كلمة﴿ استعمركم ﴾ معناها التكليف لعباده أن يعمروها فهو سبحانه مظهرها على ما جعلهم يسخرون السموات والأرض بما قدره تعالى لهم.
ثم يقول صالح ﴿ فاستغفروه ﴾ أي اطلبوا غفرانه بأن يستر ما ارتكبتم من ذنوب وينشئكم نشأة طاهرة طيبة، وبعد الاستغفار توبوا إليه﴿ ثم توبوا إليه ﴾أي ارجعوا إليه بعد أن بعدتم عنه بالشرك، وعبر بكلمة ﴿ ثم ﴾ للدلالة على بعد حالهم في الانتقال من الاستغفار إلى الرجوع إلى الله تعالى ؛ لأن الاستغفار طلب محو الذنوب أو سترها، وتلك أول خطوة في ترك الكفر والشرك، وتعلوها مرتبة الاتصال بالله لقبول التوبة، ولذا قال تعالى على لسان نبيه بعد﴿ إن ربي قريب مجيب ﴾ وهذا إدناء إلى التوبة وتقريب لها، أي أن الله تعالى في عليائه قريب إلى النفوس التائبة محب للدعاء والرجوع إليه، وذلك رد على أوهامهم التي يقولون فيها أنهم شفعاؤنا عند الله، وقولهم ما نعبد إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فصالح يقول لهم :﴿ إن ربي قريب مجيب ﴾ فلا حاجة إلى شفاعة الشافعين، إن كان يتصور أن يكون في هذه الحجارة شفاعة. وفي قوله تعالى :﴿ إن ربي قريب مجيب ﴾ إشارات بيانية منها تأكيد القول بالجملة الاسمية وبكلمة"إن".
وفيها التعبير ﴿ ربي ﴾ وذلك يفيد أنه مربيه ومنشؤه، ومربيهم ومنشؤهم فكيف لا يكون قريب منهم وهو الحي القيوم في السموات والأرض.
ومنها ذكر كلمة﴿ مجيب ﴾ وفيه إشارة إلى أنه سبحانه هو الذي يدعي فيجيب لا تلك الأحجار التي لا تضر ولا تنفع فلا تجيب دعاء ولا تسمع نداء، وماذا كانت إجابة قومه إلى تلك الدعوة الحق.
﴿ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب٦٢ ﴾.
كان صالح معروفا قبل الرسالة بالكمال الإنساني، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم معروفا بأنه الصادق الأمين ﴿ مرجوا ﴾ مرجوا خيره غير مذموم، وقولهم :﴿ قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ﴾ أي كنت فينا مرجو الخير محمود الخصال والفعال، وكأنهم يحسبون أنه ينبغي أن يفعل ما هو على هواهم ويردد مقالاتهم ويعبد ما يعبدون.
ويثيرون العجب فيقولون :﴿ أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ﴾ فهم يستنكرون دعوته، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وهو أنه فعلا ينهاهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم، وليست عبادة آلهتهم حجة مسوغة لهم ؛ فآباؤهم كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. ﴿ أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ﴾ فالشك هو عدم التصديق بما يقول والتظنن في صدقه، فهم يشكون فيما يدعو إليه من التوحيد وهجر عبادة الأوثان لأنها أحجار لا تضر ولا تنفع، وإن هذا الشك يوقعهم في الريب، أي أن شكهم في صدق ما يدعوهم إليه يوقعهم في حال الريب فلا يؤمنون بقوله ويكونون في حال من الاضطراب.
قال لهم صالح :
﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير٦٣ ﴾.
التخسير مصدر كلمة"خسر" أي تضعيف الخسارة، وذلك أنهم بردهم لدعوته ومحاولة أن يكون معهم ويتبع ما كان عليه آباؤهم، يجعلون الخسارة مضاعفة له بردهم دعوته وعصيانه لله تعالى إن لم يبلغ دعوته.
وهو سبحانه ينقل قوله لهم فيقول تعالى عنه :﴿ أرأيتم ﴾ الاستفهام للتنبيه والتقرير، والمعنى لقد رأيتم وعلمتم هذه الحال التي أكون عليها، ﴿ إن كنت على بينة من ربي ﴾ أي بصيرة وإدراك وحجة بينة واضحة بعبادته وحده، ﴿ وآتاني منه رحمة ﴾ وهي الرسالة التي كان اصطفائي بها رحمة بي ورحمة بكم، فإذا عصيته بعدم تبليغها واتباع أهوائهم﴿ فمن ينصرني ﴾ أي يعصمني من الله إن عصيته بالامتناع عن التبليغ واتباع ما تدعونني إليه، ﴿ فما تزيدونني غير تخسير ﴾ أي فإنكم بهذا تزيدوني غير خسارة مضاعفة بكفركم وعدم استجابتكم، وبامتناعي عن التبليغ ثم باتباعي أهوائكم، وتلك خسارة مضاعفة، بعد هذا ذكر لهم المعجزة، وقد كانوا في الصحراء وسفينتهم فيها الناقة تقطع الفيافي والقفار في صبر ووداعة وأنة فكانت المعجزة من جنسها، ناقة لها خواص ليست لكل صواحبها تجعلها غير مشابهة لهم، وهي آية لهم ونذير، إن اعتدوا إليها، وجعل لها شرب أي ماء، غير شرب سائر النوق، فقال لهم عليه السلام فيما قص الله تعالى :
﴿ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب٦٤ ﴾.
نسب صالح الناقة إلى الله مع أن كل شيء من المخلوقات منسوب إلى الله، ولكن الله تعالى اختارها لتكون معجزة صالح عليه السلام، كان ذلك له فضل اختصاص في النسبة إلى الله تعالى.
وقوله﴿ آية ﴾ أي معجزة دالة على رسالة صالح، ﴿ فذروها تأكل في أرض الله ﴾ ( الفاء ) للإفصاح عن شرط مقدم دلت عليه الجملة قبلها، أي إذا كانت آية الله لنبيه فاتركوها تأكل في الكلأ المباح في أرض الله تعالى، ولا تمسوها بأي أمر يسوء في ذاته وعاقبته، وبسببه يأخذكم عذاب واقع لا محالة، ولذا قال لهم﴿ ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ﴾، ( الفاء ) للسببية، ووصف العذاب بالقريب للدلالة على وقوعه لا محالة وأنه يجيئكم في أقرب وقت، وفي التعبير ﴿ فيأخذكم ﴾ إشارة إلى أنه يأخذهم من مأمنهم إلى حيث الهلاك والدمار.
ولكنهم لم يكترثوا لتحذير نبيهم فعقروها استهانة منهم بتحذيره
﴿ فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب٦٥ ﴾.
فقال لهم الرسول صالح عليه السلام : ابقوا متمتعين في داركم ثلاثة أيام، وهي لتطبيق القرب الذي أنذرهم به، وليعايشوا جريمتهم، ثم أكد نزوله بعد هذه المدة القصيرة فقال : ذلك وعد من الله تعالى صادق غير مكذوب، وهو متحقق لا محالة.
بعد ذلك نزلت آية الله تعالى بالعذاب المهلك الذي اختص الله به الذين كفروا فقال سبحانه :
﴿ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ٦٦ ﴾.
فلما جاء أمرنا أي بعد الأيام الثلاثة، وهو الهلاك المدمر نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا، أي برحمة أرادها الله تعالى وكانت هبة للذين آمنوا جزاء بما كانوا يعملون، نجوا بها من خزي يومئذ، أي هذا اليوم.
﴿ وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ٦٧ كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود٦٨ ﴾.
﴿ جاثمين ﴾ أي ساقطين على وجوههم، والصيحة عبر عنها في سورة الأعراف بالرجفة، ويبدو أن هذه كانت من صاعقة رجت الأرض رجا فرجفت واهتزت بما أذهب ألبابهم ثم أجسامهم فسقطوا منكسين جاثمين. كان ذلك بعد مرور أيام التمتع الثلاثة التي أنذروا بها، ثم بين سبحانه أنهم ذهبوا بغلوائهم وطغوائهم ونهجهم،
﴿ كأن لم يغنوا ﴾ أي كأن لم يقيموا فيها غناء واستعلاء وكبرياء، ظانين أنهم استغنوا بأصنامهم عن كل شيء.﴿ إن ثمود كفروا ربهم ﴾ أي أنكروه وجحدوه، ولذا عبر عن نفسه سبحانه وتعالى من غير الباء، وكأن العابد للصنم متذكر لله تعالى ولو ادعى أنه يؤمن بأنه الخالق وحده، وأنه واحد في ذاته وصفاته، ﴿ ألا بعدا لثمود ﴾ ﴿ ألا ﴾ للتنبيه، و﴿ بعدا ﴾ معناها طردا وإهلاكا ؛ لأن البعد عن رحمة الله تعالى هلاكا وإهلاكا.
إبراهيم ولوط
ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ٦٩ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ٧٠ وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق من وراء إسحاق يعقوب ٧١ قالت يا ويلتي ألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب٧٢ قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد٧٣ فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط٧٤ إن إبراهيم لحليم أواه منيب٧٥ يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ٧٦ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ٧٧ وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ٧٨قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ٧٩ قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد٨٠ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ٨١فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود٨٢ مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ٨٣
قال تعالى :
﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيد٦٩ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط٧٠ ﴾.
جمع الله تعالى قصة إبراهيم ولوط في موضع واحد ؛ لأنهما كانا في زمن واحد، ولا مانع من أن يوجد نبيان في زمن إذا تباعد الإقليمان، وقد يكونان في زمن وإقليم واحد كما في خطاب قوم إسرائيل، ومجادلة طاغية كفرعون، وإن كان أحدهما رسولا والآخر ردئا له.
وفي القصة التي جمعت بين إبراهيم ولوط عبر نذكر بعضها قبل التصدي لذكر ما جاء في هذا الموضع، منها إثبات أن الله هو الفاعل المختار المريد الذي لا يتقيد بالأسباب العادية كما نتقيد بها، بل إنه خالق هذه الأسباب يملك تغييرها، وأنه سبحانه وتعالى القادر المريد، فهذه عجوز تجاوزت سن الولادة تحمل وتلد، ومن هذه العبر أن الملائكة أراد الله جعلهم كالأناسي ويلبس الأمر كما لبس على إبراهيم عليه السلام إذا أنكرهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى الطعام وأوجس منهم خيفة.
ومنها أن الفواحش تفتك بالجماعات وتذهب قوتها وتعدها للفناء، كما في شأن قوم لوط إذ إن فاحشتهم قطعت نسلهم وأسلمتهم إلى الدمار، ومنها أن كل امرئ بما كسب رهين ومعاقب بعمله، فلم يعف امرأة لوط من العذاب أنه امرأته، ولأنها كانت من المفسدين حق عليها ما نزل بهم من العذاب.
ومنها أن آل لوط لم يكونوا عبدة أوثان فقط بل كانوا مع ذلك يأتون الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد، يأتون الرجال شهوة من دون النساء حتى أصبحوا لا يخرجون من شر إلا إلى شر، فهم في دائرة الفساد المطلق والفاحشة الشنعاء التي هي كرءوس الشياطين من المخنثين ومن يتشبهون بالإناث في ملابسهم وشعورهم بل وفي أفعالهم، ووجدت جماعة تنطلق انطلاقا إلى كل موبق باسم حرية الإرادة وما هي إلا الوقوع في أسر الشهوة ومن ورائها ذلها.
ومنها أن الانطلاق إلى الهوى لا يرده عقل ولا تدبير ولا حياء بل ولا أي مروءة إنسانية، حتى أنهم عندما رأوا الملائكة، جاءوا إلى لوط عليه السلام يهرعون، وإنه ليعرض بناته للزواج، فيقولون في تبجح لقد علمت ما لنا في بناتك حق، وهكذا نرى ممن يشبهونهم في عصرنا.
ولنبدأ بذكر القصة بعد هذا الذي أدركناه من عبر، قال تعالى :﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيد ٦٩ ﴾، حيوه بالسلام، وهو مصدر لفعل محذوف أي"نسلم سلاما"، وقد كانت هذه تحية فردها بأحسن منها فقال﴿ سلام ﴾أي أمري كله سلام، وأتم التحية بكرم الضيافة الذي امتاز به أبو العرب إبراهيم بأن أعد الطعام الشهي المشوي﴿ فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ﴾( الفاء ) للعطف الدال على الفورية أي ما أبطأ أن جاء بعجل مشوي : يقال حنذ الشاه أي شواها. ونلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى قد صدر القصة بقوله :﴿ ولقد جاءت رسلنا ﴾ وكلمة( قد ) مؤكدة للخبر ؛ وأكد الخبر لأن فيه غرابة وهي مجيء الملائكة إلى الأرض﴿ رسلنا ﴾ تكريما وتشريفا وتعظيما.
وقال﴿ بالبشرى ﴾ أن مصاحبة لهم البشرى بولد لإبراهيم عليه السلام الذي قدم لهم من الطعام ما ينبئ عن الكرم وحسن اللقاء، ولم يجدهم يمدون أيديهم إليه وعبر عن ذلك بقوله تعالى :
﴿ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ﴾ مبالغة في الامتناع عن الأكل إذ لم تتحرك أيديهم بل بقيت في مكانها لا تمتد إليه، ولما رأى ذلك أحس أنهم غرباء عنه، وعن جملة أحاسيسه، إذ إنهم لم يمدوا أيديهم ولم يعتذروا، وعبر الله عن ذلك بقوله تعالى :﴿ نكرهم ﴾ وهو بمعنى أنكرهم واستنكر أمرهم، وإن كلمة﴿ نكرهم ﴾ تدل على ما هو أبلغ من الإنكار والاستنكار، بل تدل مع ذلك على الوحشة من لقائهم، ولذا قال تعالى بعد ذلك :﴿ وأوجس منهم خيفة ﴾، والإيجاس هو الإدراك بالحس، والخيفة الخوف الشديد الذي يظهر في الهيئة ؛ لأن خيفة اسم هيئة من الخوف، أي أدركوا سببا للخوف وظهر الخوف في هيئته عليه السلام، وخيفة في الإعراب تمييز محول من المفعول إلى التمييز، وقد أحس الرسل بهذا فقالوا :﴿ لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ﴾ عندئذ اطمأن وقر قراره، ﴿ وامرأتة قائمة ﴾ ويقول المفسرون إنها قائمة وراء الستر﴿ فضحكت ﴾ سرورا بزوال الخيفة التي اعترت زوجها ؛ ولأنها استأنست بأن هؤلاء سيقضون على أهل الدعارة والفساد، ولأنها كانت خائفة على لوط من قومه أو إذا نزل عذاب يعم قومه. وبعض المفسرين قال إن( ضحكت ) معناها حاضت، وعندي أنه إذا جاز ذلك لغويا فإن ظاهر الضحك هو ما يكون بسبب السرور، ولا يخرج اللفظ عن ظاهره إلا لقرينة فإن ادعوا أنها البشرى بغلام فإنها ليست قرينة تخرج اللفظ عن ظاهره وإن البشرى أقرب إلى أن يرجح أن الضحك للسرور وأنها لما ضحكت وسمعها الرسل كانت البشرى.
﴿ وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ٧١ ﴾.
وذكر يعقوب بعد إسحاق وهو ابنه للإشارة إلى أنه سيكون من ذريته النبيون فهو أبو الأنبياء من الأسباط وموسى وداود وسليمان وعيسى عليهم جميعا السلام وهي كانت عقيم، أما هاجر كان منها الولد فكانت البشرى داعية سرور وغرابة أما السرور فلهذه البشرى وقت زوال ألم العقم، وأما الغرابة فقد كشفت عنها بقولها :
﴿ قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ٧٢ ﴾.
الاستفهام للعجب، والعجب كان يقوم على أمرين :
الأمر الأول : أنها عجوز قد أدبرت سن الولادة والحمل.
الأمر الثاني : أن زوجها شيخ هرم، وصرخت بالعجب فقالت : إن هذا لشيء عجيب. وقوله تعالى :﴿ يا ويلتي ﴾ هي للتعجب وتستعمل الكلمة غالبا في العجب من أمر متعجب شاق، وشاع استعماله في العجب، وعندي هنا أنه للأمر الشاق ؛ لأن البشرى تحمل في نفسها آلام الحمل والوضع، كما أنها أحست في نفسها بما يتتبع من وهن كما قال سبحانه في ذلك الأمر﴿.... حملته أمه وهنا على وهن.... ١٤ ﴾ ( لقمان ) رد الملائكة عجبها بقولهم لهم.
﴿ قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد٧٣ ﴾.
هذا استفهام لإنكار العجب لأن ذلك من خوارق العادات والعجب إنما يكون فيما هو من أمر العباد والأسباب الجارية، أما ما يكون من أمر الله فإنه من خالق الأسباب والمسببات، وقوله تعالى :﴿ أهل البيت ﴾ أي بيت النبوة فقد كان بيت إبراهيم عليه السلام مهد الأنبياء الذي كان منه يعقوب والأسباط من بعده، ويوسف وموسى وداوود وسليمان وإل ياسين وعيسى.
﴿ إنه حميد مجيد ﴾ الضمير يعود على لفظ الجلالة﴿ حميد ﴾ وصف لذات الله بمعنى أنه المحمود الذي يدوم حمده وإنعامه ويحمد لهذا الإنعام، و﴿ مجيد ﴾ على وزن فعيل من ماجد لأنه العالي في ذاته وصفاته ومجده سبحانه وتعالى.
كان الاتجاه إلى قوم لوط لينزل بهم ما استعجلوه من عذاب وليكون العقاب الصارم القاطع لفسادهم، المجتث لجمعهم، وإبراهيم الحليم أخذ يجادل في قوم لوط، ويظهر أن هذه المجادلة كانت لرجاء إمهالهم وألا يعجل الله تعالى في أن ينزل بهم ما يستحقون، ولذا قال تعالى :
﴿ فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط٧٤ إن إبراهيم لحليم أواه منيب٧٥ ﴾.
أمران جليلان ألقيا في نفس إبراهيم بالاطمئنان أحدهما : أنه ذهب عنه الروع أي الخوف الذي راعه واسترهبه، والآخر أن جاءته البشرى بولد أخا لإسماعيل الذي تركه في البرية، فلما كان هذان الأمران أخذ يجادل في إمهال قوم لوط.
﴿ يجادلنا في قوم لوط ﴾ والتعبير بالمضارع لإفادة الاستمرار في المجادلة وحدوثها متجددة وكانت المجادلة لربه ؛ لأن في قوم لوطا النبي وله به قرابة نسب فهو حريص على نجاته شفيقا عليه. وعلل سبحانه تلك المجادلة بوصف إبراهيم عليه السلام :
﴿ إن إبراهيم لحليم أواه منيب٧٥ ﴾، وهي صفات ثلاث من مكارم الأخلاق، ولكن المجرمين من قوم لوط فجروا فارتكبوا فاحشة لم يسبقهم بها أحد من العالمين.
الصفة الأولى : لإبراهيم عليه السلام : الحلم فهو لا يتعجل العقاب بل يريد للمجرم فرصة للانخلاع من ذنوبه فهو يؤثر السماحة على العقاب.
الصفة الثانية : أنه مرهف الإحساس كثير التأوه من الشعور بالخطأ، وإن لم تكن خطيئة ولا ذنب، ومعاذ الله أن يكون خليل الله تعالى أثيما، وإنما هي قوة الإحساس والخشوع في جنب الله تعالى.
الصفة الثالثة : أنه منيب أي راجع إلى الله تعالى فهو لا يفترق عن ربه إلا في محبة مدنية مقربة.
وإن الله تعالى يأمره بالإعراض عن الدفاع عنهم فلا يصح أن يجادل عن المجرمين ويناديه الله نداء الخليل.
﴿ يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر برك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ٧٦ ﴾.
ناداه ربه باسمه تقريبا له، أعرض عن هذا الجدل فإنه لن يغير شيئا ؛ لأنه قد مضت إرادة الله تعالى وأمره بالإهلاك، والتعبير بكلمة ﴿ ربك ﴾ في هذا المقام للإشارة إلى أنه مقتضى الربوبية في أن يؤخذ الظالم بظلمه لأنه لا يستوي المسئ والبريء، كما لا يستوي الأعمى والبصير.
وأكد سبحانه أنه العذاب نازل بهم لا محالة﴿ وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ﴾ وقد أكد سبحانه نزول العذاب بعدة مؤكدات :
أولها : وصفه بأنه غير مردود.
ثانيها : بالجملة الاسمية.
ثالثها : بإن الدالة على التوكيد.
وهكذا كان العقاب نازلا لا محالة، ذهب رسول الله تعالى إلى لوط ولم يذكر أنه فوجئ بهم كما فوجئ إبراهيم عليهما السلام، ويظهر أن المفاجأة وقعت ولكن استغنى عن ذكرها هنا بذكرها هناك، أو أنه شغل عن المفاجأة برئيتهم بحال قومه وفسادهم عند لقاء هؤلاء الأطهار، ولذا قال تعالى :
﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب٧٧ ﴾.
جاء رسل الله الملائكة الأطهار في صورة أناسي مشرقة وجوههم ومتكاملة صورهم، فساء مجيئهم لوطا، إذ هو يعلم من قبل ما عليه قومه من فساد، ولذلك ساءه ذلك المجيء المفاجئ وعبر الله تعالى عن ذلك بكلمة﴿ سيء ﴾ بالبناء للمجهول لبيان أنه داخل نفسه السوء من كل ناحية، ثم أردف ذلك بقوله تعالى :﴿ وضاق بهم ذرعا ﴾ وكلمة﴿ ذرعا ﴾ تمييز محول عن الفاعل، والمعنى ضاق بهم ذرعه أي باعه، وهذا التعبير تصوير لضيقه بصورة حسية كمن يضيق باعه فلا يستطيع أن يتحرك دافعا شرا داهما، ﴿ وقال هذا يوم عصيب ﴾ أي شديد وقد قال الشاعر فيما يدل على الشدة في كلمة﴿ عصيب ﴾ يوم عصيب يوجب الإبطال، ولقد جاء في معنى﴿ وضاق بهم ذرعا ﴾، أصله أن يذرع البعير بيده ذرعا في سيره على قدر سعة خطوه، فإذا حمل أكثر من طوقه ضاق عن ذلك وضعف ومد عنقه فضيق الذرع، فضيق الذرع كناية عن ضيق الصدر، وهذا تخرج آخر، والقرآن الكريم حمال لكل وجوه القول البليغ.
هذا ما كان من أمر نبي الله لوط وقد توقع الشر من قومه، أماما كان من قومه فقد قال تعالى فيهم :
﴿ وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد٧٨ ﴾.
الإهراع الإسراع في رعدة، وقد جاءوا بهذا الإسراع في رعدة الشهوة الجامحة الفاسدة، ولا يستعمل "يهرع" إلا بالبناء للمجهول، جاءوا مسرعين مهتزين مرتعدين من شدة الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين، وهم معروفون عند نبي الله لوط عليه السلام بهذه الفاحشة، ولذا قال تعالى :﴿ ومن قبل كانوا يعملون السيئات ﴾ أي كانوا مستمرين من قبل على عمل السيئات التي تسيء الإنسانية في ذاتها، وتسيئهم وتسيء مجتمعهم، فأدرك لوط ماذا يريدون، وعرض بناته عليهم ليتزوجوهن بدل الاسترسال في هذه الفاحشة التي لا يرضاها الحيوان لفطرته، ويظهر أنه ألح في العرض وألحوا بالرد وتكاثروا بالفساد فقال ﴿ أليس منكم رجل رشيد ﴾ بعد أن ألجأ إلى مروءتهم إن كان عند مثل هذا الصنف من الناس مروءة أو بقية من إنسانية فقال :﴿ ولا تخزون في ضيفي ﴾.
قالوا مصرين على سوئهم وقبح فحشهم.
﴿ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد٧٩ قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد٨٠ ﴾.
قالوا ما لنا في بناتك من حاجة، وعبروا عن هذه الحاجة بكلمة الحق، فقد توهموا لفرط غلبة الشهوة عليهم أن هذا الذي يفعلونه من إثم حق منحه الله لهم، هم ومن يشبههم من جيل هذا الزمان.
فضاق صدر نبي الله وقد أحس بضعفه أمام قوتهم وكثرتهم وقلة من معه فقال مستيئسا
﴿ لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ﴾، أي لو أن لي بدفعكم قوة أردكم بها أو أوى إلى قوى أمتنع به دونكم، وشبه ذلك القوى بالركن من الجبل، ويصح القول ( أخرج من هذه الأرض الفاسدة وآوى إلى جبل يعصمني منكم ومن شركم )، وكلمة ﴿ لو ﴾ للتمني، وفي هذا الاستضعاف الشديد يكون فرج الله، فيجد أنه آوى إلى أعظم ركن وهو ركن الله تعالى، وقد رأى ذلك الركن بجانبه وهم الملائكة.
﴿ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب٨١ ﴾.
فوجئ لوط، وقد كان في حال ضعف يتمنى النجاة، بقولهم إنا رسل ربك الذي خلقك ورباك وبعثك وهو القوام عليك وعلى الناس أجمعين، وقد أدرك من كونهم رسل الله أنهم جاءوا لعذاب قومه وإنجائه وابتدءوا بذلك.
﴿ فأسر بأهلك ﴾ والإسراء السير ليلا، "بقطع من الليل"، وهو الجزء الذي يكون في منتصف الليل أو قريبا من النصف الأخير حيث يهجعون ويكونون في نوم عميق.
﴿ ولا يلتفت منكم أحد ﴾ أي لا ينظر وراءه ولا يتخلف لمتاع أو لنحوه مما يشغلكم عن أنفسكم، واستثنيت امرأته، ووصفها الله تعالى في آية أخرى بقوله﴿... إلا امرأتك كانت من الغابرين ٣٢ ﴾( العنكبوت ) وإن العذاب نازل بها، كما هو نازل بهم أي أن الحال والشأن يصيبها ما أصابهم، وعبر باسم الفاعل للدلالة على نزوله نزولا مؤكدا بها، وقوله تعالى :﴿ ما أصابهم ﴾ في التعبير بالماضي والعذاب لم يقع بعد لتأكيد الوقوع كقوله تعالى :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه... ١ ﴾( النحل ).
وقد تعين موعد نزول العذاب وأنه قريب فقالوا :﴿ إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ﴾ أي أن العذاب نازل بهم في الصبح وإنه لقريب، ومعنى الاستفهام التقرير، إذ هو للنفي وقد دخل على النفي إثبات، وجاء بهذه الصيغة لتأكيد الوقوع وقد أكد بالباء ثم كان العذاب الشديد المبيد، فقال تعالى :
﴿ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود٨٢ مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد٨٣ ﴾.
﴿ جاء أمرنا ﴾ أي أمرنا بالعذاب، ﴿ جعلنا عاليها سافلها ﴾ أي خسفت بهم الأرض فانهد العالي وصار سافلا، وكان العذاب المتلاحق بعد خسف الأرض بهم وابتلاعها لديارهم ما صوره سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وأمطرنا عليها حجارة من سجيل ﴾ أي طين متحجر، ولذا عبر عن هذا المطر الحجاري بأنه حجارة من طين. و﴿ منضود ﴾ أي متتابع لم ينقطع.
﴿ مسومة ﴾ أي معلمة كل حجر معلم عليه إشارة العذاب، ونرى أنه شبهت الحجارة التي نزلت متتابعة بالمطر الذي ظنوا فيه غيثا هو العذاب الأليم.
وأشار سبحانه إلى أن ذلك قريب من مشركي مكة لشركهم وكفرهم وعنادهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذا ختم الله تعالى قصة صالح وثمود بقوله :﴿ وما هي من الظالمين ببعيد ﴾ أي أن ذلك ليس ببعيد عن كفار مكة، وأنه يترقبهم مثله إن لم يؤمنوا، وأن في قصص ثمود وعاد وقوم نوح لعبرة لأولي الأبصار.
مدين وشعيب
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط٨٤ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ٨٥ بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ٨٦ قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاؤا إنك لأنت الحليم الرشيد ٨٧ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخلفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب٨٨ ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد٨٩ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود٩٠
قال تعالى :
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ٨٤ ﴾.
﴿ وإلى مدين ﴾ معطوف على ما قبله من قوم صالح، ﴿ أخاهم شعيبا ﴾ ذكر أنه أخوهم لأن الرسول يكون من قومه، ومن ذؤابتهم، وفي كلمة﴿ وإلى مدين ﴾، الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف، أي أرسلنا إلى مدين، لأن عطف النسق يكون على نية تكرار الفاعل.
وقد اتجه شعيب إلى قومه يناديهم بنداء الرابطة الواصلة بينه وبينهم الدالة على المحبة المتبادلة بقوله :﴿ يا قوم ﴾ ويطلب إليهم الإيمان بوحدانية الله التي تتجلى في عبادته وحده :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾ وكلمة﴿ من ﴾ هنا لاستغراق النفي، أي مالكم أي إله غيره، أي لا يوصف بالألوهية غيره ؛ لأنه الخالق وحده ولأنه واحد في ذاته وفي صفاته ليس كمثله شيء.
وإذا كان قوم لوط قد اشتهروا بالفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين، فقد اشتهر آل مدين بالفساد في البيان والمعاملات والتطفيف في المكيال والميزان، ولذا نهاهم عن التطفيف بعد الأمر بعبادة الله وحده فقال تعالى :﴿ ولا تنقصوا المكيال والميزان ﴾.
وعلل الرسول الكريم نهيه عن ذلك بقوله :﴿ إني أراكم بخير ﴾، أي أراكم في سعة من العيش وعندكم الرزق الوفير، فلستم في فقر يسول لكم أخذ حق غيركم، بل أنتم في سعة من الحلال فلا تمدوا أيديكم إلى الحرام، لكن الطمع يغريكم بأخذ حقوق غيركم، وإنه لا يردع من كانوا في هذه الحال إلا عذاب يوم القيامة الذي يحيط بكم إحاطة الدائرة تنتقلون فيها من عذاب إلى أشد منه هولا.
وبعد أن نهى عن تطفيف الكيل أمر بالوفاء تأكيدا إليه من حسن التعامل.
﴿ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين٨٥ ﴾.
ناداهم عليه السلام نداء المودة والرغبة في نفعهم فقال :﴿ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان ﴾ أي أعطوهما لأصحابهما وافيين غير منقوصين، ﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ أي لا تنقصوهم حقوقهم فإن نقص الحقوق ظلم في ذاته، وهنا انتقال من الخاص إلى العام، فالنهي عن نقص المكيال والميزان نهي عن نقص في الكيل والوزن، أما النهي عن بخس الناس أشياءهم نهى عن كل معاملة فيها أكل مال الغير بالباطل، كالربا والغش والتدليس والخيانة والرشوة والسرقة والاغتصاب وغير ذلك من نقص لأموال الناس وأكل لها بالباطل.
وإن التعامل الآثم واستحلال أخذ الأموال بالباطل، وسيادة الفسوق في المعاملات يؤدي إلى التناحر وتقطيع أواصر المجتمع، ولذا قال معقبا :﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ والعثو تنقيص الحقوق واغتصابها، وكل معاملة فاسدة، وقوله تعالى :﴿ مفسدين ﴾ حال من( الواو ) والمعنى أنكم في حال هذه المعاملات الفاسقة تكونون قد تلبس بكم الإفساد لأنه مترتب عليها لا محالة. ثم يقول لهم إن الكسب الحلال الذي يعود لكم من التجارة الرابحة هو أثمن وأبقى فيقول :
بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ٨٦ }.
أي البقية القليلة الحلال التي تفضل لكم من متاجركم ومعاملاتكم هي خير لكم وأثمن لأرزاقكم وأكثر وفرا﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾، فإن الإيمان يولد القناعة ويقطع الطمع، ومصارع الرجال تحت بروق المطامع، ولذا قال :﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ حفيظ يحفظهم من غضب الله وظلمهم أنفسهم.
هذه دعوة شعيب تنزيه للنفس عن الشرك وتنزيه من البخس والظلم والطمع فماذا كانت إجابة قومه ؟ !.
﴿ قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد٨٧ ﴾.
استنكروا دعوته في العبادة وفي إصلاح المعاملات، ولما كان كثير الصلاة والضراعة قالوا﴿ أصلاتك تأمرك ﴾ أي تدفعك لأن تدعونا إلى عبادة الله تعالى وحده وترك عبادة الأوثان، كما يستنكرون دعوته لإصلاح معاملاتهم، وذلك من مبادئ الأخلاق الكريمة.
ثم يقولون :﴿ إنك لأنت الحليم الرشيد ﴾، قال بعض المفسرين إن قولهم هذا كان تهكما عليه، كأنهم يقولون أتحسب نفسك العاقل الرشيد المدرك وحدك وما أنت كذلك.
وإني أرى أنهم قالوا ذلك قاصدين معناه على إدراكهم، ولذا أكدوه ب﴿ إن ﴾ بأن، وباللام، وأنت، و﴿ الحليم ﴾ : العاقل المدرك، و﴿ الرشيد ﴾ الذي يدبر أموره على حكم العقل.
وكأنهم يقولون إن مقتضى ما أنت عليه من العقل والرشد والإدراك كان يوجب عليك ألا تنهانا عن أن نترك ما كان يعبد آباؤنا وأن تتركنا على ما ألفنا، وألا تصادر أموالنا أو تنهانا عن طرقنا التي تدر علينا الربح الوفير والخير الكثير، وذلك أشد ما تقع فيه النفس من فساد والعقل من الأهواء، إذ يحسبون الدعوة إلى الخير مما لا يليق، ويعاود نبي الله إرشادهم.
﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن اريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب٨٨ ﴾.
بعد أن قالوا للنبي كما فهمنا، إن ما أنت عليه من عقل ورشد يمنعك من دعوتنا إلى ترك ما عليه آباؤنا، وإلى منع متاجرنا، ومكاسبنا، يقول لهم مؤكدا أمورا ثلاثة :
الأمر الأول : أنه على بينة من ربه، وإنه مبعوث لهذه الدعوة، ولذا يقول منبها :﴿ أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ﴾ وفي قوله :﴿ أرأيتم ﴾ تنبيه الاستفهام فيه للتقرير وإثارة الانتباه الشديد، وقوله :﴿ إن كنت على بينة من ربي{ ( إن ) هنا مخففة من نون التوكيد، أي أنه الأمر، والثاني { كنت على بينة ﴾ أي بيان برسالتي من ربي الذي خلقني ورباني وقام على شئون الوجود.
الأمر الثاني : أن الله رزقه رزقا حسنا طيبا لا ظلم ولا تطفيف ولا تدليس ولا بخسا للناس بغير حق وأريد منكم رزقا، ولكن أريده رزقا حلالا طيبا، وفي ذلك دعوة إلى القدوة به.
الأمر الثالث : إنه يطبق على نفسه ما يدعوهم إليه فيقول :﴿ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ﴾، أي أن اقصد ما نهيتكم عنه وأنتم مولون، أي إني أبتدئ بالأخذ بالنهي في الأمور التي نهيتكم فلا أنهاكم وأفعل ما أنهاكم عنه، وذلك ليتخذوا منه قدوة طيبة، ولا أخلفكم أي لا أقصد خلفكم إلى ما نهيتكم، ثم بين أن ما يدعوهم إليه هو الخير الذي فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم وإصلاح نفوسهم وجماعتهم، فقال :﴿ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ﴾ "إن" هنا هي النافية أي ما أريد إلا إصلاحكم في نفوسكم على قدر استطاعتي ﴿ ما استطعت ﴾، و( ما ) هنا شرطية، أريد الإصلاح إذا استطعته، وما استطيعه أو مصدرية منسبكة مع ما بعدها في مصدر أي : إني أريد الإصلاح استطاعتي ﴿ وما توفيقي إلا بالله ﴾، أي الله وحده هو الذي يوصلني إلى الغاية، ويحققها ﴿ عليه توكلت ﴾ أي توكلت عليه وحده، ولا أتوكل وأعتمد إلا عليه، ﴿ وإليه أنيب ﴾ أي إليه وحده أرجع، وهو الذي يجزيني على الخير، وفي هذه العبارات الثلاث، تأكيد إرادة إصلاح النفس والجماعة، وتأكيد الاعتماد على الله في النتائج، وتأكيد الرجوع إليه سبحانه.
وقد رأى نبي الله شعيب أنهم شاقوه وصاروا في جانب، وهي في جانب، فقدر أن هذه المجانبة إلى العصيان، وأن يصيبهم نتيجة شقاقهم أن ينزل بهم من العذاب ما نزل بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، ولوط، ولذا قال شفيقا عليهم رفيقا بهم،
﴿ ويا قوم ﴾ ناداهم المحب الرفيق، ﴿ لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ﴾ وهذا الكلام فيه تنبيه إلى سوء العاقبة، وبين أيديهم العبر من غيرهم، وهي تستقبلهم في عاقبة أمرهم﴿ لا يجرمنكم ﴾ لا يحملنكم المشاقة والمعاندة على استمراركم في العصيان فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح من غرق، وما أصاب قوم هود من ريح صرصر عاتية، وما أصاب قوم صالح من صيحة تتبعها رجفة، وما أصاب قوم لوط، وقال في هذا﴿ وما قوم لوط منكم ببعيد ﴾، بل إن أرضهم تصاقب أرضكم.
وإن شعيبا نبي الله تعالى رفيق بقومه، ينذرهم، ثم يفتح باب التوبة ليدنوا منه، ولا يجافوه، فيقول :
﴿ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود٩٠ ﴾يطلب اليهم أن يستغفروا ربهم، بأن يطلبوا مغفرته عما ارتكبوا ويرتكبون من شرك، وسوء في المعاملات، وعسى الله أن يغفر لهم، ثم يتوبوا إليه، أي يرجعوا إليه بعد أن بعدوا، وكانت التوبة بعيدة عن الاستغفار، وكذا عطف ب﴿ ثم ﴾ للدلالة على عظم ما ارتكبوا، وقبح ما فعلوا، ولكن الله تعالى يغفر، وقد كلل قبوله التوبة، ومغفرته بقوله تعالى :﴿ إن ربي رحيم ودود ﴾ أي إنه بسبب رحمته بخلقه، وقربه منهم بالمودة يغفر لهم، ويقبل توبتهم، فيبين شعيب الرفيق باب الرجوع إليه، ويعرفهم أنه قريب من عباده، قبل أن ينزل بهم عقاب يوم شديد.
لم تنفع العظات ولم يبق إلا العقاب
قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز٩١ قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذ تموه وراكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ٩٢ ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ٩٣ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ٩٤ كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ٩٥
بعد هذه العبارات القوية في معناها ومرماها، الرقيقة في مبناها قالوا متحدين شعيبا﴿ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ﴾ أي ما ندرك كثيرا من قولك إدراك فهم، وما ذكروا ذلك ليزدادوا فهما، بل ذكروه مستنكرين لما يريد مستهينين به، وهو يتضمن رفضا لقوله، وإنكارا لدعوته إلى التوحيد، وحسن المعاملة، والقيام بالعدل فيها وإعطاء كل ذي حق حقه، وكأن المعاملة بالبخس حق لهم، ولذا قالوا متحدين أيضا مهددين :﴿ وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ﴾ أكدوا أنهم يرونه ضعيفا لا يمتنع عليهم إذا أرادوه بسوء، ولولا جماعتك، أو عصبتك الذين يوالوننا، ولا نريد أن نغاضبهم لرجمناك، أي لقتلناك شر قتلة، وهي القتل رميا بالحجارة حتى تموت :﴿ وما أنت علينا بعزيز ﴾ أي بممتنع علينا، إن أردناك بسوء، أو أردنا رجمك، ونفوا أنه عزيز عليهم أشد النفي، فأكدوه، بالخطاب وتكراره، وبالباء، وبتقديم﴿ علينا ﴾، وذلك اغترار بقوتهم، وسطوتهم، وتأكيد بأنه في قبضة أيديهم.
ويرد الحليم الرشيد شعيب غير عابئ بتهديدهم معتمدا على ربه، معتزا بعزته :
﴿ أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ﴾ الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وفيه تهكم بهم وبغرورهم، والمعنى ليس رهطي أعز عليكم من الله، وإن زعمتم ذلك فأنتم في غرور، وانخداع بأنفسكم، وقوله تعالى :﴿ واتخذتموه وراءكم ظهريا ﴾ أي نسيتم الله ذا العزة والجلال، وحسبتم أن رهطي أعز عليكم من الله، وجعلتم رب العزة والجلالة وراءكم ظهريا وهذا تعبير لمن يطرح الأمر الجدير بالاعتبار وراء تفكيره، فشبه فعله بفعل من يرمي الأمر وراء ظهره، بحيث لا يراه، وقد هددهم بأن الله مانعه بقوله :﴿ إن ربي بما تعملون محيط ﴾ أي عالم علم إحاطة وشمول لا يخفى عليه شيء من أفعالكم، وما تريدون برسوله إليكم، وإنه لمحيط بكم، وعبر بربي للإشارة بأنه حاميه منهم، لأنه هو الذي أنشأه وربه ويحميه ويحرسه.
ويسترسل النبي الهادي في إرشادهم، فيقول :
﴿ ويا قوم اعملوا على مكانتكم ﴾ على ما تتمكنون من عمله، لتكون نتيجته لكم أو عليكم وإني عامل ما يمكنني الله تعالى منه، وما أرسلني به، ﴿ سوف تعلمون ﴾ ( سوف ) لتأكيد الوقوع ﴿ من يأتيه عذاب ﴾ في الدنيا﴿ يخزيه ﴾ ينزل به، فيجعله في أسفل السافلين، ﴿ ومن هو كاذب ﴾ في قوله، وفي دعوته، فتبين حينذاك خزيكم وكذبكم، كما يتبين صدق قولي فيما دعوتكم إليه، وفي إنذاركم.
﴿ وارتقبوا إني معكم رقيب ﴾ ارتقبوا ما يستقبلكم، وإني معكم رقيب متتبع متوقع صدق ما أنذر الله ربي وربكم نزل العذاب بهم بأمر الله تعالى في ميقاته، ولذا قال تعالى :
﴿ ولما جاء أمرنا ﴾أي ما قدرناه لهم عقابا في الدنيا، وكانوا يستعجلون به ثم ذكر سبحانه وتعالى أمره بعد أن نجى شعيبا والذين آمنوا برحمة من الله، وكانت رحمته في أن هداهم إلى الإيمان وأن أبعدهم عن العذاب، وفي أنه يستقبلهم النعيم المقيم يوم القيامة.
﴿ وأخذت الذين ظلمواالصيحة ﴾ وأظهر في موضع الإضمار لبيان أن ما أنزل بهم من العذاب سببه الظلم بالشرك والظلم بنقص المكيال والميزان، والظلم بمنع الناس حقوقهم، وبخسهم حظوظهم.
والصيحة تبعتها رجفة في الأرض ماتوا بها ولذاقال( فاصبحوا في ديارهم جاثمين ) اي ميتين، وجاثمون ملازمون أماكنهم لا يستطيعون حراكا ؛ لأن الموت الداهم أفقدهم الحركة.
﴿ كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ﴾ : كأن لم يقيموا فيهاإقامة مستمتعين بمغانيها، وهذا يشير إلى أن متعة الدنيا إلى وقتنا هذا لا بقاء منها لشيء، ويقول سبحانه :﴿ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ﴾ أي ألا بعدا وطردا من رحمة الله تعالى، وهلاكا لمدين، كما بعدت ثمود وهلكت.
موجز قصة موسى وفرعون
قال تعالى :
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ٩٦ إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد٩٧ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم الناس وبئس الورد المورود٩٨ وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود٩٩
قلنا إن قصص القرآن لا مكرر فيه، وإن كان يبدو ظاهر الأمر أن فيه تكرار ؛ لأن الذكر يكون على قدر العبرة.
وهنا في هذا الموضع يذكر أحوال الأمم الذين يبعث النبيون إليهم، ولذا ذكر قوم فرعون، وما حل بهم من اتباعهم فرعون، ولم يفصل الآيات المتوالية التي كانت تجري على يدي موسى آية بعد آية، وهم لم يرتدعوا حتى أهلكهم الله تعالى بالغرق كما ذكر سبحانه ذلك في سورة الأعراف، وكما ذكر حال فرعون وقد أصابه الغرق، وآمن في آخر رمق في حياته إيمانا لا يقبله الله تعالى.
قال تعالى :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ٩٦ ﴾أكد الله تعالى إرسال موسى واكد إرساله بالآيات البينات بحجة ظاهرة قاهرة، وسماها سلطانا مبينا، أي بينا، وتسمية الحجة سلطانا ؛ لأنها تجعل لصاحبها سلطانا غالبا من الاحتجاج
﴿ إلى فرعون وملئه ﴾ أي من يحيطون به، ويشاركونه فيما يفعل، ثم وصف سبحانه حال ملأ فرعون، وهو وصف عميق لآل فرعون، ولأهل مصر، فقال :﴿ فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ﴾ أي اتبعوه مطلقا، وكذلك حال مصر تتبع من يحكمها دائما سواء أكان عدلا أم كان ظلما، وسواء أكان رشدا أم ضلالا، فهم أتباع لا استقلال لهم، ولذا وصفهم العربي عمرو بن العاص :" هم لمن غلب" ولأنهم له تبع يكونون يوم القيامة وراءه، فكما اتبعوه في الدنيا عن غير إدراك، بل لأنه فرعون – قال فيهم يوم القيامة
﴿ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد والمورود٩٨ ﴾والورد هو الذي يرده الناس لتبريد أجسامهم، ونقع غلتهم وترطيب أكبادهم، وسميت النار به تهكما بحالهم، إذ يردونها، فيجدون النار المتأججة بدل الماء الفرات.
وأنهم بهذه التبعية للطاغوت :
﴿ وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود٩٩ ﴾ وألحقوا في هذه الدنيا لعنة طردوا فيها من العزة والكرامة ونزل بهم الهوان والذل والمقت، ﴿ ويوم القيامة بئس الرفد ﴾ أي العون الذي يعين به الرافد من يعينه، ﴿ المرفود ﴾ أي المعان، أي أن فرعون ومن اتبعه، وكل المصريين الذين اتبعوه، يتعاونون في تبادل إرفاد النار، يعين كل منهم الآخر، فهو يعينهم، وهم يعينونه، وهذا تصوير لحالهم، إذ تعاونوا على الظلم والذل والإذلال في الحياة، فتعاونوا على المقت وإرافد النار بعد الوفاة.
العبرة فيما قص الله تعالى هنا
قال تعالى :
ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ١٠٠ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ١٠١ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ١٠٢ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ١٠٣ وما نؤخره إلا لأجل معدود ١٠٤ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد١٠٥ فأما الذين شاقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق١٠٦ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لمل يريد ١٠٧ * وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ١٠٨ فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ١٠٩
بعد أن ساق القرآن الكريم ذلك القصص الصادق الواعظ أو ذكر بعض ما فيه من عبر، فقال تعالى :﴿ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ١٠٠ ﴾ الإشارة إلى السابق من قصة نوح وقومه، وعاد وهود وثمود، وصالح، ومدين وشعيب، وطغيان فرعون، أي هذا القصص الحكيم﴿ من أنباء ﴾ أخبار القرى، أي المدن التي يتحرك إليها الناس، ويجتمعون فيها، كقريتك التي تدعو إلى التوحيد في وسط الشرك فيها، وإن هذه القرى عرفناك أنباءها، كيف أشركت وعاندت وكابرت، ثم أخذها الله أخذ عزيز مقتدر يجدون آثار ما أنزل الله بها، ورسوم بعضها تنادي ببيان ما حل بها :﴿ منها قائم وحصيد ﴾ قائم مثله كمثل العود من الزرع إذا صار حطاما، وجف ماء الحياة فيه، ومنها ما هو محصود كالزرع المحصود الذي قطع قائمه، وبقى بعض جدوره، وهذا يدل على ما نزل بهؤلاء.
وفي ذلك عبرة للذين يطغون، ويعاندون، ويؤذونك وصحبك ويستهزئون بكم ويسخرون من آيات الله فيهم، ومعجزته التي تتلى عليهم.
إن ما نزل بهم هو بسبب ظلمهم، ولذا قال تعالى :
﴿ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ﴾.
أي ما نزل بهم لم يكن ظلما، بل كان عدلا ؛ لأنه لا يستوي المحسن والمسيء، والأعمى والبصير، ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور، فهو جزاء عمل، وجزاء العمل من جنسه، ولكن ظلموا أنفسهم بإضلالهم بالشرك، وانسياقهم في طريق الفساد، ومعاندتها للحق واضطهادها لأهلهم، وإشاعتها للضلال، وخضوعها للأوهام بدل العقل المدرك المستقيم.
وإنهم إذا تردوا في هذا الهلاك الذي نزل بهم منعا لاستمرار فسادهم، وطغيانهم، ومحاربتهم – بدا لهم عيانا بيانا أن الآلهة التي اتخذوها من الحجارة أو غيرها، لا تدفع عنهم ضرا، ولا تجلب لهم نفعا، ولا تحميهم مما نزل بهم، ولذا قال تعالت حكمته :﴿ فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء ﴾، ﴿ من ﴾ هنا لاستغراق النفي، أي ما أغنت عنهم الآلهة التي زعموها مضادة لله تعالى أي شيء من الغناء.
وأضاف كلمة آلهة إليهم، لبيان أنها ليست آلهة في ذاتها، وهي عاجزة كل العجز، إنما هي آلهة في زعمهم، وأوهامهم التي أضلتهم، وسارت في ضلال بعيد.
إن هذه الآلهة أخزتهم، ولم تفدهم ؛ لأنهم ساروا في الضلال إلى أقصى الغاية بل إنهم﴿ لما جاء أمر ربك ﴾ بالإهلاك، وهو خالقكم والقائم على وجودكم لم يستطيعوا دفعا للضرر، ولا جلبا لنفع﴿ وما زادوهم غير تتبيب ﴾ التباب الهلاك والتتبيب الإهلاك الشديد الذي يتضاعف في ذاته، أي ما زادوكم إلا هلاكا متضاعفا، والهلاك ليس زيادة في ذاته وإنما الزيادة هي زيادة الضرر.
والتعبير بضمير جمع العقلاء، وليست الحجارة عاقلة إنما هو تهكم بهم، وبنظرهم الذي يعبد حجارة، ويرجو نفعها، وقوله تعالى :﴿ غير تتبيب ﴾ أي هلاك متضاعف متكرر.
وإن الله تعالى قدر العذاب وأنزله فكيف تزيد الحجارة فيما قدر الله وهي لا تملك من الأمر شيئا ؟ والجواب عن ذاك أنه تصوير لحالهم مع هذه الحجارة، إذ إنهم استمروا في عبادتها لا ينون بل يجادلون، ويعاندون حتى جاءهم العذاب الأليم، وكلما زادوا عنادا كان العذاب على قدره، وعنادهم المتزايد، وعقابهم عليه المتضاعف، كله في تقدير الله العزيز الحكيم، والله حكيم عليم.
إن هذا سنة الله تعالى في خلقه العصاة، ولذا قال تعالت كلماته :
﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد١٠٢ ﴾.
التشبيه في قوله تعالى :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ﴾هو تشبيه حال القرى القائمة الظالمة في توقع عذاب الله لها بحال الذين أخذوا من قبل كغرق قوم نوح، وكالرجفة التي أخذت ثمود ومدين، وكالريح الصرصر الذي أخذ من قبل عاد كهذا الأخذ الذي أخذ به السابقون، يؤخذ القائمون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ذلك الماضي إنذار للحاضرين من القرى الظالمين كالمشركين في مكة الذي يتحدون الله ورسوله، ويحسبون أنهم الغالبون، والله تعالى غالب على أمره، وقد قرر بعد ذلك شدة عذابه في أخذه لهم من حيث لا يحتسبون، فقال عز من قائل :﴿ إن أخذه أليم شديد ﴾ اي إن أخذه المفاجئ الذي لا يرتقبونه فوق ما فيه من ألم المفاجأة، وهم يرتعون ويلعبون هو في ذاته مؤلم موجع، وشديد في إيلامه وفي حاله، وحالهم معه، كانوا ينتظرون مطرا يمطرهم، فإذا هو ريح فيها عذاب أليم.
وإن ذلك إنذار كما ذكرنا للمشركين، حتى يرجعوا عن غيهم، وإن الله إذا كان قد أخر عنهم العذاب لاجل محدود، فإنهم ليسوا غالبين، وإنه سبحانه جاعل العذاب من نوع آخر، يستبقي الأطهار ولا يستأصل الأشرار لأنه يكون من أصلابهم من يعبد الله ويجاهد في سبيله، ألم يجعل من أصلابهم قادة مجاهدين، فكان من أصلابهم خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهما من القادة المجاهدين.
ووصف أخذ القرى بأنه يأخذها وهي متلبسة بظلمها، تحمل في نفسها موجب عذابها.
وإن هذه الإنذارات يتعظ بها وينزجر من يؤمن بالآخرة، ويخاف مقام الله فيها، ولذا قال :
﴿ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود١٠٣ ﴾.
الإشارة في قوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآية ﴾ للمذكور من أنباء قوم نوح، وهود، وصالح، وشعيب الآية، أي لدلالة واضحة على قدرة الله تعالى، وإن خوارق العادات فيها دلالة على إرادة الخالق، وأنه فاعل مختار، وأنه قادر على الإعادة كما بدأ الخلق، وأن قدرته ليست بقدرة البشر، وإنها ليست مرتبطة بالأسباب والمسببات، كالعباد بل فوق كل شىء وانه خالق الاسباب والمسببات ولكن لا يدرك هذه الآية إلا من سلمت نفسه من آفات الشك والشرك، وآمن باليوم الآخر، ولم تكن الحياة الدنيا خلب كبده١، وكل شيء في حياته، ولذا قال :﴿ لمن خاف عذاب الآخرة ﴾ ومن يخاف الآخرة يؤمن باليوم الآخر وأن بعد هذه الحياة الدنيا حياة آخرة هي الحياة الحقيقية التي يكون فيها البقاء، ويؤمن ثانيا بأن الحياة الآخرة فيها العذاب فيخافه ؛ لأنه محاسب على ما قدمت يداه.
وليس المراد أن هذه آية فقط لهؤلاء الذين يؤمنون باليوم الآخر، ويوم الحساب، ولكن المراد أن الذين يدركون هذه الآية من استقامت نفسه، وعقله وقلبه هم الذين امتلأت قلوبهم إيمانا باليوم الآخر، وأن الإنسان لم يخلق سدى، وأن عمله لا يذهب هباء منثورا، بل يوم الحساب يترقبه، وهو يخاف، أما الذين ران على قلوبهم هذه المادية الغاشمة فليسوا من هذه الآية في شيء.
وقد وصف الله بعد ذلك اليوم، فذكر أنه يوم الحشر، وقال فيه :﴿ ذلك يوم مجموع له الناس ﴾ أي أن الناس جميعا مجموعون له في أول خلق آدم إلى يوم القيامة، وذلك يوم مشهود يشهد فيه الناس جميعا، وهو معلم معروف لأهل المعرفة، وهو مشهود بما فيه من أحداث وحساب وعقاب، وبما ينزل فيه الملائكة صفا، وبما يتجلى فيه رب البرية﴿ وجوه يومئذ ناضرة٢٢ إلى ربها ناظرة٢٣ ﴾ ( القيامة )، ﴿ ووجوه يومئذ عليها غبرة ٤٠ ترهقها قترة ٤١ أولئك هم الكفرة الفجرة٤٢ ﴾عبس ).
وإن ذلك اليوم لآت لا محالة وإن تأخر فلأجل معدود ولذا قال تعالى :
١ والخلب، بالكسر: لحيمة رقيقة تصل بين الأضلاع، أو الكبد، أو زيادتها، أو حجابها، أو شيء أبيض رقيق لازق بها. القاموس المحيط –فصل الخاء..
﴿ وما نؤخره إلا لأجل معدود١٠٤ ﴾ أي أجل معدود في علم الله لا يتأخر، ولا يتقدم، بل معدود بالسنين والأشهر، والشيء المعدود لا يقبل الزيادة ولا النقص، وإذا كان معدودا فإنه آت لا محالة، فلا يتقدم لاستعجال أحد، ولا يتأخر لإرادة التأخير، لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
ثم قال تعالى في يوم مجيئه فقال تعالى :
﴿ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد١٠٥ ﴾هنا قراءتان :
القراءة الأولى : أن الباء غير محذوفة وهو الأصل :﴿ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ﴾.
والقراءة الثانية : حدف اجتزاء بدلالة الكسرة عليها، كأنها مقدرة في الكلام، تخفيفا وتيسيرا، والقراءتان مشهورتان، وإن حذف الباء موجود في لغة هذيل، وهي من أفصح العرب، فيقال لا أدر من غير عامل يجزم الفعل ويحذف الباء، ويقول الزجاج : إن هذه قراءة، والذي أراه اتباع المصحف، وإجماع القراء لأن القراءة سنة متبعة.
ولا يقال ما قاله الجهلاء إن القرآن خالف النحو، وذلك لأمرين :
الأمر الأول : إن الكسر إنباء عن وجود الباء وإن لم ينطق بها ليكون ذلك خفيفا على اللسان، ووافق لغة من لغات العرب الفصيحة.
الأمر الثاني : أن النحو تشتق قوته من القرآن والقرآن فوقه.
وقوله تعالى :﴿ لا تكلم نفس إلا بإذنه ﴾ تكلم فعل مضارع حذفت فيه التاء، وأصله لا تتكلم نفس إلا بإذنه. والضمير يعود على الله تعالى في ذلك( الا باذنه )لانه حاضر في العقول والنفوس والقلوب ولقد قال تعالى في ذلك :﴿ هذا يوم لا ينطقون ٣٥ ولا يؤذن لهم فيعتذرون ٣٦ ﴾( المرسلات ).
وكونهم لا يتكلمون إلا بإذنه لكيلا يقولوا إلا صوابا كما قال تعالى :﴿.... لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا٣٨ ﴾( النبأ ).
ففي هذا اليوم يكون الإقرار بالذنوب من غير مماراة، بل يقرون بالحق ؛ لأن هذا يوم الصدق، وإن الكلام في هذا اليوم بالإقرار الصادق، أما أن يكون فيه شقيا لما ارتكب وإما أن يكون سعيدا، ولذا قال تعالى :﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾ فمن الجمع المجموع شقي بما ارتكب في النار، وإما سعيد لم يرتكب إثما، فيكون في الجنة، وقد فصل القول سبحانه :
﴿ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق١٠٦ ﴾ الشهيق النفس في الصدر، والزفير إخراجه وقيل العكس، ( أما ) للتفضيل والبيان لما يئول إليه أمر الشقي، وما يئول إليه أمر السعيد، ﴿ فأما الذين شقوا ففي النار ﴾ أي الذين شقوا بأعمالهم في الدنيا، وتسجيلها عليهم بإقرارهم في الآخرة، ﴿ ففي النار ﴾ أي أن مآلهم النار يدخلونها، ﴿ لهم فيها زفير شهيق ﴾، أي يدخلونها في صدورهم بشهيقهم، ويخرجون منها نارا بزفيرهم، فالنار تكوي جلودهم، وتدخل إلى أحشائهم، يتلظون بها في أبدائهم ظاهرا وباطنا، داخلا وخارجا.
وقد سجل الله تعالى خلودهم فيها، فقال تعالت كلماته :
﴿ خالدين فيها مادامت السموات والأرض ﴾ وقوله تعالى :﴿ ما دامت السموات والأرض ﴾ جريا على استعمال العرب في تأكيد دوام الحكم بأمر من الأمور، فيقولون في بيان دوام العقد : ما بل بحر صوفة، كما قالوا في عقد حلف الفضول، ومقتضى هذا التعبير أنه يجب أن تبقى السموات والأرض لكي تدوم النار، وإن قيل في هذا الدليل على فنائها مع فناء ما يكون فيها.
ولا دليل على أن النار فانية، ولها نهاية، وكذلك الجنة لوجود هذا التعبير ؛ لأن التعبير بقول﴿ خالدين فيها ﴾ جاء في آيات الكتاب الحكيم مطلقا غير مقيد ببقاء السموات والأرض، ويعرف ذلك ما يفهم بطريق مفهوم المخالفة لا يعارض النص بإجماع علماء الأصول، وإن الخلود في النار ثابت ثبوت الخلود في الجنة ونحن في جميع الأحوال خاضعون لإرادة الله تعالى ومشيئته في الدنيا والآخرة.
ولذا قال تعالى :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ وقد ذكر هذا النص الكريم هنا، في أهل الجنة، وقد جاءت آثار في معناه نختار بالذكر منها ثلاثة :
القول الأول : ما ذكره بعض التابعين، وحكاه الزمخشري من أن الاستثناء هو من الخلود في النار، أو من أصل دخولها، والمستثنون هم فسقة أمة محمد، وغيرهم ممن يؤمنون بالله، وكان منهم عصيان، فإنهم يدخلون النار على مقدار معاصيهم، ويشاء الله أن يخرجوا فيخرجون، أو أن تنفعهم شفاعة الشافعين، على رأي جمهور العلماء.
وإن هذا القول قد يستقيم بالنسبة للذين شقوا، ولكنه لا يستقيم في الذين سعدوا.
والقول الثاني : أن قوله تعالى :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ فيها بيان أن العذاب والعقاب متعلق بمشيئته فهو الفاعل المختار، والأمر في ذلك متعلق بمشيئته هو في العدل والرحمة، فليس بحتم عليه :﴿ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون٢٣ ﴾( الأنبياء )، فإذا كان قد أدخل الكفار النار فبمشيئته، وإذا كان قد أعطى المؤمنين الأتقياء جنة، فبرحمته ومشيئته، وعطائه، ولذا قال بعد ذلك﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾ : وهذا القول مستقيم نختاره، ونذكر القول الثالث، ونراه معقولا في الجملة ولا نرده :
القول الثالث : أن هذا ذكر للاستثناء في مقام الفعل، أخذ به الله في حقه ليندب خلقه إليه، كما قال تعالى :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا٢٣ إلا أن يشاء الله.... ٢٤ ﴾( الكهف ).
وإذا كنا لم نختر هذا القول، بل اخترنا الثاني فإنا لا نقول : إنه قول باطل، وإنما اختيارنا للثاني لأنه صحيح في ذاته، ويرشح له قوله تعالى بعد ذلك :﴿ إن ربك فعال لما يريد ﴾ فهذا النص السامي يثبت أن إرادة الله مطلقة في كل ما يعطي، وكل ما يمنع.
وقوله تعالى إلا ما شاء الله : التعبير ب( ما )دون( من ) لأن معناها أنه إلا أن يشاء الله هذا ما ينال شقوا من عذاب، أما ما يناله الذين سعدوا، فقد بينه يقول تعالى :
﴿ وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ١٠٨ ﴾، ﴿ سعدوا ﴾ بالبناء للمفعول، لأن الفاعل معلوم، وهو الله تعالى، فالمعنى سعدهم الله، فسعدوا، وقد سعدوا، لأنهم اهتدوا إلى الإيمان والعمل الصالح في الدنيا، وسعدوا لأنهم دخلوا الجنة على وجه الدوام في الآخرة، وسعدوا لأن نالوا رضوان الله في الدنيا والآخرة، ولأنهم يوم القيامة، يتجلي عليهم ربهم فتنضر وجوههم وتنظر أعينهم، كما قال تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ٢٢ إلى ربها ناظرة ٢٣ ﴾( القيامة ). وذكر سبحانه نيلهم الجنة، فيقول :﴿ ففي الجنة خالدين ﴾ مقيمون على وجه الخلود، ﴿ ما دامت السموات والأرض ﴾، وقد ذكرنا أن هذا ليس تقييدا لإرادة الله ببقاء السموات والأرض، وإنما إرادته مطلقة وإنما كان هذا التعبير تأكيدا لمعنى الخلود، على مجرى عبارات العرب في تأكيدهم للبقاء بأمر ظاهر البقاء عادة.
وقوله :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ ذكرنا ما قيل فيه، وقلنا إن المختار عندنا إنه بيان لمشيئة الله التي لا يقيدها شيء فلا حتم عليه، وإذا كان قوله في أهل النار :﴿ إن ربك فعال لما يريد ﴾ يؤيد معنى المشيئة، فقوله تعالى :﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾، يؤيد المشيئة المطلقة هنا ؛ لأن العطاء لا إلزام فيه، وقوله تعالى :﴿ غير مجذوذ ﴾ ومعناه غير مقطوع بل هو دائم، والله أعلم. وإذا كانت هذه الأقوام الماضية قد نزل بها ما نزل، وإن المشركين لا يترقبون مثلها، فتأس بالأنبياء من قبلك، واصبر كما صبروا، ولذا قال تعالى :
﴿ فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص١٠٩ ﴾
( الفاء ) تصل الكلام بما قبله، وهو مترتب على القصص السابقة والجزاء الذي أعده الله تعالى للأشقياء والسعداء، والفاء للإفصاح عن شرط مقدم مؤاده إذا كان ما علمت من قصص لعبدة الأوثان وأنبيائهم، وما نزل بالمشركين، فلا تك في شك من بطلان ما يعبد هؤلاء، وأصلها تكن، وحذفها كثير في القرآن الكريم، وهو يعطي اللفظ جمالا في النسق والنغم وحلاوة في اللفظ، وتلك خصائص القرآن الكريم، وقوله :﴿ في مرية ﴾ أي شك يدفع إلى المرء، والمجادلة، والنهي هنا والحال أن ذلك لا يتصور منه، فهو بالنسبة له صلى الله عليه وسلم أمر غير متصور الوقوع منه صلى الله عليه وسلم وللنهي فائدتان :
الفائدة الأولى : أنه نهى لمن يقرءون القرآن، فهو نهي في ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي حقيقته لكل أتباع محمد، وكل من يخاطبون بالقرآن، وهو اقتلاع لجذور الشك من النفس.
الفائدة الثانية : أن النهي لإفادة البطلان بدليله، فإن ما سبق فيه أدلة بطلان الشرك، وأنه معاقب عليه، وأن عاقبته العقاب الصارم الذي يجتث الأمم.
ومن أحسن ما أقرت في تأويل ذلك أن مؤدي النهي هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليه بأن يقول لكل من يخاطبه﴿ فلا تك في مرية ﴾ وإن كان اللفظ لا يساعد في ظاهره ذلك، فهو منتهاه، يؤدي إليه قوله تعالى﴿ مما يعبد هؤلاء ﴾، والإشارة إلى المشركين، أي قل لقومك لا تكونوا في مراء مما يعبد هؤلاء من أوثان، فإنهم لم يفكروا فيه، ولم يتجهوا فيه إلى منطق عقلي أوصلهم إليه، ولكنهم ألغوا عقولهم اتباعا لآبائهم ولذا قال تعالى :﴿ ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ﴾ أي أنهم مقلدون، وليسوا بمفكرين ولا بمهتدين ولذا كانوا يقولون لأنبيائهم :﴿.... أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا.... ٦٢ ﴾ وكان مشركو مكة يقولون :﴿.... وإنا على آثارهم مقتدون٢٣ ﴾( الزخرف ) وكانوا يقولون :﴿ بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون١٧٠ ﴾ ( البقرة ).
وهكذا، وذكر سبحانه اتباعهم لآبائهم، بل لبيان أنهم لا يفكرون، وهم مؤاخذون لكفرهم، ولإهمال الآيات الدالة على الوحدانية، وللمعجزة الدالة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي معجزة القرآن الكريم.
ولهذا قال تعالى في بيان جزائهم :﴿ وإنا لموفون نصيبهم غير منقوص ﴾.
ذكر بعض المفسرين أن المراد نصيبهم في الدنيا من رزق، ويكون المعنى لا يغرنك تقلبهم في البلاد وما أوتوا من ثروة، وجاه، فإنه لا يدل على أنهم على حق، فإن رزق الدنيا منوط بأسبابه، وإن الله يعطيهم أرزاق الدنيا غير منقوصة، فالنصيب هنا هو الرزق الدنيوي.
وأما الرأي الثاني أن المراد نصيبهم من العذاب، والقرينة تعينه، لأن الكلام عن عذاب الذين عاندوا النبيين، وصادموا دعواتهم، وسخروا منها. وقوله تعالى ﴿ غير منقوص ﴾ حال مؤكدة لمعنى الوفاء في كل الأقوال، ولعل خير الأقوال ما يشمل النصيبين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الاختلاف في الحق
قال تعالى :
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب ١١٠ وإن كلا لما يوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير١١١فاستقم كما أمرت ومن تاب معه ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير١١٢ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون١١٣ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ١١٤ واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ١١٥
كانت التسلية في قصص الأنبياء الذين بعثوا في أرض العرب، وللعرب، ولم تذكر لهم كتب، وقد ذكر بعد ذلك موسى وقد جاء بكتاب يصدقه القرآن، وفيه بشرى بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأشار سبحانه إلى قصة موسى بطرف من القول فقال تعالت كلماته :
﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ﴾، أكد الله نزول الكتاب على موسى ب( اللام ) و( قد )، وأضاف سبحانه الإيتاء إليه، وكان فيه آيات بينات، وعظات، وأحكام زاجرة، ولم يترتب على إيتاء موسى عليه السلام الإيمان به، وقد أنقذهم من ظلم فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ورأوا تسع آيات حسية ملزمة، ورأوا آيات الله تعالى فيهم ونعمه ظاهرة وباطنة تفيض عليهم، مع كل هذا لم يذعنوا لما جاء به من شرائع بل اختلفوا فيه، فإذا كانوا قد اختلفوا في شأنه ما بين مذعن ومؤول ومخالف، فكيف تنتظر يا محمد من قوم أميين أن يذعنوا بمجرد النزول.
و( الفاء ) في قوله :﴿ فاختلف فيه ﴾ للعطف والترتيب من غير تراخ، وكأنه ترتب على إيتاء الله تعالى موسى الكتاب الاختلاف، وهذا يدل على ان الاختلاف ليس ناشئا من ذلك الكتاب، بل هو ناشيء من فساد النفوس وإذا فسدت النفوس لا يقنعها الدليل، ولا يهديها البرهان مهما يكن حاسما.
وقد افترق اليهود على فرق شتى حول التوراة ما بين ربانيين وقراءين، وصدوقيين لا يؤمنون باليوم الآخر.
ويبدو من فرقهم أن الاختلاف في شأن الكتاب كان في فهمه، حتى ضلوا وحرفوا الكلم عن موضعه، وأتوا بكتاب لم ينزل على موسى، وقالوا إنه من الكتاب، وليس منه شيء.
ولقد قال تعالى :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ﴾ ولولا أن الله تعالى يمهل الظالمين إلى يوم يبعثون، ويتركهم يتجادلون، ليزيد ابتلاؤهم لقضي بينهم في هذا الاختلاف وبين الحق الذي لا يحتار فيه أحد، ولكنه تركهم يتعرفونه ؛ لأنه خلقهم ذوى مدارك، ومع كل نفس فجورها وتقواها.
وقال تعالى :﴿ وإنهم لفي شك منه مريب ﴾ الشك معناه التظنن في الحق، وقد بدلت دلالة، والريب هو نتيجة هذا التظنن، والضمير في قوله :﴿ وإنهم لفي شك منه مريب ﴾ يعود إلى مشركين كما يقول أكثر المفسرين، والضمير في ﴿ منه ﴾ يعود إلى القرآن.
ولكن لم يكن ذكر للمشركين ولم يكن ذكر هنا للقرآن، وإن إعادة الضمير إليهم، وإلى كتاب الله تعالى لا يأتي بإفادة جديدة، ورأى أن الضمير يعود إلى قوم موسى الذي أوتي التوراة، ويكون الريب بسبب اختلافهم، فإن الاختلاف يحدث الشك، والجدل ذريعة الريب، والضمير في ﴿ إنهم ﴾يعود حينئذ إلى مذكورين في القول غير مطويين، وكذلك الضمير في ﴿ منه ﴾.
وإن في ذلك لعبرة من ناحيتين :
الأولى : تسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
والثانية : بيان أن الاختلاف والجدل تميع فيهما الحقائق، ويحل محلها الشك والريب، اللهم هبنا الوفاق، وجنبنا الشقاق، وقد أكد الله شك القوم بأن وباللام وبالجملة الاسمية.
ويقول في جزاء السابقين واللاحقين :
﴿ وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير١١١ ﴾.
- هنا قراءتان إحداهما ب( أن ) الثقيلة، والثانية ب( إن ) الخفيفة١، والتنوين في ﴿ كلا ﴾ نائب عن المضاف إليه، أي إنهم جميعا ليوفينهم ربك أعمالهم، وهذا يتضمن مآل الماضين والسابقين على محمد صلى الله عليه وسلم وإنذار الذين يعادونه، ويؤذون أصحابه ويسخرون منهم، فالمعنى إذن، وإن كلا من الفريقين لما سيوفيهم ربك أعمالهم.
اللامان لتوكيد القول ؛ الأولى واقعة في خير( إن )، والثانية موطئة للقسم أو العكس، ولا تغيير في المعنى بأي التقديرين، وكانت( ما ) فاصلة بينهما ليكلا يثقل النطق بلامين وهي مع ذلك دالة على تأكيد ما تدل عليه اللام الأولى.
وقول ﴿ ليوفينهم ﴾ فيه توكيد للوفاء، وهو القسم فكأنه تأكد الكلام باللامين، وبالقسم وبنون التوكيد الثقيلة، وأكد أيضا بالتعبير ب﴿ ربك ﴾ أي الذي خلقك، وخلقهم، وقام على هذا الوجود، وإذا كان هذا الخالق الحي القيوم هو الذي يعد بالتوقيه، فإنها واقعة لا محالة.
وقوله﴿ أعملاهم ﴾، أي جزاء أعمالهم، ولكنه سبحانه حذف الجزاء، وأضاف الجزاء إلى الأعمال للإشارة إلى أن الجزاء وفاق العمل، فكأنهما شيء واحد، إذ يكون عادلا تمام العدل، يوم تجد كل نفس عملها محضرا، وإن العدل الحقيقي يقتضي المساواة بين العمل والجزاء، ويقتضي العلم، وقد أشار إلى العدل بالمساواة بين الجزاء والعمل حتى كأنه هو، وصرح بالثاني في قوله﴿ إنه بما يعملون خبير ﴾ الضمير يعود إلى الله الذي تذكره القلوب، ولا تنساه، و﴿ خبير ﴾ معناه، عالم علما دقيقا لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما تكسبه الجوارح، وما يجول في الأفئدة. إنه سميع بصير.
١ قراءة (وإن كلا) بإسكان النون، قراءة مكي ونافع، وأبو بكر والمفضل، وابن بشار عن علي. وقرأ الباقون بتشديد النون. غاية الاختصار (١٠٢١)..
﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير١١٢ ﴾.
﴿ فاستقم ﴾ السين والتاء للطلب، أي اطلب إقامة الدين، وحفظ جوارحك الظاهرة والباطنة في دائرة القيام به، وإدراك غاياته ومراميه، وقوله تعالى :﴿ كما أمرت ﴾ الكاف للتشبيه والمعنى اجعل أعمالك ومرام نفسك وقلبك كما أمرت أي كما أنزل الله تعالى، وبني للمفعول لأن الفاعل معلوم حاضر في الذهن دائما، ولأن الاستقامة توجب اتباع الأوامر في ذاتها﴿ ومن تاب معك ﴾، فقوله تعالى :﴿ ومن تاب معك ﴾ معطوفة على الضمير في استقم، وإنما جاز النطق على الضمير المستتر في الخطاب من غير أن يؤكد بالضمير البارز للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو بقوله تعالى :﴿ كما أمرت ﴾، فيكون عدم إبراز ضمير الخطاب مناسبا للنسق.
وإن الاستقامة هي غاية الكمال الديني ؛ لأنها القصد إلى الهدف الأسمى، ولأنها روح الإسلام وغايته، وقد قال بعض الصوفية : إن الاستقامة هي مطلب الصوفي الأمين على حقوق الإيمان، وروى مسلم في صحيحه عن سفيان بن عبد الله الثقفي، قال قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحد بعدك قال :"قل آمنت بالله ثم استقم" ١، روى عن عبد الله بن عباس أنه قال لمن استوصاه :"عليك بتقوى الله والاستقامة".
ولقد قال تعالى : في بيان الاستقامة أن أعلى درجات الإيمان :﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون٣٠ ﴾( فصلت )إلى آخر الآيات.
وقوله﴿ ومن تاب معك ﴾ أي الذين معك من المسلمين، وعبر عنهم بأنهم تابوا للإشارة إلى أن إسلامهم لا يكون كاملا إلا إذا كانوا مع الله تعالى، وإلى أن الإسلام توبة عن الشرك، وإن الشرك انحراف في النفس، وتركه رجوع إلى الله تعالى وان الاستقامة تهذيب الروح واتجاه النفس وقد نهى عما يؤدي الى الانحراف عن الاتجاه المستقيم ( ولا تطغوا ) فيه ان النفس تنحرف عن الجادة والطريق الأقوم بالطغيان، وهو مجاوزة الحد، ومجاوزة الحد قسمان :
القسم الأول : التشدد في الدين الذي يؤدي إلى إرهاق النفس، وإن إرهاقها يؤدي إلى التقصير، ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الاعتدال، فقد قال عليه الصلاة والسلام :"لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولكن سددوا وقاربوا"، وقال :"أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"٢.
والقسم الثاني من الطغيان : الظلم، ومجاوزة الحد مع غيره، وإن هذا المعنى مناسب للآية بعد ذلك. ولقد بين سبحانه وتعالى أنه مراقب العباد، ومجازيهم فقال :﴿ إنه بما تعملون بصير ﴾الضمير يعود على الله تعالى أي أنه تعالى عليم بما يعلمون علم من يبصر ويرى، وقدم الجار والمجرور﴿ بما تعملون ﴾ على ﴿ بصير ﴾ للاهتمام بالعمل، وإنه مناظر الجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وإن الاستقامة هي أقصى درجات الإحسان، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان :"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"٣.
كان في هذه الآية النهي عن الظلم، ثم أردفها بالنهي عن الارتكان إلى ظالم، فقال :
١ رواه مسلم: الإيمان – جامع أوصاف الإسلام (٣٨)، ولفظه عند مسلم: قل آمنت بالله فاستقم"، وباللفظ أعلاه رواه أحمد: مسند المكيين – حديث سفيان بن عبد الله الثقفي (١٤٩٩٠). كما رواه الترمذي في الزهد، وابن ماجه في الفتن، والدرامي في الرقاق..
٢ سبق تخريجه..
٣ متفق عليه وقد سبق تخريجه من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون١١٣ ﴾.
﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ﴾، الواو عاطفة هذا النهي على النهي السابق، وهو قوله تعالى :﴿ ولا تطغوا ﴾ الركون الاستناد، فيقال ركن إلى الجدار أو الجبل أو الركن إذا استند إليه، ويتضمن ذلك النهي الاعتماد على الظالم، والإدهان إليه والميل إليه، والتودد إليه، والتقرب منه، ومعاونته في الأمر الذي يفعله، وقوله تعالى :﴿ الذين ظلموا ﴾ أي الذين وقع منهم الظلم وان لم يتصفوا بالظالمين واذا كان النهي عن مساندة الذين وقع منهم الظلم، فأولى بالنهي من يكون الظلم عادة وسياسة مستمرة لهم، ويلاحظ أن التعبير بالموصول فيه بيان بسبب النهي، وهو مرفوع الظلم منهم، ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في معاونة الظاليمن :" ومن سعى مع ظالم، فقد سعى إلى جهنم" ؛ لأنه عاونه في ظلمه، ولو أن الذين يظلمون لا يجدون من يعاونهم، ويمانعهم، وينصرونهم على المظلومين ما استمروا يرعونها، حتى تكون فيها أشواك الأذى الممزقة.
ولقد وجدنا ناسا في عهد طاغوت رأيناه أشد من فرعون عتوا، يمالئونه على المسلمين، حتى قتل، وآذى وقطع أطراف الشباب، ووصل عدد قتلاه خمسة وثلاثين ألف من المسلمين غير من قتلوا تحت حر السياط والتعذيب في سجونه التي فاقت سجن الحجاج طاغية العرب عددا، والحجاج كان عربيا، فلم يعذب، ولم يضرب بالسياط، لأن مروءة العربي تمنعه.
وقد كتب الزمخشري في هذا كتابة قيمة ننقلها من تفسيره، رضي الله عنه :"والنهي متناول الانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم، وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله تعالى :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ﴾ فإن الركون هو الميل اليسير، وقوله تعالى :﴿ إلى الذين ظلموا ﴾ أي الذين وقع منهم الظلم، ولم يقل الظالمين، فكيف بالظالم، وحكى أن الموفق ( أحد خلفاء العباسيين في عهد انحلال الحكم العباسي ) صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية، فغشى عليه، فلما آفاق قيل له، هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم. وعن الحسن( البصري ) رحمه الله :"جعل الله الدين بين لائين﴿ لا تطغوا ﴾، ﴿ لا تركنوا ﴾.....".
ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين :
"عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، قد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك ويرحمك، أصبحت شيخا كبيرا، وقد أثقلتك نعم الله، بما فهمك الله من كتابه، وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه :﴿.... لتبيننه للناس ولا تكتمونه..... ١٨٧ ﴾( آل عمران ). واعلم أن أيسر ما ارتكبت، وأخف ما احتملت، أنك آنست وحدة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك، اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم، وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم، وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الشك بك إلى العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم :﴿ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا٥٩ ﴾( مريم )، فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك، فقد دخله سقم، وهيء زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض، ولا في السماء والسلام" هذا كتاب واعظ، لتابع من أجل التابعين، وإن كان من أصغرهم سنا.
ويسترسل الزمخشري في نقل ما قاله العلماء في الظالمين، والذين يركنون إليهم كما نرى فيمن اتسموا بسمة العلم، قال رضي الله تعالى عنه وقال سفيان ( الثوري ) : في جهنم دار لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك....
وعن الأوزاعي "ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا"
وعن محمد بن مسلمة : الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصي الله في أرضه".
ولقد سئل سفيان الثوري، عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقي شربة ماء، فقال : لا. فقيل له يموت، فقال :" دعه يموت".
رضي الله عن الزمخشري، وإن كان لا نرضى عن فتيا سفيان الثوري الأخيرة، فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن القتل بالعطش، وهذا أمر بالإسعاف.
ولقد قال بعد النهي عن الركون إلى الظالم﴿ وما لكم من دون الله من أولياء ﴾، ﴿ من ﴾هنا لاستغراق النفي و﴿ أولياء ﴾النصراء أي ليس لهم من الذين يعادون الله بظلمهم، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى :﴿ من دون الله ﴾ أي أولياء أحباء مناصرون.
﴿ ثم لا تنصرون ﴾ العطف ب﴿ ثم ﴾ هنا، وهي دالة على التراخي لبيان البعد بين الانتصار، وموالاة الظالمين، أو الركون إليهم بموادتهم، ومعاونتهم.
اللهم لا تؤاخذنا بما كان منا للظالمين من سكوت، في كثير من الأحيان، اللهم هيئ نفوس حكامنا للعدل، فإنهم أضاعوا المسلمين بظلمهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولقد قال تعالى بعد النهي عن الفساد، آمرا بالصلاح، لأن التخلية قبل التحلية.
﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ١١٤ ﴾.
هذا معطوف على الأوامر والمنهيات قبله، وقلنا إنه سبحانه نهى عن الظلم والطغيان، والامتناع عن الظلم والطغيان فعل الخير، وإن الظاهر من هذه الآية، وآية الروم، وهي قوله تعالى :﴿ فسبحانه الله حين تمسون وحين تصبحون ١٧وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون ١٨ ﴾ ( الروم )، فإن هاتين الآيتين تومئان إلى أوقات الصلوات الخمس، فكانت بعد فرضيتها في المعراج.
وإقامة الصلاة في الأمر﴿ وأقم الصلاة ﴾ الإتيان مقومة مستوفية أركانها الظاهرة والباطنة من خلوص المشيئة لله تعالى : واستشعار معاني الأركان النفسية، وألا يقصد بها المراءاة، فمن صلى يرائي فقد أشرك، وقال تعالى :﴿ فويل للمصلين ٤ الذين هم عن صلاتهم ساهون ٥ الذين هم يراءون٦ ويمنعون الماعون ٧ ﴾( الماعون ).
وطرفا النهار ما هما ؟، اختلفت الروايات في ذلك، وأقربها في اعتقادنا، وهو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الطرفين الفجر أوالصبح، وما بعد الظهر، وزلفا من الليل والزلف الساعات المتقاربة، وفسرها النبي بأنها المغرب والعشاء، وسميت زلفا من الليل، لأن ساعاتهما متقاربة، فما بين المغرب والعشاء متقارب إلى حد اختلاط زمنهما، والاختلاف في حد ما بينهما، وهما بإجماع العلماء صلاة العشي.
وإن تعيين الآيات تقارب أو يتعين اتحادها في هذه الآية، وآية الروم، ولا شك أن إقامة الصلوات الخمس مستوفيات أركانها الظاهرة والباطنة، والاستمرار عليها يطهر النفس من أرجاسها، ويمحو تلك المعاصي التي يغبر بها القلب، ولقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم :" الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر"١.
وذكر شرط اجتناب الكبائر ؛ لأنه لا يمكن أداء هذه العبادات على وجهها، مجتمعا مع الكبائر قط، إذ لا يجتمع في قلب مؤمن عبادة أديت على وجهها، وارتكاب كبيرة، ولقد أثر على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن"٢.
ولذا قال تعالى بعد الأمر بإقامة الصلاة في وقتها :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ لأن الحسنات نور يدخل القلب فيزيل غمته، وهي طهارة ترحض ما في النفس من أدران الشر، وأخباثه.
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار "٣.
وإن الصلوات الخمس- إن أقيمت على وجهها- أشد العبادات محاربة للعاصي، ولذا قال تعالى :﴿.... إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون٤٥ ﴾( العنكبوت )وإن توزيعها في أوقاتها جلاء النفوس، فإنه إذا أقبل الفجر، وأصبح الصباح أدى صلاة الفجر، فتجلوا صدأ النفس ويستقبل الحياة بقلب سليم، فيعمل في الحياة طاهرا حتى إذا ابتدأت النفس تصدأ بالاحتكاك بالناس جاءت صلاة الظهر، فأزالت ذلك الصدأ، ثم من بعد ذلك العصر، وزلف الليل المغرب والعشاء.
ولقد روى البخاري عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى قوله تعالى :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾٤.
ولقد قال تعالى :﴿ ذلك ذكرى للذاكرين ﴾ الإشارة إلى القيام بالفرائض الخمس، وقال المفسرون : إنه إشارة إلى القرآن، وكانت الإشارة إلى البعيد لعلو منزلته، ورفعة مكانته، وبعد شأوه، ولا مانع فيما نرى أنها للقيام إلى الصلوات الخمس، لهذه المعاني أيضا، والمشار إليه مذكورا.
والذكرى التذكر الدائم الباقي المستمر، ولا شك أن أداء الصلوات الخمس في مواقيتها على الوجه الكامل يجعل نفس المؤمن في ذكر دائم لله، ولذا ختم الله تعالى آية الصلاة إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر بقوله تعالى :﴿.... ولذكر الله أكبر... ٤٥ ﴾( العنكبوت ).
وإن العبادات أداؤها على الوجه الأكمل الذي أشرنا إليه يحتاج إلى صبر وضبط النفس، ولذا قال تعالى :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ٤٥ ﴾( البقر ة )، ولذا قرن الأمر بإقامة الصلاة، بالأمر بالصبر، فقال تعالى :
١ رواه مسلم: الطهارة-الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة(٢٣٣)عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ سبق تخريجه..
٣ سبق تخريجه..
٤ رواه البخاري: مواقيت الصلاة-الصلاة كفارة (٥٢٦)، ومسلم: التوبة (٢٧٦٣).
﴿ واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين١١٥ ﴾.
الأمر في هذه الآية وما قبلها للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء، ولمن يتبعه من المؤمنين انتهاء، وهنا ملاحظة بيانية، تليق بالقرآن الكريم المعجزة الكبرى في بيانه، وكل شئونه.
هذه الملاحظة هي أنه في المطالب الإيجابية يكون الخطاب في هذه الآيات للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء، ويكون لأمته بالتبع، ولكن في هذه الآيات نجد النهي متجها ابتداء إلى الجماعة الإسلامية، فقال تعالى :﴿ ولا تطغوا ﴾ وقال تعالى :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ﴾ ؛ لأنه لا نهي إلا حيث يتصور وقوع النهي عنه، ولا يمكن أن يتصور من النبي صلى الله عليه وسلم طغيان، أو ركون إلى الظالمين. والصبر ضبط النفس عند وقوع ما لا يرغب، أو ما يرغب، فالصبر على النعمة، لا يفرح بها فلا يبطرها بل يشكرها، والصبر على وقوع ما لا يرغب بأن تنزل به شديدة فإنه يكون بألا يفزع ولا يهلع، فيضطرب تفكيره، ويطيش ولا يتدبر الأمر في رفق، وثبات جأش، واطمئنان وقلب.
وبين الله تعالى أن الصبر من إحسان المحسنين فقال تعالت كلماته :﴿ واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ أي الذين يعملون العمل الصالح، ويحسنونه، ويداومون عليه بالصبر، ولا يجزعون لحرمان أو شدة، ولا يأشرون ويبطرون إن اختبرهم الله تعالى.
الفساد يعم بسكوت الأخيار
قال تعالى :
فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين١١٦ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ١١٧ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ١١٨ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين١١٩
قال تعالى في بيان ما يصلح الأمة :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكروأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ ( آل عمران )، إن الجماعة إذا كان فيها من يدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر جعلها فضلاؤها، كلها فاضلة، ولقد بين سبحانه وتعالى أن سبب فساد السابقين الذين أصابهم الله تعالى بالهلاك هو أن أهل الفضل لم يدعو إليه ولو أنهم دعوا ما استجابوا لهم، فقال :﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض{، { بقية ﴾ معناها العقل والفضل، والخلق المستقيم، و( لولا ) )إما أن نقول إنها شرطية حرف امتناع لوجود، وجوابها محذوف تقديره مثلا لاستقامت أمورهم ولاستجابوا لدعوة الحق إذا دعوا إليها.
أو نقول إن( لولا ) بمعنى( هلا ) للتحريض على أن يكون منهم فضلا، لنجاتهم، ولكن كيف يقال إن ثمة تحريضا، وقد مضوا بما كان منهم، والتحريض للحاضرين لا للغابرين، والجواب عن ذلك القصة الصادقة تصورهم حاضرين ويكون التحريض لهم على التصوير، وللقائمين ليتعظوا ويعتبروا. وإطلاق كلمة البقية على الفضل إطلاق في اللغة العربية حلله الزمخشري بقوله رضي الله عنه :
﴿ أولوا بقية ﴾ أولو فضل وخير، وسمي الفضل، والجودة بقية ؛ لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، فصارمثلا، في الجودة والفضل، ويقال فلان من بقية القوم، أي من خيارهم، وبه فسر بيت الحماسة :
"أن تزينوا ثم يأتيني بقيتكم.....
ومن قولهم في الزوايا حنايا، وفي الرجال بقايا". وهكذا نجد الزمخشري اللغوي البليغ يرد أصل الاستعمال القرآن إلى معناه السليم الدقيق العميق، وإن الكلام الكريم فوق كل كلام.
وخلاصة ما يرمي إليه النص أن الأمم إنما تسير في طريق الهلاك، إذا سكت عقلاؤهم عن النطق بالحق في إبانه، فما كفر مشركو قريش إلا لأنه لم يكن من رشدائهم من يقاوم أمثال أبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم في طغيانهم وظلمهم.
ولذا قال تعالى في عمل أولي البقية لو صلحوا :﴿ ينهون عن الفساد في الأرض ﴾ من فشو الأراذل، كما فشا في قوم لوط، ومن تطفيف الكيل والميزان كما فشا في قوم شعيب، ومن الشرك فيهم جميعا، حتى لقد كانوا يعبدون الأحجار ولا يوجد فيهم من يبين أنها لا تضر ولا تنفع، ولما جاءهم الرسل، سكت أولو البقية، ولم يرشدوا، ولم ينادوا بالحق، منكر، نسكت من ينتظر منهم قول فاضل، وتكلم المستهزءون من الحق والساخرون.
وقال تعالى :﴿ إلا قليلا ممن أنجينا منهم ﴾ ( من ) الأولى بيانية، و( من ) في( منهم ) تبعيضية، والاستثناء قال المفسرون البلاغيون : إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن، أي لكن قليلا منهم ممن أنجيناهم منهم قد استقاموا على الطريقة، واتبعوا سبيل الرشاد.
ولا مانع أن يكون الاستثناء متصلا غير منقطع، ويكون المعنى فلولا كان من القرون أولو بقية، أي ما كان من القرون قبلكم أولو فضل إلا الذين قليلا أنجيناهم منهم، ويكون في النص قصر الفضل على الذين اتبعوا الأنبياء، وأرى أ هذا أقرب، وعليه يكون الذين بعث فيهم النبيون قسم تبعهم، وأنجاهم الله، وهم عدد قليل، وقسم عصوا ربهم، وهم الظالمون، وقد بين سبحانه أمرهم فقال عز من قائل :﴿ واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ﴾.
أي أن الفريق الظالم اتبع ما أترفوا فيه أي اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه من الهوى والشهوات بكل أنواعها شهوة السلطان والجاه، وشهوة الاقتراب من الحكام، والازدلاف إليهم، وشهوة التحكم في الضعفاء، وشهوة الأثرة وفي الجملة الترف كل ما يتنعم به من مادة ومن امور اخرى ؛ والترف والاثرة متلازمان فحيثما كان الترف كانت الاثرة لأن من يطلب النعم لا يهمه إن كان من طيب أم كان من خبيث، وأكان باعتداء أم كان من غير اعتداء.
وإن المترفين الأثرين هم دعاة الشر دائما، ويقول تعالى :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا١٦ ﴾( الإسراء ).
وقوله تعالى :﴿ واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ﴾ في أمور ثلاثة :
الأمر الأول : اتبع أي طلبوه، وساروا وراء الترف لا يلوون عنه.
الأمر الثاني : ذكر أنهم ظلموا، أي تجاوزوا الحد، واعتدوا، ودفعهم ظلمهم إلى هذا الاتباع.
الأمر الثالث : أنهم اتبعوا الترف وشهوات الترف، فهذا كقوله اتبعوا الشهوات.
ولقد وصفهم- سبحانه وتعالى – مسجلا عليهم الإجرام، والآثام، فقال :﴿ وكانوا مجرمين ﴾ أي استمروا في ماضيهم متجمعين على الإجرام، حتى صار الإجرام وصفا ملازما لهم.
وإن هذا الإجرام، والسكوت عن النهي على الفساد، وترك الأشرار يرتعون، وترك الظالمين يترفون يجعل الأمة كلها فاسدة وظالمة، وبذلك تهلك، ولذا قال تعالى :
﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون١١٧ ﴾.
الظلم ذكر بعض العلماء أنه الشرك لقوله تعالى حاكيا عن لقمان :﴿.... إن الشرك لظلم عظيم١٣ ﴾ ( لقمان ). وإنه ظلم بلا ريب فيه، ويكون المعنى على هذا : وما كان الله يهلك القرى بشركها، وأهلها مصلحون فيما بينهم يتعاونون، ويقيم الحق في معاملاتهم حتى لقد قال بعضهم إن الشرك مع إقامة العدل لا يهلك، والإيمان مع ظلم التعامل يهلك الأمم.
وقال بعض المفسرين : إن المراد والظاهر أنه مراد، أنه ما كان ربك ليهلك القرى ظالما لها، وأهلها مصلحون يعدلون فيها بينهم، ولا يشركون بالله ولا يكون منهم ظلم بل نصفة وعدل، فما كان الله ظالما لعباده.
وعندي قوله تعالى :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى ﴾ بظلمها، وأهلها متعاونون، صالحون للبقاء، والظلم أعم من الشرك، والاعتداء في المعاملات، والفساد، والتخريب، وقطع أمر الله تعالى به أن يوصل.
و﴿ ما ﴾ هنا نافية، و( اللام ) لتأكيد النفي، ولذا تسمى عند النحويين لام الجحود، والمعنى ما صح وما استقام لربك الذي خلقك وقام على تدبير أمرك أن يهلك القرى بظلم يقع فيها، وأهلها مصلحون، متعاونون في الإصلاح كما أشرنا، وفاضلهم ينصح أرذلهم، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر قائمون بواجبهم، قد ابتغوا الغاية السامية، وهي نشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، قائمين بالقسط شهداء الله.
ولقد روى الترمذي حديثا في هذا المعنى :" إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه"١.
وإنه قد حق على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الهلاك الذي نزل بها، لأن الظالم يظلم، ويجد الكثرة الكاثرة تؤيده، وتنصره على المظلومين، وتصفه بالحكمة والعدل والعبقرية، حتى اختلطت على الناس الألفاظ والحقائق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وإن إرادة الله تعالى تعلقت بتنازع الخير مع الشر، من وقت أن هبط آدم وإبليس إلى هذه الأرض وقال :﴿.... اهبطوا بعضكم لبعض عدو.... ٣٦ ﴾ ( البقرة ) بتنازع الخير والشر، في نفس كل إنسان، كما قال تعالى :﴿ وهديناه النجدين١٠ ﴾( البلد )حتى إن كف النفس عن الشر يعد جهادا، يثاب عليه، ويتنازع الآحاد بعضهم مع بعض، وتتنازع الجماعات وتتحارب الدول، وتلك إرادة الله، ولو شاء لخلقهم على منزع واحد، ولا تكون الحياة معتركا للخير والشر يتنازعان.
ولذا قال تعالى :
١ رواه الترمذي: الفتن- نزول العذاب إذا لم يغير المنكر(٢١٦٨)، كما رواه أحمد في مسند أبي بكر الصديق(٣٠)، وأبو داود في الملاحم(٤٣٣٨)، وابن ماجه في الفتن (٤٠٠٥)..
﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ١١٨ ﴾.
﴿ لو ﴾ هنا حرف امتناع لامتناع. امتناع الجواب لامتناع الشر، أي لو شاء ربك الذي خلقك وذرأك وكونك على أحسن تقويم أن يجعل الناس أمة واحدة، جماعة واحدة متحدة في هدايتها وتقواها لجعلها كذلك، وما كان التنازع بين الخير والشر، والعدل والظلم، والفضيلة والرذيلة، والرزق والحرمان، والغنى والفقر إلا بإرادته، بين- سبحانه وتعالى – أن ذلك الاختلاف دائم مستمر، فقال تعالى :﴿ ولا يزالون مختلفين ﴾ فيما بينهم في نفوسهم، وفي آحادهم، وفي جماعاتهم، وفي أممهم.
وإن الاختلاف على ذلك ابتلاء واختبار، ليبلو الناس فيما، فمن أراد الخير انتزعه من وسط الشر انتزاعا فيكون به الثواب الجزيل، ومن أراد الشر سار فيه، وأعلام الخير واضحة معلمة، تدعوه إلى سلوكه، فإن ضل فعن بينة، والله من ورائه محيط، ويكون الجزاء لمن ضل عن سبيله جزاء وفاقا لما جنى على نفسه، وعلى الحق ثم يقول سبحانه :
﴿ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ﴾.
الضمير في﴿ خلقهم ﴾ يصح أن يعود إلى الناس، ويكون الاستثناء في قوله :﴿ إلا من رحم ﴾ استثناء من الاختلاف ويكون المعنى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة في الهداية والتقوى والفضيلة، ولكنه لم يشأ ذلك إلا في الذين رحمهم، وتكون( اللام ) للتعليل، أي أن الله تعالى خلق الناس متنازعين في الخير والشر، ولا يهتدي إلى الخير إلا الخلصاء الأطهار، ولذلك خلق الناس مختلفين لتبيين الصفوة، ولتصل إلى الخير في وسط أشواك من الباطل فيكون لهم فضل الجهاد في الوصول إلى الحق.
ويصح أن يعود الضمير إلى قوله تعالى :﴿ إلا من رحم ﴾ أي المستثنى ويكون المعنى كالأول في نتيجته، وغايته اى أن الله تعالى خلق الناس مختلفين متعاركين يخلص الصفوة المرضية، ولأجل تلك الصفوة، والمؤدي في التخريجين أن الله تعالى خلق الناس كذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، كما قال تعالى :﴿ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب... ١٧٩ ﴾ ( آل عمران ).
وإن القلة التي يرحمها الله بالإيمان، والكثرة هي تكون في النار، ولذا قال تعالى :
﴿ وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين ﴾.
أشار سبحانه وتعالى إلى الذين رحمهم الله تعالى، وفي هذا النص يذكر الذين عصوا أمر ربهم، والرحمة بهم ليست من عدل الله، لأنهم لم يرحموا أنفسهم، ومن لا يرحم لا يرحم، فقال تعالى :﴿ وتمت كلمة ربك ﴾.
وتمام الكلمة إحكامها بحيث لا يتغير، ولا تتبدل، ولا تتخلف، وكلمة الله تعالى هي أمره الذي ظهر في قوله. وفي الكلام قسم مطوي دلت عليه اللام في﴿ لأملأن ﴾ فهي لام القسم، ونون التوكيد ملازمة للقسم فهي أيضا دالة عليه، وقوله تعالى :﴿ من الجنة والناس أجمعين ﴾.
﴿ من ﴾ هنا لبيان من يملأ منهم، و﴿ الجنة ﴾ الكلام على تقدير العصاة أي من عصاة الجن، وعصاة الإنس، والجن عبر عنهم بالجنة، والإنس عبر عنهم بالناس كما في قوله تعالى :﴿ من الجنة والناس ٦ ﴾ ( الناس ).
وقدر عصاة لأمرين :
الأمر الأول : أن الجزاء بجهنم كما في عرف القرآن، وكما هو العقل – يكون للعصاة.
الأمر الثاني : أن الناس مختلفون، فذكر الله تعالى أهل الطاعة، وتفضل عليهم برحمته، فقال فيما سلف﴿ إلا من رحم ﴾ والمخالفون لهم هم العصاة، وكان بمقتضى التقسيم أن تكون لهم جهنم، وقد تأكد أنهم يملأونها.
وعلى ذلك تكون كلمة﴿ أجمعين ﴾ تأكيد، بأن العصاة كلهم سيدخلون جهنم، وتمتلئ بهم لا يفر منها جبار، ولا نافخ نار.
وإذا أريد جنس الجنة، وجنس النار يكون الظاهر، أنه لا ينجو من أحد الجنسين أحد، ويكون التأكيد لبيان أنه يستوي الجنسان، في ألا يغادرها أحد، كما تقول ملأنا الحقيبة من أوراق امتحان الشريعة، والمدني والجنائي، جميعا، أي فيها الأصناف جميعا غير متخلف بها صنف من هذه الأصناف.
ولا شك أن التقدير الأول أظهر وأبين، وسياق القول يقتضيه، ولقد روى في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة : مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس. وقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، فقال الله تعالى للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار : أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما الجنة : فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله خلقا يملأ فضل الجنة، وأما النار فلا تزال تقول : هل من مزيد، حتى يضع عليها رب العزة قدمه فتقول قط قط"١، والله أعلم.
القصص لتثبيت النبي ووعظ المؤمنين
قال تعالى :
١ رواه البخاري: التوحيد: ما جاء في قوه تعالى:﴿إن رحمت الله قريب من المحسنين ٥٦﴾(الأعراف) (٧٤٤٩)، وتكرر ثلاث مرات بنحو من هذا، كما رواه مسلم: الجنة وصفة نعيمها – النار يدخلها المتكبرون (٢٨٤٧)، بلفظ:" تحاجت الجنة والنار"، وفيه:" فأما الجنة فينشيئ الله لها خلقا".
.

وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ١٢٠ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ١٢١ وانتظروا إنا منتظرون ١٢٢ ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون ١٢٣
﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ﴾ التنوين في﴿ كلا ﴾ عوض عن مضاف إليه محذوف يقدر بما يتناسب مع ما يجيء بعده، و﴿ كلا ﴾ منصوب بقوله تعالى :﴿ نقص ﴾ والتقدير على ذلك، وكل نبأ أو كل خبر، أو كل قصص، نقصه عليك متى نخبرك به متتبعين خفاياه، كما يتتبع قاص الأثر الآثار.
وقوله تعالى :﴿ من أنباء الرسل ﴾ أي أخبارهم ذات الشأن كدعوتهم إلى التوحيد، ورد أقوامهم، ومعاندتهم، ثم نزول الهلاك بهم، بعد أن استيئس الرسل، ووقع في نفوسهم أنهم كذبوا، ولا علاج في رشدهم، وإقرار الله تعالى لما آل إليه أمر هؤلاء المكذبين كقوله لنوح :﴿.... أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن.... ٣٦ ﴾وذكر الله تعالى، ثمرة هذا القصص الذي يقصه تعالى من أنباء المرسلين، فقال عز من قائل :
﴿ ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ﴾.
فكأن الثمرات لهذا القصص الصادق ثلاث :
الأولى : تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم إزاء إنكار المشركين وإيذائهم للنبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين فإن أولئك الرسل أوذوا كما أوذي، وكانت الباقية لهم وللمتقين فليطمئن النبي عليه الصلاة والسلام إلى العاقبة، ولا يغرنك تقلبهم في البلاد فالعاقبة لك ولأصحابك، ومعنى تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم زيادة تثبيته بأنه لم يكن بدعا من الرسل، وإذا كان الله تعالى قد عذب أقوام الأنبياء الصادقين بالعذاب الذي يجتث من فوق الأرض العصاة، فإنه سيعذب قومك بأمر إرادي كذلك لينتفي الظالمون، فيحصدون بالسيف، ويبقى غيرهم ممن يرجى أن يكون منهم أو من أصلابهم من يعبد الله.
الثانية : الموعظة، وهي الاتعاظ بمن أنزل الله تعالى عليهم العذاب، والاتعاظ طريق الإيمان، ومن لم يتعظ بغيره، فالبلاء في نفسه شديد، وهذا الاتعاظ للمؤمنين أي الذين في قلوبهم اتجاه إلى الإيمان.
الثالثة : الذكرى، أي التذكر الدائم المستمر لما نزل بالأقوام الظالمة.
وهذه أيضا للمؤمنين والذين يتجهون بقلب مدرك للإيمان، هذه ثمرات القصص.
وقد ذكر الله تعالى بعد تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل موعظة المؤمنين، ﴿ وجاءك في هذه الحق ﴾ مؤكدا أن هذه الإيتاء هو الحق الكامل الذي لا حق فوقه لأنه ثابت صادق، وفيه التثبيت والموعظة، والتذكر الدائم، وقد أكد سبحانه، وتعالى أنه الحق ب﴿ ال ﴾ التي تدل على أنه كمال الحق لا ريب فيه﴿ في هذه ﴾ أكثر المفسرين على أن الإشارة إلى السورة، لأنها اشتملت على قصص مفصل لبعض الأنبياء.
وروى عن قتادة أن الإشارة إلى الدنيا، والله أعلم.
بعد ذلك أمر الله تعالى نبيه أن ينبه المشركين إلى هذه القصص الصادق، وفي هذا التنبيه تهديد لهم فقال تعالى :
﴿ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ١٢١ ﴾.
المكانة الحال، وما تمكنوا منه، والأمر للتهديد، كما تقول لمن يفعل الشر، افعل ما يبدو لك، وكما قال صلى الله عليه وسلم :" إن مما أدركه الناس من أقوال النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت"١، وكما في قوله تعالى :﴿.... اعملوا ما شئتم... ٤٠ ﴾( فصلت ).
فالأمر للتهديد، وعبر الله تعالى عن المشركين بقوله تعالى :﴿ للذين لا يؤمنون ﴾ بفعل المضارع، أي ليس عن طبيعتهم، وكيانهم أن يؤمنوا، فالكافر الجاحد تنحل عقدة الإيمان في قلبه، فلا ينعقد قلبه على إيمان، بل هو جاحد مضطرب الفكر والنفس والقلب تأسره الأهواء المتنازعة، ويسير مع أشدها انحرافا، وأقواها استهواء﴿ اعملوا على مكانتكم ﴾، أي على حالكم التي أنتم عليها من الغي والضلال، والاستكثار من الأموال، والأهواء والشهوات، وكل ما تمكنون منه من أهواء وشهوات ومفاسد، وبين أن المؤمنين والنبي عاملون فقال :﴿ إنا عاملون ﴾ أي مستمرون في حالنا من إيمان، وإذعان للحق، وصبر على آذاكم والعاقبة ليست واحدة، فأنتم إلى طريق النار، وغضب الله، ونحن إلى طريق رضا الله، ولكم عبرة ممن مضوا، وقد علمتم قصصهم، ثم أكد- سبحانه وتعالى – التهديد، والبشرى للمؤمنين، فقال :
١ سبق تخريجه..
﴿ وانتظروا إنا منتظرون١٢٢ ﴾ أي انتظروا بقية أعمالكم، وعواقب فسادكم وجحودكم، وما استهواكم من مفاسد، و﴿ إنا منتظرون ﴾ ما نرجو من رحمته ورضوانه، وجزاء وفاقا لأعمالنا.
وهذه مقابلة بين الحق والباطل، وسوءى الباطل، وحسنى العاقبة في الحق والله بكل شيء عليم.
Icon