تفسير سورة المسد

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة المسد من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل :
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :" تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب " فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتك الْأَقْرَبِينَ " [ الشُّعَرَاء : ٢١٤ ] وَرَهْطك مِنْهُمْ الْمُخْلِصِينَ، خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَفَ : يَا صَبَاحَاهُ ! فَقَالُوا : مَنْ هَذَا الَّذِي يَهْتِف ؟ قَالُوا مُحَمَّد.
فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ.
فَقَالَ :[ يَا بَنِي فُلَان، يَا بَنِي فُلَان، يَا بَنِي فُلَان، يَا بَنِي عَبْد مَنَاف، يَا بَنِي عَبْد الْمُطَّلِب ] فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ.
فَقَالَ :[ أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُج بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَل أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ] ؟ قَالُوا : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا.
قَالَ :[ فَإِنِّي نَذِير لَكُمْ بَيْن يَدَيَّ عَذَاب شَدِيد ].
فَقَالَ أَبُو لَهَب : تَبًّا لَك، أَمَا جَمَعْتنَا إِلَّا لِهَذَا ! ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَة :" تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَقَدْ تَبَّ " كَذَا قَرَأَ الْأَعْمَش إِلَى آخِر السُّورَة.
زَادَ الْحُمَيْدِيّ وَغَيْره : فَلَمَّا سَمِعَتْ اِمْرَأَته مَا نَزَلَ فِي زَوْجهَا وَفِيهَا مِنْ الْقُرْآن، أَتَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِس فِي الْمَسْجِد عِنْد الْكَعْبَة، وَمَعَهُ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَفِي يَدهَا فِهْر مِنْ حِجَارَة، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِ أَخَذَ اللَّه بَصَرهَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَرَى إِلَّا أَبَا بَكْر.
فَقَالَتْ : يَا أَبَا بَكْر، إِنَّ صَاحِبك قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَهْجُونِي، وَاَللَّه لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْت بِهَذَا الْفِهْر فَاهُ، وَاَللَّه إِنِّي لَشَاعِرَة :
مُذَمَّمًا عَصَيْنَا... وَأَمْره أَبَيْنَا... وَدِينه قَلَيْنَا
ثُمَّ اِنْصَرَفَتْ.
فَقَالَ أَبُو بَكْر : يَا رَسُول اللَّه، أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك ؟ قَالَ :[ مَا رَأَتْنِي، لَقَدْ أَخَذَ اللَّه بَصَرهَا عَنِّي ].
وَكَانَتْ قُرَيْش إِنَّمَا تُسَمِّي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُذَمَّمًا ; يَسُبُّونَهُ، وَكَانَ يَقُول :[ أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا صَرَفَ اللَّه عَنِّي مِنْ أَذَى قُرَيْش، يَسُبُّونَ وَيَهْجُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّد ].
وَقِيلَ : إِنَّ سَبَب نُزُولهَا مَا حَكَاهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد أَنَّ أَبَا لَهَب أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَاذَا أَعْطَى إِنْ آمَنْت بِك يَا مُحَمَّد ؟ فَقَالَ :[ كَمَا يُعْطَى الْمُسْلِمُونَ ] قَالَ مَا لِي عَلَيْهِمْ فَضْل ؟.
قَالَ :[ وَأَيّ شَيْء تَبْغِي ] ؟ قَالَ : تَبًّا لِهَذَا مِنْ دِين، أَنْ أَكُون أَنَا وَهَؤُلَاءِ سَوَاء ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِيهِ.
" تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتَبَّ ".
وَقَوْل ثَالِث حَكَاهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن كَيْسَان قَالَ : كَانَ إِذَا وَفَدَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اِنْطَلَقَ إِلَيْهِمْ أَبُو لَهَب فَيَسْأَلُونَهُ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ لَهُ : أَنْتَ أَعْلَم بِهِ مِنَّا.
فَيَقُول لَهُمْ أَبُو لَهَب : إِنَّهُ كَذَّاب سَاحِر.
فَيَرْجِعُونَ عَنْهُ وَلَا يَلْقَوْنَهُ.
فَأَتَى وَفْد، فَفَعَلَ مَعَهُمْ مِثْل ذَلِكَ، فَقَالُوا : لَا نَنْصَرِف حَتَّى نَرَاهُ، وَنَسْمَع كَلَامه.
فَقَالَ لَهُمْ أَبُو لَهَب : إِنَّا لَمْ نَزَلْ نُعَالِجهُ فَتَبًّا لَهُ وَتَعْسًا.
فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتَأَبَ لِذَلِكَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب "... السُّورَة.
وَقِيلَ : إِنَّ أَبَا لَهَب أَرَادَ أَنْ يَرْمِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرٍ، فَمَنَعَهُ اللَّه مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتَبَّ " لِلْمَنْع الَّذِي وَقَعَ بِهِ.
وَمَعْنَى " تَبَّتْ " : خَسِرَتْ ; قَالَ قَتَادَة.
وَقِيلَ : خَابَتْ ; قَالَ اِبْن عَبَّاس.
وَقِيلَ : ضَلَّتْ ; قَالَهُ عَطَاء.
وَقِيلَ : هَلَكَتْ ; قَالَهُ اِبْن جُبَيْر.
وَقَالَ يَمَان بْن رِئَاب : صَفِرَتْ مِنْ كُلّ خَبَر.
حَكَى الْأَصْمَعِيّ عَنْ أَبِي عَمْرو بْن الْعَلَاء أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَان رَحِمَهُ اللَّه سَمِعَ النَّاس هَاتِفًا يَقُول :
لَقَدْ خَلَّوْك وَانْصَرَفُوا... فَمَا أَبَوْا وَلَا رَجَعُوا
وَلَمْ يُوفُوا بِنَذْرِهِمْ... فَيَا تَبًّا لِمَا صَنَعُوا
وَخَصَّ الْيَدَيْنِ بِالتَّبَابِ، لِأَنَّ الْعَمَل أَكْثَر مَا يَكُون بِهِمَا ; أَيْ خَسِرَتَا وَخَسِرَ هُوَ.
وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْيَدَيْنِ نَفْسه.
وَقَدْ يُعَبَّر عَنْ النَّفْس بِالْيَدِ، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى :" بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاك " [ الْحَجّ : ١٠ ].
أَيْ نَفْسك.
وَهَذَا مَهْيَع كَلَام الْعَرَب ; تُعَبِّر بِبَعْضِ الشَّيْء عَنْ كُلّه ; تَقُول : أَصَابَتْهُ يَد الدَّهْر، وَيَد الرَّزَايَا وَالْمَنَايَا ; أَيْ أَصَابَهُ كُلّ ذَلِكَ.
قَالَ الشَّاعِر :
لَمَّا أَكَبَّتْ يَد الرَّزَايَا... عَلَيْهِ نَادَى أَلَا مُجِير
" وَتَبَّ " قَالَ الْفَرَّاء : التَّبّ الْأَوَّل : دُعَاء وَالثَّانِي خَبَر ; كَمَا يُقَال : أَهْلَكَهُ اللَّه وَقَدْ هَلَكَ.
وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه وَأُبَيّ " وَقَدْ تَبَّ " وَأَبُو لَهَب اِسْمه عَبْد الْعُزَّى، وَهُوَ اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب عَمّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَامْرَأَته الْعَوْرَاء أُمّ جَمِيل، أُخْت أَبِي سُفْيَان بْن حَرْب، وَكِلَاهُمَا، كَانَ شَدِيد الْعَدَاوَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ طَارِق بْن عَبْد اللَّه الْمُحَارِبِيّ : إِنِّي بِسُوقِ ذِي الْمَجَاز، إِذْ أَنَا بِإِنْسَانٍ يَقُول :[ يَأَيُّهَا النَّاس، قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه تُفْلِحُوا ]، وَإِذَا رَجُل خَلْفه يَرْمِيه، قَدْ أَدْمَى سَاقَيْهِ وَعُرْقُوبَيْهِ وَيَقُول : يَأَيُّهَا النَّاس، إِنَّهُ كَذَّاب فَلَا تُصَدِّقُوهُ.
فَقُلْت مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : مُحَمَّد، زَعَمَ أَنَّهُ نَبِيّ.
وَهَذَا عَمّه أَبُو لَهَب يَزْعُم أَنَّهُ كَذَّاب.
وَرَوَى عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ أَبُو لَهَب : سَحَرَكُمْ مُحَمَّد إِنَّ أَحَدنَا لَيَأْكُل الْجَذَعَة، وَيَشْرَب الْعُسّ مِنْ اللَّبَن فَلَا يَشْبَع، وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَشْبَعَكُمْ مِنْ فَخِذ شَاة، وَأَرْوَاكُمْ مِنْ عُسّ لَبَن.
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى :" أَبِي لَهَب " قِيلَ : سُمِّيَ بِاللَّهَبِ لِحُسْنِهِ، وَإِشْرَاق وَجْهه.
وَقَدْ ظَنَّ قَوْم أَنَّ فِي هَذَا دَلِيلًا عَلَى تَكْنِيَة الْمُشْرِك ; وَهُوَ بَاطِل، وَإِنَّمَا كَنَّاهُ اللَّه بِأَبِي لَهَب - عِنْد الْعُلَمَاء - لِمَعَانٍ أَرْبَعَة : الْأَوَّل : أَنَّهُ كَانَ اِسْمه عَبْد الْعُزَّى، وَالْعُزَّى : صَنَم، وَلَمْ يُضِفْ اللَّه فِي كِتَابه الْعُبُودِيَّة إِلَى صَنَم.
الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَر مِنْهُ بِاسْمِهِ ; فَصَرَّحَ بِهَا.
الثَّالِث : أَنَّ الِاسْم أَشْرَف مِنْ الْكُنْيَة، فَحَطَّهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ الْأَشْرَف إِلَى الْأَنْقَص ; إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ الْإِخْبَار عَنْهُ، وَلِذَلِكَ دَعَا اللَّه تَعَالَى الْأَنْبِيَاء بِأَسْمَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ عَنْ أَحَد مِنْهُمْ.
وَيَدُلّك عَلَى شَرَف الِاسْم عَلَى الْكُنْيَة : أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُسَمَّى وَلَا يُكَنَّى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِظُهُورِهِ وَبَيَانه ; وَاسْتِحَالَة نِسْبَة الْكُنْيَة إِلَيْهِ، لِتَقَدُّسِهِ عَنْهَا.
الرَّابِع - أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُحَقِّق نِسْبَته، بِأَنْ يُدْخِلهُ النَّار، فَيَكُون أَبًا لَهَا، تَحْقِيقًا لِلنَّسَبِ، وَإِمْضَاء لِلْفَأْلِ وَالطِّيَرَة الَّتِي اِخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ.
وَقَدْ قِيلَ : اِسْمه كُنْيَته.
فَكَانَ أَهْله يُسَمُّونَهُ أَبَا لَهَب، لِتَلَهُّبِ وَجْهه وَحُسْنه ; فَصَرَفَهُمْ اللَّه عَنْ أَنْ يَقُولُوا : أَبُو النُّور، وَأَبُو الضِّيَاء، الَّذِي هُوَ الْمُشْتَرَك بَيْن الْمَحْبُوب وَالْمَكْرُوه، وَأَجْرَى عَلَى أَلْسِنَتهمْ أَنْ يُضِيفُوهُ إِلَى لَهَب الَّذِي هُوَ مَخْصُوص بِالْمَكْرُوهِ الْمَذْمُوم، وَهُوَ النَّار.
ثُمَّ حُقِّقَ ذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلهَا مَقَرّه.
وَقَرَأَ مُجَاهِد وَحُمَيْد وَابْن كَثِير وَابْن مُحَيْصِن.
" أَبِي لَهْب " بِإِسْكَانِ الْهَاء.
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي " ذَات لَهَب " إِنَّهَا مَفْتُوحَة ; لِأَنَّهُمْ رَاعُوا فِيهَا رُءُوس الْآي.
الثَّالِثَة : قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا خَلَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْقَلَم قَالَ لَهُ : اُكْتُبْ مَا هُوَ كَائِن، وَكَانَ فِيمَا كَتَبَ " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب ".
وَقَالَ مَنْصُور : سُئِلَ الْحَسَن عَنْ قَوْله تَعَالَى :" تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب ".
هَلْ كَانَ فِي أُمّ الْكِتَاب ؟ وَهَلْ كَانَ أَبُو لَهَب يَسْتَطِيع أَلَّا يَصْلَى النَّار ؟ فَقَالَ : وَاَللَّه مَا كَانَ يَسْتَطِيع أَلَّا يَصْلَاهَا، وَإِنَّهَا لَفِي كِتَاب اللَّه مِنْ قَبْل أَنْ يُخْلَق أَبُو لَهَب وَأَبَوَاهُ.
وَيُؤَيِّدهُ قَوْل مُوسَى لِآدَم :( أَنْتَ الَّذِي خَلَقَك اللَّه بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحه، وَأَسْكَنَك جَنَّته، وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَته، خَيَّبْت النَّاس، وَأَخْرَجْتهمْ مِنْ الْجَنَّة.
قَالَ آدَم : وَأَنْتَ مُوسَى الَّذِي اِصْطَفَاك بِكَلَامِهِ، وَأَعْطَاك التَّوْرَاة، تَلُومنِي عَلَى أَمْر كَتَبَهُ اللَّه عَلَيَّ قَبْل أَنْ يَخْلُق اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض.
قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( فَحَجَّ آدَم مُوسَى ).
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا.
وَفِي حَدِيث هَمَّام عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ آدَم قَالَ لِمُوسَى :( بِكُمْ وَجَدْت اللَّه كَتَبَ التَّوْرَاة قَبْل أَنْ يَخْلُقنِي ) ؟ قَالَ : بِأَلْفَيْ عَام قَالَ : فَهَلْ وَجَدْت فِيهَا :" وَعَصَى آدَم رَبّه فَغَوَى " قَالَ : نَعَمْ قَالَ : أَفَتَلُومنِي عَلَى أَمْر وَكَتَبَ اللَّه عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلهُ مِنْ قَبْل أَنْ أُخْلَق بِأَلْفَيْ عَام.
فَحَجَّ آدَم مُوسَى ).
وَفِي حَدِيث طَاوُس وَابْن هُرْمُز وَالْأَعْرَج عَنْ أَبِي هُرَيْرَة :[ بِأَرْبَعِينَ عَامًا ].
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
أَيْ مَا دَفَعَ عَنْهُ عَذَاب اللَّه مَا جَمَعَ مِنْ الْمَال، وَلَا مَا كَسَبَ مِنْ جَاه.
وَقَالَ مُجَاهِد : مِنْ الْوَلَد ; وَوَلَد الرَّجُل مِنْ كَسْبه.
وَقَرَأَ الْأَعْمَش " وَمَا اِكْتَسَبَ " وَرَوَاهُ عَنْ اِبْن مَسْعُود.
وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْل : جَاءَ بَنُو أَبِي لَهَب يَخْتَصِمُونَ عِنْد اِبْن عَبَّاس، فَاقْتَتَلُوا، فَقَامَ لِيَحْجِز بَيْنهمْ، فَدَفَعَهُ بَعْضهمْ، فَوَقَعَ عَلَى الْفِرَاش، فَغَضِبَ اِبْن عَبَّاس وَقَالَ : أَخْرِجُوا عَنِّي الْكَسْب الْخَبِيث ; يَعْنِي وَلَده.
وَعَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :[ إِنَّ أَطْيَب مَا أَكَلَ الرَّجُل مِنْ كَسْبه، وَإِنَّ وَلَده مِنْ كَسْبه ].
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا أَنْذَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيرَته بِالنَّارِ، قَالَ أَبُو لَهَب : إِنْ كَانَ مَا يَقُول اِبْن أَخِي حَقًّا فَإِنِّي أَفْدِي نَفْسِي بِمَالِي وَوَلَدِي ; فَنَزَلَ :" مَا أَغْنَى عَنْهُ مَاله وَمَا كَسَبَ ".
و " مَا " فِي قَوْله :" مَا أَغْنَى " : يَجُوز أَنْ تَكُون نَفْيًا، وَيَجُوز أَنْ تَكُون اِسْتِفْهَامًا ; أَيْ أَيّ شَيْء أَغْنَى عَنْهُ ؟ و " مَا " الثَّانِيَة : يَجُوز أَنْ تَكُون بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَجُوز أَنْ تَكُون مَعَ الْفِعْل مَصْدَرًا ; أَيْ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَاله وَكَسْبه.
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ
أَيْ ذَات اِشْتِعَال وَتَلَهُّب.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْمُرْسَلَات " الْقَوْل فِيهِ.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة :" سَيَصْلَى " بِفَتْحِ الْيَاء.
وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء وَالْأَعْمَش : بِضَمِّ الْيَاء.
وَرَوَاهَا مَحْبُوب عَنْ إِسْمَاعِيل عَنْ اِبْن كَثِير، وَحُسَيْن عَنْ أَبِي بَكْر عَنْ عَاصِم، وَرُوِيَتْ عَنْ الْحَسَن.
وَقَرَأَ أَشْهَب الْعُقَيْلِيّ وَأَبُو سَمَّال الْعَدَوِيّ وَمُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع " سَيُصَلَّى " بِضَمِّ الْيَاء، وَفَتْح الصَّاد، وَتَشْدِيد اللَّام ; وَمَعْنَاهَا سَيُصْلِيهِ اللَّه ; مِنْ قَوْله :" وَتَصْلِيَة جَحِيم " [ الْوَاقِعَة : ٩٤ ].
وَالثَّانِيَة مِنْ الْإِصْلَاء ; أَيْ يُصْلِيه اللَّه ; مِنْ قَوْله :" فَسَوْفَ نُصْلِيه نَارًا " [ النِّسَاء : ٣٠ ].
وَالْأُولَى هِيَ الِاخْتِيَار ; لِإِجْمَاع النَّاس عَلَيْهَا ; وَهِيَ مِنْ قَوْله :" إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيم " [ الصَّافَّات : ١٦٣ ].
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ
قَوْله تَعَالَى :" وَامْرَأَته " أُمّ جَمِيل.
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الْعَوْرَاء أُمّ قَبِيح، وَكَانَتْ عَوْرَاء.
" حَمَّالَة الْحَطَب " قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ : كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ بَيْن النَّاس ; تَقُول الْعَرَب : فُلَان يَحْطِب عَلَى فُلَان : إِذَا وَرَّشَ عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّاعِر :
إِنَّ بَنِي الْأَدْرَم حَمَّالُو الْحَطَبْ هُمُ الْوُشَاة فِي الرِّضَا وَفِي الْغَضَبْ
عَلَيْهِمْ اللَّعْنَة تَتْرَى وَالْحَرَب
وَقَالَ آخَر :
مِنْ الْبِيض لَمْ تُصْطَدْ عَلَى ظَهْر لِأُمَّةٍ وَلَمْ تَمْشِ بَيْن الْحَيّ بِالْحَطَبِ الرَّطْب
يَعْنِي : لَمْ تَمْشِ بِالنَّمَائِمِ، وَجَعَلَ الْحَطَب رَطْبًا لِيَدُلّ عَلَى التَّدْخِين، الَّذِي هُوَ زِيَادَة فِي الشَّرّ.
وَقَالَ أَكْثَم بْن صَيْفِيّ لِبَنِيهِ : إِيَّاكُمْ وَالنَّمِيمَة فَإِنَّهَا نَار مُحْرِقَة، وَإِنَّ النَّمَّام لِيَعْمَل فِي سَاعَة مَا لَا يَعْمَل السَّاحِر فِي شَهْر.
أَخَذَهُ بَعْض الشُّعَرَاء فَقَالَ :
إِنَّ النَّمِيمَة نَار وَيْك مُحْرِقَة فَقِرَّ عَنْهَا وَجَانِبْ مَنْ تَعَاطَاهَا
وَلِذَلِكَ قِيلَ : نَار الْحِقْد لَا تَخْبُو.
وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ لَا يَدْخُل الْجَنَّة نَمَّام ].
وَقَالَ :[ ذُو الْوَجْهَيْنِ لَا يَكُون عِنْد اللَّه وَجِيهًا ].
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام :[ مِنْ شَرّ النَّاس ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ ].
وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار : أَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيل قَحْط، فَخَرَجَ بِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ثَلَاث مَرَّات فَلَمْ يَسْتَسْقُوا.
فَقَالَ مُوسَى :[ إِلَهِي عِبَادك ] فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ :[ إِنِّي لَا أَسْتَجِيب لَك وَلَا لِمَنْ مَعَك لِأَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا نَمَّامًا، قَدْ أَصَرَّ عَلَى النَّمِيمَة ].
فَقَالَ مُوسَى :[ يَا رَبّ مَنْ هُوَ حَتَّى نُخْرِجهُ مِنْ بَيْننَا ] ؟ فَقَالَ :[ يَا مُوسَى أَنْهَاك عَنْ النَّمِيمَة وَأَكُون نَمَّامًا ] قَالَ : فَتَابُوا بِأَجْمَعِهِمْ، فَسُقُوا.
وَالنَّمِيمَة مِنْ الْكَبَائِر، لَا خِلَاف فِي ذَلِكَ ; حَتَّى قَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض : ثَلَاث تَهُدّ الْعَمَل الصَّالِح وَيُفْطِرْنَ الصَّائِم، وَيَنْقُضْنَ الْوُضُوء : الْغِيبَة، وَالنَّمِيمَة، وَالْكَذِب.
وَقَالَ عَطَاء بْن السَّائِب : ذَكَرْت لِلشَّعْبِيِّ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ لَا يَدْخُل الْجَنَّة سَافِك دَم، وَلَا مَشَّاء بِنَمِيمَةٍ، وَلَا تَاجِر يُرْبِي ] فَقُلْت : يَا أَبَا عَمْرو، قَرَنَ النَّمَّام بِالْقَاتِلِ وَآكِل الرِّبَا ؟ فَقَالَ : وَهَلْ تُسْفَك الدِّمَاء، وَتُنْتَهَب الْأَمْوَال، وَتُهَيَّج الْأُمُور الْعِظَام، إِلَّا مِنْ أَجْل النَّمِيمَة.
وَقَالَ قَتَادَة وَغَيْره : كَانَتْ تُعَيِّر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَقْرِ.
ثُمَّ كَانَتْ مَعَ كَثْرَة مَالهَا تَحْمِل الْحَطَب عَلَى ظَهْرهَا ; لِشِدَّةِ بُخْلهَا، فَعُيِّرَتْ بِالْبُخْلِ.
وَقَالَ اِبْن زَيْد وَالضَّحَّاك : كَانَتْ تَحْمِل الْعِضَاه وَالشَّوْك، فَتَطْرَحهُ بِاللَّيْلِ عَلَى طَرِيق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه ; وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
قَالَ الرَّبِيع : فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطَؤُهُ كَمَا يَطَأ الْحَرِير.
وَقَالَ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ : كَانَتْ أُمّ جَمِيل تَأْتِي كُلّ يَوْم بِإِبَالَةٍ مِنْ الْحَسَك، فَتَطْرَحهَا عَلَى طَرِيق الْمُسْلِمِينَ، فَبَيْنَمَا هِيَ حَامِلَة ذَات يَوْم حُزْمَة أَعْيَتْ، فَقَعَدَتْ عَلَى حَجَر لِتَسْتَرِيحَ، فَجَذَبَهَا الْمَلَك مِنْ خَلْفهَا فَأَهْلَكَهَا.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : حَمَّالَة الْخَطَايَا وَالذُّنُوب ; مِنْ قَوْلهمْ : فُلَان يَحْتَطِب عَلَى ظَهْره ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى :" وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارهمْ عَلَى ظُهُورهمْ " [ الْأَنْعَام : ٣١ ].
وَقِيلَ : الْمَعْنَى حَمَّالَة الْحَطَب فِي النَّار ; وَفِيهِ بُعْد.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " حَمَّالَة " بِالرَّفْع، عَلَى أَنْ يَكُون خَبَرًا " وَامْرَأَته " مُبْتَدَأ.
وَيَكُون " فِي جِيدهَا حَبْل مِنْ مَسَد " جُمْلَة فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ الْمُضْمَر فِي " حَمَّالَة ".
أَوْ خَبَرًا ثَانِيًا.
أَوْ يَكُون " حَمَّالَة الْحَطَب " نَعْتًا لِامْرَأَتِهِ.
وَالْخَبَر " فِي جِيدهَا حَبْل مِنْ مَسَد " ; فَيُوقَف - عَلَى هَذَا - عَلَى " ذَات لَهَب ".
وَيَجُوز أَنْ يَكُون " وَامْرَأَته " مَعْطُوفَة عَلَى الْمُضْمَر فِي " سَيَصْلَى " فَلَا يُوقَف عَلَى " ذَات لَهَب " وَيُوقَف عَلَى " وَامْرَأَته " وَتَكُون " حَمَّالَة الْحَطَب " خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف.
وَقَرَأَ عَاصِم " حَمَّالَة الْحَطَب " بِالنَّصْبِ عَلَى الذَّمّ، كَأَنَّهَا اُشْتُهِرَتْ بِذَلِكَ، فَجَاءَتْ الصِّفَة لِلذَّمِّ لَا لِلتَّخْصِيصِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا " [ الْأَحْزَاب : ٦١ ].
وَقَرَأَ أَبُو قِلَابَةَ " حَامِلَة الْحَطَب ".
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ
قَوْله تَعَالَى :" فِي جِيدهَا " أَيْ عُنُقهَا.
وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس :
وَجِيد كَجِيدِ الرِّيم لَيْسَ بِفَاحِشٍ إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلَا بِمُعَطَّلِ
" حَبْل مِنْ مَسَد " أَيْ مِنْ لِيف ; قَالَ النَّابِغَة :
مَقْذُوفَة بِدَخِيسِ النَّحْض بَازِلُهَا لَهُ صَرِيف صَرِيف الْقَعْو بِالْمَسَدِ
وَقَالَ آخَر :
يَا مَسَدَ الْخُوصِ تَعَوَّذْ مِنِّي إِنْ كُنْت لَدْنًا لَيِّنًا فَإِنِّي
مَا شِئْت مِنْ أَشَمَط مُقْسَئِنَّ
وَقَدْ يَكُون مِنْ جُلُود الْإِبِل، أَوْ مِنْ أَوْبَارهَا ; قَالَ الشَّاعِر :
وَمَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيَانِقِ لَسْنَ بِأَنْيَابٍ وَلَا حَقَائِق
وَجَمْع الْجِيد أَجْيَاد، وَالْمَسَد أَمْسَاد.
أَبُو عُبَيْدَة : هُوَ حَبْل يَكُون مِنْ صُوف.
قَالَ الْحَسَن : هِيَ حِبَال مِنْ شَجَر تَنْبُت بِالْيَمَنِ تُسَمَّى الْمَسَد، وَكَانَتْ تُفْتَل.
قَالَ الضَّحَّاك وَغَيْره : هَذَا فِي الدُّنْيَا ; فَكَانَتْ تُعَيِّر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَقْرِ وَهِيَ تَحْتَطِب فِي حَبْل تَجْعَلهُ فِي جِيدهَا مِنْ لِيف، فَخَنَقَهَا اللَّه جَلَّ وَعَزَّ بِهِ فَأَهْلَكَهَا ; وَهُوَ فِي الْآخِرَة حَبْل مِنْ نَار.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أَبِي صَالِح :" فِي جِيدهَا حَبْل مِنْ مَسَد " قَالَ : سِلْسِلَة ذَرْعهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا - وَقَالَهُ مُجَاهِد وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر : تَدْخُل مِنْ فِيهَا، وَتَخْرُج مِنْ أَسْفَلهَا، وَيُلْوَى سَائِرهَا عَلَى عُنُقهَا.
وَقَالَ قَتَادَة.
" حَبْل مِنْ مَسَد " قَالَ : قِلَادَة مِنْ وَدَع.
الْوَدَع : خَرَز بِيض تَخْرُج مِنْ الْبَحْر، تَتَفَاوَت فِي الصِّغَر وَالْكِبَر.
قَالَ الشَّاعِر :
وَالْحِلْم حِلْم صَبِيّ يَمْرِثُ الْوَدَعَهْ
وَالْجَمْع : وَدَعَات.
الْحَسَن : إِنَّمَا كَانَ خَرَزًا فِي عُنُقهَا.
سَعِيد بْن الْمَسِيب : كَانَتْ لَهَا قِلَادَة فَاخِرَة مِنْ جَوْهَر، فَقَالَتْ : وَاللَّات وَالْعُزَّى لَأَنْفَقْتهَا فِي عَدَاوَة مُحَمَّد.
وَيَكُون ذَلِكَ عَذَابًا فِي جِيدهَا يَوْم الْقِيَامَة.
وَقِيلَ : إِنَّ ذَلِكَ إِشَارَة إِلَى الْخِذْلَان ; يَعْنِي أَنَّهَا مَرْبُوطَة عَنْ الْإِيمَان بِمَا سَبَقَ لَهَا مِنْ الشَّقَاء، كَالْمَرْبُوطِ فِي جِيده بِحَبْلٍ مِنْ مَسَد.
وَالْمَسَد : الْفَتْل.
يُقَال : مَسَدَ حَبْله يَمْسِدُهُ مَسْدًا ; أَيْ أَجَادَ فَتْله.
قَالَ :
يَمْسِدُ أَعْلَى لَحْمه وَيَأْرِمُهْ
يَقُول : إِنَّ الْبَقْل يُقَوِّي ظَهْر هَذَا الْحِمَار وَيَشُدّهُ.
وَدَابَّة مَمْسُودَة الْخَلْق : إِذَا كَانَتْ شَدِيدَة الْأَسْر.
قَالَ الشَّاعِر :
وَمَسَد أُمِرَّ مِنْ أَيَانِق صُهْب عِتَاق ذَات مُخّ زَاهِق
لَسْنَ بِأَنْيَابٍ وَلَا حَقَائِق
وَيُرْوَى :
وَلَا ضِعَاف مُخّهنَّ زَاهِق
قَالَ الْفَرَّاء : هُوَ مَرْفُوع وَالشِّعْر مُكْفَأ.
يَقُول : بَلْ مُخّهنَّ مُكْتَنِز ; رَفَعَهُ عَلَى الِابْتِدَاء.
قَالَ : وَلَا يَجُوز أَنْ يُرِيد وَلَا ضِعَاف زَاهِق مُخّهنَّ.
كَمَا لَا يَجُوز أَنْ تَقُول : مَرَرْت بِرَجُلٍ أَبُوهُ قَائِم ; بِالْخَفْضِ.
وَقَالَ غَيْره : الزَّاهِق هُنَا : بِمَعْنَى الذَّاهِب كَأَنَّهُ قَالَ : وَلَا ضِعَاف مُخّهنَّ، ثُمَّ رَدَّ الزَّاهِق عَلَى الضِّعَاف.
وَرَجُل مَمْسُود : أَيْ مَجْدُول الْخَلْق.
وَجَارِيَة حَسَنَة الْمَسَد وَالْعَصَب وَالْجَدَل وَالْأَرْم ; وَهِيَ مَمْسُودَة وَمَعْصُوبَة وَمَجْدُولَة وَمَأْرُومَة.
وَالْمِسَاد، عَلَى فِعَال : لُغَة فِي الْمِسَاب، وَهِيَ نَحِيّ السَّمْن، وَسِقَاء الْعَسَل.
قَالَ جَمِيعه الْجَوْهَرِيّ.
وَقَدْ اِعْتَرَضَ فَقِيلَ : إِنْ كَانَ ذَلِكَ حَبْلهَا الَّذِي تَحْتَطِب بِهِ، فَكَيْفَ يَبْقَى فِي النَّار ؟ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَادِر عَلَى تَجْدِيده كُلَّمَا اِحْتَرَقَ.
وَالْحُكْم بِبَقَاءِ أَبِي لَهَب وَامْرَأَته فِي النَّار مَشْرُوط بِبَقَائِهِمَا عَلَى الْكُفْر إِلَى الْمُوَافَاة ; فَلَمَّا مَاتَا عَلَى الْكُفْر صَدَقَ الْإِخْبَار عَنْهُمَا.
فَفِيهِ مُعْجِزَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَامْرَأَته خَنَقَهَا اللَّه بِحَبْلِهَا، وَأَبُو لَهَب رَمَاهُ اللَّه بِالْعَدَسَةِ بَعْد وَقْعَة بَدْر بِسَبْع لَيَالٍ، بَعْد أَنْ شَجَّتْهُ أُمّ الْفَضْل.
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ الْحَيْسُمَان مَكَّة يُخْبِر خَبَر بَدْر ; قَالَ لَهُ أَبُو لَهَب : أَخْبَرَنِي خَبَر النَّاس.
قَالَ : نَعَمْ، وَاَللَّه مَا هُوَ إِلَّا أَنْ لَقِينَا الْقَوْم، فَمَنَحْنَاهُمْ أَكْتَافنَا، يَضَعُونَ السِّلَاح مِنَّا حَيْثُ شَاءُوا، وَمَعَ ذَلِكَ مَا لَمَسْت النَّاس.
لَقِينَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْل بُلْق، لَا وَاَللَّه مَا تُبْقِي مِنَّا ; يَقُول : مَا تُبْقِي شَيْئًا.
قَالَ أَبُو رَافِع : وَكُنْت غُلَامًا لِلْعَبَّاسِ أَنْحِت الْأَقْدَاح فِي صِفَة زَمْزَم، وَعِنْدِي أُمّ الْفَضْل جَالِسَة، وَقَدْ سِرْنَا مَا جَاءَنَا مِنْ الْخَبَر، فَرَفَعْت طُنُب الْحُجْرَة، فَقُلْت : تِلْكَ وَاَللَّه الْمَلَائِكَة.
قَالَ : فَرَفَعَ أَبُو لَهَب يَده، فَضَرَبَ وَجْهِي ضَرْبَة مُنْكَرَة، وَثَاوَرْتُهُ، وَكُنْت رَجُلًا ضَعِيفًا، فَاحْتَمَلَنِي، فَضَرَبَ بِي الْأَرْض، وَبَرَكَ عَلَى صَدْرِي يَضْرِبنِي.
وَتَقَدَّمَتْ أُمّ الْفَضْل إِلَى عَمُود مِنْ عُمُد الْحُجْرَة، فَتَأْخُذهُ وَتَقُول : اِسْتَضْعَفْته أَنْ غَابَ عَنْهُ سَيِّده ! وَتَضْرِبهُ بِالْعَمُودِ عَلَى رَأْسه فَتَفْلِقهُ شَجَّة مُنْكَرَة.
فَقَامَ يَجُرّ رِجْلَيْهِ ذَلِيلًا، وَرَمَاهُ اللَّه بِالْعَدَسَةِ، فَمَاتَ، وَأَقَامَ ثَلَاثَة أَيَّام يُدْفَن حَتَّى أَنْتَنَ ; ثُمَّ إِنَّ وَلَده غَسَّلُوهُ بِالْمَاءِ، قَذْفًا مِنْ بَعِيد، مَخَافَة عَدْوَى الْعَدَسَة.
وَكَانَتْ قُرَيْش تَتَّقِيهَا كَمَا يُتَّقَى الطَّاعُون.
ثُمَّ اِحْتَمَلُوهُ إِلَى أَعْلَى مَكَّة، فَأَسْنَدُوهُ إِلَى جِدَار، ثُمَّ رَضَمُوا عَلَيْهِ الْحِجَارَة
Icon