ﰡ
التب : القطع.
ومن المادة : بت بتقديم الباء، فهي تدور على معنى القطع، كما يفيده فقه اللغة في دوران المادة على معنى واحد.
وقال : التب، والتبب، والتباب، والتبيب، والتتبيب : النقص والخسار، إلى أن قال : وتبت يداه : ضلتا وخسرتا.
وقال الفخر الرازي : التبات : الهلاك، ونظيره قوله تعالى :﴿ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ﴾، أي في هلاك.
وذلك لأن أبا لهب أهلك نفسه بفساد اعتقاده وسوء فعاله، كما جاء في السنة قول الأعرابي : هلكت وأهلكت : أي بوقاعه أهله في رمضان، وجاء قوله تعالى :﴿ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتَهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾.
فقالوا : غير خسران، والخسران يؤدي إلى الهلاك، والقطع.
كما جاء في معناه في قصة صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قوله تعالى :﴿ فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾، فظهر من هذا كله أن معنى :﴿ تبت يدا أبي لهب ﴾، دائر بين معنى القطع والهلاك والخسران.
أما قطعها فلم يقدر عليه قطع يديه قبل موته.
وأما الهلاك والخسران : فقد هلك بالغدة.
وأما الخسران : فما أشد خسرانه بعد هذا الحكم عليه من الله تعالى.
وإذا كان المعنى قد تعين بنص القرآن في الهلاك والخسران، فما معنى إسناد التب لليدين ؟
الجواب : أن ذلك من باب إطلاق البعض وإرادة الكل كما تقدم في قوله تعالى :﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ ﴾، مع أن الكاذب هو صاحبها.
وقد قدمنا هناك أن مثل هذا الأسلوب لا بد فيه من زيادة اختصاص للجزء المنطوق في المعنى المراد.
فلما كان الكذب يسوّد الوجه ويذل الناصية، وعكسه الصدق يبيّض الوجه ويعز الناصية، أسند هناك الكذب إلى الناصية لزيادة اختصاصها بالكذب عن اليد مثلاً.
ولما كان الهلاك والخسران غالباً بما تكسبه الجوارح، واليد أشد اختصاصًا في ذلك، أسند إليها البت.
ومما يدل على أن المرد صاحب اليدين، ما جاء بعدها، قوله تعالى :﴿ وَتَبَّ ﴾، أي أبو لهب نفسه.
وسواء كان قوله تعالى :﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ﴾، على سبيل الإخبار أو الإنشاء، فإنه محتمل من حيث اللفظ.
ولكن قوله تعالى بعده :﴿ وَتَبَّ ﴾، فهو إخبار، فيكون الأول للإنشاء كقوله :﴿ قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾.
ثم جاء الثاني تصديقاً له، وجاءت قراءة ابن مسعود ﴿ وَتَبَّ ﴾.
في هذه الآية سؤالان هما :
أولاً : لقد كان صلى الله عليه وسلم مع قومه في مكة ملاطفاً حليماً، فكيف جابه عمه بهذا الدعاء :﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ﴾ ؟ والجواب : أنه كان يلاطفهم ما دام يطمع في إسلامهم، فلما يئس من ذلك، كان هذا الدعاء في محله، كما وقع من إبراهيم عليه السلام، كان يلاطف أباه ﴿ يا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ﴾. ﴿ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ﴾، فلما يئس منه تبرأ منه كما قال تعالى :﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾.
والسؤال الثاني : وهو مجيء قوله تعالى :﴿ وَتَبَّ ﴾، بعد قوله :﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهَبٍ ﴾، مع أنها كافية سواء كانت إنشاء للدعاء عليه، أو إخباراً بوقوع ذلك منه ؟
والجواب، واللَّه تعالى أعلم : أن الأول لما كان محتملاً الخبر، وقد يمحو الله ما يشاء ويثبت، أو إنشاء وقد لا ينفذ كقوله :﴿ قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ١٧ ﴾، أو يحمل على الذم فقط والتقبيح فجاء " وتب " لبيان أنه واقع به لا محالة، وأنه ممن حقت عليهم كلمات ربك لييأس صلى الله عليه وسلم، والمسلمون من إسلامه. وتنقطع الملاطفة معه، واللَّه تعالى أعلم.
وقد وقع ما أخبر الله به، فهو من إعجاز القرآن أن وقع ما أخبر به، كما أخبر ولم يتخلف.
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾، وقوله :﴿ كَذَلِكَ حَقَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
نسأل الله العافية، إنه سميع مجيب.
سواء كانت ( ما ) استفهامية فهو استفهام إنكار، أو كانت نافية، فإنه نص على أن ماله لم يغن عنه شيئاً.
وقوله :﴿ وَمَا كَسَبَ ﴾.
فقيل : أي من المال الأول ما ورثه أو ما كسب من عمل جرّ عليه هذا الهلاك، وهو عداؤه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
ونظير هذه الآية المتقدمة ﴿ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾.
وتقدم الكلام عليه هناك.
وتقدم للشيخ رحمه الله تعالى علينا وعليه بيان معنى ﴿ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾، عند قوله تعالى :﴿ من وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
وساق كل النصوص في هذا المعنى بتمامها.
في هذه الآية سؤالان هما :
أولاً : لقد كان صلى الله عليه وسلم مع قومه في مكة ملاطفاً حليماً، فكيف جابه عمه بهذا الدعاء :﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ﴾ ؟ والجواب : أنه كان يلاطفهم ما دام يطمع في إسلامهم، فلما يئس من ذلك، كان هذا الدعاء في محله، كما وقع من إبراهيم عليه السلام، كان يلاطف أباه ﴿ يا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ﴾. ﴿ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ﴾، فلما يئس منه تبرأ منه كما قال تعالى :﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾.
والسؤال الثاني : وهو مجيء قوله تعالى :﴿ وَتَبَّ ﴾، بعد قوله :﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهَبٍ ﴾، مع أنها كافية سواء كانت إنشاء للدعاء عليه، أو إخباراً بوقوع ذلك منه ؟
والجواب، واللَّه تعالى أعلم : أن الأول لما كان محتملاً الخبر، وقد يمحو الله ما يشاء ويثبت، أو إنشاء وقد لا ينفذ كقوله :﴿ قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ١٧ ﴾، أو يحمل على الذم فقط والتقبيح فجاء " وتب " لبيان أنه واقع به لا محالة، وأنه ممن حقت عليهم كلمات ربك لييأس صلى الله عليه وسلم، والمسلمون من إسلامه. وتنقطع الملاطفة معه، واللَّه تعالى أعلم.
وقد وقع ما أخبر الله به، فهو من إعجاز القرآن أن وقع ما أخبر به، كما أخبر ولم يتخلف.
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾، وقوله :﴿ كَذَلِكَ حَقَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
نسأل الله العافية، إنه سميع مجيب.