تفسير سورة النّمل

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة النمل من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة النمل مكية١
وهي ثلاث أو أربع وتسعون آية
١ سورة النمل مكية بلا خلاف انظر الدرر المنثور (٦ / ٣٤٠)..

﴿طس﴾ بالتفخيم وقرئ بالإمالةِ والكلامُ فيهِ كالذي مرَّ في نظائرِه من الفواتحِ الشريفةِ ومحلَّه على تقديرِ كونِه اسماً للسورةِ وهو الأظهر الأشهر الرفع على أنه خبر لمبتدأٍ محذوفٍ أي هذا طس أي مسمَّى بهِ والإشارةُ إليهِ قبلَ ذكرِه قد مرَّ وجهُها في فاتحةِ سورةِ يونسَ وغيرِها ورفعُه بالابتداءِ على أنَّ ما بعده خبره ضعيفٌ لما ذُكر هناك ﴿تِلْكَ﴾ إشارةٌ إلى نفسِ السُّورةِ لأنَّها التي نوَّهتْ بذكرِ اسمِها لا إلى آياتِها لعدمِ ذكرِها صريحاً لأنَّ إضافتَها إليها تأبى إضافتَها إلى القُرآنِ كما سيأتي وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان ببعد منزلِته في الفضلِ والشرفِ ومحله الرفعُ على الابتداء خبره ﴿آيات القرآن﴾ والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما أفادَه التسميةُ من نباهةِ شأنِ المسمَّى والقرآنُ عبارةٌ عن الكلِّ أو عن الجميعِ المنزلِ عند نزولِ السُّورةِ حسبَما ذُكر في فاتحة فاتحةِ الكتابِ أي تلك السورةُ آياتُ القرآنِ المعروفِ بعلوِّ الشأنِ أي بعضٌ منه مترجمٌ مستقلٌّ باسمٍ خاصَ ﴿وكتاب﴾ أي كتابٌ عظيمِ الشأنِ ﴿مُّبِينٌ﴾ مظهرٌ لما في تضاعيفهِ من الحكمِ والأحكامِ وأحوالِ الآخرةِ التي من جُملتِها الثوابُ والعقابُ أو لسبيلِ الرشدِ والغيِّ أو فارقٍ بين الحقِّ والباطلِ والحلالِ والحرامِ أو ظاهرُ الإعجازِ على أنه من أبان بمعنى بانَ ولقد فخَّم شأَنه الجليلَ بما جَمع فيه من وصفِ القرآنيةِ المنبئةِ عن كونِه بديعاً في بابهِ ممتازاً عن غيرِه بالنظمِ المعجزِ كما يُعربُ عنه قوله تعالى قرآنا عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ ووصفُ الكتابيةِ المعربةِ عن اشتمالُه على صفاتِ كمالِ الكتبِ الإلهيةِ فكأنه كلُّها وقدَّم الوصفَ الأولَ ههنا نظراً إلى تقدمِ حالِ القرآنية على
271
سورة النمل (٢٥) حالِ الكتابيةِ وعكسَ في سورةِ الحجرِ نظراً إلى ما ذُكر هناك من الوجهِ وما قيلَ من أنَّ الكتابَ هو اللوحُ المحفوظُ وإبانته أنَّه خطَّ فيهِ ما هو كائنٌ فهو يبينه للناظرينَ فيه لا يساعدُه إضافةُ الآياتِ إليه إذ لا عهدَ باشتمالِه على الآياتِ ولا وصفِه بالهداية والبشارة إذا هُما باعتبارِ إبانتِه فلا بُدَّ من اعتبارِها بالنسبةِ إلى النَّاسِ الذين من جملتهم المؤمنون الا إلى الناظرين فيه وقرئ وكتابُ بالرفعِ على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامَه أي وآياتُ كتابٍ مبينٍ
272
﴿هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ في حيز النصبِ على الحالية من الآياتِ على أنَّهما مصدرانِ أُقيما مُقامَ الفاعلِ للمبالغةِ كأنَّهما نفسُ الهُدَى والبشارةِ والعاملُ معنى الإشارة أى هادية ومبشرة أو الرفع على أنَّهما بدلانِ من الآياتِ أو خبرانِ آخرانِ لتلك أو لمبتدأٍ محذوفٍ ومعنى هدايتها لهم وهمُ مهتدون أنَّها تزيدُهم هُدى قال تعالى فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأمَّا معنى تبشيرِها إيَّاهُم فظاهرٌ لأنَّها تبشِّرهم برحمةٍ من الله ورضوان وجنَّاتٍ لهم فيها نعيمٌ مقيمٌ وقولُه تعالى
﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة﴾ صفةٌ مادحةٌ لهم وتخصيصُهما بالذكرِ لأنَّهما قرينَتا الإيمانِ وقطر العباداتِ البدنيَّةِ والماليَّةِ مستتبعانِ لسائرِ الأعمالِ الصَّالحةِ وقولُه تعالى ﴿وَهُم بالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ جملةٌ اعتراضيةٌ كأنَّه قيلَ وهؤلاء الذينَ يُؤمنون ويعملُون الصَّالحاتِ هم الموقنون بالآخرة حقَّ الإيقانِ لا مَن عداهُم لأنَّ تحمُّلَ مشاقِّ العباداتِ لخوفِ العقابِ ورجاءِ الثَّوابِ أو هُو مِن تتمةِ الصِّلةِ والواوُ حالَّيةٌ أو عاطفةٌ له على الصِّلةِ الأُولى وتغييرُ نظمه الدلالة على قوَّةِ يقينهم وثباتِه وأنَّهم أوحديُّون فيه
﴿إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة﴾ بيانٌ لأحوالِ الكَفَرة بعدَ بيانِ أحوالِ المُؤمنينَ أي لا يُؤمنون بها وبما فيها من الثَّوابِ على الأعمالِ الصَّالحةِ والعقابِ على السَّيِّئاتِ حسبما ينطقُ به القرآنُ ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم﴾ القبيحةَ حيثُ جعلناها مشتهاةً للطَّبعِ محبوبةً للنَّفسِ كما ينبئ عنه قوله ﷺ حُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ أو الأعمالَ الحسنةَ ببيانِ حُسنها في أنفسِها حالاً واستتباعِها لفنونِ المنافعِ مآلاً وإضافتُها إليهم باعتبارِ أمرِهم بها وإيجابِها عليهم ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ يتحيرون ويتردَّدون على التَّجددِ والاستمرارِ فمع الاشتغالِ بها والانهماكِ فيها من غيرِ ملاحظةٍ لما يتبعها من نفع وضرَ أو في الضَّلالِ والإعراض عنها والفاء على الأول لترتيبِ المسبَّبِ على السَّببِ وعلى الثَّاني لترتيبِ ضدِّ المُسبَّبِ على السَّببِ كما في قولك وعظتُه فلم يتَّعظ وفيه إيذانٌ بكمالِ عتوِّهم ومكابرتِهم وتعكيسهم في الأمور
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى المذكورين وهو مبتدأ خبرُه الموصولُ بعدَهُ أَيْ أولئكَ الموصُوفون بالكُفر والعمهِ ﴿الذين لَهُمْ سُوء العذاب﴾
272
أي في الدَّنيا كالقتلِ والأسرِ يومَ بدرٍ ﴿وَهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون﴾ أي أشدُّ النَّاس خُسراناً لفواتِ الثَّوابِ واستحقاقِ العقابِ
273
﴿وإنك لتلقى القرآن﴾ كلام مستأنفٌ قد سيق بعد بيان بعض شئون القرآن الكريمِ تمهيداً لما يعقبُه من الأقاصيصِ وتصديرُه بحرفَيْ التَّأكيدِ لإبراز كمالِ العنايةِ بمضمونِه أي لتؤتاه بطريق التَّلقيةِ والتَّلقينِ ﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ أيْ أيِّ حكيمٍ وأيِّ عليمٍ وفي تفخيمهما تفخيمٌ لشأن القرآن وتنصيصٌ على علوِّ طبقته ﷺ في معرفتِه والإحاطةِ بما فيه منْ الجلائلِ والدقائقِ فإنَّ من تلقى العلومَ والحكمَ من مثل ذلك الحكيمِ العليمِ يكون عَلَماً في رصانةِ العلمِ والحكمةِ والجمع بينهما مع دخولِ العلم في الحكمةِ لعموم العلمِ ودلالة الحكمة على إتقانِ الفعلِ وللإشعارِ بأنَّ ما في القرآنِ من العلوم منها منا هو حكمةٌ كالعقائدِ والشَّرائعِ ومنها ما ليسَ كذلك كالقصصِ والأخبارِ الغيبَّية وقولُه تعالى
﴿إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ﴾ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأُمر بتلاوةِ بعضٍ من القرآن الذي يلقاه ﷺ من لَدْنه عزَّ وجلَّ تقريراً لما قبله وتحقيقاً له أي أذكُر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسَّلامُ لأهلِه في وادي طوى وقد غشيتُهم ظلمةُ اللَّيلِ وقدَح فأصلَدَ زنده فبدا له من جانب الطور نار ﴿إِنّى آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾ أي عن حال الطَّريقِ وقد كانوا ضلوه والسين الدلالة على نوعِ بُعدٍ في المسافةِ وتأكيد الوعد والجمع إنْ صحَّ أنَّه لم يكن معَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إال امرأتُه لما كنى عنها بالأهلِ أو للتَّعظيمِ مبالغةً في التَّسليةِ ﴿أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ بتنوينهما على أن الثَّاني بدلٌ من الأَوَّلِ أو صفة له لأنَّه بمعنى مقبوسٍ أي بشعلة نارٍ مقبوسةٍ أي مأخوذه من أصلها وقرئ بالإضافةِ وعلى التَّقديرينِ فالمرادُ تعيينُ المقصودِ الذي هو القَبس الجامعُ لمنفعتي الضِّياءِ والاصطلاءِ لأنَّ من النَّار ما ليس بقبسٍ كالجمرِ وكلتا العُدَّتينِ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بطريق الظنِّ كما يفصحُ عن ذلك ما في سورةِ طه من صيغة التَّرجى والتَّرديدُ للإيذانِ بأنَّه إن لم يظفرْ بهما لم يعدم أحدهما بناءً على ظاهرِ الأمرِ وثقةً بسُنَّةِ الله تعالى فإنَّه تعالى لا يكادُ يجمع على عبده حرمانينِ ﴿لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ رجاءَ أنْ تستدفئوا بها والصِّلاءُ النَّارُ العظيمةُ
﴿فَلَمَّا جَاءهَا نُودِىَ﴾ من جانب الطُّورِ ﴿أَن بُورِكَ﴾ معناه أي بُورك على أن مفسرة لما في النِّداءِ من معنى القولِ أو بأن بروك على أنها مصدرية حذف عنها الحار جرياً على القاعدة المستمرَّةِ وقيل مخفَّفةٌ من الثَّقيلة ولا ضير فلي فقدان التعويض بلا أوقد أو السِّينِ أو سوفَ لما أنَّ الدُّعاء يخالفُ غيرَه في كثير من الأحكامِ ﴿مَن فِى النار وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ أي من في مكانِ النَّارِ وهي البقعةُ المباركةُ المذكورةُ في قوله سبحانه نُودي من
273
سورة النمل (٩١٠) شاطئ الوادي الأيمنِ في البقعة المباركة ومن حولَ مكانها وقرئ تباركتِ الأرضُ ومَن حولَها والظَّاهرُ عمومُه لكلِّ مَن في ذلك الوادِي وحواليه من أرض الشَّامِ الموسومةِ بالبركات لكونها مبعثَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام وكفاتهم أحياءً وأمواتاً ولا سيَّما تلك البقعةُ التي كلَّم الله تعالى فيها مُوسى وقيل المرادُ موسى والملائكةُ الحاضرونَ وتصديرُ الخطابِ بذلك بشارةٌ بأنَّه قد قضى له أمر عظيمٌ دينيٌّ تنتشر بركاتُه في أقطارِ الشَّامِ وهو تكليمُه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام واستنباؤه له وإظهار المعجزات على يدِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ ﴿وسبحان الله رَبّ العالمين﴾ تعجيبٌ لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من ذلك وإيذان بأن ذلك مر يده ومكونُه ربُّ العالمينَ تنبيهاً على أنَّ الكائنَ من جلائل الأمور وعظائم الشئون ومن أحكامِ تربيته تعالى للعالمين
274
﴿يا موسى إِنَّهُ أَنَا الله﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان آثارِ البركةِ المذكورة والضمير إما للشأن وأنا اللَّهُ جملة مفسِّرةٌ له وإمَّا راجعٌ إلى المتكلِّمِ وأنا خبرُه والله بيانٍ له وقولُه تعالى ﴿العزيز الحكيم﴾ صفتانِ لله تعالى ممهدتانِ لما أريد إظهارُه على يدِه من المعجزاتِ أى أما القويُّ القادرُ على ما لا تناله الأوهامُ من الأمورِ العظامِ التي من جُملتها أمرُ العصا واليدُ الفاعل كلَّ ما أفعله بحكمةٍ بالغة وتدبير رصين
﴿وَأَلْقِ﴾ عطف على بُورك منتظمٌ معه في سلك تفسير النِّداءِ أي نُودي أنْ بُورك وأن ألقِ ﴿عَصَاكَ﴾ حسبما نطقَ به قولُه تعالى وأنْ ألقِ عصاك بتكريرِ حرفِ التَّفسير كما تقول كتبتُ إليه أنْ حُجَّ وأنِ اعتمرْ وإن شئتَ أن حجَّ واعتمرْ والفاء في قوله تعالى ﴿فلما رآها تهتز﴾ فصيحة تفصيح عن جملة قدد حُذفت ثقةً بظهورها ودلالةً على سرعةِ وقوع مضمونِها كما في قوله تعالى فلما رأينه أكبرنه بعد قوله تعالى اخرج عَلَيْهِنَّ كأنه قيل فألقاها فانقلب حيةً تسعى فأبصرَها فلَّما أبصرها متحركةً بسرعة واضطراب قوله تعالى ﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ أي حيَّةٌ خفيفة سريعة الحركة جملة حالية إما من مفعول رأى مثل تهتز كمَا أُشير إليهِ أو من ضميرِ تهتز على طريقة التداخل وقرئ جأن على لغةِ مَنْ جدَّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ ﴿ولى مُدْبِراً﴾ من الخوفِ ﴿وَلَمْ يُعَقّبْ﴾ أي لم يرجعْ على عقبةِ مِن عقّب المقاتلُ إذا كرَّ بعد الفرِّ وإنما اعتراهُ الرُّعب لظنِّه أن ذلك لأمر أريد به كما ينبئ عنه قوله تعالى ﴿يا موسى لاَ تَخَفْ﴾ أي من غيري ثقةً بي أو مطلقاً لقوله تعالى ﴿إِنّى لا يخاف لدى المرسلون﴾ فإنَّه يدلُّ على نفيِ الخوفِ عنهم مُطلقاً لكن لا في جميعِ الأوقاتِ بل حين يُوحى إليهم كوقتِ الخطابِ فإنَّهم حينئذٍ مستغرقون في مطالعة شئون الله عزَّ وجلَّ لا يخطرُ ببالِهم خوفٌ من أحدٍ أصلاً وأما في سائرِ الأحيانِ فهم أخوفُ النَّاسِ منه سبحانَه أو لا يكون لهم عندي سوءُ عاقبة ليخافُوا منه
274
سورة النمل (١١ ١٤)
275
﴿إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ استثناءٌ منقطع استدرك به ما عسى يختلِجُ في الخلد من نفي الخوفِ عن كلِّهم مع أنَّ منهم مَنْ فرطت منه صغيره ما مما يجوز صدورُه عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنَّهم وإنْ صدرَ عنهم شيءٌ من ذلك فقد فعلوا عقيبه ما يبطلُه ويستحقُّون به من الله تعالى مغفرةً ورحمةً وقد قصد به التَّعريض بما وقعَ من موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من وكزهِ القبطيَّ والاستغفارِ وتسميتُها ظُلماً لقوله ﷺ رب إني ظلمت نفسي فاغفرْ لي فغفرَ له
﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ﴾ لأنَّه كان مدرعةَ صوفٍ لا كم لها وقيل الجيبُ القميصُ لأنَّه يُجاب أي يُقطع ﴿تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء﴾ أي آفة كبر ص ونحوه ﴿في تسع آيات﴾ في جُملتها أو معها على أنَّ التِّسعَ هي الفَلْقُ والطوفانُ والجَرادُ والقُمّلُ والضفادعُ والدَّمُ والطَّمسةُ والجَدبُ في بواديهم والنُّقصان في مزارعِهم ولمن عدَّ العصَا واليدَ من التسعِ أن يعدَّ الأخيرين واحداً ولا يعدُّ الفَلْق منها لأنه لم يُبعث به إلى فرعونَ أو اذهب في تسع آيات على أنه استئنافٌ بالإرسالِ فيتعلَّق به ﴿إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ﴾ وعلى الأولين يتعلَّق بنحو مبعوثاً أو مرسلاً ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين﴾ تعليل للإرسالِ أي خارجين عن الحدود في الكفرِ والعُدوان
﴿فلما جاءتهم آياتنا﴾ وظهرتْ على يدِ مُوسى ﴿مُبْصِرَةً﴾ بينة اسم فاعلِ أطلق على المفعول إشعاراً بأنَّها لفرطِ وضوحِها وإنارتِها كأنَّها تُبصر نفسَها لو كانت ممَّا يبُصر أو ذاتُ تبصُّرٍ من حيث أنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلاً عن الهدايةِ أو مبصرة كلَّ مَن ينظر إليها ويتأمَّلُ فيها وقرئ مَبْصرة أي مكاناً يكثُر فيه التَّبصرُ ﴿قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ واضحٌ سحريته
﴿وَجَحَدُواْ بِهَا﴾ أي كذَّبوا بها ﴿واستيقنتها أَنفُسُهُمْ﴾ الواو للحالِ أي وقد استيقنتها أى علمتها أنفسه علماً يقينياً ﴿ظُلْماً﴾ أي للآياتِ كقوله تعالى بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ ولقد ظلُموا بها أيَّ ظلم حيث حطُّوها عن رتُبتها العاليةِ وسمَّوها سحراً وقيل ظُلماً لأنفسِهم وليس بذاك ﴿وَعُلُوّاً﴾ أي استكباراً عن الإيمان بها كقوله تعالى والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها وانتصابهما إما على العلَّةِ من جحدوا بها أو على الحاليةِ من فاعله أي جحدُوا بها ظالمين لها مستكبرين عنها ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين﴾ من الإغراقِ على الوجهِ الهائل الذي هو عبرةٌ للعالمين وإنَّما لم يذكر تنبيهاً على أنَّه عرضة لكل ناظر مشهور فيما بين كل بادٍ وحاضرٍ
275
سورة النمل (١٥ ١٦)
276
﴿ولقد آتينا داود وسليمان عِلْماً﴾ كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق من أنه ﷺ يلقى القرآن من لدن حكيمٍ عليمٍ فإنَّ قصَّتهمَا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ من جملة القرآنِ الكريمِ لُقّيه ﷺ من لدنه تعالى كقصَّةِ موسى عليه الصلاة والسلام وتصديرُه بالقسمِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه أي آتينا كل واحد منهما طائفةً من العلم لائقةً به من علمِ الشرَّائعِ والأحكامِ وغير ذلك مما يختصُّ بكلَ منهما كصنعةِ لبوسٍ ومنطقِ الطَّيرِ أو علماً سنياً عزيزاً ﴿وَقَالاَ﴾ أي قال كلُّ واحد منهما شُكراً لما أوتيه من العلمِ ﴿الحمد لِلَّهِ الذي فضلنا﴾ بما أتاناه من العلمِ ﴿على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين﴾ على أنَّ عبارةَ كلَ منهما فضَّلني إلا أنَّه عبَّر عنهما عند الحكايةِ بصيغة المتكلِّم مع الغير إيجازاً فإن حكايةَ الأقوالِ المتعدِّدة سواء كانتْ صادرةً عن المتكلِّم أو عن غيره بعبارةٍ جامعة للكُلِّ مما ليس بعزيزٍ ومن الأوَّلِ قوله تعالى يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا وقد مرَّ في سورةِ قد أفلح المؤمنون وبهذا ظهر حسنُ موقع العطفِ بالواو إذ المتبادر من العطفِ بالفاء ترتبُ حمدِ كلَ منهما على إيتاءِ ما أوتي كلٌّ منهما لا على إيتاءِ ما أوتي نفسه فقط وقيل في العطفِ بالواوِ إشعارٌ بأنَّ ما قالاهُ بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلمِ وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التَّحميد كأنَّه قيل ولقد آتيناهُما علماً فعملا به وعلمناه وعرفا حقِّ النِّعمةِ فيه وقالا الحمدُ لله الآية فتأمَّل والكثيرُ المفضل عليه من لم يُؤت مثل علمهما وقيل من لم يُؤت علماً ويأباه تبيينُ الكثير بالمؤمنين فإنَّ خلوهم من العلم بِالمرةِ مما لا يمكن وفي تخصيصها الأكثرَ بالذِّكر رمزٌ إلى أنَّ البعضَ مفضَّلون عليهما وفيه أوضحُ دليلٍ على فضل العلمِ وشرفِ أهلهِ حيثُ شكرا على العلمِ وجعلاه أساسَ الفضلِ ولم يعتبرا دونَه ما أُوتيا من الملكِ الذي لم يُؤته غيرهما وتحريضٌ للعلماءِ على أن يحمدُوا الله تعالى على ما آتاهُم من فضلِه ويتواضعوا ويعتقدُوا أنَّهم وإنْ فُضِّلوا على كثيرِ فقد فضل عليهم كثيرو فوق كلَّ ذي علمٍ عليمٌ ونِعمّا قال أميرَ المؤمنينَ عمرَ رضي الله عنه كلُّ النَّاس أفقهُ من عمر
﴿وورث سليمان داود﴾ أي النُّبوةَ والعلمَ أو الملكَ بأنْ قامَ مقامَهُ في ذلكَ دونَ سائرِ بنيهِ وكانُوا تسعةَ عشَر ﴿وَقَالَ﴾ تشهيراً لنعمةِ الله تعالى وتنويهاً بها ودعاءً للنَّاسِ إلى التصديقِ بذكرِ المُعجزاتِ الباهرةِ التي أُوتيها ﴿يا أيها الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء﴾ المنطقُ في المتعارَفِ كلُّ لفظٍ يُعبَّر بهِ عمَّا في الضميرِ مُفرداً كانَ أو مُركباً وقد يُطلق على كلِّ ما يُصوَّتُ بهِ من المفرد والمؤلَّفِ المفيدِ وغيرِ المفيدِ يقالُ نطقت الحمامةُ وكلُّ صنفٍ من أصنافِ الطيرِ يتفاهُم أصواتُه والذي عُلِّمه سليمانُ عليه السَّلامُ من منطقِ الطيرِ هو ما يُفهم بعضُه من بعضٍ من معانيهِ وأغراضِه ويُحكَى أنَّه مرَّ على بُلبلٍ في شجرةٍ يُحرِّكُ رأسَهُ ويُميلُ ذنبَهُ فقالَ لأصحابِه أتدرونَ ما يقولُ قالوُا الله ونبيه أعلم قال
276
سورة النمل (١٧) يقولُ إذا أكلتُ نصفُ تمرةٍ فعلى الدُّنيا العَفاءُ وصاحتْ فاختةٌ فأَخبرَ أنَّها تقولُ ليتَ الخلقَ لم يخلقوا وصاح طاوس فقالَ يقول كَمَا تَدينُ تُدانُ وصاحَ هُدهدٌ فقالَ يقول استغفرُوا الله يا مُذنبينَ وصاحَ طَيْطَوى فقال يقول كُلُّ حيَ ميتٌ وكلُّ جديدٍ بالٍ وصاحَ خُطَّافٌ فقالَ يقولُ قَدِّمُوا خيراً تجدوه وصاحَ قَمْريٌّ فأَخبرَ أنَّه يقولُ سُبحانَ ربِّي الأَعْلَى وصاحت رخمةٌ فقال تقول سبحان ربي الأعلى ملءَ سمائِه وأرضِه وقالَ الحِدَأةُ تقولُ كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا الله والقطاةُ تقولُ منْ سكتَ سلَمْ والببغاءُ تقولُ ويلٌ لمنْ الدٌّنيا همُّه والديكُ يقولُ اذكرُوا الله يا غافلينَ والنَّسرُ يقولُ يا ابنَ آدمَ عِشْ مَا شئتَ آخرُكَ الموتُ والعُقابُ تقولُ في البعدِ عن النَّاسِ أُنسٌ والضِّفدِعُ يقولُ سبُحانَ رَبِّي القُدُّوسِ وأرادَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه عُلِّمنا وأُوتينَا بالنُّونِ التي يُقال لها نونُ الواحدِ المُطاع بيانَ حالِه وصفتِه من كونِه ملكاً مطاعاً لكنْ لا تجبُّراً وتكبُّراً بل تمهيداً لما أرادَ منهم من حُسنِ الطاعةِ والانقيادِ له في أوامرِه ونواهيِه حيثُ كان على عزيمةِ المسيرِ وبقولِه من كلِّ شيءٍ كثرةَ ما أُوتيه كما يُقال فلانٌ يقصده كلُّ أحدٍ ويعلمُ كلَّ شيءٍ ويُرادُ بهِ كثرةَ قُصَّادِه وغزارةَ علمهِ ومثلُه قولُه تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وقالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا كلُّ ما يهمُّه من أمرِ الدُّنيا والآخرةِ وقال مقاتلٌ يعني النُّبوةَ والملكَ وتسخيرَ الجنِّ والإنسِ والشياطينِ والريحِ ﴿إِنَّ هَذَا﴾ إشارةٌ إلى ما ذكر من التعليمِ والإيتاء ﴿لَهُوَ الفضل﴾ والإحسانُ من الله تعالَى ﴿المبين﴾ الواضحُ الذي لا يخفى على أحد أو إنَّ هَذا الفضلَ الذي أُوتيهِ لهو الفضلُ المبينُ على أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ قاله على سبيل الشكرِ والمحمدةِ كما قالَ رسول الله ﷺ أنَا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ أي أقولُ هذا القولَ شُكراً لا فخراً ولعلَّه عليهِ الصَّلاة والسَّلام رتَّب على كلامه ذلك دعوةَ النَّاسِ إلى الغزوِ فإنَّ إخبارَهم بإيتاءِ كُلّ شَىْء من الأشياء التي من جُملتها آلاتُ الحربِ وأسبابُ الغزوِ ممَّا ينبئ عن ذلك فمعنى قوله تعالى
277
﴿وَحُشِرَ لسليمان جُنُودُهُ﴾ جُمع له عساكرُه ﴿مِنَ الجن والإنس والطير﴾ بمباشرة مخاطبيِه فإنَّهم كانوا رؤساءَ مملكتِه وعظماءَ دولتهِ من الثَّقلينِ وغيرِهم بتعميم النَّاس للكلِّ تغليباً وتقديمُ الجنِّ على الإنسِ في البيانِ للمسارعةِ إلى الإيذانِ بكمالِ قوَّة مُلكِه وعزَّةِ سُلطانِه من أولِ الأمرِ لما أنَّ الجن طائفة عانية وقبيلةٌ طاغيةٌ ماردةٌ بعيدةٌ من الحشرِ والتسخيرِ ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ أي يُحبس أوائلُهم على أواخِرهم أي يُوقف سُلافُ العسكرِ حتى يلحقَهم التَّوالي فيكونُوا مجتمعينَ لا يتخلف منهم أحدٌ وذلك للكثرة العظيمةِ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ لترتيب الصُّفوفِ كما هو المُعتاد في العساكرِ وفيه إشعارٌ بكمال مسارعتِهم إلى السير وتخصيص حبس أوائلِهم بالذكر دون سوقِ أواخرهم مع أنَّ التلاحقَ يحصلُ بذلكَ أيضاً لما أنَّ أواخرَهم غيرُ قادرينَ على ما يقدرُ عليه أوائلُهم من السيرِ السريعِ وهذا إذَا لم يكُن سيرُهم بتسييرِ الرِّيح في الجوِّ رُوي أنَّ معسكرَه عليه الصَّلاة والسَّلام كان مائةَ فرسخٍ في مائةٍ خمسةٌ وعشرونَ للجنِّ وخمسةٌ وعشرونَ للإنس وخمسةٌ وعشروَن للطيرِ وخمسةٌ وعشرونَ للوحشِ وكان له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ألف بيتٍ من قوارير على الخشب فيها ثلثمائة منكوحةٍ وسبعمائةُ سريةٍ وقد نسجتْ له الجنُّ بساطاً من ذهبٍ وإِبْرِيْسَمَ فرسخاً في فرسخٍ وكان يُوضعُ منبرُه في وسطِه وهو من ذهب
277
سورة النمل (١٨) فيقعدُ عليه وحوله ستمائة ألفِ كرسيَ من ذهبٍ وفضةٍ فيقعدُ الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على كَرَاسي الذهبِ والعلماءُ على كَرَاسي الفضَّةِ وحولَهم النَّاسُ وحول النَّاسِ الجنُّ والشياطينُ وتظله الطيرُ بأجنحتِها حتَّى لا تقعَ عليه الشمسُ وترفع ريحُ الصَّبا البساطَ فتسيرُ به مسيرةَ شهرٍ ويُروى أنَّه كان يأمُر الريحَ العاصفَ تحملُه ويأمُر الرُّخاء تسيره فأَوحى الله تعالى إليهِ وهو يسيرُ بين السماءِ والأرضِ إنَّي قد زدتُ في ملككَ لا يتكلم أحدٌ بشيءٍ إلا ألقته الريحُ في سمعِك فيُحكى أنه مرَّ بحرَّاثٍ فقال لقد أُوتيَ آلُ داودَ ملكاً عظيماً فألقته الريحُ في أذنِه فنزلَ ومشى إلى الحرَّاثِ وقال إنَّما مشيتُ إليكَ لئلاَّ تتمنى مالا تقدرُ عليه ثمَّ قال لتسبيحةٌ واحدةٌ يقبلها الله تعالى خيرٌ مما أُوتي آلُ داودَ
278
﴿حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِى النمل﴾ حتَّى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ ومع ذلك هي غايةٌ لما قبلها كالتي في قولهِ تَعالَى حتى إذا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل الآيةَ وهي ههنا غاية لما ينبئ عنه قولُه تعالى فهُم يُوزعونَ من السير كأنَّه قيلَ فسارُوا حتَّى إذا أتَوا الخ ووادي النَّمل وادٍ بالشامِ كثيرُ النَّمل على ما قالَه مقاتلٌ رضي الله عنه وبالطَّائفِ على ما قالَه كعب رضيَ الله عنه وقيلَ هو وادٍ تسكنُه الجنُّ والنملُ مراكبُهم وتعديةُ الفعلِ إليه بكلمةِ عَلى إمَّا لأنَّ إتيانَهم كان من فوق وإمَّا لأنَّ المرادَ بالإتيانِ عليه قطعُه من قولِهم أتَى على الشيءِ إذا أنفَدَه وبلغَ آخرَهُ ولعلَّهم أرادُوا أنْ ينزلُوا عند مُنتهى الوادي إذْ حينئذٍ يخافُهم ما في الأرضِ لا عند سيرِهم في الهواءِ وقولُه تعالى ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ جوابُ إذا كأنَّها لما رأتهُم متوجهينَ إلى الوادي فرَّتْ منهم فصاحتْ صيحةً تنبهتْ بها ما بحضرتِها من النملِ لمرادِها فتبعها في الفرارِ فُشبِّه ذلك بمخاطبةِ العُقلاءِ ومناصحتِهم فأُجروا مُجراهم حيث جُعلتْ هي قائلةً وما عداها من النمل مقولا لهم حيث قيل ﴿يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم﴾ مع أنَّه لا يمتنعُ أنْ يخلُق الله تعالى فيها النُّطقَ وفيما عداها العقلَ والفهم وقرئ نملة يأيها النَّمُل بضمِّ الميمِ وهو الأصلُ كالرجُل وتسكينُ الميمِ تخفيفٌ منه كالسَّبْعِ في السبع وقرئ بضمِّ النونِ والميمِ قيل كانتْ نملةً عرجاءَ تمشي وهي تتكاوسُ فنادتْ بما قالتْ فسمعَ سليمانُ عليه السَّلام كلامَها من ثلاثةِ أميالٍ وقيل كان اسمُها طاخية وقرئ مسكنَكم وقولُه تعالى ﴿لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ﴾ نهيٌ في الحقيقة للنَّملِ عن التأخرِ في دخولِ مساكنِهم وإنْ كانَ بحسبِ الظَّاهر نهياً له عليه الصَّلاة والسَّلام ولجنودِه عن الحطْمِ كقولِهم لا أرينَّك هَهُنا فهُو استئنافٌ أو بدلٌ من الأمرِ كقولِ مَنْ قالَ فقلتُ له ارحلْ لا تُقيمنّ عندنا لا جوابَ له فإنَّ النُّون لا تدخلُه في السعة وقرئ لا يحطمنكم بالنون الخفيفة وقرئ لا يَحَطَمنكم بفتحِ الحاءِ وكسرِها وأصلُه لا يحتطمنَّكم وقولُه تعالى ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ حالٌ من فاعلِ يحطمنَّكم مفيدةٌ لتقييدِ الحطمِ بحالِ عدمِ شعورِهم بمكانِهم حتَّى لو شعروا بذلك لم يحطَّمُوا وأرادتْ بذلكَ الإيذان بأنها عارفة بشئون سليمانَ وسائرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام من عصمتِهم عن الظُّلم والإيذاءِ وقيل هو استئنافٌ أي فهمَ سليمان ما قالته وللقوم
278
سورة النمل لا يشعرونَ بذلكَ
279
﴿فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا﴾ تعجباً من حذرها واهتدائِها إلى تدبير مصالحِها ومصالحِ بني نوعِها وسروراً بشهرة حالِه وحالِ جنودِه في بابِ التَّقوى والشَّفقةِ فيما بين أَصنافِ المخلوقاتِ التي هي أبعدُها من إدراك أمثالِ هذه الأمورِ وابتهاجاً بما خصَّه الله تعالى به من إدراك همسِها وفهمِ مُرادِها رُوي أنَّها أحسَّتْ بصوتِ الجنودِ ولا تعلمُ أنَّهم في الهواءِ فأمرَ سليمانُ عليه السَّلام الريحَ فوقفتْ لئلاَّ يذعَرنَ حتَّى دخلن مساكنهنَّ ﴿وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾ أي اجعلني أزعُ شكرَ نعمتكَ عندي واكفَّه وأرتبطُه بحيثُ لا ينفلتُ عنِّي حتَّى لا أنفكُّ عن شكرك أصلا وقرئ بفتحِ ياءِ أَوزعني ﴿التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ﴾ أدرج فيه ذكرهما تكثيراً للنعمة فإنَّ الإنعامَ عليهما إنعامٌ عليه مستوجبٌ للشُّكرِ ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه﴾ إتماماً للشُّكرِ واستدامةً للنِّعمةِ ﴿وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين﴾ في جملنهم الجنَّةَ التي هي دارُ الصالحينَ
﴿وَتَفَقَّدَ الطير﴾ أي تعرَّف أحوال الطير فلم يرا الهُدهدَ فيما بينها ﴿فَقَالَ ما لي لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين﴾ كأنَّه قال أولا مالي لا أراه لسائر سترَه أو لسببٍ آخرَ ثم بدا له أانه غائبٌ فأضربَ عنْه فأخذَ يقولُ أهو غائبٌ
﴿لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً﴾ قيلَ كان تعذيبُه للطيرِ بنتفِ ريشه وتشميسه وقيل يجعله مع ضده في قفص وقيل بالتفريق بينه وبين إلفِه ﴿أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ﴾ ليعتبرَ به أبناءُ جنسهِ ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ﴾ بحجَّةٍ تبينُ عذرَهُ والحَلِفُ في الحقيقةِ على أحدِ الأَولينِ على تقديرِ عدمِ الثَّالث وقرئ ليأتينَّنِي بنونينِ أولاهُما مفتوحةٌ مشددةٌ قيلَ إنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ لما أتمَّ بناء بيتَ المقدسِ تجهَّز للحجِّ بحشرهِ فَوَافى الحرِمَ وأقامَ به ما شاء وكان يقرِّب كلَّ يومٍ طولَ مقامِه خمسةَ آلافِ ناقةٍ وخمسةَ آلافِ بقرةٍ وعشرينَ ألفَ شاةٍ ثم عزمَ على السير إلى اليمنِ فخرج من مكةَ صباحاً يؤمُّ سُهَيلاً فوافى صنعاءَ وقتَ الزَّوالِ وذلكَ مسيرةَ شهرٍ فرأى أرضاً حسناءَ أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلِّي فلم يجد الماءَ وكان الهدهد قناقنه وكان يَرَى الماءَ من تحتِ الأرضِ كما يَرَى الماء في الزجاجة فيجئ الشياطينُ فيسلخونَها كما يُسلخُ الأهابُ ويستخرجون الماءَ فتفقَّده لذلك وقد كانَ حين نزل سليمان عليه السلام حلَّق الهدهُد فرأى هدهداً واقعاً فانحطَّ إليه فوصفَ له ملكَ سليمانَ عليه السَّلام وما سخر له من كلِّ شيءٍ وذكر له صاحبُه ملكَ بلقيسَ وأنَّ تحت يدِها اثني عشرَ ألفَ قائدٍ تحت يد كلِّ قائدٍ مائةُ ألفٍ وذهبَ معه لينظرَ فما رجع إلا بعدَ العصرِ وذلك قوله تعالى
279
سورة النمل (٢٢)
280
﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ أي زمانا غير مديد وقرئ بضمِّ الكافِ وذُكر أنَّه وقعتْ نفحةٌ من الشمس على رأسِ سليمانَ عليه السَّلام فنظر فإذا موضعُ الهدهدِ خالٍ فدعا عرِّيفَ الطير وهوالنسر فسألَه عنه فلم يجدْ عنده علمَه ثم قال لسيدِ الطيرِ وهو العُقابُ عليَّ به فارتفعتْ فنظرتْ فإذا هو مقبلٌ فقصدتْهُ فناشدها الله وقال بحقِّ الله الذي قوَّاكِ وأقدركِ عليَّ إلاَّ رحِمتنِي فتركتْهُ وقالتْ ثكلتكَ أمُّك إنَّ نبيَّ الله قد حلفَ ليعذبنَّك قال وما استثنَى قالت بلى قال أوليأتيني بعذرٍ مبينٍ فلمَّا قرُب من سليمان عليه السلام أَرْخى ذنبَه وجناحيِه يجرُّها على الأرضِ تواضعاً له فلما دنا منه أخذ عليه السَّلام برأسه فمدَّه إليه فقال يا نبيَّ الله اذكرُ وقوفكَ بين يدَي الله تعالى فارتعدَ سليمانُ عليه السَّلام وعفا عنه ثم سألَه ﴿فَقَالَ أحطت بما لم تحط بِهِ﴾ أي علماً ومعرفةً وحفظتُه من جميعِ جهاتِه وقرئ أحطتُ بادغامِ الطَّاءِ في التَّاءِ بإطباقٍ وبغيرِ إطباقٍ ولا خفاء في أنَّه لم يُرد بما ادَّعى الإحاطةَ به ما هو من حقائق العلومِ ودقائقِ المعارفِ التي تكونُ معرفتُها والإحاطةُ بها من وظائف أربابِ العلمِ والحكمةِ لتوقفها على علمٍ رصينٍ وفضلٍ مبينٍ حتَّى يكونَ إثباتُها لنفسه بين يدي نبيِّ الله سليمانَ عليه السَّلام تعدِّياً عن طورهِ وتجاوزاً عن دائرة قدرهِ ونفيُها عنه عليه الصَّلاة والسَّلام جنايةً على جنايةٍ فيُحتاجَ إلى الاعتذار عنخ بأنه ذلك كان منهلا بطريق الإلهامِ فكافَحه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك مع ما أُوتي عليهِ الصَّلاة والسَّلام من فضل النُّبوة والحكمةِ والعلومِ الجمَّة والإحاطةِ بالمعلوماتِ الكثيرةِ ابتلاءً له عليه الصلاة والسلام في علمِه وتنبيهاً على أنَّ في أدنى خلقِه تعالى وأضعفِهم من أحاطَ علماً بما لم يُحط به لتتحاقر إليه نفسُه ويتصاغر إليه علمُه ويكون لطفاً له في تركِ الاعجاب الذي هو فتنةُ العلماء بل أرادَ به ما هو من الأمورِ المحسوسةِ التي لا تُعد الإحاطةُ بها فضيلة ولا الغفلةُ عنها نقيصةً لعدم توقف إدراكِها إلا على مجردِ إحساسٍ يستوى فيه العقلاءُ وغيرُهم وقد علم أنَّه عليه الصلاةُ والسلام ولم يشاهدْهُ ولم يسمعْ خبره من غيرِه قطعاً فعبَّر عنه بما ذُكر لترويج كلامِه عنده عليه الصَّلاة والسَّلام وترغيبهِ في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالةِ قلبهِ نحو قبولِه فإنَّ النفسَ للإعتذار المنبئ عن أمرٍ بديعٍ أقبلُ وإلى تلقِّي ما لا تعلمُه أميلُ ثم أيَّده بقولِه ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ حيثُ فسَّر إبهامه نوع تفسير وأرادَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه كان بصدد إقامةِ خدمةٍ مهمةٍ له حيثُ عبَّر عمَّا جاء به بالنبأِ الذي هو الخبرُ الخطيرُ والشَّأنُ الكبيرُ ووصفَهُ بما وصفَهُ وإلاَّ فماذا صدر عنه عليه الصلاة والسَّلامُ مع ما حُكي عنه ما حُكي من الحمد والشُّكرِ واستدعاءِ الإيزاعِ حتَّى يليقَ بالحكمة الإلهيةِ تنبيهُه عليه الصَّلاة والسَّلام على تركِه وسبأٌ منصرفٌ على أنَّه اسمٌ لحيَ سُمُّوا باسم أبيهم الأكبرِ وهو سبأُ بنُ يشجبَ بن يعرب بن قحطان قالُوا اسمُه عبدُ شمسٍ لُقِّب به لكونه أوَّلَ من سبى وقرئ بفتحِ الهمزةِ غيرَ مُنصرفٍ على أنَّه اسمٌ للقبيلةِ ثمَّ سُميت مدينةُ مأربَ بسبأٍ وبينها وبينَ صنعاءَ مسيرةُ ثلاثٍ وعلى هذه القراءةِ يجوزُ أنْ يرادَ به القبيلةُ والمدينةُ وأمَّا عَلى القراءةِ الأُولى فالمرادُ هو الحيُّ لا غيرُ وعدمُ وقوفِ سليمانَ عليه السَّلامُ على نبئِهم قبلَ إنباءِ الهُدهدِ ليس بأمرٍ بديعٍ لا بدَّ له من حكمةٍ داعيةٍ إليه البتةَ وإنِ استحال خلوُّ إفعالِه تعالى من الحكمِ والمصالحِ لما أنَّ المسافةَ بين محطِّه عليه الصَّلاة
280
سورة النمل (٢٣ ٢٥) والسَّلام وبين مأربَ وإن كانتْ قصيرةً لكن مدةُ ما بين نزولِه عليه الصَّلاة والسَّلام هناك وبين يجئ الهدهدِ بالخبرِ أيضاً قصيرةٌ نعم اختصاصُ الهدهدِ بذلك مع كون الجنِّ أقوى منه مبنيٌّ على حِكَمٍ بالغةٍ يستأثرُ بها علاَّمُ الغُيوبِ وقولُه تعالى
281
﴿إِنّى وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ﴾ استئنافٌ ببيان ما جاء به من النبأ وتفصيلٌ له إثرَ الإجمالِ وهي بلقيسُ بنتُ شراحيلَ بنِ مالكِ بنِ ريَّانَ وكان أبُوها ملكَ أرضِ اليمنِ كلِّها ورثَ المُلكَ من أربعين أباً ولم يكُن له ولدٌ غيرُها فغلبتْ بعدَه على المُلكِ ودانتْ لها الأمَّة وكانتْ هي وقومُها مجوساً يعبدونَ الشمسَ وإيثارُ وجدتُ على رأيتُ لما أشير إليه من الإيذانِ بكونِه عند غيبته بصددِ خدمتِه عليه الصَّلاة والسَّلامِ بإبراز نفسه في معرضِ من يتفقدُ أحوالَها ويتعرَّفها كأنَّها طِلبتُه وضالَّتُه ليعرضَها على سليمانَ عليه السَّلامُ وضميرُ تملكُهم لسبأٍ على أنَّه اسمٌ لحيَ أو لأهلها المدلولِ عليهم بذكرِ مدينتِهم على أنَّه اسمٌ لها ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء﴾ أيْ منَ الأشياءِ التي يحتاجُ إليها الملوكُ ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ قيل كان ثلاثينَ ذراعاً في ثلاثين عَرضاً وسَمكاً وقيل ثمانينَ في ثمانينَ من ذهب وفضه مكالا بالجواهر وكانت قوامه من ياقوتٍ أحمرَ وأخضرَ ودُرَ وزمردٍ وعليه سبعةُ أبياتٍ على كلِّ بيتٍ بابٌ مغلقٌ واستعظامُ الهدهدِ لعرشِها مع ما كان يشاهدُه من ملكِ سليمانَ عليه السَّلام إمَّا بالنسبة إلى حالِها أو إلى عروشَ أمثالِها من الملوكِ وقد جوز أن يكون لسليمانَ عليه السَّلامَ مثلُه وأيا ما كان فوصفُه بذلكَ بينَ يديهِ عَلَيهِ الصَّلاة والسَّلام لما مرَّ من ترغيبِه عليه الصَّلاة والسَّلام في الإصغاءِ إلى حديثِه وتوجيهِ عزيمتِه عليه الصَّلاة والسَّلام نحو تسخيرِها ولذلك عقبه بما وجب غزوها من كُفرِها وكُفر قومِها حيثُ قال
﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله﴾ أي يعبدونَها متجاوزينَ عبادةَ الله تعالى ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم﴾ التي هي عبادةُ الشمسِ ونظائِرها منْ أصنافِ الكفرِ والمَعَاصي ﴿فَصَدَّهُمْ﴾ بسببِ ذلكَ ﴿عَنِ السبيل﴾ أي سبيلِ الحقِّ والصوابِ فإنَّ تزيينَ أعمالِهم لا يتصورُ بدون تقويمِ طرقِ كفرِهم وضلالِهم ومن ضرورته نسبةُ طريقِ الحقِّ إلى العوجِ ﴿فهم﴾ بسبب ذلك ﴿لا يَهْتَدُونَ﴾ إليهِ وقولُه تعالى
﴿أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ﴾ مفعولٌ له إمَّا للصدِّ أو للتزيينِ عَلَى حذفِ اللامِ منهُ أى فصدهم لئلا يسجدوا له تعالى أو زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا أو بدلٌ على حالِه من أعمالَهم وما بينهما اعتراضٌ أيْ زيَّن لهم أنْ لا يسجدوا وقيل هو في موقع المفعولِ ليهتدون بإسقاطِ الخافضِ ولا مزبدة كما في قوله تعالى لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب والمعنى فهم لا يهتدون إلى أنْ يسجدوا له تعالى وقرئ أَلاَ يَا اسجدُوا على التنبيه والنداء محذوفٌ أيْ أَلاَ يا قوم اسجدوا كما
281
سورة النمل (٢٦ ٢٨) في قولِه [أَلاَ يا اسلَمي يا دارَ مَي عَلَى البِلَى] ونظائِره وعلى هذا يحتملُ أنُ يكونَ استشافا من جهةِ الله عزَّ وجلَّ أو من سليمانَ عليه السَّلام ويُوقف على لا يهتدونَ ويكون أمراً بالسجود وعلى الوجوهِ المتقدمةِ ذمَّاً على تركه وأياما كان فالسجود واجب وقرئ هَلاّ وهَلاَ بقلبِ الهمزتينِ هاء وقرئ هَلاَّ تسجدون بمعنى ألا تسجدونَ على الخطاب (الذى يخرج الخبء في السموا والأرض) أيْ يظهرُ ما هو مخبوء ومخفى فيهما كائناً ما كان وتخصيصُ هذا الوصفِ بالذكرِ بصددِ بيانِ تفرُّده تعالى باستحقاق السُّجودِ له من بين سائرِ أوصافِه الموجبةِ لذلك لما أنَّه أرسخُ في معرفتِه والإحاطةِ بأحكامه بمشاهدة آثارهِ التي من جُملتها ما أودعَه الله تعالى في نفسه من القدرة على معرفةِ الماءِ تحتَ الأرضِ وأشارَ بعطفِ قولِه ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تعلنون﴾ ) عل يخرجُ إلى أنَّه تعالى يخرج ما في العالم الإنسانيِّ من الخَفَايَا كما يخرج ما في العالم الكبير من الخَبَايَا لِما أنَّ المرادَ يظهرُ ما تُخفونَهُ من الأحوال فيجازيكُم بها وذكرُ ما تُعلنون لتوسيع دائرة العلم أو للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي وقرئ ما يُخفون وما يُعلنون على صيغةِ الغَيبةِ بلا التفاتٍ وإخراجُ الخبءِ يعمُّ إشراقَ الكواكبِ وإظهارَها من آفاقها بعد استنارها وراءها وإنزالَ الأمطارِ وإنباتَ النباتِ بل الإنشاءَ الذي هو إخراجُ ما في الشيء بالقوَّةِ إلى الفعلِ والإبداعَ الذي هو إخراجُ ما في الإمكان والعدمِ إلى الوجود وغيرَ ذلك من غيوبِه عزَّ وجلَّ وقرئ الخَبَ بتخفيف الهمزةِ بالحذفِ وقرئ الخبا بتخفيفها بالقلب وقرئ ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون
282
(الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم) الذي هو أولُ الأجرامِ وأعظمها وقرئ العظيمُ بالرَّفعِ عَلى أنَّه صفةُ الربِّ واعلمْ أن ما حُكي من الهُدهدِ من قولِه الذي يُخرج الخبءَ إلى هُنا ليس داخلاً تحت قولِه أحطتُ بما لم تحط به وإنما هو من لعلوم والمعارفِ التي اقتبسها من سليمانَ عليه السَّلام أوردَهُ بياناً لما هو عليهِ وإظهاراً لتصلُّبهِ في الدِّينِ وكلُّ ذلكَ لتوجيهِ قلبِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ نحو قبولِ كلامِه وصرفِ عَنَانِ عزيمتِه عليه السَّلامُ إلى غزوِها وتسخيرِ ولايتِها
﴿قال﴾ استشاف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية كلام الهُدهدِ كأنَّه قيلَ فماذا فعلَ سليمانُ عليه السَّلام عند ذلكَ فقيل قال ﴿سَنَنظُرُ﴾ أي فيما ذكرتَه من النَّظر بمعنى التَّأملِ والسِّينُ للتأكيدِ أي سنتعرفُ بالتجربةِ البتةَ (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين) كان مُقتضى الظَّاهرِ أم كذبتَ وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للإيذانِ بأنَّ كذبَهُ في هذه المادة يستلزمه انتظامَهُ في سلكِ الموسومينَ بالكذبِ الراسخينَ فيه فإنَّ مساقَ هذه الأقاويلِ الملفَّقةِ على ترتيبٍ أنيقِ يستميلُ قلوبَ السامعينَ نحوَ قَبُولِها من غير أن يكون لها مصداقٌ أصلاً لا سيما بين يَدَي نبيَ عظيم الشأنِ لا يكادُ يصدرُ إلا عمَّن له قدم راسخٌ في الكذب والإفكِ وقولُه تعالى
﴿اذهب بّكِتَابِى هذا فَأَلْقِهْ﴾
282
سورة النمل (٢٩ ٣١) ﴿إليهم﴾ استئناف مبين لكيفية النَّظر الذي وعدَه عليه الصَّلاة والسَّلام وقد قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما كتبَ كتابَه في ذلكَ المجلسِ أو بعدَهُ وتخصيصُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاه بالرِّسالةِ دونَ سائرِ ما تحتَ مُلكِه من أمناءِ الجنِّ الأقوياءِ على التصرف والتعرُّفِ لما عاينَ فيه من مخايل العلمِ والحكمةِ وصحَّةِ الفراسةِ ولئلاَّ يبقى له عذرٌ أصلاً ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أي تنحَّ إلى مكانٍ قريبٍ تَتَوارى فيه ﴿فانظر﴾ أي تأمَّلَ وتعرَّفْ ﴿مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ أي ماذا يرجعُ بعضُهم إلى بعضٍ من القول وجمعُ الضمائرِ لما أنَّ مضمونَ الكتابِ الكريمِ دعوةُ الكُلِّ إلى الإسلام
283
﴿قَالَتْ﴾ أي بعدَ ما ذهبَ الهدهدُ بالكتابِ فألقاهُ إليهم وتنحَّى عنهم حسبما أُمر به وإنَّما طُوي ذكرُه إيذاناً بكمالِ مسارعتِه إلى إقامةِ ما أُمر بهِ من الخدمة وإشعاراً باستغنائه عن التَّصريحِ به لغايةِ ظهورِه روُي أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلام كتب كتابَه وطبعه بالمسكِ وختَمه بخاتمِه ودفعَه إلى الهدهدِ فوجدَها الهدهدُ راقدةً في قصرِها بمأربَ وكانتْ إذا رقدتْ غلَّقتِ الأبوابِ ووضعتِ المفاتيحَ تحتَ رأسِها فدخلَ من كُوَّةٍ وطرحَ الكتابَ على نحوها وهي مستقلية وقيل نقرَها فانتبهتْ فَزِعةً وقيل أتاها والقادةُ والجنودُ حواليَها فرفرفَ ساعةً والنَّاسُ ينظرونَ حتَّى رفعتْ رأسَها فألقى الكتاب على حجرِها وكانت قارئةً كاتبةً عربيةً من نسلٍ تُبَّع الحميريِّ كَما مَرَّ فلما رأتِ الخاتمَ ارتعدتْ وخضعتْ فعندَ ذلكَ قالتْ لأشرافِ قومها ﴿يا أيها الملا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ وصفتْه بالكرمِ لكرمِ مضمونِه أو لكونِه من عندَ ملكٍ كريمٍ أو لكونِه مختوماً أو لغرابةِ شأنِه ووصولِه إليها على منهاجٍ غيرِ معتادٍ
﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ﴾ استئنافٌ وقعَ جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنَّه قيل ممن هُو وماذا مضمونُه فقالتْ إنَّه منْ سُليمان ﴿وَأَنَّهُ﴾ أي مضمونُه أو المكتوبُ فيه ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ وفيه إشارةٌ إلى سببِ وصفها إياه بالكرم وقرئ أنَّه وأنَّه بالفتحِ على حذفِ اللامِ كأنها عللتْ كرمَه بكونِه من سليمانَ وبكونِه مُصدَّراً باسمِ الله تعالى وقيل على أنَّه بدل من كتاب وقرئ أنْ من سُليمان وأنْ بسم الله الرحمن الرحيم على أنْ المفسرةُ
﴿أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ﴾ أنْ مفسرةٌ ولا ناهيةٌ أي لا تتكبروا كما يفعلُ جبابرةُ الملوكِ وقيل مصدريةٌ ناصة للفعلِ ولا نافيةٌ محلُّها الرفع على أنها من كتابٌ أو خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ يليقُ بالمقام أي مضمونُه أنْ لا تعلُوا أو النَّصبُ بإسقاطِ الخافضِ أي بأنْ لا تعلوا علي وقرئ أن لا تغلُوا بالغينِ المعجمةِ أي لا تجاوزُوا حدَّكم ﴿وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ﴾ أي مؤمنينَ وقيل منقادينَ والأولُ هو الأليقُ بشأن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على أنَّ الإيمانَ مستتبعٌ للانقياد حتماً روي أنَّ نسخةَ الكتابِ من عبدِ الله سليمان بنِ داودَ إلى بلقيسَ ملكةِ سبأً السَّلامُ على من اتبعَ الهُدَى أمَّا بعدُ فلا تعلُوا عليَّ وأتوني مسلمينَ وليسَ الأمرُ فيه بالإسلامِ قبل إقامةِ الحجَّة على رسالتِه حتَّى يُتوهم كونه استدعاء للتقليدِ فإنَّ إلقاء الكتابِ إليها على تلك الحالةِ معجزةٌ باهرةٌ دالَّةٌ على رسالةِ مُرسِلها دلالةً بينةً
283
سورة النمل (٣٢ ٣٥)
284
﴿قَالَتْ﴾ كُررتْ حكايةُ قولِها للإيذانِ بغايةِ اعتنائِها بما في حيزه من قولِها ﴿يا أيها الملا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى﴾ أي أجيبونِي في أمرِي الذي حَزَبني وذكرتُ لكم خُلاصتَه وعبرتْ عن الجوابِ بالفَتوى التي هي الجواب في الحوادث المشكلة غالباً تهويلاً للأمر ورفعاً لمحلهم بالإشعار بأنهم قادرونَ على حلِّ المشكلاتِ المُلمَّةِ وقولُها ﴿مَا كُنتُ قاطعة أَمْراً﴾ أي من الأمورِ المتعلقةِ بالملكِ ﴿حتى تَشْهَدُونِ﴾ أي إلا بمحضرِكم وبموجبِ آرائِكم استعطاف لهم واستمالة لقلوبِهم لئلاَّ يخالفُوها في الرَّأي والتدبير
﴿قالوا﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولِها كأنَّه قيل فمَاذا قالُوا في جوابِها فقيلَ قالُوا ﴿نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ﴾ في الأجسادِ والآلاتِ والعُددِ ﴿وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أي نجدةٍ وشجاعةٍ مفرطةٍ وبلاءٍ في الحربِ ﴿والأمر إِلَيْكِ﴾ أي هو موكولٌ إليكِ ﴿فانظرى مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ ونحنُ مطيعونَ لكِ فمُرينا بأمرِك نمتثلْ به ونتبعْ رأيكِ وأرادوا نحنُ من أبناءِ الحربِ لا من أبناءِ الرأي والمشورةِ وإليكِ الرَّأي والتَّدبيرِ فانظرِي ماذا ترينَ نكنْ في الخدمةِ فلَّما أحسَّتْ منهم الميلَ إلى الحرابِ والعدولَ عن سَنَنِ الصَّوابِ شرعت في تزييف مقلتهم المبنيةِ على الغفلةِ عن شأنِ سليمانَ عليه السَّلامُ وذلك قولُه تعالى
﴿قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً﴾ من القُرى على منهاجِ المقاتلةِ والحرابِ ﴿أَفْسَدُوهَا﴾ بتخريبِ عماراتِها وإتلافِ ما فيها من الأموالِ ﴿وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ بالقتلِ والأسرِ والإجلاءِ وغيرِ ذلك من فُنونِ الإهانةِ والإذلالِ ﴿وكذلك يَفْعَلُونَ﴾ تأكيدٌ لما وصفتْ من حالِهم بطريقِ الاعتراضِ التذييليِّ وتقريرٌ له بأنَّ ذلك عادتُهم المستمرةُ وقيل تصديقٌ لها من جهة الله تعالى على طريقة قوله تعالى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً إثر قوله تعالى لنفد البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى
﴿وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ﴾ تقرير لرأيها بعدما زيفتْ آراءَهم وأتتْ بالجملةِ الاسميةِ الدالةِ على الثبات المصدرةِ بحرفِ التحقيق للإيذانِ بأنَّها مزمعةٌ على رأيها لا يَلويها عنه صارفٌ ولا يَثْنيها عاطفٌ أيْ وإنِّي مرسلةٌ إليهم رُسُلاً بهديةٍ عظيمة ﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون﴾ حتَّى أعملَ بما يقتضيهِ الحالُ رُوي أنَّها بعثت خمسمائةِ غلامٍ عليهم ثيابُ الجَوَاري وحليُّهن الأساورُ والأطواقُ والقِرَطةُ راكبى خيلٍ مغشَّاةٍ بالديباجِ محلاَّةِ اللُّجمِ والسُّروجِ بالذهبِ المُرَّصعِ بالجواهرِ وخمسمائةِ جاريةٍ على رِماك في زيِّ الغلمانِ وألفَ لبنةٍ من ذهبٍ وفضةٍ وتاجاً مكللاً بالدرِّ والياقوتِ المرتفعِ والمسكِ والعنبرِ وحُقَّاً فيه درةٌ عذراءُ وجزعة معوجة الثقبِ وبعثتْ رجلاً من أشرافِ قومِها المنذرَ بنَ عمروٍ وآخرَ ذار أي وعقلٍ وقالتْ إنْ كانَ نبياً ميَّز بين الغلمانِ والجواري وثقب الدرة نقبا مستوياً وسلك في الخرزةِ خيطاً ثمَّ قالتْ للمنذرِ إنْ نظرَ إليكَ نظرَ غضبانَ فهو ملكٌ فلا يهولنك
284
سورة النمل (٣٦ ٣٧) وإن رأيته بشاص لطيفاً فهو نبيٌّ فأقبلَ الهدهدُ فأخبرَ سليمانَ عليه السَّلامُ بذلك فأمرَ الجنَّ فضربُوا لِبنَ الذهبِ والفضَّةِ وفرشُوه في ميدانٍ بين يديِه طولُه سبعةُ فراسخ وجعلُوا حولَ الميدانِ حائطاً شرفاتُه من الذَّهبِ والفِضَّةِ وأمرَ بأحسنِ الدَّوابِّ في البرِّ والبحرِ فربطُوها عن يمينِ الميدانِ ويسارِه على اللبن وأمرَ بأولادِ الجنِّ وهم خلقٌ كثيرٌ فأُقيمُوا على اليمينِ واليسارِ ثم قعدَ على سريرِه والكراسيُّ من جانبيِه واصطفتِ الشياطينُ صفوفاً فراسخَ والإنسُ صفوفاً فراسخَ والوحشُ والسباعُ والطيورُ والهوامُّ كذلك فلما دنا القومُ ونظرُوا بُهتوا ورَأوا الدوابَّ تروثُ على اللبنِ فتقاصرتْ إليهم نفوسُهم ورمَوا بما معهم ولما وقفُوا بين يديِه نظَر إليهم بوجهٍ طَلْقٍ وقال ما وراءكم وقال أينَ الحُقُّ وأخبرَهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ بما فيه فقالَ لهم إنَّ فيه كذا وكذا ثم أمرَ بالأَرَضةِ فأخذتْ شعرةً ونفذتْ في الدُّرة فجعلَ رزقَها في الشَّجرةِ وأخذتْ دودةٌ بيضاءُ الخيطَ بفيها ونفذتْ في الجَزَعةِ فجعلَ رزقَها في الفواكِه ودعا بالماءِ فكانتِ الجاريةُ تأخذُ الماء بيدِها فتجعلُه في الأُخرى ثم تضربُ به وجهَها والغلامُ كما يأخذُه يضربُ به وجهه ثم رد الهدية وذلك قولُه تعالى
285
﴿فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ﴾ أي الرَّسولُ ﴿قَالَ﴾ أي مخاطباً للرَّسولِ والمُرْسِلِ تغليباً للحاضرِ على الغائبِ وقيل للرَّسولِ ومن مَعه ويؤيدُه أنَّه قرئ فلمَّا جاءُوا والأولُ أَولى لما فيِه من تشديدِ الإنكارِ والتَّوبيخِ وتعميمهُما لبلقيسَ وقومِها ويؤيدُه الإفرادُ في قولِه تعالى ارجعْ إليهم ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ وهو إنكارٌ لإمدادِهم إيَّاه عليه الصَّلاة والسَّلام بالمالِ مع عُلوِّ شأنِه وسعَةِ سُلطانِه وتوبيخٌ لهم بذلكَ وتنكيرُ مالٍ للتحقيرِ وقولُه تعالى ﴿فَمَا آتاني الله﴾ أيْ ممَّا رأيتُم آثارَه منَ النُّبوةِ والمُلكِ الذي لا غايةَ وراءَه ﴿خير مما آتاكم﴾ أي منَ المالِ الذي مِنْ جُملتِه ما جئتُم به فلا حاجةَ لي إلى هديَّتِكم ولا وقعَ لها عندي تعليل للإنكارِ ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما قال لهم هذه المقالةَ إلى آخرِها بعدَ مَا جَرى بينَهُ وبينهم ما حكي من قصة الحُقِّ وغيرها كما أشير إليه لا أنه عليه الصلاةُ والسَّلامُ خاطبَهم بها أولَ ما جاءوه كما يُفهم من ظاهرِ قولِه تعالى فلمَّا جاءَ الخ وقرئ أتُمدُّونِّي بالإدغامِ وبنونٍ واحدةٍ وبنونين وحذفِ الياءِ وقولُه تعالى ﴿بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ إضرابٌ عمَّا ذكر من إنكارِ الإمدادِ بالمالِ إلى التَّوبيخِ بفرحِهم بهديتهم التي أهدَوها إليه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فرحَ افتخارٍ وامتنانٍ واعتدادٍ بها كما ينبئ عنه ما ذكر من حديثِ الحقِّ والجَزَعةِ وتغييرِ زيِّ الغِلمانِ والجواري وغيرِ ذلك وفائدةُ الإضرابِ التَّنبيهُ على أنَّ إمدادَهُ عليه الصَّلاة والسَّلام بالمالِ منكرٌ قبيح وعدُّ ذلكَ مع أنَّه لا قدرَ له عنده عليه الصلاة والسلام مما يتنافسُ فيه المتنافسون أقبحُ والتَّوبيخُ به أدخلُ وقيلَ المضافُ إليهِ المُهدى إليهِ والمعنى بل أنتمُ بما يهدى إليكم تفرحونَ حُبَّاً لزيادةِ المالِ لما أنَّكم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياةِ الدُّنيا
﴿اْرجِعِ﴾ أفردَ الضميرَ هَهُنا بعد جمعِ الضمائر الخمسةِ فيما سبقَ لاختصاصِ الرجوعِ بالرسول عموم الإمداد ونحوه
285
سورة النمل (٣٨ ٤٠) للكلِّ أي ارجعْ أَيُّها الرَّسُولُ ﴿إِلَيْهِمُ﴾ أي إلى بلقيس وقومها فليأتينهم أي فوالله لنأتينَّهم ﴿بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ أي لا طاقةَ لَهمُ بمقاومتِها ولا قدرةَ لهم على مقابلتها وقرئ بهم ﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُم﴾ عطفٌ على جوابِ القسمِ ﴿مِنْهَا﴾ من سبأٍ ﴿أَذِلَّةٍ﴾ أي حالَ كونهم أذلة بعدما كانُوا فيه من العزِّ والتمكينِ وفي جمعِ القِلَّةِ تأكيدٌ لذِلَّتِهم وقولُه تعالى ﴿وَهُمْ صاغرون﴾ أي أُسارَى مُهَانون حالٌ أخرى مفيدةٌ لكونِ إخراجِهم بطريقِ الأسرِ لا بطريقِ الإجلاءِ وعدمُ وقوعِ جوابِ القسمِ لأنَّه كانَ معلَّقاً بشرطٍ قد حُذفَ عندَ الحكايةِ ثقةٍ بدلالةِ الحالِ عليهِ كأنَّه قيلَ ارجعْ إليهم فليأتُوا مسلمينَ وإلا فلنأتينَّهم الخ
286
﴿قال يا أيها الملا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا﴾ قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما دَنا مجيءُ بلقيسَ إليه عليه الصلاة والسلام يُروى أنَّه لمَّا رجعتْ رسلُها إليها بما حُكي من خبرِ سُليمانَ عليه السَّلام قالتْ قد علمتُ والله ما هذا بملكٍ ولا لبابه من طاقةٌ وبعثتْ إلى سليمانَ عليه السَّلام إنِّي قادمةٌ إليكَ بملوكِ قَوْمي حتى أنظرَ ما أمرُك وما تدعُو إليهِ من دينِك ثمَّ آذنتْ بالرَّحيلِ إلى سليمانَ عليه السلام فشخصتْ إليه في اثني عشر ألف قيل تحتَ كلِّ قَيْلٍ ألوفٌ ويُروى أنَّها أمرتْ فجُعِلَ عرشُها في آخرِ سبعةِ أبياتٍ بعضُها في بعضٍ في آخرِ قصرٍ من قصورٍ سبعةٍ لها وغلَّقتِ الأبوابَ ووكَّلتْ به حَرَساً يحفظونَهُ ولعَلَّه أُوحيَ إلى سليمانَ عليه السلام باستيثاقِها من عرشِها فأرادَ أنْ يُريها بعضَ ما خصَّه الله عزَّ سلطانُه به من إجراءِ التعاجيبِ على يدهِ مع إطلاعِها على عظيم قدرتِه تعالى وصحة نبوتِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ ويختبرَ عقلَها بأنْ يُنكِّرَ عرشَها فينظرَ أتعرفُه أم لا وتقييدُ الإتيانِ به بقولِه تعالى ﴿قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ﴾ لمَا أنَّ ذلكَ أبدعُ وأغربُ وأبعدُ من الوقوعِ عادةً وأدل على عظيم قدرة الله تعالى وصحَّةِ نبُّوتِه عليه الصَّلاة والسَّلام وليكونَ اختبارُها وإطلاعُها على بدائعِ المعجزاتِ في أولِ مجيئِها وقيلَ لأنَّها إذَا أتتْ مُسلمةً لم يحلَّ له أخذُ ما لها بغيرِ رِضَاها
﴿قَالَ عِفْرِيتٌ﴾ أي ماردٌ خبيثٌ ﴿مّن الجن﴾ بيانٌ له إذْ يقالُ للرجلِ الخبيثِ المنكرِ المعفرِ لأقرانِه وكان اسمُه ذكوانَ أو صخرا ﴿أنا آتيك بِهِ﴾ أي بعرشِها ﴿قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾ أي من مجلِسك للحكومةِ وكان يجلسُ إلى نصفِ النَّهار وآتيكَ إمَّا صيغةُ المضارعِ أو الفاعلِ وهو الأنسبُ لمقامِ ادِّعاءِ الإتيانِ به لا محالةَ وأوفقُ لما عُطفَ عليه من الجملةِ الاسميةِ أي أنا آتٍ به في تلك المُدَّةِ البتةَ ﴿وَإِنّى عَلَيْهِ﴾ أي على الإتيانِ به ﴿لَقَوِىٌّ﴾ لا يثقلُ عليَّ حملُه ﴿أَمِينٌ﴾ لا أختزلُ منه شيئاً ولا أُبدِّلُه
﴿قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب﴾ فُصلَ عمَّا قبلَه للإيذانِ بما بينَ القائلينِ ومقاليهما
286
وكيفيّتي قدرتِهما على الإتيانِ به من كمال التباينِ أو لإسقاطِ الأولِ عن درجةِ الاعتبارِ قيلَ هو آصِفُ بن بزخيا وزيرُ سليمانَ عليه السَّلام وقيل رجلٌ كان عنده اسمُ الله الأعظمُ الذي إذا سُئل به أجابَ وقيل الخَضِرُ أو جبريلُ أو مَلَكٌ أيَّده الله عزَّ وجلَّ بهِ عليهم السَّلام وقيل هو سُليمانُ نفسُه عليه السَّلام وفيه بُعدٌ لا يَخْفى والمرادُ بالكتابِ الجنسُ المنتظِمُ لجميعِ الكتبِ المنزلِة أو اللوحُ وتنكيرُ عِلْمٌ للتفخيمِ والرمزِ إلى أنَّه علمٌ غيرُ معهودٍ ومِن ابتدائيةٌ ﴿أَنَاْ آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ الطَّرفُ تحريكُ الأجفانِ وفتحُها للنَّظرِ إلى شيء وارتداده انضمامها ولكونِه أمراً طبيعياً غيرَ منوطٍ بالقصدِ أُوثر الارتدادُ على الردِّ ولمَّا لم يكُنْ بينَ هذا الوعدِ وإنجازه مدة ما كما في وعدِ العفريتِ استغنى عن التأكيدِ وطُوي عند الحكاية ذكرُ الإتيانِ به للإيذانِ بأنَّه أمرٌ متحققٌ غنيٌّ عنِ الإخبارِ بهِ وجيءَ بالفاءِ الفصيحةِ لا داخلة على جملةٍ معطوفة على دجنلة مقدرةٍ دالةٍ على تحققِه فقط كما في قولِه عز وجل فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق ونظائِره بل داخلة على الشرطيةِ حيثُ قيل ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه﴾ أيْ رأى العرشَ حاضراً لديهِ كما في قولِه عزَّ وجلَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ للدلالةِ على كمالِ ظهورِ ما ذُكر مِن تحققةِ واستغنائِه عن الإخبارِ به ببيان ظهورِ ما يترتبُ عليه من رؤيةِ سُليمان عليه السَّلامُ إيَّاهُ واستغنائِه أيضاً عن التصريح به إذِ التَّقديرُ فأتاه به فَرآهُ فلمَّا رآه الخ فحذفَ ما حذف لما ذكرو للإيذان بكمالِ سرعةِ الإتيانِ به كأنَّه لم يقعْ بينَ الوعدِ به وبين رؤيتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاه شيءٌ ما أصلاً وفي تقييدِ رؤيتِه باستقرارِه عندَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تأكيدٌ لهذا المَعْنى لإيهامهِ أنَّه لم يتوسط بينَهما ابتداء الإتيانِ أيضاً كأنَّه لم يزلْ موجُوداً عندَهُ معَ ما فيه من الدلالة على دوامِ قرارِه عنده مُنتظماً في سلكِ مُلكه ﴿قال﴾ أي سليمان عليه السَّلامُ تلقياً للنعمةِ بالشُّكرِ جرياً على سَنَن أبناءِ جنسه من أنبياء الله تعالى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وخلَّصِ عبادِه ﴿هذا﴾ أي حضورُ العرشِ بين يديِه في هذهِ المُدَّة القصيرةِ أو التمكنُ من إحضارِه بالواسطةِ أو بالذاتِ كما قيلَ ﴿مِن فَضْلِ رَبّى﴾ أي تفضله عليَّ منْ غيرِ استحقاقٍ لهُ من قِبلَي ﴿ليبلوني أأشكر﴾ بأنْ أراهُ محضَ فضلِه تعالى من غيرِ حولٍ من جهتي ولا قوةٍ وأقومَ بحقِّه ﴿أَمْ أَكْفُرُ﴾ بأنْ أجدَ لنفسي مدخلاً في البينِ أو أقصِّر في إقامةِ مواجبِه كما هو شأنُ سائرِ النعمِ الفائضةِ على العبادِ ﴿وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ لأنَّه يرتبطُ به عتيدُها ويستلجب به مزيدُها ويحطُّ بهِ عن ذمَّته عبءَ الواجبِ ويتخلصُ عن وصمةِ الكُفرانِ ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ أيْ لم يشكُرْ ﴿فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ﴾ عن شُكرهِ ﴿كَرِيمٌ﴾ بتركِ تعجيلِ العقوبةِ والإنعامِ مع عدمِ الشكرِ أيضاً
287
﴿قال﴾ أي سليمان عليه السَّلام كُررتِ الحكايةُ مع كونِ المحكيِّ سابقاً ولاحقاً من كلامِه عليه الصَّلاة والسَّلام تنبيهاً على ما بين السَّابقِ واللاحقِ من المخالفةِ لما أنَّ الأولَ من باب الشكر لله تعالى والثَّاني أمرٌ لخدمِه ﴿نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا﴾ أي غيِّروا هيئتَه بوجهٍ من الوجوه ﴿ننظر﴾ بالجزمِ على أنَّه جوابُ الأمر وقرئ بالرَّفعِ على الاستئنافِ ﴿أَتَهْتَدِى﴾ إلى معرفتِه أو إلى الجوابِ اللائقِ بالمقام وقيل إلى الإيمانِ بالله تعالى ورسولِه عند رؤيتِها لتقدمِ عرشها عرشِها من مسافةٍ طويلةٍ في مدةٍ قليلةٍ وقد خلَّفته مغلقةً عليه الأبوابَ موكلةً عليه الحَّراسَ والحجَّابَ
287
سورة النمل (٤٢ ٤٣) ويأباهُ تعليقُ النظرِ المتعلقِ بالاهتداءِ بالتنكيرِ فإنَّ ذلكَ ممَّا لا دخلَ فيه للتنكيرِ ﴿أَمْ تَكُونُ﴾ أي بالنسبةِ إلى علمنا ﴿مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ﴾ أي إلى ما ذكر من معرفةِ عرشِها أو الجوابِ الصَّوابِ فإنَّ كونَها في نفسِ الأمرِ منهم وإنْ كان أمرا مستمرا لكن كونُها منهم عند سليمان عليه السلام وقومه أمرٌ حادثٌ يظهرُ بالاختبارِ
288
﴿فَلَمَّا جَاءتْ﴾ شروعٌ في حكايةِ التَّجربةِ التي قصدَها سليمانُ عليه السَّلام أَي فلمَّا جاءتْ بلقيسُ سليمانَ عليه السلام وقد كان العرشُ بين يديِه ﴿قِيلَ﴾ أي من جهةِ سُليمانَ عليه السَّلامُ بالذاتِ أو بالواسطةِ ﴿أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾ لم يقُل أهذا عرشُكِ لئلاَّ يكونَ تلقيناً لها فيفوتَ ما هو المقصودُ من الأمرِ بالتَّنكيرِ من إبرازِ العرشِ في مَعْرضِ الإشكالِ والاشتباهِ حتَّى يتبينَ حالها وقد ذكرت عنده عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بسخافةِ العقلِ ﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ فأنبأتْ عن كمالِ رجاحةِ عقلِها حيثُ لم تقُلْ هُو هُو مع علمِها بحقيقةِ الحالِ تلويحاً بما اعتراهُ بالتَّنكير من نوعِ مغايرةٍ في الصِّفاتِ مع اتحادِ الذاتِ ومراعاةً لحسنِ الأدبِ في محاورتِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ ﴿وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ من تتمةِ كلامِها كأنَّها ظنَّت أنه عيه الصَّلاةُ والسَّلامُ أرادَ بذلك اختبارَ عقِلها وإظهارَ معجزةٍ لها فقالتْ أُوتينا العلمَ بكمالِ قدرةِ الله تعالى وصحَّةِ نبوتِك من قبلِ هذه المعجزةِ التي شاهدنَاها بما سمعناهُ من المنذرِ من الآياتِ الدالَّةِ على ذلكَ وكُنَّا مسلمينَ من ذلكَ الوقتِ وفيهِ من الدِّلالةِ على كمالِ رزانةِ رأيها ورصانةِ فكرِها ما لا يخفى وقوله تعالى
﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله﴾ بيانٌ منْ جهتِه تعالَى لِمَا كانَ يمنعُها من إظهارِ ما ادَّعتْهُ من الإسلامِ إلى الآنَ أي صدَّها عن ذلكَ عبادتُها القديمةُ للشمسِ وقولُه تعالى ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين﴾ تعليلٌ لسببيةِ عبادتِها المذكورةِ للصدِّ أيْ أنَّها كانتْ من قومٍ راسخينَ في الكفرِ ولذلكَ لم تكُنْ قادرةً على إظهارِ إسلامِها وهي بينَ ظهرانيهم إلى أنْ دخلتْ تحتَ مُلكةِ سليمان عليه السلام وقرئ أنَّها بالفتحِ على البدليةِ من فاعلِ صدَّ أو على التَّعليلِ بحذفِ اللامِ هذا وأمَّا مَا قيلَ مِنْ أنَّ قولَه تعالى وَأُوتِينَا العلم إلى قولِه تعالى مِن قَوْمٍ كافرين من كلامِ سليمانَ عليه السَّلامُ وملئِه كأنَّهم لما سمعُوا قولهَا كأنَّه هُو تفطنُوا لإسلامِها فقالُوا استحساناً لشأنِها أصابتْ في الجوابِ وعلمت قدرةَ الله تعالى وصحَّةَ النُّبوةِ بما سمعتْ من المنذرِ من الآياتِ المتقدمةِ وبما عاينِتْ من هذهِ الآيةِ الباهرةِ من أمرِ عرشِها ورُزقتِ الإسلامَ فعطفُوا عَلى ذلك قولَهم وأُوتينَا العلمَ الخ أي وأُوتينا نحنُ العلمَ بالله تعالى وبقرته وبصحَّةِ ما جاءَ من عنده قبلَ علمِها ولم نزلْ على دينِ الإسلامِ شُكراً لله تعالَى على فضلِهم عليها وسبقِهم إلى العلمِ بالله تعالَى والإسلام قبلها وصدَّها عن التقدمِ إلى الإسلامِ عبادةُ الشمسِ ونشؤُها بين ظهراني الكفرةِ فمما لا يخف ما فيهِ من البُعدِ والتعسف
288
سورة النمل (٤٤ ٤٦)
289
﴿قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح﴾ الصَّرحُ القصرُ وقيل صحنُ الدَّارِ رُوي أنَّ سليمانَ عليهِ السَّلامُ أمرَ قبلَ قدومِها فبنَى له على طريقها قصر من زجاجٍ أبيضَ وأُجري منْ تحته الماءُ وأُلقَي فيه من دوابَ البحرِ السَّمك وغيرُه ووضعَ سريرُه في صدرِه فجلسَ عليهِ وعكفَ عليه الطيرُ والجنُّ والإنسُ وإنَّما فعلَ ذلك ليزيدها استعظاما لأمه وتحققا لبنوته وثباتاً على الدِّينِ وزعمُوا أنَّ الجنَّ كرهوا أنْ يتزوجَها فتفضيَ إليه بأسرارِهم لأنَّها كانتْ بنتَ جنيةٍ وقيل خافُوا أنْ يولَد له منْهَا ولدٌ يجتمعُ له فطنةُ الجنِّ والإنسِ فيخرجونَ من مُلكِ سلِيمانَ عليه السَّلامُ إلى مُلكٍ هو أشدُّ وأفظعُ فقالُوا إنَّ في عقلِها شيئاً وهي شَعراءُ الساقينِ ورجلُها كحافِر الحمارِ فاختبرَ عقلَها بتنكيرِ العرشِ واتخذَ الصَّرحَ ليتعرَّفَ ساقَها ورجلَها ﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ﴾ وهو حاضرٌ بينَ يديها كما يَعربُ عنه الأمرُ بدخولِها وأحاطتْ بتفاصيلِ أحوالِه خبراً ﴿حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا﴾ وتشمرتْ لئلاَّ تبتلَّ أذيالُها فإذَا هي أحسنُ النَّاسِ ساقاً وقدماً خلا أنَّها شعْراءُ قيلَ هيَ السببُ في اتخاذِ النورةِ أمرَ بها الشياطينَ فاتخذوهَا واستنكحَها عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأمرَ الجنَّ فبنَوا لها سيلحينَ وغمدانَ وكان يزورُها في الشهرِ مرةً ويقيمُ عندها ثلاثةَ أيامٍ وقيل بل زوَّجها ذا تُبَّعٍ ملكِ هَمْدانَ وسلَّطه علي اليمنِ وأمر زوبعةَ أميرَ جنِّ اليمنِ أنْ يطيعَه فبنى له المصانع وقرئ سأفيها حملا للمفردِ على الجمعِ في سُؤْقٍ وأَسْؤُقٍ ﴿قَالَ﴾ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين رأَى ما اعتراها من الدَّهشةِ والرُّعبِ ﴿أَنَّهُ﴾ أي ما توهمْتُه ماءً ﴿صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ﴾ أي مملسٌ ﴿مّن قَوارِيرَ﴾ من الزجاجِ ﴿قَالَتْ﴾ حينَ عاينتْ تلكَ المعجزَة أيضاً ﴿رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى﴾ بما كنتُ عليهِ إلى الآنَ من عبادةِ الشمس وقيل بظى بسليمانَ حيثُ ظنَّتْ أنَّه يريدُ إغراقَها في اللُّجةِ وهو بعيدٌ ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان﴾ تابعةً له مقتديةً به وما في قولِه تعالى ﴿لِلَّهِ رَبّ العالمين﴾ من الانتفات إلى الاسمِ الجليلِ ووصفُه بربوبيةِ العالمينَ لإظهارِ معرفتِها بألوهيتِه تعالَى وتفرُّده باستحقاقِ العبادة وبوبيته لجميعِ الموجُوداتِ التي منْ جُملتها ما كانتْ تعبدُه قبلَ ذلكَ من الشَّمسِ
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَا﴾ عطفٌ على قوله تعالى ولقد آتينا داود وسليمان عِلْماً مسوقٌ لما سيقَ هُو له من تقريرِ أنَّه عليه الصلاةُ والسلام يلقى القرآن من لدن حكيمٍ عليمٍ فإنَّ هذه القصة أيضا من جملة القرآن الكريم الذي لقيَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ وبالله لقد أرسلنَا ﴿إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا﴾ وأنْ في قولِه تعالَى ﴿أَنِ اعبدوا الله﴾ مفسرةٌ لما في الإرسالِ من معنى القولِ أو مصدريةٌ حُذف عنها الباءُ وقرئ بضمِّ النُّونِ إتباعاً لها للباءِ ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يختصمون﴾ ففاجئوا التفرق والاختصامَ فآمنَ فريقٌ وكفر فريق والواو لمجموع الفريقين
﴿قال﴾ عليه
289
سورة النمل (٤٧ ٤٩) الصَّلاة والسَّلام للفريقِ الكافرِ منهم بعدَ ما شاهدَ منهم ما شاهدَ من نهايةِ العتوِّ والعنادِ حتَّى بلغُوا من المُكابرةِ إلى أنْ قالُوا له عليه الصَّلاة والسَّلام يا صالحُ ائتِنا بما تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴿يا قوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة﴾ أي بالعقوبةِ السيئةِ ﴿قَبْلَ الحسنة﴾ أي التوبةِ فتؤخرونَها إلى حينِ نزولِها حيثُ كانُوا من جهلِهم وغوايتِهم يقولونَ إنْ وقعَ إيعادُه تُبنَا حينئذٍ وإلاَّ فنحنُ على ما كناعليه ﴿لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله﴾ هلاَّ تسغفرونه تعالَى قبل نزولِها ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ بقبولها إذ لا إمكانَ للقبولِ عندَ النُّزولِ
290
﴿قَالُواْ اطيرنا﴾ أصلُه تطَّيرنَا والتَّطيرُ التشاؤمُ عُبِّر عنه بذلك لما أنَّهم كانُوا إذا خرجُوا مسافرينَ فيمرّون بطائرٍ يزجرونَه فإنْ مرَّ سانحاً تيمَّنوا وإنْ مرَّ بارحاً تشاءمُوا فلما نسبُوا الخيرَ والشرَّ إلى الطائرِ استُعير لما كانَ سبباً لهما من قدرِ الله تعالى وقسمتِه أو من عمل العبدِ أي تشاءمنا ﴿بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾ في دينك حيث تتابعت علينا الشدائدُ وقد كانُوا قحطوا أو لم نزل في اختلافٍ وافتراقٍ مُذ اخترعتُم دينَكُم ﴿قَالَ طَائِرُكُمْ﴾ أي سببُكم الذي منْهُ ينالُكم ما ينالُكم من الشرِّ ﴿عَندَ الله﴾ وهو قدرُه أو عملُكم المكتوبُ عندَهُ وقولُه تعالى ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ أي تُختبرون بتعاقبِ السرَّاءِ والضرَّاءِ أو تعذبون أو بفتنكم الشيطانُ بوسوستِه إليكم الطيرةَ إضرابٌ من بيانِ طائرِهم الذي هو مبدأُ ما يحيقُ بهم إلى ذكِر ما هو الدَّاعي إليهِ
﴿وَكَانَ فِى المدينة﴾ وهي الحِجْرُ ﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ أي أشخاصٍ وبهذا الاعتبارِ وقعَ تمييزاً للتسعةِ لا باعتبارِ لفظِه والفرقُ بينه وبينَ النَّفرِ أنَّه من الثلاثةِ أو من السبعةِ إلى العشرةِ والنَّفرُ من الثلاثةِ إلى التسعةِ وأسماؤهم حسبَما نُقل عن وهبٍ الهذيلُ بنُ عبدِ ربَ وغُنم بنُ غنمٍ ورئابُ بنُ مهرجٍ ومصدعُ بنُ مهرجٍ وعميرُ بنُ كردبةَ وعاصمُ بنُ مخرمةَ وسبيطُ بنُ صدقةَ وشمعانُ بنُ صفي وقُدارُ بن سالف وهم الذين سَعَوا في عَقْرِ النَّاقةِ وكانُوا عتاةَ قومِ صالحٍ وكانُوا من أبناءِ أشرافِهم ﴿يُفْسِدُونَ فِى الأرض﴾ لا في المدينةِ فقط إفساداً بحتاً لا يُخالطُه شيءٌ ما من الإصلاحِ كما ينطق به قوله تعالى ﴿وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾ أي لا يفعلون شيئا من الإصلاحِ أو لا يصلحون شيئاً من الأشياءِ
﴿قالوا﴾ اسئناف ببيانِ بعضِ ما فعلُوا من الفسادِ أي قالَ بعضُهم لبعضٍ في أثناءِ المُشاورةِ في أمرِ صالحٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وكانَ ذلَك غِبَّ ما أنذرَهُمْ بالعذب وقولِه تمتعُوا في دارِكم ثلاثةَ أيامٍ الخ ﴿تَقَاسَمُواْ بالله﴾ إمَّا أمرٌ مقولٌ لقالُوا أو ماضٍ وقعَ بدلاً منه أو حالاً من فاعلِه بإضمارِ قدْ وقولُه تعالى ﴿لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ أي لنباغتنَّ صالحاً وأهلَه ليلا ونقتلنهم وقرئ بالتَّاءِ على خطابِ بعضِهم لبعض وقرئ بياءِ الغَيبةِ وضمِّ التَّاءِ على أنَّ تقاسمُوا فعلٌ ماضٍ ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ﴾ أي لولي صالح وقرئ بالتَّاءِ والياءِ كما قبلَه ﴿مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ أي ما حضرنَا هلاكَهم أو وقت هلاكَهم أو مكانَ هلاكِهم فضلاً أنْ نتولَّى إهلاكَهم وقرئ مهلَك بفتحِ اللامِ فيكونَ مصدراً ﴿وِإِنَّا لصادقون﴾ من تمامِ القولِ أو حالٌ أي نقول
290
سورة النمل (٥٠ ٥٤) ما نقولُ والحالُ إنَّا لصادقونَ في ذلكَ لأنَّ الشاهدَ للشيءِ غيرُ المباشرِ له عُرفاً أو لأنَّا ما شاهدنا مهلكَهم وحدَه بل مهلِكه ومهلكَهم جميعاً كقولِك ما رأيتُ ثمةَ رجلاً بل رجلين
291
﴿وَمَكَرُواْ مَكْراً﴾ بهذهِ المواضعةِ ﴿وَمَكَرْنَا مَكْراً﴾ أي أهلكَناهم إهلاكاً غيرَ معهودٍ ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أو جازيناهم مكرُهم من حيثُ لا يحتسبونَ
﴿فانظر كيف كان عاقبة مَكْرِهِمْ﴾ شروعٌ في بيانِ ما ترتَّبَ على ما باشرُوه من المكرِ وكيفَ معلِّقةٌ لفعلِ النظرِ ومحلُ الجملةِ النصبُ بنزعِ الخافضِ أي فتفكر في أنَّه كيف كان عاقبة مكرهم وقولُه تعالى ﴿أَنَّا دمرناهم﴾ إما بدلٌ من عاقبةُ مكرِهم على أنَّه فاعلُ كان وهي تامَّة وكيفَ حالٌ أي فانظُرْ كيفَ حصلَ أي على أيِّ وجهٍ حدثَ تدميرُنا إيَّاهُم وإمَّا خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ مبينة لما في عاقبةُ مكرِهم من الإبهامِ أي هي تدميرُنا إيَّاهم ﴿وَقَوْمَهُمْ﴾ الذين لم يكونُوا معُهم في مباشرةِ التبييتِ ﴿أَجْمَعِينَ﴾ بحيثُ لم يشذ منهم شاذو إما تعليل لما ينبئ عنه الأمرُ بالنَّظرِ في كيفيةِ عاقبةِ مكرِهم من غايةِ الهولِ والفظاعةِ بحذفِ الجارِّ أي لأنَّا دمَّرناهم الخ وقيلَ كانَ ناقصةٌ اسمها عاقبة مكرم وخبرها كيفَ كانَ فالأوجُه حينئذٍ أنْ يكونَ قولُه تعالى أنَّا دمَّرناهم الخ تعليلاً لما ذكر وقرئ إنَّا دمَّرناهم الخ بالكسرِ على الاستئنافِ رُوي أنَّه كانَ لصالحٍ عليه السَّلام مسجدٌ في الحجر في شعبٍ يصلِّي فيهِ فقالُوا زعمَ صالحٌ أنَّه يفرغُ منَّا إلى ثلاثٍ فنحنُ نفرغُ منه ومن أهلهِ قبل الثَّلاثِ فخرجُوا إلى الشِّعبِ وقالُوا إذَا جاءَ يُصَلِّي قتلناهُ ثمَّ رجعنَا إلى أهله فقلناهم فبعثَ الله تعالى صخرةً من الهضبِ حيالَهم فبادرُوا فطبقتِ الصَّخرةُ عليهم فم الشِّعبِ فلم يدرِ قومُهم أينَ هُم ولم يدروا ما فُعل بقومِهم وعذَّب الله تعالى كلاً منهم في مكانِه ونجَّى صالحاً ومَن معه وقيلَ جاءُوا بالليلِ شاهرِي سيوفِهم وقد أرسلَ الله تعالى الملائكةَ ملءَ دارِ صالحِ فدمغُوهم بالحجارةِ يرون الحجارةَ ولا يَرون رامياً
﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ﴾ جملةً مقرِّرة لما قبلها وقوله تعالى ﴿خَاوِيَةٍ﴾ أي خاليةً أو ساقطةً متهدمةً ﴿بِمَا ظَلَمُواْ﴾ أي بسببِ ظلمِهم المذكورِ حالٌ من بيوتُهم والعاملُ معنى الإشارة وقرئ خاويةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ لمبتدأٍ محذوفٍ ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ أي فيما ذُكر من التَّدميرِ العجيبِ بظلِمهم ﴿لآيَةً﴾ لعبرةً عظيمةً ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي ما مِنْ شأنه أن يُعلم شَيْئاً من الأشياءِ أو لقومٍ يتصفونَ بالعلم
﴿وأنجينا الذين آمنوا﴾ صالحاً ومَن مَعَهُ من المؤمنينَ ﴿وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ أي الكفَر والمعاصي اتقاءً مستمراً فلذلك خُصُّوا بالنَّجاةِ
﴿وَلُوطاً﴾ منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٍ على أرسلنا
291
سورة النمل (٥٥ ٥٩) في صدرِ قصَّة صالحٍ داخلٌ معه في حيزِ القسمِ أي وأرسلنا لوطاً وقولُه تعالى ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ ظرفٌ للإرسالِ على أنَّ المرادَ به أمرٌ ممتدٌ وقعَ فيه الإرسالُ وما جرَى بينَه وبينَ قومِه من الأقوالِ والأحوالِ وقيل انتصابُ لوطاً بإضمارِ اذكُر وإذْ بدلٌ منه وقيل بالعطفِ على الَّذِينَ آمنُوا أي ونجينا لوطاً وهو بعيدٌ ﴿أَتَأْتُونَ الفاحشة﴾ أي الفعلة المتناهية في القُبح والسَّماجةِ وقولُه تعالى ﴿وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ تأتُون مفيدةٌ لتأكيدِ الإنكارِ وتشديدِ التَّوبيخِ فإنَّ تعاطيَ القبيحِ من العِالمِ بقُبحه أقبحُ وأشنعُ وتُبصرون من بصرِ القلبِ أي أتفعلونَها والحالُ أنَّكم تعلمونَ علماً يقينياً بكونِها كذلك وقيل يبصرُها بعضُكم من بعضٍ لما كانُوا يُعلنون بَها
292
﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً﴾ تثنية للغنكار وتكريرٌ للتوبيخِ وبيانٌ لما يأتونَهُ من الفاحشةِ بطريق التصريح وتحلية الجملة بحر في التأكيدِ للإيذانِ بأنَّ مضمونَها مما لا يُصدِّق وقوعَه أحدٌ لكمالِ بُعدِه من العقولِ وإيرادُ المفعولِ بعُنوانِ الرُّجوليةِ لتربيةِ التقبيحِ وتحقيقِ المباينةِ بينها وبين الشهوةِ التي عُلل بها الإتيانُ ﴿مّن دُونِ النساء﴾ متجاوزينَ النساءَ اللاتي هُنَّ محالُّ الشهوةِ ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ تفعلونَ فعلَ الجاهلينَ بقبحِه أو تجهلون العاقبةَ أو الجهلُ بمعنى السَّفاهة والمجُون أي بل أنتُم قوم سفهاء ما جنون والتَّاءُ فيه مع كونِه صفةً لقومٍ لكونِهم في حيِّزِ الخطابِ
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ آل لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ يتنزهونَ عن أفعالِنا أو عن الأقذارِ ويعدّون فعلَنا قذراً وعن أن عباس رضي الله تعالى عنُهمَا أنَّه استهزاءٌ وقد مرَّ في سورةِ الأعرافِ أنَّ هذا الجوابَ هو الذي صدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات مواعظ لوط عليه السلام بالأمرِ والنَّهي لا أنَّه لم يصدُرْ عنهم كلامُ آخرُ غيرُه
﴿فأنجيناه وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قدرناها﴾ أي قدرنَا أنَّها ﴿مِنَ الغابرين﴾ أي الباقينَ في العذابِ
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا﴾ غيرَ معهودٍ ﴿فَسَاء مَطَرُ المنذرين﴾ قد مرَّ بيانُ كيفيةِ ما جرى عليهم من العذابِ غيرَ مرَّةٍ
﴿قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى﴾ إثرَ ما قصَّ الله تعالى على رسوله ﷺ قصصَ الأنبياءِ المذكورينَ عليهم الصَّلاة والسَّلام وأخبارَهم الناطقةَ بكمالِ قُدرته تعالى وعظمِ شأنِه وبما خصَّهم به من الآياتِ القاهرةِ والمعجزاتِ الباهرةِ الدالَّةِ على جلالةِ أقدارِهم وصحَّةِ أخبارِهم وبيَّن على ألسنتهم حقِّيةَ الإسلامِ والتَّوحيدِ وبطلانَ الكفرِ والإشراكِ وأنَّ من اقتَدى بهم فقد اهتدَى ومن أعرضَ عنهم فقد تردَّى في مَهاوي الرَّدى وشرح صدَره عليهِ الصَّلاة والسَّلام بمَا في تضاعيف تلك
292
سورة النمل (٦٠) القصص من فنونِ المعارفِ الرَّبانية ونوَّر قلبَه بأنوارِ الملكاتِ السُّبحانية الفائضةِ من عالمِ القدسِ وقرَّر بذلكَ فحوى ما نطقَ به قولُه عزَّ وجلَّ وَإِنَّكَ لتلقي القرآن من لدن حكيم عَلِيمٍ أمرهَ عليه الصَّلاة والسَّلام بأنْ يحمدَه تعالى على ما أفاضَ عليه من تلك النِّعمِ التي لا مطمعَ وراءَها لطامعٍ ولا مطمحَ من دونِها لطامحٍ ويسلِّم على كافَّةِ الأنبياءِ الذين من جُمْلتهم الذين قصَّت عليه أخبارُهم التي هي من جُملة المعارف التي أوجبت إليه عليه الصلاة والسلام أداء لحق تقمهم واجتهادِهم في الدِّين وقيلَ هو أمرٌ للوطٍ عليه السَّلامُ بأنْ يحمدَه تعالى على إهلاكِ كَفَرة قومِه ويسلِّم على من اصطفَاه بالعصمةِ عن الفواحشِ والنَّجاةِ عن الهلاكِ ولا يخفى بعدُه ﴿الله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي أللَّهُ الذي ذكرت شئونه العظيمةُ خيرٌ أمْ مَا يشركونَه به تعالى من الأصنامِ ومرجعُ الترديدِ إلى التَّعريضِ بتبكيتِ الكفرةِ من جهتِه تعالى وتسفيِه آرائِهم الركيكةِ والتهكمِ بهم إذْ من البيِّن أنْ ليسَ فيما أشركُوه به تعالى شائبةُ خيرٍ ما حتَّى يمكن أنْ يوازنَ بينَهُ وبينَ مَنْ لا خيرَ إلا خيرُه ولا إلَه غيره وقرئ تشركونَ بالتَّاءِ الفوقانيَّةِ بطريقِ تلوينِ الخطابِ وتوجيهِه إلى الكفرةِ وهو الأليقُ بما بعدَهُ من سياقِ النَّظمِ الكريمِ المبنيِّ على خطابِهم وجعلُه من جملةِ القولِ المأمورِ به يأباهُ قولُه تعالى فأنبتْنا الخ فإنَّه صريحٌ في أنَّ التبكيتَ من قبله عزَّ وجلَّ بالذاتِ وحملُه على أنَّه حكايةٌ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما أمر به بعبارته كما في قولِه تعالى قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ تعسفٌ ظاهر من غيرِ داعٍ إليهِ وأمْ في قولِه تعالى
293
﴿أمْ مَنْ خلقَ السماوات والأرض﴾ منقطعةٌ وما فيها من كلمةِ بَلْ على القراءةِ الأولى للاضرابِ والانتقالِ من التبكيت تعريضاً إلى التَّصريحِ به خطاباً على وجهٍ أظهرَ منه لمزيد التأكيد والتشديدِ وأمَّا على القراءةِ الثَّانية فلتثنية التبكيتِ وتكريرِ الإلزامِ كنظائرِها الآتيةِ والهمزةُ لتقريرِهم أي حملِهم على الإقرارِ بالحقِّ على وجهِ الاضطرارِ فإنَّه لا يتمالك أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ ولا يقدرُ على أنْ لا يعترفَ بخيريةِ مَن خلقَ جميعَ المخلوقاتِ وأفاضَ على كلَ منها ما يليقُ به من منافعِه من أخسِّ تلك المخلوقاتِ وأدناها بل بأن لا خير يرى فيه بوجه ممن الوجوهِ قطعاً ومَن مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ مع أمِ المُعادِلةِ للهمزةِ تعويلاً على ما سبقَ في الاستفهامِ الأولِ خلا أنَّ تُشركون ههنا بتاءِ الخطابِ على القراءتينِ معاً وهكذا في المواضعِ الأربعةِ الآتية والمعنى بلْ أمَّن خلقَ قُطري العالمِ الجسمانيِّ ومبدأي منافع ما بينهما ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ﴾ التفاتٌ إلى خطابِ الكَفَرةِ على القِراءةِ الأُولَى لتشديدِ التبكيتِ والإلزامِ أي أَنزل لأجلكم ومنعتكم ﴿مِنَ السماء مَاء﴾ أي نوعاً منه هو المطرُ ﴿فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ﴾ أي بساتينَ محدقةً ومحاطةً بالحوائطِ ﴿ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ أي ذاتَ حُسنٍ ورَوْنقٍ يبتهجُ به النُّظَّارُ ﴿مَّا كَانَ لَكُمْ﴾ أي ما صح وما أمكنَ لكُم ﴿أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا﴾ فضلاً عن ثمرها وسائرِ صفاتِها البديعةِ خيرٌ أم ما تشركون وقرئ أَمَنْ بالتَّخفيفِ على أنَّه بدلٌ من الله وتقديمُ صِلَتى الإنزالِ على مفعولِه لما مر مرارا من التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ والالتفاتُ إلى التكلم في
293
سورة النمل (٦١) قوله تعالى فَأَنبَتْنَا لتأكيدِ اختصاصِ الفعلِ بذاتِه تعالى والإيذانِ بأنَّ إنباتَ تلك الحدائقِ المختلفةِ الأصنافِ والأوصافِ والألوانِ والطُّعومِ والرَّوائحِ والأشكالِ مع ما لها من الحُسنِ البارعِ والبهاءِ الرَّائعِ بماءٍ واحدٍ ممَّا لا يكادُ يُقدر عليه إلا هو وحده حسبما ينبئ عنه تقييدُها بقولِه تعالى مَّا كَانَ لَكُمْ الخ سواء كانت صفةً لها أو حالاً وتوحيدُ وصفها الأولِ أعني ذاتَ بهجةٍ لما أنَّ المَعنى جماعةُ حدائقَ ذاتُ بهجةٍ على نهجِ قولِهم النِّساءُ ذهبتْ وكذا الحالُ في ضميرِ شجرها ﴿أإله مَّعَ الله﴾ أي أإلهٌ آخرُ كائنٌ مع الله الذي ذُكرَ بعضُ أفعالِه التي لا يكادُ يقدرُ عليها غيرُه حتَّى يتوهَّم جعلَه شريكاً له تعالَى في العبادةِ وهذا تبكيتٌ لهم بنفي الألوهيةِ عمَّا يُشركونه به تعالى في ضمنِ النَّفي الكليِّ على الطريقةِ البُرهانيةِ بعد تبكيتِهم بنفي الخيريةِ عنْهُ بما ذكرَ من التَّرديدِ فإنَّ أحداً ممَّن له تمييزٌ في الجُملةِ كما لا يقدرُ على إنكارِ انتفاءِ الخيريةِ عنه بالمرةِ لا يُكاد يَقدِر على إنكارِ انتفاءِ الألوهيةِ عنه رأساً لا سيَّما بعد ملاحظةِ انتفاءِ أحكامِها عمَّا سواهُ تعالى وهكذا الحالُ في المواقعِ الأربعةِ الآتيةِ وقيل المرادُ نفَي أنْ يكونَ معه تعالى إلهٌ آخرُ فيما ذكر من الخلقِ وما عطفَ عليه لكن لا على أنَّ التبكيتَ بنفس ذلك النفي فقط كيفَ لا وهم لا يُنكرونَه حسبما ينطِق به قولُه تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ من خَلَقَ السمواتِ والأرضِ لَيَقُولُنَّ الله بل بإشراكِهم به تعالَى في العبادةِ ما يعترفون بعدمِ مشاركتِه له تعالى فيما ذكرَ من لوازمِ الألوهيَّةِ كأنَّه قيلَ أإلهٌ آخرُ مع الله في خواصِّ الأُلوهيةِ حتى يجعل شريكا له تعالى في العبادةِ وقيل المعنى أغيرُه يُقرن به ويجعلُ له شريكاً في البعادة مع تفرد تعالى بالخلقِ والتَّكوينِ فالإنكارُ للتوبيخِ والتبكيتِ مع تحقيقِ المنكرِ دون النفي كما في الوجهينِ السابقينِ والأولُ هو الأظهرُ الموافقُ لقولِه تعالَى وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله والأوفى بحقِّ المقامِ لإفادتِه نفي وجودِ إلهٍ آخرَ معه تعالى رأساً لا نفيَ معيَّته في الخلقِ وفروعِه فقط وقرئ آإلهٌ بتوسيطِ مدةٍ بينَ الهمزتينِ وبإخراجِ الثَّانيةِ بينَ بين وقرئ أإلها بإضمار فعلٍ يناسبُ المقامَ مثل أندعون أو أتشركونَ ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ إضرابٌ وانتقالٌ من تبكيتِهم بطريقِ الخطابِ إلى بيانِ سوءٍ حالِهم وحكايتِه لغيرِهم أي بل هُم قومٌ عادتُهم العُدولُ عن طريقِ الحقِّ بالكليةِ والانحراف عن الساتقامة في كلِّ أمرٍ من الأمورِ فلذلك يفعلونَ ما يفعلونَ من العُدول عن الحقِّ الواضحِ الذي هو التَّوحيدُ والعُكوفُ على الباطلِ البيِّن الذي هو الإشراكُ وقيل يعدلونَ به تعالَى غيرَهُ وهو بعيدٌ خالٍ عن الإفادةِ
294
﴿أَم مَّنْ جَعَلَ الأرض قَرَاراً﴾ قيلَ هو بدلٌ من أمْ مَنْ خلقَ السمواتِ الخ وكذا ما بعدَه من الجُملِ الثَّلاثِ وحكم الكلِّ واحدٌ والأظهرُ أنَّ كلَّ واحدةٍ منها إضرابٌ وانتقالٌ من التبكيتِ بما قبلها إلى التبكيتِ بوجهٍ آخرَ أدخلُ في الإلزامِ بجهةٍ من الجهاتِ أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإيذاء بعضها من الماء ودحوها وتسويتِها حسبما تدورُ عليه منافعهُم ﴿وَجَعَلَ خِلاَلَهَا﴾ أوساطَها ﴿أَنْهَاراً﴾ جاريةً ينتفعونَ بها
294
سورة النمل (٦٢ ٦٣) ﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ﴾ أي جبالاً ثوابتَ تمنعها أنْ تميدَ بأهلها ويتكونُ فيها المعادنُ وينبعُ في حضيضِها الينابيعُ ويتعلقُ بها من المصالح مالا يُحصى ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين﴾ أي العذب والمالحِ أو خليجيْ فارسَ والرومِ ﴿حَاجِزاً﴾ برزخاً مانعاً من الممازجةِ وقد مرَّ في سورةِ الفرقانِ والجعلُ في المواقعِ الثلاثةِ الأخيرةِ إبداعيٌّ وتأخيرُ مفعولِه عن الظرفِ لما مرَّ مرارا من التشويق ﴿أإله مَّعَ الله﴾ في الوجودِ أو في إبداعِ هذه البدائعِ على ما مرَّ ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي شيئاً من الأشياءِ ولذلك لا يفهمونَ بطلانَ ما هم عليه من الشركِ مع كمالِ ظهورِه
295
﴿أَم مَّنْ يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ﴾ وهو الذي أحوجتْه شدةٌ من الشَّدائدِ وألجأته إلى اللجَأِ والضَّراعةِ إلى الله عزَّ وجلَّ اسم مفعولٍ من الاضطرارِ الذي هو افتعالٌ من الضِّرورةِ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو المجهودُ وعن السدى رحمه الله تعالى مَن لا حولَ له ولا قوةَ وقيل المذنبُ إذا استغفرَ واللامُ للجِنسِ لا للاستغراقِ حتَّى يلزمَ إجابة كلِّ مضطرٍ ﴿وَيَكْشِفُ السوء﴾ وهُو الذي يعترِي الإنسانَ مما يسوؤُه ﴿ويجعلكم خلفاء الأرض﴾ أي خلفاءَ فيها بأنْ ورَّثكم سُكناها والتَّصرفَ فيها ممَّن قبلكم من الأممِ وقيل المرادُ بالخلافةِ الملك والتسلط ﴿أإله مَّعَ الله﴾ الذي يُفيض على كافةِ الأنامِ هذه النعمَ الجسامَ ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ أي تذكرا قليال أو زماناً قليلاً تتذكرونَ وما مزيدةٌ لتأكيدِ معنى القلَّةِ التي أريدَ بها العدمُ أو ما يجري مجراه في الحقارةِ وعدمِ الجدوى وفي تذييل الكلامِ بنفي التذكرِ عنهم إيذانٌ بأنَّ مضمونَهُ مركوزٌ في ذهنِ كلِّ ذكيَ وغبيَ وأنَّه من الوضوحِ بيحث لا يتوقفُ إلا على التوجه إليه وتذكره وقرئ تتذكرونَ على الأصلِ وتذّكرون ويذكرون بالتاءِ والياءِ مع الإدغامِ
﴿أَم مَّنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظلمات البر والبحر﴾ أي في ظلماتِ الليالي فيهما على أنَّ الإضافةَ للملابسةِ أو في مشتَبِهات الطرقِ يقالُ طريقةٌ ظلماءُ وعمياءُ للتي لا منارَ بها ﴿وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ﴾ وهي المطرُ ولئن صحَّ أن السببَ الأكثريَّ في تكونِ الريحِ معاودةُ الأدخنةِ الصاعدةِ من الطبقةِ الباردةِ لانكسارِ حرِّها وتمويجِها للهواءِ فلا ريبَ في أنَّ الأسبابَ الفاعليةَ والقابليةَ لذلك كلِّه من خلقِ الله عزَّ وجلَّ والفاعلُ للسببِ فاعلٌ للمسبب قطعا ﴿أإله مَّعَ الله﴾ نفيٌ لأنْ يكونَ معه إلهٌ آخرُ وقولُه تعالى ﴿تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ تقريرٌ وتحقيقٌ له وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ للإشعارِ بعلةِ الحُكمِ أي تعالَى وتنزه بذاتِه المنفردةِ بالألُوهيةِ المستتبعةِ لجميعِ صفات الكمال ونعوت الجمال والجلالِ المقتضيةِ لكونِ كلِّ المخلوقاتِ مقهُوراً تحتَ قُدرتِه عمَّا يُشركون أيْ عنْ وجودِ ما يُشركونَه به تعالَى لا مُطلقاً فإنَّ وجودَه مما لا مردَّ له بل عن
295
سورة النمل (٦٤ ٦٦) وجودِه بعُنوانِ كونِه إلهاً وشريكاً له تعالَى أو عن إشراكِهِم
296
﴿أَم مَّنْ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أي بلْ أمن يبدأُ الخلقَ ثمَّ يعيده بعد الموت بالبعث ﴿وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض﴾ أي بأسبابٍ سماويةٍ وأرضيةٍ قد رتبَّها على ترتيبٍ بديعٍ تقتضيهِ الحكمةُ التي عليها بُني أمرُ التكوينِ خيرٌ أمْ ما تشركونَه به في العبادةِ من جمادٍ لا يتوهم قدرتُه على شيءٍ ما أصلاً ﴿أإله﴾ آخرُ موجودٌ ﴿مَعَ الله﴾ حتى يجعل شريكا له في العبادةِ وقولُه تعالَى ﴿قُلْ هَاتُواْ برهانكم﴾ أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بتبكيتِهم إثرَ تبكيتٍ أي هاتُوا بُرهاناً عقلياً أو نقلياً يدلُّ على أنَّ معه تعالى إلهاً لا على أنَّ غيرَه تعالى يقدُر على شيءٍ ممَّا ذُكر من أفعالِه تعالى كما قيلَ فإنَّهم لا يدعونَهُ صريحاً ولا يلتزمونَ كونَه من لوازمِ الألوهيةِ وإن كان منها في الحقيقةِ فمطالبتُهم بالبرهانِ عليه لا على صريحِ دعواهم مما لا وجهَ لَهُ وفي إضافةِ البرُهان إلى ضميرهم تهكمٌ بهم لما فيَها من إيهامٍ أنَّ لهم برهاناً وأنَّى لهُم ذلكَ ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ أي في تلك الدَّعوى
﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله﴾ بعدما حقق تفرده تعالى بالأُلوهيةِ ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العامة عقبه بذكر ما هو من لوازمه وهو اختصاصِه بعلمِ الغيبِ تكميلاً لما قبله وتمهيداً لما بعدَه من أمرِ البعثِ والاستثناءُ منقطعٌ ورفعُ المستثنى على اللُّغةِ التميمية للدِّلالةِ على استحالةِ علمِ الغيبِ من أهلِ السَّمواتِ والأرضِ بتعليقِه بكونِه سُبحانه وتعالَى منُهم كأنَّه قيلَ إنْ كانَ الله تعالَى ممن فيهما ففيهم مَن يعلمُ الغيبَ أو متصلٌ على أنَّ المرادَ بِمَنْ فِى السَّمواتِ والأَرضِ مَن تعلقَ علمُه بهما واطَّلع عليهما اطِّلاعَ الحاضرِ فيهما فإنَّ ذلكَ معنى مجازيٌّ عامٌّ له تعالَى ولأوُلي العلمِ من خلقِه ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ أي مَتَى يُنشرون من القبورِ معَ كونِه ممَّا لا بُدَّ لهم منْهُ ومن أهم الأُمورِ عندهم وأيَّان مركبةٌ من أي وآن وقرئ بكسرِ الهمزةِ والضَّميرُ للكفرةِ وإنْ كانَ عدمُ الشُّعورِ بما ذُكر عامَّاً لئلاَّ يلزمَ التفكيكُ بينَه وبينَ ما سيأتي من الضَّمائِر الخاصَّةِ بهم قطعاً وقيلَ الكل لمن وإساد خواصِّ الكفرةِ إلى الجميعِ من قبيلِ قولِهم بنُو فُلانٍ فعلُوا كَذَا والفاعلُ بعض منهم
﴿بل ادَّارك علمُهم في الآخرةِ﴾ لمَّا نفَى عنهم علمَ الغيبِ وأكَّد ذلكَ بنفِي شعورِهم بوقت ما هو مصيرُهم لا محالةَ بُولغَ في تأكيدِه وتقريرِه بأنْ أضربَ عنْهُ وبيَّن أنَّهم في جهلٍ أفحشَ من جهلهِم بوقت بعثِهم حيثُ لا يعلمونَ أحوالَ الآخرةِ مُطلقاً معَ تعاضدِ أسبابِ معرفِتها على أنَّ معنى ادَّارك علمُهم في الآخرةِ تداركَ وتتابعَ علمُهم في شأنِ الآخرةِ التي ما ذُكر من البعثِ حالٌ مِن أحوالِها حتَّى انقطعَ ولم يبقَ لهم علمٌ بسيء ممَّا سيكونُ فيها قطعاً لكنْ لا على مَعْنى أنه
296
سورة النمل (٦٧) كانَ لهم علمٌ بذلكَ على الحقيقةِ ثمَّ انتفَى شيئاً فشيئاً بلْ على طريقةِ المجازِ بتنزيلِ أسبابِ العلمِ ومباديِه من الدَّلائلِ العقليةِ والسَّمعيةِ منزلةَ نفسِه وإجراءِ تساقطِها عن درجةِ اعتبارِهم كلَّما لاحظُوها مُجرى تتابعِها إلى الانقطاعِ ثمَّ أضربَ وانتقلَ عن بيانِ عدمِ علمِهم بها إلى بيانِ ما هُو أَسوأُ منه وهو حيرتُهم في ذلكَ حيثُ قيلَ ﴿بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا﴾ أي في شكَ مُريبٍ من نفسِ الآخرةِ وتحققها كَمن تحيَّر في أمرٍ لا يجدُ عليه دليلاً فضلاً عن الأمورِ التي ستقعُ فيها ثمَّ أضربَ عن ذلكَ إلى بيانِ أنَّ ما هُم فيه أشدُّ وأفظعُ من الشكِّ حيث قيل ﴿بل هم مّنْهَا عَمُونَ﴾ بحيثُ لا يكادونَ يُدركون دلائلَها لاختلالِ بصائرهم بالكلية وقرئ بل أدّرك علمُهم بمعنى انتهى وفَنِيَ وقد فسَّره الحسن البصري اضمحل علمهم وقيل كلنا الصيغتين على معناها الظاهرِ أي تكاملَ واستحكَم أو تمَّ أسبابُ علمِهم بأن القيامة كائنةٌ لا محالةَ من الآيات القاطعةِ والحُججِ السَّاطعةِ وتمكَّنُوا من المعرفِة فضلَ تمكنٍ وهم جاهلُون في ذلكَ وقولُه تعالَى بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا إضرابٌ وانتقالٌ من وصفهم بمطلقِ الجهلِ إلى وصفِهم بالشكِّ وقولُه تعالَى بَلْ هُمْ مهاعمون إضرابٌ من وصفِهم بالشكِّ إلى وصفِهم بَما هُو أشدُّ منْهُ وأفظعُ من العَمَى وأنتَ خبيرٌ بأنَّ تنزيلَ أسبابِ العلمِ منزلةَ العلمِ سَننٌ مسلوكٌ لكنْ دلالةُ النَّظمِ الكريمِ على جهلِهم حينئذٍ ليستْ بواضحةٍ وقيلَ المرادُ بوصفِهم باستحكامِ العلمِ وتكاملِه التَّهكمُ بهم فيكونَ وصفاً لهُم بالجهل مُبالَغةً والإضرابانِ على ما ذُكر وأصلُ ادَّاركَ تَدَارك وبه قرأَ أُبَيٌّ فأُبدلتِ التَّاءُ دالاً وسُكِّنتْ فتعذَّرَ الابتداءُ فاجتُلِبتْ همزةُ الوصلِ فصار ادارك وقرئ بلِ ادَّرك وأصلُه افتعلَ وبلْ أَأَدَّرك بهمزتينِ وبلْ آأدْرَك بألفٍ بينَهما وبلْ أدرك بالتَّخفيفِ والنَّقلِ وبَلَ ادَّرك بفتحِ اللامِ وتشديدِ الدَّالِ وأصلُه بلْ أدّركَ على الاستفهامِ وبَلَى ادّركَ وبَلَى أَأَدْرك وأمْ تَدَارك وأمِ ادَّرك فهذهِ ثِنْتا عشرةَ قراءةً فما فيهِ استفهامٌ صريحٌ أو مضمَّنٌ من ذلكَ فهُو إنكارٌ ونفيٌ وما فيهِ بَلَى فإثباتٌ لشعورِهم وتفسيرٌ له بالإدراكِ على وجهِ التَّهكمِ الذي هو أبلغُ وجوهِ النَّفي والإنْكارِ وما بعدَهُ إضرابٌ عن التَّفسيرِ مبالغةً في النَّفي ودلالةً على أنَّ شعورَهم بها أنَّهم شاكُّون فيها بلْ إنَّهم منها عمون أورد إنكار لشعورِهم
297
﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ﴾ بيانٌ لجهلِهم بالآخرةِ وعَمَهِهم منها بحكايةِ إنكارِهم للبعثِ ووضعُ الموصول موضع ضميرهم لذمِّهم بما في حيزِ صلته والإشعارِ بعلَّة حكمِهم الباطلِ في قولهم ﴿أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لَمُخْرَجُونَ﴾ أي أنخرجُ من القبورِ إذا كنَّا تُراباً كما ينبئ عنه مخرجونَ ولا مَساغَ لأنْ يكونَ هو العاملَ في إذَا لاجتماعِ موانعَ لو تفرَّدَ واحدٌ منها لكَفَى في المنعِ وتقييدُ الإخراجِ بوقتِ كونِهم تُراباً ليس لتخصيصِ الإنكارِ بالإخراجِ حينئذٍ فقط فإنَّهم منكرِون للإحياءِ بعدَ الموتِ مُطلقاً وإنْ كانَ البدنُ على حالِه بل لتقويةِ الإنكارِ بتوجيههِ إلى الإخراجِ في حالةٍ منافيةٍ له وقولُه تعالَى وآباؤُنا عطفٌ على اسمِ كانَ وقامَ الفصلُ مع الخبرِ مقامَ الفصلِ بالتأكيدِ وتكريرُ الهمزةِ في أثنا للمبالغةِ والتَّشديدِ في الإنكارِ وتحليةُ الجُملةِ بأنَّ واللامِ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التاكيد كما يوهمه ظاهرِ النظمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائِها الصدارةَ كما في قولِه تعالى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ونظائرِه عَلَى رَأي الجُمهورِ فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيبِ كما هو المشهور
297
سورة النمل (٦٨ ٧٣) وقرئ إذَا كنَّا بهمزةٍ واحدةٍ مكسورة وقرئ إنَّا لمخرجُون على الخبرِ
298
﴿لَقَدْ وُعِدْنَا هذا﴾ أي الإخراج ﴿نحن وآباؤنا مِن قَبْلُ﴾ أي من قبلِ وعدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتقديمُ الموعودِ على نحنُ لأنَّه المقصودُ بالذكرِ وحيثُ أُخّرَ قُصد به المبعوثَ والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ الإنكارِ وتصديرُها بالقسمِ لمزيدِ التأكيدِ وقولُه تعالى ﴿إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين﴾ تقريرُ إثرَ تقريرٍ
﴿قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين﴾ بسببِ تكذيبِهم للرُّسلِ عليهمْ الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما دَعَوهم إِلَيْهِ منَ الإيمانِ بالله عزَّ وجلَّ وحَدهُ وباليومِ الآخرِ الذي تُنكرونَهُ فإنَّ في مشاهدةِ عاقبتِهم ما فيهِ كفايةٌ لأُولي الأبصارِ وفي التعبيرِ عن المُكذبينَ بالمجرمينَ لُطفٌ بالمؤمنينَ في تَرْكِ الجرائم
﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ لإصرارِهم على الكُفْرِ والتَّكذيبِ ﴿وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ﴾ في حَرَجِ صدرٍ ﴿مّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ من مكرِهم فإنَّ الله تعالى يعصمك من لاناس وقرئ بكسرِ الضَّادِ وهُو أيضاً مصدر ويجوزأن يكونَ المفتوحُ مخفَّفاً من ضيق وقد قرئ كذلكَ أي لا تكُن في أمرٍ ضيِّقٍ
﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد﴾ أي العذابُ العاجلُ الموعودُ ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ في إخبارِكم بإتيانِه والجمعُ باعتبارِ شركة المؤنين في الإخبارِ بذلَك
﴿قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم﴾ أي تبعكُم ولحقكُم والَّلامُ مزيدةٌ للتأكيدِ كالباءِ في قولهِ تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة أو الفعلُ مضمَّنٌ معنى فعلٍ يُعدَّى باللَّامِ وقرئ بفتحِ الدَّالِ وهي لغةٌ فيه ﴿بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ﴾ وهو عذابُ يومِ بدرٍ وعسَى ولعلَّ وسوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بها وإنما يطلقونها إظهار اللوقار وإسعارا بأنَّ الرَّمزَ من أمثالِهم كالتَّصريحِ ممَّن عداهُم وعلى ذلك مَجرى وعدِ الله تعالى ووعيدهِ وإيثارُ مَا عليهِ النَّظمُ الكريمُ عَلى أنْ يُقالَ عَسى أنْ يردفَكم الخ لكونِه أدلَّ على تحققِ الوعدِ
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ أي لذُو إفضالٍ وإنعامٍ على كافَّة النَّاسِ ومن جُملةِ إنعاماتِه تأخيرُ عقوبةِ هؤلاءِ على ما يرتكبونَهُ من المَعَاصي التي من جُملتِها استعجالُ العذابِ ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ لا يعرفون حقَّ النعمةِ فيه فلا يشكرونَهُ بل يستعجلونَ بجهلِهم وقوعَهُ كدأب هؤلاء
298
سورة النمل (٧٤ ٨٠)
299
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾ أي ما تخفيه وقرئ بفتحِ التَّاءِ من كننتُ الشيءَ إذا سترتُه ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ من الأفعالِ والأقوالِ التي من جملتها ما حُكي عنهم من استعجالِ العذابِ وفيه إيذانٌ بأنَّ لهم قبائحَ غيرَ ما يُظهرونَهُ وأنَّه تعالَى يُجازيهم على الكلِّ وتقديمُ السرِّ على العَلَن قد مرَّ سرُّه في سُورةِ البقرةِ عند قوله تعالى أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السماء والأرض﴾ أي من خافيةٍ فيهما وهُما من الصِّفاتِ الغالبةِ والتَّاءُ للمبالغة كَما في الرِّوايةِ أو اسمانِ لما يغيبُ ويَخْفى والتَّاءُ للنقلِ إلى الاسميَّةِ ﴿إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ﴾ أيْ بيِّنٍ أو مُبينٍ لما فيهِ لَمنْ يُطالعه وهو اللَّوحُ المحفوظُ وقيلَ هُو القضاءُ العدلُ بطريقِ الاستعارة
﴿إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ منْ جُملتِه ما اختلفُوا في شأنِ المسيحِ وتخزبوا فيهِ أحزاباً وركبُوا متنَ العُتوِّ والغُلوِّ في الإفراطِ والتَّفريطِ والتَّشبيهِ والتَّنزيهِ ووقعَ بينُهم التَّناكُدُ في أشياءَ حتَّى بلغَ المُشاقَّة إلى حيثُ لعنَ بعضُهم بعضاً وقد نزلَ القرآنُ الكريمُ ببيانِ كُنْهِ الأمرِ لو كانُوا في حيِّز الإنصافِ
﴿وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ﴾ على الإطلاقِ فيدخلُ فيهم مَن آمنَ مِن بني إسرائيلَ دُخولاً أَوَّلِياً
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ﴾ أي بينَ بني إسرائيلَ ﴿بِحُكْمِهِ﴾ بما يحكمُ بهِ وهو الحقُّ أو بحكمتِه ويؤيده أنه قرئ بحُكمه ﴿وَهُوَ العزيز﴾ فلا يردُّ حكمُه وقضاؤُه ﴿العليم﴾ بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جُملتها ما يقضى بهِ والفاءُ في قوله تعالى
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ لترتيبِ الأمرِ على ما ذكر من شئونه عزَّ وجلَّ فإنَّها موجبةٌ للتوكلِ عليهِ وداعيةٌ إلى الأمرِ بهِ أي فتوكَّل عَلى الله الذي هَذا شأنُه فإنَّه موجبٌ على كلِّ أحدٍ أنْ يتوكلَ عليهِ ويفوض جميعَ أمورِه إليهِ وقولُه تعالى ﴿إِنَّكَ عَلَى الحق المبين﴾ تعليلٌ صريحٌ للتَّوكلِ عليه تعالَى بكونه عليه الصلاة والسلام على الحقِّ البيِّنِ أو الفاصلِ بينَهُ وبينَ الباطلِ أو بين المحق والمبطل فإنَّ كونَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كذلكَ ممَّا يُوجبُ الوثوقَ بحفظِه تعالى ونُصرتِه وتأييدِه لا محالةَ وقولُه تعالَى
﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى﴾
299
الخ تعليلٌ آخرُ للتَّوكلِ الذي هو عبارة عن التبتُل إلى الله تعالَى وتفويضِ الأمرِ إليهِ والإعراضِ عن التشبث بما سواه وقد عُلِّل أولاً بما يُوجبه من جهتِه تعالى أعني قضاءَهُ بالحقِّ وعزَّتِه وعلمهِ تعالى وثانياً بما يُوجبه من جهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أحدِ الوجهينِ أعنِي كونَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على الحقِّ ومن جهتِه تعالى على الوجهِ الآخرِ أعني إعانتَه تعالى وتأييده للمحق ثم عُلِّل ثالثاً بما يُوجبه لكنْ لا بالذَّاتِ بل بواسطةِ إيجابِه للإعراضِ عن التشبث بما سواه تعالى فإنَّ كونَهم كالمَوتى والصُمِّ والعُمْي موجبٌ لقطعِ الطمعِ عن مشايعتِهم ومعاضدتِهم رأساً وداعٍ إلى تخصيصِ الاعتضادِ به تعالى وهو المعنى بالتَّوكل عليه تعالى وإنَّما شُبِّهوا بالموتى لعدمِ تأثرِهم بما يُتلى عليهم من القوارعِ وإطلاقُ الإِسماعِ عن المفعولِ لبيانِ عدمِ سماعهم لشيءٍ من المسموعاتِ ولعل المراد تشببه قلوبِهم بالمَوتى فيما ذُكر من عدمِ الشُّعور فإنَّ القلبَ مَشعرٌ من المشاعرِ أشُير إلى بطلانِه بالمرةِ ثم بُيِّن بطلانُ مشعري الأذنِ والعينِ كما في قولِه تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ يبصرون بها وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا وإلا فبعد تشبيهِ أنفسِهم بالمَوتى لا يظهر لتشبيهِهم بالصُّمِّ والعمى مزيد مزية ﴿وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء﴾ أي الدَّعوةَ إلى أمرٍ من الأمُور وتقييدُ النفيِّ بقولِه تعالى ﴿إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ﴾ لتكميلِ التشبيهِ وتأكيدِ النفيِّ فإنَّهم مع صَمَمِهم عن الدُّعاء إلى الحقِّ معُرضونَ عن الدَّاعي مولُّون على أدبارِهم ولا ريبَ في أنَّ الأصمَّ لا يسمعُ الدُّعاءَ مع كونِ الدَّاعِي بمقابلةِ صُماخه قريباً منه فكيفَ إذا كانَ خلفَهُ بعيدا منه وقرئ ولا يسمع الصم الدعاء
300
﴿وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم﴾ هدايةً موصِّلةً إلى المطلوبِ كما في قولِه تعالى إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ فإنَّ الاهتداءَ منوطٌ بالبصرِ وعن متعلِّقِةٍ بالهدايةِ باعتبارِ تضمنِه معنى الصَّرفِ وقيل بالعمى يقال عمى عن كذا وفيهِ بعدٌ وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للمُبالغةِ في نفي الهداية وقرئ وما أنت تَهدي العُميَ ﴿إِن تُسْمِعُ﴾ أي ما تُسمع سماعاً يُجدي السامعَ نفعاً ﴿إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بآياتنا﴾ أي مِن شأنِهم الإيمانُ بها وإيرادُ الإسماعِ في النفيِّ والإثباتِ دونَ الهدايةِ مع قُربها بأنْ يقالَ إنْ تُهدي إلا مَن يُؤمن الخ لِما أنَّ طريقَ الهدايةِ هو إسماعُ الآياتِ التنزيليَّةِ ﴿فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾ تعليلٌ لإيمانِهم بَها كأنَّه قيلَ فإنَّهم مُنقادونَ للحقَّ وقيلَ مُخلصون لله تعالى من قولِه تعالى بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
﴿وَإِذْا وَقَعَ القول عَلَيْهِم﴾ بيانٌ لما أُشير إليه بقولِه تعالى بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ من بقيةِ ما يستعجلونَهُ من السَّاعةِ ومباديها والمُرادُ بالقولِ ما نطقَ من الآيات الكريمة بمجئ السَّاعةِ وما فيها مِنْ فُنونِ الأَهوالِ التي كانُوا يستعجلُونها وبوقوعِه قيامُها وحصولُها عبَّر عن ذلكَ به للإيذان بشدَّةِ وقعِها وتأثيرِها وإسنادُه إلى القولِ لِما أنَّ المرادُ بيانُ وقوعِها منْ حيثُ إنَّها مصداقٌ للقولِ النَّاطقِ بمجيئها وقد أُريدَ بالوقوعِ دُنوُّه واقترابُه كما في قوله تعالى أتى أَمْرُ الله أي إذا دَنَا وقوعُ مدلولِ القولِ
300
المذكورِ الذي لا يكادُون يسمعونَهُ ومصداقُه ﴿أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرض﴾ وهي الجسَّاسةُ وفي التَّعبيرِ عنها باسمِ الجنسِ وتأكيدُ إبهامِه بالتَّنوينِ التفخيميِّ من الدِّلالةِ على غَرَابةِ شأنِها وخروجِ أوصافِها عن طور البيانُ ما لا يخفى وقد وردَ في الحديثِ أنَّ طولها ستُّون ذراعاً لا يدركها طالبٌ ولا يفوتها هارب وروي أن لها أربع قوائم ولها زغب وريشٌ وجناحانِ وعن ابن جُريجٍ في وصفِها رأسُ صور وعين خنزير وأذن قيل وقرنُ أيلُ وعنقُ نعامةٍ وصدرُ أسدٍ ولونُ نمرٍ وخاصرةُ هرةٍ وذَنَبُ كبشِ وخُفُّ بعيرٍ وما بين المفصلينِ اثنا عشرَ ذراعاً بذراعِ آدمَ عليهِ السَّلامُ وقال وهبٌ وجهُها وجه الرَّجلِ وباقي خَلقِها خَلْقُ الطَّيرِ ورُوي عن عليَ رضيَ الله عنه أنَّه قال ليس بدابةٍ لها ذنبٌ ولكنْ لها لحيةٌ كأنه يشير إلى أنه رجلٌ والمشهورُ أنَّها دابَّةٌ وروي لا تخرجُ إلا رأسُها ورأسُها يبلغُ عنانَ السَّماءِ أو يبلغُ السَّحابَ وعن أبي هريرةَ رضيَ الله تعالى عنه فيها كلُّ لونٍ ما بينَ قَرنيها فرسخٌ للرَّاكبِ وعن الحسنِ رضيَ الله عنه لا يتمُّ خروجُها إلا بعدَ ثلاثةِ أيَّام وعنْ علي رضي الله عنه أنَّها تخرجُ ثلاثَة أيَّامٍ والنَّاسُ ينظرونَ فلا يخرجُ كلَّ يومٍ إلا ثلثُها وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه سُئل من أين تخرجُ الدَّابةُ فقال من أعظمِ المساجدِ حرمةً على الله تعالى يعني المسجدَ الحرامَ ورُوي أنَّها تخرجُ ثلاثَ خرجاتٍ تخرجُ بأقصى اليمن ثم تتكمن ثم تخرجُ بالباديةِ ثم تتكمن دهراً طويلاً فبينا النَّاسُ في أعظمِ المساجدِ حرمةً على الله تعالى وأكرمِها فما يهولُهم إلا خروجُها من بينِ الركنِ حذاءً دار بني مخزومِ عن يمين الخارجِ من المسجد فقومٌ يهربون وقومٌ يقفون نظارةً وقيل تخرجُ من الصفاو روى نبينا عيسى عليه السَّلامُ يطوفُ بالبيتِ ومعه المُسلمون إذْ تضطربُ الأرضُ تحتهم تحرُّكَ القنديلِ وينشقُّ الصَّفا مَّما يلِي المَسْعى فتخرجُ الدَّابةُ من الصَّفا ومعها عصا مُوسى وخاتمُ سليمانَ عليهما السَّلام فتضربُ المؤمنَ في مسجدِه بالعصَا فتنكتُ نُكتةً بيضاء فتفشو حتى يضء لها وجهُه وتكتبُ بين عينيهِ مؤمنٌ وتنكتُ الكافرَ بالخاتمِ في أنفهِ فتفشُو النكتةُ حتَّى يسودَّ لها وجهُه وتكتبُ بين عينيهِ كافرٌ ثم تقولُ لهم أنتَ يا فلانُ من أهل الجنَّة وأنتَ يا فلانُ من أهل الجنَّة وانتلا يا فلان من أهل النَّارِ ورُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قرع الصفا بعصاء وهو مُحرمٌ وقال إنَّ الدَّابةَ لتسمعُ قرعَ عصايَ هذه ورَوَى أبُو هريرةَ عن النبي صلى اله عليه وسلم أنَّه قال بئسَ الشّعبُ شِعبُ أجيادٍ مرتينِ أو ثلاثاً قيلَ ولم ذاكَ يا رسولَ الله قالَ تخرجُ منه الدَّابةُ فتصرخُ ثلاثَ صرخاتٍ يسمعُها مَن بين الخافقينِ فتتكلمُ بالعربيةِ بلسانٍ ذلقٍ وذلك قولُه تعالى ﴿تُكَلّمُهُمْ أَنَّ الناس كانوا بآياتنا لاَ يُوقِنُونَ﴾ أي تُكلمهم بأنَّهم كانُوا لا يُوقنون بأياتِ الله تعالى النَّاطقةِ بمجئ السَّاعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآياتُ وقيل بآياته التي من جُملتها خروجُها بينَ يدي السَّاعةِ والأولُ هو الحقُّ كما سُتحيط به علما وقرئ بأنَّ النَّاس الآيةَ وإضافةُ الآياتِ إلى نُونِ العظمةِ لأنَّها حكايةٌ منه تعالى لمعنى قولِها لا لعينِ عبارتِها وقيل لأنَّها حكايةٌ منها لقولِ الله عزَّ وجَلَّ وقيل لاختصاصِها به تعالى وأثرتِها عنده كما يقولُ بعضُ خواصِّ الملكِ خيلُنا وبلادُنا وإنَّما الخيلُ والبلادُ لمولاهُ وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أي بآياتِ ربِّنا ووصفُهم بعدمِ الإيقانِ بها معَ أنَّهم كانُوا جاحدينَ بها للإيذانِ بأنَّه كانَ من حقِّهم أنْ يُوقنوا بها ويقطعُوا بصحتها وقد اتصفوا بنقيضه وقرئ إنَّ النَّاس بالكسرِ على إضمارِ القولِ أو إجراءِ الكلامِ مَجراهُ والكلامُ في الإضافةِ كالذي سبقَ وقيل هو استئنافٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لتعليلِ إخراجِها أو تكليمِها ويردُّه الجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل
301
سورة النمل (٨٣ ٩٥) فإنَّه صريحٌ في كونِه حكايةً لعدمِ إيقانِهم السابقِ في الدُّنيا والمرادُ بالنَّاسِ إمَّا الكَفَرةُ على الإطلاقِ أو مُشركو مكَّةَ وقد رُوي عن وهْبٍ أنَّها تخبرُ كل مَن تراهُ أنَّ أهلَ مكَّةَ كانُوا بمحمدٍ والقرآنِ لا يوُقنون وقرئ تُكلِّمهم مِن الكَلْمِ الذي هو الجُرْحُ والمُرادُ به ما نُقلِ من الوسمِ بالعَصَا والخاتمِ وقد جُوِّزَ كونُ القراءةِ المشهورةِ أيضاً منه لمعنى التَّكثيرِ ولا يخفى بعدُه
302
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً﴾ بيانٌ إجماليٌّ لحال المُكذِّبينَ عند قيامِ السَّاعةِ بعد بيانِ بعضِ مَبَاديها ويومَ منصوبٌ بمضمرٍ خوطبَ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم والمرادُ بهذا الحشرِ هو الحشرُ للعذابِ بعدَ الحشرِ الكُليِّ الشَّاملِ لكافَّةِ الخَلْق وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيانُ سرِّه مراراً أي واذكرُ لهم وقتَ حشرنا أي جمعِنا مِن كُلّ أمَّةٍ من أممِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام أو من أهلِ كلِّ قَرن من القُرون جماعةً كثيرةً فمن تبعيضيةٌ لأنَّ كلَّ أمةٍ منقسمةٌ إلى مصدَّقٍ ومكذِّبٍ وقولُه تعالى ﴿مّمَّن يكذب بآياتنا﴾ بيانُ للفوجِ أي فوجاً مكذبين بها ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ أي يحبس أولهم على أخرِهم حتىَّ يتلاحقُوا ويجتمعُوا في موقف التوبيخ والمنافشة وفيه من الدلالة على كثرةِ عددِهم وتباعُدِ أطرافِهم ما لاَ يخفي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أبوُ جهلٍ والوليدِ بن المُغيرة وشَيُبةُ بنُ ربيعةَ يُساقون بين يَدَي أهلِ مكَّةَ وهكذا يُحشر قادةُ سائرِ الأُمم بينَ أيديهم إلى النَّارِ
﴿حتى إذا جاؤوا﴾ إلى موقفِ السُّؤالِ والجَوَاب والمُناقشةِ والحسابِ ﴿قَالَ﴾ أي الله عزَّ وجلَّ موبَّخاً لهم على التَّكذيبِ والالتفاتِ لتربية المهابة ﴿أكذبتم بآياتي﴾ النَّاطقةِ بلقاءِ يومِكم هذا وقولُه تعالى ﴿وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً﴾ جملةٌ حاليَّةٌ مفيدةٌ لزيادةِ شَنَاعة التَّكذيبِ وغايةِ قُبْحهِ ومؤكدةٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ أي أكذَّبتُم بها بادئ الرَّأي غيرَ ناظرينَ فيها نظراً يُؤدِّي إلى العلمِ بكُنهِها وأنَّها حقيقةٌ بالتَّصديقِ حَتماً وهذا نصٌ في أنَّ المرادَ بالآياتِ فيما سلف في الموضعينِ هي الآياتُ القُرآنيةُ لأنَّها هيَ المُنطويةُ على دَلائلِ الصِّحةِ وشواهدِ الصِّدقِ التي لم يُحيطوا بها علماً مع وجُوبِ أنْ يتأمَّلوا ويتدبَّروا فيها لا نفسُ السَّاعة وما فيها وقيلَ هو معطوفٌ على كذَّبتم أي أجمعتُم بين التكذيب وعدم التَّدبرِ بها ﴿أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي أمْ أيُّ شيءٍ كنتم تعملون بها أو أمْ أيُّ شيءٍ كنتُم تعملون غيرَ ذلكَ بمعنى أنَّه لم يكُن لهم عملٌ غيرُ ذلكَ كأنَّهم لم يُخلقوا إلا للكفر والمَعَاصي مع أنَّهم ما خُلقوا إلا للإيمانِ والطَّاعةِ يخاطبون بذلك تبكيا ثم يُكبُّون في النَّار وذلك قولُه تعالى
﴿وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم﴾ أي حلَّ بهم العذابُ الذي هو مدلولُ القولِ النَّاطقِ بحلولِه ونزولِه ﴿بِمَا ظَلَمُواْ﴾ بسببِ ظُلمِهم الذي هو تكذيبُهم بآياتِ الله ﴿فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ﴾ لانقطاعِهم عن الجوابِ بالكُلِّية وابتلائِهم بشغلٍ شاغلٍ من العذابِ الأليمِ
302
سورة النمل (٨٦ ٨٧)
303
﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ الرؤيةٌ قلبية لا بصريةٌ لأنَّ نفسَ الليلِ والنَّهارِ وإنْ كانَا من المُبصرات لكن جعلُهما كما ذُكر من قبيلِ المعقولاتِ أي ألم يعلموا أنَّا جعلنا الليل بما فيهِ من الإظلامِ ليستريحُوا فيه بالنَّومِ والقرارِ ﴿والنهار مُبْصِراً﴾ أي ليبُصروا بما فيهِ من الإضاءةِ طرقَ التقلبِ في أمورِ المعاش فبُولغَ فيه حيثُ جُعل الإبصارُ الذي هو حالُ النَّاسِ حالاً له ووصفاً من أوصافِه التي جُعل عليها بحيثُ لا ينفكُّ عنها ولم يسلك في الليلِ هذا المسلكَ لما أنَّ تأثيرَ ظلامِ الليَّلِ في السُّكونِ ليس بمثابةِ تأثيرِ ضَوْء النَّهارِ في الأبصارِ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي في جعلِهما كما وُصفا وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإشعارِ ببُعدِ درجتِه في الفضلِ ﴿لأَيَاتٍ﴾ أي عظيمةً كثيرةً ﴿لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ دالةٌ على صحَّةِ البعثِ وصدقِ الآياتِ النَّاطقةِ به دلالةً واضحةً كيف لا وإنَّ مَن تأمَّلَ في تعاقُبِ اليل والنهارِ واختلافِهما على وجوه بديعةٍ مبنيةٍ على حِكَمٍ رائقة تحار في فهمها العقول ولا يُحيطُ بها إلا الله عزَّ وجلَّ وشاهدَ في الآفاقِ تبدلَ ظُلمةِ الليلِ المحاكيةِ للموتِ بضياءِ النهار المضاهي للحية وعاينَ في نفسِه تبدلَ النَّومِ الذي هُو أخوُ الموتِ بالانتباه الذي هو مثلُ الحَيَاةِ قَضَى بأنَّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنَّ الله يبعثُ مَنْ في القبورِ قضاءً متقناً وجزمَ بأنَّه تعالى قد جعلَ هذا أُنموذجاً له ودليلاً يستدلُّ به على تحققِه وأنَّ الآياتِ الناطقةَ به وبكونِ حالِ اللَّيل والنهار بُرهاناً عليهِ وسائرَ الآياتِ كلِّها حقٌّ نازلٌ من عندِ الله تعالى
﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور﴾ إمَّا معطوفٌ على يومَ نحشرُ منصوبٌ بناصبِه أو بمضمرٍ معطوفٍ عليه والصُّور هُو القَرْنُ الذي ينفخُ فيه إسرافيلُ عليه السَّلامُ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه إن رسولَ الله صلى اله عليه وسلم قالَ لمَّا فرغَ الله تعالى مِن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهُو واضُعه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرشِ متى يُؤمر قال قلتُ يا رسولَ الله ما الصُّور قال القَرنُ قال قلتُ كيف هُو قال عظيمٌ والذي نفسي بيدِه إنَّ عظَم دارةٍ فيه كعرضِ السماءِ والأرضِ فيُؤمر بالنَّفخِ فيه فينفُخ نفخةً لا يبقَى عندها في الحياةِ أحدٌ غيرُ مَن شاءَ الله تعالى وذلكَ قولُه تعالى وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فى السموات ومن فى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثم يُؤمر بأُخرى فينفُخ نفخةً لا يبقَى معها ميتٌ إلا بُعث وقامَ وذلكَ قولُه تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ والذي يستدعيِه سِباقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه أنَّ المرادَ بالنَّفخ هَهُنا هي النفخة الثانية وبالفزعِ في قولِه تعالى ﴿فَفَزِعَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض﴾ ما يعتري الكلَّ عند البعثِ والنِّشورِ بمشاهدةِ الأمورِ الهائلةِ الخارقةِ للعاداتِ في الأنفس والآفاق من الرُّعبِ والتَّهيبِ الضروريين الجبلين وإيراد صيغة الماضي مع كونِ المعطوفِ عليه أعني ينفخُ مضارعاً للدِّلالةِ على تحققِ وقوعِه إثرَ النَّفخِ ولعلَّ تأخيرَ بيانِ الأحوالِ الواقعةِ عند ابتداءِ النَّفخةِ عن بيانِ ما يقعُ بعدها من حشرِ المكذبينَ من كلِّ أُمَّة لتثنيةِ التَّهويل بتكريرِ التَّذكيرِ إيذاناً بأنَّ كلَّ واحدٍ منهما
303
سورة النمل (٨٨) طَّامةٌ كُبرى وداهيةٌ دهياء حقيقة بالتَّذكيرِ على حيالِها ولو رُوعي الترتيبُ الوقوعيُّ لربما توهم أن الكل داهيةٌ واحدةٌ قد أُمر بذكرِها كما مرَّ في قصَّةِ البقرةِ ﴿إِلاَّ مَن شَاء الله﴾ أي أنْ لا يفزعَ قيلَ هُم جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ وعزرائيلُ عليهم السَّلام وقيلَ الحُورُ والخزنة وحَمَلةُ العَرْشِ ﴿وَكُلٌّ﴾ أي كلَّ واحدٍ من المبعوثينَ عند النَّفخةِ ﴿أَتَوْهُ﴾ حضُروا الموقف بين يدي ربَّ العِزَّة جلَّ جلالُه للسؤالِ والجواب والمناقشة والحساب وقرئ أَتَاهُ باعتبارِ لفظِ الكلِّ كَما أنَّ القراءةَ الأُولى باعتبار معناه وقرئ آتُوه أي حاضِرُوه ﴿داخرين﴾ أي صاغرين وقرئ دَخِرينَ وقولُه تعالى
304
﴿وَتَرَى الجبال﴾ عطفٌ على يُنفخ داخلٌ في حكمِ التَّذكيرِ وقولُه عزَّ وجلَّ ﴿تَحْسَبُهَا جَامِدَةً﴾ أي ثابتةً في أماكنِها إمَّا بدلٌ منه أو حالٌ من ضميرِ تَرَى أو من مفعولِه وقولُه تعالى ﴿وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب﴾ حالٌ من ضميرِ الجبالِ في تحسبُها أو في جامدةً أي تَرَاها رأيَ العينِ ساكنةً والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السَّحابِ التي تسيرها الرِّياح سيراً حثيثاً وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ نحوَ سمتٍ لا تكادُ تتبينُ حركتُها وعليهِ قولُ مَنْ قالَ... بأر عن مثلِ الطَّوْدِ تحسَب أنَّهم... وقوفٌ لحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ...
وقد أُدمج في هذا التشبيه حالِ الجبالِ بحالِ السَّحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما في قوله تعالى وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش وهذا أيضاً ممَّا يقعُ بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ عندَ حشرِ الخلقِ يُبدِّلُ الله عزَّ وجلَّ الأرضَ غيرَ الأرضَ ويغيرُ هيآتِها ويُسيِّر الجبالَ عن مقارِّهَا عَلى ما ذُكر من الهيئةِ الهائلةِ ليُشاهدَها أهلُ المحشرِ وهيَ وإنِ اندكتْ وتصدعتْ عند النَّفخةِ الأولى لكنْ تسييرُها وتسويِةُ الأرضِ إنَّما يكونانِ بعد النَّفخةِ الثانيةِ كما نطقَ به قوله تعالى ويسألونك عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صفصا لا ترى فيها عوجا وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى وقولُه تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسمواتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحدِ الْقَهَّارِ فإنَّ اتّباعَ الدَّاعِي الذي هُو إسرافيلُ عليه السَّلام وبروزُ الخلقِ لله تعالى لا يكونُ إلا بعدَ النَّفخةِ الثَّانيةِ وقد قالُوا في تفسيرِ قولِه تعالى وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وحشرناهم إنَّ صيغةَ الماضِي في المعطوفِ مع كونِ المعطوفِ عليه مُستقبلاً للدِّلالةِ على تقدمِ الحشر على التسيير والرؤوية كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك هذا وقد قيلَ إنَّ المرادَ هي النَّفخةُ الأُولى والفزعُ هو الذي يستتبعُ الموتَ لغايةِ شدَّةِ الهولِ كما في قولِه تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السموات ومن فى الأرض الآية فيختص أثرها بما كانَ حياً عندَ وقوعِها دُونَ مَن ماتَ قبلَ ذلك من الأُمم وجُوِّز أنَّ يرادَ بالإتيانِ داخرينَ رجوعُهم إلى أمرِه تعالى وانقيادُهم له ولا ريبَ في أنَّ ذلك ممَّا ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عن أمثاله وأبعدُ مِن هذا ما قبل إنَّ المرادَ بهذه النَّفخةِ نفخةُ الفزعِ التي تكونُ قبل نفخةِ الصَّعقِ وهي التي أريدتْ بقولِه تعالى ما ينظر هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً واحدة مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ فيسيِّرُ الله تعالى عندها الجبالَ فتمرُّ مرَّ السَّحابِ فتكون سراباً وتُرجُّ الأرضُ بأهلِها رجَّاً فتكون كالسَّفينةِ الموثقة في البحرِ أو كالقنديلِ المعلَّق ترججه الأرواحُ
304
سورة النمل (٨٩ ٩٠) فإنَّه ممَّا لا ارتباطَ له بالمقامِ قطعاً والحقُّ الذي لا محيدَ عنه ما قدمناه ومَّما هُو نصٌّ في البابِ ما سيأتِي من قولِه تعالى وَهُمْ مّن فزع يومئذ آمنون ﴿صنع الله﴾ مصدرٌ مؤكّدٌ لمضمون ما قبله أي صنعَ الله ذلك صُنعاً على أنَّه عبارةَ عمَّا ذُكر من النَّفخِ في الصُّورِ وما ترتَّب عليهِ جميعاً قُصد به التنبيهُ على عظَمِ شأنِ تلك الأفاعيلِ وتهويلِ أمرِها والإيذانُ بأنَّها ليستْ بطريقِ إخلالِ نظامِ العالمِ وإفسادِ أحوالِ الكائناتِ بالكُلِّية من غيرِ أنْ يدعوَ إليها داعيةٌ أو يكونَ لها عاقبةٌ بل هي من قبيلِ بدائعِ صنعِ الله تعالى المبنية على أساسِ الحكمةِ المستتبعةِ للغاياتِ الجميلةِ التي لأجلِها رُتبت مقدماتُ الخلق ومبادئ الإبداعِ على الوجهِ المتينِ والهج الرَّصينِ كما يُعرب عنه قولُه تعالى ﴿الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء﴾ أي أحكَم خلقَهُ وسوَّاهُ على ما تقتضيِه الحكمةُ وقولُه تعالى ﴿إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ تعليلٌ لكون ما ذُكر صُنعاً مُحكماً له تعالى ببيانِ أنَّ عِلمَهُ تعالى بظواهرِ أفعالِ المُكلفينَ وبواطنِها مَّما يدعُو إلى إظهارِها وبيانِ كيفيَّاتِها على ما هي عليه من الحسن والسُّوء وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرِهم وجعلُ السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ على وُفقِ ما نطقَ به التَّنزيلُ ليتحققُوا بمشاهدةِ ذلك أن وعد حقٌّ لا ريب فيه وقرئ خبيرٌ بما يفعلونَ وقولُه تعالى
305
﴿مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا﴾ بيانٌ لما أُشير إليه بإحاطةِ علمِه تعالى بأفعالِهم من ترتيبِ أجزيتِها عليها أي مَن جاءَ منكُم أو من أولئكَ الذين أتَوه تعالى بالحسنة فله من الجزاءِ ما هو خيرٌ منها إمَّا باعتبارِ أنَّه أضعافُها وإمَّا باعتبارِ دوامِه وانقضائِها وقيلَ فلُه خيرٌ حاصلٌ من جهتِها وهو الجنَّةُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما الحسنةُ كلمةُ الشَّهادةِ ﴿وَهُمْ﴾ أي الذينَ جاءوا بالحسناتِ ﴿مّن فَزَعٍ﴾ أي عظيمٍ هائل لاَ يقادَر قدرُه وهُوَ الفزعُ الحاصِلُ من مشاهدة العذابِ بعد تمامِ المُحاسبةِ وظهورِ الحَسَنات والسيئاتِ وهُو الَّذي في قولِه تعالى لاَ حزنهم الفزع الأكبر وعنِ الحَسَنِ رحَمهُ الله تعالى حينَ يُؤمر بالعبدِ إلى النَّارِ وقالَ ابنُ جريجٍ حينَ يذُبح الموتُ ويُنادِي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ﴿يومئذ﴾ أي يوم إذ ينفخ في الصور ﴿آمنون﴾ لا يعتريهم ذلكَ الفزعُ الهائلُ ولا يلحقهم ضررُه أصلاً وأما الفزعُ الذي يعتري كلَّ مَن فى السموات ومن فى الأرض غيرَ مَنِ استثناه الله تعالى فإنَّما هو التَّهيبُ والرُّعبُ الحاصلُ في ابتداءِ النَّفخةِ من معاينةِ فنونِ الدَّواهي والأهوالِ ولا يكادُ يخلُو منه أحدٌ بحكم الجبلَّةِ وإنْ كان آمِناً من لُحوق الضَّررِ والأمنُ يُستعمل بالجارِّ وبدونِه كما في قولِه تعالى أَفَأَمِنُواْ مكر الله وقرئ من فزع يومئذ بالإضافة مع كسر الميم وفتحِها أيضاً والمرادُ هو الفزعُ المذكورُ في القراءةِ الأُولى لا جميعُ الأفزاعِ الحاصلةِ يومئذٍ ومدارُ الإضافةِ كونُه أعظمَ الأفزاعِ وأكبرُها كأنَّ ما عداهْ ليس بفزعٍ بالنسبةِ إليهِ
﴿وَمَن جَاء بالسيئة﴾ قيل هو الشركُ ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النار﴾ أي كُبُّوا فيها على وجوهِهم منكوسين أو كُبَّت فيها أنفسُهم على طريقةِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ على الالتفاتِ للتَّشديدِ أو على إضمارِ القولِ أي مقولاً لهم ذلك
305
سورة النمل (٩١ ٩٢)
306
﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة الذى حرمها﴾ أمر ﷺ أنْ يقولَ لهم ذلك بعد ما بيَّن لهم أحوالَ المبدأِ والمعادِ وشرحَ أحوالَ القيامةِ تنبيهاً لهم على أنَّه قد أتمَّ أمرَ الدَّعوةِ بما لا مزيدَ عليهِ ولم يبقَ له ﷺ بعد ذلك شأنٌ سوى الاشتغالِ بعبادةِ الله عزَّ وجلَّ والاستغراقِ في مُراقبتهِ غيرَ مُبالٍ بهم ضلُّوا أمْ رشدُوا صلحُوا أو فسدُوا ليحملَهم ذلك على أنْ يهتمُّوا بأمورِ أنفسِهم ولا يتوهَّمُوا من شدَّةِ اعتنائه ﷺ بأمر دعوتهم أنه ﷺ يُظهر لهم ما يُلجئهم إلى الإيمانِ لا محالةَ ويشتغلوا بتداركِ أحوالِهم ويتوجَّهُوا نحوَ التَّدبرِ فيما شاهدُوه من الآياتِ الباهرةِ والبلدةُ هي مكَّةُ المعظمةُ وتخصيصُها بالإضافةِ لتفخيمِ شأنِها وإجلال مكانها والتعرف لتحريمهِ تعالى إيَّاها تشريفٌ لها بعد تشريفٍ وتعظيمٌ إثرَ تعظيمٍ مع ما فيه من الإشعارِ بعلَّةِ الأمرِ وموجبِ الامتثالِ به كما في قوله تعالى فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وآمنهم مّنْ خوْفٍ ومن الرَّمزِ إلى غايةِ شَنَاعةِ ما فعلُوا فيها ألا يَرَى أنَّهم مع كونِها محرَّمةً من أنْ تنتهكَ حرمتُها باختلاءِ خلاها وعضْدِ شجرِها وتنفيرِ صيدِها وإرادةِ الإلحادِ فيها بوجهٍ من الوجوهِ قد استمرُّوا فيها على تعاطِي أفجرِ أفرادِ الفُجور وأشنعِ آحادِ الإلحادِ حيثُ تركُوا عبادةَ ربَّها ونصبُوا فيها الأوثانَ وعكفُوا على عبادتِها قاتلَهم الله أنَّى يُؤفكون وقرئ حَرَمَها بالتَّخفيفِ وقولُه تعالى ﴿وَلَهُ كُلُّ شَىء﴾ أي خلقاً وملكاً وتصرُّفاً من غير أن يشاركه شيء في شيء من ذلك تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على أنَّ إفرادَ مكَّةَ بالإضافةِ لما ذُكر من التَّفخيمِ والتَّشريفِ مع عُمومِ الرُّبوبيةِ لجميعِ الموجُوداتِ ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين﴾ أي أثبت على ما كنتُ عليهِ من كونِي من جُملةِ الثَّابتين على ملَّة الإسلامِ والتَّوحيدِ أي الذين أسلمُوا وجوهَهم لله خالصةً من قوله تعالى وَمَن أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
﴿وأن أتلو القرآن﴾ أي أواظبَ على تلاوتِه لتنكشفَ لي حقائقُه الرائعةُ المخزونةُ في تضاعيفهِ شيئاً فشيئاً أو على تلاوتِه على النَّاسِ بطريقِ تكريرِ الدَّعوةِ وتثنيةِ الإرشادِ فيكونَ ذلك تنبيهاً على كفايتهِ في الهدايةِ والإرشادِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى إظهارِ مُعجزةٍ أُخرى فمعنى قولِه تعالى ﴿فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ﴾ حينئذٍ فَمَنُ اهتدى بالإيمانِ به والعملِ بما فيهِ من الشَّرائعِ والأحكامِ وعلى الأولِ فمنِ اهتدَى باتَّباعِه إيَّاي فيما ذُكر من العبادةِ والإسلامِ وتلاوةِ القُرآن فإنَّما منافعُ اهتدائهِ عائدةٌ إليهِ لا إليَّ ﴿وَمَن ضَلَّ﴾ بالكفرِ به والإعراضِ عن العملِ بما فيه أو بمُخالِفتي فيما ذُكر ﴿فَقُلْ﴾ في حقَّه ﴿إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين﴾ وقد خرجتُ عن عُهدة الإنذارِ فليسَ عليَّ من وبالِ ضلالِه شيءٌ وإنَّما هو عليه فقط
306
سورة النمل (٩٣)
307
﴿وَقُلِ الحمد لِلَّهِ﴾ أي علَى ما أفاضَ عليَّ من نعمائِه التي أجلُّها نعمةُ النُّبوةِ المستتبعةِ لفنونِ النِّعمِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ ووفَّقنِي لتحمل أعبائِها وتبليغِ أحكامِها إلى كافَّة الوَرَى بالآياتِ البينةِ والبراهينِ النيرةِ وقولُه تعالى ﴿سيريكم آياته﴾ من جُملةِ الكلامِ المأمورِ به أي سيُريكم البتةَ في الدُّنيا آياتِه الباهرةَ التي نطقَ بها القرآنُ كخروجِ الدابةِ وسائرِ الأشراطِ وقد عُدَّ منها وقعةُ بدرٍ ويأباهُ قولُه تعالى ﴿فَتَعْرِفُونَهَا﴾ أي فتعرفونَ أنَّها آياتُ الله تعالى حينَ لا تنفعُكم المعرفةُ لأنَّهم لا يتعرفون بكونِ وقعةِ بدرٍ كذلك وقيل سيُريكم في الآخرةِ وقولُه تعالَى ﴿وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى بطريقِ التَّذييلِ مقررٌ لما قبلَه متضمنٌ للوعدِ والوعيدِ كما ينبئ عنه إضافةُ الربِّ إلى ضمير النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتخصيصُ الخطابِ أولاً به ﷺ وتعميمُه ثانياً للكَفَرةِ تغليباً أيْ وَمَا رَبُّكَ بغافلٍ عَمَّا تعملُ أنتَ من الحسناتِ وما تعملونَ أنتُم أيُّها الكفرةُ من السيئاتِ فيُجازي كُلاًّ منكم بعملِه لا محالة وقرئ عمَّا يعملُون على الغَيبةِ فهُو وعيدٌ محضٌ والمعنى وما ربُّك بغافلٍ عن أعمالِهم فسيعذبُهم البتةَ فلا يحسبُوا أنَّ تأخيرَ عذابِهم لغفلتِه تعالى عن أعمالِهم الموجبةِ له والله تعالى أعلم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ طس كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد من صدق بسليمان وهو وصالحٍ وإبراهيمَ وشُعيبٍ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ومن كذَّب بهم ويخرجُ من قبرِه وهو ينادي لا له إلا الله
تم بحمد الله الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله سورة القصص قوله (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) التلاوة فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ وحينئذ فلا حاجة لبيان نكتة التعبير بالربوبية المضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام بقوله (وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ الخ)
307
سورة القصص ١ ٥
مكية وقيل إلا قوله الذين آتيناهم الكتاب إلى قوله الجاهلين وهي ثمان وثمانون آية
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم﴾
2
Icon