ﰡ
وهي اثنتان وعشرون آية مكية
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١)قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ يعني: تخاصمك، فِي زَوْجِها يعني:
من قبل زوجها. وروى أبو العالية الرياحي: أن الآية نزلت في شأن أوس بن الصامت وفي امرأته خويلة بنت دعلج، وعن عكرمة أنه قال: نزلت في امرأة اسمها خويلة بنت ثعلبة وفي زوجها أوس بن الصامت، جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَا أرَاكِ إلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ». قالت: انظر يا نبي الله، جعلني الله فداك يا نبي الله في شأني، وجعلت تجادله، وعائشة رضي الله عنها تغسل رأسي النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقالت عائشة رضي الله عنها: اقصري حديثك ومجادلتك يا خويلة، أما ترين وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد تربّد ليوحى إليه، فأنزل الله تعالى قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ.
وروى سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، قال: كان طلاقهم في الجاهلية الظهار والإيلاء، فلما جاء الإسلام جعل الله تعالى في الظهار ما جعل، وجعل في الإيلاء ما جعل.
ثم قال: وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ يعني: تتضرع المرأة إلى الله مخافة الفرقة وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما يعني: محاورتكما ومراجعتكما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يعني: سميعاً لمقالة خويلة بصير بأمرها، وقال مقاتل فهي خويلة بنت ثعلبة.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٢ الى ٤]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)
ثم قال: مَّا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ وروى الفضل عن عاصم، أمهاتُهم بضم التاء، لأنه خبر ما، كقولك ما زيد عالم، وقرأ الباقون بالكسر، لأن التاء في موضع النصب، فصار خفضاً لأنها تاء الجماعة، وهي لغة أهل الحجاز، فينصبون خبر «ما»، كقوله ما هذا بشراً، ما هن كأمهاتهم في الحرمة إِنْ أُمَّهاتُهُمْ يعني: ما أمهاتهم إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ يعني: الأم التي ولدته، والأم التي أرضعته، لأنه قال في موضع آخر وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء: ٢٣].
ثم قال: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً يعني: قولاً منكراً وكذباً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ يعني: ذو تجاوز غَفُورٌ، حيث جعل الكفارة لرفع الحرمة، ولم يجعل فرقة بينهما.
ثم قال: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يعني: يعودون لنقض ما قالوا، ولرفع ما قالوا في الجاهلية فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يعني: فعليه تحرير رقبة، ويقال ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فيه تقديم وتأخير، يعني: ثم يعودون فتحرير رقبة لما قالوا ويقال: معناه ثم يعودون لما قالوا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يتكلمون بهذا القول فيرجعون إلى ذلك القول بعد الإسلام، وقال بعضهم: لا تجب الكفارة حتى يقول مرتين، لأنه قال: ثم يعودون لما قالوا، يعني: يعودون مرة أخرى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ هذا القول خلاف جميع أهل العلم، وإنما تجب الكفارة إذا قال مرة واحدة. والكفارة ما قال الله تعالى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء: ٩٢] يعني:
عتق رقبة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا يعني: من قبل أن يجامعها. ويقال من قبل أن يمس كل واحد منهما صاحبه ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ يعني: هذا الحكم الذي تؤمرون به وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من الوفاء وغيره. وقوله تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ يعني: من لم يجد الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ يعني: فعليه صيام شهرين مُتَتَابِعَيْنِ، لا يفصل بينهما مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا
قال عطاء إذا أفطر من مرض، فالله أعذره بالعذر يبدله، ولا يستأنف، وقال طاوس:
يقضي ولا يستأنف، وهكذا قال سعيد بن المسيب: فهؤلاء كلهم قالوا: لا يستقبل، وقال إبراهيم النخعي والزهري والشعبي: يستقبل، وهكذا قال عطاء الخراساني، والحكم بن كيسان، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم.
ثم قال: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصيام فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً يعني: فعليه في قول أهل المدينة لكل مسكين صاع من الحنطة. أو التمر.
وفي قول أهل العراق منوان من حنطة، أو صاع من تمر، بدليل ما روى سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر البياض، قال: كنت أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من أهلي، فتظاهرت من أهلي حتى ينسلخ الشهر، فبينما هي تخدمني ذات ليلة، إذ انكشف لي منها شيء، فواقعتها، فلما أصبحت أخبرت قومي، فقلت: اذهبوا معي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: ما نذهب وما نأمن أن ينزل فيك قرآن، فأتيته فأخبرته، فقال: «حَرِّرْ رَقَبَةً»، فقلت ما أملك إلا رقبتي، قال: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ»، قلت: وهل أصابني إلا من قبل الصيام، قال: «فأَطْعِمْ وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِيناً»، قلت: والذي بعثك بالحق نبياً لقريش ما لنا طعام. ثم قال: «انْطَلِقْ إلى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ، فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ» فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي، وقد أمر لي بصدقتكم، فقد بين في هذا الخبر أنه يجب وسقاً من تمر، والوسق ستون صاعاً، بالاتفاق.
ثم قال: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ يعني: لتصدقوا بوحدانية الله تعالى وَرَسُولِهِ يعني:
وتصدقوا برسوله وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني: هذه فرائض الله، وأحكامه وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني: الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وبرسوله، وروي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها، إن المرأة لتناجي النبي صلّى الله عليه وسلم يسمع بعض كلامها، ويخفى عليه بعضه، إذا أنزل الله تعالى قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وهكذا قال الأعمش.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٥ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩)إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني: يعادون، ويشاقون الله ورسوله، ويقال يشاقون أولياء الله ورسوله، يعني: الذين يشاقون أولياء الله، لأن أحداً لا يعادي الله، ولكن من عادى أولياء الله فقد عادى الله تعالى.
ثم قال: كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال مقاتل: أخذوا كما أخذ الذين من قبلهم من الأمر ويقال: عذبوا كما عذب الذين من قبلهم، وقال أبو عبيد: أهلكوا ويقال: غيظوا كما غيظ الذين من قبلهم والكبت هو الغيظ، ويقال: أحزنوا، وقال الزجاج: أذلوا وغلبوا وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ يعني: القرآن فيه بيان أمره ونهيه ويقال: آيات واضحات وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ يهانون فيه، ثم قال: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً الأولين والآخرين يبعثهم الله من قبورهم فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من خير أو شر ليعلموا وجوب الحجة عليهم أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ يعني:
حفظ الله عليهم أعمالهم وهم نسوا أعمالهم ويقال: وَنَسُوهُ يعني: وتركوا العمل في الدنيا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يعني: شاهداً بأعمالهم ثم قال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ يعني: ألم تعلم، اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التقرير يعني: أنك تعلم، ويقال: معناه إني أعلمتك أن الله يعلم. ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. يعني: سر أهل السموات وسر أهل الأرض
يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى يعني: عن قول السر فيما بينهم، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ يعني: بالكذب وَالْعُدْوانِ يعني: بالجور والظلم، وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ يعني: خلاف أمر الله وأمر الرسول صلّى الله عليه وسلم. قرأ حمزة وينتجون، والباقون وَيَتَناجَوْنَ وهما لغتان، يقال: تناجى القوم وانتجوا.
ثم قال: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ يعني: إذا جاءك اليهود حيوك بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ، وذلك أنهم كانوا يقولون إذا دخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم: السام عليكم. فيقول: وعليكم.
فقالت عائشة- رضي الله عنها- وعليكم السام، لَعَنَكُم الله وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم:
«مَهْلاً يا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بالرِّفْقِ. وَإيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ». قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال:
«أَوَ لَمْ تَسْمَعِي ما رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ؟ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ». فقالت اليهود فيما بينهم: لو كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما يقول، لا ستجيب دعاؤه علينا حيث قال: عليكم، فنزل وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ يعني: سلموا عليك بما لم يحيك به الله يعني: بما لم يأمرك به الله أن تحيي به، ويقال: بما لم يسلم عليك به الله.
وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ يعني: فيما بينهم. لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ يعني: هلا يعذبنا الله بِما نَقُولُ لنبيه، يقول الله تعالى: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يعني: مصيرهم إلى جَهَنَّمُ، يَصْلَوْنَها يعني: يدخلونها، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ما صاروا إليه.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ قال مقاتل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- باللسان دون القلب- إِذا تَناجَيْتُمْ فيما بينكم، فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية، كان المنافقون يتناجون فيما بينهم ليحزنوا المؤمنين. وهذا الخطاب للمخلصين في قول بعضهم، لأن الله تعالى أمرهم أن لا يتناجوا بالإثم والعدوان، كفعل المنافقين يعني: بالعداوة والظلم وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ يعني: خلاف أمر الرسول أي: لا تخالفوا أمره وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى يعني: بالذي أمركم الله تعالى به، بالطاعة والتقى يعني:
ترك المعصية.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١١ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣)
ثم قال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ. قرأ عاصم فِي الْمَجالِسِ بلفظ الجمع، والباقون في المجلس يعني: في مجلس النبي صلّى الله عليه وسلم. نزلت في ثابت بن قيس، وكان في أذنيه شيء من الثقل، فحضر مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقد أخذوا مجالسهم، فبقي قائما فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «رَحِمَ الله مَنْ وَسَّعَ لأَخِيهِ»، فنزلت الآية. وروى معمر، عن قتادة أنه قال: كان الناس يتنافسون في مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقيل لهم: إذا قيل لكم تفسحوا فى المجالس، فَافْسَحُوا يعني: وسعوا المجلس. يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يعني: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا.
وروى معمر، عن الحسن قال: هذا في الغزاة وقال مجاهد: تَفَسَّحُواْ في المجلس يعني: مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصة وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا إلى كل خير وقتال عدو وأمر بالمعروف.
وروي عن ابن عمر، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ،
انهضوا.
ثم قال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ يعني: من كان له إيمان وعلم، وكان له فضائل على الذين يقومون وليس بعالم. قال الضحاك: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وقد تم الكلام. ثم قال: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ يعني: لأهل العلم درجات، أي: الذين أوتوا العلم في الدنيا ولهم درجات في العقبى. قال: وللعلماء مثل درجة الشهداء، وقال مقاتل: إذا انتهى المؤمن إلى باب الجنة، يقال للمؤمن الذي ليس بعالم: ادخل الجنة بعملك، ويقال للعالم: أقم على باب الجنة واشفع للناس. وقال ابن مسعود: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ على الذين آمنوا منكم ولم يؤتوا العلم درجات. ثم قال:
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من التفسح في المجلس وغيره.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ يعني: إذا كلمتم الرسول سراً، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً يعني: تصدقوا قبل كلامكم بصدقة. ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني: التصدق خير لكم من إمساكه، وَأَطْهَرُ لقلوبكم وأزكى من المعصية. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما تتصدقون، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ لم يجد الصدقة. وذلك أن الأغنياء كانوا يكثرون مناجاة النبي صلّى الله عليه وسلم، ولم يمكنوا الفقراء من سماع كلامه، وكان يكره طول مجالستهم وكثرة نجواهم، فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند المناجاة، فانتهوا عن ذلك، فقدرت الفقراء على سماع كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلم ومجالسته.
وقال مجاهد: نُهوا عن مناجاة النبيّ صلّى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إِلاَّ عَليُّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- قدم ديناراً تصدق به وكلم النبيّ صلّى الله عليه وسلم في عشر كلمات، ثم أنزلت الرخصة بالآية التي بعدها وهو قوله: أَأَشْفَقْتُمْ يعني: أبخلتم يا أهل الميسرة أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؟ فلو فعلتم كان خيرا لكم، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وتكرهوا ذلك، فإن الله تعالى غني عن صدقاتكم. وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يعني: تجاوز عنكم. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، فَنَسَخَت الزكاةُ الصدقة التي عند المناجاة. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يأمركم به وينهاكم عنه. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الخير والشر والتصدق والنجوى.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١٤ الى ١٩]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَّا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً في الآخرة. إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني: بئس ما كانوا يعملون بولايتهم اليهود وكذبهم وحلفهم، ثم قال عز وجل: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً يعني: جعلوا حلفهم بدلاً عن القتل، ليأمنوا بها عن القتل والسبي فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني: صَدُّوا وصرفوا الناس عن دين الله تعالى في السر. فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهانون فيه.
قوله تعالى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يعني: لم تنفعهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يعني:
دائمين. ثم قال عز وجل: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يعني: المنافقين واليهود، فَيَحْلِفُونَ لَهُ يعني: يحلفون لله تعالى في الآخرة، كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا وحَلفهم في الآخرة ما قال الله تعالى في سورة الأنعام وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣]، وروى معمر، عن قتادة قال: المنافق يحلف لله تعالى يوم القيامة، كما كان حلف لأوليائه في الدنيا.
ثم قال: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ يعني: يحسبون أن يمينهم تنفعهم شيئاً، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ في قولهم، ويقال: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من الدين، ويقال:
وَيَحْسَبُونَ يعني: يحسب المؤمنون أنهم على شيء، يعني: إن المنافقين على شَىْء من الدين، يعني: إذا سمعوا حلفهم. قال الله تعالى: مِنْ الدين يعني: إذا سمعوا حلفهم، قال الله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ في حلفهم وهم كافرون في السر. ثم قال: اسْتَحْوَذَ
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني: يعادون الله ويخالفون الله ورسوله أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ يعني: في الأسفلين فِى الدرك الأسفل مِنَ النار، وهم المنافقون ويقال: أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ يعني: في الهالكين.
قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ يعني: قضى الله لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي يعني: لأغلبن في الدنيا بالحجة والدلائل في الآخرة، ويقال: لَأَغْلِبَنَّ يعني: لأقهرن أنا ورسلي، فتكون العاقبة للمؤمنين. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، ويقال: كَتَبَ اللَّهُ يعني: قضى الله ذلك قضاء ثابتاً لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، وغلبة الرسل تكون على نوعين: من بعث منهم في الحرب، فغلب في الحرب ومن بعث منهم بغير حرب فهو غالب بالحجة إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي: مانع حزبه من أن يذل والعزيز الذي لا يغلب ولا يقهر.
ثم قال: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني: البعث بعد الموت. يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني: يتخذون خلة وصداقة مع الكافرين. نزلت في «حاطب بن أبي بلتعة» وفيه نزل لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ثم قال عز وجل:
وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ يعني: لا تتخذوا مع الكافرين صداقة، وإن كانوا من أقربائه.
ثم قال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ يعني: الذين لا يتخذون مع الكافرين صداقة. هم الذين جعل في قلوبهم الإيمان يعني: التصديق وَأَيَّدَهُمْ، يعني: أعانهم بِرُوحٍ مِنْهُ