تفسير سورة الصف

اللباب
تفسير سورة سورة الصف من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الصف [ مدنية ]١ في قول الأكثرين. وذكر النحاس [ عن ابن عباس ]٢ : أنها مكية، وهي أربع عشرة آية ومئتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف.
١ في أ: مكية..
٢ سقط من أ..

[مدنية] في قول الأكثرين. وذكر النحاس [عن ابن عباس] : أنها مكية، وهي أربع عشرة آية ومئتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها، هو أن في السورة التي قبلها، بين الخروج إلى الجهاد في سبيل الله، وابتغاء مرضاته بقوله: ﴿إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي﴾ [الممتحنة: ١]، وفي هذه السورة بين ما يحمل المؤمن، ويحثّه على الجهاد، فقال: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [الصف: ٣].
فإن قيل: ما الحكمة في أنه - تعالى - قال في بعض السور: «سبَّح للَّهِ» بلفظ الماضي، وفي بعضها: «يُسَبِّحُ» بلفظ المضارع، وفي بعضها بلفظ الأمر؟.
فالجواب: أن الحكم في ذلك تعليم العبد، أن تسبيح الله تعالى دائم لا ينقطع، كما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان والأمر يدل عليه في الحال.
و «العَزِيزُ» : هو الغالب على غيره أي شيءٍ كان ذلك الغير، ولا يمكن أن [يحكم] عليه غيره، و «الحَكِيمُ» : هو الذي يحكم على غيره، أي شيء كان ذلك الغير.
فإن قيل: هلاَّ قيل: سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وما فيهما وهو أكثر مبالغة؟ فالجواب: إنما يكون كذلك، إذا كان المراد التَّسبيح بلسان الحال، أما إذا كان المراد من التسبيح المخصوص باللسان فالبعض بوصف معين، فلا يكون كذلك.
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾.
روى الدَّارميُّ في مسنده قال: أنْبَأنَا مُحمَّدُ بنُ كثيرٍ عَنِ الأوزاعيِّ عنْ يَحْيى بْنِ أبِي كثيرٍ عن أبِي سلمةَ عن عبْدِ اللَّهِ بن سلام، قال: قَعَدنَا مع نفر من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا؟ فأنزل الله - تعالى -: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ حتى ختمها، قال عبد الله: قرأها علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى ختمها، قال أبو سلمة: فقرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها، قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة، فقرأها علينا يحيى، فقرأها علينا الأوزاعي، فقرأها علينا محمد، فقرأها علينا الدارمي.
وقال عبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: قال عبد الله بن رواحة: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه، [فلما نزل الجهاد كرهوه].
[وقال الكلبي: قال المؤمنون: يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها]، فنزلت: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف: ١٠]، فمكثوا زماناً يقولون: لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين؟ فدلَّهم الله عليها بقوله: ﴿تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ [الصف: ١١] الآية، فابتلوا يوم أحد، ففروا، فنزلت هذه الآية تعبيراً لهم بترك الوفاء.
وقال محمَّدُ بنُ كعبٍ: لما أخبر الله - تعالى - نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بثواب شهداء «بدر»، قالت الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم اللهم اشهد لئن لقينا قتالاً لنفرغنّ فيه وسعنا ففروا يوم أحد، فعيرهم الله بذلك.
وقال قتادة والضحاك: نزلت في قوم كانوا يقولون: نحن جاهدنا وابتلينا، ولم يفعلوا.
وقال صهيب: كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر، وأنكاهم، فقتله، فقال رجل: يا
44
نبي الله، إني قتلت فلاناً ففرح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك، فقال عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف: يا صُهيبُ، أما أخبرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنك قتلت فلاناً، فإن فلاناً انتحل قتله، فأخبره، فقال: أكذلك يا أبا يحيى؟ قال: نعم، والله يا رسول الله، فنزلت الآية في المنتحل.
وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين، كانوا يقولون «للنبي» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه: إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم، وقاتلنا، فلما خرجوا نكثوا عنهم وتخلفوا.

فصل


قال القرطبي: «هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة أن يفي بها».
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى: أنه بعث قراء إلى أهل «البصرة»، فدخل عليه ثلاثمائة رجل، قد قرأوا القرآن، فقال أنتم خيار أهل «البصرة» وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمدُ، فتقسوا قلوبكم، كما قست قلوب من قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة تشبهها في الطول والشدة ب «براءة»، فأنسيتها غير أني قد حفظت منها «لَوْ كَان لابْنِ آدَمَ وادِيَانِ مِنْ مالٍ لابْتَغَى وَادِياً ثَالثاً، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابنِ آدمَ إلاَّ التُّرابُ»، وكُنَّا نقرأُ سُورة تُشبههَا بإحْدَى المُسَبِّحاتِ، فأنْسيتُهَا غير أنِّي قد حفظت منها: «يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقُولُون ما لا تفعَلُونَ، فتُكْتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة».
قال ابن العربي: وهذا كله ثابت في الدين، أما قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ فثابتٌ في الدين لفظاً ومعنى في هذه السورة، وأما قوله: شهادة في أعناقكم عنها يوم القيامة، فمعنى ثابت في الدين، فإن من التزم شيئاً لزمه شرعاً، والملتزم على قسمين:
[أحدهما: النذر، وهو] على قسمين:
نذر تقرب مبتدأ، كقوله: لله عليّ صلاة أو صوم أو صدقة، ونحوه من القرب، فهذا يلزم الوفاء به إجماعاً.
ونذر مباح، وهو ما علق به شرط رغبة، كقوله: إن قدم غائبي فعلي صدقة، أو علق بشرط رهبة، كقوله: إن كفاني الله شر كذا فعليَّ صدقة، ففيه خلاف: فقال مالك وأبو حنيفة: يلزم الوفاء به.
45
وقال الشافعي في قول: لا يلزم الوفاء به.
وعموم الآية حجة لنا؛ لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق، أو مقيد بشرط.
وقد قال أصحابه: إن النذر إنَّما يكون بما يقصد منه القربة مما هو من جنس القربة، وهذا وإن كان من جنس القربة، لكنه لم يقصد منه القربة، وإنما قصد منه منع نفسه عن فعل، أو من الإقدام على فعل.
قلنا: القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات، وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة كجلب نفع أو دفع ضرر، فلم يخرج عن سنن التكليف، ولا زال عن قصد التقرب.
قال ابن العربي: «فإن كان المقول منه وعداً فلا يخلو أن يكون منوطاً بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت جارية كذا أعطيتك، فهذا لازم إجماعاً من الفقهاء، وإن كان وعداً مجرداً.
فقيل: يلزم بتعلقه، واستدلوا بسبب الآية، فإن روي أنهم كانوا يقولون: لو نعلم أي الأعمال أفضل وأحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله هذه الآية، وهو حديث لا بأس به.
وروي عن مجاهد أن عبد الله [بن رواحة] لما سمعها قال:»
لا أزال حبيساً في الله حتى أقتل «.
والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال»
.
قال القرطبي: «قال مالك: فأما العدد مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له هبة، فيقول: نعم، ثم يبدو له ألاَّ يفعل، فلا أرى ذلك يلزمه».

فصل


قال القرطبي: ثلاث آيات منعتني أن أقضي على الناس: ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤] ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ [هود: ٨٨]، ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٣].
وخرج أبو نعيمٍ الحافظ من حديث مالكِ بنِ دينارٍ عَنْ ثُمامةَ عن أنس بْنِ مالكٍ،
46
قال: «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أتَيْتُ لَيْلةَ أسْري بِي عَلَى قوْمٍ تُقْرَضُ شِفاهُهُمْ بِمقاريضَ مِنْ نارٍ، كُلَّما قُرِضتْ عادتْ، قُلْتُ: مَنْ هؤلاء يَا جِبْريْلُ؟.
قال: هَؤلاءِ خُطَبَاءُ أمَّتِكَ الذينَ يقُولُونَ ولا يَفْعَلُون ويقرءُونَ كِتَابَ اللَّهِ ولا يعملُون بِهِ «

فصل


قوله: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾.
استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله، أما في الماضي، فيكون كذباً، وفي المستقبل، يكون خلفاً، وكلاهما مفهوم.
قال الزمخشري: هي لام الإضافة، دخلت على»
ما «الاستفهامية، كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك:» بم، وفيم، وعمَّ «، وإنما حذفت الألف؛ لأن» ما «والحرف كشيء واحد، ووقع استعمالها في كلام المستفهم»، ولو كان كذلك لكان معنى الاستفهام واقعاً في قوله تعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ﴾، والاستفهام من الله تعالى مُحَال؛ لأنه عالم بجميع الأشياء، والجواب هذا إذا كان المراد حقيقة الاستفهام، وأما إذا كان أراد إلزام من أعرض عن الوفاء مما وعد أو أنكر الحق وأصرَّ على الباطل فلا.
وتأول سفيانُ بنُ عيينة قوله: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ أي: لم تقولون [ما ليس الأمر فيه] إليكم، فلا تدرون هل تفعلون، أو لا تفعلون، فعلى هذا يكون الكلام محمولاً على ظاهره في إنكار القول.
قوله: ﴿كَبُرَ مَقْتَاً﴾. فيه أوجه:
أحدها: أن يكون من باب: «نعم وبئس»، فيكون في «كَبُر» ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده، و «أن تقُولُوا» هو المخصوص بالذم، فيجيء فيه الخلاف المشهور: هل رفعه بالابتداء وخبره الجملة مقدمه عليه؟ أو خبره محذوف، أو هو خبر مبتدأ محذوف، كما تقدم تحريره؟.
وهذه قاعدة مطردة: كل فعل يجوز التعجّب منه، يجوز أن يبنى على «فَعُل» - بضم العين - ويجري مجرى «نعم وبئس» في جميع الأحكام.
47
والثاني: أنه من أمثلة التعجّب.
وقد عده ابن عصفور في «التعجب» المبوَّب له في النحو، فقال: «صيغة: ما أفْعَلَهُ، وأفْعِلْ به، ولَفَعُل، نحو: لرمُو الرجل».
وإليه نحا الزمخشري فقال: هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه، قصد في «كَبُر» : التعجب من غير لفظه؛ كقوله: [الطويل]
٤٧٦٢ -.............................. غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَواؤهَا
ثم قال: وأسند إلى: «أن تقولوا»، ونصب: «مقتاً»، على تفسيره، دلالة على أن قوله: ﴿مَا لاَ تَفْعَلُون﴾ : مقت خالص لا شوب فيه.
الثالث: أنَّ «كَبُرَ» ليس للتعجب ولا للذم، بل هو مسند إلى «أن تقولوا» و «مقتاً» : تمييز محول من الفاعلية والأصل: كبر مقتاً أن تقولوا أي: مقت قولكم.
ويجوز أن يكون الفاعل مضمراً عائداً على المصدر المفهوم من قوله: «لِمَ تَقُولُونَ» أي: «كبر أي القول مقتاً»، و «أن تقولوا» على هذا إما بدل من ذلك الضمير، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أن تقولوا.
قال القرطبي: و «مقتاً» نصب بالتمييز، المعنى: كبر قولهم ما لا تفعلون مقتاً.
وقيل: هو حال، والمقت والمقاتة: مصدران، يقال: رجل مقيت وممقوت إذا لم يحبّه الناس.

فصل


قال القرطبيُّ: قد يحتجّ بهذه الآية في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولي الشافعي.
48
قوله :﴿ كَبُرَ مَقْتَاً ﴾. فيه أوجه١ :
أحدها : أن يكون من باب :«نعم وبئس »، فيكون في «كَبُر » ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده، و«أن تقُولُوا » هو المخصوص بالذم، فيجيء فيه الخلاف المشهور : هل رفعه بالابتداء وخبره الجملة مقدمه عليه ؟ أو خبره محذوف، أو هو خبر مبتدأ محذوف، كما تقدم تحريره ؟.
وهذه قاعدة مطردة : كل فعل يجوز التعجّب منه، يجوز أن يبنى على «فَعُل » - بضم العين - ويجري مجرى «نعم وبئس » في جميع الأحكام.
والثاني : أنه من أمثلة التعجّب.
وقد عده ابن عصفور في «التعجب » المبوَّب له في النحو، فقال :«صيغة : ما أفْعَلَهُ، وأفْعِلْ به، ولَفَعُل، نحو : لرمُو الرجل ».
وإليه نحا الزمخشري٢ فقال : هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه، قصد في «كَبُر » : التعجب من غير لفظه ؛ كقوله :[ الطويل ]
٤٧٦٢ -. . . *** غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَواؤهَا٣
ثم قال : وأسند إلى :«أن تقولوا »، ونصب :«مقتاً »، على تفسيره، دلالة على أن قوله :﴿ مَا لاَ تَفْعَلُون ﴾ : مقت خالص لا شوب فيه.
الثالث : أنَّ «كَبُرَ » ليس للتعجب ولا للذم، بل هو مسند إلى «أن تقولوا » و«مقتاً » : تمييز محول من الفاعلية والأصل : كبر مقتاً أن تقولوا أي : مقت قولكم.
ويجوز أن يكون الفاعل مضمراً عائداً على المصدر المفهوم من قوله :«لِمَ تَقُولُونَ » أي :«كبر أي القول مقتاً »، و«أن تقولوا » على هذا إما بدل من ذلك الضمير، أو خبر مبتدأ محذوف، أي : هو أن تقولوا٤.
قال القرطبي : و«مقتاً » نصب بالتمييز، المعنى : كبر قولهم ما لا تفعلون مقتاً.
وقيل : هو حال، والمقت والمقاتة : مصدران، يقال : رجل مقيت وممقوت إذا لم يحبّه الناس٥.

فصل :


قال القرطبيُّ : قد يحتجّ بهذه الآية في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولي الشافعي٦.
١ ينظر: الدر المصون ٦/٢٣٠٩..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٥٢٣..
٣ ينظر الكشاف ٣/٨٨، ٩٧، وشرح شواهد ص ٥٦١، والبحر المحيط ٨/٢٥٨..
٤ ينظر: الدر المصون ٦/٣١٠..
٥ الجامع لأحكام القرآن ١٨/٥٣..
٦ السابق..
قرأ زيد بن علي: «يُقَاتَلُون» - بفتح التاء - على ما لم يسم فاعله.
وقرىء: «يُقَتَّلُونَ» بالتشديد.
48
و «صفًّا» : نصب على الحال، أي: صافين أو مصفوفين.
قل القرطبي: «والمفعول مضمر، أي: يصفون أنفسهم صفًّا».
وقوله: «كأنَّهُمْ» يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل: «يقاتلون»، وأن يكون حالاً من الضَّمير في «صفًّا»، فتكون حالاً متداخلة قاله الزمخشري.
وأن يكون نعتاً ل «صفًّا»، قاله الحوفي.
وعاد الضمير على «صفًّا»، فيكون جمعاً في المعنى، كقوله: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ [الحجرات: ٩].

فصل


فإن قيل: وجه تعلق هذه الآية بما قبلها، أن قوله تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله﴾ في ذم المخالفين في القتال، وهم الذين وعدوا بالقتال ولم يقاتلوا، وهذه الآية مدح [للموافقين] في القتال. واعلم أن المحبة على وجهين.
أحدهما: الرضا عن الخلق.
وثانيهما: الثَّناء عليهم.
والمرصوص، قيل: المتلائم الأجزاء المستويها.
وقيل: المعقود بالرصاص. قاله الفراء.
وقيل: هو من التضام من تراصّ الأسنان.
وقال الراعي: [الرجز]
٤٧٦٣ - مَا لَقِيَ البِيضُ من الحُرْقًوصِ... يَفْتَحُ بَابَ المغْلَقِ المَرْصُوصِ... الحرقوص: دويبة تولع بالنساء الأبكار.
49
وقال القرطبي: والتَّراصُّ: التلاصق، ومنه قوله: وتراصوا في الصف، ومعنى الآية: إن الله - تعالى - يحب من يثبت في الجهاد، وفي سبيله، ويلزم مكانه، كثبوت البناء.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يوضع الحجر على الحجر، ثم يرص بأحجار صغار، ثم يوضع اللبن عليه، فيسمونه أهل مكة المرصوصُ.
قال ابنُ الخطيب: ويجوز أن يكون المعنى على أن يكون ثباتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة، وموالاة بعضهم بعضاً، كالبنيان [المرصوص].
وقال سعيدُ بن جبيرٍ: هذا تعليم من الله للمؤمنين، كيف يكونون عند قتال عدوهم.

فصل في أن قتال الراجل أفضل من الفارس


قال القرطبي: استدل بهذه الآية بعضهم على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس؛ لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة.
قال المهدويُّ: وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية؛ لأن معناه الثبات.

فصل في الخروج من الصف


لا يجوز الخروج من الصفِّ إلا لحاجة تعرض للإنسان، أو في رسالة يرسلها الإمام، أو منفعة تظهر في المقام ك «فرصة» تنتهز ولا خلاف فيها.
وفي الخروج عن الصف للمبارزة [خلاف].
فقيل: إنه لا بأس بذلك إرهاباً للعدو، وطلباً للشهادة، وتحريضاً على القتال.
وقيل: لا يبرز أحد طلباً لذلك؛ لأن فيه رياء وخروجاً إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدو، وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر، كما كانت في حروب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم «بدر»، وفي غزوة «خيبر»، وعليه درج السلف.
وقد تقدم الكلام في ذلك في سورة «البقرة» عند قوله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ [الآية: ١٩٥].
50
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ﴾ الآية.
لما ذكر الجهاد، بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله، وحل العقاب بمن خالفهما، أي: واذكر لقومك يا محمد هذه القصة.
قوله: ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾.
وذلك حين رموه بالأدرة، كما تقدم في سورة الأحزاب.
ومن الأذى: ما ذكر في قصة قارون أنه دس إلى امرأة تدَّعي على موسى الفجور، ومن الأذى قولهم: ﴿اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨]، وقولهم: ﴿فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: ١٢٤]، وقولهم: أنت قتلت هارون.
قوله: ﴿وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ﴾. جملة حالية.
قال ابن الخطيب: و «قَدْ» معناه: التوكيد، كأنه قال: وتعلمون علماً يقيناً، لا شبهة [لكم] فيه.
قوله: ﴿أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ﴾.
والمعنى: أنَّ لرسول الله يحترم يقيناً.
قوله: ﴿فَلَمَّا زاغوا﴾، أي: مالوا عن الحق، ﴿أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ أي: أمالهم عن الهدى.
وقيل: ﴿فَلَمَّا زاغوا﴾ عن الطاعة، ﴿أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ عن الهداية.
وقيل: ﴿فَلَمَّا زاغوا﴾ عن الإيمان، ﴿أزاغ الله قلوبهم﴾ عن الثواب.
وقيل: لمَّا تركُوا ما أمرُوا به من احترام الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وطاعة الرب، «خلق» الله في قلوبهم الضلالة عقوبة لهم على فعلهم.
51
﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾.
قال الزجاجُ: «يعني من سبق في علمه أنه فاسق».
قال ابنُ الخطيب: «وهذه الآية تدلّ على عظم إيذاء الرسول، حتى إنه يؤدّي إلى الكفر، وزيغ القلوب عن الهدى».
قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾.
أي اذكر لهم هذه القصة أيضاً، وقال: ﴿يابني إِسْرَائِيلَ﴾ ولم يقل: «يا قوم» كما قال موسى؛ لأنه لأنه لا نسب له فيهم، فيكونون قومه، وقوله: ﴿إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم﴾ أي: بالإنجيل.
قوله: «مُصدِّقاً» حال، وكذلك: «مُبَشِّراً» والعامل فيه: «رسول» ؛ لأنه بمعنى المرسل.
قال الزمخشري: فإن قلت: بم انتصب: «مصدقاً، ومبشراً» أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟ قلت: بمعنى: الإرسال؛ لأن «إليكم» صلة للرسول، فلا يجوز أن تعمل شيئاً لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها، ولكن بما فيها من معنى الفعل، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل؟ انتهى.
يعني بقوله: صلات، أنها متعلقة ب «رسول» صلة له، أي: متصل معناها به لا الصلة الصناعية.
قوله: ﴿يأتي من بعدي﴾، وقوله: «اسمه أحمد»، جملتان في موضع جر نعتاً لرسول.
أو «اسْمهُ أحمدُ» في موضع نصب على الحال من فاعل «يأتي».
أو تكون الأولى نعتاً، والثانية حالاً، وكونهما حالين ضعيف، لإتيانهما من النكرة وإن كان سيبويه يجوزه.
وقرأ
نافع
وابن
كثير
وأبو
عمرو
: «مِنْ بَعدِيَ» - بفتح الياء - وهي قراءة السلمي، وزرّ بن حبيش، وأبو بكر عن عاصم، واختاره أبو حاتم؛ لأنه اسم، مثل الكاف من «بعدك»، والتاء من «قمت».
52
والباقون: قرءوا بالإسكان.
وقرىء: ﴿من بعد اسمه أحمد﴾، فحذف الياء من اللفظ.
و «أحمدُ» اسم نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو اسم علم.
يحتمل أن يكون من صفة، وهي: «أفعل» التفضيل، وهو الظَّاهر، فمعنى «أحمد» أي: أحمدُ الحامدين لربِّه.
والأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - كلهم حمادون لله، ونبينا «أحْمَد» أكثرهم حمداً.
قال البغويُّ: والألف في «أحْمَد»، للمبالغة في الحمد، وله وجهان:
أحدهما: أنه مبالغة من الفاعل، أي: الأنبياء كلهم حمادون لله - عَزَّ وَجَلَّ -، وهو أكثر حمداً لله من غيره.
والثاني: أنه مبالغة في المفعول، أي: الأنبياء كلهم محمودون، لما فيهم من الخصال الحميدة، وهو أكثر مبالغة، وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها، انتهى.
وعلى كلا الوجهين، فمنعه من الصرف للعلمية والوزن الغالب، إلاَّ أنَّهُ على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة. وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً؛ لأنه يخلف العلمية للصفة.
وإذا أنكر بعد كونه علماً جرى فيه خلاف سيبويه والأخفش، وهي مسألة مشهورة بين النحاة.
وأنشد حسان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يمدحه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ويصرفه: [الكامل]
٤٧٦٤ - صَلَّى الإلَهُ ومَنْ يَحُفُّ بِعرْشِهِ والطَّيِّبُونَ على المُبَارَكِ أحْمَدِ
«أحمد» : بدل أو بيان «للمُبَارك».
وأما «مُحَمَّد» فمنقول من صفة أيضاً، وهو في معنى «محمود» ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، ف «محمّد» هو الذي حمد مرة بعد أخرى.
قال القرطبي: «كما أن المكرَّم من الكرم مرة بعد أخرى، وكذلك المدح ونحو ذلك، فاسم» محمد «مطابق لمعناه، فالله - سبحانه وتعالى - سماه قبل أن يسمي به نفسه،
53
فهذا علم من أعلام نبوته، إذ كان اسمه صادقاً عليه، فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه، ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد، كما يقتضي اللفظ، ثم إنه لم يكن محمداً حتى كان:» أحمد «حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم:» أحمد «على الاسم الذي هو محمد، فذكره عيسى فقال:» اسمه أحمد «، وذكره موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمَّة محمد، فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث، كان محمداً بالفعل، وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الناس لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته».
رُوِيَ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «اسْمِي في التَّوراةِ أحْيَدُ؛ لأنِّي أحِيدُ أمَّتِي عن النَّارِ، واسمي في الزَّبُورِ: المَاحِي، مَحَا اللَّهُ بي عبدةَ الأوثانِ، واسْمِي في الإنجيلِ: أحْمَدُ، وفي القُرْآنِ: مُحَمَّدٌ؛ لأنِّي محمُود فِي أهْلِ السَّماءِ والأرْضِ».
وفي الصحيح: «لِي خَمْسَةُ أسْمَاء: أنَا مُحمَّدٌ وأحمدُ، وأنا المَاحِي الذي يَمحُو اللَّهُ بِيَ الكُفر، وأنا الحَاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ على قدمِي، وأنَا العَاقِبُ» وقد تقدم.
قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات﴾.
قيل: عِيْسَى.
وقيل: مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
﴿قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.
قرأ حمزة والكسائي: «ساحر» نعتاً للرجل.
وروي أنها قراءة ابن مسعود.
والباقون: «سحر» نعتاً لما جاء به الرسول.
قال أبو حيان هنا: وقرأ الجمهور: «سحر»، وعبد الله، وطلحة والأعمش، وابن وثاب: «ساحر»، وترك ذكر الأخوين.
54
قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب﴾ أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب.
قوله: ﴿وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام﴾.
جملة حالية من فاعل: «افْتَرَى»، وهذه قراءة العامة.
وقرأ طلحة: «يدَّعي» - بفتح الياء والدال مشددة - مبنياً للفاعل.
وفيها تأويلان:
أحدهما: قاله الزمخشري، وهو أن يكون «يفتعل» بمعنى: «يفعل» نحو: «لمسه والتمسه».
والضميران، أعني: «هو»، والمستتر في: «يدعى» لله تعالى، وحينئذ تكون القراءتان بمعنى واحد، كأنه قيل: والله يدعو إلى الإسلام.
وفي القراءة الأولى يكون الضَّميران عائدين على «من».
والثاني: أنه من ادّعى كذا دعوى، ولكنه لما ضمن يدّعي معنى ينتمي وينتسب عُدِّي باللام؛ وإلا فهو متعدٍّ بنفسه.
وعلى هذا الوجه فالضميران ل «من» أيضاً، كما هما في القراءة المشهورة.
وعن طلحة: «يُدَّعى» - مشدد الدال - مبنياً للمفعول.
وخرجها الزمخشري على ما تقدم من: ادَّعاه ودعاه بمعنى: لمسه والتمسه.
والضميران عائدان على «من» عكس ما تقدم عنده في تخريج القراءة الأولى، فإن الضميران لله، كما تقدم تحريره.
وهذا تعجب ممن كفر بعيسى ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد المعجزات التي ظهرت لهما، ثم قال: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي: من كان في حكمه أن يختم له بالضلالة والغي.
قوله: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ﴾.
الإطفاءُ هو الإخماد، يستعملان في النار، وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور، ويفترق الإخماد والإطفاء من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل، فيقال: أطفأت السراج، ولا يقال: أخمدت السراج.
55
وفي هذا اللام أوجه:
أحدها: أنَّها مزيدة في مفعول الإرادة.
قال الزمخشري: أصله ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ﴾ كما في سورة التوبة [٣٢]، وكأنَّ هذه اللام، زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئت لإكرامك وفي قولك: «جئت لأكرمك»، كما زيدت اللام في: «لا أبا لك» توكيداً لمعنى الإضافة في: «لا أباك».
وقال ابن عطية: «واللام في:» ليطفئوا «لام العلة مؤكدة، ودخلت على المفعول؛ لأن التقدير:» يريدون أن يطفئوا نور الله «، وأكثر ما تلزم هذه اللام إذا تقدم المفعول، تقول: لزيد ضربت، ولرؤيتك قصدت انتهى.
وهذا ليس مذهب سيبويه، وجمهور النَّاس، ثم قول أبي محمد:»
وأكثر ما يلزم «ليس بظاهر؛ لأنه لا قول بلزومها ألبتة، بل هي جائزة للزيادة، وليس الأكثر أيضاً زيادتها جوازاً، بل الأكثر عدمها.
الثاني: أنَّها لام العلة والمفعول محذوف، أي: يريدون إبطال القرآن، أو دفع الإسلام، أو هلاك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليطفئوا.
الثالث: أنَّها بمعنى:»
أن «الناصبة، وأنها ناصبة للفعل بنفسها.
قال الفرَّاء: العرب تجعل»
لام كي «في موضع:» أن «، في» أراد وأمر «، وإليه ذهب الكسائي أيضاً.
وقد تقدم نحو من هذا في قوله: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ في سورة النساء: [الآية: ٢٦].

فصل


قال ابن عباسٍ وابن زيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المراد بنور الله - هاهنا - القرآن، يريدون إبطاله، وتكذيبه بالقول.
وقال السديُّ: الإسلام، أي: يريدون دفعه بالكلام.
وقال الضحاكُ: إنَّه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريدون إهلاكه بالأراجيف.
وقال ابنُ جريجٍ: حجج الله ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم، وقيل:
56
إنه مثل مضروب، أي: من أراد إطفاء نور الشمس بفيه، وجده مستحيلاً ممتنعاً، كذلك من أراد إبطال الحق، حكاه ابنُ عيسى.

فصل في سبب نزول هذه الآية


قال الماورديُّ: سبب نزول هذه الآية، ما حكاه عطاء عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد، فما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأنزل الله هذه الآية واتصل الوحي بعدها.
قوله: ﴿والله مُتِمُّ نُورِهِ﴾.
قرأ الأخوان وحفص وابن كثير: بإضافة:» متم «، ل:» نوره «.
والباقون: بتنوينه ونصب:»
نوره «.
فالإضافة تخفيف، والتنوين هو الأصل.
وأبو حيَّان ينازع في كونه الأصل.
وقوله:»
والله متم «، جملة حالية من فاعل:» يريدون «، أو» ليطفئوا «.
والمعنى: والله متم نوره، أي: بإظهاره في الآفاق.
فإن قيل: الإتمام لا يكون إلاَّ عند النُّقصان، فما معنى نقصان هذا النور؟.
فالجواب: إتمامه بحسب نقصان الأثر وهو الظُّهور في سائر البلاد من المشارق إلى المغارب، إذ الظهور لا يظهر إلا بالإظهار، وهو الإتمام، يؤيده قوله تعالى: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣].
وعن أبي هريرة: إن ذلك عند نزول عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قاله مجاهد.
قوله: ﴿وَلَوْ كَرِهَ﴾.
حال من هذه الحال فهما متداخلان، وجواب: «لو»
محذوف، أي: أتمه وأظهره، وكذا ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾، والمعنى: ولو كره الكافرون من سائر
57
الأصناف، فإن قيل: قال أولاً: ﴿وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾، وقال ثانياً: ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾ فما الفائدة؟.
فالجواب: إذا أنكروا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما أوحي إليه من الكتاب، وذلك من نعمة الله تعالى، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء فلهذا قال: ﴿ولو كره الكافرون﴾، ولأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك، فالمراد من الكافرين هنا: اليهود والنصارى والمشركون، فلفظ الكافر أليق به، وأما قوله: ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾، فذلك عند إنكارهم [التوحيد] وإصرارهم عليه، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعاهم في ابتداء الدعوة إلى التوحيد ب «لا إله إلا الله»، فلم يقولوا: «لا إله إلا الله»، فلهذا قال: ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾.
58
قوله :﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ أي اذكر لهم هذه القصة أيضاً، وقال :﴿ يا بني إِسْرَائِيلَ ﴾ ولم يقل :«يا قوم » كما قال موسى ؛ لأنه لأنه لا نسب له فيهم، فيكونون قومه١، وقوله :﴿ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم ﴾ أي : بالإنجيل.
قوله :«مُصدِّقاً » حال، وكذلك :«مُبَشِّراً » والعامل فيه :«رسول » ؛ لأنه بمعنى المرسل٢.
قال الزمخشري٣ : فإن قلت : بم انتصب :«مصدقاً، ومبشراً » أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم ؟ قلت : بمعنى : الإرسال ؛ لأن «إليكم » صلة للرسول، فلا يجوز أن تعمل شيئاً لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها، ولكن بما فيها من معنى الفعل، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل ؟ انتهى.
يعني بقوله : صلات، أنها متعلقة ب «رسول » صلة له، أي : متصل معناها به لا الصلة الصناعية.
قوله :﴿ يأتي من بعدي ﴾، وقوله :«اسمه أحمد »، جملتان في موضع جر نعتاً لرسول.
أو «اسْمهُ أحمدُ » في موضع نصب على الحال من فاعل «يأتي »٤.
أو تكون الأولى نعتاً، والثانية حالاً، وكونهما حالين ضعيف، لإتيانهما من النكرة وإن كان سيبويه يجوزه٥.
وقرأ نافع وابن كثير٦ وأبو عمرو :«مِنْ بَعدِيَ » - بفتح الياء - وهي قراءة السلمي، وزرّ بن حبيش، وأبو بكر عن عاصم، واختاره أبو حاتم ؛ لأنه اسم، مثل الكاف من «بعدك »، والتاء من «قمت »٧.
والباقون : قرءوا بالإسكان.
وقرئ٨ :﴿ من بعد اسمه أحمد ﴾، فحذف الياء من اللفظ.
و«أحمدُ » اسم نبينا صلى الله عليه وسلم هو اسم علم.
يحتمل أن يكون من صفة، وهي :«أفعل » التفضيل، وهو الظَّاهر، فمعنى «أحمد » أي : أحمدُ الحامدين لربِّه.
والأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - كلهم حمادون لله، ونبينا «أحْمَد » أكثرهم حمداً٩.
قال البغويُّ١٠ : والألف في «أحْمَد »، للمبالغة في الحمد، وله وجهان :
أحدهما : أنه مبالغة من الفاعل، أي : الأنبياء كلهم حمادون الله - عز وجل -، وهو أكثر حمداً لله من غيره.
والثاني : أنه مبالغة في المفعول، أي : الأنبياء كلهم محمودون، لما فيهم من الخصال الحميدة، وهو أكثر مبالغة، وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها، انتهى.
وعلى كلا الوجهين، فمنعه من الصرف للعلمية والوزن الغالب، إلاَّ أنَّهُ على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة. وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً ؛ لأنه يخلف العلمية للصفة.
وإذا أنكر بعد كونه علماً جرى فيه خلاف سيبويه١١ والأخفش، وهي مسألة مشهورة بين النحاة.
وأنشد حسان - رضي الله عنه - يمدحه - عليه الصلاة والسلام - ويصرفه :[ الكامل ]
٤٧٦٤ - صَلَّى الإلَهُ ومَنْ يَحُفُّ بِعرْشِهِ***والطَّيِّبُونَ على المُبَارَكِ أحْمَدِ١٢
«أحمد » : بدل أو بيان «للمُبَارك ».
وأما «مُحَمَّد » فمنقول من صفة أيضاً، وهو في معنى «محمود » ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، ف «محمّد » هو الذي حمد مرة بعد أخرى١٣.
قال القرطبي١٤ :«كما أن المكرَّم من الكرم مرة بعد أخرى، وكذلك المدح ونحو ذلك، فاسم " محمد " مطابق لمعناه، فالله - سبحانه وتعالى - سماه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته، إذ كان اسمه صادقاً عليه، فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه، ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد، كما يقتضي اللفظ، ثم إنه لم يكن محمداً حتى كان :" أحمد " حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم :" أحمد " على الاسم الذي هو محمد، فذكره عيسى فقال :" اسمه أحمد "، وذكره موسى - عليه الصلاة والسلام - حين قال له ربه : تلك أمة أحمد، فقال : اللهم اجعلني من أمَّة محمد، فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد ؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث، كان محمداً بالفعل، وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الناس لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته ».
رُوِيَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :«اسْمِي في التَّوراةِ أحْيَدُ ؛ لأنِّي أحِيدُ أمَّتِي عن النَّارِ، واسمي في الزَّبُورِ : المَاحِي، مَحَا اللَّهُ بي عبدةَ الأوثانِ، واسْمِي في الإنجيلِ : أحْمَدُ، وفي القُرْآنِ : مُحَمَّدٌ ؛ لأنِّي محمُود فِي أهْلِ السَّماءِ والأرْضِ »١٥.
وفي الصحيح :«لِي خَمْسَةُ أسْمَاء : أنَا مُحمَّدٌ وأحمدُ، وأنا المَاحِي الذي يَمحُو اللَّهُ بِيَ الكُفر، وأنا الحَاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ على قدمِي، وأنَا العَاقِبُ »١٦ وقد تقدم.
قوله :﴿ فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات ﴾، قيل : عِيْسَى، وقيل : مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.
﴿ قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾، قرأ حمزة١٧ والكسائي :«ساحر » نعتاً للرجل، وروي أنها قراءة ابن مسعود.
والباقون :«سحر » نعتاً لما جاء به الرسول، قال أبو حيان هنا١٨ : وقرأ الجمهور :«سحر »، وعبد الله، وطلحة والأعمش، وابن وثاب :«ساحر »، وترك ذكر الأخوين١٩.
١ ينظر: القرطبي ١٨/٥٥..
٢ ينظر: الدر المصون ٦/٣١٠..
٣ ينظر: الكشاف ٤/٥٢٥..
٤ ينظر: الدر المصون ٦/٣١٠..
٥ ينظر: الكتاب ١/١٩٩..
٦ ينظر: السبعة ٢٣٥، والحجة ٦/٢٨٨، وإعراب القراءات ٢/٣٦٣، والعنوان ١٩٠، وشرح الطيبة ٦/٥٣، وشرح شعلة ٦٠٣، وإتحاف ٢/٥٣٦..
٧ ينظر: القرطبي ١٨/٥٥..
٨ ينظر السابق..
٩ القرطبي ١٨/٥٥..
١٠ ينظر: معالم التنزيل ٤/٣٣٧..
١١ ينظر: الكتاب ٢/٥..
١٢ البيت لحسان بن ثابت ينظر ديوانه ١٥٣، والبحر ٨/٢٥٩، والدر المصون ٦/٣١٠..
١٣ ينظر: الدر المصون ٦/٣١٠..
١٤ الجامع لأحكام القرآن ١٨/٥٥..
١٥ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٥/٥٢٩) والقرطبي (١٨/٥٥)..
١٦ أخرجه البخاري ٨/٥٠٩، كتاب التفسير، باب:"يأتي من بعدي اسمه أحمد" (٤٨٩٦)، ومسلم ٤/١٨٢٨، كتاب الفضائل، باب: في أسمائه صلى الله عليه وسلم (١٢٤-٢٣٥)..
١٧ ينظر: حجة القراءات ٧٠٧، والعنوان ١٩٠، وإتحاف ٢/٥٣٦، وينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٠٣، والبحر المحيط ٨/٢٥٩، والدر المصون ٦/٣١١..
١٨ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٥٩..
١٩ الدر المصون ٦/٣١١..
قوله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب ﴾ أي : لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب.
قوله :﴿ وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام ﴾ جملة حالية من فاعل :«افْتَرَى »، وهذه قراءة العامة١.
وقرأ طلحة٢ :«يدَّعي » - بفتح الياء والدال مشددة - مبنياً للفاعل.
وفيها تأويلان٣ :
أحدهما : قاله الزمخشري، وهو أن يكون «يفتعل » بمعنى :«يفعل » نحو :«لمسه والتمسه »٤.
والضميران، أعني :«هو »، والمستتر في :«يدعى » لله تعالى، وحينئذ تكون القراءتان بمعنى واحد، كأنه قيل : والله يدعو إلى الإسلام.
وفي القراءة الأولى يكون الضَّميران عائدين على «من ».
والثاني : أنه من ادّعى كذا دعوى، ولكنه لما ضمن يدّعي معنى ينتمي وينتسب عُدِّي باللام ؛ وإلا فهو متعدٍّ بنفسه.
وعلى هذا الوجه فالضميران ل «من » أيضاً، كما هما في القراءة المشهورة.
وعن طلحة :«يُدَّعى »٥ - مشدد الدال - مبنياً للمفعول.
وخرجها الزمخشري على ما تقدم من : ادَّعاه ودعاه بمعنى : لمسه والتمسه.
والضميران عائدان على «من » عكس ما تقدم عنده في تخريج القراءة الأولى، فإن الضميران لله، كما تقدم تحريره.
وهذا تعجب ممن كفر بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم بعد المعجزات التي ظهرت لهما٦، ثم قال :﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾ أي : من كان في حكمه أن يختم له بالضلالة والغي٧.
١ ينظر السابق..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٠٣، والبحر المحيط ٨/٢٥٩، والدر المصون ٦/٣١١..
٣ الدر المصون ٦/٣١١..
٤ ينظر: الكشاف ٤/٥٢٥..
٥ ينظر: الكشاف ٤/٥٢٥، والمحرر الوجيز ٥/٣٠٣، والبحر المحيط ٨/٢٥٩، والدر المصون ٦/٣١١..
٦ ينظر: القرطبي ١٨/٥٦..
٧ السابق..
قوله :﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾.
الإطفاءُ هو الإخماد، يستعملان في النار، وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور، ويفترق الإخماد والإطفاء من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل، فيقال : أطفأت السراج، ولا يقال : أخمدت السراج١.
وفي هذا اللام أوجه٢ :
أحدها : أنَّها مزيدة في مفعول الإرادة.
قال الزمخشري٣ : أصله ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ ﴾ كما في سورة التوبة [ ٣٢ ]، وكأنَّ هذه اللام، زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئت لإكرامك وفي قولك :«جئت لأكرمك »، كما زيدت اللام في :«لا أبا لك » توكيداً لمعنى الإضافة في :«لا أباك ».
وقال ابن عطية٤ :«واللام في :» ليطفئوا «لام العلة مؤكدة، ودخلت على المفعول ؛ لأن التقدير :" يريدون أن يطفئوا نور الله "، وأكثر ما تلزم هذه اللام إذا تقدم المفعول، تقول : لزيد ضربت، ولرؤيتك قصدت انتهى.
وهذا ليس مذهب سيبويه٥، وجمهور النَّاس، ثم قول أبي محمد :" وأكثر ما يلزم " ليس بظاهر ؛ لأنه لا قول بلزومها ألبتة، بل هي جائزة للزيادة، وليس الأكثر أيضاً زيادتها جوازاً، بل الأكثر عدمها.
الثاني : أنَّها لام العلة والمفعول محذوف، أي : يريدون إبطال القرآن، أو دفع الإسلام، أو هلاك الرسول صلى الله عليه وسلم ليطفئوا.
الثالث : أنَّها بمعنى :" أن " الناصبة، وأنها ناصبة للفعل بنفسها.
قال الفرَّاء : العرب تجعل " لام كي " في موضع :" أن "، في " أراد وأمر "، وإليه ذهب الكسائي أيضاً.
وقد تقدم نحو من هذا في قوله :﴿ يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ في سورة النساء :[ الآية : ٢٦ ].

فصل :


قال ابن عباسٍ وابن زيدٍ رضي الله عنهما : المراد بنور الله - هاهنا - القرآن، يريدون إبطاله، وتكذيبه بالقول٦. وقال السديُّ : الإسلام، أي : يريدون٧ دفعه بالكلام٨. وقال الضحاكُ : إنَّه محمد صلى الله عليه وسلم يريدون إهلاكه بالأراجيف٩. وقال ابنُ جريجٍ : حجج الله ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم، وقيل : إنه مثل مضروب، أي : من أراد إطفاء نور الشمس بفيه، وجده مستحيلاً ممتنعاً، كذلك من أراد إبطال الحق، حكاه ابنُ عيسى.

فصل في سبب نزول هذه الآية :


قال الماورديُّ١٠ : سبب نزول هذه الآية، ما حكاه عطاء عن ابن عبَّاس- رضي الله عنهما - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر اليهود، أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد، فما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية واتصل الوحي بعدها١١.
قوله :﴿ والله مُتِمُّ نُورِهِ ﴾قرأ الأخوان١٢ وحفص وابن كثير : بإضافة :" متم "، ل :" نوره " ، والباقون : بتنوينه ونصب :" نوره " ، فالإضافة تخفيف، والتنوين هو الأصل.
وأبو حيَّان ينازع في كونه الأصل١٣.
وقوله :﴿ والله متم ﴾، جملة حالية من فاعل :" يريدون "، أو " ليطفئوا " والمعنى : والله متم نوره، أي : بإظهاره في الآفاق١٤.
فإن قيل : الإتمام لا يكون إلاَّ عند النُّقصان، فما معنى نقصان هذا النور ؟.
فالجواب١٥ : إتمامه بحسب نقصان الأثر وهو الظُّهور في سائر البلاد من المشارق إلى المغارب، إذ الظهور لا يظهر إلا بالإظهار، وهو الإتمام، يؤيده قوله تعالى :﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾[ المائدة : ٣ ]. وعن أبي هريرة : إن ذلك عند نزول عيسى - عليه الصلاة والسلام - قاله مجاهد.
قوله :﴿ وَلَوْ كَرِهَ ﴾حال من هذه الحال فهما متداخلان، وجواب :«لو » محذوف، أي : أتمه وأظهره١٦، وكذا ﴿ وَلَوْ كَرِهَ المشركون ﴾، والمعنى : ولو كره الكافرون من سائر الأصناف١٧، فإن قيل : قال أولاً :﴿ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون ﴾، وقال ثانياً :﴿ وَلَوْ كَرِهَ المشركون ﴾ فما الفائدة ؟.
فالجواب١٨ : إذا أنكروا الرسول صلى الله عليه وسلم وما أوحي إليه من الكتاب، وذلك من نعمة الله تعالى، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء فلهذا قال :﴿ ولو كره الكافرون ﴾، ولأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك، فالمراد من الكافرين هنا : اليهود والنصارى والمشركون، فلفظ الكافر أليق به، وأما قوله :﴿ وَلَوْ كَرِهَ المشركون ﴾، فذلك عند إنكارهم [ التوحيد ]١٩ وإصرارهم عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعاهم في ابتداء الدعوة إلى التوحيد ب «لا إله إلا الله »، فلم يقولوا :«لا إله إلا الله »، فلهذا قال :﴿ وَلَوْ كَرِهَ المشركون ﴾.
١ السابق نفسه..
٢ ينظر: الدر المصون ٦/٣١١..
٣ ينظر: الكشاف ٤/٥٢٥..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٠٣..
٥ ينظر: الكتاب ١/٤١..
٦ أخرجه الطبري في تفسيره (١٢/٨٣) عن ابن زيد..
٧ في أ: يريدون إهلاكه..
٨ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٥٦)..
٩ ذكره الماوردي (٥/٥٣٠) والقرطبي (١٨/٥٦) عن الضحاك..
١٠ ينظر: النكت والعيون ٥/٥٣٠ والقرطبي (١٨/٥٦)..
١١ ذكره الماوردي (٥/٥٣٠) والقرطبي (١٨/٥٦) عن الضحاك..
١٢ ينظر: السبعة ٦٣٥، والحجة ٦/٢٨٩، وإعراب القراءات ٢/٣٦٤، وحجة القراءات ٧٠٧، ٧٠٨، والعنوان ١٩٠، وشرح الطيبة ٦/٥٢، وإتحاف ٢/٥٣٧..
١٣ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٦٠..
١٤ ينظر: القرطبي ١٨/٥٦..
١٥ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٧٣..
١٦ ينظر: الدر المصون ٦/٣١٢..
١٧ ينظر: القرطبي ١٨/٥٦..
١٨ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٧٤..
١٩ في أ: النور..
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ يعني: محمداً «بالهُدَى» أي: بالحقِّ والرشاد، ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ بالحُجَج، ومن الظهور الغلبة باليد في القتال، وليس المراد بالظهور: أن لا يبقى دين [آخر] من الأديان، بل المراد: أن يكون أهل الإسلام عالين غالبين، ومن الإظهار ألا يبقى دين آخر سوى الإسلام في آخر الزمان.
قال مجاهدٌ: ذلك إذا أنزل الله عيسى، لم يكن في الأرض دين إلاَّ دين الإسلام.
قال أبو هريرة: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ بخروج عيسى، وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» لَيَنْزلنَّ ابنُ مريمَ حكماً عادلاً، فليَكسرنَّ الصَّليبَ وليقتلنَّ الخِنْزيرَ، وليضَعَنَّ الجِزيَةَ، ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها، ولتذهبنَّ الشَّحْناءُ والتَّباغُضُ والتَّحاسُد، وليَدعُونَّ إلى المالِ فلا يقبلهُ أحدٌ «.
وقيل: ليُظْهرهُ، أي: ليطلع محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سائر الأديان حتى يكون عالماً بها عارفاً بوجوه بطلانها، وبما حرفوا وغيَّروا منها»
على الدِّينِ «أي: على الأديان؛ لأن الدين مصدر يعبر به عن الجميع.
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الآية.
قال مقاتلٌ: «نزلت في عثمان بن مظعون، قال: يا رسول الله، لو أذنت لي فطلقت خولة، وترهبت واختصيت، وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبداً، ولا أفطر بنهار أبداً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ من سُنَّتِي النَّكاحَ فلا رهْبانِيَةَ في الإسْلامِ وإنَّما رَهْبانِيةُ أمَّتِي الجهادُ في سبيلِ اللَّهِ، وخصاء أمَّتِي الصَّومُ، فلا تُحرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لكُم، ومِنْ سُنَّتِي أنَامُ وأقُومُ وأفْطِرُ وأصُومُ، فمنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فليْسَ منِّي «، فقال عثمان: لوددت يا نبي الله، أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها»، فنزلت.
وقيل: «أدُلُّكُمْ» أي: سأدلكم، والتجارة: الجهاد، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ [التوبة: ١١١] : الآية، وهذا خطاب لجميع المؤمنين.
وقيل: لأهل الكتاب.
وقيل: نزل هذا حين قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا.
قال البغويُّ: وجعل ذلك بمنزلة التجارة؛ لأنهم يرجون بها رضا الله عَزَّ وَجَلَّ، ونيل جنته والنجاة من النار.
والتجارة عبارة عن معاوضة الشيء بالشيء، كما أن التجارة تنجي التاجر من الفقر فكذا هذه التجارة، وكما أن في التجارة الربح والخسران، فكذلك هذه التجارة، فمن آمن وعمل صالحاً، فله الأجر الوافر، ومن أعرض عن الإيمان والعمل الصالح، فله الخسران المبين.
قوله: ﴿تُنجِيكُم﴾. هذه الجملة صفة ل «تجارة».
وقرأ ابن عامر: ﴿تُنجّيكُم مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ بالتشديد.
والباقون: بالتخفيف، من «أنْجَى»، وهما بمعنى واحد؛ لأن التضعيف والهمزة متعديان.
59
والمعنى: يخلصكم من عذاب أليم، أي مؤلم.
قوله: ﴿تُؤْمِنُونَ﴾.
لا محلّ له لأنه تفسير ل «تجارة».
ويجوز أن يكون محلها الرفع خبراً لمبتدأ مضمر، أي تلك التجارة تؤمنون، والخبر نفس المبتدأ، فلا حاجة إلى رابط.
وأن تكون منصوبة المحل بإضمار فعل، أي «أعني تؤمنون»، وجاز ذلك على تقدير «أن» وفيه تعسف.
والعامة على: «تؤمنون» خبراً لفظياً ثابت النون.
وعبد الله: «آمنُوا، وجاهدُوا» أمرين.
وزيد بن علي: «تؤمنوا، وتجاهدوا» بحذف نون الرفع.
فأما قراءة العامة، فالخبر بمعنى الأمر، يدل عليه القراءتان الشاذتان فإن قراءة زيد: على حذف لام الأمر، أي: «لتؤمنوا، ولتجاهدوا».
كقوله: [الوافر]
٤٧٦٥ - مُحَمَّدُ تَفْدِ نفسكَ كُلُّ نَفْسٍ.....................................
وقوله تعالى: ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة﴾ [إبراهيم: ٣١] في وجه، أي: لتَفْدِ ولتقيموا، ولذلك جزم الفعل في محل جوابه في قوله: «يتقي».
وكذلك قولهم: «اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه»، تقديره: ليتق الله.
وقال الأخفش: أن «تؤمنون» : عطف بيان ل «تجارة».
وهذا لا يتخيل إلا بتأويل أن يكون الأصل: أن تؤمنوا، فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله: [الطويل]
٤٧٦٦ - ألاَ أيُّهَذا الزَّاجِرِي أحْضُرَ الوَغَى... الأصل: أن أحضر الوغى.
وكأنه قيل: هل أدلّكم على تجارة منجية: إيمان وجهاد، وهو معنى حسن، لولا ما فيه من التأويل، وعلى هذا يجوز أن يكون بدلاً من «تِجارةٍ».
60
وقال الفراء: هو مجزوم على جواب الاستفهام، وهو قوله: «هل أدلكم».
واختلف الناس في تصحيح هذا القول.
فبعضهم غلطه. قال الزجاج: ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا.
يعني: أنه ليس مرتباً على مجرد الاستفهام ولا على مجرد الدلالة.
قال القرطبي: و «تُؤمِنُونَ» عند المبرد والزجاج في معنى «آمِنُوا» ولذلك جاء «يَغْفِر لَكُمْ» مجزوماً على أنه جواب الأمر.
قال ابن الخطيب: «هَلْ أدلكُمْ» في معنى الأمر عند الفرَّاء، يقال: هل أنت ساكت أي: اسكت، وبيانه أن «هَلْ» بمعنى الاستفهام ثم يندرج إلى أن يصير عرضاً وحثًّا، والحث كالإغراء، والإغراء أمر.
وقال المهدوي: إنما يصح حمله على المعنى، وهو أن يكون «تُؤمِنُونَ، وتجاهدون» : عطف بيان على قوله: «هل أدلكم».
كأن التجارة لم يدر ما هي فبينت بالإيمان والجهاد، فهي هما في المعنى، فكأنه قيل: هل تؤمنون وتجاهدون؟.
قال: فإن لم يقدر هذا التقدير لم يصح، لأنه يصير إن دُللتم يغفر لكم والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة.
وقال الزمشخري قريباً منه أيضاً.
وقال أيضاً: إن «تؤمنون» استئناف كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال: تؤمنون.
وقال ابن عطيَّة: «تُؤمِنُونَ» : فعل مرفوع، تقديره: ذلك أنه تؤمنون.
فجعله خبراً، وهي وما في حيّزها خبر لمبتدأ محذوف، وهذا محمول على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب فإنه لا حاجة إليه.

فصل


قال ابن الخطيب: فإن قيل: كيف أمرهم بالإيمان بعد قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ﴾ ؟.
61
فالجواب: يمكن أن يكون المراد من هذه الآية المنافقين وهم الذين آمنوا في الظاهر، ويمكن أن يكون أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة.
فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة آمنوا بالله وبمحمد، ويمكن أن يكون أهل الإيمان كقوله تعالى: ﴿فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ [التوبة: ١٢٤]، أو يكون المراد الأمر بالثبات على الإيمان، كقوله: ﴿يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت﴾ [إبراهيم: ٢٧]. فإن قيل: كيف ترجى النجاة إذا آمن بالله ورسوله ولم يجاهد في سبيل الله وقد علق بالمجموع؟.
فالجواب: أن هذا المجموع هو الإيمان بالله ورسوله والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله خير في نفس الأمر.
قوله: ﴿بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾.
قال القرطبي: ذكر الأموال أولاً، لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق، «ذَلِكُمْ» أي: هذا الفعل ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ من أموالكم وأنفسكم، ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه خير لكم.
قوله: ﴿يَغْفِرُ لَكُمْ﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه مجزوم على جواب الخبر بمعنى الأمر، كما تقدم.
والثاني: أنه مجزوم على جواب الاستفهام، كما قاله الفراء.
الثالث: أنه مجزوم بشرط مقدر، أي: إن تؤمنوا يغفر لكم.
قال القرطبي: «وأدغم بعضهم، فقرأ:» يَغْفر لَكُمْ «، والأحسن ترك الإدغام لأن الراء حرف متكرر قويّ فلا يحسن الإدغام في اللام؛ لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف».
قوله: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾.
روى الحسنُ قال: «سألت عمران بن حصينٍ وأبا هريرة عن قوله تعالى: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾، فقالا: على الخبير [سقطت]، سألنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنها فقال:» قَصْرٌ مِن لُؤلُؤة في الجنَّةِ، في ذلِكَ القصْرِ سَبْعُونَ داراً من ياقُوتةٍ حَمْراءَ، فِي كُل دَار سَبْعُونَ بَيْتاً
62
من زَبرْجدة خَضْراءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيراً، عَلَى كُلِّ سَريرٍ سَبْعُونَ فِرَاشاً من كُلِّ لَوْنٍ على كُلِّ فِراشٍ سَبعُونَ امْرَأةً، من الحُورِ العِينِ، فِي كُلِّ بيتٍ سَبْعُونَ مَائدةً، عَلى كُلِّ مائدةٍ سَبْعُون لوْناً من الطَّعام، فِي كُلِّ بَيْتٍ سبعُون وصيفاً ووصيفَةً، فيُعْطِي اللَّهُ تعالى المُؤمِنَ القُوَّة في غَدَاةٍ واحدةٍ مَا يَأتِي ذَلِكَ كُلِّهِ «.
قوله: ﴿فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾.
أي دار إقامة. ﴿ذلك الفوزُ العظيمُ﴾ أي: السعادة الدائمة الكبيرة، وأصل الفوز الظفر بالمطلوب.
قوله: ﴿وأخرى تُحِبُّونَهَا﴾. فيها أوجه:
أحدها: أنها في موضع رفع على الابتداء وخبرها مقدر، أي: ولكم أو وثمَّ أو عنده خصلة أخرى أو مثوبة أخرى، و»
تُحِبُّونهَا «: نعت له.
الثاني: أن الخبر جملة حذف مبتدؤها، تقديره: هي نصر، والجملة خبر»
أخرى «. قاله أبو البقاء.
الثالث: أنها منصوبة بفعل محذوف للدلالة عليه بالسِّياق، أي: ويعطكم، أو يمنحكم مثوبة أخرى، و»
تُحِبُّونهَا «نعت لها أيضاً.
الرابع: أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره»
تُحِبُّونهَا «فيكون من الاشتغال، وحينئذ لا يكون» تحبونها «نعتاً لأنه مفسر للعامل فيه.
الخامس: أنها مجرورة عطفاً على»
تجارة «.
وضعف هذا بأنها ليست مما دلَّ عليه إنما هي ثواب من عند الله.
قال القرطبي:»
هذا الوجه منقول عن الأخفش والفراء «.
قوله: ﴿نَصْرٌ مِّنَ الله﴾.
خبر مبتدأ مضمر، أي: تلك النعمة، أو الخلة الأخرى نصر،»
من الله «نعت له أو متعلق به، أي: ابتداؤه منه.
ورفع»
نَصْرٌ، وفَتْحٌ «قراءة العامة.
ونصب ابن أبي عبلة الثلاثة. وفيه أوجه ذكرها الزمخشري.
63
أحدها: أنها منصوبة على الاختصاص.
الثاني: أن ينتصبن على المصدرية، أي: ينصرون نصراً، ويفتح لهم فتحاً قريباً.
الثالث: أن ينتصبن على البدل من «أخْرَى»، و «أخرى» منصوبة بمقدر كما تقدم، أي يغفر لكم ويدخلكم جنات ويؤتكم أخرى، ثم أبدل منها نصراً وفتحاً قريباً.

فصل في معنى الآية


ومعنى الآية أي: ولكم نصر من الله ﴿وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾، أي: غنيمة في عاجل الدنيا قبل فتح مكة. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يريد فتح فارس والروم ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ برضا الله عنهم.
وقال البغوي: «وبشر المؤمنين» يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
ثم حضهم على نصر المؤمنين وجهاد المخالفين، فقال: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين﴾ }
64
قوله :﴿ تُؤْمِنُونَ ﴾لا محلّ له لأنه تفسير ل «تجارة »، ويجوز أن يكون محلها الرفع خبراً لمبتدأ مضمر، أي تلك التجارة تؤمنون، والخبر نفس المبتدأ، فلا حاجة إلى رابط، وأن تكون منصوبة المحل بإضمار فعل، أي «أعني تؤمنون »، وجاز ذلك على تقدير «أن » وفيه تعسف١، والعامة على :«تؤمنون » خبراً لفظياً ثابت النون، وعبد الله٢ :«آمنُوا، وجاهدُوا » أمرين.
وزيد بن علي٣ :«تؤمنوا، وتجاهدوا » بحذف نون الرفع.
فأما قراءة العامة، فالخبر بمعنى الأمر، يدل عليه القراءتان الشاذتان فإن قراءة زيد : على حذف لام الأمر، أي :«لتؤمنوا، ولتجاهدوا ».
كقوله :[ الوافر ]
٤٧٦٥ - مُحَمَّدُ تَفْدِ نفسكَ كُلُّ نَفْسٍ ***. . . ٤
وقوله تعالى :﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة ﴾[ إبراهيم : ٣١ ] في وجه، أي : لتَفْدِ ولتقيموا، ولذلك جزم الفعل في محل جوابه في قوله :«يتقي ».
وكذلك قولهم :«اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه »، تقديره : ليتق الله.
وقال الأخفش : أن «تؤمنون » : عطف بيان ل «تجارة »، وهذا لا يتخيل إلا بتأويل أن يكون الأصل : أن تؤمنوا، فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله :[ الطويل ]
٤٧٦٦ - ألاَ أيُّهَذا الزَّاجِرِي أحْضُرَ الوَغَى ***. . . ٥
الأصل : أن أحضر الوغى، وكأنه قيل : هل أدلّكم على تجارة منجية : إيمان وجهاد، وهو معنى حسن، لولا ما فيه من التأويل، وعلى هذا يجوز أن يكون بدلاً من «تِجارةٍ ».
وقال الفراء٦ : هو مجزوم على جواب الاستفهام، وهو قوله :«هل أدلكم ».
واختلف الناس في تصحيح هذا القول٧.
فبعضهم غلطه. قال الزجاج٨ : ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا.
يعني : أنه ليس مرتباً على مجرد الاستفهام ولا على مجرد الدلالة.
قال القرطبي٩ : و«تُؤمِنُونَ » عند المبرد والزجاج في معنى «آمِنُوا » ولذلك جاء «يَغْفِر لَكُمْ » مجزوماً على أنه جواب الأمر.
قال ابن الخطيب١٠ :«هَلْ أدلكُمْ » في معنى الأمر عند الفرَّاء، يقال : هل أنت ساكت أي : اسكت، وبيانه أن «هَلْ » بمعنى الاستفهام ثم يندرج إلى أن يصير عرضاً وحثًّا، والحث كالإغراء، والإغراء أمر.
وقال المهدوي : إنما يصح حمله على المعنى، وهو أن يكون «تُؤمِنُونَ، وتجاهدون » : عطف بيان على قوله :«هل أدلكم ».
كأن التجارة لم يدر ما هي فبينت بالإيمان والجهاد، فهي هما في المعنى، فكأنه قيل : هل تؤمنون وتجاهدون ؟.
قال١١ : فإن لم يقدر هذا التقدير لم يصح، لأنه يصير إن دُللتم يغفر لكم والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة.
وقال الزمشخري قريباً منه أيضاً، وقال أيضاً١٢ : إن «تؤمنون » استئناف كأنهم قالوا : كيف نعمل ؟ فقال : تؤمنون، وقال ابن عطيَّة١٣ :«تُؤمِنُونَ » : فعل مرفوع، تقديره : ذلك أنه تؤمنون، فجعله خبراً، وهي وما في حيّزها خبر لمبتدأ محذوف، وهذا محمول على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب فإنه لا حاجة إليه١٤.

فصل :


قال ابن الخطيب١٥ : فإن قيل : كيف أمرهم بالإيمان بعد قوله :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ ﴾ ؟.
فالجواب : يمكن أن يكون المراد من هذه الآية المنافقين وهم الذين آمنوا في الظاهر، ويمكن أن يكون أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة.
فكأنه قال : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة آمنوا بالله وبمحمد، ويمكن أن يكون أهل الإيمان كقوله تعالى :﴿ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾[ التوبة : ١٢٤ ]، أو يكون المراد الأمر بالثبات على الإيمان، كقوله :﴿ يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت ﴾[ إبراهيم : ٢٧ ].
فإن قيل : كيف ترجى النجاة إذا آمن بالله ورسوله ولم يجاهد في سبيل الله وقد علق بالمجموع ؟.
فالجواب : أن هذا المجموع هو الإيمان بالله ورسوله والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله خير في نفس الأمر.
قوله :﴿ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ﴾ قال القرطبي١٦ : ذكر الأموال أولاً، لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق، «ذَلِكُمْ » أي : هذا الفعل ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ من أموالكم وأنفسكم، ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أنه خير لكم.
١ ينظر: الدر المصون ٦/٣١٢..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٥٢٦، والمحرر الوجيز ٥/٣٠٤، والدر المصون ٦/٣١٢، والبحر المحيط ٨/٢٦٠..
٣ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٦٠، والدر المصون ٦/٣١٢..
٤ تقدم..
٥ تقدم..
٦ ينظر: معاني القرآن له ٣/١٥٤..
٧ ينظر: الدر المصون ٦/٣١٢..
٨ ينظر: معاني القرآن ٥/١٦٦..
٩ الجامع لأحكام القرآن ١٨/٥٧..
١٠ التفسير الكبير ٢٩/٢٧٤..
١١ ينظر: القرطبي ١٨/٥٧..
١٢ ينظر: الكشاف ٤/٥٢٦..
١٣ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٠٤..
١٤ ينظر: الدر المصون ٦/٣١٣..
١٥ التفسير الكبير ٢٩/٢٧٥..
١٦ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/٥٧..
قوله :﴿ يَغْفِرُ لَكُمْ ﴾ فيه أوجه١ :
أحدها : أنه مجزوم على جواب الخبر بمعنى الأمر، كما تقدم.
والثاني : أنه مجزوم على جواب الاستفهام، كما قاله الفراء٢.
الثالث : أنه مجزوم بشرط مقدر، أي : إن تؤمنوا يغفر لكم.
قال القرطبي٣ :«وأدغم بعضهم، فقرأ٤ :" يَغْفر لَكُمْ "، والأحسن ترك الإدغام لأن الراء حرف متكرر قويّ فلا يحسن الإدغام في اللام ؛ لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف ».
قوله :﴿ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ﴾، روى الحسنُ قال : سألت عمران بن حصينٍ وأبا هريرة عن قوله تعالى :﴿ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ﴾، فقالا : على الخبير [ سقطت ]٥، سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال :" قَصْرٌ مِن لُؤلُؤة في الجنَّةِ، في ذلِكَ القصْرِ سَبْعُونَ داراً من ياقُوتةٍ حَمْراءَ، فِي كُل دَار سَبْعُونَ بَيْتاً من زَبرْجدة خَضْراءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيراً، عَلَى كُلِّ سَريرٍ سَبْعُونَ فِرَاشاً من كُلِّ لَوْنٍ على كُلِّ فِراشٍ سَبعُونَ امْرَأةً، من الحُورِ العِينِ، فِي كُلِّ بيتٍ سَبْعُونَ مَائدةً، عَلى كُلِّ مائدةٍ سَبْعُون لوْناً من الطَّعام، فِي كُلِّ بَيْتٍ سبعُون وصيفاً ووصيفَةً، فيُعْطِي اللَّهُ تعالى المُؤمِنَ القُوَّة في غَدَاةٍ واحدةٍ مَا يَأتِي ذَلِكَ كُلِّهِ " ٦.
قوله :﴿ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾أي دار إقامة. ﴿ ذلك الفوزُ العظيمُ ﴾ أي : السعادة الدائمة الكبيرة، وأصل الفوز الظفر بالمطلوب٧.
١ ينظر: الدر المصون ٦/٣١٣..
٢ ينظر: معاني القرآن ٣/١٥٤..
٣ الجامع لأحكام القرآن ١٨/٥٨..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٠٤، قال ابن عطية:"وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ: "يغفلكم" بإدغام الراء في اللام، ولا يجيز ذلك سيبويه"..
٥ سقط من أ..
٦ أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (٣/٢٥٢)..
٧ ينظر القرطبي ١٨/٥٨..
قوله :﴿ وأخرى تُحِبُّونَهَا ﴾. فيها أوجه١ :
أحدها : أنها في موضع رفع على الابتداء وخبرها مقدر، أي : ولكم أو وثمَّ أو عنده خصلة أخرى أو مثوبة أخرى، و " تُحِبُّونهَا " : نعت له.
الثاني : أن الخبر جملة حذف مبتدؤها، تقديره : هي نصر، والجملة خبر " أخرى ". قاله أبو البقاء٢.
الثالث : أنها منصوبة بفعل محذوف للدلالة عليه بالسِّياق، أي : ويعطكم، أو يمنحكم مثوبة أخرى، و " تُحِبُّونهَا " نعت لها أيضاً.
الرابع : أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره " تُحِبُّونهَا " فيكون من الاشتغال، وحينئذ لا يكون " تحبونها " نعتاً لأنه مفسر للعامل فيه.
الخامس : أنها مجرورة عطفاً على " تجارة ".
وضعف هذا بأنها ليست مما دلَّ عليه إنما هي ثواب من عند الله.
قال القرطبي٣ :" هذا الوجه منقول عن الأخفش والفراء ".
قوله :﴿ نَصْرٌ مِّنَ الله ﴾.
خبر مبتدأ مضمر، أي : تلك النعمة، أو الخلة الأخرى نصر، " من الله " نعت له أو متعلق به، أي : ابتداؤه منه.
ورفع " نَصْرٌ، وفَتْحٌ " قراءة العامة.
ونصب ابن أبي عبلة الثلاثة. وفيه أوجه ذكرها الزمخشري٤.
أحدها : أنها منصوبة على الاختصاص.
الثاني : أن ينتصبن على المصدرية، أي : ينصرون نصراً، ويفتح لهم فتحاً قريباً.
الثالث : أن ينتصبن على البدل من «أخْرَى »، و«أخرى » منصوبة بمقدر كما تقدم، أي يغفر لكم ويدخلكم جنات ويؤتكم أخرى، ثم أبدل منها نصراً وفتحاً قريباً.

فصل في معنى الآية٥


ومعنى الآية أي : ولكم نصر من الله ﴿ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ﴾، أي : غنيمة في عاجل الدنيا قبل فتح مكة. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - يريد فتح فارس والروم ﴿ وَبَشِّرِ المؤمنين ﴾ برضا الله عنهم٦.
وقال البغوي :«وبشر المؤمنين » يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
١ ينظر الدر المصون ٦/٣١٣..
٢ ينظر: الإملاء ٢/١٢٢١..
٣ الجامع لأحكام القرآن ١٨/٥٨..
٤ ينظر: الدر المصون ٦/٣١٣، والكشاف ٤/٥٢٨، والمحرر الوجيز ٥/٣٠٤، والبحر المحيط ٨/٣٦١..
٥ ينظر: القرطبي ١٨/٥٨..
٦ ينظر: تفسير القرطبي (١٨/٥٨)..
أي: كونوا حواريِّي نبيكم ليظهركم الله على من خالفكم كما أظهر حواريِّي عيسى على من خالفهم.
قوله: ﴿أَنصَارَ الله﴾.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: «أنصاراً»، منوناً «لله» جاراً ومجروراً.
والباقون: «أنصار» غير مُنوَّنٍ، بل مضافاً للجلالة الكريمة.
والرسم يحتمل القراءتين معاً، واللام يحتمل أن تكون مزيدة في المفعول للتقوية لكون العامل فرعاً، إذ الأصل «أنصار اللَّهِ» وأن تكون غير مزيدة، ويكون الجار والمجرور نعتاً ل «أنصار». والأول أظهر.
وأما القراءة على الإضافة ففرع الأصل المذكور، ويؤيد قراءة الإضافة الإجماع عليها في قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَنصَارُ الله﴾ ولم يتصور جريان الخلاف هنا، لأنه مرسوم بالألف.
64
قال القرطبي: قيل: في الكلام إضمار، أي: قل لهم يا محمد: كونوا أنصار الله.
وقيل: هو ابتداء خطاب من الله، أي: كونوا أنصار الله كما فعل أنصار عيسى، فكانوا بحمد الله أنصاراً وكانوا حواريين.

فصل في الحواريين


قال القرطبيُّ: «الحواريون: خواص الرسل.
قال معمر: كان ذلك بحمد الله تعالى، أي نصروه سبعون رجلاً، وهم الذين بايعوه ليلة العقبة، وقيل هم من قريش، وسماهم قتادة: أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة واسمه عامر، وعثمان بن مظعون، وحمزة بن عبد المطلب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، ولم يذكر سعيداً فيهم، وذكر جعفر بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أجمعين»
.
قوله: ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ﴾.
وهم أصفياؤه اثنا عشر رجلاً، وقد مضت أسماؤهم في «آل عمران».
وهم أول من آمن به من بني إٍسرائيل. قاله ابن عباس.
وقال مقاتل: قال الله لعيسى: إذا دخلت القرية فأتِ النهر الذي عليه القصارون فاسألهم النصرة؛ فأتاهم عيسى وقال لهم: من أنصاري إلى الله؟ فقالوا: نحن ننصرك، فصدقوه ونصروه.
قوله: «كَمَا». فيه أوجه:
أحدها: أن الكاف في موضع نصب على إضمار القول، أي: قلنا لهم ذلك كما قال عيسى.
الثاني: أنه نعت لمصدر محذوف تقدير: كونوا كوناً. قاله مكي. وفيه نظرٌ؛ إذ لا يؤمروا بأن يكونوا كوناً.
الثالث: أنه كلام محمول على معناه دون لفظه.
وإليه نحا الزمخشري، قال: «فإن قلت: ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أنصاري؟
65
قلت: التشبيه محمُول على المعنى، وعليه يصح، والمراد: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: مَنْ أنصَاري إلى اللَّهِ» ؟.
وتقدم في «آل عمران» تعدي أنصار ب «إلى» واختلاف الناس في ذلك.
وقال الزمخشري هنا: «فإن قيل: ما معنى قوله: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ ؟ فالجواب: يجب أن يكون معناه مطابقاً لجواب الحواريين ﴿نَحْنُ أَنصَارُ الله﴾ والذي يطابقه أن يكون المعنى من جندي متوجهاً إلى نصرة الله، وإضافة أنصاري خلاف إضافة» أنصَار اللَّهِ «فإن معنى ﴿نَحْنُ أَنصَارُ الله﴾ نحن الذين ينصرون الله، ومعنى» مَنْ أنصَارِي «من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله، ولا يصح أن يكون معناه: من ينصرني مع الله لأنه لا يطابق الجواب، والدليل عليه قراءة من قرأ: مَنْ أنَصارُ اللَّهِ». انتهى.
يعني: أن بعضهم يدعى أن «إلى» بمعنى «مع» أي من أنصاري مع الله؟!.
وقوله: قراءة من قرأ «أنصَار اللَّهِ»، أي: لو كانت بمعنى «مع» لما صح سقوطها في هذه القراءة.
قال شهاب الدين: «وهذا غير لازم، لأن كل قراءة لها معنى يخصها إلا أن الأولى توافق القراءتين».
قوله: ﴿فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ﴾.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يعني في زمن عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق: فرقة قالوا كان الله فارتفع، وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه الله إليه، وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المؤمنون، واتبع كل فرقة طائفة من الناس فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فظهرت فرقة المؤمنين على الكافرين، فذلك قوله تعالى: ﴿فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ﴾، غالبين.
وقال مجاهد: أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى؛ والأول أظهر؛ لأن عيسى لم يقاتل أحداً، ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال.
وقال زيد بن علي، وقتادة: «فأصْبَحُوا ظاهِرينَ» غالبين بالحُجَّة، والبرهان، لأنهم قالوا فيما روي: ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام، والله لا ينام، وأن عيسى كان يأكل، والله تعالى لا يأكل.
66
وقيل: نزلت هذه الآية، في رسل عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال ابن إسحاق: وكان الذي بعثهم عيسى من الحواريين والأتباع بطريس وبولس إلى «رومية»، واندراييس ومتى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس، وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق، وفيلبس إلى «قرطاجنة»، وهي «إفريقية»، ويحنّس إلى دقسوس قرية أهل «الكهف»، ويعقوبس إلى أورشليم، وهي «بيت المقدس»، وابن تلما إلى العرابية، وهي أرض الحجاز، وسيمن إلى أرض البربر، ويهودا وبروس إلى «الإسكندرية» وما حولها فأيَّدهم الله تعالى بالحجة فأصبحوا «ظاهرين» أي: عالين، من قولك: ظهرت على الحائط أي علوت عليه.
قوله: ﴿فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ﴾.
من إيقاع الظاهر موقع المضمر مبهماً تنبيهاً على عداوة الكافر للمؤمن، إذ الأصل فأيدناهم عليهم، أي: أيدنا المؤمنين على الكافرين من الطائفتين المذكورتين.
روى الثعلبي في تفسيره عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ الصَّف كَان عيسَى مُسْتغفِراً لَهُ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا، ويَوْمَ القِيَامَةِ هُوَ رَفِيقه».
67
سورة الجمعة
[مدنية] وهي إحدى عشرة آية، ومائة وثمانون كلمة، وسبعمائة وعشرون حرفا.
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ".
68
Icon