تفسير سورة الجمعة

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

خصائص النبي ﷺ بالنسبة للعرب والناس كافة
[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)
الإعراب:
رَسُولًا مِنْهُمْ مِنْهُمْ: في موضع نصب لأنه صفة ل «رسول» وكذلك قوله تعالى:
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وكذلك ما بعده من المعطوف عليه. وَإِنْ كانُوا إِنْ مخففة من الثقيلة، واللام تدل عليها، واسمها محذوف، أي وإنهم.
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ وَآخَرِينَ يجوز فيه النصب والجر، أما النصب فهو إما بالعطف على الهاء والميم في يُعَلِّمُهُمُ أو بحمل معنى يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ على معنى «يعرفهم آياته».
وأما الجر: فهو بالعطف على قوله تعالى: فِي الْأُمِّيِّينَ وتقديره: بعث في الأميين رسولا منهم وفي آخرين. و (من) في مِنْهُمْ للتبيين.
المفردات اللغوية:
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ينزهه ويمجده، واللام زائدة ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ذكر ما دون. «من» تغليبا للأكثر. الْقُدُّوسِ المنزّه عما لا يليق به المتصف بصفات الكمال.
الْعَزِيزِ القوي القاهر الغالب الذي لا يغالب. الْحَكِيمِ في صنعه وتدبير خلقه، يضع الأمور في موضعها الصحيح. وقد قرئت الصفات الأربع بالرفع على المدح.
الْأُمِّيِّينَ العرب جمع أمي: وهو من لا يقرأ ولا يكتب، وصف العرب بذلك، لأن أكثرهم لا يقرءون ولا يكتبون. والأمي: نسبة للأم التي ولدته. رَسُولًا مِنْهُمْ من جملتهم، فهو أمي مثلهم. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يتلو على العرب آيات القرآن، مع كونه أميّا مثلهم.
وَيُزَكِّيهِمْ يطهرهم من الشرك ومن خبائث العقائد والأعمال. الْحِكْمَةَ الشريعة أي معالم
183
الدين وأحكام القرآن. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي من قبل مجيئه لفي خطأ بيّن واضح، وهو الشرك وخبائث الجاهلية. وهذا بيان لشدة حاجتهم إلى نبي يرشدهم.
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ أي وغيرهم الآتين بعدهم، جمع آخر بمعنى: غير، وهم الذين جاؤوا بعد الصحابة إلى يوم القيامة. لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ لم يلحقوا بهم في السابقة والفضل. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ القوي في ملكه وتمكينه من النبوة، الحكيم في صنعه واختياره. والاقتصار على الصحابة دليل على فضلهم على من عداهم من جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة.
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ ذلك الفضل المتميز لهذا النبي عن أقرانه فضله. يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ تفضلا وعطية للنبي ﷺ وصحبه. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي يتضاءل دونه نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
التفسير والبيان:
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي ينزه الله ويمجده جميع المخلوقات ناطقها وجامدها، إقرارا بوجوده ووحدانيته وقدرته، كما قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء ١٧/ ٤٤] فهو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بأمره وحكمته، المنزّه عن النقائص وعن كل ما يخطر بالبال، الموصوف بصفات الكمال والقوي الغالب القاهر الذي لا يغلبه غالب، بليغ العزة والحكمة، المتقن في تدبير شؤون خلقه، الحكيم في كل شيء.
وبعد تنزيه الله نفسه وصف رسوله ﷺ بما تميز به من خصائص، فقال:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إنه سبحانه هو الذي أرسل في العرب الأميين، إذ كان أكثرهم لا يحسن القراءة والكتابة، رسولا من جنسهم فهو أمي مثلهم، كما
قال- فيما يرويه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر-: «إنا أمّة لا نكتب ولا نحسب»
وقال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت ٢٩/ ٤٨].
ومع كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا تعلم من أحد، كان يتلو على أمته
184
آيات القرآن التي ترشدهم لخير الدنيا والآخرة، ويطهرهم من دنس الكفر والذنوب وأخلاق الجاهلية، ويعلمهم القرآن والسنة والشرائع والأحكام وحكمتها، وإن كانوا في جاهليتهم في ضلال وخطأ واضح في العقيدة والتشريع والنظام، إذ كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام، فبدّلوه وغيّروه، واستبدلوا بالتوحيد شركا ووثنية، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، وكذلك أهل الكتاب قد بدّلوا كتبهم وحرّفوها، وغيّروها وأوّلوها.
فأرسل الله تعالى رسوله محمدا ﷺ بشرع كامل شامل لجميع الخلق، لا إلى العرب وحدهم، فيه بيان جميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة إلى ما يقرّبهم إلى الجنة ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى عليهم.
وتخصيص العرب الأميين بالذكر، لأنه ﷺ مبعوث إليهم خاصة وإلى الناس عامة، لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٧] وقوله سبحانه: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف ٧/ ١٥٨].
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي وبعث الله رسولا من العرب لأجيال آخرين من المؤمنين، سواء كانوا من العرب أو من غيرهم، كالفرس والروم، وهم من جاء بعد الصحابة من المسلمين إلى يوم القيامة، لم يلحقوا بهم في ذلك الوقت، وسيلحقون بهم من بعد، والله هو القوي الغالب القاهر ذو العزّة والسلطان، القادر على التمكين لأمة الإسلام في الأرض، وهو ذو الحكمة البالغة في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله وتدبير خلقه.
روى الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزلت عليه سورة الجمعة، فتلاها،
185
فلما بلغ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا، وفينا سليمان الفارسي، فوضع رسول الله ﷺ يده على سلمان الفارسي، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء» «١».
ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية، وعلى عموم بعثته ﷺ إلى جميع الناس، لأنه فسر قوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ بفارس، ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى اتباع ما جاء به.
وروى ابن أبي حاتم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب» ثم قرأ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ
يعني من يأتي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم أبان الله تعالى أن الإسلام وبعثة محمد فضل منه ورحمة، فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي ذلك الإسلام والوحي وإعطاء النبوة العظيمة لمحمد ﷺ فضل من الله يعطيه من يشاء من عباده، والله صاحب الفضل العظيم الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه، وهو ذو المن العظيم على جميع خلقه في الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة في الدنيا، وفي الآخرة بمضاعفة الجزاء على الأعمال.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي:
١- ينزه الله ويمجده ويقرّ بوجوده ووحدانيته وقدرته جميع الكائنات في السموات والأرض.
(١) ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير.
186
٢- الغاية من بعثة الرسول ﷺ النبي الأمي ثلاثة أمور: هي تلاوة آيات القرآن التي فيها الهدى والرشاد، وجعل أمته أزكياء القلوب بالإيمان، مطهرين من دنس الكفر والذنوب ومفاسد الجاهلية، وتعليم القرآن والسنة وما فيهما من شرائع وأحكام وحكم وأسرار.
٣- كانت أمة العرب قبل بعثة النبي ﷺ في ضياع وشتات وذهاب عن الحق.
٤- وجه الامتنان بجعل النبي ﷺ نبيا أميا ثلاثة أسباب كما قال الماوردي:
أحدها- موافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء، الثاني- مماثلة حاله لأحوال أمته، فيكون أقرب إلى موافقتهم، الثالث- انتفاء سوء الظن عنه في تبليغه وتعليمه ما أوحي إليه من القرآن والأسرار.
٥- رسالة النبي ﷺ غير خاصة بالعرب، وإنما هي عامة للناس جميعا في زمنه، وفي الأزمان اللاحقة إلى يوم القيامة: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ.
٦- إن الإسلام والوحي وبعثة النبي ﷺ فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. ولله الفضل الدائم على الناس في غير ذلك كالمال الذي ينفق في الطاعة والصحة والمعونة المستمرة،
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: ذهب أهل الدّثور «١» بالدرجات العلا والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلّون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون، ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أفلا أعلّمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبّحون
(١) الدثور: الثياب والأمتعة والأموال الكثيرة.
187
وتكبّرون وتحمّدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة. فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ «١».
حال اليهود مع التوراة وتمني الموت
[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ٥ الى ٨]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)
الإعراب:
كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً الكاف في كَمَثَلِ في موضع رفع، لأنها في موضع خبر المبتدأ، وهو مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا. ويَحْمِلُ جملة فعلية في موضع نصب على الحال، وتقديره: كمثل الحمار حاملا أسفارا.
بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الَّذِينَ إما في موضع رفع بتقدير مضاف محذوف، تقديره بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا، فحذف مَثَلُ المضاف المرفوع وأقيم المضاف إليه مقامه، وإما في موضع جر على أن يكون الَّذِينَ وصفا للقوم الذين كذبوا بآيات الله، ويكون المقصود بالذم محذوفا، وتقديره: مثلهم أو هذا المثل.
(١) فسر أبو صالح الراوي عن أبي هريرة فضل الله: بأنه المال الذي ينفق في الطاعة.
188
فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ مُلاقِيكُمْ خبر إِنْ المرفوع، ودخول الفاء: إما لأنها زائدة، أو أنها غير زائدة، لتضمن الَّذِي معنى الشرط بسبب وقوعها وصفا، فدخلت في خبر الفاء كما تدخل في الشرط.
البلاغة:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً تشبيه تمثيلي، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، أي مثلهم في عدم الانتفاع بالتوراة، كمثل الحمار الذي يحمل الكتب.
وليس له إلا التعب.
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بينهما طباق السلب.
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
حُمِّلُوا التَّوْراةَ كلفوا العمل بها، من الحمالة: وهي الكفالة. لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فيها، فلم يؤمنوا بما جاء فيها من نعته صلى الله عليه وسلم. أَسْفاراً كتبا علمية عظيمة، سميت أسفارا، لأنها تسفر عن معناها إذا قرئت. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الذين كذبوا بآيات الله الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الكافرين.
هادُوا تهودوا. أَوْلِياءُ لِلَّهِ أي أحبّاء له، إذا كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ تمنوا من الله أن يميتكم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ تعلق هذا الشرط والشرط الأول وهو إِنْ زَعَمْتُمْ بقوله: فَتَمَنَّوُا على أن الشرط الأول قيد في الثاني، أي إن صدقتم في زعمكم أنكم أولياء الله، والولي يؤثر الآخرة، ومبدؤها الموت، فتمنوه.
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بسبب ما اقترفوا من الكفر والمعاصي، ومن ذلك كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الكافرين. فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لا حق بكم لا تفوتونه. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ السر والعلانية. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يجازيكم عليه.
المناسبة:
بعد أن أثبت الله تعالى التوحيد والنوبة، وأخبر أنه بعث الرسول العربي الأمي إلى الأميين العرب، فقال اليهود: إنه ﷺ بعث إلى العرب خاصة، ولم يبعث لنا بمفهوم الآية، رد الله عليهم بأنهم لم يعملوا بالتوراة، وأنهم لو عملوا
189
بمقتضاها وما تضمنته من البشارة بهذا الرسول، لانتفعوا بها وآمنوا به، ولم يقولوا هذا القول أو يوردوا هذه الشبهة، ومثلهم في عدم الانتفاع بتوراتهم وترك العمل بها مثل الحمار الذي يحمل الكتب، ولم يصبه إلا العناء والتعب.
ثم رد الله عليهم قولا آخر وشبهة أخرى حين قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة ٥/ ١٨]، بأنه لو كان قولهم حقا وهم على ثقة، لتمنوا على الله أن يميتهم، وينقلهم سريعا إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه، مع أنهم في الحقيقة لا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدّموا من الكفر وتحريف الآيات.
التفسير والبيان:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً أي إن شبه اليهود الذين تركوا العمل بالتوراة، بعد أن كلّفوا القيام بها والعمل بما فيها، فلم يعملوا بموجبها، ولا أطاعوا ما أمروا به فيها، كشبه الحمار الذي يحمل الكتب الكبيرة على ظهره، وهو لا يدري الفرق بين الكتاب والزبل، لأنه لا فهم له، واليهود وإن كان لهم عقول وأفهام، فإنهم لم ينتفعوا بها فيما ينفعهم وفي إدراك الحقائق، لأنهم حفظوا اللفظ ولم يتفهموه، ولا عملوا بمقتضاه بل أوّلوه وحرفوه وبدّلوه، فهم أسوأ حالا من الحمير، لأن الحمار لا فهم له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها، لذا وصفهم تعالى بقوله: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف ٧/ ١٧٩]. وقال تعالى هنا مبينا قبح هذا المثل:
بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي ما أقبح ما يمثل به للمكذبين، وما أشنع هذا التشبيه، وهو تشبيه اليهود بحق بالحمار، فلا تكونوا أيها المسلمون مثلهم، والله لا يوفق للحق والخير القوم الكافرين على العموم، ومنهم اليهود بصفة أولى.
واختير الحمار في هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة، والذل والحقارة. وقد
190
فدم هذا تحذيرا للذين تركوا رسول الله ﷺ على المنبر قائما يخطب وذهبوا إلى التجارة، وشبيه به كل من أعرض عن الخطبة، وهو يسمعها كما في
الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تكلّم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له:
أنصت، ليس له جمعة»
.
ثم ذم الله تعالى اليهود الذين لم يعملوا بالتوراة ذمّا آخر مناسبا للذم الأول، لأن شأن من لم يعمل بالكتاب أن يحب الحياة، فقال:
قُلْ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي قل أيها الرسول: أيها اليهود إن كنتم تزعمون أنكم أولياء الله وأحباؤه من دون الناس، وأنكم على هدى، وأن محمدا ﷺ وأصحابه على ضلالة، فاطلبوا الموت لتصيروا إلى الكرامة في زعمكم، وادعوا بالموت على الضال من الفئتين، إن كنتم صادقين في هذا الزعم، فإن من علم أنه من أهل الجنة أحب الخلوص من هذه الدار.
وقد ذكرت هذه المباهلة (الملاعنة) وتحدي اليهود في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة ٢/ ٩٤]. كما ذكرت مباهلة النصارى في قوله سبحانه: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، فَقُلْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ، فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آل عمران ٣/ ٦١]. ومباهلة المشركين في قوله عز وجل: قُلْ: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا [مريم ١٩/ ٧٥].
أخرج الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لعنه الله: إن رأيت محمدا عند الكعبة، لآتينه حتى أطأ على عنقه،
191
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا لا يجدون أهلا، ولا مالا».
ثم كشف الله حقيقة أمر اليهود الماديين الذين يحبون الحياة ويكرهون الموت، وأنهم لن يتمنوه أبدا لسوء أفعالهم، فقال:
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي لن يتمنى اليهود الموت أبدا على الإطلاق، بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي، والتحريف والتبديل، والله بالغ العلم، واسع الاطلاع على أحوال الكافرين، فيجازيهم بما عملوا. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد. ويلاحظ أنه قال هنا: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بدون لفظ التأكيد، وفي سورة البقرة قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة ٢/ ٩٥] بلفظ التأكيد ونفي المستقبل.
قُلْ: إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي قل أيها النبي لهؤلاء اليهود: إن الموت الذي تهربون منه، وتأبون المباهلة فيه حبا في الحياة، هو آت إليكم حتما من الجهة التي تفرون منها، ثم ترجعون بعد موتكم إلى الله عالم الغيب في السموات والأرض، وعالم الحس المشاهد فيهما، فيخبركم بما أنتم عاملون من الأعمال القبيحة، ويجازيكم عليها بما أنتم له أهل. وهذا أيضا تهديد ووعيد، ومبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار من الموت.
ونظير الآية قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء ٤/ ٧٨].
192
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي، مبيّنة ذم اليهود من ناحيتين:
١- إن مثل اليهود الذين تركوا العمل بالتوراة، ولم يؤمنوا بمحمد ﷺ بالرغم من إخبار التوراة عنه، كمثل الحمار الذي يحمل الكتب الكبيرة، ولا ينتفع بها، وما أقبح هذا المثل الذي شبّهوا به، والله لا يوفق للحق كل من كان ظالما لنفسه، كافرا بنعمة ربه.
٢- إن كان اليهود صادقين في زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وأصفياؤه، فليطلبوا الموت ليصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله، لأن للأولياء عند الله الكرامة والحظوة.
٣- لكن هؤلاء اليهود لن يتمنوا الموت أبدا بسبب ما أسلفوا من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، فلو تمنوه لماتوا،
جاء في حديث أن النبي ﷺ قال- لما نزلت هذه الآية:
«والذي نفس محمد بيده، لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات».
وفي هذا إخبار عن الغيب، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم.
٤- غير أنه تعالى أخبر أن الموت الذي يفر منه هؤلاء اليهود بسبب ما قدمت أيديهم من تحريف الآيات وغيره آت حتما لا محالة، ولا ينفعهم الفرار، ثم يرجعون إلى الله ربهم العالم بكل شيء من أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم، فيخبرهم بما فعلوا، ويجازيهم بما عملوا.
193
فرضية صلاة الجمعة وإباحة العمل بعدها
[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ٩ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)
الإعراب:
إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ بمعنى (في) : في يوم الجمعة، ويقرأ الْجُمُعَةِ بضم الميم وسكونها وفتحها، بالضم على الأصل، والسكون على التخفيف، والفتح على نسبة الفعل إليها، كأنها تجمع الناس.
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها كنى عن أحدهما دون الآخر، للعلم بأنه داخل في حكمه، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها [التوبة ٩/ ٣٤] وقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [البقرة ٢/ ٤٥].
البلاغة:
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً ثم قال: قُلْ: ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ تفنن في العبارة، فقدّم التجارة أولا، لأنها المقصود الأصلي، ثم قدّم اللهو، لأن الخسارة فيما لا نفع فيه أعظم، فقدم المهم في كل موضع.
وَذَرُوا الْبَيْعَ مجاز مرسل، أطلق البيع، وقصد جميع أنواع التعامل والانشغال من بيع وشراء وإجارة وشركة وغيرها.
المفردات اللغوية:
نُودِيَ لِلصَّلاةِ أذّن لها الأذان الثاني الذي كان يفعل أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس على المنبر قبل الخطبة. مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بيان ل إِذا وإنما سمي جمعة لاجتماع الناس فيه
194
للصلاة، وكانت العرب تسميه (العروبة) أي الرحمة، وأول من سماه جمعة كعب بن لؤي لاجتماع الناس فيه إليه، وأول جمعة جمعها رسول الله ﷺ في قباء، حينما قدم المدينة، وصلى الجمعة في دار بني سالم بن عوف. وأول من أقام الجمعة بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة. قال ابن حجر: فرضت الجمعة بمكة، ولم نقم بها لفقد العدد، أو لأن شعارها الإظهار، وكان ﷺ بها مستخفيا «١».
فَاسْعَوْا فامشوا، وعبّر بالسعي إشارة إلى أنه يطلب من المسلم القيام للجمعة بهمّة ونشاط، وجد وعزيمة، لأن لفظ السعي يفيد الجد والعزم. إِلى ذِكْرِ اللَّهِ للصلاة. وَذَرُوا الْبَيْعَ اتركوا عقد البيع وسائر وجوه المعاملات. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي السعي إلى ذكر الله خير لكم من المعاملة، فإن نفع الآخرة خير وأبقى. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير والشر الحقيقيين، فإن علمتم أنه خير فافعلوه.
قُضِيَتِ الصَّلاةُ أدّيت وفرغ منها. فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أي فتفرقوا، وهو أمر بعد حظر، فيفيد الإباحة لا الوجوب، واحتج به من جعل الأمر بعد الحظر للإباحة. وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ اطلبوا الرزق. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً اذكروه في مجامعكم ومجالسكم ذكرا كثيرا.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون بخير الدارين.
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً التجارة تشمل كل أنواع الكسب، واللهو: الطبول والمزامير ونحوها. انْفَضُّوا إِلَيْها انصرفوا إلى التجارة، وإلى اللهو. وَتَرَكُوكَ قائِماً على المنبر وأنت تخطب. قُلْ: ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب. خَيْرٌ للذين آمنوا من اللهو ومن التجارة، لأن ثواب الله محقّق مخلّد، بخلاف ما يتوهم من نفع اللهو والتجارة. وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فتوكلوا عليه واطلبوا الرزق منه، فكل ما ييسر الله للإنسان من رزق عائلته هو من رزق الله تعالى.
سبب النزول: نزول الآية (١١) :
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً..: أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي عن جابر قال: كان النبي ﷺ يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير «٢» قد
(١) تفسير الألوسي: ٢٨/ ١٠٠
(٢) العير: الإبل المحملة طعاما من دقيق وبرّ وزيت. [.....]
195
قدمت، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فأنزل الله تعالى:
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً.
وأخرج ابن جرير عن جابر أيضا قال: كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرون بالكبر والمزامير، ويتركون النبي ﷺ قائما على المنبر، وينفضّون إليها. وأخرج ابن المنذر عن جابر أن الآية نزلت في الأمرين معا: قصة النكاح، وقدوم العير معا من طريق واحد.
قال المفسرون: أصاب أهل المدينة أصحاب الضرار جوع وغلاء سعر، فقدم دحية بن خليفة الكلبي في تجارة من الشام، وضرب لها طبل يؤذن الناس بقدومه، ورسول الله ﷺ يخطب يوم الجمعة، فخرج إليه الناس، فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا، منهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده، لو تتابعتم حتى لم يبق أحد منكم، لسال بكم الوادي نارا «١».
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن اليهود يفرون من الموت حبا في الدنيا وطيباتها، أراد تعالى أن يربي المؤمنين ويوجههم للعمل في الدنيا ولما ينفع أيضا في الآخرة، وهو حضور الجمعة، لأن الدنيا ومتاعها فانية، والآخرة وما فيها باقية، قال تعالى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى ٨٧/ ١٧]. ثم ندّد تعالى بترك النبي ﷺ وهو على المنبر يخطب، منصرفين للهو أو للتجارة، فمنهم من انفض بمجرد سماع الطبل ورؤيته، ومنهم من انفض إلى التجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها.
ثم أباح تعالى السعي في العمل ومكاسب الدنيا عقب انتهاء صلاة الجمعة، قال تعالى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [القصص ٢٨/ ٧٧].
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٢٤٣
196
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ، وَذَرُوا الْبَيْعَ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي يا أيها المؤمنون بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، إذا أذّن لصلاة الجمعة الأذان الثاني بعد أن يجلس الخطيب على المنبر، لأنه الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الأذان الأول فقد زاده عثمان رضي الله عنه بمحضر الصحابة لما اتسعت المدينة، وذلك على الزّوراء (أعلى دار كانت بالمدينة قرب المسجد) وسمي أذانا ثالثا إضافة إلى الإقامة، كما
قال ﷺ فيما رواه الجماعة عن عبد الله بن مغفّل: «بين كل أذانين صلاة لمن شاء»
يعني الأذان والإقامة.
إذا أذن للجمعة، فبادروا إلى السعي أو المضي إلى ذكر الله وهو الخطبة وصلاة الجمعة في المساجد الجامعة، بعد الإعداد لذلك والتهيؤ للصلاة بالغسل والوضوء والطيب واللباس الجديد أو النظيف الأبيض ونحوها، واتركوا البيع وسائر أوجه المعاملات من إجارة وشركة ونحوهما، وذلكم السعي إلى ذكر الله وترك البيع خير من فعل البيع وترك السعي، لما في الامتثال من الأجر والجزاء، إن كنتم من أهل الدراية والعلم الصحيح بما ينفع، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلك خير لكم. ولفظ (من) إما بمعنى (في) أو تبعيضية. وخص البيع بالذكر، لأنه من أهم ما يشتغل به المرء في النهار من أسباب المعاش، وفيه إشارة إلى ترك جميع أنواع التجارة.
وتخصيص الجمعة بفريضتها تشريع للمسلمين في مقابل السبت عند اليهود.
وليس المراد بالسعي في الآية المشي السريع، وإنما هو الاهتمام بها، كقوله تعالى:
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء ١٧/ ١٩]. فأما المشي السريع إلى الصلاة، فقد نهي عنه، لما
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى
197
الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا».
وأخرج الشيخان أيضا عن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي ﷺ إذ سمع جلبة رجال «١»، فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة، فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا».
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها تسعون، ولكن ائتوها تمشون، وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا».
ثم أباح الله تعالى العمل والسعي للدنيا بعد الصلاة، فقال:
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ، فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي إذا أديتم الصلاة وفرغتم منها، فيؤذن ويباح لكم الانتشار والتفرق في الأرض للتجارة والتصرف فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم، والابتغاء، أي الطلب من فضل الله أي من رزقه الذي يتفضل به على عباده من الأرباح في المعاملات والمكاسب، ولا تنسوا في أثناء عملكم وبيعكم وشرائكم أن تذكروا الله ذكرا كثيرا بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيوي، وبالاذكار التي تقربكم إليه، كالحمد والتسبيح والتكبير والاستغفار ونحو ذلك، كي تفوزوا بخير الدارين وتظفروا به.
وفي هذا دلالة على أن عمل المؤمن للدنيا ينبغي أن يكون مصحوبا بذكر الله تعالى ومراقبته، حتى لا يطغى عليه حبها، وآن في مراقبة الله تعالى تحقيق الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة.
(١) الجلب والجلبة: الأصوات.
198
كان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة، انصرف، فوقف على باب المسجد، فقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصلّيت فريضتك وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين «١».
وجاء في الحديث: «من دخل سوقا من الأسواق، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة» «٢».
ثم عاتب الله تعالى على ما وقع من المؤمنين من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى اللهو أو التجارة القادمة إلى المدينة، فقال:
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها، وَتَرَكُوكَ قائِماً، قُلْ: ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ، وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي وإذا رأى هؤلاء المصلّون المؤمنون وهم في الجامع يستمعون إلى الخطبة إبلا محملة بتجارة قادمة من بلد آخر، أو رأوا لهوا كقرع الطبول وزمر المزامير احتفالا بزواج أو غيره، تفرقوا خارجين إلى ذلك، وتركوك أيها النبي قائما على المنبر وأنت تخطب، قل أيها الرسول لهم مخطّئا ما عملوا: ما عند الله من الجزاء والثواب العظيم في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة اللذين ذهبتم إليهما، وتركتم البقاء في المسجد وسماع خطبة النبي ﷺ لأجلها، والله هو خير الرازقين، فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسلوا بعمل الطاعة، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه، والله يرزق من توكل عليه، وطلب الرزق في وقته، وهو كفيل برزق العباد، ولن يحرم أحد رزقه أو ينقص منه شيء بسبب الصلاة. وكلمة إِذا مستعملة في الماضي. ولما كان العطف بأو بين قوله: تِجارَةً أَوْ لَهْواً صح مجيء الضمير في إِلَيْها مفردا. وقوله: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ مناسب لكل من التجارة واللهو الذي هو كالتبع للتجارة.
(١) رواه ابن أبي حاتم (تفسير ابن كثير ٤/ ٣٦٧).
(٢) كنز العمال ٤/ ٩٣٢٧، ٩٤٤٣
199
وقد عرفنا أن سبب نزول هذه الآية أنه كان بالمدينة فاقة وحاجة، فأقبل دحية الكلبي بتجارة إلى الشام، والنبي ﷺ يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا في المسجد، وسبع نسوة. وترك بعضهم الخطبة إلى سماع اللهو، فكان الترديد في قوله: تِجارَةً أَوْ لَهْواً للدلالة على أن منهم من انفض بمجرد سماع الطبل ورؤيته، ومنهم من انفض إلى التجارة للحاجة إليها والانتفاع بها.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات الأحكام التالية:
١- صلاة الجمعة فرض والسعي إليها فرض أيضا، لأنه لا يمكن أداؤها جماعة في المسجد إلا به. والخطاب في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خاص بالمكلفين بالإجماع، فلا يطالب بالجمعة المرضى والزّمنى والمسافرين والعبيد والنساء، والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة، لما
أخرجه الدارقطني عن جابر: أن رسول الله ﷺ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك، فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غني حميد».
وقال علماء المالكية وغيرهم: ولا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر، لا يمكنه منه الإتيان إليها، مثل المرض الحابس، أو خوف الزيادة في المرض، أو خوف جور السلطان عليه في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق.
والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع.
٢- يختص وجوب الجمعة على القريب الذي يسمع النداء، أما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا يدخل تحت الخطاب في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ.
200
٣- دل قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت، بدليل
قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة عن مالك بن الحويرث: «إذا حضرت الصلاة، فأذّنا، ثم أقيما وليؤمّكما أكبركما».
وروى البخاري عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس.
وروي عن أبي الصّديق وأحمد بن حنبل أنها تصلّى قبل الزوال، وتمسك
أحمد في ذلك بحديث سلمة بن الأكوع: «كنا نصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ننصرف، وليس للحيطان ظل»
وبحديث ابن عمر وسهل: «ما كنا نقيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة».
ومذهب الجمهور من الخلف والسلف ما
رواه البخاري فيما تقدم، وما رواه وكيع عن يعلى بن إياس عن أبيه قال: «كنا نجمّع مع رسول الله ﷺ إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء».
وقياسا على صلاة الظهر.
وحديث ابن عمر وسهل دليل على أنهم كانوا يبكّرون إلى الجمعة تبكيرا كثيرا عند الغداة أو قبلها، فلا يتناولون الغداء إلا بعد انقضاء الصلاة،
وقد جاء في البخاري ومسلم ما يفيد استحباب التبكير إلى الجمعة، وذلك ما روياه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله ﷺ قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجمعة، ثم راح في الساعة الأولى، فكأنما قرّب بدنة «١»، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرّب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذّكر».
والتبكير محمول عند أغلب العلماء على ساعات النهار الزمانية،
لحديث ابن عمر المتقدم: «ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة لكثرة البكور إليها».
(١) البدنة: الناقة.
201
ورأى مالك أن التبكير بالجمعة إنما يكون قرب الزوال بيسير. قال ابن العربي: والقول الأول أصح.
٤- الجمعة فرض عيني على كل مسلم، وهو رأي جماهير الأمة والأئمة، لقوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ
وثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكوننّ من الغافلين».
وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها على الأعيان.
وفي سنن ابن ماجه عن أبي الجعد الضّمري الصحابي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها، طبع الله على قلبه».
وثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم».
٥- أوجب الله السعي إلى الجمعة مطلقا من غير شرط. وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع الصلوات، لقوله عز وجل: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ.. [المائدة ٥/ ٦]
وقال النبي ﷺ فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور».
أما غسل الجمعة فهو سنة أو مستحب لا فرض، لما
ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله ﷺ قال: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل»
وفيهما أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حقّ لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده»
وفيه أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء، ثم راح إلى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسّ الحصى فقد
202
لغا» «١».
وهذا نص في عدم فرضية الغسل.
وروى النسائي وأبو داود في سننهما أن النبي ﷺ قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت. ومن اغتسل فالغسل أفضل».
ويستحب أيضا لمن آتى الجمعة أن يلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويتسوك ويتنظف ويتطهر،
لحديث أبي سعيد المتقدم:
«غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، والسواك، وأن يمس من طيب أهله»
وروى أحمد عن أبي أيوب الأنصاري:
سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب أهله إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد، فيركع إن بدا ولم يؤذ أحدا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى».
٦- لا تسقط الجمعة لكونها في يوم عيد، خلافا لأحمد بن حنبل، فإنه قال: إذا اجتمع عيد وجمعة، سقط فرض الجمعة، لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عليها، ولما روي أن عثمان أذن في يوم عيد لأهل العوالي «٢» أن يتخلفوا عن الجمعة. لكن قول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خولف فيه، ولم يجمع معه عليه، والأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام. وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه: أنه إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد، يقرأ بالأعلى والغاشية أيضا في الصلاتين.
٧- اختلف العلماء في أول جمعة صليت في الإسلام، فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن ابن سيرين قال: جمّع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم،
(١) اللغو: الكلام المطرح الساقط.
(٢) العالية والعوالي: أماكن بأعلى أراضي المدينة،
وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون».
203
وقبل أن تنزل الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه، فنذكر الله تعالى، ونشكره، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون الجمعة بذلك، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ ركعتين، وذكرهم، فسموه (الجمعة) حين اجتمعوا إليه. فذبح لهم شاة، فتغذوا وتعشوا منها، وذلك لعامتهم، فأنزل الله تعالى، في ذلك بعد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية «١».
وقيل: إن أول من جمع بالناس مصعب بن عمير، وجمع بين الروايتين بأن جمع أسعد كان بغير أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وجمع مصعب كان بأمره.
والصحيح أن أول جمعة كانت هي صلاة النبي ﷺ بعد قدومه إلى المدينة بأربعة أيام، حيث أدركه وقتها في بني سالم بن عوف، فصلّاها في بطن واد لهم، حيث خطب صلى الله عليه وسلم، وصلى بالناس.
أخرج ابن ماجه عن جابر أن رسول الله ﷺ خطب، فقال: «إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا، إلى يوم القيامة، فمن تركها استخفافا بها، أو جحودا بها، فلا جمع الله شمله، ولا بارك في أمره، ألا ولا صلاة له، ولا زكاة له، ولا حج له، ولا صوم له، ولا برّ له حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه».
قال الألوسي: فإن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة، بل ظاهر الخبر أنها بعد الهجرة بكثير، إذ ظاهر
قوله عليه الصلاة والسلام فيه: «لا حج له»
أن الحج كان مفروضا إذ ذاك، والأصح أنه فرض في السنة السادسة، فإما أن يقدح في صحة الحديث، وإما أن يقال: مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة، أي بهذا القيد «٢».
(١) وروي ذلك أيضا في سنن أبي داود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي.
(٢) تفسير القرطبي: ١٨/ ٩٨، تفسير الألوسي: ٢٨/ ١٠٠
204
٨- الصحيح أن السعي إلى ذكر الله واجب، وذكر الله يشمل الصلاة والخطبة والمواعظ، ورأى الحنفية أنه لا يشترط في الخطبة اشتمالها على ما يسمى خطبة عرفا، لأنه ورد الذكر في الآية مطلقا غير محدود، ومن غير تفصيل بين كون الذكر طويلا أو قصيرا، فكان الشرط هو الذكر مطلقا، وما ورد من الآثار مشتملا على بيان كيفية الخطبة يدل على السنية أو الوجوب، ولا يصلح دليلا على أنه لا يجوز الصلاة إلا بالخطبة.
ورأى العلماء الآخرون أن الخطبة واجبة، لأنها تحرّم البيع، ولولا وجوبها ما حرّمته، لأن المستحب لا يحرّم المباح. واشترط الشافعية أن يأتي الخطيب بخطبتين بشروط خاصة، بآثار وردت في ذلك.
وأجمع العلماء على اشتراط العدد في صلاة الجمعة، لأنها ما سميت جمعة إلا لما فيها من الاجتماع. واختلفوا في أقل عدد تنعقد به الجمعة، على أقوال كثيرة، بلغت ثلاثة عشر قولا. منها: أن يكون العدد في رأي أبي حنيفة ومحمد ثلاثة رجال سوى الإمام، ولو كانوا مسافرين أو مرضى، لأن أقل الجمع الصحيح إنما هو الثلاث، والجماعة شرط مستقل في الجمعة، لقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ والجمعة مشتقة من الجماعة، ولا بدّ لهم من خطيب.
واشترط المالكية حضور اثني عشر رجلا للصلاة والخطبة، على أن يكون العدد من أهل البلد، وأن يبقوا مع الإمام من أول الخطبة حتى السلام، لأنه لم يبق مع النبي ﷺ من الصحابة الذين خرجوا للهو أو للتجارة إلا اثنا عشر رجلا.
وقال الشافعية والحنابلة: تقام الجمعة بحضور أربعين فأكثر بالإمام من أهل القرية المكلفين الأحرار الذكور المستوطنين، لا مسافرين، لكن يجوز كون الإمام مسافرا إن زاد العدد عن الأربعين، لما روى البيهقي عن ابن مسعود أنه
205
صلى الله عليه وسلم جمّع بالمدينة، وكانوا أربعين رجلا. ولم يثبت أنه ﷺ صلى بأقل من أربعين، فلا تجوز بأقل منه.
٩- منع الله تعالى البيع عند صلاة الجمعة، وحرمه في وقتها على من كان مخاطبا بفرضها، والمراد من البيع المعاملة مطلقا، فيشمل النهي كل ما يشغل عن الصلاة من شركة وإجارة وزواج ونحوها، فهو مجاز عن ذلك كله، وخص البيع، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق. أما من لا يجب عليه حضور الجمعة، فلا ينهى عن البيع والشراء ونحوهما. والأمر في قوله تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ للوجوب عند أكثر العلماء، فيكون الاشتغال بهذه الأشياء محرما عند الجمهور، وذلك من حين صعود الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، وهو مكروه تحريما عند الحنفية.
والبيع صحيح منعقد لا يفسخ عند الحنفية والشافعية، لأنه لم يحرم لعينه أي ليس النهي متوجها نحو خصوص البيع، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو متوجه نحو ترك الجمعة، فكان كالصلاة في الأرض المغصوبة، والوضوء بماء مغصوب. وهو فاسد لا يصح عند الحنابلة، والصحيح المشهور عند المالكية: أنه يفسخ،
لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد ومسلم عن عائشة: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»
فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها هو حرام شرعا، مفسوخ ردعا.
١٠- السعي إلى ذكر الله، وترك الأعمال من أجله خير للمؤمنين وأنفع من المنافع الدنيوية، فإن كانوا من أهل العلم، عرفوا أن امتثال أوامر الله في الذهاب إلى الجمعة، والانتفاع بالمواعظ، خير لهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيبصرهم الإمام بما فيه الخير والنجاة من الأذى، وأما في الآخرة فإنهم يفوزون برضا الله عنهم، حيث امتثلوا أوامره.
206
١١- يباح عقب الفراغ من الصلاة الانتشار في الأرض للتجارة والتصرف في الحوائج، والابتغاء من رزق الله وفضله، لقوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ كقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة ٥/ ٢].
وهذا أمر بعد الحظر، فهو للإباحة، فلا يطلب من الإنسان الخروج من المسجد بعد الصلاة لا وجوبا ولا ندبا.
١٢- نبّه الله تعالى بقوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً على ذكر الله بالطاعة واللسان، وبالشكر على ما أنعم به على الإنسان من التوفيق لأداء الفرائض، وفي وقت الاشتغال بالأعمال وعدم الاكتفاء بالذكر الذي حصل في صلاة الجمعة، ليتحقق الفوز بخير الدارين. قال سعيد بن المسيب: الذكر طاعة الله تعالى، فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر، وإن كان كثير التسبيح.
١٣- انفض الناس أثناء خطبة النبي ﷺ للتجارة أصالة، وللهو والفرح بمجيء التجارة تبعا، فعاد الضمير للتجارة في قوله: إِلَيْها.
١٤- استدل العلماء بقوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قائِماً على مشروعية القيام أثناء الخطبة، وهو أمر متفق عليه، ثبت في السنة أن النبي ﷺ ما خطب إلا قائما، وكذلك الخلفاء من بعده، واستمر الأمر هكذا إلى زمن بني أمية حيث وجد منهم من استهان بأمر الخطبة، فخطب جالسا، وأول من خطب جالسا معاوية رضي الله عنه، حينما كان عاجزا عن القيام.
والقيام في الخطبة سنة عند الحنفية، فلو خطب الإمام قاعدا، جاز، لحصول المقصود، إلا أنه يكره لمخالفته الموروث، وهو واجب غير شرط عند المالكية، فإن جلس أتم خطبته وصحت، وشرط لا تصح إلا به عند الشافعية والحنابلة، اتباعا للسنة. وهذه أحكام في الخطبة مأخوذة من السنة «١» :
(١) تفسير القرطبي ١٨/ ١١٤- ١٢٠
207
أ- تصح الجمعة بغير إذن الإمام وحضوره، لأن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوما، فصلى ابن مسعود بالناس من غير إذنه، وروي أن عليا صلّى الجمعة يوم حوصر عثمان، ولم ينقل أنه استأذنه، وروي أيضا أن سعيد بن العاصي والي المدينة لما خرج من المدينة، صلى أبو موسى بالناس الجمعة من غير استئذان.
واشترط أبو حنيفة وجود الإمام أو خليفته أو إذنه، لأن كل تجمع يتطلب الإذن بالحضور، ولأنه لا يحصل معنى الاجتماع إلا بالإذن، ولأن الجمعة من شعائر الإسلام وخصائص الدين، فلزم إقامتها بطريق الاشتهار.
ب- واشترط المالكية لأداء الجمعة أن تكون في المسجد المسقّف، لقوله تعالى: طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج ٢٢/ ٢٦]. وقوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور ٢٤/ ٣٦]. وحقيقة البيت عرفا أن يكون ذا حيطان وسقف.
وكذلك اشترط الحنفية أن تكون في مصلى المصر. ولم يشترط الشافعية والحنابلة إقامة الجمعة في مسجد، واتفق الكل على أن تكون في بلد.
ج- يرى جمهور العلماء أن الخطبة شرط في انعقاد الجمعة لا تصح إلا بها، لقوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قائِماً وهذا ذم، والواجب: هو الذي يذم تاركه شرعا، ثم إن النبي ﷺ لم يصلها إلا بخطبة. وقال سعيد بن جبير: هي بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر، فإذا تركها وصلى الجمعة، فقد ترك الركعتين من صلاة الظهر.
وقال الحسن البصري وابن الماجشون: إنها سنة مستحبة، وليست بفرض.
د- يخطب الخطيب متوكئا على قوس أو عصا، روى ابن ماجه في سننه عن سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله ﷺ كان إذا خطب في الحرب، خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة، خطب على عصا.
208
هـ- يرى جمهور العلماء أن الخطيب يسلّم إذا صعد المنبر على الناس، لما
روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله: أن النبي ﷺ كان إذا صعد المنبر سلّم.
وليس السلام سنة عند مالك.
والطهارة من الحدثين في الخطبة شرط عند الشافعي في الجديد، وليست شرطا عند الجمهور، فإن خطب الإمام على غير طهارة أساء عند مالك، وصحت الخطبة، ولا إعادة عليه إذا صلّى طاهرا.
ز- ذهب أكثر الفقهاء إلى أن أقل ما يجزئ في الخطبة: أن يحمد الله تعالى، ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم، ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية من القرآن، ويجب في الثانية أربع كالأولى، إلا أن الواجب هو الدعاء بدلا من قراءة الآية في الأولى.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو اقتصر الإمام على التحميد أو التسبيح أو التكبير، أجزأه، روي عن عثمان رضي الله عنه أنه صعد المنبر، فقال: الحمد لله، وأرتجّ عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالا، وإنكم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل فصلى، وكان ذلك بحضرة الصحابة، فلم ينكر عليه أحد.
ح- ما يذكر في الخطبة: روى مسلم في صحيحة عن أخت عمرة بنت عبد الرحمن قالت: ما أخذت ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلا من في رسول الله ﷺ يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة.
وروى أيضا عن يعلى بن أميّة أنه سمع النبي ﷺ يقرأ على المنبر: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ..
[الزخرف ٤٣/ ٧٧].
وفي مراسيل أبي داود عن الزّهري قال: كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم:
«الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا. من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا
209
عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتّبع رضوانه ويجتنب سخطه، فإنما نحن به وله».
وعن الزهري قال: بلغنا عن رسول الله ﷺ أنه كان يقول إذا خطب: «كل ما هو آت قريب، ولا بعد لما هو آت. لا يعجل الله لعجلة أحد، ولا يخفّ لأمر الناس. ما شاء الله، لا ما شاء الناس. يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا، ما شاء الله كان ولو كره الناس. ولا مبعد لما قرّب الله، ولا مقرّب لما بعّد الله. لا يكون شيء إلا بإذن الله جلّ وعز».
وقال جابر: كان النبي ﷺ يوم الجمعة يخطب، فيقول بعد أن يحمد الله ويصلّي على أنبيائه: «أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن العبد المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات. والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» «١».
ط- يجب وجوب سنة السكوت للخطبة على من سمعها، والسنة أن يسكت الجميع، من سمع ومن لم يسمع، وهما إن شاء الله في الأجر سواء، ومن تكلم حينئذ لغا، ولا تفسد صلاته بذلك.
عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت» «٢».
(١) وروي ذلك أيضا عن ابن عباس (إتحاف الأنام بخطب رسول الإسلام: ص ١٩٤).
(٢) أخرجه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
210
ي- يستقبل الإمام الناس إذا صعد المنبر، اتباعا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في سنن أبي داود مرسلا وسنن ابن ماجه متصلا، وعند أبي نعيم الحافظ.
ك- يرى الجمهور أن من دخل المسجد والإمام يخطب ركع ركعتين، لما
أخرج مسلم في صحيحة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوّز فيهما».
ولا يركع في رأي مالك وابن شهاب الزهري، لأن خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام.
ل- يكره النوم والإمام يخطب،
عن سرمة بن جندب أن النبي ﷺ قال: «إذا نعس أحدكم فليتحوّل إلى مقعد صاحبه، وليتحول صاحبه إلى مقعده» «١».
م- فضل الجمعة:
روى الأئمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ ذكر يوم الجمعة، فقال: «وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو يصلي، يسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه إياه»
وأشار بيده يقلّلها «٢».
وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة».
١٥- ما عند الله من ثواب الصلاة خير من لذة اللهو وفائدة التجارة، وكذلك ما عند الله من الرزق المقسوم للإنسان خير مما يصاب باللهو والتجارة، والله خير من رزق وأعطى، فهو الذي يقدر الأقوات وييسرها، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، فما يصح لإنسان إهمال عبادة الله من أجل شيء، فإن ما يكون له سوف يأتيه، ولو على ضعفه، وما لغيره لن يناله بقوّته، ولن يفيد منه إلا الإسراع إليه، والجري وراءه. وعلى الإنسان طلب الرزق من ربه، والاستعانة بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة.
(١)
ورواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر بلفظ «إذا نعس أحدكم وهو في المسجد، فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره».
(٢) يقال: قلّله في عينه، أي أراه إياه قليلا. [.....]
211

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المنافقون
مدنيّة، وهي إحدى عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة (المنافقون) لافتتاحها بذلك، وتحدثها عن أوصاف المنافقين، ومواقفهم المعادية لرسول الله ﷺ وللمؤمنين.
مناسبتها لما قبلها:
تبدو صلة هذه السورة بما قبلها بعقد مقارنة وإجراء تقابل بين المؤمنين والمنافقون، ففي سورة الجمعة ذكر المؤمنون، وفي هذه ذكر أضدادهم وهم المنافقون، لذا
أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ كان يقرأ في الجمعة سورة الجمعة، يحرّض بها المؤمنين، وسورة المنافقين يقرّع بها المنافقين.
كما أن سورة الجمعة مشتملة على ذكر من كان يكذب ببعثة الرسول ﷺ قلبا ولسانا وهم اليهود، وتذكر هذه السورة من كان يكذبه قلبا دون اللسان ويصدقه لسانا دون القلب، وهم المنافقون.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسائر السور المدنية هو الحديث عن التشريعات والأحكام وما تمخض عنه مجتمع المدينة بعد الهجرة من بروز ظاهرة النفاق.
212
Icon