تفسير سورة الأعراف

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب التفسير القيم من كلام ابن القيم المعروف بـالتفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

سورة الأعراف

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٢]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)
وهذا دليل على أنها فواحش في نفسها لا تستحسنها العقول. فتعلق التحريم بها لفحشها. فإن ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشتق.
يدل على أنه هو العلة المقتضية له. وهذا دليل في جميع الآيات التي ذكرناها. تدل على أنه حرمها لكونها فواحش، وحرم الخبيث لكونه خبيثا.
وأمر بالمعروف لكونه معروفا. والعلة يجب أن تغاير المعلول. فلو كان كونه فاحشة هو معنى كونه منهيا عنه، وكونه خبيثا هو معنى كونه محرما: كانت العلة عين المعلول. وهذا محال. فتأمله وكذا تحريم الإثم والبغي دليل على أن هذا وصف ثابت له قبل التحريم.
ومن هذا قوله تعالى: ١٧: ٣٣ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا فعلل النهي في الموضعين بكون المنهي عنه فاحشة. ولو كان جهة كونه فاحشة هو النهي لكان تعليلا للشيء بنفسه، ولكان بمنزلة أن يقال: لا تقربوا الزنا فإنه يقول لكم لا تقربوه، أو فإنه منهي عنه. وهذا محال من وجهين.
أحدهما: أنه يتضمن إخلاء الكلام من الفائدة.
والثاني: أنه تعليل للنهي بالنهي!
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.
فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة، وهذا تارة. ويراد به مجموعهما. وهما متلازمان.
فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره، أو دفعه. ومن يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقا. والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر. ولهذا أنكر الله تعالى على عبد من دونه ما لا يملك ضرا ولا نفعا، وذلك كثير في القرآن. كقوله تعالى: ١٠: ١٨ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وقوله تعالى: ١٠: ١٠٦ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ وقوله تعالى: ٥: ٧٦ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وقوله تعالى: ٢١: ٦٦، ٦٧ قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا
248
يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وقوله تعالى: ٢٦: ٦٩- ٧٣ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ وقوله تعالى: ٢٥: ٣ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً وقال تعالى: ٢٥: ٥٥ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً.
فنفي سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر، القاصر والمعتدي. فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم. وهذا في القرآن كثير بيّن:
أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، فهو يدعى للنفع ودفع الضر.
ودعاء المسألة، ويدعى خوفا ورجاء، ودعاء العبادة. فعلم أن النوعين متلازمان: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة.
وعلى هذا قوله تعالى: ٢: ١٨٦ وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ يتناول نوعي الدعاء. وبكل منهما فسرت الآية.
قيل: أعطيه إذا سألني. وقيل: أثيبه إذا عبدني. والقولان متلازمان.
وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا.
فتأمله فإنه موضع عظيم النفع، قل من يفطن له.
وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدا هي من هذا القبيل.
ومثال ذلك قوله: ١٧: ٧٨ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ
249
اللَّيْلِ
فسر «الدلوك» بالزوال، وفسر بالغروب. وحكيا قولين في كتب التفسير. وليسا بقولين، بل اللفظ يتناولهما معا. فإن الدلوك هو الميل.
ودلوك الشمس ميلها ولهذا الميل مبدأ ومنتهى. فمبدؤه الزوال، ومنتهاه الغروب. فاللفظ متناول لهما بهذا الإعتبار لا بتناول المشترك لمعنييه. ولا اللفظ لحقيقته ومجازه.
ومثاله أيضا تفسير الغاسق: بالليل والقمر، وأن ذلك ليس باختلاف، بل يتناولهما لتلازمهما. فإن القمر آية الليل. ونظائره كثيرة.
ومن ذلك قوله عز وجل: ٢٥: ٧٧ قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ.
قيل: لولا دعاؤكم إياه. وقيل: دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول. وعلى الأول مضافا إلى الفاعل. وهو الأرجح من القولين. وعلى هذا: فالمراد به نوعا الدعاء والعبادة أظهر، أي ما يعبأ لكم ربي لولا أنكم تعبدونه. عبادة تستلزم مسألته. فالنوعان داخلان فيه.
ومن ذلك قوله تعالى: ٤٠: ٦٠ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فالدعاء يتضمن النوعين، وهو في دعاء العبادة أظهر. ولهذا عقبه بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ فسر الدعاء في الآية بهذا وهذا
وقد روى سفيان عن منصور عن زرّ عن نسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول على المنبر: «إن الدعاء هو العبادة». ثم قرأ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ رواه الترمذي
، وقال حديث حسن صحيح.
وأما قوله تعالى: ٢٢. ٧٣ يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وقوله: ٤: ١١٧ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وقوله: ٤١: ٤٨
250
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأصنامهم وآلهتهم فالمراد به دعاء العبادة، المتضمن دعاء المسألة. فهو في دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم قالوا ٣٩: ٣ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم هو عبادتهم لهم.
والثاني: أن الله تعالى فسّر هذا الدعاء في موضع آخر بأنه العبادة.
كقوله ٢٦: ٩٢- ٩٣ وَقِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ وقوله: ٢١: ٩٨ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وقوله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وهو كثير في القرآن. فدعاؤهم لآلهتهم وعبادتهم لها.
الثالث: أنهم إنما كانوا يعبدونها يتقربون بها إلى الله. فإذا جاءتهم الحاجات والكربات والشدائد دعوا الله وحده وتركوها. ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها، وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة.
وقوله تعالى: ٤٠: ١٤ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ هو دعاء العبادة. والمعنى: اعبدوه وحده وأخلصوا عبادته، لا تعبدوا معه غيره.
وأما قول إبراهيم الخليل عليه السلام: ١٤: ٣٩ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ فالمراد بالسمع هنا: السمع الخاص، وهو سمع الإجابة والقبول، لا السمع العام. لأنه سميع لكل مسموع.
وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ودعاء الطلب. وسمع الرب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء، وإجابته للطلب. فهو سميع لهذا ولهذا.
وأما قول زكريا عليه السلام: ١٩: ٤ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا
251
فقد قيل: إنه دعاء المسألة، والمعنى: إنك عودتني إجابتك وإسعافك، ولم تشقني بالرد والحرمان، فهو توسل إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه، كما حكي أن رجلا سأل رجلا وقال: أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا وكذا. فقال: مرحبا بمن توسل إلينا بنا، وقضى حاجته. وهذا ظاهر هنا.
ويدل عليه: أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد، وجعله وسيلة إلى ربه، فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوده: من قضاء حوائجه وإجابته إلى ما سأله.
ويدل عليه: أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد، وجعله وسيلة إلى ربه، فطلب منه أن يجاريه وأما قوله تعالى: ١٧: ١١٠ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فهذا الدعاء المشهور، وأنه دعاء المسألة، وهو سبب النزول،
قالوا: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو ربه، فيقول مرة: يا الله، ومرة: يا رحمن فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعو إلهين، فأنزل الله تعالى هذه الآية»
قال ابن عباس: «سمع المشركون النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو في سجوده: يا رحمن يا رحيم فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحدا، وهو يدعو مثنى مثنى. فأنزل الله هذه الآية قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ.
وقيل: إن الدعاء هاهنا بمعنى التسمية، كقولهم: دعوت ولدي سعيدا. وادعه بعبد الله ونحوه. والمعنى: سموا ربكم الله أو سموه الرحمن: فالدعاء هاهنا بمعنى التسمية. وهذا قول الزمخشري. والذي حمله على هذا قوله: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فإن المراد بتعدده:
معنى «أي»
وعمومها هنا تعدد الأسماء ليس إلا. والمعنى: أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى. إما الله وإما الرحمن فله الأسماء الحسنى، أي فللمسمى سبحانه الأسماء الحسنى. والضمير في «له» يعود إلى
252
المسمى. فهذا الذي أوجب له أن يحمل الدعاء في هذه الآية على التسمية.
وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المراد بالدعاء في الآية وليس هو عين المراد بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن، وهو دعاء السؤال، ودعاء الثناء ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب.
فعلى هذا المعنى: يصح أن يكون في «تدعوا» معنى تسموا.
فتأمله. والمعنى أيّا ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم. والله أعلم.
وأما قوله تعالى: ٥١: ٢٨ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال رغبة ورهبة.
والمعنى: إنا كنا من قبل نخلص له العبادة. وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم، لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره، فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض، والفوز والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب.
وكذلك قول الفتية أصحاب الكهف: ١٨: ١٤ رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أي لن نعبد غيره.
وكذلك قوله تعالى: ٣٧: ١٢٥ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ؟.
وأما قوله تعالى: ٢٨: ٦٤ وَقِيلَ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ. فَدَعَوْهُمْ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ فهذا من دعاء المسألة، يبكتهم الله عز وجل ويخزيهم يوم القيامة بإراءتهم أن شركاءهم لا يستجيبون لدعوتهم. وليس المراد اعبدوهم.
وهو نظير قوله تعالى: ١٨: ٥٢ وَيَوْمَ يَقُولُ: نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ.
253
وهذا التقرير نافع في مسألة الصلاة، وأنها: هل نقلت عن مسماها في اللغة، فصارت حقيقة شرعية منقولة استعملت في هذه العبادة مجازا، للعلاقة بينها وبين المسمي اللغوي، أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائع؟.
وعلى ما قررناه: لا حاجة إلى شيء من ذلك. فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء، إما دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داع. فما خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء، فتأمله إذا عرفت هذا. فقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً يتناول نوعي الدعاء ولكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن دعاء العبادة. ولهذا أمر بإخفائه وإسراره قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا.
ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وأن الله ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله، وقال: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا.
وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة.
أحدها: أنه أعظم إيمانا، لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع دعاءه الخفي. وليس كالذي قال: إن الله يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا وثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم. ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات، وإنما تخفض عندهم الأصوات، ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه ومن رفع صوته لديهم مقتوه، ولله المثل الأعلى.
فإذا كان ربنا يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.
254
ثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل إذا انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته، وكسرته، وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق. فقلبه سائل طالب مبتهل، ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت. وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلا.
ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.
وخامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء. فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته. فكلما خفض صوته كان أبلغ في حمده وتجريده همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى.
وسادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدا- أنه دال على قرب صاحبه من الله، وأنه لاقترابه منه، وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه. فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.
ولهذا: أثنى سبحانه وتعالى على عبده زكريا بقوله: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا فكلما استحضر القلب قرب الله تعالى منه، وأنه أقرب إليه من كل قريب، وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به، بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسا له يسمع خفي كلامه فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه ولله المثل الأعلى سبحانه. وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح. لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر
فقال: «أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وقال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
وقد جاء أن سبب نزولها: أن الصحابة قالوا: «يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل: وَإِذا سَأَلَكَ
255
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء، لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا، فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء، وإنما يسأل مسألة القريب المناجى، لا مسألة البعيد المنادى.
وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص، ليس قربا عاما من كل أحد، فهو قريب من داعيه وقريب من عابده،
و «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» «١»
وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه، بل هو قرب خاص من الداعي والعابد، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم راويا عن ربه تبارك وتعالى: «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا»
فهذا قربه من عابده. وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ.
وقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب. وأما قربه تبارك وتعالى من محبه فنوع آخر وبناء آخر، وشأن آخر، كما قد ذكرناه في كتاب التحفة المكية. على أن العبارة تنبو عنه ولا تحصل في القلب حقيقة معناه أبدا، لكن بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب. وإياك ثم إياك أن تعبر عنه بغير هذه العبارة النبوية، أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتزل بك قدم بعد ثبوتها وقد ضعف تمييز خلائق في هذا المقام وساء تعبيرهم فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح، وقابلهم من غلظ حجابه، فأنكر محبة العبد لربه جملة وقربه منه وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوق فهو عنده المحبوب القريب ليس إلا. وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء وهؤلاء في كتاب التحفة أكثر من مائة طريق.
والمقصود هاهنا: الكلام على هذه الآية.
(١) أخرجه الترمذي برقم ٣٥٧٩.
256
وسابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكلّ لسانه وتضعف بعض قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر رافعا صوته، فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته.
وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات. فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل له هناك تشويش ولا غيره، وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية الخبيثة من الجن والإنس، فشوشت عليه ولا بد، ومانعته وعارضته ولو لم يكن من ذلك إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته فيضعف أثر الدعاء لكفى. ومن له تجربة يعرف هذا. فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة.
وتاسعها: أن أعظم النعم هو الإقبال على الله، والتعبد له، والانقطاع إليه والتبتل إليه. ولكل نعمة حاسد على قدرها، دقت أو جلت، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة. فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له. وقد قال يعقوب ليوسف: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار، فأصبح يقلب كفيه. ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدا ويتكتمون به غاية التكتم كما أنشد بعضهم في ذلك:
من سارروه فأبدى السر مجتهدا لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأبعدوه فلم يظفر بقربهم وأبدلوه مكان الإنس إيحاشا
لا يأمنون مذيعا بعض سرهم حاشا ودادهم من ذلكم حاشا
والقوم أعظم شيء كتمانا لأحوالهم مع الله وما وهب الله لهم من محبته والأنس به وجمعية القلب عليه، ولا سيما للمبتدي والسالك. فإذا تمكن
257
هذه الثلاثة فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه.
فتأمل أسرار القرآن وحكمته في اقتران الخيفة بالذكر، والخفية بالدعاء، مع دلالته على اقتران الخيفة بالدعاء والخفية بالذكر أيضا، فإنه قال: اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ فلم يحتج بعدها أن يقول: «خفية» وقال في الدعاء: ٧: ٥٦ وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً فلم يحتج أن يقول في الأولى ادعوا ربكم تضرعا وخفية فانتظمت كل واحدة من الآيتين، للخفية والخفية والتضرع أحسن انتظام، ودلت على ذلك أكمل دلالة.
وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء لأن الدعاء مبنى عليه، فإن الداعي ما لم يطمع في سؤاله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبه، إذ طلب ما لا طمع فيه ممتنع وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه كما تقدم. فذكر في كل آية ما هو اللائق بها والأولى بها: من الخوف والطمع، فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٥]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)
قيل: المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء. كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك.
وقد روى أبو داود في سننه من حديث حماد ابن سلمة عن سعيد الجريري عن ابي معاوية أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: «اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال:
يا بنى سل الله الجنة وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء»

وعلى هذا فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات، وتارة بأن يسأل ما لا يفعله الله، مثل يسأله تخليده إلى يوم
261
القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب أو يسأله أن يطلعه على غيبه أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يسأله أن يهب له ولدا من غير زوجة ولا أمة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء. فكل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب رسله.
وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضا في الدعاء. قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء، والنداء في الدعاء والصياح وبعد: فالآية أعم من ذلك كله، وإن كان الاعتداء في الدعاء مرادا بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شيء، دعاء كان أو غيره، كما قال: ٢: ١٩٠ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وعلى هذا فيكون قد أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان، وهم الذين يدعون معه غيره. فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا. فإن أعظم العدوان هو الشرك، وهو وضع العبادة في غير موضعها. فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلا في قوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
ومن العدوان: أن يدعوه دعاء غير متضرع، بل دعاء مدلّ، كالمستغني بما عنده المدل على ربه به. وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته. فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد.
ومن الاعتداء: أن تعبده بما لا يشرعه، وتثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه. فإن هذا الاعتداء في دعاء الثناء والعبادة، وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب.
وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين.
أحدهما: محبوب للرب تبارك وتعالى مرضى له، وهو الدعاء تضرعا وخفية.
262
والثاني: مكروه له مبغوض مسخوط، وهو الاعتداء، فأمر بما يحبه الله وندب إليه، وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير. وهو أنه لا يحب فاعله، ومن لم يحبه الله فأي خير يناله؟.
وفي قوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ عقب قوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم.
فقسمت الآية الناس إلى قسمين: داع لله تضرعا وخفية، ومعتد بترك ذلك.

فصل


وقوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها.
قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله. فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره. قال تعالى: ٣٠: ٤١ ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ وقال عطية في الآية: ولا تعصوا في الأرض، فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم. وقال غير واحد من السلف: إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم، وتقول: اللهم ألعنهم، فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر.
وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والإتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول. فإذا أمر
263
ومن هذا قوله تعالى: ١٧: ٣٣ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا فعلل النهي في الموضعين بكون المنهي عنه فاحشة. ولو كان جهة كونه فاحشة هو النهي لكان تعليلا للشيء بنفسه، ولكان بمنزلة أن يقال: لا تقربوا الزنا فإنه يقول لكم لا تقربوه، أو فإنه منهي عنه. وهذا محال من وجهين.
أحدهما: أنه يتضمن إخلاء الكلام من الفائدة.
والثاني: أنه تعليل للنهي بالنهي!
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.
فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة، وهذا تارة. ويراد به مجموعهما. وهما متلازمان.
فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره، أو دفعه. ومن يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقا. والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر. ولهذا أنكر الله تعالى على عبد من دونه ما لا يملك ضرا ولا نفعا، وذلك كثير في القرآن. كقوله تعالى: ١٠: ١٨ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وقوله تعالى: ١٠: ١٠٦ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ وقوله تعالى: ٥: ٧٦ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وقوله تعالى: ٢١: ٦٦، ٦٧ قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا
248
يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وقوله تعالى: ٢٦: ٦٩- ٧٣ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ وقوله تعالى: ٢٥: ٣ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً وقال تعالى: ٢٥: ٥٥ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً.
فنفي سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر، القاصر والمعتدي. فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم. وهذا في القرآن كثير بيّن:
أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، فهو يدعى للنفع ودفع الضر.
ودعاء المسألة، ويدعى خوفا ورجاء، ودعاء العبادة. فعلم أن النوعين متلازمان: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة.
وعلى هذا قوله تعالى: ٢: ١٨٦ وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ يتناول نوعي الدعاء. وبكل منهما فسرت الآية.
قيل: أعطيه إذا سألني. وقيل: أثيبه إذا عبدني. والقولان متلازمان.
وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا.
فتأمله فإنه موضع عظيم النفع، قل من يفطن له.
وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدا هي من هذا القبيل.
ومثال ذلك قوله: ١٧: ٧٨ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ
249
اللَّيْلِ
فسر «الدلوك» بالزوال، وفسر بالغروب. وحكيا قولين في كتب التفسير. وليسا بقولين، بل اللفظ يتناولهما معا. فإن الدلوك هو الميل.
ودلوك الشمس ميلها ولهذا الميل مبدأ ومنتهى. فمبدؤه الزوال، ومنتهاه الغروب. فاللفظ متناول لهما بهذا الإعتبار لا بتناول المشترك لمعنييه. ولا اللفظ لحقيقته ومجازه.
ومثاله أيضا تفسير الغاسق: بالليل والقمر، وأن ذلك ليس باختلاف، بل يتناولهما لتلازمهما. فإن القمر آية الليل. ونظائره كثيرة.
ومن ذلك قوله عز وجل: ٢٥: ٧٧ قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ.
قيل: لولا دعاؤكم إياه. وقيل: دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول. وعلى الأول مضافا إلى الفاعل. وهو الأرجح من القولين. وعلى هذا: فالمراد به نوعا الدعاء والعبادة أظهر، أي ما يعبأ لكم ربي لولا أنكم تعبدونه. عبادة تستلزم مسألته. فالنوعان داخلان فيه.
ومن ذلك قوله تعالى: ٤٠: ٦٠ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فالدعاء يتضمن النوعين، وهو في دعاء العبادة أظهر. ولهذا عقبه بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ فسر الدعاء في الآية بهذا وهذا
وقد روى سفيان عن منصور عن زرّ عن نسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول على المنبر: «إن الدعاء هو العبادة». ثم قرأ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ رواه الترمذي
، وقال حديث حسن صحيح.
وأما قوله تعالى: ٢٢. ٧٣ يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وقوله: ٤: ١١٧ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وقوله: ٤١: ٤٨
250
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأصنامهم وآلهتهم فالمراد به دعاء العبادة، المتضمن دعاء المسألة. فهو في دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم قالوا ٣٩: ٣ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم هو عبادتهم لهم.
والثاني: أن الله تعالى فسّر هذا الدعاء في موضع آخر بأنه العبادة.
كقوله ٢٦: ٩٢- ٩٣ وَقِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ وقوله: ٢١: ٩٨ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وقوله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وهو كثير في القرآن. فدعاؤهم لآلهتهم وعبادتهم لها.
الثالث: أنهم إنما كانوا يعبدونها يتقربون بها إلى الله. فإذا جاءتهم الحاجات والكربات والشدائد دعوا الله وحده وتركوها. ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها، وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة.
وقوله تعالى: ٤٠: ١٤ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ هو دعاء العبادة. والمعنى: اعبدوه وحده وأخلصوا عبادته، لا تعبدوا معه غيره.
وأما قول إبراهيم الخليل عليه السلام: ١٤: ٣٩ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ فالمراد بالسمع هنا: السمع الخاص، وهو سمع الإجابة والقبول، لا السمع العام. لأنه سميع لكل مسموع.
وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ودعاء الطلب. وسمع الرب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء، وإجابته للطلب. فهو سميع لهذا ولهذا.
وأما قول زكريا عليه السلام: ١٩: ٤ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا
251
فقد قيل: إنه دعاء المسألة، والمعنى: إنك عودتني إجابتك وإسعافك، ولم تشقني بالرد والحرمان، فهو توسل إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه، كما حكي أن رجلا سأل رجلا وقال: أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا وكذا. فقال: مرحبا بمن توسل إلينا بنا، وقضى حاجته. وهذا ظاهر هنا.
ويدل عليه: أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد، وجعله وسيلة إلى ربه، فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوده: من قضاء حوائجه وإجابته إلى ما سأله.
ويدل عليه: أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد، وجعله وسيلة إلى ربه، فطلب منه أن يجاريه وأما قوله تعالى: ١٧: ١١٠ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فهذا الدعاء المشهور، وأنه دعاء المسألة، وهو سبب النزول،
قالوا: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو ربه، فيقول مرة: يا الله، ومرة: يا رحمن فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعو إلهين، فأنزل الله تعالى هذه الآية»
قال ابن عباس: «سمع المشركون النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو في سجوده: يا رحمن يا رحيم فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحدا، وهو يدعو مثنى مثنى. فأنزل الله هذه الآية قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ.
وقيل: إن الدعاء هاهنا بمعنى التسمية، كقولهم: دعوت ولدي سعيدا. وادعه بعبد الله ونحوه. والمعنى: سموا ربكم الله أو سموه الرحمن: فالدعاء هاهنا بمعنى التسمية. وهذا قول الزمخشري. والذي حمله على هذا قوله: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فإن المراد بتعدده:
معنى «أي»
وعمومها هنا تعدد الأسماء ليس إلا. والمعنى: أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى. إما الله وإما الرحمن فله الأسماء الحسنى، أي فللمسمى سبحانه الأسماء الحسنى. والضمير في «له» يعود إلى
252
المسمى. فهذا الذي أوجب له أن يحمل الدعاء في هذه الآية على التسمية.
وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المراد بالدعاء في الآية وليس هو عين المراد بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن، وهو دعاء السؤال، ودعاء الثناء ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب.
فعلى هذا المعنى: يصح أن يكون في «تدعوا» معنى تسموا.
فتأمله. والمعنى أيّا ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم. والله أعلم.
وأما قوله تعالى: ٥١: ٢٨ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال رغبة ورهبة.
والمعنى: إنا كنا من قبل نخلص له العبادة. وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم، لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره، فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض، والفوز والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب.
وكذلك قول الفتية أصحاب الكهف: ١٨: ١٤ رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أي لن نعبد غيره.
وكذلك قوله تعالى: ٣٧: ١٢٥ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ؟.
وأما قوله تعالى: ٢٨: ٦٤ وَقِيلَ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ. فَدَعَوْهُمْ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ فهذا من دعاء المسألة، يبكتهم الله عز وجل ويخزيهم يوم القيامة بإراءتهم أن شركاءهم لا يستجيبون لدعوتهم. وليس المراد اعبدوهم.
وهو نظير قوله تعالى: ١٨: ٥٢ وَيَوْمَ يَقُولُ: نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ.
253
وهذا التقرير نافع في مسألة الصلاة، وأنها: هل نقلت عن مسماها في اللغة، فصارت حقيقة شرعية منقولة استعملت في هذه العبادة مجازا، للعلاقة بينها وبين المسمي اللغوي، أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائع؟.
وعلى ما قررناه: لا حاجة إلى شيء من ذلك. فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء، إما دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داع. فما خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء، فتأمله إذا عرفت هذا. فقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً يتناول نوعي الدعاء ولكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن دعاء العبادة. ولهذا أمر بإخفائه وإسراره قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا.
ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وأن الله ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله، وقال: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا.
وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة.
أحدها: أنه أعظم إيمانا، لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع دعاءه الخفي. وليس كالذي قال: إن الله يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا وثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم. ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات، وإنما تخفض عندهم الأصوات، ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه ومن رفع صوته لديهم مقتوه، ولله المثل الأعلى.
فإذا كان ربنا يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.
254
ثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل إذا انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته، وكسرته، وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق. فقلبه سائل طالب مبتهل، ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت. وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلا.
ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.
وخامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء. فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته. فكلما خفض صوته كان أبلغ في حمده وتجريده همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى.
وسادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدا- أنه دال على قرب صاحبه من الله، وأنه لاقترابه منه، وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه. فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.
ولهذا: أثنى سبحانه وتعالى على عبده زكريا بقوله: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا فكلما استحضر القلب قرب الله تعالى منه، وأنه أقرب إليه من كل قريب، وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به، بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسا له يسمع خفي كلامه فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه ولله المثل الأعلى سبحانه. وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح. لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر
فقال: «أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وقال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
وقد جاء أن سبب نزولها: أن الصحابة قالوا: «يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل: وَإِذا سَأَلَكَ
255
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء، لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا، فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء، وإنما يسأل مسألة القريب المناجى، لا مسألة البعيد المنادى.
وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص، ليس قربا عاما من كل أحد، فهو قريب من داعيه وقريب من عابده،
و «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» «١»
وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه، بل هو قرب خاص من الداعي والعابد، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم راويا عن ربه تبارك وتعالى: «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا»
فهذا قربه من عابده. وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ.
وقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب. وأما قربه تبارك وتعالى من محبه فنوع آخر وبناء آخر، وشأن آخر، كما قد ذكرناه في كتاب التحفة المكية. على أن العبارة تنبو عنه ولا تحصل في القلب حقيقة معناه أبدا، لكن بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب. وإياك ثم إياك أن تعبر عنه بغير هذه العبارة النبوية، أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتزل بك قدم بعد ثبوتها وقد ضعف تمييز خلائق في هذا المقام وساء تعبيرهم فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح، وقابلهم من غلظ حجابه، فأنكر محبة العبد لربه جملة وقربه منه وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوق فهو عنده المحبوب القريب ليس إلا. وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء وهؤلاء في كتاب التحفة أكثر من مائة طريق.
والمقصود هاهنا: الكلام على هذه الآية.
(١) أخرجه الترمذي برقم ٣٥٧٩.
256
وسابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكلّ لسانه وتضعف بعض قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر رافعا صوته، فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته.
وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات. فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل له هناك تشويش ولا غيره، وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية الخبيثة من الجن والإنس، فشوشت عليه ولا بد، ومانعته وعارضته ولو لم يكن من ذلك إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته فيضعف أثر الدعاء لكفى. ومن له تجربة يعرف هذا. فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة.
وتاسعها: أن أعظم النعم هو الإقبال على الله، والتعبد له، والانقطاع إليه والتبتل إليه. ولكل نعمة حاسد على قدرها، دقت أو جلت، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة. فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له. وقد قال يعقوب ليوسف: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار، فأصبح يقلب كفيه. ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدا ويتكتمون به غاية التكتم كما أنشد بعضهم في ذلك:
من سارروه فأبدى السر مجتهدا لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأبعدوه فلم يظفر بقربهم وأبدلوه مكان الإنس إيحاشا
لا يأمنون مذيعا بعض سرهم حاشا ودادهم من ذلكم حاشا
والقوم أعظم شيء كتمانا لأحوالهم مع الله وما وهب الله لهم من محبته والأنس به وجمعية القلب عليه، ولا سيما للمبتدي والسالك. فإذا تمكن
257
بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة. فإن الله أصلح الأرض برسوله ودينه، وبالأمر بتوحيده، ونهى عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله.
ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله.
ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين- وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي حق غيره عموما وخصوصا. ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فصل


[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٦]
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
إنما كرر الأمر بالدعاء لما ذكره معه من الخوف والطمع. فأمر أولا بدعائه تضرعا وخفية، ثم أمر بأن يكون الدعاء أيضا خوفا وطمعا، وفصل بين الجملتين بجملتين إحداهما خبرية متضمنة للنهي، وهي قوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ والثانية طلبية، وهي قوله: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها والجملتان مقررتان مقويتان للجملة الأولى، مؤكدتان لمضمونها. ثم لما تم تقريرها وبيان ما يضادها ويناقضها أمر بدعائه خوفا وطمعا، ثم قرر ذلك وأكد مضمونه بجملة خبرية، وهي قوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فتعلق هذه الجملة بقوله: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً كتعلق قوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ بقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً.
ولما كان قوله تعالى: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً مشتملا على جميع مقامات الإيمان والإحسان، وهي الحب والخوف والرجاء، عقبها بقوله:
264
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي إنما ينال الرحمة من دعاه خوفا وطمعا، فهو المحسن والرحمة قريب منه. لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة.
لما كان دعاء التضرع والخفية يقابله الاعتداء بعدم التضرع والخفية عقب ذلك بقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وانتصاب قوله «تضرعا، وخفية، وخوفا، وطمعا» قيل: هو على الحال أي ادعوه متضرعين مخفين خائفين طامعين، وهذا هو الذي رجحه السهيلي وغيره.
وقيل: هو نصب على المفعول له. وهذا قول كثير من النحاة.
وقيل: هو نصب على المصدر. وفيه على هذا تقديران.
أحدهما: أنه منصوب بفعل مقدر من لفظ المصدر، والمعنى تضرعوا إليه تضرعا وأخفوا خفية.
الثاني: أنه منصوب بالفعل المذكور لأنه في معنى المصدر، فإن الداعي متضرع في حصول مطلوبه خائف من فواته. فكأنه قال: تضرعوا تضرعا.
والصحيح في هذا: أنه منصوب على الحال، والمعنى إليه، فإن المعنى ادعوا ربكم متضرعين إليه خائفين طامعين. ويكون وقوع المصدر موقع الإسم على حد قوله: ٢: ١٧٧ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وقولهم:
رجل عدل، ورجل صوم. قال الشاعر فإنما هي إقبال وإدبار وهو أحسن من أن يقال: ادعوه متضرعين خائفين وأبلغ. والذي حسنه أن المأمور به هنا شيئان: الدعاء الموصوف المقيد بصفة معينة وهي صفة التضرع والخوف والطمع. فالمقصود تقييد المأمور به بتلك الصفة، وتقييد الموصوف الذي هو صاحبها بها. فأتى بالحال على لفظ المصدر لصلاحيته لأن يكون صفة
265
للفاعل وصفة للفعل المأمور به.
فتأمل هذه النكتة فإنك إذا قلت: اذكر ربك تضرعا فإنك تريد: اذكره متضرعا إليه، واذكره ذكر تضرع، فأنت مريد للأمرين معا. ولذلك إذا قلت: ادعه طمعا أي ادعه دعاء طمع وادعه طامعا في فضله، وكذلك إذا قلت: ادعه رغبة ورهبة، كقوله تعالى: ٢١: ٩٠ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً كقوله تعالى: يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وادعه دعاء رغبة ورهبة.
فتأمل هذا الباب تجده كذلك، فأتى فيه المصدر الدال على وصف المأمور به بتلك الصفة، وعلى تقييد الفاعل بها تقييد صاحب الحال بالحال.
ومما يدل على هذا: أنك تجد مثل هذا صالحا وقوعه جوابا لكيف.
فإذا قيل: كيف ادعوه؟ قيل: تضرعا وخفية، وتجد اقتضاء «كيف» لهذا أشد من اقتضاء «لم» ولو كان مفعولا له لكان جوابا للم، ولا تحسن هنا.
ألا ترى أن المعنى ليس عليه. فإنه يصح أن يقال لم أدعوه؟ فيقول تضرعا وخفية. وهذا واضح، ولا هو انتصاب على المصدر المبين للنوع الذي لا يتقيد به الفاعل لما ذكرناه من صلاحيته جوابا لكيف.
وبالجملة فالمصدرية في هذا الباب لا تنافي الحال، بل الإتيان بالحال هاهنا بلفظ المصدر يفيد ما يفيده المصدر مع زيادة فائدة الحال، فهو أتم معنى ولا تنافي بينهما. والله أعلم.

فصل


قول الله تعالى: ٧: ٥٦ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم، ومطلوبكم أنتم من الله هو رحمته القريبة من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه خوفا وطمعا، فقرب مطلوبكم منكم وهو الرحمة بحسب
266
أدائكم لمطلوبه منكم وهو الإحسان الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم.
فإن الله هو الغني الحميد، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله ودلالة بمفهومه فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بتعليله وإيمائه على أن هذا القرب مستحق بالإحسان فهو السبب في قرب الرحمة منهم ودلالته بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين. فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة، وإنما أختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان لأن الجزاء من جنس العمل فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته. وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة بعدا ببعد وقربا بقرب، فمن تقرب بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته. والله سبحانه يحب المحسنين ويبغض من ليس من المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه. والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه. فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابة وحياء ومحبة وخشية فهذا هو مقام الإحسان كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وقد سأله جبريل عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه»
وإذا كان هذا هو الإحسان فرحمة الله قريب من صاحبه، فإن الله إنما يرحم أهل توحيده المؤمنين به وإنما كتب رحمته: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ والذين يتبعون رسوله فهؤلاء هم أهل الرحمة، كما أنهم هم المحسنون، وكما أحسنوا جوزوا بالإحسان. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه؟ قال بان عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا الجنة؟.
وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن
267
مالك قال: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ، ثم قال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة»
. فصل
وأما الإخبار عن الرحمة- وهي مؤنثة بالتاء- بقوله «قريب» وهو مذكر ففيه اثنا عشر مسلكا نذكرها ونبين ما فيها من صحيح وسقيم ومقارب.
المسلك الأول: أن فعيلا على ضربين: أحدهما يأتي بمعنى فاعل كقدير وسميع وعليم. والثاني: يأتي بمعنى مفعول كقتيل وجريح، وكف خضيب. وطرف كحيل وشعر دهين، كله بمعنى مفعول. فإذا أتى بمعنى فاعل فقياسه أن يجري مجراه في إلحاق التاء به مع المؤنث دون المذكر كجميل وجميلة وشريف وشريفة وصبيح وصبيحة وصبي وصبية ومليح ومليحة وطويل وطويلة ونحوه. وإذا أتى بمعنى مفعول فلا يخلو إما أن يصحب الموصوف كرجل قتيل وامرأة قتيل أو يفرد عنه. فإن صحب الموصوف استوى فيه المذكر والمؤنث كرجل قتيل وامرأة قتيل، وإن لم يصحب الموصوف فإنه يؤنث إذا جرى على المؤنث نحو قتيلة بني فلان. ومنه قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ- إلى قوله- وَالنَّطِيحَةُ هذا حكم فعيل، وفعول قريب منه لفظا ومعنى، فإنهما مشتبهان في الوزن والدلالة على المبالغة وورودها بمعنى فاعل ومفعول.
ولما كان فعيل أخف استغنى به عن فاعل في المضاعف كجليل وعزيز وذليل كراهية منهم لثقل التضعيف إذا قالوا: جالل وعازز وذالل، فأتوا بفعيل مفصولا فيه بين المثلين بالياء الساكنة، ولم يأتوا في هذا بفعول لأن فعيلا أخف منه ولخفته أيضا اطرد بناؤه من فعل كشريف وظريف وجميل ونبيل وليس لفعول بناء يطرد منه ولخفته أيضا كان في أسماء الله تعالى أكثر من
268
فعول. فإن الرحيم والقدير والحسيب والجليل والرقيب ونظائره أكثر من ألفاظ الرؤوف والغفور والشكور والصبور والودود والعفو، ولا يعرف إلا هذه الألفاظ الستة.
وإذا ثبت التشابه بين فعيل وفعول فيما ذكرنا وكانوا قد خصوا فعولا الذي بمعنى فاعل بتجريده من التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث وشركوا بينهما في لفظ المذكر فقالوا: رجل صبور وشكور وامرأة صبور وشكور ونظائرهما وأما عدو وعدوة فشاذ. فإن قصد بالتاء المبالغة لحقت المذكر والمؤنث كرجل ملولة وفروقة وامرأة كذلك، وإن كان فعول في معنى مفعول لحقته التاء في المؤنث كحلوبة وركوبة.
فإذا تقرر ذلك فقريب في الآية هو فعيل بمعنى فاعل وليس المراد أنه بمعنى قارب بل بمعنى اسم الفاعل العام. فكان حقه أن يكون بالتاء ولكنهم أجروه مجرى فعيل بمعنى مفعول فلم يلحقوه التاء كما جرى فعيل بمعنى مفعول مجرى فعيل بمعنى فاعل في إلحاقة التاء كما قالوا خصلة حميدة وفعلة ذميمة بمعنى محمودة ومذمومة فحملوا على جميلة وشريفة في لحاق التاء فحملوا قريبا على امرأة قتيل وكف خضيب وعين كحيل في عدم إلحاق التاء حملا لكل من البابين على الآخر.
ونظيره قوله تعالى: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فحمل رميما وهي بمعنى فاعل على امرأة قتيل وبابه فهذا المسلك هو من أقوى مسالك النجاة وعليه يعتمدون وقد اعترض عليه بثلاثة اعتراضات.
أحدها: أن ذلك يستلزم التسوية بين اللازم والمعتدي فإن فعيلا بمعنى مفعول بابه الفعل المتعدي وفعيلا بمعنى فاعل بابه الفعل اللازم لأنه غالب ما يأتي من فعل المضموم العين فلو جرى على أحدهما حكم الآخر لكن ذلك تسوية بين اللازم والمتعدي وهو ممتنع.
269
الاعتراض الثاني: أن هذا إن ادعى على وجه العموم فباطل، وإن ادعى على سبيل الخصوص فما الضابط وما الفرق بين ما يسوغ فيه هذا الاستعمال وما لا يسوغ؟.
الاعتراض الثالث: أن العرب قد نطقت في فعيل بالتاء وهو بمعنى مفعول وجردته من التاء وهو بمعنى فاعل قال جرير يرثي خالته:
نعم القرين وكنت علق مضنة وارى بنعق بلية الأحجار
فجرد القرين من التاء وهو بمعنى فاعل. وقال:
فسقاك حيث حللت غير فقيدة هزج الرواح وديمة لا تقلع
فقرن فقيده بالتاء وهو فعيل بمعنى مفعول أي غير مفقودة. وقال الفرزدق:
فداويته عامين وهي قريبة أراها وتدنو لي مرارا وأرشف
ويقولون: امرأة فتين وسريح وهريت فجردوه عن التاء، وهو بمعنى فاعل وقالوا: امرأة فروك وهلوك ورشوف وأنوف ورضوف فجردوه وهو بمعنى فاعل كصبور. وقالوا امرأة عروب فجردوه أيضا ثم قالوا امرأة ملولة وفروقة فقرنوه بالتاء وهو بمعنى فاعل أيضا. ودعوى أن التاء هاهنا للمبالغة لا دليل عليها فقد رأيت اشتراك فعول وفعيل في الاقتران بالتاء والتجرد منها. فدعوى أصالة المجرد منهما وشذوذ المقرون مقابلة بمثلها ومع مقابلها قياس اللغة في اقتران المؤنث وتجريد المذكر. وأما ما استشهد تم به من قوله تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فهو على وفق قياس العربية، فإن العظام جمع عظم وهو مذكر ولكن جمعه جمع تكسير وجمع التكسير جوز أن يراعى فيه تأنيث الجماعة وباعتباره قال: «وهي» ولم يقل وهو. ويراعى فيه معنى الواحد وباعتباره قال «رميم» كما يقال: عظم «رميم» مع أن رميما يطلق على المذكر مفردا وجمعا. قال جرير:
270
فهذا الاعتراض على هذا المسلك.

فصل


المسلك الثاني: أن قريبا في الآية من باب تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى كقول الشاعر:
أري رجلا منهم أسيفا كأنما... يضم إلى كشحيه كفا مخضبا
فكف مؤنث ولكن تأويله بمعنى عضو وطرف فذكر صفته فكذلك تؤوّل الرحمة وهي مؤنثة بالإحسان فيذكر خبرها.
قالوا وتأويل الرحمة بالإحسان أولى من تأويل الكف بعضو لوجهين أحدهما: أن الرحمة معنى قائم بالراحم والإحسان هو بر المرحوم ومعنى القرب في البر من الحسنين أظهر منه في الرحمة.
الثاني: أن ملاحظة الإحسان بالرحمة الموصوفة بالقرب من المحسنين هو مقابلة للإحسان الذي صدر منهم باعتبار المقابلة ازداد المعنى قوة واللفظ جزالة حتى كأنه قال إن إحسان الله قريب من أهل الإحسان، كما قال تعالى: ٥٥: ٦٠ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فذكر قريبا ليفهم منه أنه صفة المذكر وهو الإحسان فيفهم المقابلة المطلوبة.
قالوا: ومن تأويل بمذكر ما أنشده الفراء:
وقائع في مضر تسعة... وفي وائل كانت العاشرة
فتأول الوقائع وهو مؤنثة بأيام الحرب المذكرة فأنث العدد الجاري عليها فقال «تسعة» ولولا هذا التأويل لقال تسع لأن الوقائع مؤنثة.
قالوا: وإذا جاز تأويل المذكر بمؤنث في قول من قال: جاءته كتابي أي صحيفتي. وفي قول الشاعر:
يا أيها الراكب المربى مطيته... سائل بني أسد ما هذه الصوت
271
أي ما هذه الصيحة مع أنه حمل أصل على فرع فلأن يجوز تأويل مؤنث بمذكر لكونه حمل فرع على أصل أولى وأحرى وهذا وجه وجيه.
وقد اعترض عليه باعتراضين فاسدين غير لازمين.
أحدهما: أنه لو جاز تأويل المؤنث بمذكر يوافقه وعكسه لجاز أن يقال: كلمتني زيد، وأكرمتني عمرو، وكلمني هند وأكرمني زينب، تأويلا لزيد وعمرو بالنفس والجثة وتأويلا لهند وزينب بالشخص والشبح. وهذا باطل، وهذا الاعتراض غير لازم، فإنهم لم يدّعوا إطراد ذلك وإنما ادّعوا أنه مما يسوغ أن يستعمل، وفرق بين ما يسوغ في بعض الأحيان وبين ما يطرد، كرفع الفاعل ونصب المفعول وهم لم يدعوا أنه من القسم الثاني.
ثم إن هذا الاعتراض مردود بكل ما يسوغ استعماله بمسوغ وهو غير مطرد وهو أكثر من أن يذكر هاهنا ولا ينكره نحوي أصلا. وهل هذا إلا اعتراض على قواعد العربية بالتشكيكات والمناقضات؟ وأهل العربية لا يلتفتون إلى شيء من ذلك. فلو أنهم قالوا يجوز تأويل كل مؤنث بمذكر يوافقه وبالعكس لصح النقض وإنما قالوا يسوغ أحيانا تأويل أحدهما بالآخر لفائدة يتضمنها التأويل كالفائدة التي ذكرناها من تأويل الرحمة بالإحسان.
الاعتراض الثاني: أن حمل الرحمة على الإحسان إما أن يكون حملا على حقيقته أو مجازه وهما ممتنعان. فإن الرحمة والإحسان متغايران لا يلزم من أحدهما وجود الآخر، لأن الرحمة قد توجد وافرة في حق من لا يتمكن من الإحسان كالوالدة العاجزة ونحوها. وقد يوجد الإحسان ممن لا رحمة في طباعه كالملك القاسي فإنه قد يحسن إلى بعض أعدائه وغيرهم لمصلحة ملكه مع أنه لا رحمة عنده. وإذا تبين انفكاك أحدهما عن الآخر لم يجز إطلاقه عليه لا حقيقة ولا مجازا. أما الحقيقة فظاهر. وأما المجاز: فإن شرطه خطور المعنى المجازي بالبال ليصح انتقال الذهن إليه فإذا كان منفكا عن الحقيقة لم يخطر بالذهن.
272
وهذا الاعتراض أفسد من الذي قبله. وهو من باب التعنت والمناكدة.
وأين هذا من قول أكثر المتكلمين- ولعل هذا المعترض منهم-: أنه لا معنى للرحمة غائيّا إلا الإحسان المحض. وأما الرقة الحنان التي في الشاهد فلا يوصف الله بها وإنما رحمته مجرد إحسانه، ومع أنا لا نرتضي هذا القول بل نثبت لله تعالى الرحمة حقيقة كما أثبتها لنفسه منزهة مبرأة عن خواص صفات المخلوقين كما نقوله في سائر صفاته من إرادته وسمعه وبصره وعلمه وحياته وسائر صفات كماله- فلم نذكره إلا لنبين فساد اعتراض هذا المعترض على قول أئمته ومن قال بقول المتكلمين.
ثم نقول: الرحمة لا تنفك عن إرادة الإحسان فهي مستلزمة للإحسان أو إرادته، استلزام الخاص للعام، فكما يستحيل وجود الخاص بدون العام فكذلك الرحمة بدون الإحسان أو إرادته يستحيل وجودها.
وأما قضية الأم العاجزة: فإنها وإن لم تكن تقدر على الإحسان بالفعل فهي محسنة بالإرادة فرحمتها لا تنفك عن إرادتها التامة للإحسان التي يقترن بها مقدورها إما بدعاء وإما بإيثار بما تقدر عليه ونحو ذلك، فتخلف بعض الإحسان الذي لا تقدر عليه عن رحمتها لا يخرج رحمتها عن استلزامها للإحسان المقدور وهذا واضح وأما الملك القاسي إذا أحسن فإن إحسانه لا يكون رحمة فهذا لأن الإحسان أعم من الرحمة والأعم لا يستلزم الأخص، وهم لم يدعوا ذلك فلا يلزمهم.
وأيضا فإن الإحسان قد يقال إنه يستلزم الرحمة وما فعله الملك المذكور ليس بإحسان في الحقيقة، وإن كانت صورته صورة الإحسان.
وبالجملة: فالعنت والمناكدة على هذا الاعتراض أبين من أن يتكلف معه رده وإبطاله.
273

فصل


المسلك الثالث: إن «قريب» في الآية من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف، فكأنه قال: إن مكان الرحمة قريب من المحسنين، ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره. ومن ذلك قول حسان:
آل المهلب جذ الله دابرهم أمسوا رميما فلا أصل ولا طرف
يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل
فقال: «يصفق» بالياء و «بردى» هي مؤنث لأنه أراد ماء بردى. ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد أخذ بيديه ذهبا وحريرا فقال: «هذان حرام على ذكور أمتي»
فقال: «حرام» بالإفراد والمخبر عنه مثنى، كأنه قال: استعمال هذين حرام. وهذا المسلك ضعيف جدا لأن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لا يسوغ ادعاؤه مطلقا وإلا لا لتلبس الخطاب وفسد التفاهم وتعطلت الأدلة. إذ ما من لفظ أمر أو نهي أو خبر متضمن مأمورا به ومنهيا عنه ومخبرا إلا ويمكن على هذا أن يقدر له لفظ مضاف، يخرجه عن تعلق الأمر والنهي والخبرية، فيقول الملحد في قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي معرفة حج البيت وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ أي معرفة الصيام. وإذا فتح هذا الباب فسد التخاطب وتعطلت الأدلة، وإنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة، كما إذا قيل: أكلت الشاة فإن المفهوم من ذلك أكلت لحمها فحذف المضاف لا يلبس، وكذلك إذا قلت أكل فلان كد فلان إذا أكل ماله، فإن المفهوم أكل ثمرة كده فحذف المضاف هنا لا يلبس ونظائره كثيرة.
وليس منه وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به فإن القرية اسم للسكان في مسكن مجتمع فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين كالكأس لما فيه من الشراب، والذنوب للدلو الملآن ماء والخوان للمائدة إذا كان عليها طعام ونظائره.
274
ثم إنهم لكثرة استعمالهم لهذه اللفظة ودورانها في كلامهم أطلقوها على السكان تارة وعلى المسكن بحسب سياق الكلام وبساطه، وإنما يفعلون هذا حيث لا لبس فيه ولا إضمار في ذلك ولا حذف.
فتأمل هذا الموضع الذي خفي على القوم مع وضوحه.
وإذا عرفت هذا فقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ليس في اللفظ ما يدل على إرادة موضع ولا مكان أصلا فلا يجوز دعوى إضماره بل دعوى إضماره خطأ قطعا. لأنه يتضمن الأخبار بأن المتكلم أراد المحذوف ولم ينصب على إرادته دليلا لا صريحا ولا لزومها. فدعوى المدعي أنه أراده: دعوى باطلة.
وأما قوله «بردى يصفق» فليس أيضا من باب حذف المضاف بل أراد ببردى النهر، وهو مذكر، فوصفه بصفة المذكر فقال «يصفق» فلم يذكر بناء على خذف المضاف، وإنما ذكر بناء على أن بردى المراد به النهر.
فإن قلت: فلا بد من حذف مضاف لأنهم إنما يسقون ماء بردى لأنفس النهر.
قلت: هذا إن كان مراد الشاعر فلم يلزم منه صحة ما ادعاه من أنه ذكر «يصفق» باعتبار الماء المحذوف، فإن تذكيره إنما يكون باعتبار إرادة النهر وهو مذكر، فلا يدل على ما ادعوه.
وأما
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «هذان حرام»
ففي إفراد الخبر سر بديع جدا وهو التنبيه والإشارة على أن كل واحد منهما بمفرده موصوف بأنه حرام، فلو ثنّى الخبر لم يكن فيه تنبيه على هذا المعنى. فلهذا أفرد الخبر، فكأنه قال: كل واحد من هذين حرام فدل إفراد الخبر على إرادة الأخبار عن كل واحد واحد بمفرده.
فتأمله فإنه من بديع اللغة. وقد تقدم بيانه في هذا التعليق في مسألة:
275
«كلا وكلتا» وأن قولهم: كلاهما قائم بالإفراد لا يدل على أن «كلا» مفرد كما ذهب إليه البصريون بل هو مثنى حقيقة، وإنما أفردوا الخبر للدلالة على أن الأخبار عن كل واحد منهما بالقيام. وقد قررنا ذلك بما فيه كفايية.

فصل


المسلك الرابع: أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، كأنه قال: إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين، أو لطف قريب، أو بر قريب ونحو ذلك وحذف الموصوف كثير. فمنه قول الشاعر:
قامت تبكيه على قبره... من لي بعدك يا عامر
تركتني في الدار ذا غربة... قد ذل من ليس له ناصر
المعنى تركتني شخصا أو إنسانا ذا غربة. ولولا ذلك لقالت: تركتني غربة. ومنه قول آخر:
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني... فراقك لم أبخل وأنت صديق
أراد وأنت شخص أو إنسان صديق.
وعلى هذا المسلك حمل سيبويه قولهم للمرأة: حائض وطامث وطالق. فقال: كأنهم قالوا: شيء حائض وشيء طامث، وهذا المسلك أيضا ضعيف لثلاثة أوجه.
أحدها: أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه إنما يحسن بشرطين أن تكون الصفة خاصة يعلم ثبوتها لذلك الموصوف بعينه لا لغيره.
الثاني: أن تكون الصفة قد غلب استعمالها مفردة على الموصوف كالبر والفاجر والعالم والجاهل والمتقي والرسول والنبي ونحو ذلك مما غلب استعمال الصفة فيه مجردة عن الموصوف فلا يكاد يجيء ذكر الموصوف معها كقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
276
وقوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وقوله: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وهو كثير جدا في القرآن وكلام العرب. وبدون ذلك لا يحسن الاقتصار على الصفة فلا يحسن أن تقول: جاءني طويل ورأيت جميلا أو قبيحا، وأنت تريد جاءني رجل طويل ورأيت رجلا جميلا أو قبيحا، ولا تقول سكنت في قريب، تريد في مكان قريب مع دلالة السكنى على المكان.
الثاني: أن الشيء أعم المعلومات فإنه يشمل الواجب والممكن، فليس في تقديره ولا في اللفظ به زيادة فائدة يكون الكلام بها فصيحا بليغا فضلا عن أن يكون بها في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، فأي فصاحة وبلاغة في قول القائل في حائض وطامث وطالق: شيء حائض وشيء طامث وشيء طالق؟ وهو لو صرح بهذا لاستهجنه السامع. فكيف يقدر في الكلام معه أنه لا يتضمن فائدة أصلا؟ إذ كونه شيئا أمر معلوم عام لا يدل على مدح ولا ذم ولا كمال ولا نقصان.
وينبغي أن يتفطن هاهنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل بمجرد الاحتمال النحوي الاعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما، فإن هذا المقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره، وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر، فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن، مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ: وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً بالجر: إنه قسم. ومثل قول بعضهم في قوله تعالى:
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به، ومثل قول بعضهم في قوله تعالى:
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
277
مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ
أن المقيمين مجرور بواو القسم. ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير. بل القرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفه والمعهود من معانيه فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم، فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانيه أجل المعاني وأعظمها وأفخمها، فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم.
فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي.
فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه. وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله.
الوجه الثالث: أن طالقا وحائضا وطامثا إنما حذفت تاؤه لعدم الحاجة إليها فإن التاء إنما دخلت للفرق بين المذكر والمؤنث في محل اللبس، فإذا كانت الصفة خاصة بالمؤنث فلا لبس، فلا حاجة إلى التاء هذا هو الصواب.
في ذلك وهو المذهب الكوفي.
فإن قلت: هذا خلاف مذهب سيبويه.
قلت: فكان ماذا؟ وهل يرتضي محصل برد موجب الدليل الصحيح لكونه خلاف قول عالم معين؟ هذه طريقة الخفافيش. فأما أهل البصائر فإنهم لا يردون الدليل وموجبه بقول معين أبدا، وقليل ما هم. ولا ريب أن أبا بشر رحمه الله ضرب في هذا العلم بالقدح المعلى وأحرز من قصبات سبقه واستولى من أمده على ما لم يستول عليه غيره فهو المصلّى في هذا المضمار، ولكن لا يوجب ذلك أن يعتقد أنه أحاط بجميع كلام العرب، وأنه لا حق إلا ما قاله. وكم لسيبويه من نص قد خالفه جمهور أصحابه فيه
278
والمبرزون منهم؟ ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال الكلام به.
ولا تنس قوله في باب الصفة المشبهة: مررت برجل حسن وجهه بإضافة حسن إلى الوجه والوجه إلى الضمير ومخالفة جميع البصريين والكوفيين في ذلك. فسيبويه رحمه الله ممن يؤخذ من قوله ويترك وإما أن نعتقد صحة قوله في كل شيء فكلا.
وسنفرد إن شاء الله كتابا للحكومة بين البصريين والكوفيين فيما اختلفوا فيه وبيان الراجح من ذلك وبالله التوفيق والتأييد.
فإن قلت: يكفي في رد ما اخترتموه في طامث وحائض وطالق من المذهب الكوفي قوله تعالى: ٢٢: ٢ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
فهذا وصف يختص به الإناث وقد جاء بالتاء قلت: ليس في هذا ولله الحمد رد لهذا المذهب ولا إبطال له، فإن دخول التاء هاهنا يتضمن فائدة لا تحصل بدونها فتعين الإتيان بها، وهي أن المراد بالمرضعة فاعلة الرضاع، فالمراد الفعل لا مجرد الوصف ولا أريد الوصف المجرد بكونها من أهل الإرضاع لقيل: مرضع كحائض وطامث ألا ترى إلى
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار»
فإن المراد به الموصوفة بكونها من أهل الحيض لا من يجري دمها فالحائض والمرضع وصف عام يقال على من لها ذلك وصفا وإن لم يكن قائما بها، ويقال على من قام بها بالفعل أدخلت التاء هاهنا إيذانا بأن المراد من تفعل الرضاع فإنها تذهل عما ترضعه لشدة هول زلزلة الساعة.
وأكد هذا المعنى بقوله: عَمَّا أَرْضَعَتْ
فعلم أن المراد المرضعة التي ترضع بالفعل لا بالقوة والتهيؤ. وترجيح هذا المذهب له موضع غير هذا.

فصل


المسلك الخامس: أن هذا من باب اكتساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني. كقول الشاعر:
279
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
وقال الآخر:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
وقال الآخر:
بغي النفوس معيدة نعماءهما نقما، وإن عمهت وطال غرورها
فأنث في الأول «السور» المضاف إلى المدينة، وفي الثاني «المر» المضاف إلى الرياح وفي الثالث «البغي» المضاف إلى النفوس لتأنيث المضاف إليه مع أن التذكير أصل والتأنيث فرع فحمل الأصل على الفرع فلأن يجوز تذكير المؤنث لإضافته إلى غير مؤنث أولى، لأنه حمل للفرع على الأصل، ومن الأول أيضا قول الشاعر:
وتشرق بالأمر الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
فأنث الصدر لإضافته إلى القناة. وأنشدني بعض أصحابنا لأبي محمد بن حزم في هذا المعنى بإسناد لا يحضرني:
تجنب صديقا مثل ما واحذر الذي تواه كعمرو بين عرب وأعجم
فإن صديق السوء يردى وشاهدي كما شرقت صدر القناة من الدم
ومنه قول النابغة:
حتى استغثن بأهل الملح ضاحية يركضن قد قلقت عقد الأطانيب
ومنه قول لبيد:
فمضى وقدمها، وكانت عادة منه إذا هي عرّدت أقدامها
وهذا المسلك- وإن كان قد ارتضاه غير واحد من الفضلاء- فليس بقوي، لأنه إنما يعرف مجيئه في الشعر، ولا يعرف في الكلام الفصيح منه إلا النادر، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه. والذي قواه هاهنا شدة اتصال
280
المضاف بالمضاف إليه، وكونه جزؤه حقيقة، فكأنه قال: ذهبت إصبع وإصبعان من أصابعه. وحمل القرآن على المكثور الذي خلافه أفصح منه:
ليس بسهل.

فصل


المسلك السادس: أن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر، لكونه تبعا له ومعنى من معانيه. فإذا ذكر أغنى عن ذكره لأنه يفهم منه.
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: ٢٦: ٤ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ فاستغني عن خبر الأعناق بالخبر عن أصحابها.
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: ٩: ٦٢ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ المعنى: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله إذ إرضاؤه هو إرضاء رسوله فلم يحتج أن يقول: يرضوهما.
فعلى هذا يكون الأصل في الآية: إن الله قريب من المحسنين. وأن رحمة الله قريبة من المحسنين فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى.
وهذا المسلك مسلك حسن إذا كسى تعبيرا أحسن من هذا. وهو مسلك لطيف المنزع دقيق على الافهام. وهو من أسرار القرآن.
والذي ينبغي أن يعبر عنه به: أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه لأن الصفة لا تفارق موصوفها. فإذا كانت قريبة من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه، بل قرب رحمته تبع لقربه هو تبارك وتعالى من المحسنين.
281
وقد تقدم في أول الآية أن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته ومن أهل سؤاله بإجابته، وذكرنا شواهد ذلك، وأن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده كما أن العبد قرب من ربه الإحسان، وأن من تقرب منه شبرا تقرب الله منه ذراعا ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا. فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم، قربه يستلزم قرب رحمته. ففي حذف التاء هاهنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة، وأن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين قربه وقرب رحمته. ولو قال إن رحمة الله قريبة من المحسنين لم يدل على قربه تعالى منهم، لأن قربه تعالى أخص من قرب رحمته والأعم لا يستلزم الأخص بخلاف قربه، فإنه لما كان أخص استلزم الأعم وهو قرب رحمته فلا تستهن بهذا المسلك. فإن له شأنا. وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب. وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى ولا ألم به. وإنما أراد أن الإخبار عن قرب الله تعالى من المحسنين كاف عن الاخبار عن قرب رحمته منهم.
فهو مسلك سابع: في الآية وهو المختار، وهو من أليق ما قيل فيها.
وإن شئت قلت قربه تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضا قريب منهم، وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما، فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ لها وأشرفه وأجله على الإطلاق، وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد وهو قربه تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها فكان في العدول عن قريبة إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا غلبت عليه من شقاوته ولا قوة إلا بالله.
282

فصل


المسلك الثامن: أن الرحمة مصدر والمصادر كما لا تثنى ولا تجمع فحقها أن لا تؤنث وهذا المسلك ضعيف جدا فإن الله سبحانه حيث ذكر الرحمة أجرى عليها التأنيث كقوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وقوله فيما
حكى عنه رسوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن رحمتي غلبت أو سبقت غضبي»
ولو كان حذف التاء من الرحمة لكونها مصدرا والمصادر لاحظ للتأنيث فيها لم يعد عليها الضمير إلا مذكرا وكذلك ما كان من المصادر بالتاء كالقدرة والإرادة والحكمة والهمة ونظائرها وفي بطلان ذلك دليل على بطلان هذا المسلك.

فصل


المسلك التاسع: أن القريب يراد به شيئان أحدهما: النسب والقرابة فهذا بالتاء تقول فلانة قريبة لي والثاني قرب المكان وهذا بلا تاء تقول جلست فلانة قريبا مني ولا تقول قريبة مني وهذا مسلك الفراء رحمه الله وجماعة وهو أيضا ضعيف فإن هذا إنما هو إذا كان لفظ القريب ظرفا فإنه يذكر كما قال تقول جلست المرأة مني قريبا. فأما إذا كان اسما محضا فلا.

فصل


المسلك العاشر: أن تأنيث الرحمة لما كان غير حقيقي ساغ فيه حذف التاء كما تقول طلع الشمس وطلعت وهذا المسلك أيضا فاسد فإن هذا إنما يكون إذا أسند الفعل إلى ظاهر المؤنث فأما إذا أسند إلى ضميره فلا بد من التاء كقولك الشمس طلعت وتقول الشمس طالعة ولا تقول طالع لأن في الصفة ضميرها فهي بمعنى الفعل في ذلك سواء.
283

فصل


المسلك الحادي عشر: ان قريبا مصدر لا وصف وهو بمنزلة النقيض فجرد من التاء، لأنك إذا أخبرت عن المؤنث بالمصدر لم تلحقه التاء.
ولهذا تقول: امرأة عدل، ولا تقول: عدلة، وامرأة صوم وصلاة وصدق وبر ونظائره.
وهذا المسلك من أفسد ما قيل في: «قريب» فإنه لا يعرف استعماله مصدرا أبدا، وإنما هو وصف والمصدر هو «قرب» لا «قريب».

فصل


المسلك الثاني عشر: أن فعيلا وفعولا مطلقا يستوي فيهما المذكر والمؤنث حقيقيا كان أو غير حقيقي، كما قال امرؤ القيس:
برهرهة رودة رخصة... كخرعوبة البانة المنفطر
قطيع القيام، فتور الكلام... تفتر عن ذي عزوب خصر
وقال أيضا:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
وقال جرير:
أتنفعك الحياة وأمّ عمرو... قريب لا تزور ولا تزار؟
وقال جرير أيضا:
كأن لم نحارب يابثين لو أنها... تكشف غماها وأنت صديق
وقال أيضا:
دعون الهوى ثم ارتهن قلوبنا... بأسهم أعداء، وهن صديق
قالوا: وشواهد ذلك كثيرة.
284
وفي هذا المسلك غنية عن تلك التعسفات والتأويلات.
وهذا المسلك ضعيف أيضا. وممن رده أب عبد الله بن مالك، فقال:
هذا القول ضعيف، لأن قائله إما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع وغيره يستحق ما يستحقه فعول من الجري على المذكر والمؤنث بلفظ واحد، وإما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع خاصة محمول على فعول. فالأول مردود لإجماع أهل العربية على التزام التاء في ظريفة وشريفة وأشباههما وزنا ودلالة ولذلك احتاج علماؤهم أن يقولوا في قوله تعالى: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا وقوله: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أن الأصل هو بغوي على فعول، فلذلك لم تلحقه التاء، ثم أعلّ بإبدال الواو ياء والضمة كسرة، فصار لفظه كلفظ فعيل، ولو كان فعيلا أصلا للحقته التاء، فقيل: لم أك بغية. والثاني أيضا مردود لأن لفعيل على فعول من المزايا ما لا يليق به أن يكون تبعا له، بل العكس أولى أن يكون فعولا تبعا لفعيل، ولأنه يتضمن حمل فعيل على فعول، وهما مختلفان لفظا ومعنى أما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فلأنّ قريبا لا مبالغة فيه لأنه يوصف به كل ذي قرب وإن قل، وفعول لا بد فيه من المبالغة.
وأيضا فإن الدال على المبالغة لا بد أن يكون له بنية لا مبالغة فيها، ثم يقصد به المبالغة، فتغير بنيته كضارب وضروب، وعالم وعليم. وقريب ليس كذلك فلا مبالغة فيه.
وأما بيت امرؤ القيس فلا حجة فيه لوجوه.
أحدها: أنه نادر فلا حكم له فلا كثرت صوره ولا جاء على الأصل كاستحوذ واستوثق البعير، وأغيمت السماء وأغور وأحول، وما كان كذلك فلا حكم له.
الثاني: أن يكون أراد قطيعة القيام، ثم حذف التاء للإضافة، فإنها يجوز حذفها عند الفراء وغيره، وعليه حمل قوله تعالى: وَأَقامَ الصَّلاةَ
285
أي إقامتها، لأن المعروف في ذلك إنما هو لفظ الإقامة، ولا يقال «إقام» دون إضافة كما لا يقال «إراد» في إرادة ولا «إقال» في إقالة، لأنهم جعلوا هذه التاء عوضا عن ألف إفعال أو عينه، لأن أصل إقامة إقوام فنقلت حركة العين إلى الفاء فانقلبت ألفا فالتقت ألفان فحذفت إحداهما فجاؤوا بالتاء عوضا، فلزمت إلا مع الإضافة، فإن حذفها جائز عند قوم قياسا، وعند آخرين سماعا.
ومثلها في اللزوم: تاء عدة وزنة. وأصلهما وعد ووزن، فحذفت الواو، وجعلت التاء عوضا منها فلزمت. وقد تحذف للإضافة كقول الشاعر:
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
أي أخلفوك عدة الأمر، فحذف التاء.
وعلى هذه اللغة قرأ بعض القراء وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً بالهاء أي عدته. فحذف التاء.
الثالث: أن يكون فعيل في قوله «قطيع القيام» بمعنى مفعول، لأن صاحب المحكم حكى أنه يقال قطعه وأقطعه إذا بكتّه، وقطع هو فهو قطيع القول. فقطيع على هذا بمعنى مقطوع أي مبكت، فحذف التاء على هذا التوجيه ليس مخالفا للقياس.
وإن جعل قطيعا مبنيا على قطع كسريع من سرع: فحقه على ذلك أن يلحقه التاء عند جريه على المؤنث أنه شبه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول، فأجرى مجراه.
فهذا تمام اثني عشر مسلكا في هذه الآية، أصحها المسلك المركب من السادس والسابع. وباقيها ضعيف واه ومحتمل والمبتدي والمقلد لا يدرك هذه الدقائق والفاضل المنصف لا يخفى عليه قويها من ضعيفها. وليكن هذا آخر الكلام على الآية والله أعلم.
286
ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﰿ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﱿ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
أخبر سبحانه إنهما إحياء ان، وأن أحدهما معتبر بالآخر مقيس عليه.
ثم ذكر قياسا آخر: أن من الأرض ما يكون أرضا طيبة. فإذا أنزلنا عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها. فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة.
فشبه سبحانه الوحي الذي أنزل من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض، لحصول الحياة بهذا وهذا.
وشبه القلوب بالأرض، إذ هي محل الأعمال، كما أن الأرض محل النبات، وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي، ولا يزكو عليه، ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر، ولا تخرج نباتها به إلا قليلا، لا ينفع.
وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه، وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر.
فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله، وتدبره بان أثره عليه، فشبه بالبلد الطيب الذي يمرح ويخصب، ويحسن أثر المطر عليه، فينبت من كل زوج كريم، والمعرض عن الوحي عكسه. والله الموفق.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٧]
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
إذا كان لا معنى عند نفاة الحكمة عن الرب، والحسن والقبح
287
الفطريين- للمعروف: إلا ما أمر به، فصار معروفا بالأمر فقط، ولا للمنكر: إلا ما نهى عنه. فصار منكرا بنهيه فقط فأي معنى لقوله تعالى:
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وهل حاصل ذلك زائد على أن يقال: يأمرهم بما يأمرهم به، وينهاهم عما ينهاهم عنه؟.
وهذا كلام ينزه عنه كلام آحاد العقلاء، فضلا عن كلام رب العالمين.
وهل دلت الآية إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تعرفه العقول، وتقر بحسنه الفطر، فأمرهم بما هو معروف في نفسه عند كل عقل سليم. ونهاهم عما هو منكر في الطباع والعقول بحيث إذا عرض أمره ونهيه على العقل السليم قبله أعظم قبول، وشهد بحسنه كما قال بعض الأعراب، وقد سئل:
بم عرفت أنه رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته ينهي عنه.
ولا نهى عن شيء، فقال: ليته أمر به.
فهذا الاعرابي أعرف بالله ودينه ورسوله من هؤلاء، وقد أقر عقله وفطرته بحسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه، حتى كان في حقه من أعلام نبوته وشواهد رسالته.
ولو كان جهة كونه معروفا ومنكرا هو الأمر المجرد لم يكن فيه دليل.
بل كان يطلب له الدليل من غيره.
ومن سلك ذلك المسلك الباطل لم يمكنه أن يستدل على صحة نبوته بنفس دعوته ودينه.
ومعلوم أن نفس الدين الذي جاء به، والملة التي دعا إليها من أعظم براهين صدقه، وشواهد نبوته. ومن يثبت لذلك صفات وجودية أوجبت حسنه وقبول العقول ولضده صفات أوجبت قبحه ونفور العقل عنه، فقد سد على نفسه باب الاستدلال بنفس الدعوة، وجعلها مستدلا عليه فقط.
288
ومما يدل على صحة ذلك قوله تعالى:
٧: ١٥٧ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فهذا صريح في أن الحلال كان طيبا قبل حله. وأن الخبيث كان خبيثا قبل تحريمه. ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس التحليل والتحريم لوجهين اثنين.
أحدهما: أن هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب فقال: ٧: ١٥٧ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ فلو كان الطيب والخبيث إنما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل. فإنه بمنزلة أن يقال: يحل لهم ما يحل، ويحرم عليهم ما يحرم. وهذا أيضا باطل. فإنه لا فائدة فيه وهو الوجه الثاني.
فثبت أنه أحل ما هو طيب في نفسه قبل الحل، فكساه بإحلاله طيبا آخر، فصار منشأ طيبه من الوجهين معا.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار الشريعة، ويشرفك على محاسنها وكمالها وبهجتها وجلالها. وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين: أن تكون بخلاف ما وردت به. وأن الله تعالى منزه عن ذلك، كما يتنزه عن سائر ما يليق به.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٥ الى ١٧٦]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦)
289
فشبه سبحانه من آتاه كتابه، وعلمه العلم الذي منعه غيره. فترك العمل به واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق: بالكلب الذي هو من أخس الحيوانات، وأوضعها قدرا، وأخسها نفسا. وهمته لا تتعدى بطنه. وأشدها شرها وحرصا. ومن حرصه: أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم، ويستروح حرصا وشرها. ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته. وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم، والعذرة أحب إليه من الحلوى. وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا يتناول معه منها شيئا إلّا هرّ عليه وقهره، لحرصه وبخله وشرهه.
ومن عجيب أمره وحرصه: أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية، وحال زريّة نبحه، وحمل عليه، كأنه يتصور مشاركته له، ومنازعته في قوته. وإذا رأى ذا هيئة وثياب جميلة ورئاسة: وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه: بالكلب في حال لهثه: سر بديع. وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه: إنما كان لشدة لهفه على الدنيا. لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة. فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له: إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. فهو مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع.
قلت: مراده بانقطاع فؤاده: أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك
290
اللهث وهكذا هذا الذي انسلخ من آيات الله، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا، وترك اللهف عليها. فهذا يلهث على الدنيا من قلة صبره عنها. وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء. فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء، وإذا عطش أكل الثرى من العطش، وإن كان فيه صبر على الجوع. وعلى كل حال فهو أشد الحيوانات لهثا: يلهث قائما، وقاعدا، وماشيا، وواقفا. وذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث.
فهكذا مشبهه: شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهث.
قال مجاهد: ذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به. وقال ابن عباس: إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها. وإن تتركه لم يهتد إلى خير، كالكلب إن كان رابضا لهث، وإن طرد لهث.
وقال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحق، دعي أو لم يدع، وعظ أو لم يوعظ. كالكلب يلهث طردا وتركا.
وقال عطاء: ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه.
وقال أبو محمد بن قتيبة: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال الصحة، وحال المرض والعطش.
فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، وقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال. كالكلب إن طردته لهث، وإن تركته على حاله لهث.
ونظيره قوله سبحانه: ٧: ١٩٣ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ.
291
وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعاني.
فمنها قوله: آتَيْناهُ آياتِنا فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته. فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها علينا. فأضافها إلى نفسه. ثم قال: فَانْسَلَخَ مِنْها أي خرج منها، كما تنسلخ الحية من جلدها. وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم.
ولم يقل: فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباعه هواه.
ومنها قوله سبحانه: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي لحقه وأدركه، كما قال في قوم فرعون: ٢٦: ٦٠ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ وكان محفوظا محروسا بآيات الله محميّ الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرّة وخطفة. فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ العاملين بخلاف علمهم، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافة، كعلماء السوء.
ومنها: أنه سبحانه قال: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العالم. فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره، وقصد مرضاة الله. فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه. ولم يرفعه الله بعلمه، ولم ينفعه به. نعوذ بالله من علم لا ينفع.
وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم، وإن لم يرفعه الله فهو موضوع، لا يرفع أحد به رأسا. فإن الرب الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه.
والمعنى: لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه.
قال ابن عباس: لو شئنا لرفعناه بعلمه.
وقالت طائفة: الضمير في قوله «لرفعناه» عائد على الكفر.
292
والمعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا. قال مجاهد وعطاء:
لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه.
وهذا المعنى حق. والأول هو مراده الآية. وهذا من لوازم المراد.
وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية، فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها.
قوله: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ قال سعيد بن جبير: ركن إلى الأرض. وقال مجاهد: سكن. وقال مقاتل: رضي بالدنيا. وقال أبو عبيدة: لزمها وأبطأ.
والمخلد من الرجال: هو الذي يبطئ في مشيته. ومن الدواب: التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته.
وقال الزجاج: خلد وأخلد. وأصله من الخلود. وهو الدوام والبقاء.
يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به. قال مالك بن نويرة:
بأبناء حي من قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قلت: ومنه قوله تعالى: ٥٦: ١٧ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي قد خلقوا للبقاء، لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سن واحد أبدا.
وقيل: هم المقرّطون في آذانهم والمسورون في أيديهم. وأصحاب هذا القول فسروا اللفظة ببعض لوازمها. وذلك أمارة التخليد على ذلك السن فلا تنافي بين القولين.
وقوله: وَاتَّبَعَ هَواهُ قال الكلبي: اتبع مسافل الأمور، وترك معاليها.
وقال أبو روق: اختار الدنيا على الآخرة. وقال عطاء: أراد الدنيا
293
وأطاع شيطانه. وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم، يعني الذين حاربوا موسى وقومه وقال ابن يمان: اتبع امرأته لأنه هي التي حملته على ما فعل.
فإن قيل: الإستدراك «بلكن» يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها، أو ينفي ما أثبت، كما تقول: لو شئت لأعطيته، لكني لم أعطه، ول شئت لما فعلت كذا لكني فعلته. والإستدراك يقتضي: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ، أو لم نرفعه، فكيف استدرك بقوله: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ بعد قوله: لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها.
قيل: هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني. وذلك أن مضمون قوله: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات: من إيثار الله ومرضاته على هواه، ولكنه آثر الدنيا، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه.
وقال الزمخشري: المعنى: ولو لزم آياتنا لرفعناه بها. فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه، كأنه قيل: لو لزمها لرفعناه بها. قال:
ألا ترى إلى قوله: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله. فوجب أن يكون: ولو شئنا في معنى: ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: ولو شئنا لرفعناه، ولكنا لم نشأ.
فهذا من الزمخشري شنشنة «١» نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة، مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا قدريا.
فأين قوله: وَلَوْ شِئْنا من قوله: ولو لزمها. ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله- وهو الحق- بطل أصله.
وقوله: إن مشيئة الله تابعة للزوم الآيات: من أفسد الكلام وأبطله، بل لزومه لآياته تابع لمشيئة الله، فمشيئة الله سبحانه متبوعة لا تابعة. وسبب
(١) الشنشنة: الخلق والطبيعة.
294
لا مسبب. وموجب مقتض لا مقتضى فما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ امتنع وجوده.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٩]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩)
فجعل علة السكون أنها منه. ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب أن لا يستحسن الأنقص من الصور. ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره، ولا يجد محيدا لقلبه عنه.
ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه. فعلمنا أنه شيء في ذات النفس. وربما كانت المحبة بسبب من الأسباب، فتفنى بفنائه.
أحدهم وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطبية التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه بحيث لا يخشى من العواصف، فإنه إذا أبدي حاله وشأنه مع الله ليقتدي به ويؤتم به لم يبال. وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله.
وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله فهو من أعظم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء والستر عن أعين الحاسدين وهذه فائدة شريفة نافعة.
وعاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الدعاء الحمد لله»
فسمى «الحمد لله» دعاء، وهو ثناء محض. لأن الحمد يتضمن الحب والثناء.
والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب، فالحامد طالب لمحبوبه، فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب من ربه حاجة ما.
فتأمل هذا الموضع فإذا تأملته لا تحتاج إلى ما قيل: إن الذكر متعرض للنوال وإن لم يكن مصرحا بالسؤال، فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض، كما قال أمية بن أبي الصلت في ممدوحه:
أأذكر حاجتي، أم قد كفاني حباؤك؟ إن شيمتك الحباء
إذا اثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضه الثناء
وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها نفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب وهو طلب المحب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه.
والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٥]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥)
فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه. قال مجاهد وابن
258
جريج: أمر أن يذكره في الصدر بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح. وقد تقدم
حديث أبي موسى: «كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال: يا أيها الناس، أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته».
وتأمل كيف قال في آية الذكر: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وفي آية الدعاء: ٧: ٥٥ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً فذكر التضرع فيهما معا. وهو التذلل والتمسكن والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء. وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها. وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بد. فمن أكثر من ذكر الله أثمر له ذلك محبته والمحبة ما لم تقرن بالخوف، فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره. لأنها توجب الإدلال والإنبساط، وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات وقالوا:
المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له. فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل. ولقد حدثني رجل أنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة فقال له الشيخ:
أليس الفقهاء يقولون إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه؟
فقال له بلى. فقال له فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم، أو كما قال. وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه.
فقال له: هذا غرور بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله.
فالشيخ المربي العارف يأمر المريد بأن يخرج إلى الأمر ويراعي حفظ قلبه، أو كما قال.
فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام، جملة فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه من خاصة الخاصة. وسبب هذا عدم اقتران الخوف من
259
الله بحبه وإرادته ولهذا قال بعض السلف من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري. ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ.
ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن. وقد جمع تعالى هذه المقامات الثلاث بقوله: ١٧: ٥٧ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه. ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف. فهذه طريقة عباده وأوليائه.
وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات، ويقول: المحب لا يضره ذنب وقد صنف بعضهم في ذلك مصنفا وذكر فيه أثرا مكذوبا «إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب» وهذا كذب قطعا مناف للإسلام. فالذنوب تضر بالذات لكل أحد كضرر السم للبدن. ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ. وأما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمعاذ الله من ذلك- فله محمل، وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على ذنب. لأن الإصرار على الذنب مناف لكونه محبا لله، وإذا لم يصر على الذنب بل بادر إلى التوبة النصوح منه، فإنه يمحى أثره ولا يضره الذنب. وكلما أذنب وتاب وأناب إلى الله زال عنه أثر الذنب وضرره، فهذا المعنى صحيح.
والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب، فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما شرد، فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الدرب والرجاء حاد يحدوها يطيب لها السير، والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها. فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا تردها إذا حادت عن الطريق، وتركت تركب تعاسيف خرجت عن الطريق وضلت عنها، فما حفظت حدود الله ومحارمه.
وما وصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب عن
260
Icon