ﰡ
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾. روى زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال : قلت لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قالت : أما تقرأ هذه السورة :﴿ يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ؟ قلت : بلى قالت :" فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله تعالى خاتمتها اثني عشر شهراً ثم أنزل التخفيف في آخر السورة، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة ". وقال ابن عباس :" لما نزلت أول المزمل كانوا يقومون نحو قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين نزول أولها وآخرها نحو سنة ".
قال أبو بكر : لا خلاف بين المسلمين في نسخ فرض قيام الليل وأنه مندوب إليه مرغّبٌ فيه ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار كثيرة في الحثّ عليه والترغيب فيه، روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أَحَبُّ الصَّلاةِ إلى الله صَلاةُ دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلى الله صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً ". ورُوي عن عليّ :" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بالليل ثماني ركعات، حتى إذا انفجر عمود الصبح أوْترَ بثلاث ركعات ثم سبَّح وكبّر، حتى إذا انفجر الفجر صلَّى ركعتي الفجر ". وعن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي من الليل إحدى عشرة ركعة ".
وقوله تعالى :" هي أَشدُّ وِطئاً " قال مجاهد : واطأ اللسان القلب مواطأة ووطاءً. ومن قرأ ﴿ وَطْئاً ﴾ قال : معناه هي أشد من عمل النهار.
فإن قيل : إنما نزل ذلك في صلاة الليل وهي منسوخة. قيل له : إنما نُسِخَ فرضُها ولم ينسخ شرائطها وسائر أحكامها. وأيضاً فقد أمرنا بالقراءة بعد ذكر التسبيح بقوله تعالى :﴿ فَاقْرَؤُوا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾.
فإن قيل : فإنما أُمر بذلك في التطوع فلا يجوز الاستدلال به على وجوبها في الصلاة المكتوبة. قيل له : إذا ثبت وجوبها في التطوع فالفرض مثله ؛ لأن أحداً لم يفرق بينهما. وأيضاً فإن قوله تعالى :﴿ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ ﴾ يقتضي الوجوب لأنه أمْرٌ والأمْرُ على الوجوب، ولا موضع يلزم قراءة القرآن إلا في الصلاة، فوجب أن يكون المراد القراءة في الصلاة.
فإن قيل : إذا كان المراد به القراءة في صلاة التطوع والصلاة نفسها ليست بفرض فكيف يدل على فرض القراءة ؟ قيل له : إن صلاة التطوع وإن لم تكن فرضاً فإن عليه إذا صلاها أن لا يصليها إلا بقراءة، ومتى دخل فيها صارت القراءة فرضاً، كما أن عليه استيفاء شرائطها من الطهارة وستر العورة، وكما أن الإنسان ليس عليه عقد السلم وسائر عقود البياعات ومتى ما قصد إلى عقدها فعليه أن لا يعقدها إلا على ما أباحته الشريعة ؛ ألا ترى إلى قوله عليه السلام :" مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ " وليس عليه عقد السلم ؟ ولكنه متى قصد إلى عقده فعليه أن يعقده بهذه الشرائط.
فإن قيل : إنما المراد بقوله تعالى :﴿ فَاقْرَؤُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ ﴾ الصلاة نفسها، فلا دلالة فيه على وجوب القراءة فيها. قيل له : هذا غلطٌ ؛ لأن فيه صرف الكلام عن حقيقة معناه إلى المجاز، وهذا لا يجوز إلاّ بدلالة، وعلى أنه لو سلم لك ما ادَّعَيْتَ كانت دلالته قائمة على فرض القراءة لأنه لم يعبر عن الصلاة بالقراءة إلا وهي من أركانها، كما قال تعالى :﴿ وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ﴾ [ المرسلات : ٤٨ ]، قال مجاهد : أراد به الصلاة ؛ وقال :﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾ [ البقرة : ٤٣ ] والمراد به الصلاة، فعبَّر عن الصلاة بالركوع لأنه من أركانها.