تفسير سورة سورة المزمل من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة المزمل
مكية وهي عشرون آية
ﰡ
﴿ يا أيها المزمل ١ ﴾ التزمل من تزمل ثيابه إذا تلفف بها فأدغم التاء في الزاء ومثله المدثر تدثر بثوبه إما القطع كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة ثم خوطب بعده بالنبي والرسول وقد تزمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثيابه في بد، والوحي خوفا منه لهيبته، عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي ( فبينا أنا أمشي سمعت صوتا فرفعت السماء بصري فإذا الملك الذي جاء في حراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فخشيت منه رعبا حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي فقلت : زملوني فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها المدثر ١ ﴾ إلى قوله ﴿ فاهجر ﴾ ثم حمي الوحي وتتابع ) متفق عليه، وفي حديث عائشة في الصحيحين في حديث طويل أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة فقال : زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع وسنذكر هذا الحديث إن شاء الله تعالى في سورة ﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ وأخرج البزار والطبراني بسند ضعيف عن جابر قال : اجتمعت قريش في دار الندوة فقالت : سموا هذا الرجل اسما يصدر عنه، قالوا : كاهن، قالوا : ليس بكاهن، قالوا : مجنون، قالوا : ليس مجنون، قالوا : ساحر، قالوا : ليس بساحر، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فتزمل ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبرائيل قال :﴿ يا أيها المزمل ١ ﴾ ﴿ يا أيها المدثر ١ ﴾.
﴿ قم ﴾ أي صل، عبر عنها بالقيام تسمية بالشيء باسم جزئه وركنه وهذا يقتضي كون القيام ركنا للصلاة وعليه انعقد الإجماع ﴿ الليل ﴾ ظرف زمنا وحذف حرف الجر يدل على الاستيعاب كما يقال : صمت شهر الخلاف صمت في الشهر ﴿ إلا قليلا ﴾ بهذا الاستثناء بقي الحكم بقيام بعض الليل ولما كان الاستثناء مبهما طرق الإيهام في المستثنى منه فصار المحكوم به محمدا لا بد من بيان نبيه الله تعالى بقوله ﴿ نصفه ﴾.
﴿ نصفه ﴾ فهو بدل من الليل المستثنى منه القليل بدل الكل فإن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا فتقدير الكلام قم بعض الليل أي نصفه، وقيل : هو بدل من القليل وبيان له وببيان المستثنى تبين الباقي ويزول الإبهام وحينئذ تقدير الكلام قم الليل إلا نصفه والمعنى واحد وإطلاق القليل على النصف بالنسبة إلى الكل ولأن عدم القيام أي النوم في نصف الليل قليل من النوم المعتاد فإن الله تعالى جعل الليل لتسكنوا فيه ولأنه إذا قام نصف الليل للتهجد بقي نصف الآخر وفيه صلاة المغرب والعشاء وحوائج البشر من الأكل والشرب والخلاء فلم يبق لأجل النوم إلا قليل من النصف، وقيل : نصفه بدل من الليل والاستثناء منه أي من النصف وتقديره قم نصف الليل إلا قليلا فحينئذ يلزم الاستثناء من النصف قبل ذكره مع أن كلمة نصفه حينئذ بدل البعض من الليل وحكم بدل البعض في القصر حكم الاستثناء فمقتضى الكلام تقديم القصر بالاستثناء على القصر بالبدل وأيضا يلزم حينئذ كون الكلام مجملا بعد البيان ﴿ أو انقص ﴾ عطف على قم الليل ﴿ منه ﴾ أي من النصف الباقي بعد الاستثناء ﴿ قليلا ﴾ أي زمانا قليلا أو نقصانا قليلا وذلك أن يكون القيام أكثر من نصف النصف أي الربع.
﴿ أو زد عليه ﴾ أي على النصف ما شئت فالمأمور به في هذه الآية القيام أكثر من الربع لو ساعة والظاهر أن الأمر بالقيام في هذه الآية للوجوب كما هو مقتضى الأمر في الأصل فمقتضى الكلام البغوي وهو المستفاد من قول عائشة وغيرها أن قيام الليل بهذه الآية كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته ثم نسخ، قال البغوي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقومون على هذه المقادير فكان الرجل لا يدري متى ثلث الليل ومتى النصف ومتى الثلثان فكان يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم فرحمهم الله تعالى وخفف عنهم ونسخها بقوله :﴿ فاقرءوا ما تيسر منه ﴾ وكان بين أول السورة وآخرها سنة. عن سعيد بن هشام قال : انطلقت إلى عائشة فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى قالت : فإن خلق نبي الله كان القرآن، قلت : فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم المؤمنين قالت : ألست تقرأ :﴿ يا أيها المزمل ١ ﴾ قلت : بلى قالت : فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله تعالى فأتمتها اثني عشر شهرا في السماء ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة رواه أبو داود والنسائي والبغوي وكذا أخرج الحاكم وأخرج ابن جرير مثله عن ابن عباس وغيره قال مقاتل وابن كيسان كان هذا بمكة قبل أن يفرض الصلوات الخمس ثم نسخ ذلك بالصلاة والخمس والظاهر عندي أن الوجوب كان مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله :﴿ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ﴾ فإن كلمة من للتبعيض صريح في أن الصحابة بعضهم كانوا يقومون دون بعض. فإن قيل : لو كان وجوبه مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم فكيف يصح تعليل التخفيف لقوله تعالى :﴿ علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ﴾ فإن هذه الآية يقتضي رعاية حال الأمة وضعفهم ؟ قلنا : خفف الله سبحانه عن النبي صلى الله عليه وسلم لرعاية ضعف الأمة وأعذارهم لأن الناس بما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم مسنون للأمة مطلوب الإتيان منهم من غير إيجاب بحيث يلام تاركه قال الله تعالى :﴿ لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ﴾ وما قيل : إن المسنون ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التطوع احترازا عن صوم الوصال ونحوه فليس بشيء لأن الأصل التأسي والاقتداء مطلقا فلا يترك إلا إذا كان ذلك الأمر ممنوعا محرما أو مكروها في حق الأمة كصوم الوصال ووصل النكاح فوق الأربعة وغير ذلك ولا وجه لتخصيص التأسي بما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التطوع ﴿ ورتل القرآن ترتيلا ﴾ عطف على قم الليل وما قيل الترتيل مندوب إجماعا فعطفه على القيام يقتضي كون الأمر بالقيام أيضا للندب فليس بشيء. عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ) رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي، والترتيل عبارة عن إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة كذا في الصراح وفي القاموس نحوه، وعن ابن عباس معناه بينه وبيانا وعن الحسن نحوه، وقال مجاهد ترتيل فيه ترسلا عن قتادة قال : سئل عن أنس كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمان الرحيم يمد ببسم الله ويمد بالرحمان ويمد بالرحيم رواه البخاري، قلت : معنى قوله يمد ببسم الله ويمد بالرحمان ويمد بالرحيم أنه يظهر فيه الألف من الله بعد اللام ومن الرحمان بعد الميم بقدر حركة وأما مد الرحيم فيجوز فيه المد بقدر الحركتين وأربع وست عند الوقف وفي الوصل لا يجوز إلا بقدر حركة أجمع عليه القراء. وعن أم سلمة أنها سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا رواه الترمذي وأبو داود والنسائي، وعنهما قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقول الرحمان الرحيم ثم يقف رواه الترمذي، قلت : ويتضمن الترتيل تحسين الصوت بالقرآن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن ) متفق عليه، وفي رواية عنه ( ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به ) متفق عليه وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) رواه البخاري، وليس المراد إلا تحسين الصوت كما خرج به في بعض الروايات دون إخراجه على وجه الغناء فإنه حرام ممنوع عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يتجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم ) رواه البيهقي في شعب الإيمان.
فائدة :
والحكمة في الترتيل التدبر في معاني القرآن والألفاظ بموعظة والخوف عند آية الوعيد والرجاء عند آية الوعد ونحو ذلك، روى البغوي عن ابن مسعود قال : لا تنتثروه نثر الدقل ولا تهزوه هز الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة، وعن حذيفة قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل فما مر بآية فيها ذكر الجنة إلا وقف وسأل الله الجنة وما مر بآية فيها ذكر النار إلا وقف وتعوذ من النار، وعن عبيد المليكي –وكانت له صحبة- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا أهل القرآن لا تتوسدوا القرآن واتلوه حق تلاوته آناء الليل والنهار وافشوه وتغنوه وتدبروا ما فيه لعلكم تفلحون ولا تعجلوا هرابه فإن له ثوابا ) رواه البيهقي في الشعب، وعن سهل بن سعد الساعدي قال : بينا نحن نقرأ إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأخيار وفيكم الأحمر والأسود والأبيض اقرؤوا القرآن قبل أن يأتي أقوام يقرأونه يقيمون حروفه كما يقام السهم ولا يجاوز تراقيهم يتعجلون أجره ولا يتأجلونه ).
﴿ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ٥ ﴾ قيل : المراد بالقول الثقيل الأمر بقيام الليل فإنه ثقيل شاق على النفس فهذه الجملة على هذا التأويل تذييل وتأكيد لما سبق والسين حينئذ للتأكيد دون الاستقبال وقيل : المراد به القرآن قال محمد بن كعب القرآن ثقيل على المنافقين، قلت : فهو نظير قوله تعالى :﴿ كبر على المشركين ما تدعوهم ﴾ وقال الحسن بن الفضل ثقيل في الميزان قلت : نظير قوله صلى الله عليه وسلم :( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمان سبحانه الله وبحمده سبحان الله العظيم ) متفق عليه عن أبي هريرة، وقال مقاتل ثقيل لما فيه من الأمر والنهي والحدود كذا قال قتادة وقال أبو العالية ثقيل بالوعد والوعيد وحاصل هذه الأقوال أنه لما فيه من التكاليف الشاقة والوعد والوعيد وذكر القيامة ثقيل على المكلفين لاسيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان عليه أن يتحملها ويحملها أمته ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( شيبتني سورة هود وأخواتها ) رواه الطبراني عن عقبة بن عامر وعن أبي جحيفة، يعني لما فيه من قوله تعالى :﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ﴾ أو لما فيه من ذكر القيامة وعذاب الأمم الماضية يدل عليه ما رواه الحاكم عن أبي بكر بلفظ ( شيبتني سورة هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ) رواه الترمذي عن ابن عباس والحاكم عن أبي بكر وابن مردويه عن سعد ونحوه عن أنس رواه عبد الله بن أحمد بلفظ ( شيبتني هود وأخواتها ) لما فيها ذكر يوم القيامة وقصص الأمم، وقيل : ثقيل على التأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفيته للسر وتجريد للنظر لرزانته ومتانة معناه وهذا أوفق لما سبق وما لحق فإن الترتيل لأجل التدبر والتفهم وناشئة الليل أشد لمواطأة القلب اللسان، وقيل : ثقيل على باطن الصوفي وعظيمة فإن الخالق العظيم المتعالي يتجلى على قلب المخلوق يحقر السافل كذا قال الفراء حيث قال : ثقيل ليس بالخفيف ولا بالسفساف لأنه كلام ربنا، قال الشيخ الأجل الأكرم الهادي سبيل اليقين محبوب رب العالمين سيف الملة والدين أبد الآبدين إن علامة انكشاف حقيقة القرآن ورود ثقل عظيم على باطن السالك ومن ثم قال الله تعالى :﴿ سنلقي عليك قولا ثقيلا ﴾ قلت : ويؤيده هذا المعرفة قوله تعالى :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ﴾ وهذا معنى ما قيل ثقيل تلقيه رواه مسلم عن عبادة بن الصامت قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه وفي رواية نكس رأسه وكس أصحابه رؤوسهم فلما أتلى عنه رفع رأسه، وفي الصحيحين عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أحيانا تأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ) قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا متفق عليه. ويحتمل أن يقال : إنه ثقيل لما فيه من الأمر بالتوجه إلى الخلق لأجل الدعوة والتبليغ والإرشاد والتكميل بقوله تعالى :﴿ قم فأنذر ٢ ﴾ وقوله :﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾ بعدما كان متوجها إلى الله تعالى مشتغلا به تعالى حيث كان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو تعبد الليالي ذوات العدد وقبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها كذا في الصحيحين في حديث عائشة، ودرجة الإرشاد والتكميل وإن كان أفضل من درجة الاستكمال والخلوة لكنه قد يكون عند الصوفي على خلاف الطبع فيثقل عليه ويزعمها الصوفي في بادئ الرأي أن هذا أحط مرتبة من التوجه إلى الله تعالى والخلوة به ولهذا قيل : الولاية به أفضل من النبوة يعني ولاية النبي أفضل من نبوة ذلك النبي زعما من القائل أن في الولاية التوجه إلى الله سبحانه وفي النبوة التوجه إلى الخلق، وقال المجدد ألف ثاني رضي الله عنه ليس هذا القول مبنيا على التحقيق بل النبوة مطلقا أفضل من الولاية وهي عبارة عند الصوفية عن السير في الذات والولاية عن السير في الصفات وشتان ما بينهما والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى يسمى في الاصطلاح بالعروج وإلى الخلق يسمى بالنزول وكلاهما يعترضان للصوفي في كلا السيرين غير أن النازل في مقام الولاية وإن كان له توجها إلى الخلق لكنه لم يبلغ في العروج غاية فهو ملتفت إلى الأعالي طمعا لغاية الكمال والنازل في مقام النبوة لا يكون نازلا إلا بعد ما يبلغ الكتاب في الكمال أجله فهو بكلية يتوجهه إلى الخلق للتكميل على مراد الله سبحانه وتعالى وإن كانت على خلاف مراده وطبعه فهو أفضل وأكمل وهذا الجهاد باق ما دامت هذه النشأة الثانية الباقية وبعد فراغ منها يتأدى بأملهم إلى الرفيق الأعلى فحينئذ يتوجه بكليته إلى الدرجات العلى وأجر من اهتدى به على سبيل الأكمل وبالأوفى والله تعالى أعلم. وجملة ﴿ إنا سنلقي ﴾ إما تذييل وتأكيد لما سبق كما ذكرنا أو معترضة لبيان الحكمة في الأمر بقيام الليل فإن في القيام تمرين النفس على المشقة ومشق مخالفات الطبع أو لأن الصلاة كانت قرة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :( جعلت قرة عيني في الصلاة ) رواه أحمد والنسائي والبيهقي عن أنس، وقال :( أقم الصلاة يا بلال أرحنا بها ) رواه أبو داود عن رجل صحابي من خزاعة فحينئذ يكون في التهجد تحصيل ما يعالج به ثقل التوجه إلى الخلق أو لأن لقيام الليل تأثير التأثر نفسه لشريعة في نفوس الأمة كي يجيبوا دعوته حين يستمعوا قوله كما أجاب الجن دعوته حين يستمعوا القرآن أو لأن لقيام الليل مدخل في قيامه مقام الشفاعة لأنه حيث قال الله تعالى :﴿ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ٧٩ ﴾.
﴿ إن ناشئة الليل ﴾ أي مقام الليل مصدر جاء على فاعلة كعافية بمعنى العفو كذا قال الأزهري وقالت عائشة الناشئة قيام الليل بعد النوم فهو بمعنى التهجد، وقال ابن كيسان هي القيام من آخر الليل، وقال سعيد بن جبير وابن زيد أي ساعة قام من الليل فقد نشأ وهو بلسان الحبش نشأ فلان أي قام، وقال عكرمة هي القيام من أول الليل، قال البغوي روي عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء الآخرة يقول : هذا ناشئة الليل والظاهر أن هذين القولين لا يلائمان هذا المقام فإنه صلى الله عليه وسلم كان مأمور القيام آخر الليل، وقال الحسن كل الصلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة وقيل : صفة الفاعل بمعناه والمراد النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة من نشأ من مكانه إذا نهض ساعات الليل كلها وكل ساعة منه ناشئة لأنها منشئ أي مبتدأ ومن نشأت السحابة وأبدت فكل ما حدث بالليل وبدأ فقد نشأ وهو ناشئ والجمع ناشئة، وقال ابن أبي ملكية سألت عن ابن عباس وابن الزبير عنها فقالا : الليل كلهما ناشئة فالإضافة حينئذ بيانية ﴿ هي أشد وطئا ﴾ وقرأ ابن عامر وأبو عمر وبكسر الواو وفتح الطاء والمد بمعنى الموافقة أي هي أشد موافقة للقلب مع اللسان فإن ذلك يكون بالليل أكث منه بالنهار وقرأ الجمهور بفتح الواو وسكون الطاء أي أشد ثقلا من صلاة النهار لأن الليل للنوم والراحة منه قوله عليه السلام :( اللهم اشدد وطأتك على مضر ) وإذا اعتاد المرء بأشد العبادات ثقلا هان عليه مشقة سائر التكاليف وكلما هو أشد وأثقل على النفس مع مراعاة السنة كان أكثر ثوابا وأثقل في الميزان وأشد تأثيرا في النفوس، وقال ابن عباس كانت صلواتهم أول الليل هي أشد وطأ بمعنى أجدر أن يحصوا ما فرض الله عليكم من القيام لأن الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ، وقال قتادة أثبت في الخير وأحفظ للقراءة، وقال الفراء أثبت وطأ للقيام وأسهل للمضي من ساعات النهار لأن النهار خلق لتصرف العباد والليل للخلوة والعبادة، وقيل : أشد نشاطا فإن من كان أشد على النفس ثقلا كان ألذ للصوفي وقال ابن زيد أفرغ له قلبا من النهار لأنه لا تعرض له بالليل حوائج وموانع وقال الحسن أشد وطأ في الخير وأمنع من الشيطان ﴿ وأقوم قيلا ﴾ أثبت قراءة وأصح قولا لهدأة وسكون الأصوات.
﴿ إن لك في النهار سبحا طويلا ٧ ﴾ والسبح سرعة الذهاب ومنه السباحة في الماء يعني إن لك بالنهار ذهابا في مهامك ولدعوة الخلق وتبليغ الأحكام واشتغالا بها فعليك بالتهجد فإن الليل أفرغ لها فهذا بمنزلة التعليل لما سبق.
فصل في فضائل صلاة الليل
عن أبي هريرة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ) متفق عليه، وفي رواية لمسلم ( ثم يبسط يديه ويقول : من يقرض غير عدوم ولا ظلوم ) وعن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله فيها خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه ذلك كل ليلة ) رواه مسلم، وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوما ويفطر يوما ) متفق عليه، وعن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة لكم إلى ربكم ومكفر للسيئات ومنهيات للإثم ) رواه الترمذي، وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ثلاثة يضحك الله إليهم الرجل إذا قام بالليل يصلي والقوم إذا صفوا في الصلاة وإذا صفوا في قتال العدو ) رواه البغوي في شرح السنة، وعن عمرو بن عيينة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أقرب ما يكون الرب إلى العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن ) رواه الترمذي وقال : حسن صحيح، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل ) رواه البغوي في الشعب.
﴿ واذكر اسم ربك ﴾ عطف على قم الليل والمراد به دوام الذكر ليلا ونهارا بحيث يطرق إليه الفتور ولا يلحقه الذهول وذا لا يتصور باللسان فإن كل ما كان باللسان والجوارح من التسبيح والتحميد والصلاة والقراءة ونحو ذلك يتطرق إليه فتور النية فليس هو إلا ذكر القلب وهو حقيقة الذكر فإن الذكر عبارة عن طرد الغفلة كما يقتضيه المقابلة في قوله صلى الله عليه وسلم :( ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الغازين ) فكل صلاة وتسبيح وقراءة كان عن قلب لاه فلا يعتد به ﴿ فويل للمصلين ٤ الذين هم عن صلاتهم ساهون ٥ ﴾ وإنما قلنا إن المراد عوام الذكر لأن العطف يقتضي المغايرة ومطلق الذكر يتضمنه قيام الليل وترتيل القرآن وحمل الكلام عليه أولى منه على التأكيد وقيل : معناه أن قل بسم الله الرحمان الرحيم عند ابتداء تلاوة القرآن.
مسألة :
أجمعوا على قراءة البسملة في أول الفاتحة وأول كل سورة ابتداء القارئ القراءة بها ولم يصلها بها قبلها سنة، واختلفوا في التسمية بين السورتين فكان ابن كثير وقالون وعاصم يبسملون بين كل سورتين في جميع القرآن ما خلا الأنفال وبراءة فإنه لا خلاف في ترك البسملة هناك والباقون لا يبسملون بين السور فأصحاب حمزة يصلون آخر كل سورة بأول الأخرى والمختار من مذهب ورش وعن أبي عمرو وابن عامر السكتة من غير قطع، وأما عند الابتداء بما بين السورة فالقارئ فيه مخير بين التسمية وتركها في مذهب الجميع هذا في القراءة خارج الصلاة وأما إذا قرأه في الصلاة فقال الشافعي هي آية من الفاتحة ومن كل سورة فيجب قراءتها مع الفاتحة ويسن قراءتها مع غيرها ويبسمل جهرا وقال الأئمة الثلاثة ليست هي جزءا من شيء من السور، قال أبو حنيفة هي آية من القرآن نزلت للفصل فلا يقرأ البسملة وعند مالك في الصلاة أصلا ولا مع الفاتحة ولا مع غيرها، وعند أبي حنيفة وأحمد يسن قراءتها مع الفاتحة سرا ولا يقرأ مع غيرها من السور وفي رواية عن محمد يستحب أن يقرأ سرا مع كل سورة وقد ذكرنا في تفسير سورة الفاتحة الحجة على أنها ليست من الفاتحة ولا من شيء من السور وأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين لم يجهروا بها في الصلاة، وقد ذكر الشافعية في الجهر بالتسمية تسعة أحاديث رواه دارقطني والخطيب أورد كلها ابن الجوزي، وقال ابن الجوزي قال الدارقطني كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر بالتسمية فليس بصحيح فأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف، وقد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمان الرحيم وكان مسيلمة يدعى رحمن اليمامة فقال أهل مكة إنما يدعوا محمد الله يمامة فأمر الله رسوله فأخفاها حتى مات. وهذا يدل على أن يجهر بها، وقدم الجهر بالبسملة مروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعمار بن ياسر وعبد الله بن المغفل وابن الزبير وابن عباس ومن كبار التابعين منهم الحسن والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة وعمر وبن عبد العزيز والأعمش والثوري وإنما يرون خلاف هذا عن معاوية وعطاء وطاوس ومجاهد كذا قال ابن الجوزي ﴿ وتبتل ﴾ أي انقطع عما سواه ﴿ إليه ﴾ تعالى ﴿ تبتيلا ﴾ مصدر من غير بابه وضع موضع تبتلا لرعاية الفواصل والإشارة إلى أن التبتل في الغالب أمر كسبي يحتاج إلى تعمق واجتهاد فالتبتيل مقدم على التبتل ومن ثم قال الحسن في تفسيرها اجتهد، وقال ابن زيد التبتل رخص الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله فكأنه قال : تبتل قلبك عما سوى ربك تبتيلا فتبتل لله تعالى وليس المراد بالتبتل ترك الملاقاة بالناس أو التقصير في أداء حقوق العباد أو قطع نحو ذلك مما أمر الله به أن يوصل إذ لا رهبانية في الدين وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولضيفك عليك حقا بل المراد به قطع العلاقة الحسية والعلمية عن القلب وهو معنى القلب، قالت الصوفية العلية الطريق الذي نحن بصدده قطعه خطوتان الخطوة الأولى الانقطاع عن الخلق والثانية الوصول إلى الحق وأحدهما لازم للآخر ومن ثم ذكر الله سبحانه كلا الخطوتين بالعطف بالواو الذي هي للجمع وقدم قوله :﴿ واذكر اسم ربك ﴾ الذي هو عبارة عن الوصول إلى الحق على التبتل لأنه هو المقصود بالتبتل وإنما قلنا إنه عبارة عن الوصول لأن الذكر الذي لا يتطرق إليه الفتور ولا يستعقبه الذهول هو العلم الحضوري إذ لا يتصور ذلك في العلم الحصولي بداهة والعلم الحضوري عبارة عن حضور نفس المعلوم عند العالم وذلك يعبر بدوام الحضور والوصول والاتصال والاتحاد والبقاء ونحو ذلك بألفاظ شتى وكانت الأوائل يعبرون عنها بالإخلاص قال بن عباس وغيره في تفسير هذه الآية أخلص الله إخلاصا وإنما قال :﴿ واذكر اسم ربك ﴾ ولم يقل واذكر ربك لأن الملازم للتبتل الذي هو المعبر بالفناء وإنما هو علم الأسماء والصفات دون العلم المتعلق بالذات فإنه بعد وراء الوراء، ويحتمل أن يكون المراد بالذكر الذكر باللسان بموافقة القلب وبدوام الذكر الدوام العرفي بمعنى الإكثار بقدر الطاقة البشرية وذلك يفضي إلى التبتل ووسيلة إليه بشرط الاجتباء عن الله تعالى كما يكون للأنبياء والأفراد من الأولياء أو جذب من الشيخ وعلى هذا وجه التقديم على التبتل أظهر تقدم طبعا، واعلم أن على هذا التأويل في قوله تعالى :﴿ واذكر اسم ربك ﴾ إشارة إلى تكرير اسم الذات وفي قوله تعالى :﴿ رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو ﴾ على قراءة الجر إشارة إلى التصور إحاطته تعالى بالممكنات ذكر النفي والإثبات وكلا التكريرين أساسان بطريقة أرباب كمالات الولايات وعلى هذا التأويل يثبت المغايرة بين المعطوف عليه أعني قم الليل ورتل القرآن واذكر اسم ربك ويظهر أن كلا من الأمور الأربعة الصلاة وتلاوة القرآن وذكر اسم الذات والنفي والإثبات مدار لحصول مراتب القرب والدرجات غير أن اللأولين لأهل الانتهاء والآخرين لأهل الابتداء وإنما قدم الأولين على الآخرين لأن المخاطب أولا هو النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل أهل الانتهاء والله تعالى أعلم.
﴿ رب المشرق والمغرب ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو رب المشرق والمغرب أو مبتدأ وخبره ﴿ لا إله إلا هو ﴾ وقرأ الباقون بالجر على البدل من ربك وقيل بإضمار حرف القسم وجوابه لا إله إلا هو ﴿ فاتخذوه وكيلا ﴾ الفاء للسببية فإن كونه ربا لجميع المخلوقات وتوحده بالألوهية يقتضي أن يوكل إليه الأمور كلها، وفي هذه الآية دفع توهم أن التبتل عن الخلق يوشك أن يخل في أموره المعايشة فإن الإنسان مدني الطبع لا يستغني بعضهم عن بعض فأبطل هذا الوهم بأنه تعالى رب المشرق و المغرب وما بينهما من العباد والبلاد وأفعالهم ومنافعهم والقلوب كلها بيده يصرفها كيف يشاء لا إله إلا هو لا يتصور النفع ولا الضرر من أحد إلا بإذنه وإرادته فاتخذه وكيلا حسبك عن غيره ونعم الوكيل. عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ) رواه الترمذي وابن ماجه، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لم تمت حتى تستكمل رزقها ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ) رواه البغوي في شرح السنة والبيهقي في الشعب، وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الزهادة في الدنيا ليس بتحريم الحلال وإضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن لا يكون بما في يديك أوثق مما في يد الله وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك ) رواه الترمذي، قال الشيخ الأجل إمامنا وقبلتنا يعقوب الكرخي إن من أول السورة إلى هذه الآية إشارة إلى مقامات السلوك من الخلوة بالليل والاشتغال بالقرآن وذكر الرحمان ونفي ما سواه والتوكل به.
ثم أشار إلى أعلى مقامات السلوك وهو أبصر على جفاء الأعداء فقال :
﴿ واصبر على ما يقولون ﴾ أي الكفار من الخرافات فإنهم كانوا يقولون كاهن شاعر مجنون ﴿ واهجرهم هجرا جميلا ﴾ بأن تجانبهم ولا تكافئهم وتكل أمرهم إلى الله هذه الآية نسختها آية القتال.
﴿ وذرني ﴾ أي دعني ﴿ المزمل ﴾ أي مع المكذبين فإن الواو بمعنى مع ولا يجوز أن يكون للعطف والمعنى كل أمرهم إلى فإن لي غنية عنك في مجازاتهم ولا يحزنك أقوالهم ﴿ أولي النعمة ﴾ أرباب النعمة يريد صناديد قريش ﴿ ومهلهم قليلا ﴾ زمانا قليلا أو إمهالا قليلا إلى أن يموتوا أو يأتي أمر الله بالقتال فيعذبهم بالله بأيديكم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم، قال مقاتل بن حبان : نزلت فيمن هلكوا ببدر فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى قتلوا ببدر.
﴿ إن لدينا ﴾ تعليل للأمر ﴿ أنكالا ﴾ النكل القيد الثقيل، أخرج البيهقي عن الحسن قال : الأنكال قيود من النار ﴿ وجحيما ﴾.
﴿ وطعاما ذا غصة ﴾ غير مبالغة تأخذ بالحلق لا تنزل ولا تخرج، أخرج ابن جرير وابن أبي الدنيا في صفة النار والحاكم والبيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وطعاما ذا غصة ﴾ قال : شجرة الزقوم، وأخرج عبد الله بن أحمد عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الضريع شيء يكون في النار شبه الشوك أمر من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حرا من النار إذا أطعم صاحبه لا يدخل البطن ولا يرفع إلى الفم فيبقى بين ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع ) ﴿ وعذابا أليما ﴾ أخرج ابن أبي الدنيا عن حذيفة مرفوعا ( إنها لتسقط عليهم أي على أهل النار وحيات من النار وعقارب من نار ولو أن حية منها نفخت بالمشرق أحرق من في المغرب ولو أن عقربا منها ضربت أهل الدنيا أحرقوا من آخرهم وإنها لتسقط عليهم فيكون بين لحومهم وجلودهم ) وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب هو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه ) وأخرج مسلم عن النعمان بن بشير :( إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كغلي المرجل ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا ) وأخرج الحاكم عن أبي هريرة نحوه.
﴿ يوم ترجف الأرض والجبال ﴾ ظرف لما في لدينا أنكالا من معنى الفعل والظاهر أن رجفة الأرض والجبال يكون قبل النفخة الأولى وعذاب الكفار بالأنكال والجحيم بعد البعث فوجه الظرفية أن يوم القيامة زمان ممتد مما قبل النفخة الأولى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ﴿ وكانت الجبال كثيبا مهيلا ﴾ عطف على ترجف، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أي رملا سائلا قال الكلبي هو الرمل الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده.
﴿ إنا أرسلنا إليكم ﴾ يا أهل مكة ﴿ رسولا ﴾ في الكلام التفات فإن فيما سبق من الكلام كان الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الكفار في قوله :﴿ واصبر على ما يقولون ﴾ الخ إلى الغيبة وهذا خطاب مع الكفار وذكر النبي صلى الله عليه وسلم على الغيبة وفي هذا الكلام تأكيد لما سبق قال الله تعالى :﴿ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ٥ ﴾ ومضمون هذه الآية إنا أرسلناك فمضمون الآيتين واحد.
﴿ شاهدا عليكم ﴾ بالإجابة أو الامتناع ﴿ كما أرسلنا ﴾ صفة لمصدر محذوف أي إرسالا كإرسالنا ﴿ إلى فرعون رسولا ﴾ يعن موسى عليه السلام.
﴿ فعصى فرعون الرسول ﴾ موسى عليه السلام ﴿ فأخذناه أخذا وبيلا ﴾ شديدا ثقيلا بعد طعام وبيل أي ثقيل لا يستمرئ ومنه الوابل المطر العظيم أغرقه الله تعالى في البحر ثم أدخله في النار فكذا يفعل بكم إن تعصوا رسولكم.
﴿ فكيف تتقون إن كفرتم ﴾ يا أهل مكة برسولكم ﴿ يوما ﴾ أي عذاب يوم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه وظرف متعلق بتتقون أي كيف تتقون العذاب في يوم ويحتمل أن يكون مفعولا لكفرتم أي كيف تتقون العذاب إن كفرتم يوما أي بيوم ﴿ يجعل الولدان شيبا ﴾ من شدة هوله وطول زمانه فإنه هذا على الغرض أو التمثيل وأصله إن بالهموم يضعف القوي يسرع الشيب وشيبا جمع أشيب كما أن بيضا جمع أبيض عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال :( يقول الله تعالى يا آدم فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك قال : أخرج بعث النار قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد قالوا : يا رسول الله وأينا ذلك الواحد ؟ قال : أبشروا فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف، ثم قال : والذي نفسي بيده أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبرنا فقال : أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبرنا فقال : أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبرنا فقال : ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود ) متفق عليه، وهذه الجملة صفة ليوم والعائد ضمير الفاعل على المجاز كما في قولهم صام نهاره والعائد محذوف لقديره يوما يجعل الله فيه الولدان شيبا.
﴿ السماء ﴾ عظمتها وإحكامها ﴿ منفطر ﴾ منشق والتذكير على تأويل الشفق أو إضمار كلمة شيء أي شيء منفطر ﴿ به ﴾ أي بذلك اليوم أي بشدته فكيف غير السماء الجملة صفة ثانية ليوما ﴿ كان وعده مفعولا ﴾ هذه الجملة صفة ثالثة ليوما والوعد مصدر مضاف إلى ضمير المفعول العائد إلى اليوم أو العائد محذوف والمصدر مضاف إلى الفاعل أي كان وعد الله بالعذاب فيه مفعولا أو رد الجملتين معطوفتين بغير العطف على طريقة :﴿ الرحمان ١ علم القرآن ٢ خلق الإنسان ٣ علمه البيان ٤ ﴾.
﴿ إن هذه ﴾ الآيات نلقيه عليك ﴿ تذكرة ﴾ تذكر العباد المبدأ والمعاد وتوضيح السبيل الموصل إلى الله تعالى إلى وجوده وإلى إنعامه ورضوانه والرشاد ﴿ فمن شاء ﴾ التذكر وسلوك السبيل إلى ربه ﴿ اتخذ إلى ربه سبيلا ﴾ الفاء للسببية أي ليس السبيل إلى الله تعالى إلا التذكرة فإنه سبحانه أقرب إلينا من أنفسنا وليس الحجاب بيننا إلا حجاب الغفلة وحجاب العظمة والكبرياء منه تعالى، وإلى تلك الحجب أشار النبي صلى الله عليه وسلم :( إن الله تعالى سبعون ألف حجابا من نور ) وظلمة فحجب العظمة والكبرياء حجب نورانية قال الله تعالى :( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ) وحجب الغفلة العباد حجب ظلمانية لو كشف لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وكشف تلك الحجب يتيسر بالتذكير فإن التذكير يذيل الغفلة ويستوجب المحبة للمعية كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المرء مع من أحب ) فالمحبة يفضي المحب إلى المحبوب بحيث الأقنعة سرادقات العظمة والكبرياء وإحراق سبحات الوجه كناية عن الفناء والبقاء وإن كان ذلك في مرتبة العلم، قيل : الجملة مضمونها التحير وهو مجاز التهديد.
﴿ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى ﴾ أي أقرب ﴿ من ثلثي الليل ﴾ قرأ هشام بسكون اللام والباقون بضمها ﴿ ونصفه وثلثه ﴾ قرأ ابن كثير والكوفيون بنصبهما عطفا على أدنى يعني تقوم أقرب من الثلثين وتقوم النصف وتقوم الثلث والباقون بجرهما يعني أقرب من النصف ومن الثلث وهذه القراءة تدل على القيام أقل من الثلث فوق الربع وإنما قلنا فوق الربع لما ذكرنا فيما قبل إن قوله تعالى :﴿ أو انقص منه قليلا ﴾ يقتضي أن يكون القيام فوق الربع ﴿ وطائفة ﴾ عطف على فاعل تقوم ﴿ من الذين معك ﴾ أي جماعة أصحابك يقومون على ذلك المقدار اقتداء لسنتك كذا قال البيضاوي، قال البغوي في تفسيره يعني المؤمنين كانوا يقومون معه وهذا التأويل بعيد جدا فإن الذين معه هم المؤمنون دون الكفار وكما في قوله تعالى :﴿ محمد رسول الله والذين معه ﴾ فكلمة من للتبعيض يدل على أن القائمين كانوا بعض الصحابة دون كلهم ﴿ والله يقدر الليل والنهار ﴾ عطف على أن ربك فيه وضع المظهر موضع المضمر تقديره وهو مقدر الليل والنهار أي يعلم مقاديرهما كما هي وأنتم لا تعلمون كما هي، قال البيضاوي تقديم اسم الله مبتدأ مبنيا عليه يقدر يشعر بالاختصاص وهي مذهب عبد القاهر والزمخشري دون السكاكي ﴿ علم أن ﴾ مخففة واسمها ضمير الشأن محذوف ﴿ لن تحصوه ﴾ أي تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات ومن ثم ربط وجوب الصلاة الخمس بأمور ظاهرة كطلوع الصبح والشمس وزوالها وغروبها وقدر الظل وغروب الشفق ﴿ فتاب عليكم ﴾ أي رجع عليكم من التشديد إلى التخفيف فأسقط عنك ذلك القدر كيلا يشق على أمتك التأسي به ﴿ فاقرأوا ما تيسر من القرآن ﴾ الفاء للسببية ومعناه صلوا ما تيسر من الصلاة بالليل عبر الصلاة بالقرآن ها هنا كما عبر بالقيام فيما سبق تسمية الكل باسم الجزء، فهذه الآية يقتضي كون القراءة ركنا للصلاة كما يقتضي تلك الآية بركنية القيام وعلى هذا العقد الإجماع أيضا فهذه الآية نسخ قيام الليل ذلك المقدار وبقي مطلق القيام بالليل واجبا ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس فصار تطوعا بعد فريضة يدل على ذلك ما ذكر من قول عائشة وابن عباس ومقاتل وابن كيسان قلت : على تقدير كون القيام بالليل واجبا في الابتداء على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته فكون ذلك منسوخا في حق أمته أمر مجمع عليه، وأما كونه منسوخا في حق النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان في الابتداء واجبا عليه خاصة أو عليه وعلى أمته عامة فقد اختلف فيه فقيل لم ينسخ في حق النبي صلى الله عليه وسلم بل كان قيام الليل واجبا عليه صلى الله عليه وسلم خاصة إلى آخر عمره وقيل : بل نسخ عنه صلى الله عليه وسلم أيضا وكان عليه الصلاة نافلة وهو الصحيح المختار عندي ويدل عليه قوله تعالى :﴿ ومن الليل فتهجد به نافلة لك ﴾ فإنه صريح في كونه نافلة. فإن قيل : معنى النافلة الزائدة يعني زائدة في الوجوب عليك لا على أمتك ؟ قلت : لو كان كذلك يقال عليك فإن صلة الوجوب تكون على دون اللام. فإن قيل : في وجه تخصيصه به عليه الصلاة والسلام فإنها نافلة لجميع الناس غير ممنوعة عن أحد ؟ قلنا : وجه التخصيص على ما روي عن مجاهد والحسن وأبي أمامة أن تسميتها نافلة في حقه صلى الله عليه وسلم خاصة باعتبار كونها عامة في رفع الدرجات بخلاف غيره فإنها في حق غيره نافلة في تكفير السيئات غالبا ويدل أيضا على كون قيام الليل تطوعا في حق النبي صلى الله عليه وسلم حديث المغيرة قال قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له لم تصنع هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال :( أفلا أكون عبدا شكورا ) ولم يقل إنها فريضة علي خاصة وحديث ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض ويوتر على راحلته متفق عليه.
مسألة :
اختلفوا في أن صلاة الليل في حق الأمة من سنن الهدى المؤكدات أو من المستحبات ؟ فقيل : هي مندوب في حقنا وهذا قول من قال هي كانت فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات قالوا : الأدلة القولية تفيد الندب والمواظبة الفعلية لم يكن على سبيل التطوع والسنة ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التطوع والمختار عندي أنها من سنن الهدى كما ذكرنا أن مواظبته صلى الله عليه وسلم كان على وجه التطوع وعلى تقدير تسليم كون المواظبة على سبيل الوجوب فمواظبته صلى الله عليه وسلم أي وجه كان يقتضي كون الفعل مسنونا ما لم يكن ممنوعا في حق غيره كصوم الوصال مثلا، ومما دل على كونه سنة مؤكدة حديث ابن مسعود قال : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقيل له ما زال نائما حتى أصبح ما قام إلى الصلاة قال :( ذلك رجل بال الشيطان في أذنه أو قال : في أذنيه ) متفق عليه، فإن ترك المندوب لا يستحق عليه اللوم والعتاب والله تعالى أعلم. وقيل : المراد بقوله تعالى :﴿ فاقرءوا ما تيسر من القرآن ﴾ القرآن في الصلوات الخمس، وقال الحسن يعني في صلاة المغرب والعشاء، قال البغوي قال قيس بن حازم صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ثم ركع فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال :( إن الله عز وجل يقول فاقرؤوا ما تيسر منه ) ويحتمل أن يكون المراد منه فاقرؤوا القرآن بعينه كيف ما تيسر لكم.
مسألة :
اختلفوا في مقدار القراءة التي لا يجوز الصلاة إلا بها ومقدار الواجب منها في الصلاة ؟ فقال أبو حنيفة في إحدى الروايات عنه إن ما هو ركن للصلاة ولا يصح الصلاة إلا به هو أدنى ما يطلق عليه اسم القرآن ولم يشبه قصد الخطاب واحدا ونحوه وتقتضي هذه الروايات الجواز بدون الآية وبه جزم القدوري وفي رواية عنه وعن أحمد هو آية تامة لا يجوز الصلاة بما دون ذلك واختاره صاحب الهداية وفي رواية عنه وبه قال أبو يوسف ومحمد أنه ثلاث آيات قصار مثل سورة الكوثر أوية طويلة تساوي الثلاث لكن يجب عند أبي حنيفة وصاحبيه قراءة الفاتحة وقدر سورة معه فإن ترك شيئا منها يجب سجدة السهو إن كان ترك سهوا فإن لم يسجد وترك عمدا يأثم ويجب عليه الإعادة من غير افتراض، وقال مالك والشافعي وأحمد لا تصح الصلاة إلا بفاتحة الكتاب وسن عندهم ضم السورة ولا يجب احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم :( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت ورواه الدارقطني بلفظ ( لا تجوز صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) وقال : إسناده صحيح رواه ابن خزيمة وابن حبان بهذه اللفظ من حديث أبي هريرة وفيه قال الراوي قلت : إن كنت خلف الإمام ؟ قال : فأخذ بيدي وقال : اقرأ بها في نفسك، وروى مسلم وأحمد عن أبي هريرة بلفظ ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج غير تمام ) فقلت : يا أبا هريرة أحيانا أكون وراء الإمام ؟ فقال : اقرأ بها في نفسك يا فارسي، وروى الحاكم من طريق أشهب عن أبي عتبة عن أبي هريرة عن محمد بن الربيع عن عبادة مرفوعا ( أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضا عنها ) وبما ذكرنا من اختلاف ألفاظ الحديث ظهر لك اندفاع ما قيل إن معنى قوله :( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) صلاة كاملة كما في قوله عليه السلام :( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) لأن هذا التأويل لا يجري في أكثر ما ذكرنا من الألفاظ على أن متعلق الجار والمجرور الواقع خبرا لا يقدر إلا عاما أي لا صلاة كائنة وعدم الوجود شرعا هو عدم الصحة غير أن في حديث لا صلاة إلا في المسجد لما قام الدليل عليه وهو الإجماع، قلنا : المراد هناك كون خاص أي كاملة فهو من باب حذف الخبر لا من باب وقوع الجار والمجرور خبرا وما مر في تفسير سورة الفاتحة حديث ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) الحديث يدل على أن الصلاة لا يكون إلا بفاتحة الكتاب وأبو حنيفة أخذ بهذا الحديث قال : بوجوب الفاتحة في الصلاة ووجوب ضم السورة أيضا لما روي في بعض الروايات ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا ) رواه مسلم وأبو داود وابن حبان وروى ابن ماجة عن أبي سعيد بلفظ ( لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها ) وإسناده ضعيف ولأبي داود من طريق همام عن قتادة عن أبي بصر عن أبي سعيد قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر وإسناده صحيح ولم يقل أبو حنيفة بكون الفاتحة ركنا للصلاة بحيث لا يجوز الصلاة إلا بها عملا بهذه الآية :﴿ فاقرءوا ما تيسر من القرآن ﴾ قال صاحب الهداية الزيادة على الكتاب القطعي غير الواحد لا يجوز لكنه يوجب العمل فقلنا بوجوبها والصحيح عندي أن الفاتحة وكذا ضم السورة ركن للصلاة لا يجوز الصلاة إلا بهما الاستدلال بهذه الآية على نفي الركنية لا يصح لأن الظاهر في تأويل الآية كما ذكرنا أن المراد بالقراءة نفس الصلاة بالليل ومعنى قوله تعالى :﴿ فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر ﴾ أنه خفف عنكم في قيام الليل فصلوا ما تيسر لكم الصلاة فلا دلالة بهذه الآية على قدر القراءة ولا بد منه، وما قيل في تأويله أنه ما تيسر من القرآن في الصلوات الخمس فتأويل بعيد واحتمال ضعيف والاحتمال لا يتصور كونه حجة للوجوب فكيف يحكم عليه بكونه قطعيا لا يجوز الزيادة عليه بخبر الواحد كيف والحديث تلقته الأمة بالقبول وانعقد الإجماع على العمل به وتوارث النقل وتواتر المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم واحد من السلف والخلف لم يصل بغير الفاتحة وبمثل هذا الخبر والنقل المتوارث يزاد على الكتاب إجماعا على أن الصلاة مجمل وأحاديث الآحاد يحتمل أن يكون بيانا للمجمل ويبين أركانا لها ولقد قالت الحنفية القعدة الآخرة واستدلوا عليه بحديث ابن مسعود رضي الله عنه في التشهد ( إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد ) قالوا : علق التمام بأحد الأمرين فهو فرض مع أن الحديث من الآحاد أيضا والله تعالى أعلم. وقد يستدل الحنفية على عدم ركنية الفاتحة بحديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر من القرآن ) الحديث متفق عليه، والجواب أن هذا الحديث وجوب القراءة مطلقا وما مر من قوله صلى الله عليه وسلم :( إلا بفاتحة الكتاب ) يدل التعيين فالعمل بالحديثين بحمل المطلق على المقيد قلنا بركنية الفاتحة وقد ورد في بعض طرق حديث المسيء صلاته بلفظ ( فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت به ) الحديث رواه أحمد من حديث رفاعة بن رافع ورواه الدارقطني من حديثه بلفظ ( ثم يكبر الله ويثني عليه ثم يقرأ بأم القرآن وما أذن له فيه وما تيسر ) الحديث.
مسألة :
هل يجب القراءة على المقتدي أم لا ؟ فقال الشافعي يجب عليه قراءة الفاتحة كالإمام والمنفرد قال كذا روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس ومعاذ وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد لا يجب، ثم اختلفوا فقال أبو حنيفة يكره مطلقا وقال مالك وأحمد يكره في الجهرية فقط وقال أحمد يستحب في السرية وكذا في الجهرية عند سكتات الإمام إن سكت لا مع قراءته وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك ويروى ذلك عن ابن عمر وعروة بن الزبير وأبو القاسم بن محمد، وجه القول بسقوط القراءة عن المقتدي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من كا