تفسير سورة الليل

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة الليل من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

سورة الليل١
مكية وآياتها احدى وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (١١)
شرح الكلمات:
إذا يغشى: أي بظلمته كل ما بين السماء والأرض في الإقليم الذي يكون به.
إذا تجلى: أي تكشف وظهر في الإقليم الذي هو به وإذا هنا وفي التي قبلها ظرفية وليست شرطية.
وما خلق الذكر والأنثى: أي ومن خلق الذكر والأنثى آدم وحواء وكل ذريتهما وهو الله تعالى.
إن سعيكم لشتى: أي إن عملكم أيها الناس لمختلف منه الحسنة المورثة للجنة ومنه السيئة الموجبة للنار.
من أعطى واتقى: أي حق الله وأنفق في سبيل الله واتقى ما يسخط الله تعالى من الشرك والمعاصي.
وصدق بالحسنى: أي بالخلف لحديث اللهم أعط منفقا خلفاً.
فسنيسره لليسرى: أي فسنيسره للخلة أي الخصلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا ليوجب له به الجنة في الآخرة.
وأما من بخل واستغنى: أي منع حق الله والإنفاق في سبيل الله واستغنى بماله عن الله فلم يسأله من فضله ولم يعمل عملا صالحا يتقرب به إليه.
وكذب بالحسنى: أي بالخلف وما تثمره الصدقة والإيمان وهو الجنة.
١ قال صلى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب فقرأ (والليل إذا يغشى) فلما بلغ (فأنذرتكم ناراً تلظى) وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعداها من البكاء فتركها وقرأ سورة أخرى.
580
فسنيسره للعسرى: فسنهيئه للخلة العسرى وهي العمل بما يكرهه الله ولا يرضاه ليكون قائده إلى النار.
إذا تردى: أي في جهنم فسقط فيها.
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿وَاللَّيْلِ﴾ أقسم تعالى بالليل١ ﴿إِذَا يَغْشَى﴾ بظلامه الكون، وبالنهار ﴿إِذَا تَجَلَّى﴾ ٢ أي تكشف وظهر وهما آيتان من آيات الله الدالتان على ربوبيته تعالى الموجبة لألوهيته، وأقسم بنفسه جل وعز فقال ﴿وَمَا ٣خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ أي والذي خلق الذكر والأنثى آدم وحواء ثم سائر الذكور وعامة الإناث من كل الحيوانات وهو مظهر لا يقل عظمة على آيتي الليل والنهار والمقسم عليه أو جواب القسم هو قوله ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ أي إن عملكم أيها الناس لمختلف منه الحسنات الموجبة للسعادة والكمال في الدارين ومنه السيئات الموجبة للشقاء في الدارين أي دار الدنيا والآخرة. وبناءً على هذا ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى﴾ حق الله في المال فأنفق وتصدق في سبيل الله ﴿وَاتَّقَى﴾ الله تعالى فآمن به وعبده ولم يشرك به ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى٤﴾ التي هي الخلف أي العوض المضاعف الذي واعد به تعالى من ينفق في سبيله في قوله ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ وفي قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح٥ "ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا"، فسيهيئه للخلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا ويثيبه عليه في الآخرة بالجنة ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾ بالمال فلم يعط حق الله فيه ولم يتصدق متطوعا٦ ﴿وَاسْتَغْنَى﴾ بماله وولده وجاهه فلم يتقرب إلى الله تعالى بطاعته في ترك معاصيه ولا في أداء فرائضه وكذب بالخلف من الله
١ من لطائف هذا الإقسام بالليل والنهار وهما ضدان الإشارة إلى تضاد الذكر والأنثى والحسن والسوء والعسر واليسر والتصديق والتكذيب وهذا محتوى هذه السورة.
٢ تجلى النهار وضوح ضوئه أقسم الله تعالى بكل من الليل وظلمته والنهار وضوءه لما في ذلك من مظاهر قدرة الله وعظمته على خلق الظلمات والنور.
٣ يرى بعضهم أن المقسم به المصدر بناء على أن (ما) مصدرية والصحيح أنها موصولة وأن الإقسام كان بالرب تبارك وتعالى فإنه أعظم إقسام.
٤ كلمة الحسنى صالحة لعدة معان وهي مؤنث الأحسن ولذا هي صفة لموصوف محذوف وتنوسي فيها ذلك فصارت اسماً لما هو أحسن كالجنة والمثوبة الحسنة والنصر والعاقبة والخلف على المنفق في سبيل الله وهو الراجح هنا لاختيار ابن جرير له.
٥ رواه البخاري وغيره.
٦ في الآية دليل على أن الجود من مكارم الأخلاق والبخل من أرذلها، وليس الجواد الذي يعطى في غير موضع العطاء كما ليس البخيل الذي يمنع في موضع المنع لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء.
581
تعالى على من ينفق في سبيله ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ١ لِلْعُسْرَى﴾ أي فسنهيئه للخلة العسرى٢ وهي العمل بما يكره الله تعالى ولا يرضاه من الذنوب والآثام ليكون ذلك قائده إلى النار. وقوله تعالى ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى٣﴾ يخبر تعالى بأن من بخل واستغنى وكذب بالحسنى حفاظا على ماله وشحا به وبخلا أن ينفقه في سبيل ربه هذا المال لا يغني عنه شيئا يوم القيامة إذا ألقي به في نار جهنم فتردى ساقطا فيها على أم رأسه كما قال تعالى ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي لعدم الحسنات الكافية فيها ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ﴾.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- بيان عظمة الله وقدرته وعلمه الموجبة لربوبيته المقتضية لعبادته وحده دون سواه.
٢- تقرير القضاء والقدر وهو أن كل إنسان ميسر لما خلق له من سعادة أو شقاء لحديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له، مع تقرير أن ممن وفق للعمل بما يرضى الله تعالى كان ذلك دليلا على أنه مكتوب سعيدا إذا مات على ما وفق له من العمل الصالح. وأن من وفق للعمل المسخط لله تعالى كان دليلا على أنه مكتوب شقاوته إن هو مات على ذلك.
٣- تقرير أن التوفيق للعمل بالطاعة يتوقف حسب سنة الله تعالى على رغبة العبد وطلبه ذلك والحرص عليه واختياره على غيره وتسخير النفس والجوارح له. كما أن التوفيق للعمل الفاسد قائم على ما ذكرنا في العمل الصالح وهو اختيار العبد وطلبه وحرصه وتسخير نفسه وجوارحه لذلك هذه سنة من سنن الله تعالى في خلقه.
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (١٢) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (٢١)
١ في قوله فسنيسره للعسرى تهكم به نحو فبشره بعذاب أليم.
٢ حديث صحيح.
٣ التردي السقوط من أعلى إلى أسفل المفضي بصاحبه إلى الهلاك.
582
شرح الكلمات:
إن علينا للهدى: أي إن علينا لبيان الحق من الباطل والطاعة من المعصية.
وإن لنا للآخرة والأولى: أي ملك ما في الدنيا والآخرة نعطي ونحرم من نشاء لا مالك غيرنا.
فأنذرتكم: أي خوفتكم.
نارا تلظى: أي تتوقد.
لا يصلاها: أي لا يدخلها ويحترق بلهبها.
إلا الأشقى: أي إلا الأشقى.
الذي كذب وتولى: كذب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جاء به وتولى وأعرض عن الإيمان به وبما جاء به من التوحيد والطاعة لله ورسوله.
وسيجنبها الأتقى: أي يبعد عنها التقي.
يتزكى: أي يتطهر به فلذا يخليه من النظر إلى غير الله فهو لذلك خال من الرياء والسمعة.
وما لأحد عنده من نعمة تجزى: أي ليس لأحد من الناس عليه منة فهو يكافئه بذلك.
إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى: لكن يؤتي ماله في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله عز وجل.
ولسوف يرضى: أي يعطيه الله تعالى من الكرامة ما يرضي به في دار السلام.
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ الآيات... بعد أن أعلم تعالى عباده أنه ييسر لليسرى من أعطى واتقى وصدق بالحسنى، وأنه ييسر للعسرى من بخل واستغنى وكذب بالحسنى أعلم بحقيقة أخرى وهي أن بيان الطريق الموصل بالعبد لليسرى هو على الله تعالى متكفل به وقد بينه بكتابه ورسوله فمن طلب اليسرى فأولا يؤمن بالله ورسوله ويوطن نفسه على طاعتهما ويأخذ في تلك الطاعة العمل بها وثانيا ينفق في سبيل الله ما يطهر به نفسه من البخل وشح النفس ويظهر فقره وحاجته إلى الله تعالى بالتقرب إليه بالنوافل وصالح الأعمال وبذلك يكون قد يسر فعلا لليسرى وقوله تعالى ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى﴾ ١ أي الدنيا وعليه فمن طلبها من غيرنا فقد أخطأ ولا يحصل عليها بحال فطلب الآخرة يكون بالإيمان والتقوى، وطلب الدنيا يكون بالعمل حسب سنتنا في الكسب وحصول المال وقوله تعالى {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً٢ تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى٣ الَّذِي كَذَّبَ
١ المراد بالآخرة الجنة، وإن كان اللفظ يشمل الآخرة بكل ما فيها من نعيم وجحيم وسعادة وشقاء وفوز وخسران.
٢ تنكير (ناراً) للتهويل، وجملة تلظى نعت ومعنى تلظى: تتلهب من شدة الاشتعال.
٣ يذكر بعض المفسرين أن المراد بالأشقى أمية بن خلف ونظراؤه من أكابر مجرمي قريش، واللفظ عام يشمل كل من ينطبق عليه الوصف المذكور.
583
وَتَوَلَّى} أي فبناء على ما بينا لكم فقد أنذرتكم أي خوفتكم نارا تلظى أي تتوقد التهابا لا يصلاها لا يدخلها ويصطلي بحرها خالدا فيها أبدا إلا الأشقى أي الأكثر شقاوة وهو المشرك وقد يدخلها الشقي من أهل التوحيد ويخرج منها بتوحيده، حيث لم يكذب ولم يتول، ولكن فجر وعصى، وما أشرك وما تولى، وقوله تعالى ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾ أي يعطي ماله في سبيل الله يتزكى به من مرض الشح والبخل وآثار الذنوب والإثم، وقوله ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ ١وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ أي فهو ينفق ما ينفقه في سبيل الله خاصة وليس ما ينفقه من أجل أن عليه لأحد من الناس فضلا أو يداً فهو يكافئه بها لالا، وإنما هو ينفق ابتغاء وجه ربه الأعلى أي يريد رضا ربه تعالى لا غير. قال تعالى ﴿وَلَسَوْفَ ٢يَرْضَى﴾ أي ما دام ينفق ابتغاء وجهنا فقط فسوف نكافئه ونعطيه عطاء يرضى به وذلك في الجنة دار السلام. هذه الآية الكريمة نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد كان في مكة يشتري العبيد من مواليهم الذين يعذبونهم من أجل إسلامهم فكان يشتريهم ويعتقهم لوجه الله تعالى ومنهم بلال رضي الله عنه فقال المشركون إنما فعل ذلك ليد عنده أي نعمه فهو يكافيه بها فأكذبهم الله في ذلك وأنزل قوله وسيجنبها الأتقى الآيات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- بيان أن الله تعالى متكفل بطريق الهدى فأرسل الرسل وأنزل الكتاب فأبان الطريق وأوضح السبيل.
٢- بيان أن لله تعالى وحده الدنيا والآخرة فمن أرادهما أو إحداهما فليطلب ذلك من الله تعالى فالآخرة تطلب بالإيمان والتقوى والدنيا تطلب باتباع سنن الله تعالى في الحصول عليها.
٣- بيان فضل أبي بكر الصديق وأنه مبشر بالجنة في هذه الآية الكريمة.
١ الابتغاء الطلب بجد فهو أبلغ من البغي.
٢ ولسوف يرضى لتحقيق الوعد في المستقبل، إذ اللام لام الابتداء لتأكيد الخبر هذه السورة تحمل معنى جوامع الكلم إذ تضمنت كل ما يرغب فيه الراغبون من الكمال والفوز والفلاح وهي آخر متوسط المفصل.
584
Icon