وتسمى سورة المسد وهي مكية وآيها خمس بلا خلاف في الامرين ولما ذكر سبحانه فيما قبل دخول الناس في ملة الاسلام عقبه سبحانه بذكر هلاك بعض ممن لم يدخل فيها وخسرانه على نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له منها نصيب ولا سهم كذا قيل في وجه الاتصال وقيل هو من اتصال الوعيد بالوعد وفي كل مسرة له عليه الصلاة والسلام وقال الامام في ذلك انه تعالى لما قال لكم دينكم وأي دين فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال اهى فما جزائي فقال اله تعالى لك النصر والفتح فقال فما جزاء عمى الذي دعاني الى عبادة الاصنام فقال تبت يداه وقدم الوعد على الوعيد ليكون النصر متصلا بقوله تعالى ولى دين والوعيد راجعا الى قوله تعالى لكم دينكم على حد يوم تبيض وجوه الآية فتأمل هذه المجانسة الحاصلة بين هذه السور مع أن سورة النصر من آخر مانزل بالمدينة وتبت من من أوائل مانزل بمكة لتعلم ان ترتيبها من الله تعالى وبآمره عز وجل ثم قال ووجه آخر وهو انه لما قال لكم دينكم ولى دين فكأنه قيل الهى ما جزاء المطيع قال حصول النصر والفتح ثم قيل فما جزاء العاصي قال الخسار في الدنيا والعقاب في العقبى كما دلت عليه سورة تبت انتهى وهو كما ترى.
ﰡ
وتسمى سورة المسد، وهي مكية وآيها خمس بلا خلاف في الأمرين. ولما ذكر سبحانه فيما قبل دخول الناس في ملة الإسلام عقبه سبحانه بذكر هلاك بعض ممن لم يدخل فيها وخسرانه.
على نفسه فليبك من ضاع عمره | وليس له منها نصيب ولا سهم |
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ أي هلكت كما قال ابن جبير وغيره ومنه قولهم أشابة أم تابة يريدون أم هالكة من الهرم والتعجيز أي خسرت كما قال ابن عباس وابن عمر وقتادة، وعن الأول أيضا خابت، وعن يمان بن وثاب صفرت من كل خير وهي على ما في البحر أقوال متقاربة. وقال الشهاب: إن مادة التباب تدور على القطع وهو مؤد إلى الهلاك ولذا فسر به. وقال الراغب: هو الاستمرار في الخسران ولتضمنه الاستمرار قيل استتب لفلان كذا أي استمر ويرجع هذا المعنى إلى الهلاك يَدا أَبِي لَهَبٍ هو عبد العزّى بن عبد المطلب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان شديد المعاداة والمناصبة له عليه الصلاة والسلام ومن ذلك ما
في
وأخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: ٢١٤] صعد النبي صلّى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر يا بني عدي» لبطنون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي» ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلّا صدقا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبا لك سائر الأيام ألهذا جمعتنا؟ فنزلت
ويروى أنه مع ذلك القول أخذ بيديه حجرا ليرمي بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن هذا يعلم وجه إيثار التباب على الهلاك ونحوه مما تقدم وإسناده إلى يديه وكذا مما روى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أيضا أن أبا لهب قال لما خرج من الشعب وظاهر قريشا: إن محمدا يعدنا أشياء لا نراها كائنة يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يديه ثم نفخ في يديه ثم قال تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد صلّى الله عليه وسلم فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ
ومما روي عن طارق يعلم وجه الثاني فقط فاليدان على المعنى المعروف والكلام دعاء بهلاكهما. وقوله سبحانه وَتَبَّ دعاء بهلاك كله وجوز أن يكونا إخبارين بهلاك ذينك الأمرين والتعبير بالماضي في الموضعين لتحقق الوقوع.
وقال الفرّاء: الأول دعاء بهلاك جملته على أن اليدين إما كناية عن الذات والنفس لما بينهما من اللزوم في الجملة، أو مجاز من إطلاق الجزء على الكل كما قال محيي السنة والقول في رده أنه يشترط أن يكون الكل يعدم بعدمه كالرأس والرقبة واليد ليست كذلك غير مسلم لتصريح فحول بخلافه هنا، وفي قوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥] أو المراد على ما قيل بذلك الشرط يعدم حقيقة أو حكما كما في إطلاق العين على الربيئة واليد على المعطي أو المتعاطي لبعض الأفعال فإن الذات من حيث اتصافها بما قصد اتصافها به تعدم يعدم ذلك العضو، والثاني إخبار بالحصول أي وكان ذلك وحصل كقول النابغة:
جزاني جزاه الله شر جزائه | جزاء الكلاب العاويات وقد فعل |
قصدت أنا المحاسن كي أراه | لشوق كاد يجذبني إليه |
فلما أن رأيت رأيت فردا | ولم أر من بنيه ابنا لديه |
وعن ابن عباس ومجاهد ما كسب من الولد أخرج أبو داود عن عائشة مرفوعا: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه»
وروي أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي وكان له ثلاثة أبناء عتبة ومعتب وقد أسلما يوم الفتح، وسرّ النبي عليه الصلاة والسلام بإسلامهما ودعا لهما، وشهدا حنينا والطائف وعتيبة بالتصغير ولم يسلم. وفي ذلك يقول صاحب كتاب الألباء:
كرهت عتيبة إذ أجرما | وأحببت عتبة إذ أسلما |
كذا معتب مسلم فاحترز | وخف أن تسب فتى مسلما |
وكان أبو طالب حاضرا فكره ذلك وقال له: ما أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة. فرجع إلى أبيه ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير وقال لهم: إن هذه أرض مسبعة فقال أبو لهب: أغيثوني يا معشر قريش في هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم خوفا من الأسد، فجاء أسد يتشمم وجوههم حتى أتى عتيبة فقتله وفي ذلك يقول حسان:
من يرجع العام إلى أهله | فما أكيل السبع بالراجع |
أخرج ابن عساكر عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر رضي الله تعالى عنهما أن عقيل بن أبي طالب دخل على معاوية فقال معاوية له: أين ترى عمك أبا لهب من النار؟ فقال له عقيل: إذا دخلتها فهو على يسارك مفترش عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب
ولا أظن صحة هذا الخبر
من البيض لم تصطد على ظهر لامة... ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
وجعله رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر ففيه إيغال حسن وكذا قول الراجز:
إن بني الأدرم حمالو الحطب... هم الوشاة في الرضاء والغضب
وقال ابن جرير: حمالة الخطايا والذنوب من قولهم فلان يحطب على ظهره إذا كان يكتسب الآثام والخطايا، والظاهر أن الحطب عليه مستعار للخطايا بجامع أن كلّا منهما مبدأ للإحراق. وقيل: الحطب جمع حاطب كحارس وحرس أي تحمل الجناة على الجنايات وهو محمل بعيد. وقرأ أبو حيوة وابن مقسم:
«سيصلّى» بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام «ومريئته» بالتصغير والهمز وقرىء «ومريته» بالتصغير وقلب الهمزة ياء وإدغامها. وقرأ الحسن وابن إسحاق «سيصلى» بضم الياء وسكون الصاد واختلس حركة الهاء في «امرأته» أبو عمر. وفي رواية وقرأ أبو قلابة «حاملة الحطب» على وزن فاعلة مضافا. وقرأ الأكثرون حَمَّالَةَ الْحَطَبِ بالرفع والإضافة وقرىء «حمالة للحطب» بالتنوين رفعا ونصبا وبلام الجر في الحطب وقوله تعالى فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر في موضع الحال من الضمير في حَمَّالَةَ وقيل من امْرَأَتُهُ المعطوف على الضمير. وقيل: الظرف حال منها وحَبْلٌ مرتفع به على الفاعلية. وقيل له خبر لامرأته وهي مبتدأ لا معطوفة على الضمير، وحَبْلٌ فاعل. وعلى قراءة حَمَّالَةَ بالرفع قيل امْرَأَتُهُ مبتدأ وحَمَّالَةَ خبر. وفِي جِيدِها حَبْلٌ خبر ثان أو حال من ضمير حَمَّالَةَ أو الظرف كذلك وحَبْلٌ مرتفع به على الفاعلية أو امْرَأَتُهُ مبتدأ وحَمَّالَةَ صفته لأنه للماضي فيتعرف بالإضافة والخبر على ما سمعت أو امْرَأَتُهُ عطف على الضمير وحَمَّالَةَ خبر مبتدأ محذوف أي هي حمالة وما بعد خبر ثان أو حال من ضمير حمالة على نظير ما مر. وفي التركيب غير ذلك من أوجه الاعراب سيذكر إن شاء الله تعالى وبعض ما ذكرناه هاهنا غير مطرد على جميع الأوجه في معنى الآية كما لا يخفى عند الاطلاع عليها على المتأمل. والمسد ما مسد أي فتل من الحبال فتلا شديدا من ليف المقل على ما قال أبو الفتح ومن أي ليف على ما قيل، وقيل من لحاء شجر باليمن يسمى المسد وروي ذلك عن ابن زيد وقد يكون كما في البحر من جلود الإبل أو أوبارها ومنه قوله:
ومسد أمر من أيانق... ليست بأنياب ولا حقائق
أي في عنقها حبل مما مسد من الحبال، والمراد تصويرها بصور الحطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تخسيسا لحالها وتحقيرا لها لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها إذ كانا في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عيّر بغض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب فقال:
غراء شادخة في المجد غرتها... كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب
وقد أغضبها ذلك، فيروى أنها لما سمعت السورة أتت أبا بكر رضي الله تعالى عنه وهو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر، فقالت: بلغني أن صاحبك هجاني ولأفعلن وأفعلن وإن كان شاعرا فأنا مثله أقول:
مذمما أبينا... ودينه قلينا
وأمره عصينا
وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
فروي أن أبا بكر قال لها: هل ترين معي أحدا؟ فقالت:
أتهزأ بي لا أرى غيرك. فسكت أبو بكر ومضت وهي تقول: قريش تعلم أني بنت سيدها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لقد حجبني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله تعالى شرها»
. وقيل: إن ذلك ترشيح للمجاز بناء على اعتباره في حمالة الحطب. وفي الكشاف يحتمل أن يكون المعنى تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه، وعليه فالحبل مستعار للسلسلة وروي هذا عن عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان. وأمر الاعراب على ما في الكشف أنه إن نصب حَمَّالَةَ يكون حالا هو والجملة أعني فِي جِيدِها حَبْلٌ عن المعطوف على الضمير سَيَصْلى أي ستصلى امرأته على هذه الحالة أو يكون حَمَّالَةَ نصبا على الذم والجملة وحدها حالا أو امرأته في جيدها حبل جملة وقعت حالا عن الضمير، ويحتمل عطف الجملة على الجملة على ضعف. وعلى الرفع يحتمل أن تكون الجملة حالا وأن يكون امْرَأَتُهُ عطفا على الفاعل، وحَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها جملة لا محل لها من الإعراب وقعت بيانا لكيفية صليها، أي هي حمالة الحطب انتهى فتأمل ولا تغفل. وعلى جميع الأوجه والاحتمالات إنما لم يقل سبحانه في عنقها والمعروف أن يذكر العنق مع الغل ونحوه مما فيه امتهان كما قال تعالى فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: ٨] والجيد مع الحلي كقوله:
أو أحسن من جيد المليحة حليها ولو قال عنقها كان غثا من الكلام. قال في الروض الآنف: لأنه تهكم نحو فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١، التوبة: ٣٤، الانشقاق: ٢٤] أي لا جيد لها فيحلى، ولو كان لكانت حليته هذه. ولتحقيرها قيل امْرَأَتُهُ ولم يقل زوجه انتهى. وهو بديع جدا إلّا أنه يعكر على آخره قوله تعالى وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ [هود:
٧١] ولعله استعان هاهنا على ما قال بالمقام. وعن قتادة أنه كان في جيدها قلادة من ودع وفي معناه قول الحسن من خرز. وقال ابن المسيب: كانت قلادة فاخرة من جوهر وأنها قالت: واللات والعزّى لأنفقنها على عداوة محمد صلّى الله عليه وسلم، ولعل المراد على هذا أنها تكون في نار جهنم ذات قلادة من حديد ممسود بدل قلادتها التي كانت تقول فيها لأنفقنها إلخ. وعلى ما قبله تهجين أمر قلادتها لتأكيد ذمها بالبخل الدال عليه قوله تعالى:
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ على ما نقلناه سابقا عن قتادة ويحتمل غير ذلك، ووجه التعبير بالجيد على ما ذكر مما لا يخفى. وزعم بعضهم أن الكلام يحتمل أن يكون دعاء عليها بالخنق بالحبل وهو من الذهن مناط الثريا. نعم ذكر أنها ماتت يوم ماتت مخنوقة بحبل حملت به حزمة حطب لكن هذا لا يستدعي حمل ما ذكر على الدعاء هذا. واستشكل أمر تكليف أبي لهب بالإيمان مع قوله تعالى سَيَصْلى إلخ بأنه بعد أن أخبر الله تعالى عنه
٣] إلخ بناء على دلالته على استمرار عدم عبادتهم ما يعبد عليه الصلاة والسلام. وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى سَيَصْلى إلخ ليس نصا في أنه لا يؤمن أصلا فإن صلي النار غير مختص بالكفار فيجوز أن يفهم أبو لهب منه أن دخوله النار لفسقه ومعاصيه لا لكفره، ولا يجري هذا في الجواب عن تكليف أولئك الكافرين بناء على فهمهم السورة إرادة الاستمرار. وأجاب بعض آخر بأن من جاء فيه مثل ذلك وعلم به مكلف بأن يؤمن بما عداه مما جاء به صلّى الله عليه وسلم. وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري وكذا القاضي عبد الجبار بغير ما ذكر مما رده الإمام وقيل في خصوص هذه الآية إن المعنى سيصلى نارا ذات لهب ويخلد فيها إن مات ولم يؤمن فليس ذلك مما هو نص في أنه لا يؤمن، وما لهذه الأجوبة وما عليها يطلب من مطولات كتب الأصول والكلام، واستدل بقوله تعالى وَامْرَأَتُهُ على صحة أنكحة الكفار والله تعالى أعلم.
وسميت بها لما فيها من التوحيد ولذا سميت أيضا بالأساس فإن التوحيد أصل لسائر أصول الدين. وعن كعب كمال قال الحافظ ابن رجب: أسست السماوات السبع والأرضون السبع على هذه السورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. ورواه الزمخشري عن أبي وأنس مرفوعا ولم يذكره أحد من المحدثين المعتبرين كذلك، وكيف كان فالمراد به كما قال: ما خلقت السماوات والأرضون إلّا لتكون دلائل على توحيد الله تعالى ومعرفة صفاته التي تضمنتها هذه السورة. وقيل: معنى تأسيسها عليها أنها إنما خلقت بالحق كما قال تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء: ١٦] ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: ٣٩] وهو العدل والتوحيد وهو إن لم يرجع إلى الأول لا يخلو عن نظر. وقيل: المراد أن مصحح إيجادهما أي بعد إمكانهما الذاتي ما أشارت إليه السورة من وحدته عز وجل واستحالة أن يكون له سبحانه شريك إذ لولا ذلك لم يمكن وجودهما لإمكان التمانع كما قرره بعض الأجلّة في توجيه برهانية قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] وفيه بعد. وتسمى أيضا سورة قل هو الله أحد كما هو مشهور يشير إليه الأثر أيضا، والمقشقشة لما سمعت في تفسير سورة الكافرون، وسورة التوحيد، وسورة التفريد، وسورة التجريد، وسورة النجاة، وسورة الولاية، وسورة المعرفة لأن معرفة الله تعالى إنما تتم بمعرفة ما فيها.
وفي أثر أن رجلا صلى فقرأها فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن هذا عبد عرف ربه».
وسورة الجمال قيل لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إن الله جميل يحب الجمال» فسألوه صلّى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «أحد صمد لم يلد ولم يولد»
ولا أظن صحة الخبر، وسورة النسبة لورودها جوابا لمن قال: انسب لنا ربك على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى. وقيل لما
أخرجه الطبراني من طريق عثمان بن عبد الرحمن الطرايفي عن الوازع بن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لكل شيء نسبة ونسبة الله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد»
وهو كما قال الحافظ ابن رجب ضعيف جدا وعثمان يروي المناكير. وفي الميزان أنه موضوع، وسورة الصمد، وسورة المعوذة لما
أخرج النسائي والبزار وابن مردويه بسند صحيح عن عبد الله بن أنيس قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وضع يده على صدري ثم قال: «قل» فلم أدر ما أقول، ثم قال: «قل هو الله أحد» فقلت حتى فرغت منها ثم قال: «قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق» فقلت حتى فرغت منها، ثم قال: «قل أعوذ برب الناس» فقلت حتى فرغت منها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«هكذا فتعوذ وما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط»
. وسورة المانعة قيل لما روى ابن عباس أنه تعالى قال لنبيه صلّى الله عليه وسلم حين عرج به أعطيتك سورة الإخلاص وهي من ذخائر كنوز عرشي وهي المانعة تمنع كربات القبر ونفحات النيران. والظاهر عدم صحة هذا الخبر، ويعارضه ما
أخرجه ابن الضريس عن أبي أمامة: «أربع آيات نزلت من
وحكمه حكم المرفوع بل أخرجه الشيخ ابن حبان والديلمي وغيرهما بالسند عن أبي أمامة مرفوعا وسورة المحضر قيل لأن الملائكة عليهم السلام تحضر لاستماعها إذا قرئت، وسورة المنفرة قيل لأن الشيطان ينفر عند قراءتها، وسورة البراءة قيل لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يقرؤها فقال: «أما هذا فقد برىء من الشرك»
ولم أدر من روى ذلك. نعم
روى أبو نعيم من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة عن مهاجر قال: سمعت رجلا يقول: صحبت النبي صلّى الله عليه وسلم في سفر فسمع رجلا يقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فقال: «قد برىء من الشرك»، وسمع آخر يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال «غفر له»
وعليه فألحق بهذا الاسم سورة الكافرون ولعل الأولى أن يقال: سميت بذلك لما
في حديث الترمذي عن أنس: «من أراد أن ينام على فراشه فنام على يمينه ثم قرأ قل هو الله أحد مائة مرة كتب الله تعالى له براءة من النار»
. وسورة المذكرة لأنها تذكر خالص التوحيد، وسورة النور قيل لما
روي من قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء نورا ونور القرآن قل هو الله أحد».
وسورة الإيمان لأنه لا يتم بدون ما تضمنته من التوحيد وقد ذكر معظم هذه الأسماء الإمام الرازي وبين وجه التسمية بها بما بيّن، والرجل رحمه الله تعالى ليس بإمام في معرفة أحوال المرويات لا يميز غثها من سمينها أو لا يبالي بذلك فيكتب ما ظفر به وإن عرف شدة ضعفه وهي مكية في قول عبد الله والحسن وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة مدنية في قول ابن عباس ومحمد بن كعب وأبي العالية والضحاك قاله في البحر. وخبر ابن عباس السابق إن صح ظاهر في أنها عنده مكية. وفي الإتقان فيها قولان لحديثين في سبب نزولها متعارضين وجمع بعضهم بينهما بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية اه. وعلى ما في الكتابين لا يخفى ما في قول الدواني إنها مكية بالاتفاق من الدلالة على قلة الاطلاع. وآيها خمس في المكي والشامي، أربع في غيرهما. ووضعت هنا قيل للوزان في اللفظ بين فواصلها ومقطع سورة المسد وقيل وهو الأولى أنها متصلة بقل يا أيها الكافرون في المعنى فهما بمنزلة كلمة التوحيد في النفي والإثبات ولذا يسميان المقشقشتين، وقرن بينهما في القراءة في صلوات كثيرة ما قاله بعض الأئمة كركعتي الفجر والطواف والضحى وسنة المغرب وصبح المسافر ومغرب ليلة الجمعة إلّا أنه فصل بينهما بالسورتين لما تقدم من الوجه ونحوه وكان في إيلائها سورة تبت ردا على أبي لهب بخصوصه وجاء فيها أخبار كثيرة تدل على مزيد فضلها منها ما تقدم آنفا.
وروى مبارك بن فضالة عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحب هذه السورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: ١] قال: «إن حبك إياها أدخلك الجنة».
وأخرجه الإمام أحمد في المسند عن أبي النضر عن مبارك المذكور عن أنس. وذكر البخاري أن حبها يوجب دخول الجنة تعليقا.
وروى مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا هريرة يقول: أقبلت مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وجبت» قلت: وما وجبت؟ قال: «الجنة». وأخرجه النسائي والترمذي
وقال حديث صحيح لا نعرفه إلّا من حديث مالك.
وأخرج أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حسن غريب عن بريدة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»
وفي المسند عن محجن بن الأدرع أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل المسجد فإذا هو برجل قد قضى صلاته وهو يتشهد ويقول: إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا
وأخرج البخاري ومالك وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن»
وأخرج أحمد والنسائي في اليوم والليلة من طريق هشيم عن أبيّ بن كعب أو رجل من الأنصار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ بثلث القرآن».
وفي رواية يوسف بن عطية الصفار بسنده عن أبيّ مرفوعا: «من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن.
وكتب له من الحسنات بعدد من أشرك بالله تعالى وآمن به».
وجاء أنها تعدل ثلث القرآن في عدة أخبار مرفوعة وموقوفة.
وفي المسند من طريق ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: بات قتادة بن النعمان يقرأ الليلة كله بقل هو الله أحد فذكر ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل نصف القرآن أو ثلثه»
وحمل على الشك من الراوي والروايات تعين الثلث. واختلف في المراد بذلك فقيل: المراد أنها باعتبار معناها ثلث من القرآن المجزأ إلى ثلاثة لا أن ثواب قراءتها ثلث ثواب القرآن وإلى هذا ذهب جماعة لكنهم اختلفوا في بيان ذلك فقيل إن القرآن يشتمل على قصص وأحكامها وعقائد وهي كلها مما يتعلق بالعقائد فكانت ثلثا بذلك الاعتبار. وقال الغزالي في الجواهر ما حاصله: هي عدل ثلثه باعتبار أنواع العلوم الثلاثة التي هي أم ما في القرآن علم المبدأ وعلم المعاد وعلم ما بينهما أعني الصراط المستقيم. وقال الجوني: المطالب التي في القرآن معظمها الأصول الثلاثة التي بها يصح الإسلام ويحصل الإيمان وهي معرفة الله تعالى والاعتراف بصدق رسوله صلّى الله عليه وسلم واعتقاد القيام بين يديه وهذه السورة تفيد الأصل الأول فهي ثلثه من هذا الوجه. وقيل القرآن قسمان خبر وإنشاء والخبر قسمان خبر عن الخالق وخبر عن المخلوق فهذه ثلاثة أثلاث، وسورة الإخلاص أخلصت الخبر عن الخالق فهي بهذا الاعتبار ثلث وهذا كما ترى. وأيّا ما كان قيل لا تنافي بين رواية الثلث ورواية عدل القرآن كله المذكورة في الكشاف على تقدير ثبوتها لجواز أن يقال هي عدل القرآن باعتبار أن المقصود التوحيد وما عداه ذرائع إليه. ويؤيد اعتبار الأجزاء أنفسها دون الثواب ما
في صحيح مسلم من طريق قتادة عن أبي الدرداء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ كل يوم ثلث القرآن» ؟ قالوا: نعم. قال: «فإن الله تعالى جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فقل هو الله أحد ثلث القرآن».
وقيل المراد تعدل الثلث ثوابا لظواهر الأحاديث. وضعف ذلك ابن عقيل وقال: لا يجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات»
فيكون ثواب قراءة القرآن بتمامه أضعافا مضاعفة بالنسبة لثواب قراءة هذه السورة، والدواني أورد هذا إشكالا على هذا القول ثم أجاب بأن للقارىء ثوابين تفصيليا بحسب قراءة الحروف وإجماليا بسبب ختمه القرآن فثواب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يعدل ثلث ثواب الختم الإجمالي لا غيره، ونظيره إذا عيّن أحد لمن يبني له دارا في كل يوم دنانير وعيّن له إذا أتمه جائزة أخرى غير أجرته اليومية. وفي شرح البخاري للكرماني فإن قلت المشقة في قراءة الثلث أكثر منها في قراءتها فكيف يكون حكمه حكمها؟ قلت: يكون ثواب قراءة الثلث بعشر وثواب قراءتها بقدر ثواب مرة منها لأن التشبيه في الأصل دون الزائد وتسع منها في مقابلة زيادة المشقة. وقال الخفاجي بعد أن قال ليس فيما ذكر ما يثلج الصدر ويطمئن له البال والذي عندي في ذلك أن للناظر في معنى كلام الله تعالى المتدبر لآياته ثوابا وللتالي له وإن لم يفهمه ثواب آخر، فالمراد أن من تلاها مراعيا حقوق أدائها فاهما دقيق معانيها كانت تلاوته لها مع تأملها وتدبرها تعدل ثواب تلاوة ثلث القرآن من غير نظر في معانيه أو ثلث ليس فيه ما يتعلق بمعرفة
والذي اختاره أن يقال لا مانع من أن يخص الله عز وجل بعض العبادات التي ليس فيها كثير مشقة بثواب أكثر من ثواب ما هو جنسها وأشق منها بأضعاف مضاعفة وهو سبحانه الذي لا حجر عليه ولا يتناهى جوده وكرمه فلا يبعد أن يتفضل جل وعلا على قارئ القرآن بكل حرف عشر حسنات ويزيد على ذلك أضعافا مضاعفة جدا لقارىء الإخلاص بحيث يعدل ثوابه ثواب قارئ ثلث منه غير مشتمل على تلك السورة، ويفوض حكمة التخصيص إلى علمه سبحانه وكذا يقال في أمثالها وهذا مراد من جعل ذلك من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه وليس هذا بأبعد ولا أبدع من تخصيص بعض الأزمنة والأمكنة المتحدة الماهية بأن للعبادة منه ولو قليلة من الثواب ما يزيد أضعافا مضاعفة على ثواب العبادة في مجاوره مثلا ولو كثيرة بل قد خص سبحانه بعض الأزمنة والأمكنة بوجوب العبادة فيه وبعضها بحرمتها فيه وله سبحانه في كل ذلك من الحكم ما هو به أعلم. وقال ابن عبد البر السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام فيها وأسلم (١)، وكذلك حديث معاوية بن معاوية الليثي الذي افتتح به الإمام الكلام في هذه السورة الكريمة خرجه الطبراني وأبو يعلى من طرق كلها ضعيفة والأحاديث الصحيحة الواردة فيها تكفي في فضلها، بل قيل لذلك إنها أفضل سورة في القرآن ومنهم من استدل عليه بما
روى الدارمي في مسنده عن أبي المغيرة عن صفوان الكلاعي قال: قال رجل:
يا رسول الله أي سور القرآن أعظم؟ قال: «قل هو الله أحد»
وفي المسند من طريقي معاذ بن رفاعة وأسيد بن عبد الرحمن عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم» ؟ قلت: بلى. قال: فأقرأني قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. ثم قال: «يا عقبة لا تنساهن ولا تبت ليلة حتى تقرأهن».
وروى الترمذي بعض هذا الحديث وحسّنه ولا يدل على أنها أفضل سور القرآن مطلقا بل على أنها من الأفضل. وقال ابن الحصاد: العجب ممن ينكر الاختلاف في الفضل مع كثرة النصوص الواردة فيه، واختلف القائلون بالتفضيل فقال بعضهم: الفضل راجع إلى عظم ومضاعفة الثواب بحسب انتقالات النفس وخشيتها وتدبرها عند أوصاف العلا. وقيل: بل يرجع لذات اللفظ فإن تضمنته سورة الإخلاص مثلا من الدلالة على الوحدانية وصفاته تعالى ليس موجودا في تبت مثلا، فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها. ونقل الحليمي عن البيهقي أن معنى التفضيل بين الآيات
قوله صلّى الله عليه وسلم قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن
ما وجهه فلم يقم فيها على أمر ثم ذكر عن الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أنهما وهما إمامان بالسنة ما قاما ولا قعدا في هذه المسألة وقد سئلا عنها ومراده من ذلك تأييد ما ادعي من أن السكوت أسلم وهو كذلك لكن على الوجه الذي قررناه وقد ورد في تكرار قراءتها خمسين مرة أو أكثر من ذلك وعشر مرات عقيب كل صلاة أحاديث كثيرة فيها كما قال الحافظ ابن رجب ضعف وكذلك حديث إلخ لكنه مضروب عليه في نسخته ولا يخفى عليك الحال في كلا الأمرين اه منه.