ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سبق أن تكلمنا كثيرا عن الحروف المقطعة في بدايات سور القرآن، كلما تكررت هذه الظاهرة نتكلم عن مجالات الأذهان في فهمها، وما دام الحق سبحانه يكررها فعلينا أيضا أن نكرر الحديث عنها، ولماذا ينثر الله هذه الظاهرة في سور القرآن ؟ لتظل دائما على البال.وقلنا : إن القرآن الكريم مبني في كل آياته وسوره على الوصل، لا على الوقف، اقرأ :﴿ مدهامتان٦٤ فبأي آلاء ربكما تكذبان٦٥ فيهما عينان نضاختان١٦٦ فبأي آلاء ربكما تكذبان٦٧ ﴾ [ الرحمن ]
فلم يقل :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان٦٧ ﴾[ الرحمن ] ويقف، إنما وصل :﴿ فيهما عينان نضاختان٦٦ ﴾[ الرحمن ]لأن القرآن موصول، لا فصل أبدا بين آياته ؛ لذلك ليس في القرآن من وقف واجب، إنما لك أن تقف لضيق النفس، لكن حينما تعيد تعيد بالوصل.
وكذلك القرآن مبني على الوصل في السور، فحين تنتهي سورة لا تنتهي على سكون، فلم يقل – سبحانه وتعالى – وإليه ترجعون بسكون النون، إنما ( ترجعون بسم الله الرحمن الرحيم ) ليبدأ سورة أخرى موصولة.
فهذه إذن سمة عامة في آيات القرآن وسوره إلا في الحروف المقطعة في أوائل السور، فهي مبنية على الوقف ألفْ لامْ ميمْ هكذا بالسكون ولم يقل : ألفٌ لامٌ ميمٌ على الوصل، لماذا ؟ لأنها حروف مقطعة، قد يظنها البعض كلمة واحدة، ففصل بينها بالوقف.
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم :( ( لا أقول الم حرف. ولكن ألف حرف، ولام
حرف، وميم حرف ) )٢وليؤكد هذا المعنى جعلها على الوقف، كل حرف على حدة.
وتكلمنا على هذه الحروف وقلنا : إنها خامات القرآن، فمن مثل هذه الحروف ينسج كلام الله، وقلنا : إنك أردت أن تميز مهارة النسج عند بعض العمال مثلا لا تعطي أحدهم قطنا، والآخر صوفا، والآخر حريرا مثلا ؛ لأنك تستطيع التمييز بينهم، لأن الخامات مختلفة، فالحرير بطبيعته سيكون أنعم وأرق. فإن أردت معرفة المهارة فوحد الخام عند الجميع.
فكأن الحق – تبارك وتعالى – يقول لنا : إن القرآن معجز، بدليل أنكم تملكون نفس حروفه، ومع ذلك عجزتم عن معارضته، فقد استخدم القرآن نفس حروفكم، ونفس كلماتكم وألفاظكم، وجاء بها في صورة بليغة، عز عليكم الإتيان بمثلها.
إذن : اختلف أسلوب القرآن ؛ لأن الله تعالى هو الذي يتكلم. فمعنى ( الم ) هذه نفس حروفكم فأتوا بمثلها.
أو :( الم ) تحمل معنى من المعاني ؛ لأن ألف لام ميم أسماء حروف، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا المتعلم، فالأمي يقول ( كتب ) لكن لا يعرف أسماء حروفها، وتقول للولد الصغير في المدرسة : تهج كتب فيقول لك ( كاف فتحة ك ) و ( تاء فتحة ت ) و ( باء فتحه ب ).
إذن : لا يعرف أسماء الحروف إلا المتعلم، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أميا، فمن أين نطق بأسماء الحروف الم، طه، يس، ق.. إلخ. إذن : لابد أن ربه علمه ولقنه هذه الحروف، ومن هنا جاءت أهمية التلقين والتلقي في تعلم القرآن، وإلا فكيف يفرق المتعلم بين ( الم ) هنا وبين ﴿ ألم نشرح لك صدرك١ ﴾[ الشرح ] فينطق الأولى على الوقف، والأخرى على الوصل، ينطق الأولى بأسماء الحروف، والثانية بمسمياتها ؟
وتحمل ( الم ) أيضا معنى التنبيه للسامع، فالقرآن نزل بأسلوب العرب ولغتهم، فلا بد أن تتوفر له خصائص العربية والعربية الراقية، فلو قرأنا مثلا في الشعر الجاهلي نجد عمرو بن كلثوم٣ يقول :
ألا هبى بصحنك فاصبحينا***ولا تبقي خمور الأندرينا
نسأل : ماذا أفادت ( ألا ) هنا، والمعنى يصح بدونها ؟ ( ألا ) لها معنى عند العربي ؛ لأنها تنبهه إن كان غافلا حتى لا يفوته شيء من كلام محدثه، حينما يفاجأ به، كما تنادي أنت الآن من لا تعرفه فتقول :( اسمع يا.... ) كأنك تقول له : تنبه لأنني سأكلمك.
والتنبيه جاء في اللغة من أن المتكلم يتكلم برغبته في أي وقت، أما السامع فقد يكون غافلا غير منتبه، أو ليس عنده استعداد لأن يسمع، فيحتاج لمن ينبهه ليفهم ما يقال له، إنما لو فاجأته بالمراد، فربما فاته منه شيء قبل أن يتنبه لك.
وكذلك في ( الم ) حروف للتنبيه، على أنه سيأتي كلام نفيس اسمعه جيدا، إياك أن يضيع منك حرف واحد منه. كما يصح أن يكون لهذه الحروف معان أخرى، يفهمها غيرنا ممن فتح الله عليهم. فهي – إذن – معين لا ينضب، يأخذ منه كل على قدره.
٢ عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لاأقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) أخرجه الترمذي في سننه (٢٩١٠) وقال: ((حديث حسن صحيح))..
٣ هو: عمرو بن كلثوم بن مالك، من بني الأسود، شاعر جاهلي، من الطبقة الأولى، ولد في بلاد ربيعة في شمال جزيرة العرب، ساد قومه تغلب وهو فتى، وعمر طويلا ومات في الجزيرة الفراتية نحو٤٠ ق ه.[الأعلام للزركلي٥/٨٤]، والبيت من معلقته..
{ أحسب١ الناس أن يتركوا أن يقولوا
آمنا وهم لا يفتنون٢ }
الفعل ( حسب ) بالكسر في الماضي، وبالفتح في المضارع ( يحسب ) يعني : ظن. أما :( حسب ) والمضارع ( يحسب ) بالكسر أي : عد.
فالمعنى :﴿ أحسب الناس.. ٢ ﴾[ العنكبوت ] أي : ظنوا. والهمزة للاستفهام، وهي تفيد نفي هذا الظن وإنكاره، لأنهم حسبوا وظنوا أن يتركهم الله دون فتنة وتمحيص واختبار.
والحق سبحانه يريد أن يحمل أولو العزم رسالة الإسلام ؛ لأن الإسلام لا يتصدى لحمل دعوته إلا أقوياء الإيمان الذين يقدرون على حمل مشاق الدعوة وأمانة تبليغها.
والإيمان ليس كلمة تقال، إنما مسئولية كبرى، هذه المسئولية هي التي منعت كفار مكة أن يؤمنوا ؛ لأنهم يعلمون أن كلمة لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة وإلا لقالوها، إنما هي منهج حياة له متطلبات.
إنها تعني : لا مطاع إلا الله، ولا معبود بحق إلا الله، وهم لا يريدون هذه المسألة لتظل لهم مكانتهم وسلطتهم الزمنية.
لذلك يقول سبحانه هنا ﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا... ٢ ﴾[ العنكبوت ] فالإيمان ليس قولا فحسب ؛ لأن القول قد يكون صدقا، وقد يكون كذبا، فلا بد بعد القول من الاختبار وتمحيص الإيمان ﴿ وهم لا يفتنون٢ ﴾ [ العنكبوت ] فإن صبر على الابتلاءات وعلى المحن فهو صادق الإيمان.
ويؤكد سبحانه هذا المعني في آية أخرى :﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة.. ١١ ﴾ [ الحج ]
وقد محص الله السابقين الأولين من المؤمنين بآيات وخوارق تخالف الناموس الكوني، فكان المؤمن يصدق بها، ويؤمن بصدق الرسول الذي جاء بها، أما المتردد المتحير فيكذب بها، ويراها غير معقولة.
ومن ذلك ما كان من الصديق أبي بكر في حادثة الإسراء والمعراج، فلما حدثوه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ( إن كان قال فقد صدق ) )٢ في حين ارتد البعض وكذبوا، وكأن الحق – تبارك وتعالى – يريد من هذه الخوارق – التي يقف أمامها العقل – أن يميز بين الناس ليحمل أمر الدعوة أشداء الإيمان والعقيدة، ومن لديهم يقين بصدق الرسول في البلاغ عن ربه.
وسبق أن بينا غباء من كذب بحادثة الإسراء والمعراج من كفار مكة الذين قالوا لرسول الله : أتدعي أنك أتيت بيت المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرا٣ ؟ وأنهم غفلوا أو تغافلوا عن نص الآية :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده.. ١ ﴾[ الإسراء ] فلم يقل محمد : إني سريت بنفسي إنما أسرى بي.
وقلنا للرد عليهم : لو جاءك رجل يقول لك : لقد صعدت بولدي الرضيع قمة إفرست مثلا، أتقول له : كيف يصعد الرضيع قمة إفرست ؟
وسبق أن تكلمنا في قضية ينبغي أن تظل في أذهانكم جميعا، وهي أن كل فعل يأخذ نصيبه من الزمن على قدر قوة فاعله، فالوزن الذي ينقله الطفل الصغير في عدة مرات تحمله أنت في يد واحدة.
فالزمن يتناسب مع قوة تناسبا عكسيا فكلما زادت القوة قل الزمن، فالذي يذهب مثلا إلى الأسكندرية على حمار غير الذي يذهب في سيارة أو على متن طائرة. وهكذا.
إذن : قس على قدر قوة الفاعل، فإن كان الإسراء بقوة الله تعالى، وهي قوة القوى فلا زمن، وهذه مسألة يقف عندها العقل، ولا يقبلها إلا بالإيمان.
إذن : فالحق سبحانه يمحصكم ويبتليكم ؛ لأنه يريدكم لمهمة عظيمة، لا يصلح لها إلا الصنديد٤ القوى في إيمانه ويقينه.
لذلك يقول سبحانه في أكثر من موضع :﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين١٥٥ ﴾ [ البقرة ]
وقال :﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم٣١ ﴾[ محمد ]
وقال :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم.. ١٤٢ ﴾ [ آل عمران ]
فهذه الابتلاءات كالامتحان الذي نجريه للتلاميذ لنعرف مقدرة كل منهم، والمهمة التي يصلح للقيام بها، ومعلوم أن الابتلاءات لا تذم لذاتها، إنما لنتائجها المترتبة عليها، فما جعلت الابتلاءات إلا لمعرفة النتائج، وتميز الأصلح للمهمة التي ندب إليها.
ومعنى ﴿ يفتنون٢ ﴾ [ العنكبوت ] يختبرون. مأخوذة من فتنة الذهب، حين نصهره في النار ؛ لنخرج ما فيه من خبث، ونصفي معدنه الأصلح، فيما يناسب مهمته.
ومن ذلك ما ضربه الله لنا مثلا للحق وللباطل في قوله تعالى :﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال١٧ ﴾ [ الرعد ]
فالفتنة ما كانت إلا لنعرف الصادق في القولة الإيمانية والكاذب فيها : الصادق سيصبر ويتحمل، والكاذب سينكر ويتردد.
٢ قالت عائشة رضي الله عنها: لما أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه وسعوا بذلك إلى أبي بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس. قال: ذلك؟ قالوا: نعم قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقهبخبر السماء في غدوة أو روحه؛ فلذلك سمي أبو بكر الصديق. أخرجه الحاكم في مستدركه (٣/٦٢) وصححه وأقره الذهبي..
٣ ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (١/٣٩٨): ((فقال أكثر الناس: هذا والله الإمر البين، والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة، ويرجع إلى مكة))..
٤ الصنديد: السيد الشريف. وكل عظيم غالب: صنديد.[لسان العرب – مادة: صند]..
{ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين
صدقوا وليعلمن الكاذبين٣ }
الحق – سبحانه وتعالى – يسلي السابقين من أمة محمد الذين عذبوا وأوذوا، وضربوا بالسياط تحت حر الشمس، ووضعت الحجارة الثقال على بطونهم، والذين جاعوا حتى أكلوا الميتة وأوراق الشجرة يسليهم : لستم بدعا في هذه الابتلاءات فاصمدوا لها كما صمد السابقون من المؤمنين.
﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم.. ٣ ﴾[ العنكبوت ] فانظر مثلا إلى ابتلاء بني إسرائيل مع فرعون، إذن فابتلاؤكم أهوان وأخف، وفيه رحمة من الله بكم وأنتم أيسر منهم﴿ فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين٣ ﴾ [ العنكبوت ]
ولك أن تقول : ألم يكن الله تعالى يعلم حقيقتهم قبل أن يبتليهم ؟ بلى، يعلم سبحانه حقيقة عباده، وليس الهدف من اختبارهم العلم بحقيقتهم، إنما الهدف أن يقر العبد بما علم عنه.
ومثال ذلك – ولله المثل الأعلى – حينما نقول للمدرس مثلا : اعطنا نتيجة هؤلاء التلاميذ، فليس في الوقت سعة للامتحان فيقول من واقع خبرته بهم : هذا ناجح، وهذا راسب، وهذا الأول، وهذا كذا. عندها يقوم الراسب ويقول : لو اختبرتني لكنت ناجحا، ولو اختبره معمله لرسب فعلا. إذن : فربنا – عز وجل – يختبرعباده ليقر كل منهم بما علم عنه.
﴿ فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين٣ ﴾ [ العنكبوت ] علم ظهور وإقرار من صاحب الشأن نفسه، بحيث لا يستطيع إنكارا، حيث سيشهد هو على نفسه حين تشهد عليه جوارحه.
﴿ ساء ما يحكمون٤ ﴾ [ العنكبوت ] أي : قبح حكمهم وبطل، وحين نحكم على ظنهم وعلى حكمهم بالبطلان فإنما نثبت قضيتنا، وهي أنهم لن يفلتوا من عقابنا.
﴿ من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم٥ ﴾
معنى ﴿ يرجو لقاء الله.. ٥ ﴾ [ العنكبوت ] يعني : يؤمن به وينتظره ويعمل من أجله، يؤمن بأن الله الذي خلقه وأعد له هذا الكون ليحيا حياته الطيبة، وأنه سبحانه بعد ذلك سيعيده ويحاسبه ؛ لذلك إن لم يعبده ويطعه شكرا له على ما وهب، فليعبده خوفا منه أن يناله بسوء في الآخرة.
وأهل المعرفة يرون فرقا بين من يرجو الثواب ويرجو رحمة الله، ومن يرجو لقاء الله لذات اللقاء، لا خوفا من نار، ولا طمعا في جنة ؛ لذلك تقول رابعة العدوية١ :
كلهم يعبدون من خوف نار***ويرون النجاة حظا جزيلا
أو بأن يسكنوا الجنان فيحظوا***بقصور ويشربون سلسبيلا
ليس لي بالجنان والنار حظ***أنا لا أبتغي بحبى بديلا
أي : أحبك يا رب، لأنك تحب لذاتك، لا خوفا من نارك، ولا طمعا في جنتك، وهي أيضا القائلة : اللهم إن كنت تعلم أني أحبك طمعا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت تعلم أني أعبدك خوفا من نارك فاحرقني بها.
ويقول تعالى في سورة الكهف :﴿ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا١١٠ ﴾[ الكهف ] ولو كانت الجنة لأن لقاء الله أعظم، وهو الذي يرجى لذاته.
والحق سبحانه يؤكد هذه المسألة بأكثر من مؤكد :﴿ فإن أجل الله لآت.. ٥ ﴾ [ العنكبوت ] فأكده بإن واللام وصيغة اسم الفاعل الدالة على تحقق الفعل، كما قال سبحانه ﴿ كل شيء هالك٨٨ ﴾ [ القصص ] ولم يقل : سيهلك، وقوله سبحانه مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم :﴿ إنك ميت وإنهم ميتون٣٠ ﴾ [ الزمر ]
يخاطبهم بهذه الصيغة وهم ما يزالون أحياء ؛ لأن الميت : من يؤول أمره وإن طال عمره إلى الموت، أما من مات فعلا فيسمى ( ميت ).
وأنت حينما تحكم على شيء مستقبل تقول : يأتي أو سيأتي، وتقول لمن تتوعده : سأفعل بك كذا وكذا، فأنت جازفت وتكلمت بشيء لا تملك عنصرا من عناصره، فلا تضمن مثلا أن تعيش لغد، وإن عشت لا تضمن أن يعيش هو، وإن عاش ربما يتغير فكرك ناحيته، أو فقدت القدرة على تنفيذ ما تكلمت به كأن يصيبك مرض أو يلم بك حدث.
لكن حينما يتكلم من يملك أزمة الأمور كلها، ويعلم سبحانه أنه لن يفلت أحد منه، فحين يحكم، فليس للزمن اعتبار في فعله، لذلك لم يقل سبحانه : إن أجل الله سيأتي، بل ﴿ لآت.. ٥ ﴾ [ العنكبوت ] على وجه التحقيق.
وسبق أن ذكرنا في هذا الصدد قوله تعالى عن القيامة :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلون.. ١ ﴾[ النحل ] وقد وقف السطحيون أمام هذه الآية يقولون : وهل يستعجل الإنسان إلا ما لم يأت بعد ؟ لأنهم لا يفهمون مراد الله، وليست لديهم ملكة العربية، فالله تعالى يحكم على المستقبل، وكأنه ماض أي محقق ؛ لأنه تعالى لا يمنعه عن مراده مانع، ولا يحول دونه حائل.
ولفظ الأجل جاء في القرآن في مواضع كثيرة، منها :﴿ ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون٣٤ ﴾[ الأعراف ] وفي الآية التي معنا ﴿ فإن أجل الله لآت.. ٥ ﴾ [ العنكبوت ]
والأجلان مختلفان بالنسبة للحضور الحياتي للإنسان، فالأجل الأول ينهي الحياة الدنيا، والأجل الآخر يعيد الحياة في الآخرة للقاء الله عز وجل، إذن : فالأجلان مرتبطان.
والحق – سبحانه وتعالى – حينما يعرض لنا قضية غيبية يؤنسنا فيها بشيء حسي معلوم لنا، حتى يستطيع العقل أن ينفذ من الحسي إلى الغيبي غير المشاهد. وأنت ترى أن أعمار بني آدم في هذه الحياة تتفاوت : فواحد تغيض به الأرحام، فلا يخرج للحياة، وواحد يتنفس زفيرا واحدا ويموت.. إلخ.
وفي كل لحظة من لحظات الزمن نعاين الموت، من يموت بعد نفس واحد، ومن يموت بعد المائة عام. إذن : فلا رتابة في انقضاء الأجل، لا في سن ولا في سبب : فهذا يموت بالمرض، وهذا بالغرق، وهذا يموت على فراشه.
لذلك يقول الشاعر :
فلا تحسب السقم كأس الممات***وإن كان سقما شديد الأثر
فرب عليل تراه استفاق***ورب سليم تراه احتضر
وقال آخر :
وقد ذهب الممتلي صحة***وصح السقيم فلم يذهب
وتجد السبب الجامع في الوباءات التي تعتري الناس، فيموت واحد ويعيش آخر، فليس في الموت رتابة، والحق – سبحانه وتعالى – حينما يقول :﴿ ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون٣٤ ﴾ [ الأعراف ] نجد واقع الحياة يؤكد هذا، فلا وحدة في عمر، ولا وحدة في سبب.
والصدق في الأجل الأول المشاهد لنا يدعونا إلى تصديق الأجل الآخر، وأن أجل الله لآت، فالأجل الذي أنهى الحياة بالاختلاف هو الذي يأتي بالحياة بالاتفاق، فبنفخة واحدة سنقوم جميعا أحياء للحساب، فإن اختلفنا في الأولى فسوف نتفق في الآخرة، لأن الأرواح عند الله من لدن آدم عليه السلام وحتى تقوم الساعة، وبنفخة واحدة يقوم الجميع.
وسبق أن قلنا : إن الأزمان ثلاثة : حاضر نشهده، وماض غائب عنا لا نعرف ما كان فيه، ومستقبل لا نعرف ما يكون فيه. والحق سبحانه يعطي لنا في الوجود المشاهد دليل الصدق في غير المشاهد، فنحن مثلا لا نعرف كيف خلقنا الخلق الأول إلا من خلال ما أخبرنا الله به من أن أصل الإنسان تراب اختلط بالماء حتى صار طينا، ثم حمأ مسنونا، ثم صلصالا كالفخار.. إلخ.
ثم جعل نسل الإنسان من نطفة تتحول إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم تكسي العظام لحما. وإن كان العلم الحديث أرانا النطفة والعلقة والمضغة، وأرانا كيف يتكون الجنين، فيبقى الخلق الأول من تراب غيبا لا يعلمه أحد.
ولا تصدق من يقول : إني أعلمه ؛ لن الله تعالى حذرنا من هؤلاء المضلين في قوله :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ٥١ ﴾ [ القصص ]
فلا علم لهم بخلق الإنسان، ولا علم لهم بخلق ظواهر الكون، فلا تسمع لهم، وخذ معلوماتك من كتاب ربك الذي خلق سبحانه، ويقوم وجود المضلين الذين يقولون : إن الأرض قطعة من الشمس انفصلت عنها، أو أن الإنسان أصله قرد – يقوم وجودهم، وتقوم نظرياتهم دليلا على صدق الحق سبحانه فيما أخبر.
وإلا، فكيف نصدق نظرية ترقي القرد إلى إنسان ؟ ولماذا ترقى قرد ( دارون ) ولم تترق باقي القرود ؟
وإذا كان المؤمن مصدقا بقوله تعالى :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين٢٩ ﴾ [ الحجر ] لأنه آمن بالله، وآمن بما جاء به رسول الله، فكيف بمن لا يؤمن ولا يصدق ؟ لذلك يؤنس الحق سبحانه هذه العقول المستشرفة لمعرفة حقائق الأشياء يؤنسها بما تشاهد : فإن كنت لا تصدق مسألة الخلق فأنت بلا شك تشاهد مسألة الموت وتعاينه كل يوم، والموت نقض للحياة، ونقض الشيء يأتي عكس بنائه.
والخالق – عز وجل – أخبر أن الروح هي آخر شيء في بناء الإنسان، لذلك هي أول شيء ينقض فيه عند الموت، إذن : مشهدك في كيف تموت، يؤكد لك صدق الله في كيف جئت ؟
وأجل الآخرة أمر لابد منه ليثاب المطيع ويعاقب العاصي، ألا ترى إلى النظم الاجتماعية حتى عند غير المؤمنين تأخذ بهذا المبدأ لاستقامة حركة الحياة ؟ فما بالك بمنهج الله تعالى في خلقه، أيترك الظالم والمجرم يفلت من العقاب في الآخرة بعد أن أفلت من عقاب الدنيا ؟
وكنا نرد بهذا المنطق على الشيوعيين : لقد عاقبتم من طالته أيديكم من المجرمين، فكيف بمن ماتوا ولم تعاقبوهم، أليست الآخرة تحل لكم هذا المأزق ؟
ثم تختم الآية بقوله تعالى :﴿ وهو السميع العليم٥ ﴾[ العنكبوت ] ألا ترى أنه تعالى لو قال : العليم فقط لشمل المسموع أيضا ؛ لأن العلم يحيط بكل المدركات ؟ فلماذا قال ﴿ السميع العليم٥ ﴾ [ العنكبوت ] ؟
قالوا : لأن اللغة العربية حينما تكلمت عن العمل والفعل والقول قسمت الجوارح أقساما : فاللسان له القول، وبقية الجوارح لها الفعل، وهما جميعا عمل، فالقول عمل اللسان، والفعل عمل بقية الجوارح، فكأن اللسان أخذ شطر العمل، وبقية الجوارح أخذت الشطر الآخر.
وباللسان معرفة إيمانك، حين تقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهي أشرف ما يعمل الإنسان، وبه بلاغ الرسول عن الله لخلقه، إذن : فأفعال الجوارح الشرعية ناشئة من اللسان ومن السماع ؛ لذلك جعل القول وهو عمل اللسان شطر العمل كله.
ولأهمية القول قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون٢ ﴾ [ الصف ] فكل فعل ناشئ عن انصياع لقول أو سماع لقول ؛ لذلك ختم سبحانه هذه الآية بقوله :
﴿ وهو السميع العليم٥ ﴾ [ العنكبوت ]
والجهاد له مجالان : مجال في النفس يجاهدها ليقوى بمجاهدة نفسه على مجاهدة عدوه.
وجاهد : مفاعلة، كأن الشيء الذي تريده صعب، يحتاج إلى جهد منك ومحاولة، والمفاعلة تكون من الجانبين : منك ومن الشيء الذي يقابلك، وأول ميادين الجهاد النفس البشرية، لأن ربك خلق فيك غرائز وعواطف لمهمة تؤديها، ثم يأتي منهج السماء ليكبح هذه الغرائز ويرقيها، حتى لا تنطلق معها إلى ما لا يباح.
فحب الاستطلاع مثلا غريزة محمودة في البحث العلمي والاكتشافات النافعة، أما إن تحول إلى تجسس وتتبع لعورات الناس فهو حرام ؛ الأكل والشرب غريزة لتقتات به، وتتولد عندك القدرة على العمل، فإن تحول إلى نهم وشراهة فقد خرجت بالغريزة عن مرادها والهدف منها.
وعجيب أمر الناس في تناول الطعام، فالسيارة مثلا لا نعطيها خليطا من الوقود، إنما هو نوع واحد، أما الإنسان فلا تكفيه عدة أصناف، كل منها لها تفاعل في الجسم، حينما تتجمع هذه التفاعلات تضر أكثر مما تنفع.
إذن : هذه الغرائز تحتاج منك إلى مجاهدة ؛ لتظل في حد الاعتدال، عملا بالأثر :( ( نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع، ولا نشرب حتى نظمأ، وإذا شربنا لا نقنع ) ).
ولو عملنا بهذا الحديث لقضينا على القنبلة الذرية للاقتصاد في بلادنا، وكم تحلو لك اللقمة بعد الجوع مهما كانت بسيطة وغير مكلفة ؛ لذلك يقولون : نعم الإدام الجوع، ثم إذا أكلت لا تملأ المعدة، ودع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ( فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه ) )١.
وبهذا المنهج الغذائي الحكيم نضمن بنيه سليمة وعافية لا يخالطها مرض.
فالغرائز خلقها الله فيك لمهمة، فعليك أن تقف بها عند مهمتك. ومثل الغرائز العواطف من حب وكره وشفقة وحزن.. إلخ، وهذه ليس لها قانون إلا أن تقف بها عند حدود العاطفة لا تتعداها إلى النزوع، فأحبب من شئت وأبغض من شئت، لكن لا تتعد ولا ترتب على العاطفة حكما.
وقد ذكرنا لهذه المسألة مثالا بسيدنا عمر – رضي الله عنه – وكان له أخ اسمه زيد قتل، ثم أسلم قاتله، فكان عمر كلما رآه يقول له : ازو عني وجهك – يعني : أنا لا أحبك – فيقول : أو عدم حبك لي يمنعني حقا من حقوقي ؟ قال : لا، قال : إنما يبكي على الحب النساء. يعني : الحب والكره مسائل يهتم بها النساء، والمهم العمل، وما يترتب على هذه العواطف.
ومن المجاهدة مجاهدة من سلط عليك من جبار أو نحوه، تجاهده وتصبر على إيذائه، فحبك للحق يجعلك تصبر عليه، يقول تعالى :﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم٣١ ﴾ [ محمد ]
كل هذه بلاءات تحتاج إلى مجاهدة، فإن كان لك غريم فإن قدرت أن تدفع أذاه بالتي هي أحسن فالفعل، وإن أردت أن تعاقب فعاقب بالمثل، وهذه مسألة صعبة ؛ لأنك لا تستطيع تقدير المثلية أو ضبطها، بحيث لا تتعدى، فمثلا لو ضربك خصمك ضربة، أتستطيع أن ترد عليه بمثلها دون زيادة ؟
إذن : فلا تدخل نفسك في هذه المتاهة، وأولى بك أن تأخذ بقوله تعالى ﴿ والعافين عن الناس.. ١٣٤ ﴾ [ آل عمران ] وتنتهي المسألة.
فإذا كانت المصيبة لا غريم لك فيها، كالمرض والموت وغيرهما من القدريات التي يجريها الله عليك، فقل إن ربي أراد بي خيرا، فبها تكفر الذنوب والسيئات وبها أنال أجر الصابرين، وربما أنني غفلت عن ربي أو غرتني النعمة، فابتلاني الله ليلفتني إليه ويذكرني به.
ومن المجاهدة مجاهدة النفس في تلقي المنهج بافعل ولا تفعل، والتكليف عادة ما يكون شاقا على النفس يحتاج إلى مجاهدة، وإياك أن تنقل مدلول افعل في لا تفعل، أو تنقل مدلول لا تفعل في افعل.
وحين تستقصى ( افعل ولا تفعل ) في منهج الله تجده يأخذ نسبة سبعة بالمائة من حركاتك في الحياة، والباقي مباحات، لك الحرية تفعلها أو تتركها.
وقد يتعرض الإنسان المستقيم للاستهزاء والسخرية حتى ممن هو على دينه، لأن المنحرف دائما يشعر بنقص فيتضاءل ويصغر أمام نفسه، ويحاول أن يجر الآخرين إلى نفس مستواه حتى يتساوى الجميع، وإلا فكيف تكون أنت مهتديا مستقيما وهو عاص ضال ؛ لذلك تراه يسخر منك ويهون من شأنك، لماذا ؟ ليزهدك في الطاعة، فتصير مثله.
واقرأ إن شئت قوله تعالى :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون٢٩ وإذا مروا بهم يتغامرون ٣٠ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين٣١ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ٣٢ وما أرسلوا عليهم حافظين ٣٣ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ٣٤ على الأرائك ينظرون ٣٥ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون٣٢ ﴾ [ المصطفين ]
ولاشك أن مثل هذا يحتاج منك إلى صبر على أذاه، ومجاهدة للنفس حتى لا تقع في الفخ الذي ينصبه لك.
وقد تأتيك الوسوسة من الشيطان فيزين لك الشر، ويحبب إليك المعصية، وعندها تذكر قول الله تعالى :﴿ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءتهما.. ٢٧ ﴾ [ الأعراف ]
فعليك – إذن – أن تتذكر العداوة الأولى بين أبيك آدم وبين الشيطان لتكون منه على حذر، وسبق أن أوضحنا كيف نفرق بين المعصية التي تأتي من النفس، والتي تأتي من وسوسة الشيطان، فالنفس تقف بك عند معصية بعينها لا تريد غيرها، أما الشيطان فإن تأبيت عليه في ناحية نقلك إلى أخرى، المهم عنده أن يوقعك على أي حال. إذن : أعداؤك كثيرون، يحتاجون منك إلى قوة إرادة وإلى مجاهدة. ومجيء هذه الآية التي تذكر الجهاد بعد قوله تعالى ﴿ فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم٥ ﴾[ العنكبوت ] يطلب من الإنسان الذي يعتقد أن أجل الله بلقاء الآخرة آت، وذلك أمر لا شك فيه – يطلب منه أن يستعد لهذا اللقاء.
وقال تعالى :﴿ فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العاملين٦ ﴾ [ العنكبوت ] لأن الإنسان طرأ على كون مهيأ لاستقباله بسمائه وأرضه وشمسه وقمره ومائة وهوائه، فكل ما في الكون خادم لك، ولن تزيد أنت في ملك الله شيئا، وكل سعيك وفكرك لترف حياتك أنت، فحين تفعل الخير فلن يستفيذ منه إلا أنت وربك غني عن عطائك.
فإن جاهدت فإنما تجاهد لنفسك، كما لو امتن عليك خادمك بالخدمة فتقول له : بل خدمت نفسك وخدمت عيالك حينما خدمت لتوفر لك أسباب العيش، وأنا الذي تعبت وعرقت لأوفر لك المال الذي تأخذه.
وكذلك الحق سبحانه يقول لنا ﴿ ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه.. ٦ ﴾[ العنكبوت ] أي : حينما يطبق المنهج ويسير على هداه، والحق سبحانه يؤكد هذه القضية في آيات عديدة ﴿ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد٤٦ ﴾[ فصلت ]
ويقول الحق سبحانه :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها.. ٧ ﴾[ الإسراء ]
ويقول الحق سبحانه :﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.. ٢٨٦ ﴾[ البقرة ]
إذن : المسألة منك وإليك، ولا دخل لنا فيها إلا حرصنا على صلاح الخلق وسلامتهم، كصاحب الصنعة الذي يريد لصنعته أن تكون على خير وجه وأكمله، لذلك أفيض عليه من قدراتي قدرة ومن علمي علما، ومن بسطي بسطا، ومن جبروتي جبروتا، وأعطيه من صفاتي.
لذلك قال بعض العارفين :( ( تخلقوا بأخلاق الله ) ).
لأن العون في وهب الصفات ومجال الصفات في الفعل ليس في أن أفعل لك، إنما في أن أعينك لتفعل أنت، فالواحد منا حينما يرى عاجزا لا يستطيع حمل متاعه، ماذا يفعل ؟ يحمله عنه، أي : يعدي إليه أثر قوته، إنما يظل العاجز عاجزا والضعيف ضعيفا كلما أراد شيئا احتاج لمن يقول له به.
أما الحق – سبحانه وتعالى – فيفيض عليك من قوته، ويهب لك من قدرته وغناه لتفعل أنت بنفسك ؛ لذلك من يتخلق بأخلاق الله يقول : لا تعط الفقير سمكة، إنما علمه كيف يصطاد، حتى لا يحتاج لك في كل الأوقات، أفض عليه ما يديم له الانتفاع به.
إذن : الحق سبحانه يهب القادرين القدرة، ويهب الأغنياء الغنى، والعلماء العلم والحكماء الحكمة. وهذه من مظاهر عظمته تعالى ألا يعدى أثر الصفة إلى عباده، إنما يعدى بعض الصفة إليهم، لتكون ذاتية فيهم.
بل ويعطي سبحانه ما هو أكثر من ذلك، يعطيك الإرادة التي تفعل بها لمجرد أن تفكر في الفعل، بالله ماذا تفعل لكي تقوم من مكانك ؟ ماذا تفعل حينما تريد أن تحمل شيئا أو تحرك عضوا من أعضائك ؟ هل أمرتها أمرا ؟ هل قلت لها افعلى كذا وكذا ؟
حين تنظر إلى ( البلدوزر ) مثلا أو ( الونش ) كيف يتحرك، وكيف أن لكل حركة فيه زرا يحركها وعمليات آلية معقدة، تأمل في نفسك حين تريد أن تقوم مثلا بمجرد أن تفكر في القيام، تجد نفسك قائما، مرادك أنت في الأعضاء أن تفعل وتنفعل لك.
إذن، حينما يقول لك ربك :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون٨٢ ﴾ [ يس ] فصدقه ؛ لأنك شاهدتها في نفسك وفي أعضائك، فما بالك بربك – عز وجل – أيعجز أن يفعل ما تفعله أنت ؟ ماذا تفعل إن أردت أن تنام أم تبطش بيدك ؟
لاشيء غير الإرادة في داخلك ؛ لأن ربك خلع عليك من قدرته، وأعطاك شيئا من قوله ( كن )، وقدرة من قدرته، لكن لم يشأ أن يجعلها ذاتية فيك حتى لا تغتر بها.
لذلك إن أراد سبحانه سلبها منك لقوله تعالى :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى٦ أن رآه استغنى٧ ﴾ [ العلق ] فتأتي لتحرك ذراعك مثلا فلا يطاوعك، لقد شل ويأبى عليك بعد أن كان طوع إرادتك، ذلك لتعلم أنه هبة من الله، إن شاء أخذها فهي ليست ذاتية فيك.
فالمجاهدة تشمل ميادين عديدة، مجاهدة الغرائز والعواطف، ومجاهدة مشقة المنهج في افعل ولا تفعل، ومجاهدة شياطين الإنس والجن، ومجاهدة خصوم الإسلام الذين يريدون أن يطفئوا نور الله.
وروى البخاري أن خباب بن الأرت دخل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، إننا في شدة، ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعوا لنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه كان الرجل فيمن قبلكم تحفر له الحفرة، فيوضع فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيقد نصفين، ثم يمشط لحمه عن عظمه بأمشاط الحديد، فلا يصرفه ذلك عن دين الله ) ).
ثم يطمئنه رسول الله على أن هذه الفترة – فترة الابتلاء – لن تطول، فيقول :( ( والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ) )٢.
والنبي صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين، يدخل عليه سيدنا أبو سعيد الخدري فيجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي حرارة الحمى، فوضع يده على اللحاف الذي يلتحف به سيدنا رسول الله، فيحسن حرارته من تحت اللحاف، فقال له : يا رسول الله، إنها لشديدة عليك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :( ( يا أبا سعيد، إنه يضعف لنا البلاء كما يضعف لنا الجزاء ) )٣.
ذلك ليثبت أن البلاء لا يكون فقط من الأعداء، إنما قد يكون من الله تعالى، لماذا ؟ لأن الله يباهي ملائكته بخلقه الطائعين المخبتين الصابرين، فيقولون : كيف لا يحبونك ويقبلون على طاعتك، وقد أنعمت عليهم بكذا وبكذا ؟ ويذكرون حيثيات هذه الطاعة، فيقول تعالى : وأسلب كل ذلك منهم ويحبونني، أي : يحبونني لذاتي.
ثم تختم هذه الآية بقوله تعالى :﴿ إن الله لغني عن العالمين٦ ﴾ [ العنكبوت ] لأن مي
٢ أخرجه البخاري في صحيحه (٣٨٥٢)، وأحمد في مسنده (٦/٣٩٥) من حديث الخباب بن الأرت..
٣ أخرجه ابن ماجة في سننه (٤٠٢٤) من حديث أبي سعيد الخدري قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف. فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك. قال: ((إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر))..
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم
ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون٧ }
يذكر لنا – سبحانه وتعالى – النتائج ﴿ والذين آمنوا.. ٧ ﴾[ العنكبوت ] أي : بالله ربا، له كل صفات الكمال المطلق، وله طلاقة القدرة، وله طلاقة الإرادة، هو المهيمن، وهو الحاكم... إلخ.
ثم ﴿ وعملوا الصالحات.. ٧ ﴾[ النعكبوت ] لأن العمل الصالح نتيجة للإيمان، وثمرة من ثمراته، والصالح : هو الشيء يظل على طريقة الحسن فيه فلا يتغير، فقد أقبلت على عالم خلقه الله لك على هيئة الصلاح فلا تفسده، وهذا أضعف الإيمان أن تبقي الصالح على صلاحه، فإن أردت الارتقاء، فزده صلاحا.
يقول تعالى ﴿ وإذا قيل لهم لاتفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون١١ ﴾
[ البقرة ]
فقد أعد الله لنا الأرض صالحة بكل نواميسها وقوانينها، ألا ترى المناطق التي لا ينزل بها المطر يعوضها الله عنه بالمياه الجوفية في باطن الأرض، فماء المطر الزائد يسلكه الله ينابيع في الأرض، ويجعله مخزونا لوقت الحاجة إليه، وتخزين الماء العذب في باطن الأرض حتى لا تبخره الشمس، يقول تعالى :﴿ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا١ فمن يأتيكم بماء معين٣٠ ﴾ [ الملك ]
وضربنا مثلا لترك الصالح على صلاحه ببئر الماء الذي يشرب منه أهل الصحراء، فقد نرمي فيه القاذورات التي تفسد ماءه، وقد نرى من يهيل فيه التراب فيطمسه، وهذا كله من إفساد الصالح، وربما يأتي من يبنى حوله سورا يحميه، أو يجعل عليه آلة رفع ترفع الماء وتريح الناس الذين يردونه، فإذا لم تكن من هؤلاء فلا أقل من أن تدعه على حاله.
فالصالح إذن : كل عمل وفكر يزيد صلاح المجتمع في حركات الحياة كلها، وإياك أن تقول إن هناك عملا أشرف من عمل، فكل عمل مهما رأيته هينا – ما دام يؤدي خدمة للمجتمع، ويقدم الخير للناس فهو عمل شريف، فقيمة الأعمال هي قيمة العامل الذي يحسنها وينفع الناس بها، يعني : ليس هناك عمل أفضل من عمل، إنما هناك عامل أفضل من عامل ؛ لذلك يقولون : قيمة كل امرىء ما يحسنه.
وسبق أن ضربت لذلك مثلا، وما أزال أضربه، مع أنه من أناس غير مسلمين : كان نقيب العمال في فرنسا يطالب بحقوق العمال ويدافع عنهم ويوفر لهم المزايا، فلما تولى الوزارة قالوا له : أعطنا الآن الحقوق التي كنت تطالب بها لنا، وربما كان يطالب لعماله بما تضيق به إمكانات وميزانيات الوزارة، أما الآن فقد أصبح هو وزيرا، وفي إحدى المرات تطاول عليه أحد العمال وقال : لا تنس أنك كنت في يوم من الأيام ماسح أحذية، فقال : نعم، لكنني كنت أتقنها.
ثم يذكر الحق سبحانه جزاء الإيمان والعمل الصالح :﴿ لنكفرن عنهم سيئاتهم.. ٧ ﴾ [ العنكبوت ] وهنا تتجلى العظمة الإلهية، حيث بدأ بتكفير السيئات وقدمها على إعطاء الحسنات.
لأن التخليه قبل التحلية، والقاعدة تقول : إن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فهب أن واحدا يريد أن يرميك مثلا بحجر، وآخر يريد أن يرمي لك تفاحة، فأيهما تستقبل أولا ؟ لا شك أنك ستدفع أذى الحجر عن نفسك أولا.
والخالق – عز وجل – يعلم طبيعة عباده وما يحدث منهم من غفلة وانصراف عن المنهج يوقعهم في المعصية، وما دام أن الشرع يعرف لنا الجرائم ويقنن العقوبة عليها، فهذا إذن منه بأنها ستحدث.
لذلك يقول تعالى لعباده : اطمئنوا، فسوف أطهركم من هذه الذنوب أولا قبل أن أعطيكم الحسنات، ذلك لأن الإنسان بطبعه أميل إلى السيئة منه إلى الحسنة، فيقول سبحانه ﴿ لنكفرن عنهم سيئاتهم.. ٧ ﴾ [ العنكبوت ]
بل وأكثر من ذلك، ففي آية آخرى يقول سبحانه :﴿ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما٧٠ ﴾ [ الفرقان ] فأي كرم بعد أن يبدل الله السيئة حسنة، فلا يقف الأمر عند مجرد تكفيرها، فكأنه ( أوكازيون ) للمغفرة، ما عليك إلا أن تغتنمه.
وفي موضع آخر يقول سبحانه :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات.. ١١٤ ﴾ [ هود ] وفي الحديث الشريف :( (.. وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) )٢.
ثم يذكر سبحانه الحسنة بعد ذلك :﴿ ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون٧ ﴾ [ العنكبوت ] قلنا : إن الحق سبحانه إذا أراد أن يعطي الفقير يقترض له من إخوانه الأغنياء ﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا.. ٢٤٥ ﴾ [ البقرة ]
مع أنه سبحانه واهب كل النعم يحترم ملكية عباده، ويحترم مجهوداتهم وعرقهم، فاحترم العمل واحترم ثمرة العمل، كما يعامل الوالد أولاده، فيأخذ من الغني لمساعدة الفقير على أن يعيد إليه ماله حين ميسرة، فكما أنك لا ترجع في هبتك، كذلك ربك – عز وجل – لا يرجع في هبته.
وأذكر ونحن في أمريكا سألنا أحد المستشرقين يقول : هناك تعارض بين قول القرآن :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.. ١٦٠ ﴾[ الأنعام ] وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم :( ( مكتوب على باب الجنة : الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر ) )٣.
فشاء الله أن يلهم بكلمتين للرد عليه، حتى لا يكون للكافرين على المؤمنين سبيل. فقلت للمترجم : نعم الحسنة بعشر أمثالها حين تتصدق، لكن في القرض مثلا لو تصدق بدولار فهو عند الله بعشرة دولارات، لكن يعود عليك دولارك مرة أخرى، فكأن لك تسعة دولارات، فحين تضاعف تصير ثمانية عشر.
٢ أخرجه أحمد في مسنده (٥/٢٢٨، ٢٣٦)، وأبو نعيم في حيلة الأولياء (٤/٢٧٦) من حديث معاذ بن جبل، وتمامة: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن))..
٣ عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دخل رجل الجنة قرأى مكتوبا على بأنها: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر)) رواه الطبراني والبيهقي كلاهما من رواية بن حميد (الترغيب والترهيب للمنذري ٢/٣٤).
.
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون٨ ﴾
الوالدان يخدمان الابن حتى يكبر، ويصير هو إلى القوة في حين يصيران هما إلى الضعف، وإلى الحاجة لمن يخدمهما، وحين ننظر في حال الغربيين مثلا وكيف أن الأبناء يتركون الآباء دون رعاية، وربما أودعوهم دار المسنين في حالة برهم بهم، وفي الغالب يتركونهم دون حتى السؤال عنهم ؛ لذلك تتجلى لنا عظمة الإسلام وحكمة منهج الله في مجتمع المسلمين.
لذلك قال أحد الحكماء : الزواج المبكر خير طريقة – لا لإنجاب طفل – إنما لإنجاب أب لك يعولك في طفولة شيخوختك. لذلك أراد الحق سبحانه أن يبني الأسرة على لبنات سليمة، تضمن سلامة المجتمع المؤمن، فقال سبحانه :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا.. ٨ ﴾[ العنكبوت ]، وفي موضع آخر قال سبحانه في نفس الوصية ﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا.. ١٥ ﴾ [ الأحقاف ]
وفرق بين المعنيين :﴿ حسنا.. ٨ ﴾ [ العنكبوت ]أي : أوصيك بأن تعمل لهم الحسن ذاته، كما تقول : فلان عادل، وفلان عدل، فوصى بالحسن ذاته. أما في ﴿ إحسانا.. ١٥ ﴾ [ الأحقاف ] فوصية بالإحسان إليهما.
لكن، لماذا وصى هنا بالحسن ذاته، ووصى هناك بالإحسان ؟ قالوا : وصى بالحسن ذاته في الآية التي تذكر اللدد الإيماني، حيث قال :﴿ وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما.. ٨ ﴾ [ العنكبوت ] والكفر يستوجب العداوة والقطيعة، ويدعو إلى الخصومة، فأكد على ضرورة تقديم الحسن إليهما ؛ لا مجرد الإحسان ؛ لأن الأمر يحتاج إلى قوة تكليف.
أما حين لا يكون منهما كفر، فيكفي في برهما الإحسان إليهما ؛ لذلك يقول سبحانه :﴿ وصاحبهما في الدنيا معروفا.. ١٥ ﴾ [ لقمان ]
والحق سبحانه حين يوصي بالوالدين، وهما السبب المباشر في الوجود إنما ليجعلهما وسيلة إيضاح لأصل الوجود، فكما أوصاك بسبب وجودك المباشر وهما الوالدان، فكذلك ومن باب أولى يوصيك بمن وهب لك أصل هذا الوجود.
فكأن الحق سبحانه يؤنس عباده بهذه الوصية، ويلفت أنظارهم إلى ما يجب عليهم نحو واهب الوجود الأصلي وما يستحقه من العبادة ومن الطاعة ؛ لأنه سبحانه الخالق الحقيقي، أما الوالدان فهما وجود سببي.
هذا إيناس بالإيمان، بينه تعالى في قوله :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا.. ٣٦ ﴾ [ النساء ] لأنهما سبب الوجود الجزئي، والله تعالى سبب الوجود الكلي.
وهذا أيضا من المواضع التي وقف عندها المستشرقون، يبغون فيها مطعنا، ويظنون بها تعارضا بين آيات القرآن في قوله تعالى :﴿ وصاحبهما في الدنيا معروفا.. ١٥ ﴾ [ لقمان ] وفي موضع آخر :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم.. ٢٢ ﴾ [ المجادلة ]
وهذا التعارض لا يوجد إلا في عقول هؤلاء ؛ لأنهم لا يفهمون لغة القرآن، ولا يفرقون بين الود والمعروف : الود ميل القلب، وينشأ عن هذا الميل فعل الخير، فيمن تميل إليه، أما المعروف فتصنعه مع من تحب ومن لا تحب، فهو استبقاء حياة.
وهنا يقول سبحانه :﴿ وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ٨ ﴾ [ العنكبوت ] يعني : تذكر هذا الحكم، فسوف أسألك عنه يوم القيامة، ففي موضع آخر ﴿ وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون١٥ ﴾ [ لقمان ]
فكفر الوالدين لا يعني السماح لك بإهانتهما أو إهمالهما، فاحذر ذلك ؛ لأنك ستسأل عنه أمام الله : أصنعت معهما المعروف أم لا ؟
وحيثيات الوصية بالوالدين : الأب والأم ذكرت في الآية الأخرى :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا.. ١٥ ﴾ [ الأحقاف ] نلحظ أن الحيثيات كلها للأم، ولم يذكر حيثية واحدة للأب إلا في قوله تعالى :﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا٢٤ ﴾ [ الإسراء ] وهذه تكون في الآخرة.
قالوا : ذكر الحيثيات كلها للأم ؛ لأن متاعب الأم كانت حال الصغر، والطفل ليس لديه الوعي الذي يعرف به فضل أمه وتحملها المشاق من أجله، وحين يكبر وتتكون لديه الإدراكات يجد أن الأب هو الذي يقضي له كل ما يحتاج إليه.
إذن : فحيثيات الأب معلومة مشاهدة، أما حيثيات الأم فتحتاج إلى بيان.
.
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلهم في الصالحين٩ ﴾
فقدم الإيمان، لأنه الأصل، ثم العمل الصالح، وكأن الدخول في الصالحين مسألة كبيرة، وهي كذلك، ويكفي أنها متمنى حتى الأنبياء أنفسهم.
{ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله
جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك
ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في
صدور العالمين١٠ }
قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله.. ١٠ ﴾ [ العنكبوت ] دليل على القول باللسان، وعدم الصبر على الابتلاء، فالقول هنا لا يؤيده العمل، ولمثل هؤلاء يقول تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون٢ ﴾ [ الصف ]
ويقول تعالى في صفات المنافقين :﴿ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون١ ﴾ [ المنافقون ] فالله تعالى لا يكذبهم في أن محمدا رسول الله، إنما في شهادتهم أنه رسول الله ؛ لأن الشهادة لابد لها أن يواطىء القلب اللسان، وهذه لا تتوفر لهم.
ومعنى :﴿ فإذا أوذي في الله.. ١٠ ﴾ [ العنكبوت ] أي : بسبب الإيمان بالله، فلم يفعل شيئا يؤذي من أجله، إلا أنه آمن ﴿ جعل فتنة الناس كعذاب الله.. ١٠ ﴾ [ العنكبوت ] فتنة الناس أي : تعذيبهم له على إيمانه كعذاب الله.
إذن : خاف عذاب الناس وسواه بعذاب الله الذي يحيق به إن كفر، وهذا غباء في المساواة العذابين ؛ لأن عذاب الناس سينتهي ولو بموت المؤذى المعذب، أما عذاب الله في الآخرة فباق لا ينتهي، والناس تعذب بمقدار طاقتها، والله سبحانه يعذب بمقدار طاقته تعالى وقدرته، إذن : فالقياس هنا قياس خاطىء.
وإن كانت هذه الآية قد نزلت في عياش بن أبي ربيعة٢، فالقاعدة الأصولية تقول : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكان عياش بن أبي ربيعة أخا عمرو بن هشام ( أبو جهل ) والحارث بن هشام من الأم التي هي أسماء٣.
فلما أسلم عياش ثم هاجر إلى المدينة فحزنت أمه أسماء، وقالت : لا يظلني سقف، ولا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا، ولا أغتسل حتى يعود عياش إلى دين آبائه٤، وظلت على هذه الحال التي وصفت ثلاثة أيام حتى عضها الجوع، فرجعت.
وكان ولداها الحارث وأبو جهل قد انطلقا إلى المدينة ليقنعا عياشا بالعودة لاسترضاء أمه، وظلا يغريانه ويرققان قلبه عليها، فوافق عياش على الذهاب إلى أمه، لكنه رفض الردة عن الإسلام، فلما خرج الثلاثة من المدينة قاصدين مكة أوثقوه في الطريق، وضربه أبو جهل مائة جلدة، والحارث مائة جلدة.
لكن أبو جهل أرأف به من الحارث ؛ لذلك أقسم عياش بالله لئن أدركه يوما ليقتلنه حتى كان خارجا من الحرم، وبعد أن استرضى عياش أمه عاد إلى المدينة، فقابل أخاه الحارث٥ عند قباء، ولم يكن يعلم أنه قد أسلم فعاجله ونفذ ما توعده به فقتله، ووصل خبره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية :﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا.. ٩٢ ﴾ [ النساء ]
ونزلت :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله.. ١٠ ﴾ [ العنكبوت ] أي : أراد أن يفر من عذاب الناس فكفر، ولم يرد أن يفر من عذاب الله ويؤمن.
وقوله تعالى :﴿ ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم.. ١٠ ﴾ [ العنكبوت ] أي : اجعلوا لنا سهما في المنغم ﴿ أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين١٠ ﴾ [ العنكبوت ] فالله سبحانه يعلم ما يدور في صدورهم وما يتمنونه لنا ؛ ولذلك يقول سبحانه عنهم :﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا٤٧ ﴾ [ التوبة ]
٢ قال ابن حجر في كتابه ((الإصابة في تمييز الصحابة)) (ترجمة رقم ٦١١٨): ((يلقب ذا الرمحين، ابن عم خالد بن الوليد بن المغيرة، كان من السابقين الأولين وهاجر الهجرتين ثم خدعه أبو جهل إلى أن رجعوه من المدينة إلى مكة فحبسوه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت. مات عام ١٥ هـ بالشام في خلافة عمر، وقيل: استشهد باليمامة وقيل: باليرموك))..
٣ هي: أسماء بنت مخربة. ويقال: بنت عمرو بن مخربة بن جندل، ذكر البلاذري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى: قدم هشام بن المغيرة نجران فرأى أسماء بنت مخربة فأعجبته فتزوجها وحملها إلى مكة فولدت له أبا جهل والحارث، ثم مات، فتزوجها عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة فولدت له عياشا، فكان أخا أبي جهل والحارث لأمهما. وقال: قال محمد بن سعد: إنها ماتت كافرة قبل أن يهاجر ابنها عياش إلى المدينة. ويقال: إنها أسلمت وأدركت خلافة عمر، وذلك أثبت)) (الاصابة في تمييز الصحابة لابن حجر٨/١٠)..
٤ أورد الواحدي النيسابوري هذه القصة في (أسباب النزول ص٩٧). في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا.. ٩٢﴾ [النساء] وفيه أن أبا جهل والحارث بن هشام خرجا يطلبان أخاهما لأمهما عياشا، فأتوه وهو في الأطم (حصن بالمدينة مبني بالحجارة)، فقالا له: انزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك، وقد حلفت لا تأكل طعاما ولا شرابا حتى ترجع إليها، ولك الله علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكرا له جزع أمه وأوثقا له، نزل إليهم فأخرجوه من المدينة وأوثقوه بنسع وجلده كل واحد منهم مائة جلدة))..
٥ تحقيق هذا الأمر: أن عياشا لم يقتل الحارث أخاه، بل قتل الحارث بن يزيد بن أنيسة وكان مع أخويه أبي جهل والحارث عندما أوثقاه وضرباه. قال ابن حجر في ((الإصابة))في ترجمة (١٥٠٤): ((كان يؤذيهم بمكة وهو كافر، فلما هاجر الصحابة أسلم الحارث ولم يعلموا بإسلامه وأقبل مهاجرا، حتى إذا كان بظاهر الحرة لقيه عياش بن أبي ربيعة فظنه على شركه فعلاه بالسبف حتى قتله، فنزلت هذه الآية)). وانظر أسباب النزول للواحدي (ص٩٧)، وابن كثير في تفسيره (١/٥٣٤)..
{ وليعلمن الله الذين آمنوا
وليعلمن المنافقين١١ }
نعم، الحق سبحانه يعلم حال عباده حتى قبل أن يخلقوا، ويعلم ماذا سيحدث لهم، إنما هناك فرق بين علم مسبق على الحدث، وعلم بعد أن يقع الحدث نفسه ؛ لأنه سبحانه لو قال : سأفعل بهم كذا وكذا، لأني أعلم ما يحدث منهم لقالوا : لا والله ما كان سيحدث منا شيء ؛ لذلك يتركهم حتى يحدث منهم الفعل.
{ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا
ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من
شيء إنهم لكاذبون١٢ }
وهذا لون من ألوان الإيذاء أن يقول الذين كفروا للذين آمنوا ﴿ اتبعوا سبيلنا.. ١٢ ﴾[ العنكبوت ] أي : ما نحن عليه من دين الآباء والأجداد، وما نحن عليه من عبادة الأصنام والأوثان، فنحن نعبد آلهة لا تكاليف لها ولا مطلوبات، وأنتم تعبدون إلها له منهج، وله مطلوبات بافعل كذا ولا تفعل كذا.
فالمعنى :﴿ اتبعوا سبيلنا.. ١٢ ﴾[ النعكبوت ] خذوا الحكم منا ﴿ ولنحمل خطاياكم.. ١٢ ﴾ [ العنكبوت ] يعني : اعملوا على مسئوليتنا، وإن كانت عليكم خطايا سنحملها عنكم، وانظر هنا إلى غباء الكافر فقد آمن هو نفسه أن هذه خطيئة، ومع ذلك يتعرض لحملها، لكن كيف يحملها ؟ وكيف يكون هو المسئول عنها أمام الله – عز وجل – حين يحاسبني ربي عليها ويعاتبني على اتباعي له ؟ وهل للكافر شفاعة أو قوة يدافع بها عني في الآخرة ؟
لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون١٢ ﴾ [ العنكبوت ] ويؤكد لنا سبحانه كذبهم أيضا في قوله تعالى :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب.. ١٦٦ ﴾ [ البقرة ]
ويقول التابعون :﴿ ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين٢٩ ﴾ [ فصلت ]
فالمودة التي كانت بينهم في الدنيا تحولت إلى عدواة ؛ لأنهم اجتمعوا في الدنيا على الضلال، فتفرقوا في الآخرة، كما قال سبحانه :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين٦٧ ﴾[ الزخرف ] فالمتقي ساعة يرى المتقي في الآخرة يشكره، ويعترف له بالجميل ؛ لأنه أخذ على يديه في الدنيا، ومنعه من أسباب الهلاك، فيحبه ويثنى عليه، وربما اعتبره عدوه في الدنيا. أما أهل الضلال فيلعن بعضهم بعضا، ويتبرأ بعضهم من بعض.
إذن : فغباء الكفار بين في قولهم :﴿ ولنحمل خطاياكم.. ١٢ ﴾ [ العنكبوت ]، كما هو بين في قولهم ﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم٣٢ ﴾[ الأنفال ]
وكما هو بين في قولهم :﴿ لا تنفقوا على من عند رسول الله.. ٧ ﴾ [ المنافقون ] فهم يعرفون أنه رسول الله، ومع ذلك يمنعون الناس من الإنفاق على الفقراء الذين عنده ؛ إنه غباء حتى في المواجهة.
{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة١
إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون١٤ }
يقول العلماء : إن نوحا – عليه السلام – هو أول رسل الله إلى البشر، أما من سبقه مثل آدم وإدريس عليهما السلام، فكانوا أنبياء أوحى الله إليهم بشرع يعملون به، فيكونون نموذجا إيمانيا، وقدوة سلوك طيب، يقلدهم من رآهم، لكن لايعد كافرا من لم يقتد بهم، أما إن اقتدى بهم ثم نكث عن سبيلهم فهو كافر.
لذلك نفرق بين النبي والرسول، بأن النبي أوحى إليه بشرع يعمل به ولم يؤمر بتبليغه، أما الرسول فقد أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه فكل منهما مرسل، لذلك يقول تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي.. ٥٢ ﴾ [ الحج ]
إذن : فالنبي أيضا مرسل، لكنه مرسل لذاته.
لكن لماذا كان هذا قبل نوح بالذات ؟ قالوا : لأن الرقعة الإنسانية كانت ضيقة قبل نوح، وكان الناس حديثي عهد، لم تنتشر بينهم الانحرفات، فلما اتسعت الرقعة، وتداخلت أمور الحياة احتاجت الخليقة لأن يرسل الله إليهم الرسل.
والحق سبحانه يأتي بهذه اللقطة الموجزة من قصة نوح – عليه السلام – مع أن له سورة مفردة، وله لقطات كثيرة منثورة في الكتاب العزيز، لكن هذه اللقطة تأتي لنا بالبداية والنهاية فقط وكأنها برقية ( تلغرافية ) في مسألة نوح :
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه.. ١٤ ﴾ [ العنكبوت ]
إذن : الرسول جاء من القوم، وهذا يعني أنهم يعرفونه قبل أن يكون رسولا، ويجربون سلوكه وحركته في الحياة، ويعرفون خلقه، ويعرفون كل تصرفاته، فليس الرسول بعيدا عنهم أو مجهولا لهم.
لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جهر بالدعوة آمن به الذين يعرفونه عن قرب دون أن يسألوه عن معجزة تؤيده، بل بمجرد أن قال أنا رسول الله آمنوا به وصدقوه واتبعوه.
فسيدنا أبو بكر، هل سمع من رسول الله قبل أن يؤمن به ؟ لا، إنما بمجرد أن قالوا له : إن صاحبك تنبأ قال : آمنت به٢، لماذا ؟ لأنه يعرف له سوابق يبني عليها إيمانه بصاحبه، فما كان محمد ليكون صاحب خلق عظيم من الناس، ثم يكذب على الله.
إذن : ففي كون الرسول من قومه إيناس للخلق ؛ لذلك لما قالوا : لا نؤمن إلا إذا جاءنا الرسول ملكا رد عليهم : أأنتم ملائكة حتى ينزل عليكم ملك ؟
﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا٩٥ ﴾ [ الإسراء ]
ولو فرض أننا أرسلناه ملكا أهم يرون الملائكة ؟ لا يرونها، فكيف إذن يبلغ الملك الناس ؟ لابد أن يأتيهم في صورة بشر، ولو أتاهم في صورة بشر لقالوا نريد ملكا.
وقوله عز وجل :﴿ فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما.. ١٤ ﴾ [ العنكبوت ] هذا العدد من الممكن أن يؤدي لمعان كثيرة، فلم يقل : فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما٣. وفي الأعداد في القرآن أسرار كثيرة، واقرأ مثلا :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة.. ١٤٢ ﴾ [ الأعراف ]
وفي آية سورة البقرة قال الحق سبحانه :﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة.. ٥١ ﴾ [ البقرة ]
ففي سورة البقرة إجمال، وفي آية الأعراف تفصيل. والحكمة في هذا أن موسى عليه السلام ما إن ذهب لميقات ربه حتى عبد قومه العجل في مدة الثلاثين ليلة. ولم يشأ الله أن يترك موسى ليعود لقومه بعد الثلاثين ليلة، بل أتمها بعشر أخر، حتى لا يعود موسى ويرى ما فعله قومه، فكأن العشر زادت على الثلاثين ليلة، ليعطيك الصورة الأخيرة الموجودة في سورة البقرة.
فالمسألة في منتهى الدقة، ولو لم يأت بالاستثناء في قوله :﴿ إلا خمسين عاما.. ١٤ ﴾ [ العنكبوت ] فربما يظن السامع أن المسألة تقريبية، لكن التقريب في عد البشر، أما في حساب الحق سبحانه فهو منتهى الدقة، كما لو سئلت مثلا عن الساعة، فتقول : الساعة العاشرة إلا دقيقة ونصفا، يعني : منتهى ما في استطاعتك من حساب الوقت.
فإن قلت : فلماذا هذه اللقطة السريعة من قصة نوح عليه السلام ؟ نقول : هي لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قومه وقفوا منه موقف العداء والمكابرة والتكذيب، وآذوا أصحابه، وضيقوا الخناق على دعوته، وقد طالت هذه المسأل حتى أخذت ثلاث عشرة سنة من عمر الدعوة، فسلاه ربه : اصبر يا محمد، فقد صبر زميل لك في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاما، يعني مدة المشقة التي تحملتها ما وزالت بسيطة هينة، وقد تحمل أولو العزم من الرسل أكثر من ذلك.
ونلحظ هنا ﴿ ألف سنة.. ١٤ ﴾[ العنكبوت ] ثم استثنى منها ﴿ إلا خمسين عاما.. ١٤ ﴾[ العنكبوت ] ولم يقل خمسين سنة، فاستثنى الأعوام من السنين، ليذلك على أن السنة تعني أي عام، ويرفع الخلاف ؛ لأن البعض يقول : إن السنة هي التي تبدأ من أول المحرم إلى آخر ذي الحجة، في حين أن السنة ليس من الضروري أن تبدأ بالمحرم وتنتهي بذي الحجة، إنما تبدأ في أي وقت وتنتهي في مثله بعد عام كامل.
فحين نقول : فلان عمره مثلا عشرون سنة، أي : من يوم مولده إلى مثله عشرين مرة، وكذلك العام. إذن : السنة والعام والحجة، كلها سواء أردت الحساب بالسنة الشمسية، أو القمرية، أو غيرها كما تحب.
ومعلوم أن التوقيتات عندنا توقيتات هلالية بالشهر العربي ؛ لأن الشمس لا يعرف من حركتها إلا اليوم، إنما لا نعرف منها الشهر، الشهر نعرفه بحركة القمر حين يولد الهلال، وبالشهر نحسب السنة التي هي اثنا عشر شهرا قمريا وتزيد أحد عشر يوما في السنة الشمسية.
وكأن الحق سبحانه أراد أن يعلمنا أن السنة هي العام، لا فرق بينهما، ولا داعي للجاج في هذه المسألة.
ثم يذكر سبحانه نهاية هؤلاء القوم الذين كذبوا :﴿ فأخذهم الطوفان وهم ظالمون١٤ ﴾ [ العنكبوت ] فالعلة في أخذهم، لا لأنهم أعداء، بل لأنهم ظالمون لأنفسهم بالكفر، وهكذا تنتهي القصة أو اللقطة في آية واحدة الغرض منها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، إن أبطأ نصره على الكفار.
وكلمة﴿ فأخذهم.. ١٤ ﴾[ العنكبوت ] الأخذ فيه دليل على الشدة وقوة التناول، لكن بعنف أو بغير عنف ؟ إن كان الأخذ لخصم فهو أخذ بعنف وشدة، وإن كان لغير خصم كان بلطف.
والطوفان : أن يزيد الماء عن الحاجة الرتيبة للناس، فبعد أن كان وسيلة حياة، ومنه كل شيء حي يصبح وسيلة موت وهلاك، وكأن الحق – سبحانه وتعالى – يريد أن يلفت أنظارنا إلى المتقابلات في الخلق حتى لا نظن أن الخلق يسير برتابه.
فسيدنا موسى – عليه السلام – ضرب البحر بالعصا، فتجمد فيه الماء حتى صار كالجبل، وضرب بها الحجر فانبجس منه الماء.
إنها طلاقة القدرة التي لا تعتمد على الأسباب، فالمسبب هو الله سبحانه يفعل ما يشاء، فليست الأشياء بأسبابها، إنما بمراد المسبب فيها ؛ لذلك يقول أحمد شوقي في قصيدة النيل :
من أي عهد في القرى تتدفق***وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم على***الجنان جداولا تترقرق
إلى أن تقول :
الماء تسكبه فيصبح عسجدا ٤***والأرض تغرقها فيحيا المغرق
والمأخوذ هنا هم المكذبون لنوح – عليه السلام – الذين ظلموا أنفسهم لما كذبوا رسولهم، ولم يستمعوا للهدى، ثم ينجى الله نوحا – عليه السلام – بالسفينة التي قال عنها في سورة هود :﴿ وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها.. ٤١ ﴾[ هود ]
وقد أمره الله بصناعة السفينة :﴿ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون٣٧ ﴾[ هود ] فكان نوح – عليه السلام – على علم بعاقبة المكذبين الظالمين من قومه، واحتفظ بها في نفسه، وهو يصنع السفينة كما أمره ربه.
لكن، أكانت السفينة شيئا معروفا لهؤلاء القوم، ولها مثقال سابق لديهم ؟ لا، لم يكونوا يعرفون السفن، بدليل أنهم تعجبوا من فعل نوح، وسخروا منه وهو يصنعها ﴿ وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه.. ٣٨ ﴾[ هود ] فكان يرد عليهم في نفسه :﴿ إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون٣٨ ﴾[ هود ] فهو يعلم عاقبتهم وما يبيته الله لهم.
والحق سبحانه يعطينا هذه اللقطة من قصة نوح – عليه السلام – لكي نجول في كل اللقطات، ونستحضر مواطن العبرة فيها، وفي قصة نوح مسائل كثيرة نستفيدها، فقد كان القوم يعبدون الأصنام : ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا، ومنها نعلم أن ودادة الأنبياء ودادة قيم ومنهج، وودادة أعمال واقتداء، وأن أنسابهم أنساب تقوى وورع.
فنبوة نوح لم تمنع ولده الضال من الغرق، حتى بعد أن دعا الله :﴿ رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق.. ٤٥ ﴾[ هود ] فيعطيه الله الحكم في هذه المسألة، ويصحح له :﴿ إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح.. ٤٦ ﴾ [ هود ]
وليس معنى ذلك أن أمة أتت به من الحرام والعياذ بالله ؛ لأن الله تعالى ما كان ليدلس على نبي من أنبيائه، إنام هي كانت من الخائنين، وخيانتها أنهاكانت تفشي أسراره لخصومه، وتختبرهم خبره ؛ لذلك يقول تعالى عنها في سورة التحريم :﴿ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط.. ١٠ ﴾ [ التحريم ]
يبين الحق سبحانه العلة في قوله :﴿ إنها ليس من أهلك.. ٤٦ ﴾[ هود ]بقوله ﴿ إنه عمل غير صالح.. ٤٦ ﴾[ هود ] حتى لاتذهب بنا الظنون في زوجة نبي الله، فالعلة أنه عمل غير صالح، وبنوة الأنبياء بنوة عمل، لا بنوة نسب.
٢ أورده البيهقي في دلائل النبوة(٢/١٦٤) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر ما عتم منه حين ذكرته وما تردد فيه)) وعزاه لابن إسحاق..
٣ قال القرطبي في تفسيره (٧/٥٢٢٢): فإن قيل: فلم قال: ﴿ألف سنة إلا خمسين عاما.. ١٤﴾[العنكبوت] ولم يقل: تسعمائة وخمسين عاما، ففيه جوابان:
أحدهما: أن المقصود به تكثير العدد، فكان ذكره الألف أكثر في اللفظ، وأكثر في العدد.
الثاني: ما روي أنه أعطي من العمر ألف سنة، فوهب من عمره خمسين سنة لبعض ولده، فلما حضرته الوفاة رجع في استكمال الألف، فذكر الله تعالى ذلك تنبيها على أن النقيصة كانت من جهته))..
٤ العسجد: الذهب. وقيل: هو اسم جامع للجوهر كله من الدر والياقوت [لسان العرب – مادة: عسجد]..
{ فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها١
آية للعالمين١٥ }
أي : فأنجينا نوحا عليه السلام ﴿ وأصحاب السفينة.. ١٥ ﴾ [ العنكبوت ] هم الذين يركبون معه فيها، فهم أصحابها، وقد صنعت من أجلهم، لم يصنعها نوح لذاته، إنما صنعها لقومه الذين تعجبوا من صناعته لها وسخروا منه واستهزأوا به، فهم أصحابها في الحقيقة، من آمن منهم ركب فيها، ومن كفر أبى وأعرض، فكانت نهايته الغرق.
ونفهم من هذه القضية أن الحق سبحانه حينما يطلب من المؤمن شيئا يعطيه لمن لا يجد ذلك الشيء، سواء كان علما أو مالا أو قدرة.. إلخ افهم أنها حق له، وليست تفضلا عليه، فلما صنع نوح السفينة جعلها الله من حق القوم فقال﴿ وأصحاب السفينة.. ١٥ ﴾[ العنكبوت ] فهي حق لهم، فليس المراد منها أن يصنعها مثلا، ويؤجرها لهم، لا بل هو يصنعها من أجله.
وكذلك قوله تعالى :﴿ والذين في أموالهم حق معلوم٢٤ ﴾[ المعارج ] قد ورد هذا الحق في المال مرتين في القرآن الكريم، مرة ﴿ حق معلوم٢٤ ﴾[ المعارج ]، ومرة أخرى ﴿ حق للسائل والمحروم ١٩ ﴾[ الذاريات ] دون أن يحدد مقداره، ودون أن يوصف بالمعلومية.
وقد سماهما الله حقا، فالمعلوم هو الزكاة الواجبة في مقام الإيمان، وغير المعلوم هي الصدقة ؛ لأنها لا تخضع لمقدار معين، بل هي حسب أريحية المؤمن وحبه للطاعات، ودخوله في مقام الإحسان الذي قال الله فيه :﴿ إن المتقين في جنات وعيون١٥ آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين١٦ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون١٧ والأسحار هم يستغفرون ١٨ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم١٩ ﴾ [ الذاريات ]
وهذه الزيادة في العبادات دليل على عشق التكليف وحب الطاعة والثقة بأن الله تعالى ما كلفنا إلا بأقل مما يستحق سبحانه من العبادة ؛ لذلك يقول العلماء : إياك أن تنتقل إلى هذا المقام وتلزم به نفسك، أو تجعله نذرا ؛ لأنك إن فعلت صار في حقك فرضا لا تستطيع أن تنقص منه.
إنما اجعله لنشاطك ومقدرتك ؛ لأنك إن تعودت على منهج وألزمت نفسك به ثم تراجعت، فكأنك تقول كلمة لا ينبغي أن تقال، فكأنك – والعياذ بالله – جربت ودك لله فلم تجده – والعياذ بالله – أهل ود فتركته.
إذن : فقوله سبحانه ﴿ وأصحاب السفينة.. ١٥ ﴾ [ العنكبوت ] يدلنا على أنها صنعت بأمر الله من أجلهم، وبفراغ نوح من صناعتها كانت حقا لهم، لا ملكا له عليه السلام.
لكن كيف نفهم ﴿ وأصحاب السفينة.. ١٥ ﴾ [ العنكبوت ] وقد حمل فيها نوح – عليه السلام – من كل زوجين اثنين ؟ قالوا : الزوجان من غير البشر ليس لهما صحبة ؛ لأنهما مملوكان لأصحاب الصحبة.
وقوله سبحانه :﴿ وجعلناها آية للعالمين١٥ ﴾[ العنكبوت ] أي : أمرا عجيبا لم يسبق له مثيل في حياة الناس، فقد صنعها نوح – عليه السلام – بوحي من ربه على غير مثال سابق، فوجه كونها آية أن الله تعالى أعلمه وعلمه صناعتها ؛ لأن لها مهمة إيمانية عنده، فبها نجاة المؤمنين وغرق الكارفين، وهذه الآية ﴿ للعالمين١٥ ﴾[ العنكبوت ] جميعا.
{ وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذالكم
خير لكم إن كنتم تعلمون١٦ }
الواو هنا لعطف الجمل، فالآية – معطوفة على ﴿ ولقد أرسلنا نوحا.. ١٤ ﴾ [ العنكبوت ] إذن : فنوح وإبراهيم واقعتان مفعولا به للفعل أرسلنا١، وللسائل أن يسأل : لماذا لم تنون إبراهيم كما نويت نوح ؟ لم تنون كلمة إبراهيم ؛ لأنها اسم ممنوع من الصرف – أي من التنوين – لأنه اسم أعجمي.
ونلحظ في هذه المسألة أن جميع أسماء الأنبياء أسماء أعجمية تمنع من الصرف، ما عدا الأسماء التي تبدأ بهذه الحروف ( صن شمله ) وهي على الترتيب : صالح، نوح، شعيب، محمد، لوط، هود. فهذه الأسماء مصروفة منونة، عليهم جميعا الصلاة والسلام.
والمعنى :﴿ وإبراهيم.. ١٦ ﴾ [ العنكبوت ] يعني : واذكر إبراهيم ﴿ إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه.. ١٦ ﴾ [ العنكبوت ] وقلنا : العبادة أن يطيع العابد المعبود في أوامره ونواهيه، إذن : لو جاء من يدعي الألوهية، وليس له أمر نؤديه، أو نهى نمتنع عنه فلا يصلح إلها.
لذلك كذب الذين قالوا :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.. ٣ ﴾[ الزمر ] لأنهم ما عبدوا الأصنام إلا لأنها ليست لها أوامر ولا نواه، فألوهيتهم ( منظرية ) بلا تكليف، فأول الأدلة على بطلان عبادة هذه الآلهة المدعاة أنها آلهة بلا منهج.
ثم عطف الأمر ﴿ واتقوه.. ١٦ ﴾[ العنكبوت ] على﴿ اعبدوا.. ١٦ ﴾[ العنكبوت ]والتقوى من معانيها أن تطيع الأوامر، وتجتنب النواهي، فهي مرادفة للعبادة، لكن إن عطفت على العبادة فتعني : نفذوا الأمر لتتقوا غضب الله، اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية.
وسبق أن قلنا : إن لله تعالى صفات جلال : كالقهار، والجبار، المنتقم، المذل.. إلخ، وصفات جمال : كالغفار، الرحمن، الرحيم، التواب. وبالتقوى تنال متعلقات صفات الجمال، وتمنع نفسك وتحميها من متعلقات صفات الجلال.
وقوله تعالى :﴿ ذالكم خير إن كنتم تعلمون١٦ ﴾[ العنكبوت ] ذالكم : أي ما تقدم من الأمر بالعبادة والتقوى خير لكم، فإن لم تعلموا هذه القضية فلا خير في علمكم، كما قال تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون٦ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا.. ٧ ﴾ [ الروم ]
فالعلم الحقيقي هو العلم بقضايا الآخرة، العلم بالأحكام وبالمنهج الذي يعطيك الخير الحقيقي طويل الأمد على خلاف علم الدنيا فإن نلت منه خيرا، فهو خير موقوت بعمرك فيها.
وسبق أن قلنا : إن العلم هو إدراك قضية كونية تستطيع أن تدلل عليها، وهذا يشمل كل معلومة في الحياة. أي : العلم المادى التجريبي وآثار هذا العلم في الدنيا، أما العلم السامي الأعلى فأن تعلم المراد من الله لك، وهذا للآخرة.
واقرأ في ذلك مثلا قوله تعالى :
﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد٢ بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب٣ سود٢٧ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور٢٨ ﴾
[ فاطر ]
فذكر سبحانه علم النبات والجماد و ﴿ من الناس.. ٢٨ ﴾ [ فاطر ] أي : علم الإنسانيات ﴿ والدواب.. ٢٨ ﴾[ فاطر ] علم الحيوان، وهكذا جمع كل الأنواع والأجناس، ثم قال سبحانه :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء.. ٢٨ ﴾[ فاطر ] مع أنه سبحانه لم يذكر هنا أي حكم شرعي.
إذن : المراد هنا العلماء الذين يستنبطون قضية يقينية في الوجود، كهذه الاكتشافات التي تخدم حركة الحياة، وتدل الناس على قدرة الله، وبديع صنعه تعالى، وتذكرهم به سبحانه.
وتأمل في نفسك مثلا وضع القصبة الهوائية بجوار البلعوم، وكيف أنك لو شرقت بنصف حبة أرز لا تستريح إلا بإخراجها، وتأمل وضع اللهاة وكيف تعمل تلقائيا دون قصد منك أو تحكم فيها.
تأمل الأهداف في القصبة الهوائية، وكيف أنها تتحرك لأعلى تخرج ما يدخل من الطعام لو اختل توازن اللهاة، فلم تحكم سد القصبة الهوائية أثناء البلع.
تأمل حين تكون جالسا مطمئنا لا يقلقك شيء، ثم في لحظة تجد نفسك محتاجا لدورة المياه، ماذا حدث ؟ ذلك لأن في مجرى الأمعاء ما يشبه ( السقاطة ) التي تخرج الفضلات بقدر، فإذا زادت عما يمكن لك تحمله، فلا بد من قضاء الحاجة والتخلص من هذه الفضلاة الزائدة.
تأمل الأنف وما فيه من شعيرات في مدخل الهواء ومخاط بالداخل، أنها جعلت هكذا لحكمة، فالشعيرات تحجر ما يعلق بالهواء من الغبار، ثم يلتقط المخاط الغبار الدقيق الذي لا يعلق بالشعيرات ليدخل الهواء الرئتين نقيا صافيا، تأمل الأذن من الخارج وما فيها من تعاريج مختلفة الاتجاهات، لتصد الهواء، وتمنعه من مواجهة فتحه الأذن.
والآيات في جسم الإنسان كثيرة وفوق الحصر، ولا سبيل إلى معرفتها إلا باستنباط العلماء لها، وكشفهم عنها، وهذا من نشاطات الذهن البشري، أما العلم الذي يخرج عن نطاق الذهن البشري فهو نازل من أعلى، وهو قانون الصيانة الذي جعله الخالق سبحانه لحماية الخلق، فالذي يأخذ بالعلم الدنيوي التجريبي فقط يحرم من الخير الباقي، لأن قصارى ما يعطيك علم المادة في البشر أن يرفه حياتك المادية، أما علم الآخرة فيرفه حياتك الدنيا ويبقى لك في الآخرة.
إذن : فقوله تعالى :﴿ ذلكم خير لكم.. ١٦ ﴾[ العنكبوت ]أي : قانون الصيانة الرباني بافعل كذا ولا تفعل كذا، وإياك أن تنقل مدلول ( افعل ) في ( لا تفعل ) أو مدلول ( لا تفعل ) في ( افعل )، وقد شبهنا هذا القانون ( بالكتالوج ) الذي يجعله الصانع لحماية الصنعة المادية لتؤدي مهمتهما على أكمل وجه، كذلك منهج الله بالنسبة للخلق، فإن لم تعلموا هذه القضية فلن ينفعكم علم بعد ذلك.
يقول سبحانه :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب٢٠ ﴾[ الشورى ]
إذن : فالخير الباقي هو الخير في الآخرة.
قال الكسائي: منصوب بـ ((أنجينا)) يعني أنه معطوف على الهاء.
وأجاز الكسائي أن يكون معطوفا على نوح، والمعنى: وأرسلنا إبراهيم.
وقول ثالث: أن يكون منصوبا بمعنى: واذكر إبراهيم..
٢ الجدة من الجبل: القطعة منه. والجدة من الشيء: الجزء منه يخالف لونه لون سائره. قال تعالى: ﴿ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود٢٧﴾ [فاطر] أي: من الجبال أجزاء ذات ألوان مختلفة.[القاموس القويم ١/١١٨]..
٣ الغرابيب: جمع غريب، وهو الشديد السود.[القاموس القويم ٢/٥٠]..
{ إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتختلفون إفكا
إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم
رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له
إليه ترجعون١٧ }
قوله تعالى :﴿ إنما تعبدون.. ١٧ ﴾[ العنكبوت ] أي : على حد زعمهم، وعلى حد قولهم :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.. ٣ ﴾[ الزمر ]، وإلا فلا عبادة لهذه الآلهة، حيث لا أمر عندهم ولا نهي ولا منهج، فعبادتهم إذن باطلة.
وهم يعبدون الأوثان من دون الله فإن ضيق عليهم الخناق قالوا :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربون إلى الله زلفى.. ٣ ﴾[ الزمر ] فهم بذلك مشركون، ومن لم يقل بهذا القول فهو كافر.
والوثن : ما نصب للتقديس من حجر، أيا كان نوعه : حجر جيرى، أو جرانيت، أو مرمر. أو كان من معدن : ذهب أو فضة أو نحاس.. إلخ أو من خشب، وقد كان البعض منهم يصنعه من ( العجوة )، فإن جاع أكله، وقد حكى هذا على سبيل التعجب سيدنا عمر رضي الله عنه.
وبأي عقل أو منطق أن تذهب إلى الجبل وتستحسن منه حجرا فتنحته على صورة معينة، ثم تتخذه إلها تعبده من دون الله، وهو صنعة يدك، وإن أطاحت به الريح أقمته، وإن كسرته رحت تصلح ما تكسر منه وترممه، فأي عقل يمكن أن يقبل هذا العمل ؟
لذلك يخاطبهم القرآن :﴿ قال أتعبدون ما تنحتون٩٥ ﴾[ الصافات ] وكلما تقدم العالم تلاشت منه هذه الظاهرة ؛ لأنها مسألة لم تعد تناسب العقل بأية حال.
ومعنى﴿ وتخلقون إفكا.. ١٧ ﴾[ العنكبوت ] أي : توجدون، والإيجاد يكون من عدم، فهم يوجدون من عدم، لكن أيوجدون صدقا ؟ أم يوجدون كذبا ؟ إنهم يوجدون ﴿ إفكا.. ١٧ ﴾ [ العنكبوت ] والإفك تعمد الكذب الذي يلقب الحقائق، ومن ذلك قوله سبحانه :﴿ والمؤتفكة أهوى٥٣ ﴾ [ النجم ] أي : القرى التي كفأها الله على نفسها.
وسبق أن أوضحنا أن الحقيقة هي القضية الصادقة التي توافق الواقع، فلو قلت مثلا : محمد كريم، فلا بد أن هناك شخصا اسمه محمد وله صفة الكرم، فإن احتلف الواقع فلم يوجد محمد أو وجد ولم تتوفر له صفة الكرم، فالقضية كاذبة لأنها مخالفة للواقع، هذا هو الإفك.
فالحق سبحانه لا يعيب عليهم الخلق ؛ لأنه أثبت للعباد خلقا، فقال سبحانه :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين١٤ ﴾ [ المؤمنين ]
والفرق أنك تخلق من موجود، أما الحق سبحانه فيخلق من العدم، فأنت توجد الثوب من القطن مثلا، وكوب الزجاج من الرمل، والمحراث من الحديد.. إلخ فأوجدت معدوما عن موجود سابق، أما الخالق سبحانه فأوجد معدوما عن لا وجود.
وسبق أن أوضحنا أن صنعة البشر تجمد على حالها، فالسكين مثلا يظل سكينا لا يكبر، حتى يصير ساطورا مثلا، والكوب لا يلد لنا أكوابا أخرى. لكن خلقة الله سبحانه لها صفة النمو والحياة والتكاثر.. إلخ ؛ لذلك أنصفك الله فوصفك بأنك خالق، لكن هو سبحانه أحسن الخالقين.
إذن : الحق سبحانه لا يعيب على هؤلاء أنهم يخلقون، إنما يعيب عليهم أن يخلقوا إفكا وكذبا.
ثم يقول سبحانه :﴿ إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق.. ١٧ ﴾[ العنكبوت ] في موضع آخر بين لهم الحق سبحانه أنهم يعبدون آلهة لا تضر ولا تنفع، وهنا يذكر مسألة مهمة هي استبقاء الحياة للإنسان بالقوت الذي نسيمه الرزق، فهذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله لا تملك لكم رزقا، ولو امتنع عنكم المطر وأجدبت الأرض لمتم من الجوع.
إذن : كان عليكم أن تتأملوا : من أين تأتي مقومات حياتكم، ومن صاحب الفضل فيها، فتتوجهون إليه بالعبادة والطاعة، كما نقول في المثل ( اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتني ) إنما أطعمك وتسمع لغيري ؟ ! !
والرزق هو الشغل الشاغل عند الناس، ففي أول الأمر كلنا يجتهد لنأكل ونشرب ونعيش، فلما تتحسن الأمور نرغب في التخزين للمستقبل، فالموظف مثلا يدخر لشهر، والزارع يدخر للعام كله.
ومن أعاجيب هذه المسألة أنك تجد الإنسان والفأر والنمل هم الوحيدون بين مخلوقات الله التي تدخر للمستقبل، أما بقية الحيونات فتأخذ حاجتها من الطعام فقط، وتترك الباقي دون أن تهتم بهذه المسألة، او تشغل برزق غد أبدا، لا يأكل أكثر من طاقته، ولا يدخر شيئا لغده.
لذلك يذكر الله عباده بمسألة الرزق لأهميتها في حياتهم، ومن عجيب أمر الرزق أنه أعرف بمكانك وعنوانك، منك بمكانه وعنوانه، فإن قسم لك الرزق جاءك يطرق عليك الباب، وإن حرمت منه أعياك طلبه.
ومن أوضح الأمثلة على أن الرزق مقسوم مقدر من الله لكل منا أن المرأة حين تحمل يمتنع عنها الحيض الذي كان يأتيها بشكل دوري قبل الحمل، فأين ذهب هذا الدم ؟ هذا الدم هو رزق الجنين في بطن أمه لا يأخذه ولا يستفيد به غيره حتى الأم.
فإن قدر الجنين تحول هذا الدم إلى غذاء له خاصة، فإن لم يقدر للأم أن تحمل نزل منها هذا الدم على صورة كريهة، لابد من التخلص منه ؛ لأنه ضار بالأم إن بقي لابد من نزوله، لأنه ليس رزقها هي، بل رزق ولدها في أحشائها، ولو لم يكن هذا الدم رزقا للجنين لكانت الأم تضعف كلما تكررت لها عملية نزول الدم بهذه الصورة الدورية. إذن : لكل منا رزق لا يأخذه غيره.
لذلك يقول أحد الصالحين : عجبت لابن آدم يسعى فيما ضمن له ويتر ما طلب منه.
فربك قد ضمن لك رزقك فانظر إلى ما طلب منك، واشغل نفسك بمراد الله فيك ؛ لذلك نتعجب من هؤلاء المتسولين الذين كنا نراهم مثلا في مواسم الحج، وشرهم من يعرضون عاهاتهم وعاهات أبنائهم على الناس يتسولون بها، وكأنهم يشتكون الخالق للخلق، ويتبرمون بقضاء الله، والله تعالى لا يحب أن يشكوه عبده لخلقه.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :( ( إذا بليتم فاستتروا ) )١ووالله لو ستر أصحاب البلاء بلاءهم، وقعدوا في بيوتهم لساق الله إليهم أرزاقهم إلى أبوابهم.
إذن : الرزق مضمون من الله ؛ لذلك يمتن به على عباده وينفيه عن هذه الآلهة الباطلة ﴿ لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق.. ١٧ ﴾[ العنكبوت ] ثم يقول الحق سبحانه ﴿ واعبدوا واشكروا له إليه ترجعون ١٧ ﴾[ العنكبوت ] فإن لم تعبدوه لأنه يرزقكم زيطعمكم، فاعبدوه لأن مرجعكم إليه ووقوفكم بين يديه.
وكان يكفي أن نعمه عليكم مقدمة على تكليفه لكم، لقد تركك تربع في نعمه دون أن يكلفك شيئا، إلى أن بلغت سن الرشد، وهي سن النضج والبلوغ والقدرة على إنجاب مثلك، ثم بعد ذلك تقابل تكليفه لك بالجحود ؟ إن عبادة الله وطاعته لو لم تكن إلا شكرا له سبحانه على ما قدمه لك لكانت واجبة عليك.
وقوله تعالى :﴿ واشكروا له.. ١٧ ﴾[ العنكبوت ] لأن ربكم عز وجل يريد أن يزيدكم، فجعل الشكر على النعمة مفتاحا لهذه الزيادة، فقال سبحانه :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم.. ٧ ﴾[ إبراهيم ] فربك ينتظر منك كلمة الشكر، مجرد أن تستقبل النعمة بقولك الحمد لله فقد وجبت لك الزيارة.
حتى أن بعض العارفين يرى أن الحمد لا يكون على نعم الله التي لا تعد ولا تحصى فحسب، إنما يكون الحمد لله على أنه لا إله إلا الله، وإلا لو كان هناك إله آخر لحرنا بينهما أيهما نتبع، فالوحدانية من أعظم نعم الواحد سبحانه التي تستوجب الشكر.
وقد أعطانا الحق سبحانه مثلا لهذه المسألة بقوله سبحانه :﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون.. ٢٩ ﴾[ الزمر ] يعني : مملوك لشركاء مختلفين، وليتهم متفقون ﴿ ورجلا سلما لرجل.. ٢٩ ﴾[ الزمر ]أي : ملك لسيد واحد ﴿ هل يستويان مثلا.. ٢٩ ﴾[ الزمر ] فكذلك الموحد لله، والمشرك به.
ولذلك يقول بعض الصالحين في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم.. ١٧٢ ﴾ [ البقرة ] فاللص الذي يأكل من الحرام يأكل رزقه، فهو رزقه لكنه من الحرام، ولو صبر على السرقة لأكله من الحلال ولساقه الله إليه.
فالمعنى أن الله خلقكم ورزقكم، ولا يعني هذا أن تفلتوا منه، فإن لم تراعوا الجميل السابق فخافوا مما هو آت.
كما قال سبحانه :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا٧٢ ﴾ [ الأحزاب ]
فالكون كله مسخر يؤدي مهمته، كما يقول سبحانه :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده.. ٤٤ ﴾ [ الإسراء ]
وقال سبحانه :﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب.. ١٨ ﴾[ الحج ] فالقاعدة عامة، لا استثناء فيها، إلا عند الإنسان، فمنهم الطائع ومنهم العاصي.
فالمعنى :﴿ وإن تكذبوا.. ١٨ ﴾[ العنكبوت ] فلستم بدعا في التكذيب ﴿ فقد كذب أمم من قبلكم.. ١٨ ﴾[ العنكبوت ] لكن يجب عليكم أن تتنبهوا إلى ما صنع بالأمم المكذبة، وكيف كانت عاقبتهم، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم، هذه هي المسألة التي ينبغي عليكم التنبه لها.
وهنا وقف بعض المتمحكين يقول : كيف يقول القرآن في خطاب قوم إبراهيم ﴿ وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم.. ١٨ ﴾[ العنكبوت ] مع أنه لم يسبقهم إلا أمة واحدة هي أمة نوح عليه السلام ؟ يظنون أنهم وجدوا مأخذا على القرآن.
ونقول : نعم، كانت أمة نوح هي أمة الرسالة المقصودة بالإيمان، لكن جاء قبلها آدم وشيث وإدريس، وكانوا جميعا في أمم سالقة على إبراهيم، أو نقول : لأن مدة بقاء نوح في قومه طالت حتى أخذت ألف سنة من عمر الزمان، وهذه الفترة تشمل قرابة العشرة أجيال، والجيل – كما قالوا – مائة سنة، كل منها أمة بذاتها.
ثم يقول تعالى :﴿ وما على الرسول إلا البلاغ المبين١٨ ﴾[ العنكبوت ] فمهمته مجرد البلاغ. يؤمن به من يؤمن، ويكفر من يكفر، الرسول لن نعطيه مكافأة أو عمولة على كل من يؤمن به، فإياكم أن تظنوا أنكم بكفركم تقللون من مكافأة النبي – خاصة وقد كانوا كارهين له – فالمعنى : على البلاغ فحسب، وقد بلغت فسآخذ جزائي وأجري من ربي، فأنتم لا تكيدونني بكفركم، بل تكيدون أنفسكم.
لذلك كان نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم يحزن أشد الحزن، ويألم إن تفلت من يده واحد من أمته فكفر، حتى خاطبه ربه :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء.. ٢٧٢ ﴾ [ البقرة ]
وخاطبه بقوله :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾ [ الشعراء ]
وحين نزل عليه صلى الله عليه وسلم :﴿ والضحى ١ والليل إذا سجى٢ ما ودعك ربك وما قلى٣ وللآخرة خير لك من الأولى٤ ولسوف يعطيك ربك فترضى٥ ﴾ [ الضحى ] انتهز النبي هذه الفرصة ودعا ربه : إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار١ ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم محب لأمته، حريص عليهم، رؤوف رحيم بهم :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم٢ حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم١٢٨ ﴾[ التوبة ]
ووصف الحق سبحانه البلاغ بأنه مبين. أي : واضح ظاهر ؛ لأن من البلاغ ما يكون مجرد عرض للمسألة دون تأكيد وإظهار للحجة التي تؤيد البلاغ.
٢ العنت: المشقة. أي: أحبوا وتمنوا دوام عنتكم ودوام المشقات عليكم.[القاموس القويم ٢/٣٨]..
{ أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم
يعيده إن ذلك على الله يسير١٩ }
الخطاب هنا موجه إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم : هؤلاء الذين كذبوا من قبل، وأنتم الذين تكذبون الآن، فأين عقولكم ؟ لو استعملتم عقولكم في تأمل الكون الذي تعيشون فيه، والذي طرأتم عليه، وقد أعد لكم بكل مقومات حياتكم.
﴿ أو لم يروا كيف يبدئ الخلق.. ١٩ ﴾ [ العنكبوت ] ويرى هنا بمعنى يعلم، كما في قوله تعالى :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل١ ﴾[ الفيل ]أي : ألم تعلم ؛ لأن رسول الله لم ير حادثة الفيل، وعدل عن ( تعلم ) إلى ( ترى ) ليلفت أنظارنا إلى أن إخبار الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أوثق له من رؤيته بعينه.
ومن ذلك قول الصديق أبي بكر لما سمع بحادث الإسراء والمعراج قال :( ( إن كان قال فقد صدق ) ).
والهمزة في ﴿ أو لم يروا.. ١٩ ﴾[ العنكبوت ] استفهام للتقرير، كما تقول لولدك : ألم تر إلى فلان الذي أهمل دروسه، تريد أن تنكر عليه أن يهمل هو أيضا، فتقرره بعاقبة الإهمال، وتدعه ينطقه بلسانه، فيقول لك : الذي أهمل دروسه رسب.
وكما تقول لمن أنكر جميلك : ألم أحسن إليك بكذا وكذا، فيقر بها هو بدل أن تعددها له أنت، فهذا أبلغ في الاعتراف.
فساعة يأتي بعد الهمزة نفي يسمونه استفهاما إنكاريا، تنكر ما هم عليه، وتريد أن تقررهم بما يقابله. والنفي بعد الإنكار نفي للنفي، ونفي النفي إثبات.
فالمعنى : أيكذبون ولم يروا ما حدث للأمم المكذبة من قبل ؟ أيكذبون ولم يروا آيات الله، وقدرته شائعة في الوجود كله ؟ لقد كان عليهم أن ينظروا نظرة اعتبار ليعلموا من خلق هذا الخلق، وإنك لو سألتهم : من خلق هذا الكون لا يجدون جوابا، ولا يملكون إلا أن يقولوا : الله، كما حكى القرآن :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله.. ٢٥ ﴾ [ لقمان ]
لكن، كيف يقرون بهذه الحقيقة ويعترفون بها، مع أنهم كافرون بالله ؟ قالوا : لأنها مسألة أظهر من أن ينكرها منكر، فكل صاحب صنعة مهما كانت ضئيلة يفخر بها وينسبها إلى نفسه، بل وينسب إلى نفسه ما لم يصنع، فما بالك بكون أعد بهذه الدقة وبهذه العظمة، ولم يدعه أحد لنفسه ؟ والدعوى تثبت لصاحبها ما لم يقم لها معارض.
لذلك قلنا : إن الحق سبحانه قبل أن يقول لا إله إلا أنا، وقبل أن يطلبها منا شهد بها لنفسه تعالى :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو.. ١٨ ﴾[ آل عمران ] ؛ لأن هذه الشهادة هي التي ستجعله يقول للشيء : كن فيكون، ولو لم يكن يؤمن بأنه إله ما قالها.
والحق سبحانه يقول :﴿ أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده.. ١٩ ﴾[ العنكبوت ] كيف ونحن لم نر الإعادة، فضلا عن رؤيتنا للبدء ؟
قالوا : نرى البدء والإعادة في مظاهر الوجود من حولنا، فنراها في الزرع مثلا، وكيف أن الله تعالى يحيي الأرض بالنبات، ثم يأتي وقت الحصاد فيحصد ويتناثر منه الحب أو البذور التي تعيد الدورة من جديد. والوردة تجد فيها رطوبة ونضارة وألوانا بديعة ورائحة زكية، فإذا قطفت تبخر منها الماء، فجفت وتفتتت، وذهبت رائحتها في الجو، ثم تخلفها وردة أخرى جديدة، وهكذا.
انظر مثلا إلى دورة الماء في الكون : هل زادت كمية الماء التي خلقها الله في الكون حين أعده لحياة الإنسان منذ خلق آدم وحواء ؟ الماء هو هو حتى الآن، مع ما حدث من زيادة في عدد السكان ؛ لأن عناصر الكون هي هي منذ خلقها الله، لكن لها دورة تسير فيها بين بدء وإعادة.
واقرأ إن شئت قوله تعالى :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين٩ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها.. ١٠ ﴾ [ فصلت ]
فكأن قوت العالم من الزرع وغيره معد منذ بدء الخليقة، وإلى أن تقوم الساعة لا يزيد، لكنه يدور في دوره طبيعية.
ثم يقول سبحانه :﴿ إن ذلك على الله يسير١٩ ﴾[ العنكبوت ] أيهما : الخلق أم الإعادة ؟ أما الخلق فقد أقروا به، ولا جدال فيه، إذن : فالكلام عن الإعادة، وهل الذي خلق من عدم يعجز عن إعادة ما خلق ؟ الخلق الأول من عدم، أما الإعادة فمن موجود، فأيهما أهون في عرفكم وحسب منطقكم ؟
لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه.. ٢٧ ﴾ [ الروم ] مع أن الحق سبحانه لا يقال في حقه : هذا هين، وهذا أهون ؛ لكنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا
{ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ
الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على
كل شيئ قدير٢٠ }
السير : الانتقال من مكان إلى مكان، لكن نحن نسير في الأرض أم على الأرض ؟ الحقيقة أننا كما قال سبحانه ﴿ قل سيروا في الأرض.. ٢٠ ﴾ [ العنكبوت ] أي : نسير فيها ؛ لأن الغلاف الجوي المحيط بالأرض من الأرض، فبدونه لا تستقيم الحياة عليها، إذن : حين تسير تسير في الأرض فهي تحتك، وغلافها الجوي فوقك، فكأنك بداخلها.
والعلة في السير ﴿ فانظروا كيف بدأ الخلق.. ٢٠ ﴾[ العنكبوت ] وفي آية أخرى ﴿ ثم انظروا.. ١١ ﴾ [ الأنعام ] ؛ لأن السير من أرض لأخرى له دافعان : إما للسياحة والتأمل والاعتبار، وإما للتجارة والاستثمار، إن ضاق رزقك في بلادك. فقوله :﴿ قل سيروا في الأرض فانظروا.. ٢٠ ﴾ [ العنكبوت ] أي : نظر اعتبار وتأمل.
أما في ﴿ ثم انظروا.. ١١ ﴾[ الأنعام ] فثم تفيد العطف والتراخي، كأنه سبحانه يقول لنا : سيروا في الأرض للاستثمار، ثم انظروا نظرة التأمل والاعتبار، ولا مانع من الجمع بين الغرضين.
وتذكرون أن الحق سبحانه قال في السورة السابقة ( القصص ) :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد.. ٨٥ ﴾ [ القصص ] والمراد بذلك الهجرة، وفي هذه السورة تأتي :﴿ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياي فاعبدون٥٦ ﴾ [ العنكبوت ]
والمعنى : إن ضاق رزقك في مكان آخر فاطلبه في مكان آخر، أو : إن لم تكن الآيات الظاهرة لك كافية لتشبع عندك الرغبة في الاعتبار والتأمل فسر في الأرض، فسوف تجد فيها كثيرا من الآيات والعبر في اختلاف الأجناس والبيئات والثمار والأجواء.. إلخ.
لذلك يقول سبحانه :
﴿ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها.. ٩٧ ﴾ [ النساء ]
فالأرض كلها لله لا حدود فيها، ولا فواصل بينها، فلما قسمها الناس وجعلوا لها حدودا تمنع الحركة فيها حدثت كثير من الإشكالات، وصعب على الناس التنقل للسياحة أو لطلب الرزق إن ضاق بأحد رزقه.
وها هي السودان بجوارنا بها مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة التي إن زرعت سدت حاجة العالم العربي كله، أنستطيع الذهاب لزراعتها ؟ ساعتها سيقولون : جاءوا ليستعمرونا.
لذلك لما أتيح لي التحدث في هيئة الأمم قلت : إنه لا يمكن أن تحل قضايا العالم الراهنة إلا إذا طبقنا مبدأ الخالق – عز وجل – وعدنا إلى منهجه الذي وضعه لتنظيم حياتنا، وكيف نضع بيننا هذه الحدود الحديدية والأسلاك الشائكة، وربنا يقول :﴿ والأرض وضعها للأنام ١٠ ﴾ [ الرحمن ]
فالأرض كل الأرض للأنام كل الأنام١، ويوم نحقق هذا المبدأ فلن يضيق الرزق بأحد، لأنه إن ضاق بك هنا طلبته هناك ؛ لذلك أكثر الشكوى في عالم اليوم إما من أرض بلا رجال، أو من رجال بلا أرض، فلماذا لا نحدث التكامل الذي أراده الله في كونه ؟
إذن : فالسير هنا مترتب عليه الاعتبار ﴿ كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة.. ٢٠ ﴾ [ العنكبوت ] وما دمنا قد آمنا بأن الله تعالى هو الخالق بداية، فإعادة الخلق أهون، كما قال سبحانه :﴿ أفعيينا بالخلق الأول.. ١٥ ﴾ [ ق ] فيشكوا في الخلق الآخر ؟ لذلك يؤكد الخالق سبحانه هذه القدرة بقوله :
﴿ إن الله على كل شيء قدير٢٠ ﴾ [ العنكبوت ]
{ يعذب من يشاء ويرحم من يشاء
وإليه تقبلون٢١ }
لماذا بدأ الحق سبحانه هنا بذكر العذاب ؟ في حين قدم المغفرة في آية أخرى :﴿ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.. ١٨ ﴾ [ المائدة ]
قالوا : لأن الكلام هنا عن المكذبين المعرضين وعن الكافرين، فناسب أن يبدأ معهم بذكر العذاب ﴿ يعذب من يشاء ويرحم من يشاء.. ٢١ ﴾ [ العنكبوت ] فإن قلت : فلماذا يذكر الرحمة مع الكافرين بعد أن هددهم بالعذاب ؟ نقول : لأنه رب يهدد عباده أولا بالعذاب ليرتدعوا وليؤمنوا، ثم يلوح لهم برحمته سبحانه ليرغبهم في طاعته ويلفتهم إلى الإيمان به.
وقد صح في الحديث القدسي :( ( رحمتي سبقت غضبي ) )١ ففي الوقت الذي يهدد فيه بالعذاب يلوح لعباده حتى الكافرين بأن رحمته تعالى سبقت غضبه.
وقول سبحانه :﴿ وإليه تقلبون٢١ ﴾ [ العنكبوت ] أي : ترجعون، وجاء بصيغة تقلبون الدالة على الغصب والانقياد عنوة ليقول لهم : مهما بلغ بكم الطغيان والجبروت والتعالي بنعم الله، فلا بد لكم من الرجوع إليه، والمثول بين يديه، فتذكروا هذه المسألة جيدا، حيث لا مهرب لكم منها ؛ لذلك كان مناسبا أن يقول بعدها :
{ وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء
وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ٢٢ }
ونلحظ هنا أن الحق سبحانه قال :﴿ وما أنتم بمعجزين.. ٢٢ ﴾ [ العنكبوت ] ولم يقل مثلا : لن تعجزوني حين أطلبكم ؛ لأن نفي الفعل غير نفي الوصف، فحين تقول مثلا : أنت لا تخيط لي ثوبا، فهذا يعني أنه يستطيع أن يخيط لك ثوبا لكنه لا يريد، فالقدرة موجودة لكن ينقصها الرضا بمزاولة الفعل، إنما حين تقول : أنت لست بخائط فقد نفيت عنه أصل المسألة.
لذلك لم ينف عنهم الفعل حتى لا نتوهم إمكانية حدوثه منهم، فالهرب والافلات من لقاء الله في الآخرة أمر غير وارد على الذهن أصلا، إنما نفي عنهم الوصف من أساسه ﴿ وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء.. ٢٢ ﴾ [ العنكبوت ]
ثم يقول سبحانه :﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير٢٢ ﴾[ العنكبوت ] حتى لا يقول قائل : إن كانوا هم غير معجزين، فقد يكون ورلاءهم من يعجز الله، أو وراءهم من يشفع لهم، أو يدافع عنهم، فنفى هذه أيضا لأنه سبحانه لا يعجزه أحد، ولا يعجزه شيء.
لذلك خاطبهم بقوله :﴿ ما لكم لا تناصرون٢٥ ﴾[ الصافات ] أين الفتوات الأقوياء ينصرونكم ؟
فنفى عنهم الولي، ونفى عنهم النصير ؛ لأن هناك فرقا بينهما : الولي هو الذي يقرب منك بمودة وحب، وهذا يستطيع أن ينصرك لكن بالحسنى وبالسياسة، ويشفع لك إن احتجت إلى شفاعته، أما النصير فهو الذي ينصرك بالقوة و ( الفتونة ).
وهكذا نفى عنهم القدرة على الإعجاز، ونفى عنهم الولي والنصير، لكن ذكر﴿ من دون الله.. ٢٢ ﴾[ العنكبوت ] يعني : من الممكن أن يكون لهم ولي ونصير من الله تعالى، فإن أرادوا الولي الحق والنصير الحق فليؤمنوا بي، فأنا وليهم وأنا نصيرهم.
وكأنه سبحانه يقول لهم : إن تبتم ورجعتم عما كنتم فيه من الكفر واعتذرتم عما كان منكم، فأنا وليكم وأنا نصيركم.
وفي موضع آخر قال :﴿ وما لكم من ناصرين٢٥ ﴾ [ العنكبوت ] ولم يقل من دون الله ؛ لأن الموقف في الآخرة، والآخرة لا توبة فيها ولا اعتذار ولا رجوع، فقوله ﴿ من دون الله.. ٢٢ ﴾[ العنكبوت ] لا تكون إلا في الدنيا.
{ والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك
يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم٢٣ }
فإن أصر الكافر على كفره وعبادته للأصنام التي لا تنفع ولا تضر، ولم تجد معه موعظة ولا تذكير فلا ملجأ له ولا منفذ له إلى رحمة الله ؛ لأنه عبد أولياء لا ينفعونه بشيء وكفر بي، فليس له من يحميه مني، ولا من ينصره من الأصنام التي عبدها، فليس له إلا اليأس.
واليأس : قطع الرجاء من الأمر، وقد قطع رجاء الكافرين ؛ لأنهم عبدوا ما لاينفع ولا يضر، وكفروا بمن بيده النفع، بيده الضر.
وقلنا : إن المراد بآيات الله إما الآيات الكونية التي تثبت قدرة الله، وتلفت إلى حكمة الخالق – عز وجل – كالليل والنهار والشمس والقمر. أو آيات المعجزات التي تصاحب الرسل ؛ ليؤيدهم الله بها ويظهر صدقهم في البلاغ عن الله ؛ فكفروا بآيات القرآن الحاملة للأحكام.
وقد كفر هؤلاء بكل هذه الآيات، فلم يصدقوا منها شيئا، وما داموا قد كفروا بهذه الآيات، وكفروا أيضا بلقاء الله في الآخرة ؛ فرحمة الله بعيدة عنهم، وهم يائسون منها.
لذلك كانت عاقبتهم ﴿ وأولئك لهم عذاب أليم٢٣ ﴾ [ العنكبوت ]
{ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه
أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك
لآيات لقوم يؤمنون٢٤ }
كنا ننتظر منهم جوابا منطقيا، بعد أن دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وبين لهم بطلان عبادة آلهتهم، وأنها لا تضر ولا تنفع، كان عليهم أن يجادلوه، وأن يدافعوا عن آلهتهم، وأن يظهروا حجتهم في عبادتهم.
إنما يأتي جوابهم دالا على إفلاسهم ﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه.. ٢٤ ﴾[ العنكبوت ] أهذا جواب على ما قيل لكم ؟ إنه مجرد هروب من المواجهة، وإفلاس في الحجة، إنه جواب من لم يجد جوابا، وليس لديه إلا التهديد والتلويح بالقوة وبالبطش، فهذه لغة من لا حجة عنده.
لكن، لماذا سماه القرآن جوابا ؟ قالوا : لأنهم لو لم يتكلموا بهذا الكلام لقيل عنهم أنهم لم يلتفتوا إلى كلام نبيهم ولم يأبهوا به، وأن كلامه لا وزن له، ولا يرد عليه، فإن كان كلامهم لا يعد جوابا فهو في صورة الجواب، وإن كان جوابا فاسدا.
وقولهم :﴿ اقتلوه.. ٢٤ ﴾ [ العنكبوت ] نعلم أن القتل هو هدم البنية هدما يتبعه خروج الروح لأنها لا تجد بنية سليمة تسكنها، أما الموت فتخرج الروح أولا، ثم تهدم البنية حين تتحلل في التراب، إذن : فهما سواء في أنهما هلاك.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي تضيء، فالكهرباء لا توجد في اللمبة، إنما في شيء خارج عنها، لكن يظهر أثر الكهرباء في اللمبة إ ن كانت سليمة صالحة لاستقبال التيار، فإن كسرتها فلا تجد فيها أثر للكهرباء ولا تضيء، وقد تمنع عنها الكهرباء وهي سليمة.
ثم قالوا ﴿ أو حرقوه... ٢٤ ﴾ [ العنكبوت ] وهل التحريق بعد القتل يعد ارتقاء في العقوبة ؟ لا شك أن القتل أبلغ من التحريق، فقد يحرق شخص، وتتم نجدته وإسعافه فلا يموت، فالقتل تأكيد للموت، أما التحريق فلا يعني بالضرورة الموت، فلماذا لم يقولوا فقط اقتلوه وتنتهي المسألة، أو يصعدوا العقوبة فيقولوا : حرقوه أو اقتلوه ؟
إنهم بدأوا بأقصى ما عندهم من عقوبة لشدة حنقهم عليه فقالوا ﴿ اقتلوه.. ٢٤ ﴾[ العنكبوت ] ثم تراءى لهم رأى آخر : ولماذا لا نحرقه بالنار، فربما يعود ويرجع عن دعوته حينما يجد ألم التحريق، وهذا يعد كسبا لهم، وتحسب الجولة لصاحبهم.
لكن من الذي قال ﴿ اقتلوه.. ٢٤ ﴾[ العنكبوت ] ؟ من الآمر بالقتل، ومن المأمور ؟ لقد اتفقوا جميعا على قتله، فالآمر والمأمور سواء، وهذا واضح من الآية :﴿ فما كان جواب قومه.. ٢٤ ﴾ [ العنكبوت ] فالقوم جميعا تواطئوا على هذه المسألة. أو أن الآمر هم رؤساء القوم وكبارهم الذين يأتمر الناس بأمرهم، أما التنفيذ فمهمته الأتباع.
ونحن نرى ثورة الجمهور وانفعاله حينما تقع جريمة مثلا، فالكل يغضب ويقول : اقتلوه، اسجنوه، فكلهم قائل، وكلهم مقول له.
ثم يقول سبحانه ﴿ فأنجاه الله من النار.. ٢٤ ﴾[ العنكبوت ] وهنا يعترض الفلاسفة : كيف والنار من طبيعتها الإحراق ؟ كيف يتخلف هذا القانون ؟ لكن كيف تكون معجزة إن لم تأت على هذه الصورة ؟
إن الحق سبحانه خلق الخلق وجعل فيه نواميس تفعل فعلها وتؤدي مهمتها تلقائيا، فالأرض مثلا حينما تحرثها، وتلقى فيها الحب، ثم ترويها، الناموس أن تنبت، وحتى لا يظن ظان أن الكون إنما يسير على وفق هذه النواميس، لا وفق قدرة الله نجد أنه سبحانه يخرق هذه النواميس ليثبت لنا قيوميته على خلقه وطلاقه قدرته فيه.
لذلك إن لم يكن لك رزق في حرثك هذا، فلا ينبت النبات، أو ينبت ثم تصيبه آفة أو إعصار فيهلكه قبل استوائه. إذن : فالمسألة قيومية لله تعالى وليست ( ميكانيكا ).
وقد خرق الله نواميس الكون لموسى – عليه السلام – حينما ضرب البحر، فصار كل فرق كالطود العظيم، وتحولت سيولة الماء إلى جبل صلب. وخرق نواميس الكون لإبراهيم حينما قال للنار :﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم٦٩ ﴾ [ الأنبياء ]
وخرق النواميس ليثبت الإعجاز، وليثبت أن يد الله تعالى لا تزال مسيطرة على ملكه سبحانه، لا أنه خلق النواميس وتركها تعمل في الكون دون تدخل منه سبحانه كما يقول الفلاسفة، فالحق سبحانه خلق النواميس لتفعل، ولكن قيوميته تعالى وقدرته تعطل النواميس.
﴿ فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون٢٤ ﴾ [ العنكبوت ] ونذكر في قصة السفينة أن الله تعالى قال عنها :﴿ وجعلناها آية للعالمين١٥ ﴾ [ العنكبوت ] آية وهنا قال ﴿ لآيات.. ٢٤ ﴾[ العنكبوت ] وهناك قال ﴿ للعالمين ١٥ ﴾[ العنكبوت ] وهنا قال :﴿ لقوم يؤمنون٢٤ ﴾[ العنكبوت ] فالاختلاف إذن بين السياقين في أمرين :
قال في السفينة ﴿ آية.. ١٥ ﴾[ العنكبوت ] لأن العجيب في أمر السفينة ليس في صناعتها، فمن رآها يمكن أن يصنع مثلها، إنما الآية فيها أن الله تعالى أعلمه بها قبل الحاجة إليها، ثم منع عنها الزوابع والأعاصير أن تلعب بها وتغرق ركابها.
أما في مسألة الإحراق فعجائب كثيرة وآيات شتى، فكان من الممكن ألا يمكنهم منه، وكان من الممكن بعد أن أمسكوا به وألقوه في النار أن ينزل الله مطرا يطفئ نارهم وينجو إبراهيم، أو يسخر له من القوم أهل رأفة ورحمة ينقذونه من الإلقاء في النار.
لكن لم يحدث شيء من هذا، حيث أمكنهم الله منه حتى ألقوه في النار وهي مشتعلة، وهو موثق بالحبال، ومع ذلك لم تصبه النار بسوء، وظهرت الآيات بينات واضحات أمام أعين الجميع.
الأمر الآخر : قال هناك ﴿ للعالمين١٥ ﴾ [ العنكبوت ] لأن السفينة حينما رست ونجا ركابها ظلت السفينة باقية في مكانها يراها الناس جميعا ويتأملونها، فقد كان لها أثر باق قائم مشاهدة.
أما في مسألة إبراهيم – عليه السلام – فقال ﴿ لقوم يؤمنون٢٤ ﴾[ العنكبوت ] لأن نجاة إبراهيم – عليه السلام – كانت عبرة لمن شاهدها فقط، ونحن نؤمن بها لأن الله أخبرنا بها، ونحن مؤمنون بالله، فهي آيات للمؤمنين بالله لا للعالمين.
{ وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم
في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم
ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار
وما لكم من ناصرين٢٥ }
المعنى : إن كنتم لم تؤمنوا بالآيات الكونية الدالة على قدرة الله، ولم تؤمنوا بالمعجزة التي رأيتموها حين نجاني ربي من النار، وكان عليكم أن تؤمنوا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله، فلماذا إصراركم على الكفر ؟
فلا بد أنكم كفرتم بالله وعبدتم الأصنام، لا لأنكم مقتنعون بعبادتها، ولا لأنها تستحق العبادة، إنما عبدتموها ﴿ مودة بينكم في الحياة الدنيا.. ٢٥ ﴾[ العنكبوت ] يعني : نفاقا ينافق به بعضكم بعضا ومجاملة ؛ لأنكم رأيتم رؤوس القوم فيكم يعبدونها فقلدتموهم دون اقتناع منكم بما تعبدون، أو مودة لآبائكم الأولين، وسيرا على نهجهم، كما حكى القرآن :﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون٢٣ ﴾ [ الزخرف ]
وفي آية اخرى :﴿ قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا.. ١٠٤ ﴾[ المائدة ]
لكن هذه المودة وهذه المجاملة وهذا النفاق عمرها ( الحياة الدنيا ) فحسب، وفي الآخرة ستتقطع بينكم المودات :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو.. ٦٧ ﴾ [ الزخرف ] يعني : ستنقلب هذه المودة وهذه المجاملة إلى عداوة، بل وإلى معركة حكاها القرآن :﴿ ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا.. ٢٩ ﴾ [ فصلت ]
وقال :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب١٦٦ ﴾ [ البقرة ]
ويقرر هنا أيضا هذه الحقيقة :﴿ ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين٢٥ ﴾[ العنكبوت ] ذلك لأن المقدمات التي سبقت كانت تقتضي أن تؤمنوا، فما كان منهم إلا الإصرار على الكفر.
وفي الوقت الذي تنقلب فيه مودة الكافرين عداوة تنقلب عدواة المؤمنين الذين تعاونوا على الطاعة إلى حب ومودة، فيقول المؤمن لأخيه الذي جره إلى الطاعة وحمله عليها – على كره منه وضيق – جزاك الله خيرا لقد أنقذتني.
ولا ينتهي الأمر عند هذه العقوبة التي يوقعونها بأنفسهم من التبرؤ واللعن، بل ينصرفون إلى عقوبة أشد ﴿ ومأواكم النار وما لكم من ناصرين٢٥ ﴾[ العنكبوت ] ونلحظ هنا أن الحق سبحانه لم يقل : وما لكم من دون الله ؛ لأن الكلام في الآخرة حيث لا توبة لهم ولا رجوع، فقد انتفى أن يكون لهم ولي أو نصير من الله.
كذلك لا ناصر لهم من أوليائهم الذين عبدوهم من دون الله حيث يطلبون النصرة من أحجار وأصنام، لا تنطق ولا تجيب.
وهكذا تنتهي هذه اللقطة السريعة من قصة سيدنا إبراهيم – عليه السلام – وله تاريخ طويل، وهو شيخ المرسلين وأبو الأنبياء، وإن أردت أن تحكي قصته لأخذت منك وقتا طويلا، ويكفي أن الله تعالى قال عنه :﴿ إن إبراهيم كان أمة١.. ١٢٠ ﴾ [ النحل ]
{ فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي
إنه هو العزيز الحكيم٢٦ }
أي : أن قوم إبراهيم – عليه السلام – ظلوا على كفرهم، والذي آمن به لوط – عليه السلام – وكان ابن أخيه، وكانوا في العراق، ثم سينتقلون بعد ذلك إلى الشام.
وكلمة ﴿ فآمن له.. ٢٦ ﴾ [ العنكبوت ] حين نتتبع كلمة آمن في القرآن الكريم نجد أنها تدور حول الأمن والطمأنينة والراحة والهدوء، لكنها تختلف في المدلولات حسب اختلاف موقعها الإعرابي، فهنا ﴿ فآمن له.. ٢٦ ﴾[ العنكبوت ] وهل يؤمن لوط لإبراهيم ؟ والإيمان كما نقول يؤمن بالله فما دام السياق ﴿ فآمن له.. ٢٦ ﴾[ العنكبوت ] فلا بد أن المعنى مختلف، ولا يقصد هنا الإيمان بالله.
ومعنى ( آمن ) هنا كما في قوله تعالى عن قريش :﴿ وآمنهم من خوف٤ ﴾[ قريش ] فالفعل هنا متعد، فالذي آمن الله، آمن قريشا من الخوف. وكذلك في قوله تعالى :﴿ هل آمنكم عليه.. ٦٤ ﴾ [ يوسف ]ومعنى ﴿ فآمن له.. ٢٦ ﴾[ العنكبوت ] أي : صدقه.
ومنه قوله تعالى :﴿ وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين١٧ ﴾[ يوسف ] أي : بمصدق، أما آمنت بالله ؛ اعتقدت وجوده بصفات الكمال المطلق فيه سبحانه.
ولوط لا يصدق بإبراهيم، إلا إذا كان مؤمنا بإله أرسله، فكأنه آمن بالله ثم صدقه فيما جاء به وقصة لوط عليه السلام لها موضع آخر فصلت فيه، إنما جاء ذكره هنا ؛ لأنه حصيلة الصفقة الجدلية والجهادية بين إبراهيم وقومه، فبعد أن دعاهم إلى الله ما آمن له إلا لوط ابن أخيه.
وأذكر أن الشيخ موسى – رحمة الله عليه – وكان يدرس لنا التفسير، وجاءت قصة لوط عليه السلام فقلت له : لماذا ننسب رذيلة قوم لوط إليه فنقول : لوطي١. وما جاء لوط إلا ليحارب هذه الرذيلة ويقضي عليها ؟
فقال الشيخ : فماذا نقول عنها إذن ؟ قلت : إن اللغة العربية واسعة الاشتقاق، فمثلا عند النسب إلى عبد الأشهل قالوا : أشهلي، ولعبد العزيز قالوا : عبدزي، ولبختنصر قالوا : بختى، والآن نقول في النسب إلى دار العلوم درعمي.. إلخ فلماذا لا نتبع هذه الطريقة ؟ فنأخذ القاف المفتوحة، والواو الساكنة من قوم، ونأخذ الطاء من لوط، ثم ياء النسب فنقول ( قوطى ) ونجنب نبي الله لوطا عليه السلام أن ننسب إليه ما لا يليق أن ينسب إليه.
وقد حضرت احتفالا لتكريم طه حسين، فكان مما قتله في تكريمه :( لك في العلم مبدأ طحسنى ) ؛ لأنه كثيرا ما نجد بين العلماء اسم طه، واسم حسين.
إذن : فقوله تعالى ﴿ فآمن له لوط.. ٢٦ ﴾[ العنكبوت ] جاءت جملة اعتراضية في قصة إبراهيم عليه السلام ؛ لأنه المحصلة النهائية لدعوة إبراهيم في قومه ؛ لذلك يعود السياق مرة أخرى إلى إبراهيم ﴿ وقال إني مهاجر إلى ربي.. ٢٦ ﴾[ العنكبوت ] أي : منصرف عن هذا المكان ؛ لأنه غير صالح لاستتباب الدعوة.
ومادة هجر وما يشتق منها تدل على ترك شيء إلى شيء آخر، لكن هجر تعني أن سبب الهجر منك وبرغبتك، إنما هاجر فيها مفاعلة مثل شارك وقاتل، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة، إنما هاجر منها إلى المدينة.
وهذا يعني أنه لم يهاجر برغبته، إنما آذاه قومه واضطروه للخروج من بلده، إذن : فلهم دخل في الهجرة، وهم طرف ثان فيها.
لذلك يقول المتنبي :
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا***ألا تفارقهم فالراحلون همو
ومن دقة الأداء القرآني في هذه المسألة أن يسمى نقلة رسول الله من مكة إلى المدينة هجرة من الثلاثي، ولا يقول مهاجرة ؛ لأنه ساعة يهاجر يكره المكان الذي تركه، لكن هنا قال في الفعل : هاجر. وفي الاسم قال : هجرة ولم يقل مهاجرة.
وسبق أن ذكرنا أن هجرة المؤمنين الأولى إلى الحبشة كانت هجرة لدار أمن فحسب، لا دار إيمان، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما وجههم إلى الحبشة بالذات قال :( ( لأن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد ) )٢.
وكأنه صلى الله عليه وسلم بسطت له خريطة الأرض كلها، فاختار منها هذه البقعة ؛ لأنه قد تبين له أنها دار أمن لمن آمن من صحابته، أما الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان، بدليل ما رأيناه من موقف الأنصار مع المهاجرين.
وهنا يقول إبراهيم عليه السلام :﴿ إني مهاجر إلى ربي.. ٢٦ ﴾ [ العنكبوت ] فالمكان إذن غير مقصود له، إنما وجهة ربي هي المقصودة، وإلا فلك أن تقول : كيف تهاجر إلى ربك، وربك في كل مكان هنا وهناك ؟
فالمعنى : مهاجر امتثالا لأمر ربي ومتوجه وجهة هو آمر بها ؛ لأنه من الممكن أن تنتقل من مكان إلى مكان بأمر رئيسك مثلا، وقد كانت لك رغبة في الانتقال إلى هذا المكان فترحب بالموضوع ؛ لأنه حقق رغبة في نفسك، فأنت – إذن – لا تذهب لأمر صدر لك، إنما لرغبة عندك.
لذلك جاء في الحديث :( ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدينا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) )٣.
فالمعنى ﴿ إني مهاجر إلى ربي.. ٢٦ ﴾ [ العنكبوت ] يعني : ليس الانتقال على رغبتي وحسب هواي، إنما حسب الوجهة التي يوجهني إليها ربي. وأذكر أنه كان لهذه المسألة واقع في تاريخنا، وكنا جماعة من سبعين رجلا، وقد صدر منا أمر لا يناسب رئيسنا، فأصدر قرارا بنقلنا جميعا وشتتنا من أماكننا، فذهبنا عند التنفيذ نستعطفه عله يرجع في قراره، لكنه صمم عليه، وقال : كيف أكون رئيسا ولا أستطيع إنفاذ أمري على المرؤوسين ؟
فقال له أحدنا وكان جريئا : سنذهب إلى حيث شئت، لكن اعلموا أنكم لن تذهبوا بنا إلى مكان ليس فيه الله.
وكانت هذه هي الكلمة الحق التي هزت الرجل، وأعادت إليه صوابه، فالحق له صولة، وفعلا سارت الأمور كما نريد، وتنازل الرئيس عن قراره.
فمعنى :﴿ مهاجر إلى ربي.. ٢٦ ﴾[ العنكبوت ] أن ربي هو الذي يوجهني، وهو سبحانه في كل مكان. يؤيد ذلك قوله سبحانه :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله.. ١١٥ ﴾ [ البقرة ] وكأن الحق سبحانه يقول لنا : اعلموا أنني ما وجهتكم في صلاتكم إلى الكعبة إلا لأؤكد هذا المعنى ؛ لأنك تتجه إليها من أي مكان كنت، ومن آية جهة فحيثما توجهت فهي قبلتك.
ثم يقول :﴿ إنه هو العزيز الحكيم٢٦ ﴾[ العنكبوت ] اختار الخليل إبراهيم – عليه السلام – من صفات ربه ﴿ العزيز.. ٢٦ ﴾ [ العنكبوت ] أي : الذي لا يغلب وهو يغلب. وهذه الصفة تناسب ما كان من محاولة إحراقه، وكأنه يقول للقوم : أنا ذاهب إلى حضن من لا يغلب.
و ﴿ الحكيم٢٦ ﴾ [ العنكبوت ] أي : في تصرفاته، فلا بد أنه سبحانه سينقلني إلى مكان يناسب دعوتي، وأناس يستحقون هذا الدعوة بما لديهم من آذان صاغية للحق، وقلوب وأفئدة متشوقة إليه، وتنتظر كلمة الحق التي أعرضتم أنتم عنها.
٢ عن أم سلمة أنها قالت: ((لما ضاقت علينا مكة، وأوذى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لايستطيع دفع ذلك عنهم، وكان صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه"حديث طويل، أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٢/٣٠١) وأورده ابن هشام في السيرة بنحوه (١/٣٢١)..
٣ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (١)، وكذا مسلم في صحيحه (١٩٠٧) من حديث عمر بن الخطاب، وأوله ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى))..
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته
النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه
في الآخرة لمن الصالحين٢٧ }
وجاء وقت الجزاء لينال إبراهيم – عليه السلام – من ربه جزاء صبره على الابتلاء، وثباته على الإيمان، ألم يقل لجبريل لما جاءه يعرض عليه المساعدة وهو في طريقه إلى النار : يا إبراهيم، ألك حاجة ؟ فيقول إبراهيم : أما إليك فلا١. لذلك يجازيه ربه، ويخرق له النواميس، ويواليه بالنعم والآلاء، حتى مدحه سبحانه بقوله :﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا٢ لله.. ١٢٠ ﴾ [ النحل ]
وكان عليه السلام رجلا خاملا في القوم، بدليل قولهم عنه لما حطم أصنامهم :﴿ قالوا سمنعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم٦٠ ﴾ [ الأنبياء ] فهو غير مشهور بينهم، مهمل الذكر، لا يعرفه أحد، فلما وإلى الله والاه وقال : لأجعلنك خليل الله وشيخ المرسلين ولأجرين ذكرك، بعد أن كنت مغمورا على كل لسان، وها نحن نذكره عليه السلام في التشهد في كل صلاة.
واقرأ قول إبراهيم في دعائه لربه ؛ ليؤكد هذا المعنى :﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ٨٤ ﴾ [ الشعراء ] وكأنه يقول : يا رب إن قومي يستقلونني، فاجعل لي ذكرا عندك.
ومعلوم أن للتناسل والتكاثرلا نواميس، فلما أن أنجبت السيدة هاجر إسماعيل – عليه السلام – غضبت الحرة سارة : كيف تنجب هاجر وهي الأمة وتتميز عليها٣، لكن كيف السبيل إلى الإنجاب وسنها تسعون سنة، وسن إبراهيم حينئذ مائة ؟
قانون الطبيعة ونواميس الخلق تقول لا إنجاب في هذه السن، لكن سأخرق لك القانون، وأجعلك تنجب هبة من عندي ﴿ ووهبنا له إسحاق.. ٢٧ ﴾ [ العنكبوت ] ثم ﴿ ويعقوب.. ٢٧ ﴾ [ العنكبوت ]
وفي آية أخرى قال :﴿ ويعقوب نافلة.. ٧٢ ﴾ [ الأنبياء ]
أي : زيادة، لأنه صبر على ذبح إسماعيل، فقال له ربه : ارفع يدك فقد أديت ما عليك، ونجحت في الامتحان، فسوف أفديه لك، بل وأهبك أخا له، وسأعطيك من ذريته يعقوب.
وسأجعلهم فضلا عن ذلك رسلا ﴿ وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب.. ٢٧ ﴾[ العنكبوت ] لذلك حين نستقرئ موكب الأنبياء نجد جمهرتهم من ذرية إبراهيم عليه السلام كل من جاء بعده من ذريته٤.
والذرية المذكورة هنا يراد بها إسحق ويعقوب، وهما الموهبان من سارة، أما إسماعيل فجاء بالقانون العام الطبيعي الذي يشترك فيه إبراهيم وغيره.
وكأن الحق – سبحانه وتعالى – في هذه المسألة يدلل على طلاقة القدرة بأسباب تظهر فيها قدرة المسبب، فيقول لإبراهيم : إن كان قومك قد كفروا بك ولم يؤمنوا، فسأهبك ذرية ليست مؤمنة مهدية فحسب، إنما هادية للناس جميعا.
وإذا كانت ذرية إسحق ويعقوب قد أخذت أربعة آلاف سنة من موكب النبوات، فقد جاء من ذرية إسماعيل خاتم الأنبياء وإمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم، وستظل رسالته باقية خالدة إلى يوم القيامة، فالرسل من ذرية إسحق كانوا متفرقين في الأمم، ولهم أزمنة محددة، أما رسالة محمد فعامة للزمان وللمكان، لا معقب له برسول بعده إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى :﴿ والكتاب.. ٢٧ ﴾[ العنكبوت ] أي : الكتب التي نزلت على الأنبياء من ذريته، وهي : القرآن والإنجيل والتوراة والزبور.
ثم يقول سبحانه :﴿ وآتيناه أجره في الدنيا.. ٢٧ ﴾ [ العنكبوت ]قالوا : إنه كان خامل الذكر فنبغ شأنه وعلا ذكره، وكان فقيرا، فأغناه الله حتى حدث المحدثون عنه في السير أنه كان يملك من الماشية ما يسأم الإنسان أن يعدها، وكان له من كلاب الحراسة اثنا عشر كلبا.. إلخ وهذا أجره في الدنيا فقط ٥.
﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين٢٧ ﴾[ العنكبوت ] يعني : لن نقول له أذهبت طيباتك في حياتك الدنيا، بل هو في الآخرة من الصالحين، وهذا متمنى الأنبياء. إذن : فأجره لم ينقص من أجره في الآخرة.
لكن، لماذا وصف الله نبيه إبراهيم في الآخرة بأنه من الصالحين ؟ قالوا : لأن إبراهيم أثر عنه ثلاث كلمات يسميها المتصيدون للأخطاء، ثلاث كذبات أو ذنوب : الأولى قوله لملك مصر لما سأله عن سارة قال : أختي، والثانية لما قال لقومه حينما دعوه للخروج معهم لعيدهم : إني سقيم٦. والثالثة قوله :﴿ بل فعله كبيرهم هذا.. ٦٣ ﴾[ الأنبياء ]أي : عندما حطم الأصنام.
ويقول هؤلاء المتصيدون : إنها أقوال منافية لعصمة الأنبياء. لكن ما قولكم إن كان صاحب الأمر والحكم شهد له بالصلاح في الآخرة ؟
ثم إن المتأمل في هذه الأقوال يجدها من قبيل المعاريض التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم :( ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ) )٧ فقوله عن سارة : إنها أختي، هي فعلا أخته في الإيمان، وربما لو قال زوجتي لقتله الملك ليتزوجها هو.
أما قوله ﴿ إني سقيم٨٩ ﴾[ الصافات ] فهو اعتذار عن مشهد كافر لا ينبغي للمؤمن حضوره، كما أن السقم يكون للبدن، ويكون للقلب فيتحمل أن يكون قصده سقيم القلب لما يراه من كفر القوم.
وقوله ﴿ بل فعله كبيرهم هذا.. ٦٣ ﴾[ الأنبياء ] أراد به إظهار الحجة وإقامة الدليل على بطلان عبادة الأصنام، فأراد أن ينطقهم هم بما يريد أن يقوله ؛ ليقررهم بأنها أصنام لا تضر ولا تنفع ولا تتحرك.
٢ القنوت: الطاعة والدعاء.[القاموس القويم ٢/١٣٤]. وقال ابن سيدة: القانت: القائم بجميع أمر الله تعالى. وقال ابن منظور: القنوت الخشوع والإقرار بالعبودية والقيام بالطاعة التي ليس معها معصية [لسان العرب – مادة: قنت]..
٣ ذكرت التوراة هذا: ((رأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح. فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق. فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم لسبب ابنه. فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها لأنه بإسحاق يدعى لك نسل. وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك)) [سفر التكوين ٢١: ٩-١٣]..
٤ قال القرطبي في تفسيره (٧/٥٢٢٩): ((فلم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا من صلبه، ووحده الكتاب، لأنه أراد المصدر كالنبوة، والمراد التوراة والإنجيل والفرقان، فهو عبارة عن الجمع، فالتوراة أنزلت على موسى من ولد إبراهيم، والإنجيل على عيسى من ولده، والفرقان على محمد من ولده صلى الله عليه وسلم))..
٥ قال ابن كثير في تفسيره (٣/٤١١) ما يقرب من هذا دون تفصيل، فقال: ((كان له في الدنيا الرزق الواسع الهني، والمنزل الرحب، والمورد العذب، والزوجة الحسنة الصالحة، والثناء الجميل، والذكر الحسن، وكل أحد يحبه ويتولاه)). أما القرطبي فقال في تفسيره (٧/٥٢٢٩): ((يعني: اجتماع أهل الملل عليه، قاله عكرمة)). وقال ابن عباس: ((إن الله رضي أهل الأديان بدينه، فليس من أهل دين إلا وهم يتولون إبراهيم ويرضون به)) وفي قول آخر عنه ((الولد الصالح والثناء)). ذكرهما السيوطي في الدر المنثور (٦/٤٥٩)..
٦ أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: أرسل إليه ملكهم فقال: إن غدا عيدنا فاخرج. قال: فنظر إلى نجم، فقال: إن ذا النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي فتولوا عنه مدبرين.[الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٧/١٠٠]..
٧ أخرجه ابن عدي في ((الكامل في ضعفاء الرجال)) (٣/٩٦) من حديث عمران بن حصين، وفيه دواد بن الزبرقان. قال البخاري: مقارب الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة، قال ابن عدي: هو في جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم..
{ ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة
ما سبقكم بها من أحد من العالمين٢٨ }
هنا ينتقل السياق من قصة إبراهيم لقصة ابن أخيه لوط، ونلحظ أن القرآن في الكلام عن نوح وإبراهيم ولوط بدأ الحديث بذكره أولا، وعادة القرآن حينما يتكلم عن الرسل يذكر القوم أولا، كما قال تعالى :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا.. ٦٥ ﴾[ الأعراف ]، ﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا.. ٧٣ ﴾[ الأعراف ]، ﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا.. ٨٥ ﴾[ الأعراف ]
قالوا : لأن قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط لم يكن لهم اسم معروف، فذكر أنبياءهم أولا، أما عاد وثمود ومدين فأسماء لأناس معروفين، ولهم قرى معروفة، فالأصل أن القوم هم المقصودون بالرسالة والهداية ؛ لذلك يذكرون أولا فهم الأصل في الرسالة، أما الرسول فليست الرسالة وظيفة يجعلها الله لواحد من الناس.
﴿ ولوطا إذا قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين٢٨ ﴾[ العنكبوت ] وسمي خسيسة قومه فاحشة ؛ لذلك قال العلماء في عقوبتها : يصير عليها ما يصير على الفاحشة من الجزاء ؛ لأن الحق سبحانه سمى الزنا فاحشة فقال ﴿ إنه كان فاحشة.. ٢٢ ﴾[ النساء ] والزنا شرع له الرجم، وكذلك يكون جزاء من يفعل فعلة قوم لوط الرجم.
وقوله :﴿ ما سبقكم بها من أحد من العالمين٢٨ ﴾[ العنكبوت ]لا يعني هذا أن أحدا لم يفعلها قبلهم، لكنها إن فعلت فهي فردية، ليست وباء منتشرا كما في هؤلاء.
لذلك، فالجماعة الذين كانوا ينادون بتشريع للمرأة يسمح للرجل بأن يأتيها كيفما يشاء، احتجوا بقوله تعالى :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم.. ٢٢٣ ﴾[ البقرة ]
ونقول لهؤلاء : لقد أخطأتم في فهم الآية، فالحرث هو الزرع المستنبت من الأرض، فمعنى ﴿ أنى شئتم.. ٢٢٣ ﴾[ البقرة ] أي : أنهم حرث، إذن : فاحتجاجهم باطل، وبطلانه يأتي من عدم فهمهم لمعنى الحرث، وعليه يكون المعنى ائتوهن على أي وجه من الوجود شريطة أن يكون في مكان الحرث.
ولحكمة ربط الحق سبحانه بقاء النوع بالغريزة الجنسية، وجعل لها لذة ومتعة تفوق أي لذة أخرى في الحياة، فمثلا أنت ترى المنظر الجميل فتسر به عينك، وتسمع الصوت العذب فتسعد به أذنك.. إلخ فكل منافذ الإدراك لديك لها أشياء تمتعها.
لكن بأي هذه الحواس تدرك اللذة الجنسية ؟ وأي ملكة فيك تسر منها ؟ كل الحواس وكل الملكات تستمتع بها ؛ لذلك لا يستطيع الإنسان مقاومتها، حتى قالوا : إنها اللحظة الوحيدة التي يمكن للإنسان فيها أن يغفل عن ربه ؛ لذلك أمرنا بعدها بالإغتسال.
ولولا أن الخالق – عز وجل – ربط مسألة بقاء النوع بهذه اللذة لزهد فيها كثير من الناس، لما لها من تبعات ومسئوليات ومشاكل، لابد منها في تربية الأولاد.
وسبق أن ذكرنا القائلة :( ( جدع الحلال أنف الغيرة ) ) فالرجل يغار على ابنته مثلا، ولا يقبل مجرد نظر الغرباء إليها، ويثور إذا تعرض لها أحد، فإذا جاءه الشاب يطرق بابه ليخطب ابنته رحب به، واستقبله أهل البيت بالزغاريد وعلى الرحب والسعة، فسقوا ( الشربات ) وأقاموا الزينات، فما الفرق بين الحالين ؟ في الأولى كان دمه يغلي، والآن تنزل كلمات الله في عقد القران على قلبه بردا وسلاما.
أما خسيسة قوم لوط ﴿ أئنكم لتأتون الرجال.. ٢٩ ﴾[ العنكبوت ] فهي انحراف عن الطبيعة السوية لا بقاء فيها للنوع، ومثلها إتيان المرأة في غير مكان الحرث.
وقوله تعالى :﴿ وتقطعون السبيل.. ٢٩ ﴾[ العنكبوت ] أي : تقطعون الطريق على بقاء النوع ؛ لأن الزنا وإن جاء بالولد فإنه لا يوفر له البقاء الكريم الشريف في المجتمع. فالحق سبحانه جعل لبقاء النوع طريقا واحدا، فلا تسلك غير هذا الطريق، لا مع رجل ولا مع امرأة.
والسبيل كلمة مطلقة وتعني الطريق، سواء كان الطريق المادي أي : الشارع الذي نمشي فيه أو : المعنوي وهو الطريقة التي نسير عليها، ومنها قوله تعالى :﴿ قل هذه سبيلي.. ١٠٨ ﴾[ يوسف ] أي : طريقي ومنهجي ؛ لذلك السبيل القيمي سبيل واحد، حتى لا نتصادم ولا نتخاصم في حركة الحياة المعنوية، أما السبيل المادي فمتعدد حتى لا نتزاحم في حركة الحياة المادية.
والسبيل المادي ( الطريق ) الذي نسير فيه يعد سمة الحضارة في أي أمة، ونذكر أن هتلر قبل أن يدخل الحرب سنة ١٩٣٩ جعل كل همه في إنشاء شبكة من الطريق ؛ لأن حركة الحرب غير العادية تحتاج إلى طرق إضافية أيام الحرب، ومن ذلك مثلا الطريق الذي يسمونه طريق المعاهدة، أي معاهدة سنة ١٩٣٦.
إذن : كلما وجدت حركة زائدة احتاجت إلى طريق إضافية، وهذه الطرق تتناسب والمكان الذي تنشأ فيه، فالطرق في المدن نسميها شوارع وفي الخلاء نسميها طرقا تناسب المساحة داخل المباني، ومنها تتفرع الحارات، وهي أقل منها، ومن الحارة تتفرع العطفة، وهي أقل من الحارة، وكلما ازدحمت البلاد لجأ الناس إلى توسيع نظام الحركة لتيسير مصالح الناس.
كما نرى في القاهرة مثلا من أنفاق وكبار، حتى لا تعاق الحركة، وحتى نوفر للناس انسيابية فيها.
والأنفاق أنسب للجمال في المدن، والكباري أجمل في الفضاء، حيث ترى مع ارتفاع الكبارى آفاقا أوسع ومناظر أجمل، أما إن حدث عكس ذلك فأنشئت الكباري داخل الشوارع فإنها تقلل من جمال المكان وتحول الشارع إلى أشبه ما يكون بعنابر الورش، كما أنها تؤذي سكان العمارات المجاورة لها.
وعلى الدولة أن تراعي هذه الأمور عند التخطيط، ألم نقرأ قوله تعالى :﴿ ثم السبيل يسره٢٠ ﴾ [ عبس ] لابد أن نيسر السبل للسالكين ؛ لأن معايش الناس وحركتهم تعتمد على الحركة في هذه الطرق.
فقوله تعالى :﴿ وتقطعون السبيل.. ٢٩ ﴾[ العنكبوت ] فكان من قوم لوط قطاع طرق كالذين يخرجون على الناس في أسفارهم وحركتهم، فيأخذون أموالهم وينهبون ما معهم، وإن تأبوا عليهم قتلوهم. وبعد أن قطعوا السبيل على الناس قطعوا السبيل على بقاء النوع١.
يقول سبحانه في حقهم :﴿ وتأتون في ناديكم المنكر.. ٢٩ ﴾[ العنكبوت ] فكانوا لا يتورعون عن فعل القبيح وقوله فيجلسون في الطرقات يستهزئون بالمارة ويؤذونهم كالذين يجلسون الآن على المقاهي ويتسكعون في الطرق ويؤذون خلق الله، ويتجاهرون بالقبيح من القول والفعل ؛ فلا يسلم من إيذائهم أحد.
لذلك يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم آداب الطريق، فيقول لمن سأله :
وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال :( ( غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام ) )٢.
وقد انتشر بين قوم لوط سوء الأخلاق، بحيث لا ينهي بعضهم بعضا، كما قال سبحانه عن اليهود أنهم :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.. ٧٩ ﴾ [ المائدة ]
والنادي : مكان تجمع القوم، ومنه قوله تعالى :﴿ فليدع ناديه ١٧ ﴾[ العلق ] أي : مكان تجمع رؤوس القوم وكبارهم، كما نرى الآن : نادى كذا، ونادى كذا. والنادي وهو مكان عام يعد المرحلة الأخيرة لانضباط السلوك الذي يجب أن يكون في المجتمع، فأنت مثلا لك حجرة في بيتك خاصة بك، ولك فيها انضباط خاص بنفسك، وكذلك في صالة البيت لك انضباط أوسع، وفي الشارع لك انضباط أوسع.
والانضباط يتناسب مع الواقع الذي تعيشه، فحين تكون مثلا بين أناس لا يعرفونك لا يكون انضباطك بنفس الدرجة التي تحرص عليها بين من تعرفهم كالموظف في مكتبه، والطالب في مدرسته.
إذن : فهؤلاء القوم قطعوا السبيل في بقاء النوع، حيث أتوا غير مأتى وانحرفوا عن الفطرة السوية، وقطعوا السبيل المادي، فأخافوا الناس وروعوهم ونهبوا أموالهم، وأخذوهم من الطريق بغرض هذه الفعلة النكراء، ثم كانوا يتبجحون بأفعالهم هذه، ويجاهرون بها في أنديتهم وأماكن تجمعاتهم.
فبماذا أجابه القوم ؟
﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين٢٩ ﴾ [ العنكبوت ] أي : من الصادقين في أنك مبلغ عن الله، فنحن من العاصين، وأرنا العذاب الذي تتوعدنا به، وقولهم ﴿ ائتنا بعذاب الله.. ٢٩ ﴾[ العنكبوت ] مع أن العذاب شيء مؤلم، ولا يطلب أحد إيلام نفسه، فهذا دليل على عدم فهمهم لهذا الكلام، وأنهم غير متأكدين من صدقه، وإلا لو وثقوا بصدقه ما طلبوا العذاب.
وفي موضع آخر، حكى القرآن عنهم :﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون٥٦ ﴾ [ النمل ]
إذن : حدث منهم موقفان وجوابان : الأول ﴿ ائتنا بعذاب الله.. ٢٩ ﴾[ العنكبوت ] فلما لم يجبهم إلى هذا الطلب الأحمق، وظل يتابع دعوته لهم، فلم ييأس منهم لجأوا إلى حيلة أخرى، فقالوا ﴿ أخرجوا آل لوط من قريتكم.. ٥٦ ﴾[ النمل ] والعلة ﴿ إنهم أناس يتطهرون٥٦ ﴾[ النمل ] لأن الطهر في نظر هؤلاء عيب، والاستقامة جريمة، وهذا دليل على فساد عقولهم، وفساد قياسهم في الحكم.
كانوا قطاع الطريق، قاله ابن زيد.
كانوا يأخذون الناس من الطرق لقضاء الفاحشة، حكاه ابن شجرة.
إنه قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال. قاله وهب بن منبه. أي: استغنوا بالرجال عن النساء.
قال القرطبي في تفسيره (٧/٥٢٣٠) بعد ذكر هذه الأقوال:((ولعل الجميع كان فيهم، فكانوا يقطعون الطريق لأخذ الأموال والفاحشة، ويستغنون عن النساء بذلك)).
.
٢ حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٢٤٦٥)، (٦٢٢٩)، وكذا مسلم في صحيحه (٢١٢١) كتاب السلام، وأحمد في مسنده (٣/٣٦، ٤٧) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه..
﴿ قال رب انصرني على القوم المفسدين٣٠ ﴾
وفرق بين الفاسد في ذاته والمفسد لغيره، فيا ليتهم كانوا فاسدين في أنفسهم، إنما كانوا فاسدين مفسدين، يتعدى فسادهم إلى غيرهم.
وقد جاءت الملائكة لإبراهيم بالبشرى، ولم يذكر مضمون البشرى هنا، وهو البشارة بإسحق ويعقوب وذرية صالحة منهما، وجاءته بإنذار بأن الله سيهلك أهل هذه القرية، وبالبشرى والإنذار يحدث التوازن ؛ لأننا نبشر إبراهيم بذرية صالحة مصلحة في الكون، ونهلك أهل القرية الذين انحرفوا عن منهج الله.
وتلحظ في الآية أنها لم تذكر العلة في البشرى فلم تقل لأنه كان مؤمنا ومجاهدا وعادلا، إنما ذكرت العلة في إهلاك أهل القرية ﴿ إن أهلها كانوا ظالمين٣١ ﴾[ العنكبوت ] لماذا ؟ لأن المتفضل لا يمن بفضله على أنه عمل بمقابل، لكن المعذب يبين سبب العذاب.
فماذا كان الانفعال الأولى عند إبراهيم – عليه السلام – ساعة سمع البشرى والإنذار ؟ لم يسأل عن البشرى، مع أنه كان متلهفا عليها، إنما شغلته مسألة إهلاك القرية، وفيها ابن أخيه لوط. لذلك قال :
{ قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن
فيها لننجينه وأهله إلا امرأته١
كانت من الغابرين٣٢ }
ثم يطمئنونه على ابن أخيه ﴿ لننجينه وأهله.. ٣٢ ﴾ [ العنكبوت ] وأهله : تشمل كل الأهل ؛ لذلك استثنوا منهم ﴿ إلا امرأته كانت من الغابرين٣٢ ﴾ [ العنكبوت ]
والغابرون : جمع غابر، ولها استعمالان في اللغة : نقول : الزمان الغابر أي الماضي، وغابر بمعنى باق أيضا، فهي إذن تحمل المعنى وضده ؛ ذلك لأنهم جاءوا لإهلاك هذه القرية، وامرأة لوط باقية لتهلك معهم، وتذهب من سيذهبون بالإهلاك، فهي إذن باقية في العذاب. فجاءت الكلمة ﴿ من الغابرين٣٢ ﴾ [ العنكبوت ] لتؤدى هذين المعنيين.
{ ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء
بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف
ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك
كانت من الغابرين٣٣ }
شهد إبراهيم هذا الموقف مع لوط، وعلم سبب حضورهم إليه، لكن لماذا سيء بهم، مع أنهم رسل الله ملائكة جاءوه على أحسن صورة ؟ قالوا : لأن الملك يأتي على أجمل صورة، حتى إذا أردنا أن نمدح شخصا بالجمال نقول : مثل الملاك، ومن ذلك قول النسوة لامرأة العزيز عن يوسف عليه السلام :﴿ ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم٣١ ﴾ [ يوسف ]
فلما رآهم لوط على هذه الصورة خاف عليهم، بدل أن يفرح بمرآهم الجميل ؛ لأن قومه قوم سوء أهل رذيلة، ولا بد أن ينالوا ضيوفه بسوء ؛ لذلك ﴿ سيء بهم.. ٣٣ ﴾ [ العنكبوت ] أي : أصابه السوء بسببهم ﴿ وضاق بهم ذرعا.. ٣٣ ﴾ [ العنكبوت ] الذرع هو طول الذراعين، فنقول : فلان باعه طويل. يعني : يتناول الأشياء بسهولة ؛ لأن يده طويلة، فالمعنى : ضاق بهم ذرعا. يعني : لم يتسع جهده لحمايتهم من القوم.
ونلحظ هنا اختلاف السياق بين الآيتين :﴿ ولما جاءت رسلنا إبراهيم.. ٣١ ﴾ [ العنكبوت ] أما في لوط فقال :﴿ ولما أن جاءت رسلنا لوطا.. ٣٣ ﴾ [ العنكبوت ] لأنهم تأخروا بعض الشيء عند إبراهيم عليه السلام.
فلما أن أصابه السوء بمرآهم، بدل أن يسعد بهم، وخاف عليهم طمأنوه ﴿ وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين٣٣ ﴾ [ العنكبوت ] لا تخف علينا من هؤلاء الأراذل، فلسنا بشرا، إنما نحن ملائكة ما جئنا إلا لنريحك منهم، ونقطع جذور هذه الفعلة الخبيثة، وسوف ننجيك وأهلك من العذاب النازل بهم.
ثم يستثنون من أهله ﴿ إلا امرأتك.. ٣٣ ﴾ [ العنكبوت ] فكثيرا ما ضايقته، وأفشت أسراره، ودلت القوم على ضيوفه ﴿ كانت من الغابرين٣٣ ﴾[ العنكبوت ] الباقين في العذاب.
{ إنا منزلون على أهل هذه القرية١رجزا
من السماء بما كانوا يفسقون٣٤ }
الرجز : العذاب ينزل عليهم من السماء، والحجارة التي يمطرهم الله بها ﴿ بما كانوا يفسقون٣٤ ﴾ أي : بسبب فسقهم وخروجهم عن منهج الله.
لذلك قال الله عنها ﴿ آية بينة.. ٣٥ ﴾[ العنكبوت ] الآية : الشيء العجيب الذي يدعو للتأمل ﴿ بينة.. ٣٥ ﴾ [ العنكبوت ] واضحة كدليل باق، وظاهر لا يخفى على أحد ﴿ لقوم يعقلون٣٥ ﴾ [ العنكبوت ] يعني : يبحثون ويتأملون بسبب ما حاق بهذه القرى، وما نزل بها من عذاب الله.
{ وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال
يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم
الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين٣٦ }
مدين : اسم من أسماء أولاد إبراهيم عليه السلام، وسميت باسمه القبيلة ؛ لأنهم كانوا عادة ما يسمون القوم باسم أبرز أشخاصها، فانتقل الاسم من الشخص إلى القبيلة، ثم إلى المكان، بدليل قوله تعالى في موضع آخر :{ ولما ورد ماء
مدين.. ٢٣ }[ القصص ] فصارت مدين علما على البقعة، وقالوا : إنها من الطور إلى الفرات١.
هذه برقية موجزة لقصة مدين وأخيهم شعيب، وقد ذكرت أيضا في قصة موسى عليه السلام. وقال ﴿ أخاهم.. ٣٦ ﴾[ العنكبوت ] ليدلّك أن الله تعالى حين يصطفي للرسالة يصطفي من له ود بالقوم، ولهم معرفة به وبأخلاقه وسيرته، ولهم به تجربة سابقة، فهو عندهم مصلح غير مفسد، حتى إذا ما بلغهم عن الله صدقوه، وكانت له مقدمات تيسر له سبيل الهداية.
وقوله :﴿ فقال يا قوم اعبدوا الله.. ٣٦ ﴾[ العنكبوت ] كلمة ﴿ يا قوم ﴾[ العنكبوت ] : القوم لا تقال إلا للرجال ؛ لأنهم هم الذين يقومون لمهمات الأمور، ويتحملون المشاق ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهم.. ١١ ﴾ [ الحجرات ] فأطلق القوم، وهم الرجال في مقابل النساء.
والعبادة : قلنا : طاعة الأمر والنهي ﴿ اعبدوا الله.. ٣٦ ﴾ [ العنكبوت ] أطيعوه فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه ما دمتم قد آمنتم به إلها خالقا، فلا بد أن تسمعوا كلامه فيما ينصحكم به من توجيه بافعل ولا تفعل.
وتعلم أنه سبحانه بصفات الكمال أوجدك وأوجد لك الأشياء، فأنت بعبادتك له لا تضيف إليه صفة جديدة، فهو إله قبل أن توجد أنت، وخالق بكمال القدرة قبل أن توجد، وخلق لك الكون قبل أن توجد.
ثم بعد ذلك تعصاه وتكفر به، فلا يحرمك خيره، ولا يمنع عنك نعمه. إذن : فهو سبحانه يستحق منك العبادة والطاعة ؛ لأن طاعته تعود عليك أنت بالخير.
لذلك سبق أن قلنا إن كلمة ( العبودية ) كلمة مذمومة تشمئز منها النفس، إن كانت عبودية للبشر ؛ لأن عبودية البشر للبشر يأخذ فيها السيد خير عبده، لكن عبودية البشر لله تعالى يأخذ العبد خير سيده، فالعبودية لله عز وقوة ومنعه وللبشر ذل وهوان ؛ لذلك نرى كل المصلحين يحاربون العبودية للبشر، ويدعون العبيد إلى التحرر.
فأول شيء أمر به شعيب قومه ﴿ اعبدوا الله.. ٣٦ ﴾ [ العنكبوت ] كذلك قال إبراهيم لقومه ﴿ اعبدوا الله واتقوه.. ١٦ ﴾[ العنكبوت ]، لكن لوطا عليه السلام لم يأمر قومه بعبادة الله، إنما اهتم بمسألة الفاحشة التي استشرت فيهم، مع أن كل الرسل جاءوا للأمر بعبادة الله.
ونقول في هذه المسألة : لم يأمر لوط قومه بعبادة الله ؛ لأنه كان من شيعة إبراهيم عليه السلام ومؤمنا بديانته، بدليل قوله تعالى :﴿ فآمن له لوط.. ٢٦ ﴾[ العنكبوت ] فهو تابع له ؛ لذلك ينفذ التعاليم التي جاء بها إبراهيم، فلم يأمر بالعبادة لأن إبراهيم أمر القوم بها، لكنه تحمل مسألة أخرى، وخصه الله بمهمة جديدة، هي إخراج قومه من ممارسة الفاحشة التي انتشرت بينهم.
وقوله تعالى :﴿ وارجوا اليوم الآخر.. ٣٦ ﴾[ العنكبوت ] فلا بد أن اليوم الآخر لم يكن في بالهم، ولم يحسبوا له حسابا، كأنهم سيفلتون من الله، ولن يرجعوا إليه ؛ لذلك يذكرهم بهذا اليوم، ويحثهم على العمل من أجله.
وكيف لا نعمل حسابا لليوم الآخر ؟ ونحن في الدنيا نعامل أنفسنا بنفس منطق اليوم الآخر ؟ فأنت مثلا تتعب وتشقى في زراعة الأرض، وتتحمل مشاق الحرث والبذر والسقي.. إلخ طوال العام، لكن حين تجمع زرعك يوم الحصاد، ويوم تملأ به مخازنك تنسى أيام التعب والمشقة، وساعتها يندم الكسول الذي قعد عن العمل والسعي، يوم الحصاد سترى أن أردب القمح الذي أخذته من المخزن وظننت أنه نقص من حسابك قد عاد إليك عشرة أردب، فأخذك لم يقلل إنما زاد.
وكذلك اليوم الآخر نفهمه بهذا المنطق، فنتحمل مشاق العبادة والطاعات في الدنيا لننال النعيم الباقي في الآخرة ؛ لأن نعيم الدنيا مهما كان، ينغصه عليك أمران : إما أن تفوته أنت بالموت، أو يفوتك هو بالفقر.
أما في الآخرة فلا يفوتك نعيمها ولا تفوته. إذن : فالأولى بك أن تزرع للآخرة، وأن تعمل لها ألف حساب، فإن كان في العبادة مشقة، وللإيمان تبعات، فانظروا إلى عظم الجزاء، وإذا استحضرت الثواب على الطاعة هانت عليك مشقة الطاعة، وإذا استفظعت العقاب على المعصية، زهدت فيها ونأيت عنها.
إذن : الذي يجعل الإنسان يتمادى في المعصية أنه لا يستحضر العقاب عليها، ويزهد في الطاعة ؛ لأنه لا يستحضر ثوابها.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( ( لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) )٢ والمعنى : لو استحضر الإيمان ما فعل، إنما غفل عن إيمانه فوقع في المعصية.
ومن استحضر ثواب الطاعة وجد لها حلاوة في نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة :( ( أرحنا بها يا بلال ) )٣.
وقوله :﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين٣٦ ﴾[ العنكبوت ] العثو : الفساد المستور والفساد يقال للظاهر، فالمعنى : لا تعثوا في الأرض عثوا، فالمفعول المطلق بمعنى الفعل، فقوله تعالى ﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين٣٦ ﴾[ العنكبوت ] كما نقول : اجلس قعودا.
والفاء في قوله ﴿ فقال يا قوم اعبدوا الله.. ٣٦ ﴾ [ العنكبوت ] تدل على أنها تعطف هذا الكلام على كلام سابق، والتقدير : وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا فقال : يا قوم إني رسول الله إليكم، ثم ذكر المطلوب منهم ﴿ فقال يا قوم اعبدوا الله.. ٣٦ ﴾[ العنكبوت ] والجمع بين عبادة الله ورجاء اليوم الآخر يعني : لا تفصلو العبادة عن غايتها والثواب عليها، ولا تفصلوا المعصية عن عقابها.
وقوله :﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين٣٦ ﴾[ العنكبوت ]فلا أقول لكم : أصلحو فلا أقل من أن تتركوا الصالح على صلاحه لا تفسدوه ؛ لأن الخالق – عز وجل – أعد لنا الكون على هيئة الصلاح، وعلينا أن نبقيه على صلاحه.
فالنيل مثلا هبة من هبات الخالق، وشريان للحياة يجري بالماء الزلال، وتذكرون يوم كان الفيضان يأتي بالطمى فترى الماء مثل الطحينة تماما، وكذا نملأ منه ( الزير )، وبعد قليل يترسب الطمى آخذا معه الشوائب، ويبقى الماء صافيا زلالا. أما الآن فقد أصابه التلوث وفسد ماؤه بما يلقى فيه من مخلفات، وأصبحنا نحن أول من يعاني آثار هذا التلوث.
لذلك أصبح ساكن المدن مهما توفرت له سبل الحضارة لا يرتاح إلا إذا خرج من المدينة إلى أحضان الطبيعة البكر التي ظلت على طبيعتها كما خلقها الله، لا ضوضاء، ولا ملوثات، ولا كهرباء، ولا مدينة.
٢ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٢٤٧٥)، وكذا مسلم في صحيحه (٥٧) كتاب الإيمان، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٣ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٥/٣٦٤)، وأبو داود في سننه (٤٩٨٥) عن رجل من الصحابة..
{ فكذبوه فأخذتهم الرجفة١
فأصبحوا في دارهم جاثمين٣٧ }
فلماذا يكذب الناس دعوة الخير ؟
قالوا : لا يكذب دعوة الخير إلا المستفيدون من الشر ؛ لأن الخير سيقطع عليهم الطريق، ويسحب منهم مكانتهم وسلطتهم وسيادتهم، فكل الذين عارضوا رسل الله كانوا أكابر القوم ورؤساءهم، وقد ألفوا السيادة والعظمة، واعتادوا أن يكون الناس عبيدا لهم، فكيف إذن يفسحون الطريق للرسل ليأخذوا منهم هذه المكانة ؟
وإلا، فلماذا كان عبد الله بن أبي يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لأنه يوم وصل رسول الله إلى المدينة كانوا يعدون التاج لعبد الله بن أبي، لينصبوه ملكا على المدينة، فلما جاءها رسول الله شغلوا بهذا الحدث الكبير، وانصرفوا عن هذه المسألة.
لكن، ماذا قال شعيب لقومه حتى يكذبوه ؟ لقد قال لهم أمرين هما :﴿ اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر.. ٣٦ ﴾ [ العنكبوت ] ونهى واحد في ﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ٣٦ ﴾ [ العنكبوت ] ومعلوم أن الأمر والنهي قول لا يحتمل الصدق، ولا يتحمل الكذب ؛ لأنه إنشاء وليس خبرا، لأنه ما معنى الكذب ؟ الكذب أن تقول لشيء وقع أنه لم يقع، أو لشيء لم يقع أنه وقع، وهذا يسمونه خبرا.
فإن وافق كلامك الواقع فهو صدق، وإن خالف الواقع فهو كذب، إذن : كيف نحكم على ما لم تقع له نسبة أنه صدق أو كذب ؟ حينما تقول مثلا : قف. هل نقول لك إنك كاذب ؟ لا، لأن واقع الإنشاء لا يأتي إلا بعد أن تتكلم، لذلك قسموا الكلام العربي إلى خبر وإنشاء.
ولكي نبسط هذه المسألة على المتعلم نقول : المتكلم حين يتكلم يأتي بنسبة اسمها نسبة كلامية، قبل أن يتكلم بها جالت في ذهنه، فقبل أن أقول، زيد مجتهد دارت في ذهني هذه المسألة، وكان في الواقع يوجد شخص اسمه زيد وهو مجتهد فعلا.
إذن : عندنا نسبة ذهنية، ونسبة كلامية، ونسبة واقعية، فإن وجدت النسبة الواقعية قبل الذهنية والكلامية، فالكلام هنا خبر يوصف بالصدق أو يوصف بالكذب.
إذن : النسبة الواقعية لا تأتي نتيجة النسبة الكلامية، إنما حين تقول : قف فتأتي النسبة الواقعية نتيجة النسبة الكلامية، وما دامت النسبة الواقعية تأخرت عن الكلامية، فلا يوصف القول إذن لا بصدق ولا بكذب.
ونعود إلى قول نبي الله شعيب نجده عبارة عن أمرين :﴿ اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر.. ٣٦ ﴾[ العنكبوت ] ونهى واحد :﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين٣٦ ﴾[ العنكبوت ] والأمر والنهي من الإنشاء الذي لا يوصف بالصدق ولا بالكذب، فكيف إذن يكذبونه ؟
فأول إشكال :﴿ فكذبوه.. ٣٧ ﴾[ العنكبوت ] ومنشأ هذا الإشكال عدم وجود الملكة العربية التي يفهمون بها كلام الله. فالحق سبحانه قال هنا ﴿ فكذبوه.. ٣٧ ﴾[ العنكبوت ] لأنه أمرهم بعبادة الله وهو رسول من عند الله فيأمرهم بعبادته ؛ لأن عبادته تعالى واجبة عليهم، وما أمرهم إلا ليؤدوا الواجب عليهم، واليوم الآخر كائن لا محالة فارجوه، والإفساد في الأرض محرم.
إذن : فالمعنى يحمل معنى الخبر، فالأمران هنا، والنهي أمر واجب فكذبوه لعلة الأمرين، ولعلة النهي.
ومعنى ﴿ اعبدوا الله.. ٣٦ ﴾[ العنكبوت ] خصوه سبحانه بالعبادة، وهي الطاعة في الأمر والانتهاء عن المنهى عنه، وهذه العبادة مطلوبة من الكل، وهي شريعة كل الأنبياء والرسل :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.. ١٣ ﴾ [ الشورى ]
إذن : فمسألة العبادة والإيمان باليوم الآخر من القضايا العامة التي لا تختلف فيها الرسالات، أما الشرائع : افعل كذا، ولا تفعل كذا فختلف من نبي لآخر.
ومعنى ﴿ وارجوا اليوم الآخر.. ٣٦ ﴾[ العنكبوت ] أي : اعملوا ما يناسب رجاءكم لليوم الآخر، وأنت لماذا تحب اليوم الآخر، ولماذا ترجوه ؟ لا يحبه ولا يرجوه إلا من عمل عملا صالحا فينتظره لينال جزاء عمله وثواب سعيه، وإلا لو كانت الأخرى لقال : وخافوا اليوم الآخر.
إذن : الرجاء معناه : اعملوا ما يؤهلكم لأن ترجوا اليوم الآخر، والإنسان لا يرجو إلا النافع له. وهنا لك أن تسأل : هل إذا آمن الإنسان ونفذ أحكام ربه أمرا ونهيا، فجزاؤهم في الآخرة رجاء يرجوه أم حق له ؟ المفروض أن يقول للطائعين : ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، فهي واجبة له ومن حقه، فكيف يسميه القرآن رجاء وهو واقع ؟
قالوا : لأن جزاءنا في الجنة فضل من الله، لأنه سبحانه خلقنا وخلق لنا، وأمدنا بالطاقات والنعم قبل أن يكلفنا شيئا، فحين تعبد الله حق العبادة فإنك لا تقضي ثمن جميله عليك، ولا توفيه سبحانه ما يستحق، فإذا أثابك في الآخرة فبمحض فضله وكرمه.
لذلك قال سبحانه :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبدلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون٥٨ ﴾ [ يونس ]
كما لو أنك استخدمت أجيرا بمائة جنيه مثلا في الشهر، وقبل أن يعمل لك شيئا أعطيته أجره فهل يطلب منك أجرا آخر ؟ فلو جئت في آخر الشهر وأعطيته عشرة جنيهات، فهي فضل منك وتكرم.
لذلك قال ﴿ وارجوا اليوم الآخر.. ٣٦ ﴾[ العنكبوت ] لأن الجزاء في الآخرة عند التحقيق والتعقل محض فضل من الله ؛ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( ( لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) )٢.
والنهي في :﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين٣٦ ﴾[ العنكبوت ] أي : لا تفسيدوا فسادا ظاهرا، أو : لا تعملوا أعمالا هي في ظنكم نافعة وهي ضارة، تذكرون زمان كان القطن هو المحصول الرئيسي في مصر ومصدر الدخل، وكانت تهدده دودة القطن فنقاومه مقاومة يدوية، إلى أن خرج علينا الأمريكان بالمبيدات، واستخدمنا مادة اسمها ( دي دي تي ) فقضت على الدودة في باديء الأمر، وظن الفلاح أن هذه المشكلة قد حلت.
لكن بعد سنوات تعودت الدودة على هذه المادة، وأصبح عندها حصانة، وكأن ( الدى دى تى ) أصبح ( كيفا ) عندها، وبدأنا نحن نعاني الأمرين من آثار هذه المبيدات في الماء، وفي التربة، وفي التربة، وفي الزراعة، وفي صحة الإنسان والحيوان. إذن : ينبغي النظر في العواقب قبل البدء في الشيء، وإن يقاس الضرر والنفع.
كذلك الحال عندما اخترعوا السيارات، وقالوا : إنها ستريح الناس في أسفارهم وفي حمل أمتعتهم، وبعد ما توصل العالم إليه من ثورة في وسائل النقل لو قارنا نفعها بضررها لوجدنا أن ضررها أكبر لما تسببه من تلوث، ولو عدنا إلى الوسائل البدئية، واستخدمنا الدواب لكان أفضل.
وأذكر عندما جئنا إلى مصر سنة ١٩٣٦ – ١٩٣٨ وجدنا في الميادين العامة مواقف للحمير، مثل مواقف السيارات الآن، وكانت هي الوسيلة الوحيدة للانتقال، ويكفي أن روث الحمار يخصب الأرض، أما عوادم السيارات فتسبب أخطر الأمراض وتؤدي للموت.
فماذا بعد أن كذب قوم شعيب نبيهم ؟
كانت سنة الله في الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الرسول رسالة ربه، لكن لا يؤمر بحمل السيف ضد الكفار، إنما إن كذبوا بالآيات عاقبهم رب العزة سبحانه، وتحسم المسألة بهلاك المكذبين.
وكون الحق – تبارك وتعالى – لا يأمر الناس بقتال الكفار هذا أمر منطقي، والدليل رأيناه في بني إسرائيل لما طلبوا من الله أن يفرض عليهم القتال، فقال :﴿ هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم.. ٢٤٦ ﴾[ البقرة ]
ولم يؤمر بالقتال لنشر الدعوة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه مأمونون على هذا، ولأنه صلى الله عليه وسلم آخر الرسل والأنبياء، فلا بد أن يستوفي كل الشروط.
ونتيجة التكذيب ﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين٣٧ ﴾[ العنكبوت ] وهذا عقاب الله ؛ لأنه كان سبحانه يتولى المكذب. وفي ( الحجر ) وفي ( هود ) قال ( الصيحة )٣وحتى لا تتهم الآيات بالتضارب نقول : الصيحة : صوت شديد مزعج، وهذا الصوت لا نسمعه إلا بتذبذب الهواء بشدة، ولو كان تذبذب الهواء بلطف ما سميت صيحة.
إذن : الصيحة تخلخل في الهواء بشدة ؛ لا بد أن ينتج عنه رجفة أي : هزة شديدة كالتالي تهدم البيوت والعمارات نتيجة قنبلة مثلا، فالصيحة وجدت أولا، تبعتها الرجفة، لكن القرآن مرة يذكر الأصل فيقول ( الصيحة ) ومرة يذكر النتيجة فيقول ( الرجفة ).
﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين٣٧ ﴾[ العنكبوت ] قال ( فأصبحوا ) ولم يقل مثلا : فصاروا ليحدد وقت أخذهم بالصباح، والعادة أن تكون الإغارة وقت الصباح قبل أن يستعد خصمك لملاقاتك، فما يزال في أعقاب النوم خاملا، وإلى الآن يفضل رجال الحرب والقادة أن تبدأ الحرب في الصباح، حيث يفاجأ بها العدو.
وقد أصبح هذا الوقت قضية عامة، تعد مخالفتها من قبيل المكر والخدعة في الحرب، كما خالفها قادتنا في حرب أكتوبر ٧٣، حيث فاجأوا عدوهم في وقت الظهيرة، وقد تمت لهم المفجأة، وأخذوا عدوهم على غرة ؛ لأنهم غيروا الوقت المعتاد، وهو الصبح.
إذن : على الإنسان ألا يتخذ في أموره قضية رتيبة، بل يخضع أموره لما يناسبها.
ومن الطرائف : حرص الرجل على أن يوقظ ولده مبكرا ليذهب إلى عمله، ويقضي مصالحه، فقال له الوالد : ابن فلان استيقظ مبكرا، فوجد محفظة بها مائة جنيه، فقال الولد – وكان كسولا لا يريد أن يستيقظ مبكرا : هذه المحفظة وقعت من واحد استقيظ قبله.
ومعنى ﴿ جاثمين٣٧ ﴾[ العنكبوت ] يعني : هامدين بلا حراك.
٢ حديث متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه (٦٤٦٣)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٨١٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٣ وردت كلمة (الصيحة) كعذاب في حق:
قوم ثمود. (سورة هود – آية: ٦٧). (سورة القمر – آية: ٣١).
قوم لوط. (سورة الحجر – آية٧٣).
قوم شعيب. (سورة هود – آية٩٤)..
{ وعادا وثمودا وقد تبين لكم
من مساكنهم وزين
لهم الشيطان أعمالهم فصدهم
عن السبيل وكانوا مستبصرين٣٨ }
نلحظ في هذه البرقيات السريعة أنها تذكر المقدمة، ثم النهاية مباشرة ﴿ وعادا وثمودا١.. ٣٨ ﴾[ العنكبوت ] هذه المقدمة ﴿ وقد تبين لكم من مساكنهم... ٣٨ ﴾( العنكبوت )هذا موجز لما نزل بهم، وكأن الحق سبحانه يقول لنا : لن أحكي لكم ما حاق بهم ؛ لأنكم تشاهدون ديارهم، وتمرون عليها ليل نهار ﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ١٣٧ وبالليل أفلا تعقلون ١٣٨ ﴾ [ الصافات ]
والآن مع الثورة العلمية استطاعوا تصوير ما في باطن الأرض، وظهرت كثير من الآثار لهذه القرى عاد وثمود والأحقاف٢، واقرأ قوله سبحانه وتعالى :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ٦ إرم ذات العماد٧ ﴾ [ الفجر ]
وطبيعي الآن أن نجد آثار السابقين تحت التراب، ولا بد أن نحفر لنصل إليها ؛ لأن عوامل التعرية طمرتها بمرور الزمن، ولم لا والواحد منا لو غاب عن بيته شهرا يعود فيجد التراب يغطي أسطح الأشياء، مع أنه أغلق الأبواب والنوافذ، ولك أن تحسب نسبة التراب هذه على مدى آلاف السنين في أماكن مكشوفة.
وحكوا أن الزوابع والعواصف الرميلة في رمال الأحقاف مثلا كانت تغطي قافلة بأكملها، إذن : كيف ننتظر أن تكون آثار هذه القرى باقية على سطح الأرض ؟ والآن نشاهد في الطرق الصحراوية مثلا إذا هبت عاصفة واحدة فإنها تغطي الطرق بحيث تعوق حركة المرور إلى أن تزاح عنها هذه الطبقة من الرمال.
إذن : علينا أن نقول : نعم يا رب رأينا مساكنهم ومررنا بها – ولو من خلال الصور الحديثة التي التقطت لهذه القرى ﴿ وزين لهم الشيطان أعمالهم.. ٣٨ ﴾[ العنكبوت ] يعني : أغواهم بالكفر، وأقنعهم أنه الأسلوب السليم والأمثل في حركة الحياة ﴿ فصدهم عن السبيل.. ٣٨ ﴾[ العنكبوت ] فما دام قد زين لهم سبيل الشيطان فلا بد أن يصدهم عن سبيل الإيمان ﴿ وكانوا مستبصرين٣٨ ﴾ [ العنكبوت ] يعني : لم نأخذهم على غرة.
لأن المبدأ الذي اختاره الله تعالى لخلقه ﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا١٥ ﴾ [ الإسراء ] رسولا يبين لهم وينذرهم، ويحذرهم عاقبة الكفر ؛ لذلك لم يأخذهم الله تعالى إلا بعد أن أرسل إليهم رسولا فكذبوه.
٢ عاد قوم هود عليه السلام كانوا يسكنون الأحقاف وهي قريبة من حضرموت بلاد اليمن، وثمود قوم صالح كانوا يسكنون الحجر قريبا من وادي القرى، وكانت العرب تعرف مساكنها جيدا وتمر عليها كثيرا.(تفسير ابن كثير ٣/٤١٣)..
{ وقارون وفرعون وهامان ولقد
جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا
في الأرض وما كانوا سابقين٣٩ }
ما زالت الآيات تحدثنا عن مواكب الرسالات، لكنها تتكلم عن المكذبين عادا وثمود، وهنا ﴿ وقارون وفرعون وهامان.. ٣٩ ﴾[ العنكبوت ] والدليل على قوله سبحانه في الآية السابقة ﴿ وكانوا مستبصرين٣٨ ﴾[ العنكبوت ] قوله تعالى هنا ﴿ ولقد جاءهم موسى بالبينات.. ٣٩ ﴾[ العنكبوت ] أي : بالأمور الواضحة التي لا تدع مجالا للشك في صدق الحق سبحانه، وفي صدق الرسول في البلاغ عن الله.
﴿ فاستكبروا في الأرض.. ٣٩ ﴾ [ العنكبوت ] استكبر : يعني افتعل الكبر، فلم يقل تكبر، إنما استكبر كأنه في ذاته ما كان ينبغي له أن يستكبر ؛ لأن الذي يتكبر يتكبر بشيء فيه، إنما بشيء موهوب ؟ لأنه قد يسلب منه، فكيف يتكبر به ؟
لذلك نقول للمتكبر أنه غفلت عينه عن مرأى ربه في آثار خلقه، فلو كان ربه في باله لاستحى أن يتكبر.
فالإنسان لو أنه يلحظ كبرياء ربه لصغر في نفسه، ولاستحى أن يتكبر، كما أن المتكبر بقوته وعافيته غبي ؛ لأنه لم ينظر في حال الضعيف الذي يتعالى عليه، فلربما يفوقه في شيء آخر، أو عنده عبقرية في أمر أهم من الفتوة والقوة، ثم ألم ينظر هذا الفتوة أنها مسألة عرضية، انتقلت إليه من غيره، وسوف تنتقل منه إلى غيره.
إذن : فقارون وفرعون وهامان لما جاءهم موسى بآيات الله الواضحات استكبروا في الأرض، وأنفوا أن يتبعوا لا بطبيعتهم وطبيعة وجود ذلك فيهم، إنما افتعالا بغير حق ﴿ وما كانوا سابقين ٣٩ ﴾ [ العنكبوت ] فنفى عنهم أن يكونوا سابقين، كما قال سبحانه :﴿ وما نحن بمسبوقين٦٠ ﴾ [ الواقعة ]
والسبق لا يمدح ولا يذم في ذاته، لكن بنتيجته : إلى أي شيء سبق ؟ كما نسمع الآن يقولون : فلان رجعي، والرجعية لا تذم في ذاتها، وربما كان الإنسان مسرفا على نفسه، ثم رجع إلى منهج ربه، فنعم هذه الرجعية، فالسبق لا يذم لذاته، واقرأ إن شئت قوله تعالى :﴿ وسارعوا إلى المغفرة من ربكم.. ١٣٣ ﴾[ آل عمران ] أي : سابقوا.
والمعنى هنا ﴿ وما كانوا سابقين٣٩ ﴾[ العنكبوت ] أن هناك مضمار سباق، فمن سبق قالوا : أحرز قصب السبق، فإن كان مضمار السباق هذا في الآخرة أيسبقنا أحد ليلفت من أخذنا له ؟ إنهم لن يسبقونا، ولن يفلتوا من قبضتنا، ولن يعجزوا قدرتنا على إدراكهم.
{ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا١
ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون٤٠ }
الكلام هنا عن المكذبين والكافرين الذين سبق ذكرهم : قوم عاد، وثمود، ومدين، وقوم لوط، وقارون، وفرعون، وهامان، فكان من المناسب أن يذكر الحق سبحانه تعليقا يشمل كل هؤلاء لأنهم طائفة واحدة. فقال :﴿ فكلا.. ٤٠ ﴾ [ العنكبوت ] أي : كل من سبق ذكرهم من المكذبين فالتنوين في ﴿ فكلا.. ٤٠ ﴾ [ العنكبوت ] عوض عن كل من تقدم ذكرهم، كالتنوين في :﴿ وأنتم حينئذ تنظرون٨٤ ﴾[ الواقعة ] فهو عوض عن جملة ﴿ فلولا إذا بلغت الحلقوم٨٣ ﴾[ الواقعة ]
وقوله سبحانه ﴿ أخذنا بذنبه.. ٤٠ ﴾ [ العنكبوت ] والأخذ يناسب قوة الآخذ وقدرته ؛ لذلك يقول سبحانه عن أخذه للمكذبين ﴿ أخذ عزيز مقتدر٤٢ ﴾ [ القمر ] فالعزيز : الذي يغلب ولا يغلب، والمقتدر أي : القادر على الأخذ، بحيث لا يمتنع منه أحد ؛ فهو عزيز.
والأخذ هنا بسبب الذنوب ﴿ بذنبه.. ٤٠ ﴾ [ العنكبوت ] ليس ظلما ولا جبروتا ولا جزافا، إنما جزاء بذونبهم وعدلا ؛ ولذلك يأتي في تذييل الآية :
﴿ وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون٤٠ ﴾[ العنكبوت ]
ثم يفصل الحق سبحانه وتعالى وسائل أخذه لهؤلاء المكذبين :﴿ فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا.. ٤٠ ﴾ [ العنكبوت ] الحاصب : هو الحصى الصغار ترمي لا لتجرح، ولكن يحمى عليها لتكوى وتلسع حين يرميهم بها الريح، ولم يقل هنا : أرسلنا عليهم نارا مثلا ؛ لأن النار ربما أحرقته يموت وينقطع ألمه، لكن رميهم بالحجارة المحمية تلسعهم وتديم آلامهم. كما نسمعهم يقولون : سأحرقه لكن على نار باردة ؛ ذلك ليطيل أمد إيلامه.
ثم يقول سبحانه :﴿ ومنهم من أخذته الصيحة.. ٤٠ ﴾ [ العنكبوت ] وهو الصوت الشديد الذي تتزلزل منه الأرض، وهم ثمود ﴿ ومنهم من خسفنا به الأرض.. ٤٠ ﴾ [ العنكبوت ]أي : قارون ﴿ ومنهم من أغرقنا.. ٤٠ ﴾ [ العنكبوت ] وهم قوم نوح، وفرعون.
هذه وسائل أربعة لإهلاك المكذبين : النار في الحصباء، والهواء في الصيحة، والتراب في الخسف، ثم الماء في الإغراق، ورحم الله الفخر الرازي٢ حين قال في هذه الآية أنها جمعت العناصر التي بها وجود الإنسان والعناصر الأساسية أربعة : الماء والنار والتراب والهواء. وكانوا يقولون عنها في الماضي العناصر الأربعة، لكن العلم فرق بعد ذلك بين العنصر والمادة.
فالمادة تتحلل إلى عناصر، أما العنصر فلا يتحلل لأقل منه، فهو عبارة عن ذرات متكررة لا يأتي منها شيء آخر، فالهواء مادة يمكن أن نحلله إلى أكسجين و.... إلخ وكذلك الماء مادة تتكون من عدة عناصر وذرات إلى أن جاء ( مندليف ) ووضع جدولا للعناصر، وجعل لكل منها رقما أسماها الأرقام الذرية، فهذا العنصر مثلا رقم واحد يعني : يتكون من ذرة واحدة، وهذا رقم اثنين يعني يتكون من ذرتين.. إلخ إلى أن وصل إلى رقم ٩٣، لكن وجد في وسط هذه الأرقام أرقاما ناقصة اكتشفها العلماء فيما بعد.
فمثلا، جاءت مدام كوري، واكتشفت عنصر الراديوم، فوجدوا فعلا أن رقمه من الأرقام الناقصة في جدول ( مندليف )، فوضعوه في موضعه، وهذا يدل على أن الكون مخلوق بعناصر مرتبة وصلت مع التقدم العلمي الآن ١٠٥ عناصر.
ولما حلل العلماء عناصر التربة المخصبة التي نأكل منها المزروعات وجدوها ١٦ عنصرا، تبدأ بالأكسجين كأعلى نسبة، وتنتهي بالمنجنيز كأقل نسبة، لأنها لم تصل إلى الواحد من الألف. فلما حللوا عناصر جسم الإنسان وجدوا نفس هذه العناصر الستة عشرة.
وكأن الحق – سبحانه وتعالى – أقام حتى الكفار ليثبتوا الدليل على صدقه تعالى في خلق الإنسان من طين، لنعلم أن الحق سبحانه حينما يريد أن يظهر سرا من أسرار كونه يأتي به ولو على أيدي الكفار.
وأول من قال بالعناصر الأربعة التي يتكون منها الكون فيلسوف اليونان أرسطو الذي توفي سنة ٣٨٤ قبل الميلاد، وعلى أساس هذه العناصر الأربع كانوا يحسبون النجم، فمثلا عن الزواج يحسبون نجم الزوج والزوجة حسب هذه العناصر، فوجدوا نجم الزوج هواء، ونجم الزوجة نارا، فقالوا ( هيجعلوها حريقة )، وفي مرة أخرى وجدوا الزوجة مائية والزواج ترابيا فقالوا ( هيعملوها معجنة ).
ومعلوم أن الحق سبحانه لطلاقة قدرته تعالى يجعل عناصر البقاء هي نفسها عناصر الفناء، وهو سبحانه القادر على أن ينجى ويهلك بالشيء الواحد، كما أهلك فرعون بالماء، وأنجى موسى – عليه السلام – بالماء.
كذلك حين نتأمل هذه العناصر الأربعة نجدها عناصر تكوين الإنسان، حيث خلقه الله من ماء وتراب فكان طيبا، ثم جف بالحرارة حتى صار صلصالا كالفخار، ثم هو بعد ذلك يتنفس الهواء، فبنفس هذه العناصر التي كان منها الخلق يكون بها الهلاك.
والحق – سبحانه وتعالى – يريد من خلقه أن يقبلوا على الكون في كل مظاهره وآياته بيقظة ليستنبطوا ما فيه من مواطن العبر والأسرار ؛ لذلك نجد أن كل الاكتشافات جاءت، نتيجة دقة الملاحظة لظواهر الكون.
ويلفتنا ربنا إلى أهمية العلم التجريبي، فيقول :﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون١٠٥ ﴾[ يوسف ] فينبغي إذن أن نتأمل فيما نرى وما توصل الإنسان إلى عصر البخار وإلى قانون الطفو عند أرشميدس، وما توصل إلى الكهرباء والجاذبية والبنسلين إلا بالتأمل الدقيق لظواهر الأشياء. لذلك فالملاحظة هي أساس كل علم تجريبي أولا، ثم التجريب ثانيا، ثم إعادة التجريب لتخرج النتيجة العلمية.
والهواء سبب أساسي في حياة الإنسان، وبه يحدث التوازن في الكون، لكن إن أراد الحق سبحانه جعله زوبعة أو إعصارا مدمرا. وسبق أن قلنا : إنك تصبر على الطعام شهرا، وعلى الماء عشرة أيام، لكن لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق وزفير، فالهواء إذن أهم سبب من أسباب بقاء الحياة ؛ لذلك نسمعهم يقولون في شدة الكيد :( والله لأكتم أنفاسه ) لأنها السبيل المباشر إلى الموت ؛ لذلك فالهواء عامل أساسي في وسائل الإهلاك المذكورة.
وبالهواء تحفظ الأشياء توازنها، فالجبال العالية والعمارات الشاهقة ما قامت بقوة المسلحات والخرسانات ؛ إنما بتوازن الهواء، بدليل أنك لو فرغت جانبا منها من الهواء لانهارت في هذا الجانب فورا.
وبهذه النظرية يحدث الدمار بالقنابل ؛ لأنها تعتمد على نظرية تفريغ الهواء وما يسمونه مفاعل القبض ومفاعل البسط، فما قامت الأشياء من حولك إلا لأن الهواء يحيط بها من كل جهاتها.
وقلنا : إن القرآن الكريم حينما يحدثنا عن الهواء يحدثنا عنه بدقة الخالق الخبير، فكل ريح مفردة جاءت للتدمير والإهلاك، وكل ريح بصيغة الجمع للنماء والخير والإعمار، واقرأ إن شئت قوله تعالى :﴿ وأرسلنا الرياح لواقح.. ٢٢ ﴾ [ الحجر ]
وقوله سبحانه ﴿ وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر٣عاتية٦ ﴾ [ الحاقة ] لأنها ريح واحدة تهب من جهة واحدة فتدمر.
ثم تختم الآية بهذه الحقيقة :﴿ وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون٤٠ ﴾[ العنكبوت ] لأن الخالق – عز وجل – كرم الإنسان ﴿ ولقد كرمنا بني آدم.. ٧٠ ﴾[ الإسراء ] كرمه من بين جميع المخلوقات بالعقل والاختيار، فإذا نظرت في الكون واستقرأت أجناس الوجود لوجدت الإنسان سيد هذا الكون كله.
فالأجناس في الكون مرتبة : الإنسان ودونه مرتبة الحيوان، ثم النبات، ثم الجماد، فالجماد إذا أخذ ظاهرة من ظواهر فضل الحق عليه من النمو يصير نباتا، وإذا أخذ النبات ظاهرة من ظواهر فيض الحق على الخلق فأعطاه مثلا الإحساس يصير حيوانا، فإذا تجلى عليه الحق سبحانه بفضله وأعطاه نعمة العقل يصير إنسانا.
لكن هل النبات حين يأخذ خاصية النمو ففضل عن الجماد يخرج عن الجمادية ؟ لا إنما تظل فيه الجمادية بدليل أنه امتنع عنه النمو يعود جمادا كالحجر، وكذلك الحيوان أخذ ظاهرة الحس وتميز بها عن النبات، لكن تظل فيه النباتية حيث ينمو ويكبر.
والإنسان وهو سيد الكون الذي كرمه ربه بالعقل تظل فيه الجمادية بدليل أثر الجاذبية عليه، فإذا ألقى بنفسه من مكان عال لا يستطيع أن يمسك نفسه في الهواء، وكذلك تظل فيه النباتية والحيوانية. ففيه إذن كل خصائص الأجناس الأخرى دونه، ويزيد عليهم بالعقل.
لذلك لا يكلفه الله إلا بعد أن ينضج عقله ويبلغ، وبشرط أن يسلم من العطب في عقله كالجنون مثلا، وأن يكون مختارا فالمكره لا تكليف عليه ؛ لأنه غير مختار.
والإنسان الذي كرمه ربه بالعقل والاختيار، وفضله على كل أجناس الوجود لا يليق به أن يخضع أو يعبد إلا أعلى منه درجة، أما أن يتدنى فيعبد ما هو أقل منه رتبة، فهذا شيء عجيب لا يليق به، فالعابد لابد أن يكون أدنى درجة من المعبود، وأنت بالحكم أعلى درجة مما تحتك من الحيوان والنبات والجماد، فكيف تجعله يتصرف فيك، مع أنه من تصرفاتك أنت حين توجده نحتا، وتقيمه في المكان الذي تريده وإن انكسر تصلحه ؟ ! !
إذن : كرمك ربك، وأهنت نفسك، ورضيت لها بالدونية، جعلك سيدا وجعلت نفسك عبدا لأحقر المخلوقات ؛ لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي ( ( يا ابن آدم، خلقتك من أجلي، وخلقت الكون كله من أجلك، فلا تشتغل بما هو لك عما أنت له ) )٤.
إذن :﴿ وما كان الله ليظلمهم.. ٤٠ ﴾ [ العنكبوت ] أي : لا ينبغي لله تعالى أن يظلمهم، فساعة تسمع ما كان لك أن تفعل كذا، فالمعنى أنك تقدر على هذا، لكن لا يصح منك، فالحق سبحانه ينفى الظلم عن نفسه، لا لأنه لا يقدر عليه، إنما لأنه لا ينبغي له أن يظلم ؛ لأن الظلم يعني أن تأخذ حق الغير، والله سبحانه مالك كل شيء، فلماذا يظلم إذن.
ومثال ذلك نفي انبغاء قول الشعر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه :﴿ وما علمناه الشعر وما ينبغي له.. ٦٩ ﴾[ يس ]فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستطيع أن يقول شعرا، فلديه كل أدوايه، لكن لا ينبغي للرسول أن يكون شاعرا ؛ لأنهم كذابون، في كل واد يهيمون، ففرق بين انبغاء الشيء ووجوده فعلا.
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى :﴿ وما ربك بظلام للعبيد٤٦ ﴾[ فصلت ] بصيغة المبالغة ظلام، ولم يقل ظالم، لماذا ؟ لأن الله تعالى إن أباح لنفسه سبحانه الظلم، فسيأتي على قدر قوته تعالى، فلا يقال له ظالم إنما ظلام – وتعالى الله عن هذا علوا كبيرا.
ولما تكلمنا عن المبالغة وصيغها قلنا : إن المبالغة قد تكون في الحدث ذاته، كأن تأكل في الوجبة الواحدة رغيفا، ويأكل غيرك خمسة مثلا، أو تكون في تكرار الحدث، فأنت تأكل ثلاث وجبات، وغيرك يأكل ستا، فنقول : فلان آكل، وفلان أكول أو أكال، فالمبالغة نشأت إما من تضخيم الحدث ذاته، أو من تكراره.
ففي قوله تعالى :﴿ وما ربك بظلام للعبيد٤٦ ﴾[ فصلت ] لم يقل للعبد، إذن : تعدد الناس يقتضي تعدد الظلم – إن تصور- فجاء هنا بصيغة المبالغة ( ظلام ).
وهناك قضية لغوية في مسألة المبالغة تقول : إن نفي المبالغة لا ينفي الأصل، وإثبات الأصل لا يثبت المبالغة، فحين نقول مثلا : فلان أكول، فهو آكل من باب أولى، وحين نقول : فلان آكل، فلا يعني هذا أنه أكول. فنفي المبالغة في ﴿ وما ربك بظلام للعبيد٤٦ ﴾ [ فصلت ] لا ينفى الأصل ( ظالم )، وحاشا لله تعالى أن يكون ظالما.
وقوله تعالى :{ ولكن كانوا
٢ هو: محمد بن عمر، أبو عبد الله، فخر الدين الرازي، الإمام المفسر، أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل، وهو قرشي النسب، أصله من طبرستان، ومولده في الري (٥٤٤ هـ) وإليها نسبته. ويقال له ((ابن خطيب الري))، توفي في هراة عام (٦٠٦ هـ) عن ٦٢ عاما. من كتبه ((مفاتيح الغيب))، ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) (الأعلام للزركلي٦/٣١٣)..
٣ الريح الصصر: شديد البرد. وقيل: شديد الصوت. وقال الأزهري: شديدة البرد جدا. [لسان العرب – مادة: صرر]..
٤ أخرج أحمد في مسنده (٢/٣٥٨) عن أبي هريرة رفعه: ((قال الله: ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك)). وقال ابن كثير في تفسيره (٤/٢٣٨): ((ورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء))..
{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء
كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون٤١ }
كلمة ( مثل ) وردت بمشتقاتها في القرآن الكريم مرات عدة، ومادة الميم والثاء واللام جاءت لتعبر عن معنى يجب أن نعرفه، فإذا قيل ( مثل ) بسكون الثاء، فمعناها التشبيه، لكن تشبيه مفرد بمفرد.
كما في قوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء.. ١١ ﴾ [ الشورى ] وقوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها.. ٤٠ ﴾ [ الشورى ]
أما ( مثل ) بالفتح، فتعنى تشبيه قصة أو متعدد بمتعدد، كما في قوله تعالى :﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء.. ٤٥ ﴾ [ الكهف ]
فالحق – سبحانه وتعالى – لا يشبه بشيء إنما يشبه صورة متكاملة بصورة أخرى : فالحياة الدنيا في وجودها وزهرتها وزخرفتها وخضرتها ومتاعها، لم انتهائها بعد ذلك إلى زوال مثل الماء حين ينزل من السماء فيختلط بتربة الأرض، فينبت النبات المزهر الجميل، والذي سرعان ما يتحول إلى حطام.
لذلك اعترض بعض المتمحكين على أسلوب القرآن في قول الحق سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم.. ٥٩ ﴾ [ آل عمران ]
ووجه اعتراضه أن ( مثل ) جاءت تشبه مفردا بمفرد، وهو عيسى بآدم عليهما السلام، ونحن نقول : إنها تشبه صورة متكاملة بأخرى ونقول : هنا الاعتراض ناتج عن عدم فهم المعنى المراد من الآية، فالحق سبحانه لا يشبه عيسى بآدم كأشخاص، إنما يشبه قصة خلق آدم بقصة خلق عيسى، فآدم خلق من غير أب، وكذلك عيسى خلق من غير أب.
والمعنى : إن كنتم قد عجبتم من أن عيسى خلق بدون أب، فكان ينبغي عليكم أن تعجبوا أكثر من خلق آدم ؛ لأنه جاء بلا أب وبلا أم، أن تكون الفتنة في آدم لا في عيسى.
والمسألة أن الله تعالى شاء أن يعلن خلقه عن طلاقة قدرته في أنه لا يخلق بشكل مخصوص، إنما يخلق كما يشاء سبحانه من أب وأم، أو من دون أب، ومن دون أم، ويخلق من أب فقط، أو من أم فقط.
إذن : هذه المسألة لا تخضع للأسباب، إنما لإرادة المسبب سبحانه، فإذا أراد قال للشيء : كن فيكون. وقد يجتمع الزوجان، ويكتب عليهما العقم، فلا ينجبان، وقد يصلح الله العقيم فتلد، ويصلح العجوز فتنجب – والأدلة على ذلك واضحة – إذن : فطلاقة القدرة في هذه المسألة تستوعب كل الصور، بحيث لا يحدها حد.
والحق سبحانه حين يضرب لنا الأمثال يريد بذلك أن يبين لنا الشيء الغامض بشيء واضح، والمبهم بشيء بين، والمجمل بشيء مفصل، وقد جرى القرآن في ذلك على عادة العرب، حيث استخدموا الأمثال في البيان والتوضيح.
ويحكى أن أحدهم، وكان صاحب سمعة طيبة وسيرة حسنة بين الناس، فحسده آخر، وأورد أن يلصق به تهمة تشوه صورته، وتذهب بمكانته بين الناس فاتهمه بالتردد على أرملة حسناء، وقد رآه الناس فعلا يذهب إلى بيتها، فتخرج له امرأة فيعطيها شيئا معه.
ولما تحقق الناس من المسألة وجدوها عجوزا لها أولاد صغار وهم فقراء، وهذا الرجل يعطف عليهم ويفيض عليهم مما رزقه الله، فلما عرفوا ذلك عن الرجل عظموه، ورفعوا من شأنه، وزاد في نظرهم مجدا وفضلا.
وقد أخذ الشاعر هذا المعنى وعبر عنه قائلا مستخدما المثل :
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت***أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت***ما كان يعرف طيب عرف العود
والعود نوع من البخور، طيب الرائحة، لا تنتشر رائحته إلا حين يحرق.
ومن مشتقاتها أيضا ( مثله ) كما في قوله تعالى :﴿ وقد خلت من قبلهم المثلات.. ٦ ﴾[ الرعد ] وهي العقوبات التي حاقت بالأمم المكذبة، حتى جعلتها عبرة لغيرها.
فإذا اشتهر المثل انتشر على الألسنة، وضربه الناس مثلا كما اشتهر حاتم الطائي بالكرم والجود حتى صار مضرب المثل فيه، وقد تشتهر بيننا عبارة موجزة، فتصير مثلا يضرب في مناسبها كما نقول للتلميذ الذي يهمل طوال العام، ثم يجتهد ليلة الامتحان ( قبل الرماء تملأ الكنائن ) مع الاحتفاظ بنص المثل في كل مناسبة، وإن لم يكن هناك رمي ولا كنائن.
كما أن المثل يقال كما هو دون تغيير، سواء أكان للمفرد، أم المثنى، أم الجمع المذكر، أو للمؤنث. كذلك نقول ( ماذا وراءك يا عصام ) بالكسر ؛ لأنها قيلت في أصل المثل لامرأة.
يقول الحق سبحانه :﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا.. ٤١ ﴾ [ العنكبوت ]
فهذا مثل في قمة العقيدة، ضربه الله لنا للتوضيح وللبيان، ولتقريب المسائل إلى عقولنا، وإياك أن تقول للمثل الذي ضربه الله لك : ماذا أراد الله بهذا ؟ لأن الله تعالى قال :﴿ إن الله لا يستحيس أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. ٢٦ ﴾[ البقرة ]
فالبعض يرى أن البعوضة هذه شيء تافه، فكيف يجعله الله مثلا ؟ والتحقيق أن البعوضة خلق من خلق الله، فيها من العجائب والأسرار ما يدعوك للتأمل والنظر، وليست شيئا تافها كما تظن، بل يكفيك فخرا أن تصل إلى سر العظمة فيها.
ففي هذا المخلوق الضئيل كل مقومات الحياة والإدراك، فهل تعرف فيها موضع العقل وموضع جهازها الدموي.. إلخ وفضلا عن الذباب والناموس وصغار المخلوقات ألا ترى الميكروبات التي لا تراها بعينك المجردة ومع ذلك يصيبك وأنت القوي بما يؤرقك وينغص عليك.
إذن : لا تقل لماذا يضرب الله الأمثال بهذه الأشياء لأن الله ﴿ لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. ٢٦ ﴾ [ البقرة ]ما فوقها أي : في الصغر والاستدلال. أي : ما دونها صغرا ؛ لأن عظمة الخلق كما تكون بالشيء الأكثر ضخامة تكون كذلك بالشيء الأقل حجما الأكثر دقة.
لو نظرت مثلا إلى ساعة ( بج بن ) وهي أضخم وأشهر ساعة في العالم، وعليها يضبط العالم الوقت لوجدتها شيئا ضخما من حيث الحجم ليراها القادم من بعيد، ويستطيع قراءتها، فدلت على عظمة الصنعة ومهارة المهندسين الذين قاموا ببنائها، فعظمتها في ضخامتها وفخامتها، فإذا نظرت إلى نفس الساعة التي جعلوها في فص الخاتم لوجدت فيها أيضا عظمة ومهارة جاءت من دقة الصنعة في صغر الحجم.
كذلك الراديو أول ما ظهر كان في حجم ( النورج )، والآن أصبح صغيرا في حجم الجيب.
ومن مخلوقات الله ما دق ؛ لدرجة أنك لا تستطيع إدراكه بحواسك، والعجيب أن يطلب الإنسان يرى الله جهرة، وهو لا يستطيع أن يرى آثار خلقه وصنعته. فأنت لا ترى الجن، ولا ترى الميكروب والجراثيم، ولا ترى حتى روحك التي بين جنبيك والتي بها حياتك، لا يرى هذه الأشياء ولا يدركها بوسائل الإدراك الأخرى، فمن عظمته تعالى أنه يدرك الأبصار، ولا تدركه الأبصار.
نعود إلى المثل الذي ضربه الله لنا :﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء.. ٤١ ﴾[ العنكبوت ]أي : شركاء وشفعاء ﴿ كمثل العنكبوت.. ٤١ ﴾[ العنكبوت ] هذا المخلوق الضعيف الذي ينسج خيوطه بهذه الدقة التي نراها، والذي نسج خيوطه على الغار في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشترك مع الحمامة في التعمية على الكفار.
﴿ اتخذت بيتا.. ٤١ ﴾[ العنكبوت ] أي : من هذه الخيوط الواهية ﴿ وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت.. ٤١ ﴾ [ العنكبوت ] فخطأ العنكبوت ليس في اتخاذ البيت، إنما في اتخاذ هي الخيوط الواهية بيتا له وهبة ريح كافية للإطاحة بها، ويشترط في البيت أن يكون حصينا يحمي صاحبه، وأن تكون له أبواب ونوافذ وحوائط.. إلخ. أما لو اتخذها شبكة لصيد فرائسه لكان أنسب، وكذلك الكفار اتخذوا من الأصنام آلهة، ولو اتخذوها دلالة على قدرة الحق في الخلق لكان أنسب وأجدى.
وكما أن بيت العنكبوت تهدمه هبة ريح وتقطعه وأنت مثلا تنظف بيتك، وربما تقبل العنكبوت نفسه، فكذلك طبق الأصل يفعل الله بأعمال الكافرين :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ٢٣ ﴾ [ الفرقان ]
وكذلك يضرب لهم مثلا آخر :﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ١٨ ﴾ [ إبراهيم ]
ومعنى :﴿ لو كانوا يعلمون٤١ ﴾[ العنكبوت ] أي : حقيقة الأشياء، فشبكة العنكبوت لا تصلح بيتا، ولكن تصلح مصيدة للحشرات، وكذلك الأصنام والأحجار لا تنفع لأن تكون آلهة تعبد، إنما لأن تكون دلالة على قدرة الخالق – عز وجل – فلو فكروا فيها وفي أسرار خلقها لاهتدوا من خلالها للإيمان.
فهي – إذن – دليل قدرة لو كانوا يعلمون، فالجبل هذا الصخر الذي تنحتون منه أصنامكم هو أول خادم لكم، ولمن هو أدنى منكم من الحيوان والنبات، وسبق أن قلنا : إن الجماد يخدم النبات، ويخدم الحيوان، وهم جميعا في خدمة الإنسان.
إذن : فالجماد خادم الخدامين، ومع ذلك جعلتموه إلها، فانظروا إذن إلى هذه النقلة، وإلى خسة فكركم، وسوء طباعكم حيث جعلتم أدنى الأشياء وأحقرها أعلى الأشياء وأشرافها – أي : في زعمكم.
فكيف وقد ميزك الله على كل الأجناس ؟ لقد كان ينبغي منك أن تبحث عن شيء أعلى منك يناسب عبادتك له، وساعتها لن تجد إلا الله تتخذه إلها.
بل واقرأ إن شئت عن الجماد قوله تعالى :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين٩ وجعل فيها.. ١٠ ﴾ [ فصلت ] أي : في الأرض ﴿ ورواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين١٠ ﴾ [ فصلت ]
فكأن الجبال الصماء الراسية هي مخازن القوت للناس على مر الزمان، فمنها تتفتت الصخور، ويتكون الطمى الذي يحمله إلينا الماء في أيام الفيضانات، ومنها تتكون الطبقة المخصبة في السهول والوديان، فتكون مصدر خصب ونماء دائم ومتجدد لا ينقطع. وتذكرون أيام الفيضان وما كان يحمله نيل مصر إلينا من خير متجدد كل عام، وكيف أن الماء كان يأتينا أشبه ما يكون بالطحينة من كثرة ما به من الطمى.
فياليت عباد الأصنام الذين نحتوا الصخور أصناما تأملون هذه الآيات الدالة على قدرة الخالق سبحانه بدل أن يعبدوها من دون الله.
وفي موضع آخر يضرب لنا الحق سبحانه مثلا في قمة العقيدة أيضا، فيقول سبحانه :
﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون٢٩ ﴾ [ الزمر ]
ففرق بين عبد مملوك لسيد واحد يتلقى منه وحده الأمر والنهي، وبين عبد مملوك لعدة شركاء، وليتهم متفقون، لكن ﴿ شركاء متشاكسون.. ٢٩ ﴾[ الزمر ] مختلفون لكل أوامر، ولكل منهم مطالب، فكيف إذن يرضيهم ؟ وكيف يقوم بحقوقهم وهم يتجاذبونه ؟
فالذي يعبد الله وحده لا شريك له كالعبد لسيد واحد، والذين يعبدون الأصنام كالعبد فيه شركاء متشاكسون. إذن : فالحق سبحانه يضرب الأمثال للناس في الحقائق ليبينها لهم بيانا واضحا.
{ إن الله يعلم ما يدعون من دونه
من شيء وهو العزيز الحكيم٤٢ }
يقول سبحانه :﴿ إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء.. ٤٢ ﴾ [ العنكبوت ] لأنهم حين ضيق عليهم الخناق قالوا : نحن لا نعبد الأصنام، إنما نعبد الكواكب التي تسير هذه الأصنام أو الملائكة، فرد الله عليهم :﴿ إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء.. ٤٢ ﴾ [ العنكبوت ] وقوله هنا ﴿ من شيء.. ٤٢ ﴾ للتقليل، كأن ما يدعونه من دونه لا يعد شيئا، أو هو أتفه من أن يكون شيئا، أو يعلم سبحانه ما يدعون من دونه من أي شيء.
أو أن ( شيء ) من قولنا : شاء يشاء شيئا، فالشيء ما يراد من الغير أن يفعله، والذي شاء هو الله تعالى، وكأنهم يعبدون الشيء ويتركون خالقه، وهو الأحق بالعبادة سبحانه. فماذا جرى لكم ؟ ! تعبدون المخلوق وتتركون الخالق، وبعد أن أكرمكم الله تهينون أنفسكم، وترضون لها الدون، حيث تعبدون ما هو أقل منكم مرتبة في الخلق، والأصنام جمادات، وهي أدنى أجناس الوجود.
ثم يقول سبحانه :﴿ وهو العزيز الحكيم٤٢ ﴾[ العنكبوت ] العزيز الذي يغلب، ولا يغلب، وهو الحكيم في كل ما قضى وأمر.
{ وتلك الأمثال نضربها للناس
وما يعقلها إلا العالمون٤٣ }
فمن يسمع المثل من الله تعالى ثم لا يعقله فليس بعالم ؛ لذلك ليسوا علماء الذين اعترضوا على قزله تعالى :﴿ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. ٢٦ ﴾[ البقرة ] حيث استقلوا البعوضة، ورأوها لا تستحق أن تضرب مثلا.
ونقول لهم : أنتم لستم عاقلين ولا عالمين بدقة المثل، واقرأوا :﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له.. ٧٣ ﴾[ الحج ] بل وأكثر من ذلك ﴿ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه.. ٧٣ ﴾ [ الحج ]
دعك من مسألة الخلق، وتعال إلى أبسط شيء في حركة حياتنا إذا وقع الذباب على طعامك، فأخذ منه شيئا أتستطيع أن تسترده منه مهما أوتيت من القوة والجبروت ؟
إذن : فالذبابة ليست شيئا تافها كما تظنون، بل وأقل منها الناموس ( والميكروب ) وغيره مما لا يرى بالعين المجردة مخلوقات لله، فيها أسرار تدل على قدرته تعالى.
كما قال سبحانه :﴿ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. ٢٦ ﴾[ البقرة ] أي : ما فوقها في الصغر، ولك أن تتأمل البعوضة، وهي أقل حجما من الذباب، وكيف أن لها خرطوما دقيقا ينفذ من الجلد، ويمتص الدم الذي لا تسطيع أنت إخراجه إلا بصعوبة، ( والميكروب ) الذي لا تراه بعينك المجردة ومع ذلك يتسلل إلى الجسم فيمرضه، ويهد كيانه، وربما انتهى به إلى الموت.
إذن : ففي هذه المخلوقات الحقيرة في نظرك عبر وآيات، لكن لا يعقلها إلا العالمون، ومعظم هذه الآيات والأسرار اكتشفها غير مؤمنين بالله، فكان منهم من عقلها فآمن، ومن لم يعقلها فظل على كفره مع أنه أولى الناس بالإيمان بالله ؛ لأن لديه من العلم ما يكتشف به أسرار الخالق في الخلق. لذلك جاء في الأثر :( ( العالم الحق هو الذي يعلم من خلقه، ولم خلقه ) ).
{ خلق الله السماوات والأرض بالحق
إن في ذلك لآية للمؤمنين٤٤ }
أراد الحق سبحانه ان يبرهن لنا على طلاقة قدرته تعالى، فقال :﴿ خلق الله السماوات والأرض بالحق.. ٤٤ ﴾[ العنكبوت ] والخلق : إيجاد المعدوم، لكن لغرض مخصوص، ولمهمة يؤديها، فإن خلقت شيئا هكذا كما اتفق دون هدف منه فلا يعد خلقا.
ومسألة الخلق هذه هي الوحيدة التي أقر الكفار بها لله تعالى، فلما سألهم :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله.. ٢٥ ﴾[ لقمان ] فلماذا أقروا بهذه بالذات ؟ ولماذا ألجمتهم ؟
هذا ليس عجيبا منهم ؛ لأننا نشاهد كل من يأتي بجديد في الكون حريصا على على أن ينسبه لنفسه، وعلى أن يبين للناس مجهوداته وخبراته، وأنه اخترع كذا أو اكتشف كذا، كالذي اكتشف الكهرباء أو اخترع ( التليفون أو التلفزيون ).
ما زلنا حتى الآن نذكر أن قانون الطفو لأرشميدس، وقانون الجاذبية لنيوتن، والناس تسجل الآن براءات الاختراع حتى لا يسرق أحد مجهودات أحد، ولتحفظ لأصحاب التفوق العقلي والعبقري ثمرة عبقريتهم.
وكذلك كان العرب قديما يذكرون لصاحب الفضل فضله، حتى إنهم يقولون : فلان أول من قال مثلا : أما بعد١. وفلان أول من فعل كذا.
إذن : فنحن نعرف الأوائل في كل المجالات، وننسب كل صنعة وكل اختراع واكتشاف إلى صاحبه، بل ونخلد ذاكره، ونقيم له تمثالا.. إلخ.
إذن : فما بالك بالخالق الأعظم سبحانه الذي خلق السموات والأرض وما فيهما ومن فيهما، أليس من حقه أن يعلن عن نفسه ؟ أليس من حقه على عباده أن يعترفوا له بالخلق ؟ خاصة وأن خلق السموات والأرض لم يدعه أحد لنفسه، ولم ينازع الحق فيه منازع، ثم جاءنا رسول من عند الله تعالى يخبرنا بهذه الحقيقة، قلم يوجد معارض لها، والقضية تثبت لصاحبها إلى أن يوجد معارض.
وقد مثلنا لهذه المسألة – ولله المثل الأعلى – بجماعة جلسوا في مجلس، فلما انفض جمعهم وجد صاحب البيت محفظة نقود لواحد منهم، فسألهم : لمن هذه المحفظة ؟ فقالوا جميعا : ليست لي إلا واحد منهم قال : هي محفظتي، فهل يشك صاحب البيت أنها لمن ادعاها ؟
ولك أن تسأل : ما دام الحق سألهم ﴿ من خلق السماوات والأرض.. ٢٥ ﴾[ لقمان ] فقالوا ( الله ) فلماذا يذكر الله هذه القضية ؟ قالوا : الحق – تبارك وتعالى – لا يريد بهذه
الآية أن يخبرنا أنه خالق السماوات والأرض، إنما يريد أن يخبرنا أن خلق السموات والأرض بالحق، والحق : الشيء الثابت الذي لا يتغير مع الحكمة المترتبة على كل شيء في الوجود، فإذا نظرنا إلى خلق السموات والأرض لوجدناه ثابتا لم يتغير شيء فيه.
لذلك يقول سبحانه :﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.. ٥٧ ﴾ [ غافر ]
فالسموات والأرض خلق هائل عظيم، بحيث لو قارنته بخلق الإنسان لكان خلق الإنسان أهون. وانظر مثلا في عمر السموات والأرض وفي عمر الإنسان : أطول أعمار البشر التي نعلمها حتى الآن عمر نوح عليه السلام، وبعد هذا العمر الذي نراه طويلا انتهى إلى الموت، فعمر الإنسان معلوم يكون سنة واحدة، أو ألف سنة لكن لابد أن يموت.
أما السموات والأرض وما فيها من مخلوقات إنما خلقت لخدمة الإنسان، فالخادم عمره أطول من المخدوم، فالشمس مثلا خلقها الله تعالى من ملايين السنين، وما زالت كما هي لم تتغير، ولم تتخلف عن مهمتها، وكذلك القمر :﴿ الشمس والقمر بحسبان٥ ﴾[ الرحمن ]
أي : بحساب دقيق ؛ لذلك يقولون : سيحدث كسوف مثلا أو خسوف يوم كذا الساعة كذا، وفي نفس الوقت يحدث فعلا كسوف للشمس أو خسوف للقمر مما يدل على أنهما خلقا بحساب بديع دقيق، ويكفي أننا نضبط على الشمس مثلا ساعاتنا، ومع ما عرف عن الشمس والقمر من كبر حجمهما، فإنهما يسيران في مسارات وأفلاك دون صدام، كما قال تعالى :﴿ كل في فلك يسبحون٣٣ ﴾ [ الأنبياء ]*
هذا كله من معنى خلق السموات والأرض بالحق. أي : بنظام ثابت دقيق منضبط لا يتغير ولا يختلف في كل مظاهره، فأنت أيها الإنسان يمكن أن تتغير ؛ لأن الله جعل لك اختيارا فتستطيع أن تطيع أو أن تعصى، تؤمن أو العياذ بالله تكفر، لكن خلق السموات والأرض جاء على هيئة القهر والتسخير، وإن كانت مختارة بالقانون العام والاختيار الأول، حيث قال تعالى :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا٧٢ ﴾ [ الأحزاب ]
إذن : خيرت فاختارت ألا تختار، وخرجت عن مرادها لمراد ربها.
ثم يقول سبحانه :﴿ إن في ذلك لآية للمؤمنين٤٤ ﴾ [ العنكبوت ] لماذا قال ( للمؤمنين ) مع أنها آية للناس جميعا ؟ وسبق أن خاطب الله الكافرون ﴿ من خلق السماوات والأرض.. ٢٥ ﴾ ( لقمان ) فلماذا خص هنا المؤمنين هنا دون الكافرون ؟
قالوا : فرق بين خلق السموات والأرض، وبين كونها مخلوق بالحق، فالجميع يؤمن بأنها مخلوقة، لكن المؤمنين فقط هم الذين يعرفون أنها مخلوقة بالحق.
{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهي
عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله
أكبر والله يعلم ما تصنعون٤٥ }
بعد أن ذكر الله تعالى بعض مواكب الرسل في إبراهيم وفي موسى ونوح وصالح وهود ولوط وفي شعيب، ثم تكلم سبحانه عن الذين كذبوا هؤلاء الرسل ﴿ فكلا أخذنا بذنبه.. ٤٠ ﴾ [ العنكبوت ] أراد سبحانه أن يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يزعجه، ولا يرهقه، أو يتعب نفسه موقف الكافرين به الذين يصدون عن سبيل الله، ويقفون من الدعوة موقف العداء.
فقال له مسليا :﴿ اتل ما أوحي إليك من الكتاب.. ٤٥ ﴾[ العنكبون ] يعني : لم تحزن يا محمد ومعك الأنس كله، الأنس الذي لا ينقضي، وهو كتاب الله ومعجزته التي أنزلها إليك، فاشتغل به، فمع كل تلاوة له ستجد سكنا إلى ربك.
وإذا كان هؤلاء الذين عاصروك لم يؤمنوا به، ولم يلتفتوا إلى مواطن الإعجاز فيه فدوام أنت على تلاوته عل الله يأتي من هؤلاء بذرية تصفو قلوبهم لاستقبال إرسال السماء، فيؤمنون بما جحده هؤلاء، والأمر بالتلاوة لبقاء المعجزة.
﴿ اتل.. ٤٥ ﴾ [ العنكبوت ] اقرأ ولا تعجز ولا تيأس، فالقرآن سلوة لنفسك ؛ لأن الذي يرسل رسولا من البشر بشيء أو في أمر من الأمور، ثم يكذب يرجع إلى من أرسله، فما دام قومك قد كذبوك، فارجع إلي بأن تستمع إلى كتابي الذي أنزلته معجزة لك تؤيدك، فيؤمنون به.
وفرق بين الفاعل والقابل، والقرآن يوضح هذه المسألة، فمن الناس من إذا سمعوا القرآن تخشع له قلوبهم، وتقشعر جلودهم، ومنهم من إذا سمعوه قالوا على سبيل الاستهزاء ﴿ ماذا قال آنفا.. ١٦ ﴾[ محمد ] تهوينا من شأن القرآن، ومن شأن رسول الله.
ثم يقرر القرآن هذه الحقيقة :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر١ وهو عليهم عمى.. ٤٤ ﴾ [ فصلت ]
إذن : فالقرآن واحد، لكن المستقبل للقرآن مختلف، فالعبرة في صفاء الاستقبال لأن الإرسال واحد، وهل تتهم الاذاعة إن كان جهاز ( الراديو ) عندك معطلا، لا يستقبل إرسالها ؟
كذلك من أراد أن يستقبل إرسال السماء فعليه أن يعد الأذن الواعية والقلب الصافي غير المشوش بما يخالف إرسال السماء، عليك أن تخرج ما في نفسك أولا من أضداد للقرآن، ثم تستقبل كلام الله وتنفعل به.
وسبق أن مثلنا لاختلاف المنفعل للفعل بمن ينفخ في يده وقت البرد بقصد التدفئة، وبمن ينفخ بنفسه في الشاي مثلا ليبرده، فهذه للحرارة، وهذه للبرود، الفعل واحد، لكن المنفعل مختلف.
فقوله تعالى :﴿ اتل ما أوحي إليك من الكتاب.. ٤٥ ﴾[ العنكبوت ] هذه هي ميزة معجزتك يا محمد أنك تستطيع أن تكررها في كل وقت، وأن تتلوها كما تشاء، وأن يتلوها بعدك من سمعها، وستظل تتردد إلى يوم القيامة.
أما معجزات الرسل السابقين فكانت خاصة بمن شاهد المعجزة، فإذا مات من شهدها فلا يعرفها أحد بعدهم حتى لو كان معاصرا لها ولم يرها، فالذين عاصروا مثلا انقلاب عصا موسى حية ولم يشاهدوا هذا الموقف، ماذا عندهم من هذه المعجزة ؟ لا شيء إلا أننا نصدقها ونؤمن بها ؛ لأن القرآن أخبرنا بها.
إذن : فمعجزات السابقين تأتي كلقطة واحدة أشبه ما تكون بعود الكبريت الذي يشتغل مرة واحدة، رآها من رآها وتنتهي المسألة، ولكن القرآن حدثنا بكل معجزات الرسل السابقين فانظر إذن ما أصاب الرسل جميعا من خيرات سيدنا رسول الله، وكيف خلد القرآن ذكرهم، وامتدت معجزاتهم بامتداد معجزته.
فكأن القرآن أسدى الجميل إلي كل الرسل، وإلى كل المعجزات ؛ لذلك قال تعالى عن القرآن :﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا٢عليه.. ٤٨ ﴾ [ المائدة ]
ثم يقول سبحانه :﴿ وأقم الصلاة.. ٤٥ ﴾[ العنكبوت ] ومعلوم أن اتل : التلاوة قول من فعل اللسان و ﴿ وأقم.. ٤٥ ﴾[ العنكبوت ] من فعل الجوارح، والإنسان له جوارح متعددة اشتهر منها خمس هي : العين للإبصار، والأذن للسمع، والأنف للشم، واللسان للتذوق، والأنامل للمس.
فقالوا على سبيل الاحتياط : الجوارح الخمسة الظاهرة وقد ظهر فعلا مع تقدم العلوم اكتشفوا في الإنسان حواس أخرى ووسائل إدراك لم تعرف من قبل، كحاسة العضل التي تزن بها ثقل الأشياء، وإلا فبأي حاسة من حواسك الخمسة تعرف الثقل قبل أن ترفع الشيء من على الأرض ؟
وكحاسة البين، والتي بها تستطيع أن تميز بين سمك الأشياء بين أناملك، فحين تذهب مثلا إلى تاجر الأقمشة، فتتناول القماش بين أناملك و ( تفركه ) برفق، فتستطيع أن تعرف أن هذا أسمك من هذا.
ومن عجيب الأمر في مسألة الجوارح أن يأخذ اللسان شطر الجوارح كلها، ففعل الحواس الخمس يسمى عملا، والعمل ينقسم : إما قول، وإما فعل. فكل تحريك لجارحة لتؤدي مهمة يسمى عملا، لكن عمل اللسان يسمى قولا، أما من بقية الجوارح فيسمى فعلا.
فأخذ اللسان هذه المكانة ؛ لأن به اإنذار من الحق، وبه التبشير، وبه البلاغ من الرسول ؛ لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون٢ ﴾ [ الصف ]
ولم يقل : ما لاتعملون. لأن القول يقابله الفعل، وهما معا عمل، والعمل بنية القلب.
لكن، لماذا اختار الصلاة من بين أعمال الجوارح ؟ قالوا : لأنها قمة العمل كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم :( ( الصلاة عماد الدين ) )٣ وبها نفرق بين المؤمن والكافر. ويبقى السؤال : لماذا أخذت الصلاة هذه المكانة من بين أركان الإسلام ؟
ونحب أن نشير هنا إلى أن خصوم الإسلام وبعض أهله الذين يخافون من بعثه أن يقضي على سلطتهم وطغيانهم وجبروتهم يريدون حصر الإسلام في أركانه الخمسة، فإن قلت بهذه المقولة لا يتعرضون لك، وأنت حر في إطار أركان الإسلام
هذه، لكن إياك أن تقول : إن الإسلام جاء لينظم حركة الحياة ؛ لأن حظهم في حصر الإسلام في أركانه فقط.
وما فهم هؤلاء أن الأركان ليست هي كل الإسلام، إنما هي أسسه وقواعده التي يقوم عليها بناؤه، لكنهم يريدون أن يعزلوا الإسلام عن حركة الحياة. فنقول لهم : نعم، هذه أركان الإسلام، أما الإسلام فيشمل كل شيء في حياتنا، بداية من قمة العقيدة في قولنا : لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى إماطة الأذى عن الطريق ؛ لأن الإسلام دين يستوعب كل أقضية الحياة، كيف لا وهو يعلمنا أبسط الأشياء في حياتنا.
ألا تراه يهتم بأحكام قضاء الحاجة ودخول الخلاء، وما يتعلق به من آداب وأحكام ؟ ألا ترى أن صاحب الحسبة٤ المكلف بمراقبة الأسواق، وتنفيذ أحكام منهج الله في الأرض إذا رأى جزارا ينفخ ذبيحته بفمه يقوم بإعدام هذه الذبيحة ؛ لأن الهواء المستخدم في نفخها هواء غير صحي، فهو زفير محمل بثاني أكسيد الكربون، وقد يحمل غازات أخرى ضارة لابد أن تنتقل إلى لحم الذبيحة ؟
كما أن من مهمته أن يمر بالحلاقين، ويتفقد مدى نظافتهم وسلامتهم من الأمراض، وإذا اشتم من أحدهم رائحة ثوم أو بصل مثلا أمره بإغلاق محله، وعدم العمل في هذا اليوم حتى لا يتأذى الناس برائحته.
فأي شرع هذا الذي يحافظ على سلامة الناس ومشاعرهم إلى هذا الحد ؟ إنه دين الله ومنهجه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة في حركة الحياة إلا ووضع لها أحكاما وآدابا. أمثل هذا الشرع يعزل عن حركة الحياة ويقيد وينحصر في مسائل العبادات وحدها ؟
إنك حين تنظر إلى متاعب العالم المختلف الآن – دعك من العالم المتقدم – ستجد أن متاعبه اقتصادية، ولو تقصيت الأسباب لوجدتها تعود إلى التخلي عن منهج الله وتعطيل أحكامه، والله لو أنهم أخذوا في أزمتهم الاقتصادية بقول النبي صلى الله عليه وسلم :( ( نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع ) )٥.
لو عملوا بهذا وتأدبوا رسولهم لخرجوا من هذه الأزمة، وتقبلوا في رغد من العيش، إنك لو تحليت بهذا الأدب في مسألة الطعام والشراب لكفتك اللقمة واللقمتان، وأشهى الطعام ما كان بعد جوع مهما كان بسيطا.
أما الآن، فنرى الناس يلجئون إلى المشهيات قبل الطعام، وإلى المهضمات بعده، لماذا ؟ لأنهم خالفوا هدى رسولهم صلى الله عليه وسلم، فهم يأكلون على شبع، ويأكلون بعد الشبع.
والحق – تبارك وتعالى – يقول :﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا.. ٣١ ﴾[ الأعراف ] وأثر عن العرب الذين عاشوا في شظف من العيش : نعم الإدام الجوع، نعم إنه ( الغموس ) الحقيقي، والمشهي الأول.
نعود إلى مكانة الصلاة بين العبادات، ولماذا كانت هي عماد الدين، ومعنى :( ( الصلاة عماد الدين ) )٦و( ( بني الإسلام على خمس ) )٧أن الدين أشياء أخرى، وهذه أسسه وقواعده، وحين نتتبع هذه القواعد نجد أن الركن الأول، وهو أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله يمكن أن أقولها ولو مرة واحدة، أما الزكاة فلا تجب مثلا على الفقير فلا يزكي، وكذلك المريض لا يصوم، والمسافر والحائض.. إلخ، وكذلك الحج غير واجب إلا على المستطيع.
إذن : ما هو الركن الثابت الذي يلازم كل مسلم، ولا يسقط عنه بحال ؟ إنها الصلاة ؛ لذلك أخذت مساحة كبيرة من الوقت على مدى اليوم والليلة، وبها يكون إعلان الولاء الدائم لله تعالى، وبها تفرق بين المؤمن وغير المؤمن، فإن رأيت شخصا مثلا لا يصوم أو لا يزكى أو لا يحج، فلك أن تقول ربما يكون من أصحاب الأعذار، ومن غير القادرين، لكن حين ترى شخصا لا يصلي، وقد تكرر منه ذلك فإنك لابد شاك في إسلامه.
لذلك استحقت الصلاة هذه المكانة بين سائر العبادات منذ بدايات التشريع، ألا ترى أن كل فرائض الدين شرعت بالوحي إلا الصلاة، فقد شرعت بالخطاب المباشر من الله تعالى لنبيه نحمد صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج.
وسبق أن مثلنا لذلك، ولله المثل الأعلى، برئيس العمل الذي يصدر أوامره بوسائل مختلفة حسب أهمية المأمور به، فقد يكتفي بأن ( يؤشر ) على ورقة، وقد يوصى بها، أو يطلب الموظف المختص فيحدثه ( بالتليفون )، فإن كان الأمر هاما استدعاه شخصيا إلى مكتبه وكلفه بما يريد.
وكان هذا الاستدعاء تشريفا لسيدنا رسول الله بقرب المرسل إليه من المرسل، فأراد الحق – سبحانه وتعالى – ألا يحرم أمة محمد من فضل أسبغه على محمد فكأنه
قال : من أراد من عبادي أن يقرب مني كما قرب محمد فكان قاب قوسين أو أدنى فليصل.
ومعنى :﴿ وأقم الصلاة.. ٤٥ ﴾[ العنكبوت ] إقامة الشيء : أداؤه على الوجه الأكمل الذي يؤدي غايته، فالصلاة المطلوبة هي الصلاة المستوفاة الشروط والتي تقيمها كما يريدها مشرعها ﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.. ٤٥ ﴾ [ العنكبوت ]
والصلاة إذا استوفت شروطها نهت صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فإذا رأيت صلاة لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فاعلم أنها ناقصة عما أراده الله لإقامتها، وعلى قدر النقص تكون ثمرة الصلاة في سلوك صاحبها، وكأن وقوعك في بعض الفحشاء وفي بعض المنكر يعد مؤشرا دقيقا لمدى إتقانك لصلاتك وحرصك على تمامها وإقامتها.
ومعنى ﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.. ٤٥ ﴾[ العنكبوت ] واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له : يا رسول الله، إن فلانا يصلي، لكن صلاته لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فقال :( ( دعوه، فإن صلاته تنهاه ) )٨.
فالمعنى هنا أن الأمر ليس أمرا كونيا ثابتا لا يتخلف، بل هو أمر تشريعي عرضة لأن يطاع،
٢ المهيمن: الرقيب المسيطر، والقرآن مهيمن على الكتب السابقة، أي رقيب عليها وحافظ لما فيها من الحق، ومسيطر عليها يبين ما فيها من الحق وما أدخله الناس عليها من الباطل.[القاموس القويم ٢/٣٠٨]..
٣ قال الحافظ العراقي في تخريجه للإحياء (١/١٤٧): ((رواه البيهقي في الشعب بسند ضعفه من حديث عمر)). وقال الملأ على القارى في ((الأسرار المرفوعة)) (حديث ٥٧٨): ((قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: إنه غير معروف وقال النووي في التنقيح: إنه منكر باطل. لكن رواه الديلمي عن علي كما ذكره السيوطي في الدرر المنتثرة (حديث ٢٧٩)..
٤ شرح الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه ((إحياء علوم الدين)) الحسبة وكل ما يتعلق بها من أركانها الأربعة ((المحتسب، والمحتسب عليه، والمحتسب فيه، ونفس الاحتساب)) وما يتعلق بكل منها من شروط، ودرجات الاحتساب، ثم آداب المحتسب من العلم والورع. وحسن الخلق، وذلك بتفصيل فليرجع إليه في ((كتاب الأمر بالمعروف)) من ((إحياء علوم الدين))..
٥ عن المقدام بن معد يكرب قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)) أخرجه أحمد في مسنده (٤/١٣٢)، والترمذي في سننه (٢٣٨٠)، وابن ماجة في سننه (٣٣٤٩)..
٦ قال العجلوني في كشف الخفاء (٢/٣٩): ((رواه البيهقي في الشعب بسند ضعيف من حديث عكرمة عن عمر مرفوعا. ولم يقف عليه ابن الصلاح فقال في مشكل الوسيط: إنه غير معروف))..
٧ حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه(٨)، وكذا مسلم في صحيحه (١٦) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما..
٨ عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي، فإذا أصبح سرق. قال ((إنه سينهاه ما تقول)) أخرجه أحمد في مسنده(٢/٤٤٧) والبزار (١/٣٤٦ – كشف الأستار) وابن حبان (ص ١٦٧ – موارد الظمآن) قال الهيثمي في المجمع (٢/٢٥٨): ((رجاله رجال الصحيح)).
.
الحق – تبارك وتعالى – يعلمنا كيف نجادل أهل الكتاب، وقبل أن نتكلم عن ألوان الجدل في القرآن الكريم نقول : ما معنى الجدل ؟
الجدل : مأخوذ من الجدل، وهو فتل الشيء ليشتد بعد أن كان لينا كما نفتل حبالنا في الريف، فالقطن أو الصوف مثلا يكون منتفشا يأخذ حيزا واسعا، فإذا أردنا أن نأخذ منه خيطا جمعنا بعض الشعيرات ليقوي بعضها بعضا بلفها حول بعضها، وبجدل الخيوط نصنع الحبال لتكون أقوى، وعلى قدر الغاية التي يراد لها الحبل تكون قوته.
ومن الجدل أخذ الجدال والجدل والمجادلة، وفي معناها : الحوار والحجاج والمناظرة، ومعناه أن يوجد فريقان لكل منهما مذهب يؤيده ويدافع عنه ليفتن الآخر أي : ليلفته عن مذهبه إلى مذهبه هو.
فإذا كان المقصود هو الحق في الجدال أو الحجاج أو المنظارة فهذا الاسم يكفي، لكن إن دخل الجدال إلى مراء أو لجاجة، فليس القصد هو الحق، إنما أن يتغلب أحد الفريقين على الآخر، والجدل في هذه الحالة له أسماء متعددة، منها قوله تعالى :﴿ للجوا في طغيانهم.. ٧٥ ﴾ [ المؤمنون ]
لكن إذا فتلنا الشيء المنفوش حتى صار مضمرا، وأخذ من الضمر قوة، أأنت تجعل في الجدل خصمك قويا ؟ إنك تحاول أن تقوى نفسك في مواجهته. قالوا : حين أنهاه عن الباطل وأعطفه ناحية الحق، فإنه يقوى يقينه في شيء ينفعه، وكأنه كان منتفشا آخذا حيزا أكبر من حجمه بالباطل الذي كان عليه، فأنا قويته بالحق.
وفي العامية نقول ( فلان منفوخ على الفاضي ) أو نقول ( فلان نافش ريشه ) كأنه أخذ حيزا أكبر من حجمه.
لذلك نلحظ أن التغلب في الجدل لا يكون لمجرد الجدل، إنما تغلبك لحق ينفع الغير ويقويه ويرده إلى حجمه الطبيعي.
أو : أن الجدل مأخوذ من الجدال وهي الأرض، كأن يطرح القوي الضعيف أرضا في صراع مثلا.
والجدال يكون بين شخصين، لكل منهما رأيه الذي يألفه ويحبه ويقتنع به، فحين تجادله تريد أن تخرجه عن رأيه الذي يألف إلى رأيك الذي لا يألفه ولم يعتده، فأنت تجمع عليه أمرين : أن تخرجه عما ألف واعتاد إلى ما لم يألف، فلا يكن ذلك بأسلوب يكرهه حتى لا تجمع عليه شدتين.
فعليك إذن باللين والاستمالة برفق ؛ لأن النصح ثقيل كما قال شوقي رحمه الله : فلا تجعله جبلا، ولا ترسله جدلا، وعادة ما يظهر الناصح أنه أفضل من المنصوح، ويقولون : الحقائق مرة، فاستعيروا لها خفة البيان ؛ لأنك تخرج خصمك عما ألف، فلا تخرجه عما ألف بما يكره، بل بما يحب.
والإنسان قد يعبر عن الحقيقة الواحدة تعبيرا يكره، ويعبر عنها تعبيرا يحب وترتاح إليه، كالملك الذي رأى في منامه أن كل أسنانه قد سقطت، فطلب من يعبر له ما رأى، فجاءه المعبر واستمع منه، ثم قال : معنى هذه الرؤيا يا مولاي أن أهلك جميعا سيموتون، فتشاءم من هذا التعبير ولم يعجبه، فأرسلوا إلى آخر فقال : هذا يعني أنك ستكون أطول أهل بيتك عمرا، فسر الملك بقوله. فهنا المعنى واحد، لكن أسلوب العرض مختلف.
ودخل رجل على آخر، فوجده يبكي فقال : ما يبكيك ؟ قال : أخذت ظلما، فتعجب وقال : فكيف بك أخذت عدلا ؟ أكنت تضحك. والمعنى أن من أخذ ظلما لا ينبغي له أن يحزن ؛ لأنه لم يفعل شيئا يشينه، والأولى بالبكاء من أخذ عدلا وبحق.
ورجل قتل له عزيز فجلس يصرخ ويولول، فدخل عليه صاحبه مواسيا فقال له الرجل : إن ابني قتل ظلما، فقال صاحبه : الحمد لله الذي جعل منك المقتول، ولم يجعل منك القاتل.
إذن : سلامة المنطق وخفة البيان أمر مهم، وعلى المجادل أن يراعي بيانه، وأن يتحين الفرصة المناسبة، فلا تجادل خصمك وهو غضبان منك أو وأنت غضبان منه. قالوا : مر رجل فوجد صبيا يغرق في البحر، فلم ينتظر حتى يخلع ثيابه، وألقى بنفسه وأنقذ الصبي، ثم أخذ يضربه ويلطمه، والولد يقول : شكرا لك بارك الله فيك، لماذا ؟ لأنه قسا عليه بعد أن أنقذه، لكن ما الحال لو وقف على البر، وكال له الشتائم وعنفه، لماذا ينزل البحر وهو لا يعرف العوم ؟ لذلك يقول الحكماء : آس ثم انصح.
لذلك يعلمنا ربنا – عز وجل – أصول الجدل وآدابه ؛ لأنه يريد أن يخرج بهذا الجدل أناسا من الكفر إلى الإيمان، ومن الجحود إلى اليقين، وهذا لا يتأتى إلا باللطف واللين، كما قال سبحانه :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.. ١٢٥ ﴾ [ النحل ]
ويعلمنا سبحانه أن للجدل مراتب بحسب حالة الخصم، فالذي ينكر وجود الله له جدل مخصوص، والذي يؤمن بوجود الله ويقول : إن معه شريكا. له جدل آخر، ومن يؤمن بالله ويقول سأتبع نبيي ولن أتبعك له جدل آخر وبشكل خاص، والمختلفون معك من أهل ملتك لهم جدل يليق بحالهم.
إذن : للجدل مراتب نلحظها في أسلوب القرآن، فبم جادل الذين لا يؤمنون بوجود إله ؟ قال :﴿ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ٣٥ أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون٣٦ ﴾ [ الطور ]
فأتى لهم بمسألة الخلق الظاهرة التي لم يدعها أحد، ولا يجرؤ أحد على إنكارها، حتى المشركون والملاحدة ؛ لأن أتفه الأشياء في صناعاتهم يعرفون صانعها، ويقرون لع بصنعته، ولو كانت كوبا من زجاج أو حتى قلم رصاص، لا بد أن لكل صنعة صانعا يناسبها.
أليس من خلق السموات والأرض والشمس والقمر.. إلخ أولى بأن يعترفوا له سبحانه بالخلق ؟ وهم أنفسهم مخلوقون ولم يقولوا إنا خلقنا أنفسنا، ولم يقولوا خلقنا غيرنا، فمن خلقهم إذن ؟
وقلنا : إن الدعوى تثبت لصاحبها ما لم يقم لها معارض، والحق – سبحانه وتعالى – قال علانية، وعلى لسان رسله، وفي قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وأسمع الجميع : أنا خالق هذا الكون. فإن قال معاند : فمن خلق الله ؟ نقول : الذي خلقه عليه أن يعلن عن نفسه.
والحق سبحانه شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو ﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو.. ١٨ ﴾[ آل عمران ] ولم يقل أحد أنا الإله. إذن : الذين ينكرون الخالق لا حق لهم. هذا في جدال الملاحدة الذين ينكرون وجود الله.
أما الذين يؤمنون بوجود الله، لكن يتحذون معه سبحانه شركاء، فنجادلهم على النحو التالي : شركاؤكم مع الله غيب أو شهادة ؟ إن قالوا : غيب فإن الله تعالى شهد لنفسه بالوحدانية. وقال : أنا واحد لا شريك لي، فأين كان شركاؤكم ؟
لماذا لم يدافعون عن ألوهيتهم مع الله ؟ إما لأنهم ما دروا بهذا الإعلان، وإما أنهم دروا وعجزوا عن المواجهة، وفي كلتا الحالتين تنتفي عنهم صفة الألوهية، فأي إله هذا الذي لا يدري بما يدور حوله، أو يجبن عن مواجهة خصمه ؟
فإن قالوا : شركاؤنا الأصنام والأشجار والكواكب وغيرها، فهذه من صنع أيديهم، فكيف يعبدونها، ثم هي آلهة لا منهج لها ولا تكاليف، وإلا فبماذا أمرتهم وعم نهتهم ؟ إذن : عبادتهم لها باطلة.
ثم نسأل الذين يتخذون مع الله شركاء : أهؤلاء الذين تشركونهم مع الله يتواردون على الأشياء بقدرة واحدة، أم يتناوبون عليها، كل منهم يقدر على شيء معين ؟
إن كانوا يزاولون الأشياء بقدرة واحدة، فواحد منهم يكفي والباقون لا فائدة منهم، وإن كانوا يتناوبون على الأشياء، فكل منهم قادر على شيء عاجز عن الشيء الآخر، والإله لا يكون عاجزا.
وقد رد الحق سبحانه على هؤلاء بقوله تعالى :﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا٤٢ ﴾[ الإسراء ] أي : لذهبوا إليه إما ليعنفوه ويصفوا حساباتهم معه، وكيف أخذ الأمر لنفسه، وإما ليتوددوا إليه ويعاونوه.
وفي موضع آخر :﴿ إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض.. ٩١ ﴾[ المؤمنون ]
وبعد أن بينا جدال الملاحدة الذين ينكرون وجود الإله وجدال أهل الشرك نجادل أهل الكتاب، وهم ألطف من سابقيهم ؛ لأنهم مؤمنون بإله وأنه الخالق، ومؤمنون بالبلاغ عن الله، ومؤمنون بالكتب التي نزلت، والخلاف بيننا وبينهم أنهم لا يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم في حين نؤمن نحن برسلهم وكتبهم، وهذه أول ميزة تميز بها الإسلام على الأديان الأخرى.
ونقول لهؤلاء : لقد آمنت برسولك، وقد سبقه رسل، فلماذا تنكر أن يأتي رسول بعده ؟ ثم هل جاء الرسول بعد رسولك ليناقضه في أصول الأشياء ؟ إنهم جميعا متفقون على أصول العقيدة والأخلاق، متفقون على أنهم عباد لله متحابون، فلماذا تختلفون أنتم ؟
فربنا – تبارك وتعالى – يعلمنا ﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.. ٤٦ ﴾ [ العنكبوت ] لأنهم ليسوا ملاحدة ولا مشركين، فهم مؤمنون بإلهكم وبالرسل وبالكتب، غاية ما هنالك أنهم لا يؤمنون برسولكم.
لذلك يعترض بعض الناس : كيف يبيح الإسلام أن يتزوج المسلم من كتابية، ولا يبيح للمسلمة أن تتزوج كتابيا ؟ نقول : لأن أصل القوامة في الزواج للرجل، والزوج المؤمن حين يتزوج كتابية مؤمن برسولها، أما الزوج الكتابي فغير مؤمن برسول المؤمنة، فالفرق بينهما كبير.
معنى :﴿ إلا بالتي هي أحسن.. ٤٦ ﴾[ العنكبوت ] أن في الجدال حسنا وأحسن، وقد سبق الجدال الحسن في قوله تعالى :﴿ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين٢٤ ﴾[ سبأ ] ونوح عليه السلام يتلطف في جدال قومه، فيقول :﴿ قل إن اقتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون٣٥ ﴾ [ هود ]
فينسب الافتراء إلى نفسه، ويتهم نفسه بالإجرام إن افترى، فإن لم يكن هو المفتر، وهو المجرم فهم.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول في جدال قومه :﴿ قل تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون٢٥ ﴾[ سبأ ] فيذكر صلى الله عليه وسلم الجريمة في حقه هو ولا يذكرها في حق المعاندين المكذبين، فأي أدب في الدعوة أرفع من هذا الأدب ؟
إذن : جادل غير المؤمنين بالحسن، وجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن، لما يمتازون به عن غيرهم من ميزة الإيمان بالله. فإن تعدوا وظلموا أنفسهم في مسألة القمة الإيمانية، فادعوا أن لله ولدا أو غيره، فإنهم بذلك يدخلون في صفوف سابقيهم من المشركين، فإن كنا مأمورين بأن نجادلهم بالتي هي أحسن وقالوا بهذا القول، فعلينا أن نجادلهم بما يقابل الأحسن، نجادلهم إما بالحسن، وإما بغير الحسن أي : بالسيف.
لكن، هل يفرض السيف عقائد ؟ السيف لا يأخذ من الناس إلا قوالبهم.
أما القلوب فلا يخضعها إلا الإيمان، والله تعالى لا يريد قوالب، إنما يريد قلوبا.
واقرأ قوله تعالى في سورة الشعراء :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ٣ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ٤ ﴾[ الشعراء ] فإن أراد سبحانه قهر القوالب والقلوب على الخضوع، بحيث لا يستطيع أحد أن يتأبى على الإيمان ما وجد كافر، وما كفر الكافر إلا لما أعطاه الله من منطقه الاختيار ؛ فالحق سبحانه يريد منا قلوبا تحبه سبحانه وتعبده ؛ لأنه سبحانه يستحق أن يعبد.
إذن : الذين يخرجون عن نطاق الكتابية بتجاوزهم الحد، وقولهم أن عيسى ابن الله، أو أن الله ثالث ثلاثة، إنما يدخلون في نطاق الشرك والكفر، ولن نقول لهؤلاء : اتبعوا رسولنا، وإنما اتبعوا رسولكم، والكتاب الذي جاءكم به من عند الله ؛ وسوف تجدون فيه البشارة بمحمد ﴿ الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
((اختلف العلماء في قوله تعالى {ولا تجادلوا أهل الكتاب.. ٤٦﴾ [العنكبوت]
فقال مجاهد: هي محكمة، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل، والتنبيه على حججه وآياته، رجاء إجابتهم إلى الإيمان، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة.
وقيل: هذه الآية منسوخة بآية القتال قوله تعالى ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله.. ٢٩﴾[التوبة])).
ثم قال القرطبي: ((قول مجاهد حسن؛ لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخير يقطع العذر، أو حجة من معقول. واختار هذا القول ابن العربي))..
﴿ وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون٤٧ ﴾
قوله تعالى :﴿ وكذلك أنزلنا إليك الكتاب.. ٤٧ ﴾ [ العنكبوت ] أي : كما أنزلنا كتبا على من سبقك أنزلنا إليك كتابا يحمل منهجا، والكتب السماوية قسمان : قسم يحمل منهج الرسول في ( افعل كذا ) و ( لا تفعل كذا )، وذلك شركة في كل الكتب التي أنزلت على الرسل، وكتاب واحد هو القرآن، هو الذي جاء بالمنهج والمعجزة معا.
فكل الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كان للواحد منهم كتاب فيه منهج ومعجزة منفصلة عن المنهج، فموسى عليه السلام كان كتابه التوراة، ومعجزته العصا، وعيسى عليه السلام كان كتابه الإنجيل، ومعجزته إحياء الموتى بإذن الله.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتابه القرآن ومعجزته القرآن، فانظر كيف التقت المعجزة بالمنهج لتظل لصيقة به ؛ لأن زمن رسالة محمد ممتد إلى قيام الساعة، فلا بد أن تظل المعجزة موجودة ليقول الناس محمد رسول الله، وهذه معجزته.
في حين لا نستطيع مثلا أن نقول : هذا عيسى رسول الله وهذه معجزته ؛ لأنها ليست باقية، ولم نعرفها إلا من خلال إخبار القرآن بها، وهذا يوضح لنا فضل القرآن على الرسل وعلى معجزاتهم، حيث ثبتها عند كل من لم يرها، فكل من آمن بالقرآن آمن بها.
لكن، أكل رسول يأتي بمعجزته ؟ المعجزة لا تأتي إلا لمن تحداه، واتهمه بالكذب، فتأتي المعجزة لتثبت صدقه في البلاغ عن ربه ؛ لذلك نجد مثلا أن سيدنا شيثا وإدريس وشعيبا ليست لهم معجزات.
وأبو بكر – رضي الله عنه – والسيدة خديجة أم المؤمنين هل كانا في حاجة إلى معجزة ليؤمنا برسول الله ؟ أبدا، فبمجرد أن قال : أنا رسول الله آمنوا به، فما الداعي للمعجزة إذن ؟
إذن : تميز صلى الله عليه وسلم على إخوانه الرسل بأن كتابه هو عين معجزته. وسبق أن قلنا : إن الحق – تبارك وتعالى – يجعل المعجزة من جنس ما نبغ فيه القوم، فلو تحداهم بشيء لا علم لهم به لقالوا : نحن لا نعلم هذا، فكيف تتحدانا به ؟ والعرب كانوا أهل فصاحة وبيان، وكانوا يقيمون للقول أسواقا ومناسبات، فتحداهم بفصاحة القرآن وبلاغته أن يأتوا بمثله، ثم بعشر سور، ثم بسورة واحدة، فما استطاعوا، والقرآن كلام من جنس كلامهم، وبنفس حروفهم وكلمتاهم، إلا أن المتكلم بالقرآن هو الله تعالى ؛ لذلك يأتي أحد بمثله.
والقرآن أيضا كتاب يهيمن على كل الكتب السابقة عليه، يبقى منها ما يشاء من الأحكام، وينهي ما يشاء. أما العقائد فهي ثابتة لا نسخ فيها، وأيضا لا نسخ في القصص والأخبار.
والنسخ لا يأتي إلا في التشريع بالأحكام افعل ولا تفعل، ذلك لأن التشريع يأتي مناسبا لأدواء البيئات المختلفة.
لذلك كان بعض الرسل يتعاصرون كإبراهيم ولوط، وموسى وشعيب، عليهم السلام، ولكل منهم رسالته ؛ لأنه متوجه إلى مكان بعينه ليعالج فيه داء من الداءات، في زمن انقطعت فيه سبل الالتقاء بين البيئات المختلفة، فالجماعة في مكان ربما لا يدرون بغيرهم في بيئة مجاورة.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء – كما يعلم ربه أزلا – على موعد مع التقاء البيئات وتداخل الحضارات، فالحدث يتم في آخر الدنيا، فنعلم به، بل، ونشاهده في التو واللحظة، وكأنه في بلادنا. إذن : فالداءات ستتحد أيضا، وما دامت داءات الأمم المختلفة قد اتحدت فيكفي لها رسول واحد يعالجها، ويكون رسولا لكل البشر.
ثم يقول سبحانه :﴿ فالذين آتيناهم الكتاب.. ٤٧ ﴾[ العنكبوت ] أي : من قبلك :﴿ يؤمنون به.. ٤٧ ﴾ [ العنكبوت ] لأنه لا سلطة زمنية تعزلهم عن الكتاب الجديد، فينظرون في أوصاف النبي الجديد التي وردت في كتبهم ثم يطابقونها على أوصاف رسول الله ؛ لذلك لما بلغ سلمان الفارسي١أن بمكة نبيا جديدا، ذهب إلى سيدنا رسول الله، وأخذ يتأمله وينظر إليه بإمعان، فوجد فيه علامتين مما ذكرت الكتب السابقة، وهما أنه صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة، فراح ينظر هنا وهناك لعله يرى الثالثة، ففطن إليه رسول الله بما آتاه الله من فطنة النبوة التي أودعها الله فيه، وقال : لعلك تريد هذا، وكشف له عن خاتم النبوة، وهو العلامة الثالثة٢.
ومن لباقة سيدنا عبد الله بن سلام، وقد ذهب إلى سيدنا رسول الله وهو – ابن سلام – على يهوديته – فقال : يا رسول الله، وإن اليهود قوم بهت – يعني يكثرون الجدال دون جدوى – وأخشى إن أعلنت إسلامي أن يسبوني، وأن يظلموني، ويقولوا في فحشا، فأريد يا رسول الله إن جاءوك أن تسألهم عني، فإذا قالوا ما قالوا أعلنت إسلامي، فلما جاء جماعة من اليهود إلى رسول الله سألهم : ما تقولون في عبد الله بن سلام ؟ قالوا : شيخنا وحبرنا وسيدنا.. إلخ فقال عبد الله : أما وقد قالوا في ما قالوا : يا رسول الله، فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقالوا لتوهم : بل أنت شرنا وابن شرنا، ونالوا منه، فقال عبد الله : ألم أقل لك يا رسول الله أنهم قوم بهت٣ ؟
وقوله سبحانه ﴿ ومن هؤلاء من يؤمن به.. ٤٧ ﴾ [ العنكبوت ] أي : من كفار مكة من سيأتي بعد هؤلاء، فيؤمن بالقرآن ﴿ وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون٤٧ ﴾[ العنكبوت ] الجحد : إنكار متعمد ؛ لأن من الإنكار ما يكون عن جهل مثلا، والجحد يأتي من أن النسب إما نفى، وإما إثبات، فإن قال اللسان نسبة إيجاب، وفي القلب سلب أو قال سلب وفي القلب إيجاب، فهذا ما نسميه الجحود.
لذلك يفرق القرآن بين صيغة اللفظ ووجدانيات اللفظ في النفس، واقرأ مثلا قول الله تعالى :﴿ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله.. ١ ﴾[ العنكبوت ] وهذا منهم كلام طيب وجميل ﴿ والله يعلم إنك لرسوله.. ١ ﴾[ المنافقون ] أي : أنه كلام وافق علم الله، لكن ﴿ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون١ ﴾ [ المنافقون ] فكيف يحكم الحق عليهم بالكذب، وقد قالوا ما وافق علم الله ؟
نقول : كلام الله يحتاج إلى تدبر لمعناه، فالحق يحكم عليهم بأنهم كاذبون، لا في قولهم : إنك لرسول الله، فهذه حق، بل في شهادتهم ؛ لأنها شهادة باللسان لا يوافقها اعتقاد القلب، فالمشهود به حق، لكن الشهادة كذب.
لكن، لماذا خص الكافرين في مسألة الجحود ؟ قالوا : لأن غير الكافر عنده يقظة وجدان، فلا يجرؤ على هذه الكلمة ؛ لأنه يعلم أن الله تعالى لا يأخذ الناس بذونبهم الآن، إنما يؤجلها لهم ليوم الحساب، فهذه المسألة تحجزهم عن الجحود.
٢ ذكر البيهقي قصة إسلام سلمان الفارسي في كتاب دلائل النبوة في ١٨ صفحة (١/٨٢-١٠٠) وفيه أنه عندما قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى أنه يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة دار خلف رسول الله، يقول سلمان: ((ففطن لي النبي صلى الله عليه وسلم فأرخى ثوبه، فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر فتبينته، ثم درت حتى جلست بين يديه فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله))..
٣ أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٢/٥٢٦-٥٢٩)، والبخاري في صحيحه (٣٩١١) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه..
وفرق بين أن تقرأ، وبين أن تكتب، فقد تقرأ لأنك تحفظ، وتحفظ نتيجة السماع، كإخواننا الذين ابتلاهم الله بكف نظرهم ويقرأون، إنما يقرأون ما سمعوه ؛ لأن السمع كما قلنا أول حاسة تؤدي مهمتها في الإنسان، فمن الممكن أن تحفظ ما سمعت، أما أن تكتبه فهذا شيء آخر.
والكلام هنا لون من ألوان الجدل والإقناع لكفار قريش الذين يكذبون رسول الله، ولون من ألوان التسلية لرسول الله، كأنه يقول سبحانه لرسوله : اطمئن. فتكذيب هؤلاء لك افتراء عليك ؛ لأنك ما تلوت قبله كتابا ولا كتبته بيمينك، وهم يعرفون سيرتك فيهم.
كما قال سبحانه في موضع آخر :﴿ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون١٦ ﴾ [ يونس ]
أربعون سنة قضاها رسول الله بين قومه قبل البعثة، ما جربوا عليه قراءة ولا كتابة ولا خطبة، ولا نمق قصيدة، فكيف تكذبونه الآن ؟
فإن قالوا : كانت عبقرية عند محمد أجلها حتى سن الأربعين. نقول : العبقرية عادة ما تأتي في أواخر العقد الثاني من العمر في السابعة عشرة، أو الثامنة عشرة، ومن ضمن لمحمد البقاء حتى سن الأربعين، وهو يرى مصارع أهله، جده وأبيه وأمه ؟
لو كان عندك شيء من القراءة أو الكتابة لكان لهم عذر، ولكان في الأمر شبهة تدعو إلى الارتياب في أمرك، كما قالوا :﴿ أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا٥ ﴾[ الفرقان ]
وقالوا :﴿ إنما يعلمه بشر.. ١٠٣ ﴾[ النحل ] فرد القرآن عليهم١﴿ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين١٠٣ ﴾[ النحل ]
وقالوا : ساحر. وقالوا : شاعر. وقالوا : مجنون. وكلها افتراءات وأباطيل واهية يسهل الرد عليها، فإن كان ساحرا، فلماذا لم يسحركم أنتم أيضا وتنتهي المسألة ؟ وإن كان شاعرا فهل جربتم عليه أن قال شعرا قبل بعثته ؟
وإن قلتم مجنون، فالجنون فقد العقل، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يختار بين البدائل، فهل جربتم على محمد شيئا من ذلك ؟ وكيف يكون المجنون على خلق عظيم بشهادتكم أنتم أنه الصادق الأمين، فعنده انضباط في الملكات وفي التصرفات، فكيف تتهمونه بالجنون ؟
وكلمة ﴿ من قبله.. ٤٨ ﴾[ العنكبوت ] لها عجائب في كتاب الله منها هذه الآية :﴿ وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك.. ٤٨ ﴾ [ العنكبوت ] فيقول بعض العارفين ( من قبله ) : أي من قبل نزول القرآن عليك، وهذا القول ﴿ من قبله.. ٤٨ ﴾[ العنكبوت ] يدل على أنه من الجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم كيف يقرأ وكيف يكتب بعد نزول القرآن عليه، حتى لا يكون في أمته من هو أحسن حالا منه في أي شيء، أو في خصال الخير٢.
ثم تأمل قوله تعالى :﴿ فلم تقتلون أنبياء الله من قبل.. ٩١ ﴾[ البقرة ] بالله لو جاءت هذه الآية بدون كلمة ( من قبل ) ألا يدخل في روع رسول الله أنهم ربما يجترئون عليه فيقتلوه، فيتهيب منهم، أو يدخل في نفوسهم هم، فيتجرئون عليه كما قتلوا الأنبياء من قبل ؛ لذلك جاءت الآية لتقرر أن هذا كان في الماضي، أما الآن فلن يحدث شيء من هذا أبدا، ولن يمكنكم الله من نبيه.
وكلمة ﴿ وما كنت.. ٤٨ ﴾[ العنكبوت ] تكررت كثيرا في كتاب الله، ويسمونها ( ماكنات القرآن ) وفيها دليل على أن القرآن خرق كل الحجب في الزمن الماضي، والحاضر، والمستقبل.
كما في قوله تعالى :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر.. ٤٤ ﴾
[ القصص ]
وقوله تعالى :﴿ وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا.. ٤٥ ﴾ [ القصص ]
وقوله تعالى :﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم.. ٤٤ ﴾ [ آل عمران ]
وهنا :﴿ وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك.. ٤٨ ﴾[ العنكبوت ]
لذلك وصفه ربه – عز وجل – بأنه ﴿ الرسول النبي الأمي.. ١٥٧ ﴾[ الأعراف ] وإياك أن تظن أن الأمية عيب في رسول الله، فإن كانت عيبا في غيره، فهي فيه شرف ؛ لأن معنى أمي يعني على فطرته كما ولدته أمه، لم يتعلم شيئا من أحد، وكذلك رسول الله لم يتعلم من الخلق، إنما تعلم من الخالق فعلت مرتبة علمه عن الخلق.
ومن ذلك المكانة التي أخذها الإمام علي – رضي الله عنه – في العلم والإفتاء حتى قال عنه عمر رضي الله عنه – مع ما عرف عن عمر من سداد الرأي حتى إن القرآن لينزل موافقا لرأيه، ومؤيدا لقوله – يقول عمر : بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن٣. لماذا ؟
لأنه كان صاحب حجة ومنطق وصاحب بلاغة، ألم يراجع الفاروق في مسألة المرأة التي ولدت لستة أشهر من زوجها، وعمر٤ يريد أن يقيم عليها الحد ؛ لأن الشائع أن مدة الحمل تسعة أشهر فتسرع البعض وقالوا : إنها سبق إليها، لكن يكون للإمام على رأي آخر، فيقول لعمر : لكن الله يقول غير هذا، فيقول عمر : وما ذلك ؟ قال : ألم يقل الحق سبحانه وتعالى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين.. ٢٣٣ ﴾[ البقرة ] قال : بلى.
قال : ألم يقل :﴿ وحملته وفصاله ثلاثون شهرا.. ١٥ ﴾[ الأحقاف ] وبطرح العامين من ثلاثين شهرا يكون الباقي ستة أشهر، فإذا ولدت المرأة لستة أشهر، فهذا أمر طبيعي لا ارتياب فيه٥.
وفي يوم دخل حذيفة على عمر رضي الله عنهما – فسأله عمر : كيف أصبحت يا حذيفة ؟ فقال حذيفة : يا أمير المؤمنين، أصبحت أحب الفتنة، وأكره الحق، وأصلي بغير وضوء، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء.
فغضب عمر، وهم أن يضربه بدرة في يده، وهندها دخل علي فوجد عمر مغضبا فقال : مالي أراك مغضبا يا أمير المؤمنين ؟ فقص عليه ما كان من أمر حذيفة، فقال علي :
نعم يا أمير المؤمنين يحب الفتنة ؛ لأن الله تعالى قال :﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة.. ١٥ ﴾ [ التغابن ]
ويكره الحق أي : الموت فهو حق لكنا نكرهه، ويصلي على النبي بغير وضوء، وله في الأرض ولد وزوجة، وليس ذلك لله في السماء. فقال عمر قولته المشهورة : بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن.
فلماذا تميز علي بهذه الميزة من العلم والفقه والحجة ؟ لأنه تربى في حجر النبوة فاستقى من تبعها، وترعرع في أحضان العلوم الإسلامية منذ نعومة أظافره، ولم يعرف شيئا من معلومات الجاهلية، فلما تتفاعل عنده العلوم الإسلامية لا تلد إلا حقا.
ثم يقول سبحانه ﴿ إذا.. ٤٨ ﴾[ العنكبوت ] يعني : لو حصل منك قراءة أو كتابة ﴿ لارتاب المبطلون٤٨ ﴾[ العنكوت ] أي : لكان لهم عذر ووجهة نظر في الارتياب، والارتياب لا يعني مجرد الشك، إنما شك باتهام أي : يتهمون رسول الله بأنه كان على علم بالقراءة والكتابة ؛ لذلك وصفعم بأنهم مبطلون في اتهامهم له صلى الله عليه وسلم.
٢ قال القرطبي في تفسيره (٧/٥٢٤١): ((ذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب، وأسند أيضا حديث أبي كبشة السلولي، مضمنه: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ صحيفة لعيينة بن حصن وأخبر بمعناها. قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف)). ثم قال (٧/٥٢٤٣): ((الصحيح في الباب أنه ما كتب ولا حرفا واحدا، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجي))..
٣ أخرج الحاكم في مستدركه (١/٤٥٧)، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال: ((حججنا مع عمر رضي الله عنه، فلما دخل الطواف استقبل الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع)) وهو حديث طويل وفيه أن عمر رضي الله عنه قال: ((أعوذ بالله تعالى أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن))..
٤ ذكر الجصاص في أحكام القرآن (٣/٥١٧) أن هذا حدث في زمان عثمان بن عفان ولكن يبدو أنهما حادثتان وقعتا في عهد كل من عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان، فقد ذكر ابن قدامة المقدسي في كتابه ((المغنى)) (٩/١١٥) أنه كان في عهد عمر واستشهد بما رواه الأثرم بإسناده عن أبي الأسود وذكر القصة..
٥ عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان فذكر ذلك له فبعث إليها فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها فقالت: وما يبكيك؟ فو الله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضي الله سبحانه فيما شاء، فلما أتى بها عثمان أمر برجمها فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تماما لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له علي رضي الله عنه: أما تقرأ القرآن؟ بلى. قال: أما سمعت الله عز وجل يقول ﴿وحمله وفصاله ثلاثون شهرا.. ١٥﴾[الأحقاف] وقال ﴿حولين كاملين... ٢٣٣﴾[البقرة] فلم نجده بقي إلا ستة أشهر، فقال عثمان: والله ما فطنت بهذا، علي بالمرأة، فوجدوها قد فرغ منها. أورده ابن كثير في تفسيره (٤/١٥٧)..
لذلك يقول تعالى عن القرآن :﴿ نزل به الروح الأمين١٩٣ على قلبك.. ١٩٤ ﴾[ الشعراء ] فقال ﴿ على قلبك... ١٩٤ ﴾[ الشعراء ] أي : مباشرة استقر في قلبه، ولم يقل على أذنك.
{ وقالوا لولا أنزل عليه آيات١ من ربه قل
إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين٥٠ }
أي : بعد أن جاءهم القرآن وبعد أن أعجزهم يطلبون آيات أخرى، وسبق أن قلنا : إن الحق سبحانه كان إذا اقترح القوم آية من رسولهم فأجابهم إلى ما طلبوا، فإن كذبوا بعدها أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
واقرأ مثلا قوله سبحانه :﴿ وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها.. ٥٩ ﴾[ الإسراء ] فلما كذبوا بالآية التي طلبوها أهلكهم الله ؛ لأن المسألة إذن ليست مسألة آيات وإقناع، إنما هي الإصرار على الكفر، إذن : فطلب الإنزال لآية خاصة باقتراحهم ليس مانعا لهم أن يكفروا أيضا برسول الله.
لذلك يقول سبحانه :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات.. ٥٩ ﴾[ الإسراء ] أي : التي اقترحوها ﴿ إلا أن كذب بها الأولون.. ٥٩ ﴾ [ الإسراء ] وحين تنزل الآية ويكذبون بها تنزل بهم عقوبة السماء، لكن الحق – سبحانه وتعالى – قطع العهد لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ألا يعذب أمته وهو فيهم، كما قال سبحانه :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون٣٣ ﴾[ الأنفال ]
فهذا هو السبب المانع من أن تأتي الآية المقترحة، ثم إن الآيات المقترحة آيات كونية تأتي وتذهب، كما تشعل عود الثقاب مرة واحدة، ثم ينطفئ، رآه من رآه، وأصبح خبرا لمن لم يره.
وكلمة ﴿ لولا.. ٥٠ ﴾ [ العنكبوت ] تستخدم في لغة العرب استخدامين : إن دخلت على الجملة الاسمية مثل : لولا زيد عندك لزرتك، وهي هنا حرف امتناع لوجود، فقد امتنعت الزيارة لوجود زيد. وإن دخلت على الجملة الفعلية مثل : لولا تذاكر دروسك، فهي للحض وللحث على الفعل.
فقولهم ﴿ لولا أنزل عليه آيات من ربه.. ٥٠ ﴾[ العنكبوت ] كأن الآية التي جاءتهم من عند الله لا يعترفون بها، ثم يناقضون أنفسهم حينما يقولون :
﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم٣١ ﴾[ الزخرف ]
إذن : أنتم معترفون بالقرآن، مقتنعون به، لكن ما يقف في حلوقكم أن ينزل على محمد من بين الناس جميعا. ثم نراهم يناقضون أنفسهم في هذه أيضا، ويعترفون من حيث لا يشعرون بأن محمدا رسول الله حينما قالوا :
﴿ لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا.. ٧ ﴾[ المنافقون ]فما دمتم تعرفون أنه رسول الله، فلماذا تعادونه ؟ إذن : فالبديهة الفطرية تكذبهم، ينطق الحق على ألسنتهم على حين غفلة منهم.
ويرد الحق – تبارك وتعالى – عليهم :﴿ قل إنما الآيات عند الله.. ٥٠ ﴾[ العنكبوت ] فهي عند الله، ليست عندي، وليست بالطلب حسب أهوائكم ﴿ إنما أنا نذير مبين٥٠ ﴾ [ العنكبوت ] أي : هذه مهمتي، واختار الإنذار مع أنه صلى الله عليه وسلم بشير ونذير، لكن خصهم هنا بالإنذار ؛ لأنهم أهل لجاج، وأهل باطل وجحود، فيناسبهم كلمة الإنذار دون البشارة.
{ أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب
يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة
وذكرى لقوم يؤمنون٥١ }
والاستفهام هنا للتعجب وللإنكار، يعني : كيف لا يكفيهم القرآن ولا يقنعهم وهو أعظم الآيات، وقد أعجزهم أن يأتوا ولو بآية من آياته، وجاءهم بالكثير من العبر والعجائب ؟ إذن : هم يريدون أن يتمحكوا، وألا يؤمنوا، وإلا لو أنهم طلاب حق باحثون عن الهداية لكفاهم من القرآن آية واحدة ليؤمنوا به.
وقوله تعالى :﴿ يتلى عليهم.. ٥١ ﴾[ العنكبوت ] لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي بعدة آيات، وقد يطول إلى ربعين أو ثلاثة أرباع، فلما أن يسري عنه يتلو ما نزل عليه على صحابته ليكتبوه، يتلوه كما أنزل عليه، فيكتبه الكتبة، ويحفظه من يحفظه منهم، وكانوا أمة رواية وأمة حفظ.
ثم يأتي وقت الصلاة فيصلي بهم رسول الله بما نزل عليه من الآيات، يعيدها كما أملاها، وهذه هبة ربانية منحها لرسوله صلى الله عليه وسلم، وخاطبه بقوله :﴿ سنقرئك فلا تنسى٦ ﴾ [ الأعلى ]
وإلا، فلك أن تتحدى أكثر الناس حفظا أن يعيد عليك خطبة أو كلمة ألقاها على مدى نصف ساعة مثلا، ثم يعيدها عليك كما قالها في المرة الأولى.
ثم يقول سبحانه :﴿ إن في ذلك لرحمة وذكرى.. ٥١ ﴾ [ العنكبوت ] لكن لمن﴿ لقوم يؤمنون٥١ ﴾( العنكبوت ) ؛ لأن القرآن لا يثمر إلا فيمن يحسن استقباله ويؤمن به، أما غير المؤمنين فهو في آذانهم وقر وهو عليهم عمى، لا يفقهونه ولا يتدبرونه ؛ لأنهم يستقبلونه لا بصفاء نفس، وإنما ببغض وكراهية استقبال، فلا ينالون نوره ولا بركته ولا هدايته.
لذلك يقول تعالى في الذين يحسنون استقبال كلام الله :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء.. ٤٤ ﴾ [ فصلت ]
أما الذين يجحدونه ولا يحسنون استقباله، فيقول عنهم :﴿ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى.. ٤٤ ﴾ [ فصلت ]
وسبق أن قلنا : إن الفعل واحد، لكن المستقبل مختلف، ومثلنا لذلك بمن ينفخ في يده ليدفئها في البرد، ومن ينفخ في الشاي ليبرده، وأنت أيضا تنفخ في الشمعة لتطفئها، وتنفخ في النار لتشعلها.
وفي موضع آخر يقول تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.. ٨٢ ﴾[ الإسراء ]، ففرق بين الشفاء والرحمة، الشفاء يعني : أنه كانت هناك علة، فبرأت، لكن الرحمة ألا تعاودك العلة، ولا يأتيك الداء مرة أخرى، فالقرآن نزل ليعالج الداءات النفسية، يعالجها بالقراءة ويحصنك ضدها فلا تصيبك، وإن وقعت في شيء من هذه الداءات فاقرأ ما جاء فيها من القرآن، فإنها تبرأ بإذن الله، إذن : الشفاء يعالج الداء إن وقع في غفلة من سلوك النفس.
ولو طبقنا قضايا القرآن في نفوسنا لنالتنا هذه الرحمة، فالإنسان بدن وقيم ومعان وأخلاق، هذه المعاني في الإنسان يسمونها النفسيات، فقد يكون سليم البنية والجسم لكنه سقيم النفس ؛ لذلك نجد بين تخصصات الطب الطب النفسي، وكل مريض لا يجدون لمرضه سببا عضويا يشخصونه على أنه مرض نفسي، وحين تسأل الطبيب النفسي تجد أن كل ما عنده عقاقير تهديء المريض أو تهده فينام حتى لا يفكر في شيء، وهل هذا هو العلاج ؟
ولو تأملنا كتاب ربنا لوجدنا فيه العلاجين : العضوي والنفسي، فسلامة الجسم في أن الله تعالى أحل لك أشياء، وحرم عليك أشياء، وما عليك إلا أن تستقيم على منهج ربك فتسلم من داءات الجسد، فإن كنت من هؤلاء الذين يحبون الأكل من الحلال لكنهم يبالغون فيه إلى حد التخمة، فاقرأ في القرآن : يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين٣١ [ الأعراف ]
ثم تجد في السنة النبوية مذكرة تفسيرية لهذه الآية :( ( بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبة، فإن كان ولا بد : فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه ) )٢.
فالأصل أن يأكل الإنسان ليعيش، لا أن يعيش ليأكل. وبعض السطحيين يقولون : ما معنى ( ( ثلث لنفسه ) )، وهل النفس في المعدة ؟ والآن، ومع تطور العلوم عرفنا أن تخمة البطن تضغط على الحجاب الحاجز وتضيق مجال الرئة فينتج عن ذلك ضيق في النفس.
أما الناحية النفسية، فالمرض النفسي ناتج إما عن انقباض الجوارح عن طبيعة تكوينها، أو انبساطها عن طبيعة تكوينها، كالبيضة مثلا لها حجم معين فإن ضيقت هذا الحجم أو بسطته تنكسر.
وهذا أيضا أساس الداء في النفس البشرية ؛ لأن ملكات النفس ينبغي أن تظل في حالة توازن واستواء، وتجد هذا التوزان في منهج ربك – عز وجل – حيث يقول سبحانه :﴿ لكيلا تأسوا٣على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم.. ٢٣ ﴾ [ الحديد ]
فمعنى :﴿ لكيلا تأسوا على ما فاتكم.. ٢٣ ﴾[ الحديد ] الانقباض ﴿ ولا تفرحوا بما آتاكم.. ٢٣ ﴾[ الحديد ] الانبساط. وكلامهما مذموم منهى عنه، لكن من ذا الذي لا يأسى على ما فات، ولا يفرح بما هو آت ؟
لذلك نجد البلداء الذين لا تهزهم الأحداث بصحة قوية ؛ لأنهم لا يتهمون للخطوب، حتى أن الشعراء لم يفتهم هذا المعنى، حيث يقول أحدهم٤ :
وفي البلادة ما في العزم من جلد***إن البليد قوي النفس عاتيها
فاسأل أولي العزم إن خارت عزائمهم***عن البلادة هل مادت رواسيها ؟
فالذي تظنه بلادة هو عزم قوي في استقبال الأحداث والصمود لها.
إذن : الرحمة في منهج الله إن التزمنا به نأمن من الأدواء، مادية كانت أم معنوية.
٢ عن المقدام بن معدي كرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)) أخرجه الترميذي في سننه (٢٣٨٠)، وابن ماجة في سننه (٣٣٤٩)..
٣ أسيت عليه أسى: والأسى: الحزن. وأسيت لفلان: حزنت له. [لسان العرب – مادة: أسى]..
٤ من شعر الشيخ رضوان الله عليه..
السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل
وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون٥٢ }
( قل ) أي : للمنكرين لك ﴿ كفى بالله بيني وبينكم شهيدا.. ٥٢ ﴾[ العنكبوت ] أي : حسبي أن يشهد الله لي بأني بلغت، فشهادتكم عندي لا تنفع، كما أنه لا ينفعني إيمانكم، ولا يضرني كفركم، فأجري آخذه من ربي على مجرد البلاغ وقد بلغت، وشهد الله لي بذلك.
وفي موضع آخر يقول سبحانه :﴿ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم.. ٤٣ ﴾[ الرعد ] أي : أنكم لم تكتفوا بالآيات، ولم تؤمنوا بها، لكني أكتفي برب هذه الآيات شهيدا بيني وبينكم، إذن : هناك خصومة في البلاغ بين محمد صلى الله عليه وسلم وقومه الذين يكذبونه في البلاغ عن ربه.
فلا بد إذن من فصل في هذه الخصومة، وإذا ما نظرنا إلى قضايا الخلق في الخصومات وجدنا إما أن يقر المتهم، وإما أن يشهد شاهد حق لا يشاهد زور، ثم يعرض الأمر على القاضي ليحكم بالشهادة أو البينة.
ولابد في القاضي ألا يكون صاحب هوى، ثم يأتي دور تنفيذ الحكم، وهي السلطة التنفيذية، وهذه أيضا ينبغي ألا يكون لها هوى، فتنفذ الحكم على حقيقته، فكأن الخصومات عند البشر تمر بمراحل متعددة، وقد تتميع الحقائق إذا لم تتوفر الشروط اللازمة لهذه الأطراف، فلو شهد الشاهد زورا أو مال القاضي أو المنفذ للحكم ودلس في التنفيذ لانقلبت المسائل.
أما حكومة الحق- سبحانه وتعالى – في الخصومة بين محمد وقومه، فكفى به سبحانه حاكما وقاضيا ومنفذا، لماذا ؟ لأنه سبحانه :﴿ يعلم ما في السماوات والأرض.. ٥٢ ﴾ [ العنكبوت ]
فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يعلم السر وأخفى، فأي شهادة إذن أعدل من شهادته ؟ وهو سبحانه قاض عادل يحكم بالحق ؛ لأنه ليس له سبحانه هوى يميل به إلى الباطل، وهو سبحانه لا يبدل في تنفيذ الأحكام ؛ لأنه ينفذ حكمه هو سبحانه.
إذن : من الفائز في حكومة قاضيها الحق – تبارك وتعالى – وأطراف الخصومة فيها محمد وقومه ؟ فاز رسول الله في أن يكون الله هو الشهيد، وخسر الكافرون حين كفروا به، ولم تكفهم البينة التي جاءتهم في القرآن الكريم.
وعلم الله للغيب ليس علاجا ومذاكرة ليعلم، إنما تأتي الأمور بتوقيت منه قديم أزلا، والعالم يظهر على وفق ما يراه أزلا ؛ لذلك يقول سبحانه :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون٨٢ ﴾ [ يس ]
أي : يقول للشيء، فكأنه موجود فعلا ينتظر الأمر من الله بالظهور للناس، فقوله ( كن ) للظهور فقط، أما مسألة الخلق فمنتهية أزلا، و ( الماكيت ) موجود، فالحق سبحانه يعلم غيب السموات والأرض، أما نحن فلا نعلم حتى غيب أنفسنا.
ويقول سبحانه :﴿ يعلم السر وأخفى٧ ﴾[ طه ] فهل هناك أخفى من السر ؟ قالوا : السر ما تسره في نفسك، والأخفى منه أن يعلمه سبحانه قبل أن يكون في نفسك.
وقد وقف البعض عند قوله تعالى :﴿ يعلم ما تبدون وما تكتمون٢٩ ﴾ [ النور ] وقوله سبحانه :﴿ يعلم الجهرمن القول ويعلم ما تكتمون١١٠ ﴾ [ الأنبياء ]
يقولون : ما وجه امتنان الله بعلم الجهر من القول، وبعلم ما نبدي، فهذا شيء غير مستور يعرفه الجميع ؟
ونقول : افهم عن الله مراده، فالمعنى لم يقل سبحانه : أعلم ما تبدي أنت، ولا ما تجهر به أنت، إنما ما تبدون كلكم، وما تجهرون به كلكم، ولتوضيح هذه المسألة تصور مظاهرة من عدة مئات أو عدة آلاف تختلط بينهم الهتافات والأصوات وتتداخل الكلمات، بحيث لا تستطيع أن تميز صوت هذا من صوت ذاك.
لكن الحق سبحانه يستطيع تمييز هذه الأصوات، وإعادة كل منها إلى صاحبه ؛ لذلك نرى في المظاهرات أن كل إنسان يستطيع أن يقول ما يشاء، ويهتف بما لا يجرؤ أن يهتف به منفردا ؛ لأن صوته سيختلط مع الأصوات، ويستتر فيها فلا يعرف مصدره، وهكذا يكون علم الجهر أقوى من علم الغيب.
فإن قلت : إن بعض العلماء باكتشافاتهم وبحوثهم توصلوا إلى معرفة أسرار كانت مستترة في الكون، كالكهرباء والذرة وغيرها، فهم بذلك يعلمون الغيب، نقول : نعم، علموا شيئا كان مستورا في الكون، لكن علموه بمقدمات خلقها الله ويسرها لهم، فأخذوا هذه المقدمات وتوصلوا بها إلى اكتشافاتهم، كما يحل ولدك مثلا تمرين الهندسة، فيستعين بالمعطيات.
إذن ؛ فهو في حقيقة الأمر ليس غيبا، بل هو شيء موجود، لكن له ميلاد ووقت يظهرب فيه، فإن جاء وقته يسر الله لخلقه الوصول إليه، إما بالبحث واستخدام المقدمات، فإذا صادف ميلاد السر بحث الخلق يقال : إنهم أحاطوا علما ببعض غيب الله.
ويقول تعالى :﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.. ٢٥٥ ﴾[ البقرة ] أي : شاء أن يولد، فإن جاء ميلاد السر، ولم يتوصلوا إليه ببحوثهم، ولم يقفوا على مقدماته كشفه الله لهم ولو مصادفة، وقد اكتشفوا كثيرا من أسرار الكون مصادفة.
فالغيب الحقيقي : هو الذي ليس له مقدمات توصل إليه، ولا يعلمه أحد إلا الله، والذي قال الله عنه :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ٢٦ إلا من ارتضى من رسول.. ٢٧ ﴾[ الجن ] فالرسول – إذن – لا يعلم الغيب، إنما علم الغيب.
ثم يقول تعالى :﴿ والذين آمنوا بالباطل.. ٥٢ ﴾[ العنكبوت ] أي : بعبادة ما دون الله من الأصنام والأوثان ﴿ وكفروا بالله.. ٥٢ ﴾[ العنكبوت ] الخالق واجب الوجود ﴿ أولئك هم الخاسرون٥٢ ﴾[ العنكبوت ] لأن كفر الخلق بالخالق لا يؤثر في ذاته سبحانه، ولا في صفات الكمال فيه، لأنه سبحانه بصفات الكمال خلقهم، فله سبحانه صفات الكمال، آمنوا أم كفروا.
لكن فرق بين من يؤمن ومن يكفر، فالإنسان بطبعه حريص على الحياة متمسك بها، حتى إنه إن أصابه مرض طلب العلاج ليصون حياته وهو يخاف الموت، ويرى مصارع الناس من حوله، وكيف سبقه أجداده ولم يخلد منهم أحد، ويرى أن الموت يأتي بلا أسباب ؛ حتى قيل : والموت من غير سبب هو السبب.
إذن : فالموت حقيقة واقعة، لكن يشك الناس فيها ولا يتصورونها لأنفسهم لأنهم يكرهونها ؛ لذلك يقال في الأثر : ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت.
وليقين الإنسان في الموت نراه يحب البقاء في ولده، وفي ولد ولده ليبقى ذكره أطوال فترة ممكنة، وما دام الأمر كذلك، فلماذا لا تؤمن بالله فيورثك الإيمان حياة خالدة باقية لا نهاية لها، لا تفارقها ولا تفارقك، وهي حياة الآخرة، إذن : فمن الخاسرون ؟ الخاسرون هم الكافرون الذي قصروا حياتهم على عمرهم في الدنيا.
{ ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاء هم
العذاب وليأتينهم بغثة وهم لا يشعرون٥٣ }
عجيب أن يطلب الإنسان لنفسه العذاب، وأن يستعجله إن أبطأ عليه، إذن : ما طلبه هؤلاء إلا لاعتقادهم أنه غير واقع بهم، وإلا لو وثقوا من وقوعه ما طلبوه.
﴿ ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب.. ٥٣ ﴾[ العنكبوت ] لأن كل شيء عند الله بميقات وأجل، والأجل يختلف باختلاف أصحابه وهو أجل الناس وأعمارهم، وهي آجال متفرقة فيهم، لكن هناك أجل يجمعهم جميعا، ويتفقون فيه، وهو أجل الساعة.
فقوله تعالى :﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ٣٤ ﴾[ الأعراف ] أي : بآجالهم المتفرقة. أما أجل القيامة فأجل واحد مسمى عنده تعالى، ومن عجيب الفرق بين الأجلين أن الآجال المتفرقة في الدنيا تنهي حياة، اما أجل الآخرة فتبدأ به الحياة.
والمعنى ﴿ ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب.. ٥٣ ﴾[ العنكبوت ] أن المسألة ليست على هواهم ورغباتهم ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ خلق الإنسان من عجل.. ٣٧ ﴾[ الأنبياء ] ويقول :﴿ سأريكم آياتي فلا تستعجلون٣٧ ﴾ [ الأنبياء ]
لذلك لما عقد النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية بينه وبين كفار مكة، ورضي أن يعود بأصحابه دون أداء فريضة العمرة غضب الصحابة وعلي وعمر، ولم يعجبهم هذا الصلح، وكادوا يخالفون رسول الله غيره منهم على دينهم، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة رضي الله عنها وقال :( ( هلك المسلمون ) )١قالت : ولم يا رسول الله ؟ قال :( ( أمرتهم فلم يمتثلوا ) ) فقالت : يا رسول الله اعذرهم، فهم مكروبون، جاءوا على شوق لبيت الله، وكانوا على مقربة منه هكذا، ثم يمنعون ويصدون، اعذرهم يا رسول الله، ولكن امض فاصنع ما أمرك الله به ودعهم، فإن هم رأوك فعلت فعلوا، وعلموا أن ذلك عزيمة.
وفعلا ذهب رسول الله، وتحلل من عمرته، ففعل القوم مثله، ونجحت مشورة السيدة أم سلمة، وأنقذت الموقف.
ثم بين الله لهم الحكمة في العودة هذا العام دون قتال، ففي مكة إخوان لكم آمنوا، ويكتمون إيمانهم، فإن دخلتم عليهم مكة فسوف تقتلونهم دون علم بإيمانهم.
وكان عمر – رضي الله عنه – كعادته شديدا في الحق، فقال : يا رسول الله، ألسنا على الحق ؟ قال صلى الله عليه وسلم ( ( بلى ) ) قال : أليسوا على الباطل ؟ قال صلى الله عليه وسلم ( ( بلى ) ) قال : فلم نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال أبو بكر : الزم غرزك يا عمر٢.. يعني قف عند حدك وحجم نفسك، ثم قال بعدها ليبرز هذه المعاهدة : ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية – لا فتح مكة.
لماذا ؟ لأن الحديبية انتزعت من الكفار الاعتراف بمحمد، وقد كانوا معارضين له غير معترفين بدعوته، لأن يكاتبونه معاهدة ويتفقون معه على رأي، ثم إنها أعطت رسول الله فرصة للتفرغ لأمر الدعوة ونشرتها في ربوع الجزيرة العربية، لكن في وقتها لم يتسع ظن الناس لما بين محمد وربه، والعباد عادة ما يعجلون، والله – عز وجل – لا يعجل بعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد سبحانه.
ثم يقول تعالى :﴿ وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون٥٣ ﴾[ العنكبوت ] يعني : فجأة، وليس حسب رغبتهم ﴿ وهم لا يشعرون٥٣ ﴾[ العنكبوت ] لا يشعرون ساعتها أم لا يشعرون الآن أنها حق، وأنها واقعة لأجل مسمى ؟
المراد لا يشعرون الآن أنها آتية، وأن لها أجلا مسمى، وسوف تباغتهم بأهوالها، فكان عليهم أن يعلموا هذه من الآن، وأن يؤمنوا بها. إذن : فليس المراد أنهم لا يشعرون بالبغتة ؛ لأن شعروهم بالبغتة ساعتها لا ينفعهم بشيء.
أما الهجرة إلى المدينة بعد الهجرة إلى الحبشة فكان لدار أمن وإيمان معا، حيث تأمن فيها على دينك، وتتمكن فيها من نشره والدعوة إليه، وتجد بها إخوانا مؤمنين يواسونك بأموالهم، وبكل ما يملكون، وقد ضرب الأنصار في مدينة رسول الله أروع مثل في التاريخ في المساواة، فالأنصاري كان يرى أخاه المهاجر ترك أهله في مكة، وله إربة وحاجة للنساء، فيطلق له إحدى زوجاته ليتزوجها، فانظر ماذا فعل الإيمان بالأنصار.
وفي قوله سبحانه﴿ فإياي فاعبدون٥٦ ﴾( العنكبوت ) أسلوب يسمونه أسلوب قصر، مثل قوله :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ٥ ﴾( الفائحة )
وفرق بين أن نقول : نعبدك. و( إياك نعبد ) : نعبدك لا تمنع أن نعبد غيرك، أما( إياك نعبد ) فتقصر العبادة على الله –عز وجل -، ولا تتجاوزه إلى غيره.
فالمعنى- إذن : إن كنت ستهاجر فلتكن هجرتك لله، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف :" فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " ٣.
٢ أخرج نحوه مسلم في صحيحه (١٧٨٥) كتاب الجهاد، والبخاري في صحيحه (٤٨٤٤) في نفسيره سورة الفتح من حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه..
٣ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (١)، وكذا مسلم في صحيحه (١٩٠٧) كتاب الإمارة (١٥٥) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
﴿ يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين٥٤ ﴾
أي : قل لهم إن كنتم تستعجلون العذاب فهو آت لا محالة، وإن كنتم في شوق إليه في انتظاركم، بل ستمتلئ منكم وتقول : هل من مزيد ؟ والعذاب يتناسب وقدرة المعذب قوة وضعفا، وإحاطة وشمولا، فإذا كان المعذب هو الله – عز وجل – فعذابه لا يعذبه أحد من العالمين.
ومعنى ﴿ لمحيطة بالكافرين٥٤ ﴾[ العنكبوت ] الإحاطة أن تشمل الشيء من جميع جهاته، فالجهات أربع : شمال وجنوب وشرق وغرب، وبين الجهات الأصلية جهات فرعية، وبين الجهات الفرعية أيضا جهات فرعية، والإحاطة هي التي تشمل كل هذه الجهات.
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها.. ٢٩ ﴾[ الكهف ] يعني : من كل جهاتهم.
{ يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم
ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون٥٥ }
وفي موضع آخر يقول سبحانه :﴿ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ١٦ ﴾ [ الزمر ]
وهاتان الجهتان لا تأتي منهما النار في الدنيا ؛ لأن النار بطبيعتها تصعد إلى أعلى، وإن كانت تحت القدم تنطفئ. إذن : هذا ترق في العذاب، حيث لا يقتصر على الإحاطة من حميع جهاته، إنما يأتيهم أيضا من فوقهم ومن تحتهم.
لكن قد يتجلد المعذب للعذاب، ويتماسك حتى لا تشمت فيه، وهذا يأتيه عذاب من نوع آخر، عذاب يهينه ويذله، ويقال له :﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم٤٩ ﴾[ الدخان ] لذلك وصف العذاب، بأنه : مهين، أليم، عظيم، وشديد.
وقوله تعالى ﴿ ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون٥٥ ﴾[ النعكبوت ]لم يقل : ذوقوا النار، إنما ذوقوا ما عملتم، كأن العمل نفسه سيكون هو النار التي تحرقهم.
﴿ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون٥٦ ﴾
بعد أن تحدث الحق سبحانه عن الكفار والمكذبين أراد أن يحدث توازنا في السياق، فحدثنا هنا عن المؤمنين ليكون أنكى للكافرين، حين تردف الحديث عنهم، وعما يقع لهم من العذاب بما سينال المؤمنين من النعيم، فتكون لهم حسرة شديدة، فلو لم يأخذ المؤمنون هذا النعيم لكان الأمر أهون عليهم.
وقوله تعالى :﴿ يا عبادي.. ٥٦ ﴾[ العنكبوت ]سبق أن قلنا : إن الخلق جميعا عبيد لله، وعبيد الله قسمان : مؤمن وكافر، وكل منهما جعله الله مختارا : المؤمن تنازل عن اختياره لاختيار ربه، وفضل مراده سبحانه على مراد نفسه، فصار عبدا في كل شيء حتى في الاختيار، فلما ذلك استحقوا أن يكونوا عبيدا وعبادا لله.
أما الكافر فتأبى على مراد ربه، واختار الكفر على الإيمان، والمعصية على الطاعة، ونسي أنه عبد لله مقهور في أشياء لا يستطيع أن يختار فيها، وكأن الله يقول له : أنت أيها الكافرتمردت على ربك، وتأبيت على منهجه في ( افعل ) و ( لا تفعل )، واعتدت التمرد على الله. فلماذا لا تتمرد عليه فيما يجريه عليك من أقدار، لماذا لا تتأبى على المرض أو على الموت ؟ إذن : فأنت في قبضة ربك لا تستطيع الانفلات منها.
وعليه، فالمؤمن والكافر سواء في العبودية لله، لكن الفرق في العبادية حيث جاء المؤمن مختارا راضيا بمراد الله، وفرق بين عبد يطيعك وأنت تجره في سلسلة، وعبد يخدمك وهو طليق حر. وهكذا المؤمن جاء إلى الإيمان بالله مختارا مع إمكانية أن يكفر، وهذه هي العبودية والعبادية معا.
ومعنى ﴿ إن أرضي واسعة.. ٥٦ ﴾[ العنكبوت ] يخاطبهم ربهم هذا الخطاب وهم في الأرض وفي سعتها، ليلفت أنظارهم إلى أنهم سيضطهدون ويعذبون، وسيقع عليهم إيذاء وإيلام، فيقول لهم : إياكم أن تصرفكم هذه القسوة، إياكم أن تتراجعوا عن دعوتكم، فإذا لم يناسبكم هذا المكان فاذهبوا إلى مكان آخر فأرضى واسعة فلا تضيقوها على أنفسكم.
لذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ( الأرض لله، والعباد كلهم لله، فإن أبصرت خيرا فأقم حيث يكون ) )١.
فالذي نعاني منه الآن هو هذه الحدود وهذه القيود التي وضعناها في جغرافية أرض الله، فضيقنا على أنفسنا ما وسعه الله لنا، فأرض الله الواسعة ليست فيها تأشيرات دخول ولا جوازات سفر ولا ( بلاك لست ).
لذلك قلنا مرة في الأمم المتحدة : إنكم إن سعيتم لتطبيق مبدأ واحد من مبادئ القرآن فلن يوجد شر في الأرض، ألا وهو قوله تعالى :﴿ والأرض وضعها للأنام١٠ ﴾
[ الرحمن ]
والمعنى : الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام، فإن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر، وإلا فالذي يتعب الناس الآن أن توجد أرض بلا رجال، أو رجال بلا أرض، وها هي السودان مثلا بجوارنا، فيها أجود الأراضي لا تجد من يزرعها، لماذا ؟ للقيود التي وضعناها وضيقنا بها على أنفسنا.
وصدق الشاعر حين قال :
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق
ثم يقول سبحانه ﴿ فإياي فاعبدون٥٦ ﴾[ العنكبوت ] فإن أخذنا بمبدأ الهجرة فلا بد أن نعلم أن للهجرة شروطا أولها : تهاجر إلى مكان يحفظ عليك إيمانك ولا ينقصه، وانظر قبل أن تخرج من بلدك هل ستتمكن في المهجر من أداء أمور دينك كما أوجبها الله عليك ؟ فإن كان ذلك فلا مانع، وإلا فلا هجرة لمكان يخرجني من دائرة الإيمان، أو يحول بيني وبين أداء أوامر ديني.
وهل يرضيك أن تعيش لتجمع الأموال في بلاد الكفر، وأن تدخل عليك ابنتك مثلا وفي يدها شاب لا تعرفه عنه شيئا قد فرض عليك فرضا، فقد عرفته على طريقة القوم، ساعتها لن ينفعك كل ما جمعت، ولن يصلح ما جرح من كرامتك.
وسبق أن أوضحنا أن الهجرة قد يكون إلى دار أمن فقط، حيث تأمن فيها على دينك، وتأمن ألا يفتنك عنه أحد، ومن ذلك الهجرة التي أمر بها رسول الله إلى الحبشة، وهي ليست أرض إيمان، بل أرض أمن.
وقد علل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالهجرة إليها بقوله :( ( إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد ) )٢ وقد تبين بعد الهجرة إليها صدق رسول الله، وكأنه على علم تام بالبيئة المحيطة به وبأحوال أهلها.
لذلك لم يأمرهم مثلا بالهجرة إلى أطراف الجزيرة العربية ؛ لأنها كانت خاضعة لقريش بما لهم من سيادة على الكعبة، فلا يستطيع أحد أن يحمي من تطلبه قريش، حتى الذين هاجروا بدينهم إلى الحبشة لم يسلموا من قريش، فقد أرسلت إلى النجاشي من٣ يكلمه في شأنهم، وحملوا إليه الهدايا المغرية ليسلمهم المهاجرين من المؤمنين بمحمد، لكن لم تفلح هذه الحيلة مع الملك العادل الذي رواد الإيمان قلبه، فأحب المؤمنين ودافع عنهم ورفض إعادتهم ويقال : إنه آمن بعد ذلك، ولما مات صلى عليه رسول الله٤.
٢ عن أم سلمة أنها قالت: ((لما ضاقت علينا مكة، وأوذى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاءوالفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه)) حديث طويل أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٢/٣٠١) وأورده ابن هشام في السيرة بنحوه (١/٣٢١)..
٣ هو: عمرو بن العاص، أبو عبد الله، فاتح مصر وأحد عظماء العرب ودهاتهم وأولى الرأي والحزم والمكيدة فيهم، كان في الجاهلية من الأشداء على الإسلام، وأسلم في هدنة الحديبية. ولد ٥٠ ق. هـ، وتوفي ٤٣ هـ بالقاهرة عن ٩٣ عاما (الأعلام للزركلي ٥/٧٩). وذكر ابن هشام في السيرة النبوية (١/٣٦٠) ((أن قريشا أرسلت عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة للنجاشي ليوقعوا بين المهاجرين والنجاشي ليسلمهم إليه، وقال عمرو: والله لأخبرنه أنهم أن عيسى عبد))..
٤ عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه، قال: فقمنا فصففنا عليه كما يصف على الميت، وصلينا عليه كما يصلي على الميت)) أخرجه أحمد في مسنده (٤/٤٣٩، ٤٤٦) والترمذي في سننه (١٠٣٩) وصححه، والنسائي في سننه (٤/٧٠)..
﴿ كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون٥٧ ﴾
يعني : إن كنتم ستقولون- وقد قالوا بالفعل – ليس لنا في المدينة دار ولا عقار، وليس لنا فيها مصادر رزق ١، وكيف نترك أولادنا وبيئتنا التي نعيش فيها، فاعلموا أنكم ولا بد مفارقون هذا كله، فإن لم تفارقوها وأنتم أحياء فسوف تفارقونها بالموت ؛ لأن ﴿ كل نفس ذائقة الموت... ٥٧ ﴾( العنكبوت )
ومن يدريكم لعلكم تعودون إلى بلدكم مرة أخرى، كما قال الله لرسوله :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد... ٨٥ ﴾( القصص )
وعلى فرض أنكم لا تعودوا إليها فلن يضيركم شيء : لأنكم لا بد مفارقوها بالموت. وكأن الحق- تبارك وتعالى- يخفف عنهم ما يلاقونه من مفارقة الأهل والوطن والمال والأولاد.
كما أننا نلحظ في قوله سبحانه ﴿ كل نفس ذائقة الموت... ٥٧ ﴾( العنكبوت ) بعد﴿ إن أرضي واسعة... ٥٦ ﴾ ( العنكبوت ) أن الخواطر التي يمكن أن تطرأ على النفس البشرية حين يشرع الله أمرا يهيج هذه الخواطر مثل ﴿ إن أرضي واسعة... ٥٦ ﴾ ( العنكبوت ) وما تثيره في النفس من حب الجمع والتملك لك مع الأمر ما يهبط هذه الخواطر.
﴿ كل نفس ذائقة الموت.... ٥٧ ﴾( العنكبوت ) حتى لا نطمع في حطام الدنيا، ويلهينا إغراء المال والهجرة لجمعه، فالنهاية بعد ذلك كله الموت، وفقدان كل ما جمعت.
وهذه القضية واضحة في قوله سبحانه :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا... ٢٨ ﴾( التوبة )
فلما أراد الله تعالى أن ينهي وجود المشركين في البيت الحرام علم سبحانه أن المسلمين سيحسبون النتيجة المادية لمنع المشركين من دخول الحرم، وأنها ستؤثر على تجارتهم وأرزاقهم في مواسم التجارة والحج.
لذلك قال بعدها مباشرة :﴿ وإن خفتم علية ٢ فسوف يغنيكم الله من فضله... ٢٨ ﴾( التوبة ) فساعة يقرأونها في التشريع يعلمون أن الله اطلع على ما في نفوسهم، وجاءهم بالرد عليه حتى لا يتكلموا به، وهذا يعني أن التشريع يأتي ليعالج كل خواطر النفس، فلا ينزعك من شيء تخافه إلا ومع التشريع ما يذهب هذه المخاوف.
٢ العيلة: الفقر. والعيّل: الفقير. يقال: عال يعيل عيلة إذا افتقر.(لسان العرب –مادة: عيل)..
فجمع المتقابلين يزيد من فرحة المؤمن، ويزيد من حسرة الكافر.
ومعنى﴿ لنبوئنهم من الجنة غرفا... ٥٨ ﴾( العنكبوت ) أي : ننزلهم ونمكنهم منها، كما جاء في قوله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال... ١٢١ ﴾( آل عمران ) يعني : تنزلهم أماكنهم.
والجنة تطلق على الأرض ذات الخضرة والأشجار والأزهار في الدنيا، كما جاء في قوله سبحانه :﴿ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب.... ٢٦٦ ﴾( البقرة )
وقوله سبحانه :﴿ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة... ١٧ ﴾( القلم )
وقوله سبحانه :﴿ واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب... ٣٢ ﴾( الكهف )
فإذا كانت جنة الدنيا على هذه الصورة من الخصب والنماء والجمال، وفيها أسباب القوت والترف، إذا كان ذلك في دنيا الأسباب التي نراها، فما بالك بما أعده الله لخلقه في الآخرة ؟
وعن عجائب الجنة أنها﴿ تجري من تحتها الأنهار... ٥٨ ﴾ ( العنكبوت ) ونحن نعرف أن أنهار الدنيا تجري خلالها عبر الشطآن التي تحجز الماء، أما في الجنة فتجري أنهارها بلا شطآن.
لذلك لما كنا نسافر إلى بلاد المدينة والتقدم، ونرى زخارف الحياة وترفها كنت أقول لمن معي : خذوا من هذا النعيم عظة، فهو ما أعده البشر للبشر، فما بالكم بما أعده رب البشر للبشر ؟
فإذا رأيت نعيما عند أحد فلا تحقد عليه، بل ازدد به يقينا في الله تعالى، وأن ما عنده أعظم من هذا، ألا ترى أن الحق- تبارك وتعالى- حينما يخبرنا عن الجنة يقول :﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون... ١٥ ﴾( محمد ) فيجعلها مثلا ؛ لأن ألفاظ اللغة لا تؤدي المعاني التي في الجنة ولا تصفها.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" فيها ما لا يعن رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " ١ فكل ما جاء فيها ليس وصفا لها إنما مجرد مثل لها، ومع ذلك لما أعطانا المثل للجنة صفى المثل من شوائبه، فقال :﴿ فيها أنهار من ماء غير آسن ٢ وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى... ١٥ ﴾( محمد ) ويكفي أن تعلم أن نعيم الجنة يأتي مناسبا لقدرة وإمكانيات المنعم سبحانه.
وقوله سبحانه﴿ خالدين فيها... ٥٨ ﴾( العنكبوت ) لأن النعيم مهما كان واسعا، ومهما تعددت ألوانه، فينغصه ويؤرق صاحبه أن يزول إما بالموت وإما بالفقر، أما نعيم الجنة فدائم لا يزول ولا ينقطع، فلا يفوتك ولا تفوته، كما قال سبحانه :﴿ لا مقطوعة ولا ممنوعة ٣٣ ﴾( الواقعة ) لا يكدرها شيء.
إذن : فالرابح من آثر الآخرة على الدنيا ؛ لأن نعيم الدنيا مآله إلى زوال، ولا تقل : إن عمر الدنيا كم مليون سنة، إنما عمرها مدة بقائها أنت فيها، وإلا فماذا تستفيد من عمر غيرك ؟
ثم إنك تتمتع في الدنيا على قدر إمكاناتك ومجهوداتك، فنعيم الدنيا بالأسباب، لكن نعيم الآخرة بالمسبب سبحانه، لذلك ترى نعيما صافيا لا ينغصه شيء، فأنت ربما تأكل الأكلة في الدنيا فتسبب لك المتاعب والمضايقات، كالمغص والانتفاخ، علاوة على ما تكرهه أثناء قضاء الحاجة للتخلص من فضلات هذه الأكلة.
أما في الآخرة فقد أعد الله لك الطعام على قدر الحاجة، بحيث لا تكون له فضلات، لأنه طهي بكن من الله تعالى.
لذلك سئل أحد علماء المسلمين : تقولون : إن الجنة تأكلون فيها، ولا تتغوطون، فكيف ذلك ؟ فقال : ولم التعجب، ألا ترون الجنين في بطن أمه يتغذى وينمو ولا يتغوط ؛ لأن الله تعالى يعطيه غذاءه على قدر حاجته للنمو، فلا يبقى منه فضلات، ولو تغوط في مشيمته لمات في بطن أمه.
وقوله تعالى :﴿ نعم أجر العاملين ٥٨ ﴾( العنكبوت ) نعم، نعم هذا الأجر ؛ لأنك مكثت إلى سن التكليف تربع في نعم الله دون أن يكلفك بشيء، ثم يعطيك على مدة التكليف أجرا لا ينقطع، ولا نهاية له، فأي أجر أسخى من هذا ؟ ويكفي أن الذي يقرر هذه الحقيقة هو الله، فهو سبحانه القائل :﴿ نعم أجر العاملين ٥٨ ﴾( العنكبوت )
٢ أسن الماء يأسن: تغيرت رائحته، فهو آسن.(القاموس القويم١/٢٠) قال في التهذيب: هو الذي لا يشربه أحد من نتنه.(ذكره ابن منظور في لسان العرب- مادة: أسن)..
﴿ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ٥٩ ﴾
فهذه من صفات العاملين ﴿ الذين صبروا... ٥٩ ﴾( العنكبوت ) فلا تظن أن العمل ما كان في بحبوحة العيش وترف الحياة، فالعامل الحق هو الذي يصبر، وكلمة﴿ الذين صبروا.... ٥٩ ﴾ ( العنكبوت ) تدل على أنه سيتعرض للابتلاء، كما قال سبحانه :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ٢ ﴾ ( العنكبوت )
فالذين اضطهدوا وعذبوا حتى اضطروا للهجرة بدينهم صبروا، لكن هناك ما هو أكبر من الصبر ؛ لأن خصمك من الجائز أن يصبر عليك، فيحتاج الأمر إلى المصابرة ؛ لذلك قال سبحانه﴿ اصبروا وصابروا... ٢٠٠ ﴾ ( آل عمران ) ومعنى : صابره. يعني : تنافس معه في الصبر.
والصبر يكون على آفات الحياة لتحتملها، ويكون على مشقة التكاليف، وعلى إغراء المعصية، يقولون : صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصدق الشاعر حين قال :
وكن رجلا كالضرس يرسو مكانه***ليمضغ لا يعنيه حلو ولا مر
فالمعنى﴿ الذين صبروا... ٥٩ ﴾( العنكبوت ) على الإيذاء﴿ وعلى ربهم يتوكلون٥٩ ﴾ ( العنكبوت ) أي : في الرزق، وكان المهاجرون عند هجرتهم يهتمون لأمر الرزق يقولون : ليس لنا هناك دار ولا عقار ولا... إلخ. فأراد سبحانه أن يطمئن قلوبهم على مسألة الرزق، فقال ﴿ وعلى ربهم يتوكلون٥٩ ﴾( العنكبوت )
فالذي خلقك لا بد أن يخلق لك رزقك، ومن عجيب أمر الرزق أن رزقك ليس هو ما تملك إنما ما تنتفع به حقيقة، فقد تملك شيئا ويسرق منك، وقد يطهى لك الطعام، ولا تأكله، بل أدق من ذلك قد تأكله ولا يصل إلى معدتك، وربما يصل إلى المعدة وتقيئه، وأكثر من ذلك قد يتمثل الغذاء إلى دم ثم ينزف منك في جرح أو لدغة بعوضة أو غير ذلك ؛ لأن هذا ليس من رزقك أنت، بل رزق لمخلوق آخر.
إنك تعجب حينما ترى التمساح مثلا على ضخامته وخوف الناس منه، ومع ذلك تراه بعد أن يأكل يخرج إلى اليابسة، حيث يفتح فمه لصغار الطيور، فتتولى تنظيف ما بين أسنانه من فضلات الطعام، وترى بينهما انسجاما تاما وتعاونا إيجابيا، فحين يتعرض التمساح مثلا لهجمة الصياد يحدث الطير صوتا معينا يفهمه التمساح فيسرع بالهرب.
فانظر من أين ينال هذا الطير قوته ؟ وأين خبأ الله له رزقه ؟ لذلك يقولون ( اللي شقه خلق لقه ).
وسبق أن ضربنا مثلا على خصوصية الرزق بالجنين في بطن أمه، فحينما تحمل الأم بالجنين يتحول الدم إلى غذاء للطفل، فإن لم تحمل نزل هذا الدم ليرمى به دون أن تستفيد منه الأم، لماذا ؟ لأنه رزق الجنين، وليس رزقها هي.
لذلك نجد الآية بعدها تقول ١ :
﴿ وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ٦٠ ﴾
والدابة : هي التي تدب على الأرض، والمراد كل حي ذي حركة، وقد تقول : فالنمل-مثلا- لا نسمع له دبة على الأرض أيعد من الدابة ؟ نعم فله دبة على الأرض، لكنك لا تسمعها، فالذي خلقها يسمع دبيبها ؛ لأن الذي يقبل الصغر يقبل الكبر، لكن ليس عندك أنت آلة السماع.
بدليل أن الذي يعاني من ضعف السمع مثلا ينصحه الطبيب بتركيب سماعة للآذن فيسمع، وكذلك في النظارة للبصر، إذن : فكل شي له أثر مرئي أو مسموع، لكن المهم في الآلة التي تسمع أو ترى ؛ لذلك يقولون إن أرادوا المبالغة : فلان يسمع دبة النملة.
ومعنى﴿ وكأين من دابة لا تحمل رزقها... ٦٠ ﴾ ( العنكبوت ) ليست كل الدواب تحمل رزقها، فكثير منها لا تحمل رزقا، ومع ذلك تأكل وتعيش، ويحتمل أن يكون المعنى : لأنها لا تقدر على حمله، أو تقدر على حمله ولكنها لا تفعل، فمثلا القمل والبراغيث التي تكثر مع الإهمال في النظافة الشخصية أتحمل رزقا ؟ والناموسة التي تتغذى مع ضعفها على دم الإنسان الفتوة المتجبر، الميكروب الذي يفتك بالإنسان... إلخ هذه الأشياء لا تحمل رزقها.
أما الحمار مثلا فهو مع قدرته على الحمل لا يحمل رزقه ؛ لذلك تراه إن شبع لا يدخر شيئا، وربما يدوس الأكل الباقي، أو يبول عليه، وكذلك كل الحيوانات حتى أنهم يقولون : لا يعرف الادخار من المخلوقات إلا الإنسان والفأر والنمل.
وقد جعل الله الادخار في هؤلاء لحكمة ولبيان طلاقة قدرته تعالى، وأن الادخار عند هذه المخلوقات ليس قصورا من الخالق سبحانه في أن يجعل بعض الدواب لا تحمل رزقها، بل يخلق لها وسائل تعجز أنت عنها.
ولك أن تتأمل قرى النمل وما فيها من عجائب، فقد لاحظ الباحثون في هذا المجال أنك لو تركت بقايا طعام مثلا تأتي نملة وتحوم حوله ثم تنصرف وترسل إليه عددا من النمل يستطيع حمل هذه القطعة، ولو ضاعفت وزن هذه القطعة لتضاعف عدد النمل.
إذن : فهي مملكة في غاية التنظيم والدقة والتخصص، والأعجب من ذلك أنهم لاحظوا على النمل أنها تخرج فتاتا أبيض صغيرا أمام الأعشاش، فلما فحصوه وجدوه الزريعة التي تسبب الإنبات في الحبة حتى لا تنبت، فتهدم عليهم العش، فسبحان الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى.
وأعجب من ذلك، وجدوا النمل يفلق حبة الكسبرة إلى أربعة أقسام، لأن نصف حبة الكسبرة يمكنه أن ينبت منفردا، فقسموا النصف.
إذن : فكثير من الدواب لا تحمل رزقها﴿ الله يرزقها وإياكم.... ٦٠ ﴾( العنكبوت ) فذكر الدواب أولا في مجال الرزق ثم عطف عليها ﴿ وإياكم.... ٦٠ ﴾( العنكبوت ) فنحن معطوفون في الرزق على الدواب، مع أن الإنسان هو الأصل، وهو المكرم، والعالم كله خلق من أجله ولخدمته، ومع ذلك لم يقل سبحانه : نحن نرزقكم وإياهم، لماذا ؟ قالوا : لأنك تظن أنها لا تستطيع إلى أننا سنرزقها قبلك.
وقد وقف المستشرقون الذين يأخذون القرآن بغير الملكة العربية يعترضون على قوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق... ٢١ ﴾( الإسراء )
وقوله سبحانه :﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق.... ١٥١ ﴾( الأنعام )
يقولون : أيهما أبلغ من الأخرى، وإن كانت إحداهما بليغة، فالأخرى غير بليغة.
وهذا الاعتراض ناتج عن ظنهم أن الآيتين بمعنى واحد، وهما مختلفتان، فالأولى﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق... ٣١ ﴾( الإسراء ) فالفقر هنا غير موجود وهم يخافونه. أما في :﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق... ١٥١ ﴾( الأنعام ) فالفقر موجود فعلا. فهما مختلفتان في الصدر، وكذلك مختلفتان في العجز.
ففي الأولى قال :﴿ نحن نرزقهم وإياكم.... ٣١ ﴾( الإسراء ) لأن الفقر غير موجود، وأنت غير مشغول برزقك، فبدأ بالأولاد، أما في الثانية فقال :﴿ نحن نرزقكم وإياهم... ١٥١ ﴾( الأنعام ) وقدم الآباء ؛ لأن الفقر موجود، والإنسان مشغول أولا برزق نفسه قبل رزق أولاده.
إذن : فلكل آية معنى وانسجام بين صدرها وعجزها، المهم أن تتدبر لغة القرآن، وتفهم عن الله مراده.
وقوله سبحانه :﴿ وهو السميع العليم ٦٠ ﴾( العنكبوت ) واختار هنا السميع العليم ؛ لأن الحق سبحانه له قيومية على خلقه، فلم يخلقهم ثم يتركهم للنواميس، إنما خلق الخلق وهو سبحانه قائم عليه بقيوميته تعالى ؛ لذلك يقول في بيان عنايته بصنعته﴿ لا تأخذه سنة ولا نوم... ٢٥٥ ﴾( البقرة ) يعني : يا عبادي ناموا ملء جفونكم ؛ لأن ربكم لا ينام.
ومناسبة السميع هنا ؛ أن الجوع إذا هز إنسانا ربما يصيح صيحة، أو يحدث شيئا يدل على أنه جائع، فكأنه يقول : لم أجعلكم كذلك.
﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ٦١ ﴾
يقول تعالى للذين لا تكفيهم آية القرآن التي نزلت على رسول الله، ويطلبون منه آيا أخرى، يقول لهم : لقد جعل الله لكم الآيات في الكون قبل أن يرسل الرسل، آيات دالة على الإعجاز في السماوات وفي الأرض، فهل منكم من يستطيع أن يخلق شيئا منها مهما صغر ؟
إن خلق السماوات والأرض معجزة كونية لا تنتهي، فلماذا تطلبون المزيد من الآيات، وما جعلها الله إلا لبيان صدق الرسل في البلاغ من الله ليؤمن الناس بهم.
لذلك يقول سبحانه في الرد عليهم :﴿ هذا الخلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه... ١١ ﴾( لقمان ) فخلق السماوات والأرض والشمس والقمر إعجاز للدنيا كلها، وخصوصا الكفرة فيها.
ومسألة الخلق هذه من الوضوح بحيث لا يستطيع أحد إنكارها – كما سبق أن أوضحنا – لذلك يقولون هنا في إجابة السؤال﴿ ليقولن الله... ٦١ ﴾( العنكبوت ) وهذا الاعتراف منهم يستوجب من المؤمن أن يحمد الله عليه، فيقول : الحمد لله أن اعترفوا بهذه الحقيقة بأنفسهم، الحمد لله الذي أنطقهم بكلمة الحق، وأظهر الحجة التي تبطل كفرهم.
وقوله تعالى﴿ فأنى يؤفكون٦١ ﴾( العنكبوت )أي : كيف بعد هذا الاعتراف ينصرفون عن الله، وينصرفون عن الحق ؟
والله سبحانه يوسع الرزق لمن يشاء، ويضيقه على من يشاء، فالذي ضيق عليه يحتاج لمن بسط له، وكذلك يبسط الرزق في شيء ويضيقه في شيء آخر، فهذا بسط له في العقل مثلا، وضيق عليه في المال.
فكأن الحق- سبحانه وتعالى- نثر مواهب الملكات بين خلقه، لم يجمعها كلها في واحد، وسبق أن أوضحنا أن مجموع الملكات عند الجميع متساوية في النهاية، فمن بسط له في شيء ضيق عليه في آخر ؛ ليظل المجتمع مربوطا برباط الاحتياج، ولا يستغني الناس بعضهم عن بعض، وحتى تتكامل المواهب بين الناس، فتتساند لا تتعاند.
إذن : فالحق –سبحانه وتعالى- حين يبسط الرزق لعبد، ويقدره على آخر، لا يعني هذا أنه يحب الأول ويكره الآخر، ولو نظرت إلى كل جوانب الرزق وزوايا العطاء لوجدتها متساوية.
وحين نتأمل قوله سبحانه :﴿ أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات... ٣٢ ﴾( الزخرف ) فأي بعض مرفوع ؟ وأي بعض مرفوع عليه ؟ الكل مرفوع في جهة اختصاصه، ومرفوع عليه في غير جهة اختصاصه، إذن : فالجميع سواء.
وسبق أن ضربنا مثلا لهذه القضية. وقلنا : إن العظيم الذي يسكن القصر يحتاج إلى العامل البسيط الذي يصلح له دورة المياه، وينقذه من الرائحة الكريهة التي يتأفف منها، فيسعى هو إليه ويبحث عنه، وربما ذهب إليه في محل عمله وأحضره بسيارته الفارهة، بل ويرجوه إن كان مشغولا.
ففي هذه الحالة، ترى العامل مرفوعا على الباشا العظيم، فلا يظهر الرفع إلا في وقت الحاجة للمرفوع.
وأيضا لو لم يكن بين الناس غني وفقير، من سيقضي لنا المصالح في الحقل، وفي المصنع، وفي السوق... إلخ لا بد أن تبنى هذه المسائل على الاحتياج، لا على التفضل. إذن : إن أردت أن تقارن بين الخلق فلا تحقرن أحدا ؛ لأنه قد يفضل عليك في موهبة ما، فتحتاج أنت إليه.
﴿ ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ٦٣ ﴾
وهنا أيضا قالوا﴿ الله ﴾ لأن إنزال من المطر من السماء وإحياء الأرض به بعد موتها آية كونية واضحة لم يدعها أحد، فهي ثابتة لله تعالى، لا ينكرها أحد حتى الكافرون، فلئن سألتهم هذا السؤال ﴿ ليقولن الله... ٦٣ ﴾( العنكبوت ) لذلك يأمرنا الحق سبحانه بأن نقول بعد هذا الإقرار ﴿ قل الحمد لله.... ٦٣ ﴾( العنكبوت ) الذي أنطقهم بالحق، وأقام عليهم الحجة﴿ بل أكثرهم لا يعقلون٦٣ ﴾( العنكبوت ) لأنهم أقروا بآيات الله في خلق الكون، ومع ذلك كفروا به.
وإن كنا قد عرفنا الحياة الدنيا بأنها الحس والحركة في الإنسان، فالواقع عند التقنين أن لكل شيء في الوجود حياة تناسب مهمته، بدليل قوله تعالى حين ينهي هذه الحياة :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه.... ٨٨ ﴾( القصص )
فما يقال له شيء لا بد أن يطرأ عليه الهلاك، والهلاك تقابله الحياة، بدليل قوله سبحانه :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة... ٤٢ ﴾( الأنفال )
فالحياة ضد الهلاك، إلا أنك تعرف الحياة عندك بالحس والحركة، وكذلك الحياة في كل شيء بحسبه، حتى في الجماد حياة نلحظها في أن الجبل يتكون من أصناف كثيرة من الحجارة، ترقى مع الزمن من حجارة إلى أشياء أخرى أعلى من الحجارة وأثمن، وما دامت يطرأ عليها هذا التغيير فلا بد أن فيها حياة وتفاعلا لا ندركه نحن.
إذن : فكل شيء له حياة، لكن الآفة أننا نريد حياة كالتي فيننا نحن، وأذكر ونحن في مرحل التعليم قالوا لنا : هناك شيء اسمه المغناطيس، وعملية اسمها المغنطة، فحين تمغنط قطعة من الحديد تكسبها قدرة على جذب قطعة أخرى وفي اتجاه معين، إذن : في الحديد حياة وحركة وتفاعل، لكن ليس عندك الآلة التي تدرك بها هذه الحركة، وفيها ذرات داخلية لا تدرك بالعين المجردة ثم تعديلها بالمغنطة إلى جهة معينة.
واقرأ قوله تعالى :﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.... ٢١ ﴾ ( فصلت ) فللجوارح نفسها حياة، ولها كلام ومنطق، لكن لا ندركه نحن ؛ لأن حياتها ليست كحياتنا. إنك لو تتبعت مثلا طبقا أو كوبا من البلاستيك لوجدته تغير لونه مع مرور الزمن، وتغير اللون فيه يدل على وجود حياة وحركة بين ذراته، ولو لم تكن فيه حياة لكان جامدا مثل الزجاج، لا يطرأ عليه تغير اللون.
والحق- تبارك وتعالى – يصف الدار الآخرة بأنها﴿ الحيوان... ٦٤ ﴾( العنكبوت ) وفرق بين الحياة والحيوان، الحياة هي هذه التي نحياها في الدنيا يحياها الأفراد، ويحياها النبات، ثم تؤول إلى الموت والفناء، أما الحيوان فيعني الحياة الأرقى في الآخرة ؛ لأنها حياة باقية حياة حقيقية.
والحق –سبحانه وتعالى- أعطانا صورة للحياة الدنيا، الحياة المادية في قوله تعالى عن آدم﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي... ٢٩ ﴾( الحجر ) فمن الطين خلق آدم، وسواه ونفخ فيه من روحه تعالى، فدبت فيه الحياة المادية.
لكن هناك حياة أخرى أسمى من هذه يقول الله عنها :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم... ٢٤ ﴾( الأنفال ) فكيف يخاطبكم بذلك وهم أحياء ؟ لا بد أن المراد حياة أخرى غير هذه الحياة المادية، المراد حياة الروح والقيم والمنهج الذي يأتي به رسول الله.
لذلك سمى المنهج روحا﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا... ٥٢ ﴾( الشورى ) وسمى الملك الذي نزل به روحا :﴿ نزل به الروح الأمين١٩٣ ﴾( الشعراء )
إذن :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان... ٦٤ ﴾( العنكبوت ) أي : الحياة الحقيقية التي لا تفوتها ولا تفوتك، ولا يفارقك نعيمها، ولا ينغصه عليك شيء، كما أن التنعم في الدنيا على قدر إمكاناتك وأسبابك، أما في الآخرة فالنعيم على قدر إمكانات المنعم سبحانه وتعالى.
ثم يأتي وصف الدنيا بأنها لهو ولعب، وهما حركتان من حركات جوارح الإنسان، لكنها حركة لا مقصد لها إلا الحركة في ذاتها دون هدف منها ؛ لذلك نقول لمن يعمل عملا لا فائدة منه " عبث ".
إذن : اللهو واللعب عبث، لكن يختلفان من ناحية أخرى، فاللعب حركة لا فائدة منها، لكنه لا يصرفك عن واجب يعطي فائدة، كالولد حين يلعب، فاللعب لا يصرفه عن شيء إذن : فاللعب لمن لم يبلغ، أما البالغ المكلف فاللعب في حقه يسمى لهوا، لأنه كلف فترك ما كلف به إلى ما لم يكلف به، ولها عن الواجب، ومنه : لهو الحديث ١.
فقوله تعالى ﴿ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب... ٦٤ ﴾( العنكبوت ) أي : إن جردت عن الحياة الأخرى حياة القيم التي تأتي باتباع المنهج.
وقوله :﴿ لو كانوا يعلمون٦٤ ﴾( العنكبوت ) يحتمل أن تكون الجملة هنا امتناعية يعني : امتنع عليهم بها، أو تكون تمنيا يعني : يا ليتهم يعلمون هذه الحقيقة، حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة ؛ لأنهم لو علموها لأقبلوا على منهج ربهم لينالوا كل هذا العطاء الممتد، ولسكوا طريق الإيمان بدل طريق الكفر، فكأن المعنى أنهم لم يعرفوا.
﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون٦٥ ﴾
ينقلنا السياق هنا من الكلام عن حقيقة كل من الدنيا والآخرة إلى الحديث عن الفلك، فما العلاقة بينهما ؟
المتكلم هنا هو الله تعالى، وواضع كل شيء في موضعه، ولا يغيب عنك أنه لا بد أن تتدبر كلام الله لتفهم مراده، فالله لا يريدنا مقبلين على ظاهر القرآن فحسب، إنما أن نتعمق في فهمه وتأمله، وننظر في معطياته الحقيقية :﴿ أفلا يتدبرون القرآن... ٨٢ ﴾( النساء )
والعلاقة هنا أن الآية السابقة جاءت لتقرر أن الدنيا دار لهو ولعب لا فائدة منها إذا بعدت عن منهج الله، ولم تحسب حسابا لحياة أخرى هي الحياة الحقيقية وهي الحيوان، فكان على العاقل أن يحرص على الآخرة، وأن يعمل لها باتباع منهج الله في الدنيا.
إذن : فالدنيا ليست غاية، بل هي وسيلة، وأنت أيها الذي أعرضت عن منهج ربك جعلت الدنيا غايتك، والدنيا إن كانت هي الغاية فما أتفهها من غاية، إنما اجعلها وسيلة للآخرة ومزرعة لدار الحيوان. وكذلك الحال في الفلك، فهي وسيلة توصلك إلى هدف، وإلى غاية، وليست هي غاية في حد ذاتها.
﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين... ٦٥ ﴾( العنكبوت ) والفلك : السفينة، وتطلق على المفرد وعلى الجمع، فيقول تعالى :﴿ ويصنع الفلك... ٣٨ ﴾( هود )وقوله﴿ دعوا الله مخلصين له الدين... ٢٢ ﴾( يونس ) واضح من السياق أنها ليست دعوة الحمد، كأن يقولوا مثلا﴿ سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ١٣ ﴾ ( الزخرف ) بل هي دعوة الاضطرار بعد أن تعرضوا لشدة وعطب لا تنجيهم منها أسبابهم، بدليل قوله تعالى بعدها :﴿ فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون٦٥ ﴾( العنكبوت )
فهذه تعطينا أنهم ركبوا في السفينة، فلما تعرضوا للعطب، وضاقت بهم أسبابهم دعوا الله مخلصين له الدين١.
وفي لقطة أخرى يقول القرآن :﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين٢٢ ﴾( يونس )
فمعنى﴿ أحيط بهم.... ٢٢ ﴾( يونس ) أي : لا يوجد لهم صفر ولا مهرب ولا مفزع يفزعون إليه إلا أن يتوجهوا إلى الله بدعاء خالص ويقين إيمان في أنهم لا ملجأ لهم إلا الله، وقد كانوا في أول الرحلة فرحين بمركبهم مسرورين به، وساعتها لم يكن الله في بالهم، إنما لما ضاقت بهم الحيل عادوا إلى الحق، فالوقت لا يحتمل المراوغة.
لأن الإنسان عادة لا يخدع نفسه، فحتى الكافر حين تضيق به أسباب النجاة يلجأ بالفطرة إلى الله الحق، وينسى آلهته ومعبوداته من دون الله ؛ لأنه لا يسلم نفسه أبدا، ولا يتمادى حينئذ في كذبة الآلهة والأصنام.
لذلك :﴿ دعوا الله مخلصين له الدين... ٦٥ ﴾( العنكبوت ) دعوة خالصة بيقين ثابت في الإله الحق، دعوة لا تشوبها شائبة شرك، لا ظاهر ولا خفي، فلا ينفع في هذا الوقت إلا الله المعبود بحق.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بمثل من حياتنا الواقعية، قلنا : إن حلاق الصحة كان يقوم بدور الطبيب في القرية، وله بين الناس نفس مكانة الطبيب في وقت لم يكن هناك أطباء، فلما خرجت كلية الطب أطباء وانتشروا في القرى كان الحلاق أول المهاجمين للطبيب ؛ لأنه يزاحمه في رزقه، ويصرف الناس عنه ؛ لذلك كان يذم في الطبيب ويشكك في خبرته وقدراته.
لكن لما مرض ابنه، وارتفعت درجة حرارته، وخاف عليه قال لزوجته : انتظري إلى ظلام الليل لأذهب به إلى الطبيب- يعني : في غفلة الناس.
فالإنسان بطبعه لا يخدع نفسه، ولا يسلمها إذا جد الجد، وفيه فطرة إيمانية إذا ما صفيتها في الذات البشرية لا تجد في النهاية إلا قوة واحدة هي قوة الله.
حتى الملاحدة حين تضيق بهم الأسباب يقولون : يا رب، يا الله. يقولونها من تلقاء أنفسهم، دون مرور بالعقل الذي أنكروا به وجود الله، وهذا يعني أن الفطرة الإيمانية قد تحجبها الأغيار البشرية وتلغيها، فإذا ما نامت الأغيار البشرية وتلاشت لحدث من الأحداث ظهرت الفطرة الإيمانية على السطح تلهمك بلا شعور.
لذلك نلحظ في قوله سبحانه :﴿ وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا... ١٧٢ ﴾( الأعراف ) شهدوا لأنهم ما يزالون في عالم الذر، لا تتحكم فيهم الأغيار البشرية﴿ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين١٧٢ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم... ١٧٣ ﴾( الأعراف )
والله خلق الإنسان خليفة له في الأرض، وسخر له كل هذا الكون، فإن ظل متمسكا بهذا المنهج، ووقف عند حد الخلافة يفوز، أما إن ظن أنه أصيل في الكون يخيب ويخسر، لكن الله الذي خلقه يعلم الأغيار فيه وهو خلقه وصنعته ؛ لذلك وجهه : أنت خليفتي في أرضي، وعليك أن تنظر إلى ما طلب منك فتؤديه، وإلا فسدت حياتك وتصادمت مع الآخرين، لأنك لست وحدك فيها، ولكي تنسجم مع غيرك لا بد أن تسير وفق منهجي، وفي دائرة قوانين من استخلفك.
ثم ينبهه من ناحية أخرى : يقول أنت أيها الإنسان، اعلم أن الأسباب ستستجيب لك، فإياك أن تظن أن لك قدرة عليها، أو أن لك جاها وعظمة، فتنسى أنك خليفة ؛ لذلك يقول سبحانه :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى ٦ أن رآه استغنى ٧ ﴾( العلق ) احذر حين تتم لك الأمور وتطاوعك الأسباب﴿ إن إلى ربك الرجعى٨ ﴾( العلق ) فسوف يقابلك من الأحداث ما لا تستطيع أسبابك أن تدفعها، ولن تجد مرجعا إلا إلي.
وكيف يطغى الإنسان وقد أعطاه الله فيضا من فيض كماله، أعطاه قدرة من قدرته، وعلما من علمه... إلخ فإذا نظرت نظرة بسيطة في فيوضات الله عليك لوجدتها كثيرة، بالله ماذا تفعل إن أردت أن تقوم من مكانك، أو أن تحرك يدك أو رجلك ؟ لا شيء، بمجرد أن تريد تنفعل لك أعضاؤك، وتطاوعك من حيث لا تدري.
وسبق أن قارنا بين حركة الإنسان وحركة الحفار مثلا، وكيف أنه يحتاج إلى عمليات معقدة، فكل حركة منه لها زر خاص يؤديها، فماذا تفعل أنت إن أردت أن تؤدي مثل هذه الحركات ؟
إنك بمجرد الإرادة ينفعل لك العضو، وكأن فيك فيضا من قوله تعالى :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ٨٢ ﴾( يس ) فإذا كنت أنت تفعل بمجرد أن تريد، فلماذا لا تصدق هذا في حق الله تبارك وتعالى ؟
لكن هذه الحركة وانفعال الأعضاء لك ليس ذاتيا فيك، ويستطيع خالقك أن يسلبها منك، فتريد أن ترفع يدك فلا تستطيع، فأنت تحت قيوميته تعالى، فلم يعطك من صفاته، ثم يتركك.. فربنا سبحانه يحذرنا : إذا استغنيت ستطغى ؛ فتنبه أن إلى ربك الرجعى.
ثم يلفت نظرنا من الآن إلى قضية أخرى قبل أن نتعرض للمخاطر :﴿ وإن يمسسك الله بضر... ١٠٧ ﴾( يونس ) فلا تتعب نفسك، وتذهب هنا أو هناك ؛ لأنه﴿ فلا كاشف له إلا هو... ١٠٧ ﴾( يونس )
هذه نصيحتي لك ؛ لأنك صنعتي، وأنا أحب أن تكون صنعتي على أرقى ما تكون من الكمال، فإذا مسك ضر لا تقدر على دفعه بأسبابك، فعليك بباب ربك.
هذه ثلاث قضايا أو نصائح نقدمها لك قبل أن تحل بك الأحداث والمصائب ؛ إن استغنيت ستطغى، وأن إلى ربك الرجعى، وإذا مسك ضر ؛ ولا حيلة لك في دفعه بأسبابك، فليس لك إلا الله تفزع إليه، والإله الذي ينبهنا إلى المخاطر لنتلافاها إله رحيم.
إذن : فأنتم تحبون الحياة، ولما نزلت بكم الأحداث والخطوب في السفينة خفتم الموت، ودعوتم الله بالنجاة، فأنتم حريصون على الحياة الدنيا، فلماذا لا تؤمنون بالله فتنالون حياة أخرى أبقى وأدوم ؟ والطريق إليها بالإيمان واليقين، وبمنهج الله في( أفعل )و( لا تفعل ).
هذه قضية ذكرها القرآن، أما واقع الحياة فقد أكدها، وجاءت الأحداث وفق ما قال. القضية :﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه... ١٢ ﴾( يونس ) الإنسان يعني مطلق الإنسان : المؤمن والكافر﴿ أو قاعدا أو قائما.... ١٢ ﴾( يونس ) يعني : في كل الأحوال، فلما جاءه الخطر وأصابه الضر دعا الله على أي حال كان.
وهذه الأحوال تمثل مراحل راحات النفس، فمثلا حين تسير وأنت تحمل شيئا، فحين تتعب أولا تضع عنك هذا الحمل، ثم تتوقف عن السير لتستريح، فإن كان التعب أشد تقعد، وإلا تضطجع على جنبك.
فأنت في وضع الوقوف تحمل ثقل الجسم كله على القدمين فتكون الراحة أقل، أما في حالة القعود يوزع ثقل الجسم على الوركين والمقعدة، وفي الاضطجاع يوزع ثقل نصف الجسم على نصفه فتكون الراحة أكبر، وفي ضوء هذا نفهم أن الله يستجيب لك حين تدعوه قائما، أو قاعدا، أو على جنبك.
وعجيب أمر الإنسان إذا نجاه الله مما يخاف وكشف عنه الضر عاد مرة أخرى ظالما لنفسه :﴿ فلكا كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه... ١٢ ﴾( يونس )
وفي لقطة أخرى يقول تعالى في هذه المسألة :﴿ وإذا مس الإنسان ضر... ٨ ﴾( الزمر ) أي ضر﴿ دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعو إليه من قبل... ٨ ﴾ ( الزمر ) ويا ليته نسى وسكت إنما﴿ وجعل لله أندادا... ٨ ﴾( الزمر ) فقال : الفضل لفلان، وقد استغثت بفلان، ولجأت إلى فلان.
نلحظ أن الكلام في هذه الآيات عن الإنسان المفرد، والإنسان حين يتضرع إلى الله لا يطلع عليه أحد، فالأمر بينه وبين ربه، لكن الحق سبحانه يريد أن يفضح الناس ببعض، فيقول في موضع آخر :﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعوه إلا إياه... ٦٧ ﴾( الإسراء )
فذكر الجماعة ليفضحهم أمام بعض ؛ لأن الإنسان يستر على نفسه، فالحكمة من الجمع هنا أن رؤية الناس قد تكون مانعة من الشر، فمثلا في موسم الحج ترى أكابر القوم وأوسطهم وأدناهم سواسية في الطواف، ويقف الواحد منهم يبكي عند الملتزم، وحين يراك صاحب المنصب أو المركز وهو من هو في بلده ساعة يعرف أنه رأيته وهو يبكي في هذا الموقف تراه يتواضع لك، ولا يتعالى عليك بعدها.
فالحق سبحانه حين يحذرنا من العودة إلى المعصية بعد أن يكشف عنا الضر إنما يعطينا المصل الواقي بصورة تحدث في الواقع، وكأنه تعالى يقول لنا : خذوا بالكم، واعلموا أنكم مفضوحون بكتاب الله فيما تحدثون من أحداث في حياتكم، فكل منكم ينبغي أن يعلم أنه مراقب من الأزل ومكتوبة عليه خواطره ؛ لأن معنى القرآن الحق أنه لا يتغير، وإذا قال الله فيه شيئا فلا بد أن يحدث كما أخبر الله به.
.
ومثالها في قوله تعالى :﴿ وليطوفوا بالبيت العتيق٢٩ ﴾( الحج )
وقوله سبحانه :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله... ٧ ﴾( الطلاق )
والدليل على أنها لام الأمر سكون اللام بعدها في قراءة من سكنها، وفي﴿ وليتمتعوا... ٦٦ ﴾( العنكبوت ) وقوله سبحانه :﴿ فسوف يعلمون٦٦ ﴾( العنكبوت ) فرق في الاستقبال بين السين وسوف، فلو قال : فسيعلمون لدلت على التهديد في المستقبل القريب، وأنه سيحل بهم العذاب في الدنيا، أما " سوف " فتدل على المستقبل البعيد، فتشمل التهديد في الدنيا وفي الآخرة فهي تستغرق الزمن كله، لأن المسلمين في مبادئ الأمر كانوا مستضعفين، لا يستطيعون حماية أنفسهم، وذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وسلم يطلبون منه أن يستنصر الله لهم فلو قال حينئذ في تهديد الكفار " فسيعلمون " لم تكن مناسبة، إنما أعطى الأمد الأوسع للتهديد، فقال :﴿ فسوف يعلمون ٦٦ ﴾ ( العنكبوت )
فقالوا : فما لنا إن فعلنا ؟ كان من الممكن أن يقول لهم : ستملكون الأرض أو ستنتشر دعوة الله بكم وتنتصرون على عدوكم، لكن هذه الوعود قد يراها بعضهم ويموت بعضهم قبل أن تتحقق، فلا يرى منها شيئا، لذلك ذكر لهم جزاء يستوي فيه الجميع من يعيش منهم، ومن يموت، فقال : " لكم الجنة " ٣.
وأيضا حين يصرفهم عن دنيا الناس إلى أمر يكون في الدنيا أيضا، فهي صفقة خاسرة، إنما أراد أن يصرفهم عن دنيا الناس إلى شيء أعظم مما في دنيا الناس، وليس هناك أعظم من دنيا الناس إلا الجنة.
والصحابي الذي أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وسلم بأن الجنة جزاء الشهيد، وكان يمضغ تمرة في فمه فقال : يا رسول الله، أليس بيني وبينك الجنة إلا أن قتل في سبيل الله ؟ قال : بلى، فألقى التمرات وبادر إلى ساحة القتال يستعجل هذا الجزاء٤إذن : فسوف صالحة للزمن المستقبل كله، أما السين فالقريب ؛ لذلك يستخدمها القرآن في مسائل الدنيا، كما في قوله تعالى :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم.... ٥٣ ﴾( فصلت )
وهذه الرؤية ممتدة من زمن رسول الله، وإلى أن تقوم الساعة، فكل يوم يجد في ظواهر الكون أمور تدل على قدرة الله تعالى، فمستقبل أسرار الله في كونه لا تنتهي أبدا إلا بالسر الأعظم في الآخرة، ففي زمن رسول الله قال ﴿ سنريهم... ٥٣ ﴾( فصلت ) وستظل كذلك﴿ سنريهم... ٥٣ ﴾( فصلت ) إلى أن تقوم الساعة.
ونلحظ أن المصاحف ما زال في رسمها كلام حتى الآن، فهنا ﴿ وليتمتعوا... ٦٦ ﴾( العنكبوت ) تجد تحت اللام كسرة، مع أنها ساكنة، وهذا يعني أن كتاب الله غالب، وليس هناك محص له.
وأذكر أن سيدنا الشيخ الباقي ٥ رضي الله عنه وجزاه الله عما أذكر
قدم للإسلام خير الجزاء- أعد المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم وحاول أن يحصى ألفاظه لا سيما لفظ الجلالة ( الله ) الذي من أجله أعد هذا الكتاب، ومع ذلك نسى لفظ الجلالة في البسملة، وبدأ من﴿ الحمد لله رب العالمين ٢ ﴾( الفاتحة ) ؛ لذلك نقص العدد عنده واحدا٦. وما ذلك إلا لأن كتاب الله أعظم وأكبر من أن يحاط به.
٢ قال جمال الدين ابن هشام الأنصاري في مغنى اللبيب(١/١٨٦) طبعة عيسى البابي الحلبي:" وأما ﴿ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا... ٦٦﴾(العنكبوت) فيحتمل اللامان، منه التعليل فيكون ما بعدهما منصوبا، والتهديد فيكون مجزوما، ويتعين الثاني في اللام الثانية في قراءة من سكنها، فيترجح بذلك أن تكون اللام الأولى كذلك، ويؤيده أن بعدهما ﴿فسوف يعلمون ٦٦﴾(العنكبوت)"..
٣ عن أبي مسعود البدري قال: "انطلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعه العباس إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة فقال: ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم من المشركين عينا وإن يعلموا بكم يفضحوكم فقال قائلهم وهو أبو أمامة: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله عز وجل وعليكم إذا فعلنا ذلك فقال: أسألكم لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤونا وتنصرونا وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة. قالوا: فلك ذلك. أخرجه أحمد في مسنده(٤/١٢٠)..
٤ أخرجه مسلم في صحيحه(١٨٩٩)، وكذا البخاري في صحيحه(٤٠٤٦) من حديث جابر رضي الله عنه"أن رجلا قال للنبي يوم أحد" الحديث. قال ابن حجر العسقلاني في الفتح(٧/٣٥٤) :"لم أقف على اسمه"..
٥ هو: محمد فؤاد عبد الباقي، ولد في قرية بالقليوبية بمصر عام١٨٨٢م، ونشأ في القاهرة، ودرس في بعض مدارسها، ثم عمل مترجما عن الفرنسية في البنك الزراعي (١٩٠٥-١٩٣٣) وانقطع في التأليف. توفي بالقاهرة عام ١٩٦٨م عن٨٦ عاما.(الأعلام للزركلي٦/٣٣٣)..
٦ أورد محمد فؤاد عبد الباقي (١١٢٥) موضعا في القرآن ذكر فيه لفظ الجلالة مجرورا مبتدئا بقوله تعالى﴿الحمد لله رب العالمين ٢﴾(الفاتحة)..
﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ٦٧ ﴾
( رأى ) قلنا : تأتي بصرية، وتأتي بمعنى علم، ومنه قولنا في الجدال مثلا أرى في الموضوع الفلاني كذا وكذا، ويقولون :( ولرأى الرؤيا انم ما لعلمنا )، وتجد في أساليب القرآن كلاما عن الرؤيا المخاطب بها غير راء للموضوع، كما في قوله سبحانه مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل١ ﴾( الفيل )
ومعلوم أن النبي لم ير ما حدث من أمر الفيل ؛ لأنه ولد في هذا العام فرأى هنا بمعنى علم، لكن لماذا عدل عن ( ألم تعلم ) إلى ( ألم نر ) ؟ قالوا : لأن المتكلم هنا هو الله تعالى، فكأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرتك بشيء، فإن إخباري لك به أصدق من رؤيتك.
يقول سبحانه :﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم... ٦٧ ﴾( العنكبوت ) فالحرم آمن رغم ما حدث له من ترويع قبل الإسلام حين فزعه أبرهة، وفي العصر الحديث لما فزعه ( جهيمان )، وعلى مر العصور حدثت تجاوزات في الحرم تتناقض في ظاهرها مع هذا الأمن.
ونقول :﴿ كلمة{ حرما آمنا... ٦٧ ﴾( العنكبوت ) في القرآن بالنسبة للكعبة فيها ثلاثة إطلاقات : فالذين يعيشون فيه وقت نزول هذه الآيات يرون أنه حرم آمن، وهذا الأمن موهوب لهم منذ دعوة سيدنا إبراهيم –عليه السلام-.
فحين دعا ربه :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم... ٣٧ ﴾( إبراهيم ) كان مكانا خاليا، لا حياة فيه وغير مسكون، ومعنى ذلك أنه لم تكن به مقومات الحياة، فالإنسان لا يبني ولا يستقر إلا حيث يجد مكانا يأمن فيه على نفسه، ويتوفر له فيه كل مقومات حياته.
لذلك دعا إبراهيم ربه أن يجعل هذا المكان بلدا آمنا يعني يصلح لأن يكون بلدا، فقال :﴿ رب اجعل هذا بلدا آمنا ١٢٦ ﴾( البقرة )
وبلد هنا نكرة تعني : أي بلد لمؤمنين أو لكافرين، فلما استجاب الله له، وجعلها بلدا كأي بلد تتوفر له مقومات الحياة دعا مرة أخرى :﴿ رب اجعل هذا البلد آمنا... ٣٥ ﴾( إبراهيم ) أي : هذه التي صارت بلدا أريد لها ميزة على كل البلاد، وأمنا أزيد من أمن أي بلد آخر، أمنا خاصا بها، لا الأمن العام الذي تشترك فيه كل البلاد، لماذا ؟ لأن فيها بيتك.
لذلك يرى فيها الإنسان قاتل أبيه، ولا يتعرض له حتى يخرج، فالجاني مؤمن إن دخل الحرم، لكن يضيق عليه أسباب الحياة حتى يخرج، حتى لا يجترئ الناس على بيت الله ويفسدون أمنه، ومن هذا الأمن الخاص ألا يصاد فيه، ولا يعضد شجره، ولا يروع ساكنه.
وكأن الحق –سبحانه وتعالى- يقول للمشركين : لماذا لا تؤمنون بهذا الدين الذي جعل لكم بلدا آمنا، في حين يتخطف الناس من حولكم ؟ لماذا لا تحترمون وجودكم في هذا الأمن الذي وهبه الله لكم.
وعجيب منهم أن يقولوا كما حكى القرآن عنهم :﴿ وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا.... ٥٧ ﴾( القصص ) كيف وقد حميناكم أيام كنتم مشركين تعبدون الأصنام، أنترككم بعد أن تؤمنوا مع رسول الله.
وقصة هذا الأمن أولها في حادثة الفيل، لما جاء أبرهة ليهدم بيت الله ويحول الناس إلى بيت بناه باليمن، فرد الله كيدهم، وجعلهم كعصف ١ مأكول، وحين نقرأ هذه السورة على الوصل بما بعدها تتبين لنا العلة من هذا الأمن، ومن هذه الحماية، اقرأ :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل١ ألم يجعل كيدهم تضليل٢ وأرسل عليهم طيرا أبابيل٣ ترميهم بحجارة من سجيل ٤ فجعلهم كعصف مأكول ٥ ﴾( الفيل ) لماذا ؟ ﴿ لإيلاف قريش١ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف٢ ﴾( قريش )
فالعلة في أن جعلهم الله كعصف مأكول﴿ لإيلاف قريش١ ﴾( قريش ) لأن اللام في( لإيلاف ) للتعليل، وهي في بداية كلام. فالعلة في أن الله لم يمكن الأعداء من هدم البيت لتظل لقريش مهابتها ومكانتها بين العرب، ومهابتها مرتبطة بالبيت الذي يقصده الناس من كل مكان.
وهذه المكانة تؤمن تجارة قريش في رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، لا يتعرض لهم أحد بسوء، وكيف يجترئ أحد عليهم أو يتعرض لتجارتهم وهم حياة البيت ؟
فمعنى﴿ لإيلاف قريش١ ﴾( قريش ) أي الله أهلك أبرهة وجنوده ولم يمكنهم من البيت لتظل لقريش، وليديم الله عليها أن يؤلفوا وأن يحبوا من الناس جميعا، ويواصلوا رحلاتهم التجارية الآمنة.
لذلك يقول تعالى بعدها﴿ فليعبدوا رب هذا البيت٣ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ٤ ﴾( قريش ) فكان من الواجب عليهم أن يعبدوا رب البيت الذي وهبهم هذه النعم، فما هم فيه من أمن وأمان وطعام وشراب ليس بقوتهم، إنما بجوارهم لبيت الله، ولبيت الله قداسته عند العرب، فلا يجرؤ أحد منهم على الاعتداء على تجارة قريش.
فقولهم لرسول الله :﴿ إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا... ٥٧ ﴾( القصص ) حجة لله عليهم، ففي الوقت الذي يتخطف الناس فيه من حولهم كانوا هم في أمان، فهي حجة عليهم.
ثم إن الشرط هنا﴿ إن نتبع الهدى معك... ٥٧ ﴾( القصص ) فما دمتم قلتم عن الدين الذي جاءكم به محمد أنه هدى- يعني هدى لله- فكان يجب عليكم أن تؤمنوا به لو تأكد لديكم أنه هدى، وإلا فأنتم كاذبون في هذا القول، ولم لا وأنتم تكذبون القرآن وتقولون عنه افتراء وكذب وسحر، والآن تقولون عنه هدى، وهذا تناقض عجيب.
ألم يقولوا﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٣١ ﴾( الزخرف ) ومعنى هذا أن القرآن لا غبار عليه، لكن آفته أنه نزل على هذا الرجل بالذات.
وقوله تعالى﴿ أفبالباطل يؤمنون... ٦٧ ﴾( العنكبوت ) أي : بالأصنام ﴿ وبنعمة الله يكفرون٦٧ ﴾( العنكبوت ) قال﴿ وبنعمة الله... ٦٧ ﴾( العنكبوت ) ولم يقل مثلا : وبعبادة الله، أو بالإيمان بالله يكفرون ؛ لأن إيمانهم لو لم يكن له سبب إلا نعم الله عليهم أن يطعمهم من جوع، ويؤمنهم من خوف لكان واجبا عليهم أن يؤمنوا به.
والباطل مقابل الحق، وهو زهوق لا دوام له، فسرعان ما يفسد وينتهي، فإن قلت ما دام أن الباطل زهوق وسينتهي، فما الداعي للمعركة بين حق وباطل ؟
نقول : لولا عضة الباطل للمجتمع لما استشرف الناس للحق ينقذهم، فالباطل نفسه جند من جنود الحق، كما أن الكفر جند من جنود الإيمان، فلولا الكفر وما يفعله الكافرون بالناس لما اشتاق الناس للإيمان، فلولا الكفر وما يفعله الكافرون بالناس لما اشتاق الناس للإيمان، الذي يوفر لهم الأمن والطمأنينة والراحة والمساواة.
كما أن معنى كفر يعني ستر الإله الواجب الوجود، والستر يحتاج إلى مستور، فما هو المستور بالكفر ؟ المستور بالكفر الإيمان، فكلمة كفر نفسها دليل وجود الإيمان.
وسبق أن قلنا : إن الإنسان قد يكره بعض الأشياء، وهي لمصلحته ولحكمة خلقها الله، ومثلنا لذلك بالألم الذي يتوجع منه الإنسان، وهو في الحقيقة تنبيه له واستنهاض ليعلم سبب هذا الألم ويتنبه، فيدفع المرض عن نفسه، ويطلب له الدواء.
فالألم بهذا المعنى جند من جنود العافية، وإلا فأفتك الأمراض بالبشر ما ليس له ألم ينبه إليه، فيظل كامنا في الجسم حتى يستفحل أمره، وتعز مداواته ؛ لذلك يصفونه بالمرض الخبيث ؛ لأنه يتلصص في الجسم دون أن يظهر له أثر يدل عليه.
فالحق- سبحانه وتعالى- خلق الألم لحكمة ؛ لينبهك أن في موضع الألم عطبا، وأن الجارحة التي تألم غير صالحة لأداء مهمتها ؛ لذلك يقولون في تعريف العافية : العافية ألا تشعر بأعضائك، لك أسنان تأكل منها، لكن لا تدري بها، وربما لا تتذكر هذه النعمة إلا إذا أصابها عطب فآلمتك.
إذن : حين تعلم جارحتك وتتألم، فاعلم أنها غير طبيعية، وأنها لا تؤدي مهمتها كما ينبغي، فعليك أن تبادر بعلاجها.
وأيضا حين يزدهر الباطل، وتكون له صولة، فإنما ذلك ليشعرك بحلاوة الحق، فتستشرف له وتتمناه، لذلك انتشر الإسلام في البلاد التي فيها أغلبية إسلامية، لا بالسيف كما يحلو للبعض أن يقول، إنما انتشر برؤية الناس لمبادئه وسماحته.
ففي بلاد فارس والروم ذاق الناس هناك كثيرا من المتاعب من دياناتهم ومن قوانينهم، فلما سمعوا عن الإسلام ومبادئه وسماحة تعاليمه أقبلوا عليه.
فلولا أن الباطل عضهم لما لجأوا للإيمان، فالإسلام انتشر انتشارا عظيما في نصف قرن من الزمان، ولم يكن هذا نتيجة الاندفاع الإيماني ليدخل الناس في الإسلام، إنما لجذب الضلال للإيمان، فكأن الإسلام مدفوع بأمرين : أهله الحريصون على انتشاره، وباطل يجذب الناس إليه.
والحق- سبحانه وتعالى- يعطينا مثلا للحق وللباطل في قوله تعالى :﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ١٧ ﴾( الرعد )
فالزبد : هو القش والفتات الذي يحمله الماء، فيكون طبقة على سطح الماء، ثم يزيحه الهواء إلى الجوانب، ويظل الماء بعده صافيا، فالزبد مثل للباطل ؛ لأنه يعلو على سطح الماء، لكن إياك أن تظن أنه ذو شأن، أو أن علوه سيدوم ؛ لأنه غثاء لا قيمة له، وسرعان ما يزول ويبقى الماء النافع، وكما يتكون الزبد على سطح الماء كذلك يتكون عند صهر المعادن، فحين يصهر الصائغ مثلا الذهب أو الفضة يخرج المعدن الأصيل تاركا على الوجه الخبث الذي خالطه.
لذلك يقول بعض العارفين : إن الله تعالى لا يترك الحق، ولا يسلمه أبدا للباطل، إنما يتركه لحين ليبلو غيرة الناس عليه، فإذا لم يغاروا على الحق غار هو سبحانه عليه.
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ٦٨ ﴾
هذا استفهام يريد منه الحق –سبحانه وتعالى – قضية يقرها المقابل، فلم يوردها بصيغة الخبر : لا أظلم ؛ لأن الخبر في ذاته يحتمل الصدق أو الكذب، فجاء بصيغة الاستفهام لتنطق أنت بالقضية، كما تقول لمن ينكر معروفك : من أعطاك هذا الثوب ؟ فلا يملك إلا أن يعترف بفضلك، لكن إن قلت له إخبارا : أنا أعطيتك هذا الثوب، فالخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، وربما ينكر فيقول : لا لم تعطني شيئا.
إذن : إيراد الكلام بأسلوب الاستفهام أقوى في تقرير واقع من أسلوب الخبر ؛ لأن الخبر يأتي من المتكلم، أما الإقرار فمن السامع، وأنت لا تلقي بالاستفهام إلا وأنت واثق أن الجواب سيأتي على وفق ما تريد.
فمعنى﴿ ومن أظلم.... ٦٨ ﴾( العنكبوت ) لا أحد أظلم، والظلم : نقل الحق من صاحبه إلى غيره، والظلم قد يكون كبيرا وعظيما، وهو الظلم في القمة في العقيدة، كما قال سبحانه :﴿ إن الشرك لظلم عظيم١٣ ﴾( لقمان )
وقد يكون الظلم بسيطا هينا، فالذي افترى على الله الكذب، لا أحد أظلم منه ؛ لأنه لو افترى على مثله لكان أمره هينا، لكنه افترى على من ؟ على الله، فكان ظلمه عظيما، ومن الحمق أن تفتري على الله ؛ لأنه سبحانه أقوى منك يستطيع أن يدلل، وأن يبرهن على كذبك، ويستطيع أن يدحرك، وأن يوقفك عند حدك، فمن اجترأ على هذا النوع من الظلم فإنما ظلم نفسه.
وقلنا : إن الافتراء كذب، لكنه متعمد ؛ لأن الإنسان قد يكذب حين يخبر على مقتضى علمه، إنما الواقع خلاف ما يعلم، لذلك عرف العلماء الصدق والكذب فقالوا : الصدق أن يطابق الكلام الواقع، والكذب أن يخالف الكلام الواقع، فلو قلت خبرا على مقتضى علمي، ولم أقصد مخالفة الواقع، فإن خالف كلامي الواقع فالخبر كاذب، لكن المخبر ليس بكاذب.
وقوله سبحانه :﴿ أو كذب بالحق لما جاءه... ٦٨ ﴾( العنكبوت ) فيا ليته افترى على الله كذبا ابتداء، إنما صعد كذبه إلى مرحلة أخرى فعمد إلى أمر صدق وحق فكذبه، ثم يقرر جزاء هذا التكذيب بأسلوب الاستفهام أيضا ﴿ أليس في جهنم مثوى للكافرين ٦٨ ﴾( العنكبوت ) يعني : أضاقت عنهم النار، فليس بها أمكنة لهؤلاء ؟ بلى بها أمكنة لهم، بدليل أنها ستقول وهي تتشوق إليهم حين تسأل :﴿ هل امتلأت وتقول هل من مزيد٣٠ ﴾( ق )
وكأن الحق سبحانه يقول : لماذا يفترى هؤلاء على الله الكذب ؟ ولماذا يكذبون بالحق ؟ اعلموا أن جهنم ليس بها أماكن لهم ؟ فالاستفهام في ﴿ ألي في جهنم مثوى للكافرين ٦٨ ﴾( العنكبوت ) استفهام إنكاري ينكر أن يظن المكذبون الكافرون أنه لا مكان لهم في جهنم.
فالحق سبحانه في إراداته أزلا أن يخلق الخلق من لدن آدم- عليه السلام- وإلى أن تقوم الساعة، وأن يعطيهم الاختيار ﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر... ٢٩ ﴾( الكهف ) وقدر أن يؤمنوا جميعا فأعد لهم أماكنهم في الجنة، وقدر أن يكفروا جميعا فأعد لهم أماكنهم في النار.
فإذا كان يوم القيامة يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يورث الله المؤمنين في الجنة أماكن الكافرين فيها فيتقاسمونها بينهم، وكذلك يتقاسم أهل النار أماكن المؤمنين في النار بالرد، فمن كان له في النار مكان واحد يصير له مكانان.
كما أن الاستفهام ﴿ أليس في جهنم مثوى للكافرين٦٨ ﴾( العنكبوت ) يجعل السامع يشاركك الكلام، وفيه معنى التقريع والتوبيخ، كما في قوله تعالى :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ٢٩ وإذا مروا بهم يتغامزون٣٠ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين٣١ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون٣٢ وما أرسلوا عليهم حافظين ٣٣ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ٣٤ على الأرائك ينظرون ٣٥ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ٣٦ ﴾( المطففين )
يلتفت الله إلى المؤمنين الذين استهزئ بهم في الدنيا : هل قدرنا أن نجازي هؤلاء الكافرين، ونرد إليكم حقوقكم- وفي هذا إيناس للمؤمنين وتقريع للكافرين- فيقولون : نعم يا رب، نعم يا رب، نعم يا رب، فالحق سبحانه يريد أن يحرش المؤمنين بهم، فلا يلينون لهم، ولا يعطفون عليهم، لأنهم طغوا وتكبروا، وعرضت عليهم الحجج والأدلة فكذبوها وأصروا على عنادهم، فبالغوا في الظلم.
وبعد أن بين الحق سبحانه أن مثوى الكافرين المكذبين في جهنم وحرش المؤمنين بهم، وما داموا قد ظلموا هذا الظلم العظيم لا بد أن يوجد تأديب لهم، هذا التأديب لا لإرغامهم على الإيمان، ﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر... ٢٩ ﴾( الكهف ) إنما التأديب أن نجهر بدعوتنا، وأن نعلى كلمة الحق، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليظل على حاله، إذن : فالآية تبين موقف المؤمنين أمام هؤلاء المكذبين :﴿ والذين جاهدوا ١ فينا لنهدينهم سبلنا... ٦٩ ﴾( العنكبوت )
معنى( جاهدوا فينا ) أي : من أجلنا ولنصرة ديننا، والخصومات التي نجاهدها في الله كثيرة : خصومة في مسألة القمة الإيمانية ووجود الإله الواحد كالملاحدة الذين يقولون بعدم وجود إله في الكون، وهؤلاء لهم جهاد، وأهل الشرك الذين يقرون بوجود الله لن يدعون أن له شريكا، وهؤلاء لهم جهاد آخر.
فجهاد الملاحدة بالمنطق وبالحجة ليقولوا هم بأنفسهم بوجود إله واحد، ونقول لهم : هل وجد من ادعى أنه خلق ذاته أو خلق غيره ؟ بل تأملوا في أتفه الأشياء التي تستخدمونها في حياتكم : هذا الكوب الزجاجي وهو ترف ليس من ضروريات الحياة هل تقولون : إنه وجد هكذا دون صانع ؟ إذن : كيف وجد ؟ هل لدينا شجرة مثلا تطرح لنا هذه الأكواب ؟
إذن : هي صنعة لها صانع، استخدم العقل الذي منحه الله إياه، وأعمله في المواد التي جعلها الله في الكون، واستنبط منها هذه المادة( الزجاج ).
مصباح الكهرباء الذي اخترعه( إديسون ) كم أخذ منه من جهد وبحث ودراسة، ثم يحتاج في صناعته إلى معامل ومهندسين وصيانة، ومع ذلك حصاة صغيرة تكسره فينطفئ، وقد أخذ ( أديسون ) كثيرا من الشهرة وخلدنا ذكراه، وما زالت البشرية تذكر له فضله.
أفلا ينظرون في الشمس التي تنير الدنيا كلها منذ خلقها الله وإلى قيام الساعة دون أن تحتاج إلى صيانة، أو إلى قطعة غيار ؟ وهل يستطيع أحد أن يتناولها ليصلحها ؟ وهل تأبت الشمس عن الطلوع في يوم من الأيام، وما تزال تمدكم بالحرارة والأشعة والدفء والنور ؟
أتعرف من صنع المصباح، ولا تعرف من صنع الشمس ؟ لقد فكرتم في أتفه الأشياء وعرفتم من صنعها، وأرختم لهم، وخلدتم ذكراهم ألم يكن أولى بكم التفكر في عظمة خلق الله والإيمان به ؟
ثم قل لي أيها الملحد : إذا غشيك ظلام الليل، كيف تضيئه ؟ قالوا : كل إنسان يضيء ظلام ليله على حسب قدرته، ففي الليل ترى الإضاءات مختلفة، هذا يجلس في ضوء شمعة، وهذا في ضوء لمبة جاز، وهذا في ضوء لمبة كهرباء، وآخر في ضوء لمبة نيون، فالأضواء في الليل متباينة تدل على إمكانات أصحابها، فإذا ما طلعت الشمس، وأضاء المصباح الرباني أطفئت كل هذه الأضواء، ولم يعد لها أثر مع مصباح الخالق الأعظم سبحانه.
أليس في هذا إشارة إلى أنه جاءنا حكم من عند الله ينبغي أن نطرح أحكامنا جميعا لنستضئ بحكم الله ؟ أليس في صدق المحسوس دليل على صدق المعنويات ؟
وأنت يا من تدعي أن لله شريكا في ملكه : من الذي قال إن لله شريكا ؟ لقد قلتها أنت من عند نفسك ؛ لأن الله تعالى حين قال : أنا إله واحد لا شريك لي لم يعارضه أحد، ولم يدع أحد أنه شريك لله.
فهذا دليل على أن الشريك غير موجود، أو أنه موجود ولم يدر، أو درى ولم يقدر على المواجهة، وفي كلتا الحالتين لا يصلح أن يكون إلها.
ثم على فرض أنه موجود، ما منهجه ؟ بماذا أمرك وعم نهاك ؟ ماذا أعد لك من النعيم إن عبدته ؟ وماذا أعد له من العذاب إن كفرت به ؟ إذن : فهذا الإله المزعوم إله بلا منهج، فعبادته باطلة.
أما هؤلاء الذين يؤمنون بدين سماوي ولا يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم فنقول لهم : يكفي من جوانب العظمة في شخصية محمد بن عبد الله أنه لا يتعصب لنفسه ؛ لأن قلبه مع كل من يؤمن بالله حتى وإن كفر به، محمد يحب كل من آمن بربه، وإن كفر بمحمد، إنه يتعصب لربه حتى فيمن كذبه.
ثم أنتم يا أصحاب الديانات اليهودية أو المسيحية الذين عاصرتم ظهور الإسلام فأنكرتموه، مع أن دينكم جاء بعد دين، ورسولكم جاء بعد رسول سابق، فلماذا لما جاءكم محمد كذبتموه وكفرتم به ؟ لماذا أبحتم أن يأتي عيسى بعد موسى عليهما السلام، وأنكرتم أن يأتي بعد عيسى محمد ؟
إذن : لكل خصومة في دين الله جدل خاص ومنطق للمناقشة تقوم به في ضوء :﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا... ٦٩ ﴾( العنكبوت ) وعليك أن تنظر أولا ما موقع الجهاد الذي تقوم به، فجهاد الملاحدة بأسلوب، وجهاد المشركين بأسلوب، وجهاد أهل الكتاب بأسلوب، وجهاد المسلم للمسلم كذلك له منطق إن دب بينهما الخلاف، مع أن الله تعالى قال :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء... ١٥٩ ﴾( الأنعام )
فساعة ترى كلا منهما في طرف، بحيث لا تستطيع أن تتبع أحدهما، فاعلم أنهما على باطل، لأن الإسلام شيء واحد سبق أن شبهناه بالماء الأبيض الصافي الذي لم يخالطه لون ولا رائحة ولا طعم، فإن لونته الأهواء وتحزب الناس فيه كما يلونون العصائر فقد جانبهم الصواب وأخطأوا الدين الصحيح.
لأن ما جاء فيه حكم صريح من عند الله اتفقنا عليه، وما تركه الله لاجتهادنا فينبغي على كل منا أن يحترم اجتهاد الآخر، وأن يقول : رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب، وبهذا المنطق تتعايش الآراء.
والحق- سبحانه وتعالى- يعطينا المثل على ذلك، فما أراده سبحانه في المنهج محكما يأتي محكما في قول واحد لا خلاف فيه، وضربنا مثلا لذلك بآية الوضوء :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق... ٦ ﴾( المائدة )
فلم يحدد الوجه ؛ لأنه لا خلاف في تحديده بين الناس، إنما حدد الأيدي لأنها محل خلاف. إذن : فالقضايا التي تثار بين المسلمين ينبغي أن يكون لها جدل خاص في هذا الإطار دون تعصب، فما جاءك محكما لا مجال فيه لرأي التزم به الجميع، وما ترك بلا تنصيص لا يحتمل الخلاف، فليذهب كل واحد إلى ما يحتمله النص.
فالباء في لغتنا مثلا تأتي للتبعيض، أو للاستعانة، أو للإلصاق، فإن أخذت بمعنى فلا تحجر على غيرك أن يأخذ بمعنى آخر.
فإن استعر القتال بين طائفتين من المسلمين، فيجب أن تكون هناك طائفة معتدلة تتولى أمر الإصلاح، كما قال سبحانه :
﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين٩ ﴾( الحجرات )
نلحظ أن الله تعالى سماهم مؤمنين، ومعنى ذلك أن الإيمان لا يمنع أن نختلف، وهذا الإيمان الذي لا يمنع أن نختلف هو الذي يوجب علينا أن يكون منا طائفة معتدلة على الحياد لا تميل هنا أو هناك، تقوم بدور الإصلاح وبدور الردع للباغي المعتدي حتى يفيء إلى الجادة وإلى أمر الله.
فإن فاءت فلا نترك الأمور تخيم عليها ظلال النصر لفريق، والهزيمة لفريق آخر، إنما نصلح بينهما، ونزيل ما في النفوس من غل وشحناء، فقد تنازل القوي عن كبريائه لما ضربنا على يده، وقوى الضعيف بوقوفنا إلى جانبه، فحدث شيء من التوازن وتعادلت الكفتان، فليعد الجميع إلى حظيرة الأمن والسلام.
بقي لنا أن نتحدث عن جهاد آخر أهم، هو جهاد النفس البشرية ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من إحدى الغزوات قال : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " ٢ فوصف جهاد النفس بأنه الجهاد الأكبر، لماذا ؟ لأنك في ساحة القتال تجاهد عدوا ظاهرا، يتضح لك عدده وأساليبه، أما إن كان عدوك من نفسك ومن داخلك، فإن يعز عليك جهاده، فأنت تحب أن تحقق لنفسك شهواتنا، وأن تطاوعها في أهوائها ونزواتها، وهي في هذا كله تلج عليك وتتسرب من خلالك.
فعليك أن تقف في جهاد النفس موقفا تقارن فيه بين شهوات النفس العاجلة وما تورثك إياه من حسرة آجلة باقية، وما تضيعه عليك من ثواب ربك في جنة فيها من النعيم، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ضم ربك ونفسك في هذه المقابلة وتبصر، واعلم أن لربك سوابق معك، سوابق خير أعدها لك قبل أن توجد، فالذي أعد لك كل هذا الكون، وجعله لخدمتك لا شك مأمون عليك، وأنت بعده وصنعته، وهل رأيت صانعا يعمد إلى صنعته فيحطمها ؟
أما إن رأيت النجار مثلا يمسك( بالفارة ) وينحت في قطعة الخشب، فاعلم أنه يصلحها لأداء مهمتها، وأذكر قصة الطفل ( أيمن ) الذي جاء أمه يبكي ؛ لأن الخادمة تضرب السجادة، فأخذته أمه وأرته التراب الذي يتساقط من السجادة في كل ضربة من ضربات الخادمة، ففهم الطفل على قدر عقله.
وكذلك الحق سبحانه حين يبتلي خلقه، فإنما يبتليهم لا كيدا فيهم، بل إصلاحا لهم. ألم نسمع كثيرا أما تقول لوحيدها ( إلهي أشرب نارك ) ؟ بالله ما حالها لو استجاب الله لها ؟ وهي في الحقيقة لا تكره وحيدها وفلذة كبدها، إنما تكره فيه الخصلة التي أغضبتها منه.
وكذلك الحق- سبحانه وتعالى- لا يكره عبده، إنما يكره فيه الخصال السيئة فيريد أن يطهره منها بالبلاء حتى يعود نقيا كيوم ولدته أمه، فأحسن أيها الإنسان ظنك بربك.
إذن : نقول : إن من أعظم الجهاد جهادك لنفسك، لأنها تلج عليك أن تشبع رغباتها، كما أنها عرضة لإغراء الهوى ووسوسة الشيطان الذي يزين لها كل سوء، ويحبب إليها كل منكر.
وسبق أن بينا : كيف نفرق بين تزيين الشيطان وتزيين النفس ؛ لأن للنفس مدخلا في المعصية بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين " ٣.
فلو كانت الذنوب كلها بسبب الشيطان لم نجد من يذنب في رمضان، إنما هناك كثير من الذنوب ترتكب في رمضان، وهذا يعني أنها من تزيين النفس، وكأن الحق سبحانه أراد أن يكشف ابن آدم : ها أنا قد صفدت الشياطين ومع ذلك تذنبون.
فإن أردت أن تعرف هل المعصية من النفس أم من الشيطان، فإن النفس تقف بك عند معصية بعينها لا تريد سواها، ولا تنتقل بك إلى غيرها، وتظل تلح عليك إلى أن توقعك فيها، أما الشيطان فإنه يريدك عاصيا بأية صورة وعلى أية حال، فإن تأبيت عليه نقلك إلى معصية أخرى.
وعلى العاقل أن يتأمل، فالمعصية تعطيك لذة عاجلة ومتعة فانية، لا تليق أبدا بهذا الإنسان الذي كرمه الله، وجعله خليفة له في الأرض، وسيدا لهذا الكون، والكون كله بأرضه وسمائه خادم له، فهل يعلق أن يكون الخادم أطول عمرا من المخدوم ؟
إنك تموت بعد عام أو بعد مائة عام، في حين أن الشمس التي تخدمك تعمر ملايين السنين : إذن : لا بد أن لك حياة أخرى أبقى وأدوم من حياة خادمك، فإن كنت الآن في حياة توصف بأنها دنيا، فهذا يعني أنها تقابلها حياة أخرى توصف بأنها عليا، وهي حياتك في الآخرة، حيث لا موت فيها أبدا.
والقرآن الكريم حينما يحد
٢ أخرجه الخطيب البغدادي في"تاريخ بغداد" (١٣/٤٩٣)..
٣ أخرجه أحمد في مسنده (٢/٣٥٧) والبخاري في صحيحه(١٨٩٩)، وكذا مسلم في صحيحه(١٠٧٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال ابن حجر في الفتح(٤/١١٤): "قال القاضي عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين..