ﰡ
١٦٠ - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيِّران أن يهلكا أبو بكر وعمر، لما قدم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد بني تميم أشار أحدهما بالأقرع بن حابس الحنظلي أخي بني مجاشع، وأشار الآخر بغيره، فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي، فقال عمر: ما أَردت خلافك، فارتفعت أصواتهما عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) إلى قوله: (عَظِيمٌ).
قال ابن أبي مليكة: قال ابن الزبير: فكان عمر بعدُ - ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني - أبا بكر - إذا حدث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحديث، حدثه كأخي السرار، لم يسمعه حتى يستفهمه.
ولفظ النَّسَائِي أن الآية نزلت إلى قوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث في سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي وابن عاشور.
قال ابن كثير: (وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي - ى - فوق صوته، وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) اهـ.
وقال الشنقيطي: (سبب نزول هذه الآية الكريمة أنه لما قدم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد بني تميم... فذكر الحديث بتمامه. ثم قال:
وهذه الآية الكريمة عَلَّمَ الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويحترموه ويوقروه، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض) اهـ. محل الشاهد.
قال ابن عاشور: (وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في صحيحه في قصة وفد بني تميم بسنده إلى ابن الزبير... فذكر الحديث) اهـ.
أما لفظ النَّسَائِي أنها نزلت إلى قوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) فهذا لا صلة له بقصة الشيخين - رضي الله عنه - وإنما صلته بالذين ينادون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وراء الحجرات كما ذكر ذلك المفسرون؛ لأن الله وصفهم بأنهم لا يعقلون وهذا لا يناسب حال الشيخين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا هو سبب نزول هذه الآيات الكريمة لصحة سنده وصراحة لفظه، وموافقته لسياق القرآن واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) قال: قام رجل فقال: يا رسول الله إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ذاك الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر بعض المفسرين الحديث بنصه كالطبري والقرطبي وابن كثير.
وبعضهم ذكر أحاديث مشابهة كالبغوي وابن عطية وابن عاشور.
قال الطبري: (وذُكر أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في قوم من الأعراب جاؤوا ينادون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وراء حجراته: يا محمد اخرج إلينا) اهـ.
قال ابن كثير: (وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما أورده غير واحد) اهـ.
قال ابن عطية: (نزلت في وفد بني تميم حيث كان الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وغيرهم وذلك أنهم وفدوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدخلوا المسجد ودنوا من حجر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي تسعة فنادوا بجملتهم ولم ينتظروا: يا محمد اخرج إلينا فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير) اهـ.
وقال ابن عاشور: (والمراد بالذين ينادون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وراء الحجرات جماعة من وفد بني تميم جاؤوا المدينة في سنة تسع وهي سنة الوفود وكانوا سبعين رجلاً أو أكثر) اهـ.
قال السعدي: (نزلت هذه الآيات الكريمة في ناس من الأعراب الذين وصفهم اللَّه بالجفاء، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، قدموا وافدين على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدوه في بيته وحجرات نسائه فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج بل نادوه: يا محمد يا محمد. أي اخرج إلينا،
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا وإن كان إسناده لا يخلو من مقال فإن سياق القرآن، وإجماع المفسرين يعضد القول بأنه سبب نزول الآيتين الكريمتين واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الإمام أحمد عن عيسى ابن دينار قال: حدثنا أبي أنه سمع الحارث بن أبي ضرارٍ الخزاعي، قال: قدمت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعاني إلى الإسلام، فدخلتُ فيه وأقررتُ به، فدعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول اللَّه أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعتُ زكاته فيُرسل إليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولاً لإبّان كذا وكذا ليأتيك ما جمعتُ من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول، فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسوله، فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان وقّت لي وقتًا يُرسل إليَّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطةٍ كانت فانطلقوا فنأتي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: يا رسول اللَّه إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد أورد ابن كثير الحديث بنصه
قال الطبري: (وذُكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط) اهـ.
قال ابن عطية: (سببها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدقًا) اهـ.
قال ابن كثير: (وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على صدقات بني المصطلق) اهـ.
وقال الشنقيطي: (نزلت هذه الآية الكريمة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد أرسله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتيهم بصدقات أموالهم. فلما سمعوا به تلقوه فرحاً به، فخاف منهم وظن أنهم يريدون قتله فرجع إلى نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزعم له أنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتله، فقدم وفد منهم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبروه بكذب الوليد فأنزل الله هذه الآية). اهـ.
وقال ابن عاشور: (وقد تضافرت الروايات عند المفسرين عن أم سلمة وابن عبَّاسٍ والحارث بن ضرار الخزاعي أن هذه الآية نزلت عن سبب قضية حدثت وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق من خزاعة). اهـ.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور وإن كان في إسناده مقال، إلا أن شهرته فاقت إسناده واحتج به المفسرون أجمع ولفظه يوافق سياق القرآن، فلعل الحديث لهذه الأسباب يكون سبب نزولها والله أعلم.
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد ومسلم عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو أتيتَ عبد اللَّه بن أُبي، فانطلق إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركب حمارًا، فانطلق المسلمون يمشون معه، وهي أرض سَبَخَة فلما أتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إليك عني، والله لقد آذاني نتْنُ حمارك فقال رجل من الأنصار منهم: واللَّه لحمار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطيب ريحًا منك، فغضب لعبد اللَّه رجل من قومه، فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها أنزلت: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها كما ذكروا معه غيره منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
أما ابن العربي فقد ذكر بعض الأسباب ثم جعل آخرها حديث أسامة بن زيد بدل حديث أنس بن مالك ثم قال: (أصح الروايات الأخيرة والآية تقتضي جميع ما روى لعمومها، وما لم يرو، فلا يصح تخصيصها ببعض الأحوال دون بعض). اهـ.
وقال ابن عطية: (اختلف الناس في سبب هذه الآية فقال أنس بن مالك والجمهور سببها ما وقع بين المسلمين والمتحزبين منهم مع عبد اللَّه بن أبي ابن سلول حين مر به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه فقال عبد الله بن أبي لما غشيه حمار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تغبروا علينا ولقد آذانا نتن حمارك فرد عليه عبد الله بن رواحة). اهـ.
وقال ابن عاشور: (وفي الصحيحين عن أنس بن مالك فذكر الحديث حتى قال: وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد: وليس فيه أن الآية نزلت في تلك الحادثة.
ويناكد هذا أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة، وأن أنس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله: (فبلغنا أنها نزلت فيهم) اللهم إلا أن تكون هذه الآية أُلحقت بهذه السورة بعد نزول الآية بمدة طويلة) اهـ.
وسأذكر حديث أسامة ليتبين الأمر:
عن أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب على حمار على قطيفةٍ فَدَكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر. قال: حتى مر بمجلس فيه عبد اللَّه بن أبي ابن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد اللَّه بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خَمَّر عبد اللَّه بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى اللَّه،
قال ابن حجر في شرح حديث أنس (فقال رجل من الأنصار): (زعم بعض الشراح أنه عبد الله بن رواحة فتتبعت ذلك فوجدت حديث أسامة بن زيد بنحو قصة أنس، وفيه أنه وقعت بين عبد الله بن رواحة وبين عبد الله بن أبي مراجعة، لكنها في غير ما يتعلق بالذي ذكر هنا، فإن كانت القصة متحدة احتمل ذلك، لكن سياقها ظاهر في المغايرة؛ لأن في حديث أسامة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد عيادة سعد بن عبادة فمر بعبد الله بن أبي، وفي حديث أنس - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعي إلى إتيان عبد الله بن أبي، ويحتمل اتحادهما بأن الباعث على توجهه العيادة -، فاتفق مروره بعبد الله بن أبي فقيل له حينئذٍ لو أتيته فأتاه، ويدل على اتحادهما أن في حديث أسامة: (فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمَّر عبد اللَّه بن أبي أنفه بردائه. ثم ذكر كلامًا حتى قال: وقد استشكل ابن بطال نزول الآية المذكورة وهي قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) في هذه القصة، لأن المخاصمة وقعت بين من كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أصحابه، وبين أصحاب عبد الله بن أبي، وكانوا إذ ذاك كفارًا فكيف ينزل فيهم (طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ولا سيما إن كانت قصة أنس وأسامة متحدة، فإن رواية أسامة فاستب المسلمون والمشركون.
قلت: يمكن أن يحمل على التغليب، مع أن فيها إشكالاً من جهة أخرى، وهي أن حديث أسامة صريح في أن ذلك كان قبل وقعة بدر، وقبل أن
وأقول: إن الناظر في كلام ابن العربي وابن عطية يجد أنهما لا يفرقان بين حديث أنس وأسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لأن ابن العربي جعل حديث أسامة الذي خلا من ذكر النزول بدل حديث أنس الذي تضمن النزول، وذكر أنه أصح الروايات في سبب نزولها.
وابن عطية جمع في سياق حديثه بين اللفظين مع ما بينهما من الاختلاف.
وما ذهبا إليه من اتحاد الحديثين، مؤيد بقول ابن حجر: (ويدل على اتحادهما أن في حديث أسامة: (فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمّر عبد الله بن أبي أنفة بردائه)) وعندي - واللَّه أعلم - أن الحديثين حكاية عن قصة واحدة؛ لأن ما يجمع بين الحديثين أكثر مما يفرق بينهما.
وإذا كان الأمر كذلك فإن ذكر النزول يعكر عليه أمور:
أولاً: ما ذكره ابن بطال من أن أصحاب ابن أبي كانوا كفارًا فكيف ينزل فيهم (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا).
ثانياً: أن القصة كانت قبل وقعة بدر، وقبل أن يسلم عبد اللَّه بن أبي وأصحابه، وآية الحجرات تأخر نزولها إلى وقت مجيء الوفود.
ثالثاً: ما ذكره ابن عاشور من أن أنس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله: (فبلغنا أنها نزلت فيهم).
رابعاً: أن سياق أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للقصة خلا من ذكر النزول، مع أنه كان شاهداً للقصة لأنه كان رديف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الحمار. ولو نزل شيء لكان أعلم الناس به أسامة.
خامساً: عدم الموافقة بين سياق القصة وسياق القرآن من وجوه:
١ - أن الآية تتحدث عن طائفتين مؤمنتين، وإحدى الطائفتين في القصة ليست كذلك.
جـ - قوله: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقاتل الباغية هنا وهي فئة ابن أبي وأعوانه من اليهود بل صفح وغفر لما أشار عليه سعد بن عبادة كما في حديث أسامة.
د - وقوله: (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) أنّى لهؤلاء المشركين ابتداءً، المنافقين انتهاء، أن يفيؤا إلى أمر الله، وقد ظلوا في الكفر وماتوا عليه.
هـ - ثم قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، وإذا كان المؤمنون إخوةً فيما بينهم فليسوا للكافرين من المنافقين والمشركين إخوة. واللَّه أعلم.
وبهذا يتبين أن الحديث الذي معنا ليس سبب نزول الآية الكريمة لما تقدم.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سبب نزول الآية لمخالفته سياق القرآن من عدة وجوه، ولأن لفظ أسامة قد خلا من ذكر النزول، وسياق أنس لنفس القصة لم يجزم بالنزول، على أن الآية من آخر القرآن نزولاً، والقصة في أوائل الهجرة وقوعًا والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سَلَمةَ (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) قال: قدم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دُعي أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول اللَّه إنه يغضب من هذا قال فنزلت: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ).
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر بعض المفسرين هذا الحديث عند نزولها كالطبري وابن العربي والقرطبي وابن كثير.
قال الطبري: (واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى الله عن التنابز بها في هذه الآية، فقال بعضهم: عنى بها الألقاب التي يكره النبزَ بها الملقَّبُ، وقالوا: إنما نزلت هذه الآية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية فلما أسلموا نهوا أن يدعو بعضهم بعضًا بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية) اهـ.
أما البغوي وابن عطية وابن عاشور فقد ذكروا أسبابًا أخرى غير الذي معنا.
قال ابن عطية: (وذكر بعض الناس لهذه الآيات أسبابًا... ثم ذكر أحدها حتى قال: والقول عندي أن هذه الآية نزلت تقويما كسائر أمر الشرع ولو تتبعت الأسباب لكانت أكثر من أن تحصى) اهـ.
وعندي - واللَّه أعلم - أن قوله: (فينا نزلت) يحتمل السببية وأن فعلهم الذي كان بينهم كان سبب نزولها، ويحتمل أن لا يكون فعلهم سببًا مباشرًا لنزولها فتكون الآية بعمومها تتناولهم وإن لم تقصدهم ابتداءً، وإلى هذا مال ابن عطية، ولعل مما يؤيد هذا أن الأصل عدم السببية حتى يرد الدليل على ذلك، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.
ولعل مما يؤيد قول ابن عطية أن سياق الآيات بعدها ينصب على الجانب التربوي لينتزع منهم أخلاق الجاهلية المتأصلةَ في نفوسهم، فسياق الآيات في التربية والتوجيه لا غير.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سببًا لنزول الآية لاحتماله السببية وغيرها، ولعل هذا سبب إعراض بعض المفسرين عنه واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قدم وفد بني أسد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتكلموا، فقالوا: قاتلتك مضرُ ولسنا بأقلِّهم عددا ولا أكلَّهم شوكة، وصلنا رحمك، فقال لأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تكلموا هكذا، قالوا: لا، قال: (إن فقه هؤلاء قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم)، قال عطاء في حديثه فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا).
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث عند نزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري: (وذكر أن هؤلاء الأعراب من بني أسد امتنوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: آمنا من غير قتال، ولم نقاتلك كما قاتلك غيرنا فأنزل اللَّه فيهم هذه الآيات) اهـ.
قال البغوي: (نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة... ) اهـ. محل الشاهد.
وقال القرطبي: (نزلت في أعراب من بني أسد بن خزيمة) اهـ.
وما ذكره المفسرون في سبب نزولها هو الصحيح، لصحة سند الحديث ودلالة سياق القرآن على ذلك، فقوله: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) هذا حدث منهم يوجب الرد والمعالجة من الله - عَزَّ وَجَلَّ - فجاءت الآيات مجيبة عن قولهم ومخبرةً بما ينبغي لهم قوله وفعله.
* النتيجة:
- أن الحديث الذي معنا سبب نزولها لصحة سنده وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
* * * * *