تفسير سورة المنافقون

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة المنافقون
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم من تحقّق به صدق في أقواله، ثم صدق في أعماله، ثم صدق في أخلاقه ثم صدق في أحواله، ثم صدق في أنفاسه «١».. فصدقه في القول ألّا يقول إلّا عن برهان، وصدقه في العمل ألا يكون للبدعة عليه سلطان، وصدقه في الأخلاق ألّا يلاحظ إحسانه مع الكافّة بعين النقصان، وصدقه في الأحوال أن يكون على كشف وبيان، وصدقه في الأنفاس ألا يتنفّس إلا على وجود كالعيان «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (٦٣) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)
كذّبهم فيما قالوا وأظهروا، ولكنهم لم يشهدوا عن بصيرة ولم يعتقدوا تصديقك، فهم لم يكذبوا في الشهادة «٣» ولكنّ كذبهم في قولهم: إنّهم مخلصون لك، مصدّقون لك.
فصدق القالة لا ينفع مع قبح الحالة.
(١) هكذا في ص وهي في م (انعامه) والصواب ما أثبتنا بدليل ما بعده.
(٢) لا حظ هنا كيف تتفق إشارة البسملة مع السياق العام للسورة.
(٣) أي تقريرهم بأن محمدا رسول الله حقيقة ليس فيها كذب، فمن حيث الظاهر فقد نطقت ألسنتهم بالصدق، ولكن الكذب كامن في القلب.
ويقال: الإيمان ما يوجب الأمان فالإيمان يوجب للمؤمن إذا كان عاصيا خلاصه من العذاب أكثره وأقلّه... إلّا ما ينقله من (أعلى) «١» جهنم إلى أسفلها.
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (٦٣) : آية ٢]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢)
تستّروا بإقرارهم، وتكشّفوا بنفاقهم عن أستارهم فافتضحوا، وذاقوا وبال أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (٦٣) : آية ٣]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣)
استضاءوا بنور الإجابة فلم ينبسط عليهم شعاع السعادة، فانطفأ نورهم بقهر الحرمان، وبقوا في ظلمات القسمة السابقة بحكم الشقاوة.
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (٦٣) : آية ٤]
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤)
أي هم أشباح وقوالب وليس وراءهم ألباب وحقائق- فالجوز «٢» الفارغ مزيّن ظاهره ولكنه للعب الصبيان «٣».
«يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ... » وذلك لجبنهم إذ ليس لهم انتعاش بربّهم، ولا استقلال بغيرهم.
(١) سقطت (أعلى) من الناسخ في م وهي موجودة في ص.
(٢) هكذا في م وهي في ص «الحوض» وقد رجحنا الأولى.
(٣) فى هذه الإشارة تنبيه إلى قاعدة صوفية: أن العبرة بحقائق الأرواح لا بمظاهر الأشباح (أي الأجساد).
«هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ» هم عدوّ لك- يا محمد- فاحذرهم، ولا يغرّنك تبسّطهم فى الكلام على وجه التودّد والتقرّب.
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (٦٣) : آية ٥]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥)
سمعوا إلى ما يقال لهم على وجه التكبّر، وإظهار الاستغناء عن استغفارك لهم... فخلّ سبيلهم فليس للنّصح فيهم مساغ، ولن يصحيهم من سكرتهم إلّا حرّ ما سيلقونه من العقوبة، فما دام الإصرار من جانبهم فإنهم:
[سورة المنافقون (٦٣) : آية ٦]
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦)
فقد سبق العلم بذلك:
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (٦٣) : آية ٧]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧)
«١» كأنهم مربوطون بالأسباب، محجوبون عن شهود التقدير، غير متحققّين بتصريف الأيام، فأنطقهم بما خامر قلوبهم من تمنّى انطفاء نور رسول الله، وانتكاث شملهم، فتواصوا فيما بينهم بقولهم: «لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» فقال تعالى «وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ... ».
وليس استقلالك- يا محمد- ولا استقلال أصحابك بالمرزوقين.. بل بالرازق فهو الذي يمسككم.
(١) «وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» بهذا أجاب كثيرون من أرباب الطريق كحاتم الأصم والجنيد والشبل عند ما كانوا يسأل أحدهم: من أين تأكل؟
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (٦٣) : آية ٨]
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨)
إنما وقع لهم الغلط في تعيين الأعزّ والأذلّ فتوهّموا أنّ الأعزّ هم المنافقون، والأذلّ هم المسلمون، ولكن الأمر بالعكس، فلا جرم غلب الرسول ﷺ والمسلمون، وأذلّ المنافقون بقوله: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» : لله عزّ الإلهية، وللرسول عزّ النبوّة، وللمؤمنين عزّ الولاية.. وجميع ذلك لله فعزّة القديم صفته، وعزّ الرسول وعزّ المؤمنين له فعلا ومنّة وفضلا، فإذا لله العزّة جميعا.
ويقال: كما أنّ عزّة الله- سبحانه- لا زوال لها فعزّة الأنبياء بأن لا عزل لهم، وعزّة المؤمنين بألا يبقى منهم مخلّد في النار.
ويقال: من كان إيمانه حقيقيا فلا زوال له.
ويقال: من تعزّز بالله لم يلحقه تغيّر عن حاله بغير الله.
ويقال:
لا عزّ إلّا في طاعة الله، ولا ذلّ إلّا في معصية الله وما سوى هذا فلا أصل له.
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (٦٣) : آية ٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩)
لا تضيّعوا أمور دينكم بسبب أموالكم وأولادكم بل آثروا حقّ الله، واشتغلوا به يكفكم أمور دنياكم وأولادكم فإذا كنت لله كان الله لك «١».
(١) لنتذكر ما قلناه في مدخل هذا الكتاب بأن القشيري نفسه قد ضرب المثل على ذلك حين هاجر من بلده تاركا أهله في رعاية الله حينما تعرّضت عقيدته للمحنة.
ويقال: حقّ الله مما ألزمك القيام به، وحقّك ضمن لك القيام به فاشتغل بما كلّفت لا بما كفيت.
قوله جل ذكره:
[سورة المنافقون (٦٣) : آية ١٠]
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠)
لا تغترّوا بسلامة أوقاتكم، وترقّبوا بغتات آجالكم، وتأهّبوا لما بين أيديكم من الرحيل، ولا تعرّجوا في أوطان التسويف.
Icon