ﰡ
الحديث في هذه الآيات الكريمة عما كان يجري في بيتِ رسول الله ﷺ، فالرسول الكريم بشَرٌ يجري في بيته ما يكونُ في بيوت الناس، من شِجارٍ بين أزواجه وغيرةٍ وما شابه ذلك.
وقد وردتْ رواياتٌ متعدّدة في سبب نزول الآيات، من أصحُّها أنه شربَ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش، فغارت عائشةُ وحفصةُ من ذلك. واتّفقتا أنّ أيّ واحدةٍ منهما دخلَ عليها النبي الكريم تقول له: إنّي أجِدُ منك ريحَ مغافير. (والمغافيرُ صَمغٌ حلو له رائحةٌ كريهة).
وأولَ ما دخل على حفصةَ قالت له ذلك، فقال لها: بل شربتُ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش، ولن أعودَ له. وأُقسِم على ذلك، فلا تُخبري بذلك أحدا.
فأخبرت حفصةُ بذلك عائشةَ وكانتا، كما تقدّم، متصافيتَين متفقتين.... فعاتبَ الله تعالى نبيَّه على تحريمِه ما أحلَّه الله له كي يُرضيَ بعضَ زوجاته.
وبعدَ عتابِه الرقيق وندائه: يا أيّها النبيّ.... قال تعالى ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. ثم بيّن له أنّه يمكن ان يكفّر عن يمينه بقوله: ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ بالكفّارة عنها. وقد رُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام كفّر عن يمينه فأعتق رقبة. ﴿والله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ العليم الحكيم﴾
واللهُ متولِّي أمورِكم وناصرُكم، وهو العليم ما يُصلحكم فيشرّعه لكم، والحكيمُ في تدبيرِ أموركم.
﴿وَإِذَ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ﴾.
وقد تمّ شرحُ هذا فيما سبق. اما «عرّف بعضَه وأعرضَ عن بعض» فهو أن الله أطلَع رسولَه على ما دار بين حفصة وعائشة، وأخبر الرسول حفصةَ ببعض الحديث الذي أفشَتْه، وأعرضَ عن بعذ الحديث وهو قولُه: وقد حلفتُ.
﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِيَ العليم الخبير﴾.
فلما أخبر حفصةَ أنه يعرف ما دار بينَهما استغربتْ وسألتْه: من الذي أخبرك بهذا؟ قال: أخبرني به اللهُ العليم بكل شيء، الخبيرُ الذي لا تخفَى عليه خافية.
ثم وجّه تعالى الخطابَ إلى حفصةَ وعائشة مبالغةً في العتاب والتحذير فقال:
﴿إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾
إن ترجعا الى الله بالتوبة عن مثلِ هذه الأعمال التي تؤذي النبيَّ فقد مالت قلوبُكما الى الحقّ والخير.
﴿وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾.
ان تتعاونا يا عائشة وحفصة في العمل على ما يؤذي النبيَّ ويسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء السر - فلن يضرّه ذلك شيئا، فالله ناصرهُ وجبريلُ والمؤمنون الصالحون والملائكة كلّهم مظاهرون له ومعينون.
ثم حذّرها ألاّ تعودا لمثلِ ذلك بقوله:
﴿عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً﴾.
احذرْنَ أيتها الزوجات من إيذاء رسول الله والتألُّب عليه، والعملِ على ما يسوؤه فإنه اذا أُحرِج يمكن ان يطلقكن ويبدله الله خيراً منكن في الدينِ والصلاح والتقوى. ولا شيءَ أشدُّ على المرأة من الطلاق. وفي هذا تنويهٌ كبير بشأن رسولِ الله ﷺ.
قراءات:
قأ اهل الكوفة: تظاهرا بفتح التاء والظاء من غير تشديد. وقرأ الباقون: تظاهرا بفتح التاء والظاء المشددة. وقرأ الكسائي وحده: عرف بعضه بفتح العين والراء بلا تشديد، والباقون عرَّف بتشديد الراء المفتوحة. وقرأ حفص ونافع وابو عمرو وابن عامر: جبريل بكسر الجيم والراء من غير همزة. وقرأ ابو بكر: جبرئيل بفتح الجيم والراء وقمزة قبل الياء.
بعد ان عالجت الآياتُ السابقة ما يجري في بيوت النبيّ ﷺ، وعاتَبَ الله تعالى الرسولَ الكريم على تحريمه بعضَ ما أحلّ الله له، كما شدّد على نسائه أن يلتزمن الطاعةَ والتوبة والإخلاصَ للرسول الكريم - بيّن هنا للمؤمنين عامةً أن يحفظوا أنفسَهم وأهلِيهم من النار بالتزامِ طاعةِ الله ورسوله، تلك النار التي سيكون وقودُها يومَ القيامة العصاةَ من الناس والحجارةَ التي كانت تُعبَد من دونِ الله كما قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨]، ويقومُ على أمر هذه النار ملائكةٌ شديدون، يفعلون ما يُؤمرون.
وفي ذلك اليومِ العصيب يُقال لِلّذين كفروا بربّهم وبرسالة رسوله الكريم: لا يعتذِروا اليوم فقد فاتَ الأوان، وانما تَلقَون جزاءَ ما عملتم في الدنيا.
ثم أمر المؤمنين أن يتوبوا الى الله ويرجعوا إليه بإخلاص، عسى الله أن يمحُوَ عنهم سيئاتِهم ويدخلَهم جناتٍ تجري من تحتِ قصورها وأشجارِها الأنهار. وفي ذلك اليوم يرفعُ الله شأنَ النبيّ والذين آمنوا معه، نورُهم يسعى بين أيدِيهم حينَ يمشون، وبأيمانِهم حين الحساب... حيث يتناولون كُتبَهم بأيمانهم وفيه نورٌ وخير لهم.
ويسألون ربّهم بقولهم:
﴿يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. اللهم أجبْ دعاءنا ولا تخيّب رجاءنا.
ثم بعد الأمرِ النَّصوحِ والرجوع إليه - أمر رسولَه بالجهاد في سبيل الدعوة فقال:
﴿ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير﴾.
يا أيّها النبيّ: جاهِدِ الكفارَ الذين أعلنوا كفرهم والمنافقين الّذين أبطنوه، بكلّ وسيلةٍ من قوةٍ وحجّة، واشتدَّ على الفريقين في جهادك، ان منازلَهم يوم القيامة في جهنّم وبئس المسكنُ والمأوى.
يبينُ الله تعالى في هذه الآيات الكريمة أمثلةً واضحة من أحوال النساء تظهر فيها حقائقُ مهمّة، فمن النساء صنفٌ لا يردعُهنّ عن كفرِهنّ حتى وج ودُهن في بيوت الأنبياء، كامرأة نوحٍ التي كانت تقول عن زوجها إنه مجنون، وخانتْه بالتآمر عليه وعدم تصديقه برسالته. وكذلك امرأة لوط، كانت كافرةً وخانت زوجها بالتآمر عليه مع قومه حين دلّت قومه على ضيوفه لمآرب خبيثة. فوجودهما في بيت النبوّة مع كفرهما - لم يغيّر منهما شيئاً وذهبنا الى النار. وهناك حالة اخرى عكسَ ما تقدم، وهي امرأةُ فرعون آسيةُ بنت مزاحم، كانت زوجةً لرجل من شرار الناس، وهي مؤمنة مخلصة في ايمانها: ﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين﴾. وهذا كله يتفق مع قاعدة الاسلام ﴿أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [النجم: ٣٨] وقوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت﴾ [البقرة: ٢٨٦].
وكذلك ضربَ الله مثلا حالَ مريم ابنةِ عمرانَ التي عفّتْ وآمنت بكلماتِ ربّها، فرزقَها الله عيسى بن مريم صلواتُ الله عليه وسلامه.
وفي هذه الأمثال عظةٌ للمؤمنين، ولزوجاتِ الرسول الكريم، وتخويفٌ لكل من تحدّثه نفسُه بأنه سينجو لأنه ابنُ فلان، او انه قريبٌ لفلان من الصالحين. ولا ينجّي الانسانَ الا عملُه وتقاه وايمانه الخالص، واللهُ وليّ الصالحين.