وقد بدئت بتنزيه خالق هذا الكون، الذي خلق كل شيء وأتقنه، وقدّر لكل شيء ما يصلحه فهداه إليه، كما أنبت المرعى أخضر يانعا ثم جعله غُثاء أحوى. وفيها بشرى للرسول الكريم بأن الله سيُقرئه القرآن فلا ينساه إلا ما شاء الله الذي يعلم ما يجهر به العباد وما يُخفونه. ثم أمرت الرسول الكريم أن يذكّر بالقرآن لعلهم ينتفعون بالذكرى، فالذي يخاف الله يتذكر ويخشع، أما الأشقى فهو يصرّ على العناد، ويلقى مصيرا مظلما هو نار جهنم الكبرى، فلا يموت فيها فيستريح، ولا يحيا حياة طيبة يسعد فيها.
وأكدت السورة أن الفلاح لمن طهّر نفسه وزكّاها، وذكر اسم ربه فصلّى. وأن كثيرا من الناس يفضّلون هذه الحياة الدنيا، مع أن الآخرة خير وأبقى. وأن هذا المذكور في هذه السورة ثابت في الصحف القديمة، صحف إبراهيم وموسى.
روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين والجمعة : سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية.
ﰡ
نزّه يا محمد ربّك الأعظم عن كل ما لا يليق بجلاله. وقد وجّه الله الأمر بتسبيحِ اسمه الأعلى دون تسبيح ذاته ليرشدَنا إلى أن مبلغ جهدنا هو معرفةُ صفاته. أما ذاتُه العليّة فهي أعلى وأبعد من أن ندركها في هذه الحياة الدنيا.
ثم ذَكَر أوصافَه الجليلة ومظاهر قدرته البالغة وكمالَه فقال :
﴿ الذي خَلَقَ فسوى ﴾
هذا الكونَ العجيب وأتقنَ خلقه، وأبدع صنعه.
قدّر لكل مخلوق ما يصلحه فهداه إليه، وعرّفه وجه الانتفاع به.
قراءات :
قرأ الكسائي : قدر بالتخفيف. والباقون : قدّر بالتشديد.
وأنبتَ النبات مختلف الأشكال لترعاه الدواب.
أحوى : ما يُحيل لونَه إلى السواد.
أي صيَّره يابسا جافا بعد الخضرة والنضارة. وفي هذا عبرة لذوي العقول، فكما أن النبات يبدأ أخضر زاهيا ثم يَميل إلى الجفاف والسواد، فكذلك الحياةُ الدنيا زائلة فانية، والآخرة هي الباقية.
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى ﴾، بشرى عظيمة من الله تعالى لك يا محمد أنه سيشرح صدرَك، ويقوّي ذاكرتَك فتتلقى القرآنَ وتحفظه فلا تنساه.
ثم يزيد البشارة فيقول :﴿ وَنُيَسِّرُكَ لليسرى ﴾ ونوفّقك للطريقة السهلة. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب اليُسر في كل الأمور.
روت عائشة رضي الله عنها أنه ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما. رواه البخاري ومسلم. وكلُّ سيرته مبنيّة على اليسر، وأحاديثه تحضُّ على اليسر والسماحة والرِفق في تناول الأمور.
لقد منّ الله عليه بهذه البشرى : أَقرأه فلا ينسى إلا ما شاءَ الله، ويسّره لليسرى حتى ينهضَ بالأمانة الكبرى. فلهذا أُعِد ولهذا يُسّر.
ذكِّر الناسَ بما أوحيناه إليك، لعلّهم يرجعون إلى الله.
أما المعاندون الجاحدون فلا تنفع معهم الذكرى ولا تجدي.
فالأشقى المصرّ على العناد لا يسمع لها ولا يستفيد منها.
ومصيره إلى النار الكبرى.
من تزكّى : من طهر نفسه بالإيمان.
أما الذي ينتفع بالذِكرى فإنه من أهل الفوز والفلاح.
لقد فاز من تطهر من الشرك والآثام.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وروح : يؤثرون بالياء. والباقون تؤثرون بالتاء.
﴿ إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى ﴾.
إن جميع ما أُوحي به إلى النبي الكريم هو بعينه ما جاء في صحف إبراهيم وموسى، فدينُ الله واحد، وإنما تختلف صورهُ وتتعدّد مظاهره..
قراءات :
قرأ أبو عمرو وروح : يؤثرون بالياء. والباقون تؤثرون بالتاء.