قال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
تعاهد النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الكفار من مشركي مكة وغيرهم على ألا يصد عن البيت الحرام أحد من الطرفين، ولا يزعج أحد في الأشهر الحرم. وهذا هو العهد العام الذي كان بينه عليه الصلاة والسلام وبين أهل الشرك من العرب، وكان من وراء ذلك عهود بينه عليه الصلاة والسلام وبين كثير من قبائل العرب إلى آجال مسماة، وقد نقض كثير من المشركين عهودهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ولمكانة الدين الإسلامي من مكارم الأخلاق، وللإشارة إلى أنه ليس الغرض من فرض الجهاد سفك الدماء، وإنما المهم الوصول إلى الإيمان وترك الجحود. أرشد الله المؤمنين بقوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ إلخ. إلى أن من جاء من المشركين الذي نقضوا العهد يطلب الأمان ليسمع كلام الله، ويتدبر، ويطلع على حقيقة الدين، يجب تأمينه وحمايته حتى يصل إلى غايته، ولا يجوز قتله، ولا التعدي عليه. ومتى أراد العودة إلى بلاده يجب تيسير الطريق أمامه ليصل إلى مأمنه، أي مسكنه الذي يأمن فيه. ذلك التسامح الذي أمرتكم به من إجارة المستجير منهم، وإبلاغه مأمنه بسبب أن هؤلاء المشركين قوم لا يعلمون حقيقة الإسلام، ومن جهل شيئا عاداه، أو هم قوم جهلة، ليسوا من أهل العلم، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يفهموا الحق، وحينئذ لا تبقى لهم معذرة.
وقد ورد أنه جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأجل لسماع كلام الله، أو لحاجة أخرى فهل يقتل؟ فقال علي: لا، إنّ الله تعالى قال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ.
وهنا أمور:
الأول: أن المذكور في الآية كون المستجير طالبا لسماع القرآن، ويلحق به كونه طالبا لسماع الأدلة على كون الإسلام حقا، وكونه طالبا للجواب عن الشبهات التي عنده، لأنّ كل هؤلاء يطلبون العلم ويسترشدون عن الحق، ومن كان كذلك تجب إجارته.
سماع سورة براءة، لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين، وقيل: سماع كل ما يدل على أن الإسلام حق.
الثالث: نصّ الفقهاء من الحنفية على أن الحربي إذا دخل دار الإسلام مستجيرا لغرض شرعي كسماع كلام الله، أو دخل بأمان لتجارة وجب تأمينه بحيث يكون محروسا في نفسه وماله إلى أن يبلغ داره التي يأمن فيها.
يؤخذ من الآية ما يأتي
١- جواز تأمين الحربي إذا طلب ذلك من المسلمين ليسمع ما يدل على صحة الإسلام.
٢- أنه يجب علينا تعليم كل من التمس منا أن نعلمه شيئا من أمور الدين.
٣- أنه يجب على الإمام أن يحفظ الحربي المستجير، وأن يمنع الناس عن أن ينالوه بشيء من الأذى، لأن هذا هو المقصود من الإجارة والتأمين.
٤- أنه يجب على الإمام أن يبلغه مأمنه بعد قضاء حاجته، فلا يجوز تمكينه من الإقامة في دار الإسلام إلا بمقدار قضاء حاجته، عملا بإشارة قوله تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ وقد نص الفقهاء من الحنفية على أنه يجب على الإمام أن يأمره بالخروج متى انتهت حاجته، وأن يعلنه بأنه إن أقام بعد الأمر بالخروج سنة في دار الإسلام فلا يمكّن من الرجوع إلى بلاد الحرب، ويصير ذميا، وتوضع عليه الجزية.
قال الله تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) شروع في تحقيق حقيقة ما سبق من البراءة وأحكامها المتفرعة عليها، وتبيين الحكمة الداعية إلى ذلك، بأنه إذا ظهروا علينا لا يرقبون فينا إلّا ولا ذمة.
و (كيف) للاستفهام الإنكاري لا بمعنى إنكار الواقع، بل بمعنى إنكار الوقوع.
و (يكون) من الكون التام. و (كيف) محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف، أو من الكون الناقص، و (عهد) اسمها، وفي خبرها ثلاثة أوجه:
الأول: أنه (كيف) وقدم للاستفهام، و (للمشركين) متعلّق بمحذوف وقع حالا من (عهد) أو متعلق بيكون عند من يجوّز التعلق بالناقص.
والثاني: أن خبر (يكون) هو (للمشركين) و (عند) على هذين ظرف للعهد، أو ليكون، أو صفة للعهد.
والعهد: ما يتفق رجلان أو فريقان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة، فإن أكّداه ووثقاه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقا، وهو مشتق من الوثاق بالفتح، وهو الحبل والقيد. وإن أكّداه باليمين خاصّة سمي يمينا، وقد يسمّى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده.
وفي توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته لأنّ كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال قطعا. فإذا انتفت جميع أحوال وجوده، فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني: أي على حال. أو في أي حال يوجد لهم عهد معتدّ به عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ يستحق أن تراعى حقوقه، ويحافظ عليه إلى إتمام المدة، ولا يتعرض لهم بسببه قتلا ولا أخذا، وتكرير كلمة (عند) للإيذان بعدم الاعتداد به عند كل من الله تعالى ورسوله على حدة.
والمعنى: بأية صفة وأية كيفية يثبت للمشركين عهد من العهود عند الله يقره لهم في كتابه وعند رسوله صلّى الله عليه وسلّم يفي لهم به، وتفون به أيها المؤمنون اتباعا له صلّى الله عليه وسلّم، وحالهم الذي بينتها الآية التالية تأبى ثبوت ذلك لهم إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، في هذا الاستثناء وجهان:
أحدهما: أنه منقطع، أي لكن الذين عاهدتم إلخ.
والثاني: أنه متصل، وفيه حينئذ احتمالان: أحدهما: أنه منصوب على أصل الاستثناء من (المشركين) والثاني أنه مجرور على البدل منهم، لأنّ معنى الاستفهام المتقدم نفي، أي ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا.
وعلى أنه منقطع فالذين مبتدأ خبره جملة (فما استقاموا)، وهؤلاء المعاهدون المستثنون هنا هم المذكورون سابقا في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً إلخ [التوبة: ٤] وإنما أعيد ذكر استثنائهم لتأكيده بشرطه المتضمن لبيان السبب الموجب للوفاء بالعهد. وهو أن تكون الاستقامة عليه مرعية من كل واحد من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية مدته.
وهذا زائد على ما هنالك من وصفهم بأنه لم ينقصوا من شروط العهد شيئا، ولم يظاهروا على المسلمين أحدا، واعلم أن قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ
اعتراض بين قوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ وقوله المفسّر له: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً.
وقوله: عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ المراد به جميع الحرم كما هي عادة القرآن إلا ما استثني، فالعندية فيه على حذف مضاف، أي عند قرب المسجد الحرام، وكان ذلك العهد يوم الحديبية سنة ست.
فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي فمهما يستقم لكم هؤلاء فاستقيموا لهم. أو فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، إذ لا يجوز أن يكون الغدر ونقض العهد من قبلكم.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تعليل لوجوب الامتثال، وتبيين على أنّ مراعاة العهد من باب التقوى، وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا.
ومما يستفاد من هذه الآية: أن العهد المعتد به عند الله وعند الرسول هو عهد غير الناكثين، وأن من استقام على عهده نعامله بمقتضاه، وأن مراعاة العهد من تقوى الله التي يرضاها لعباده.
قال الله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
لما بدأ الله سبحانه وتعالى سورة التوبة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم أراد أن يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون بها في أنّ هذه البراءة غير جائزة، مع الجواب عنها.
ومما
يروى في سبب النزول عن ابن عباس أنه لما أسر العباس يوم بدر عيّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، فأغلظ علي له القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا، فقال له علي رضي الله عنه: ألكم محاسن؟
فقال: نعم، إنّا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة ونسقي الحاج. فأنزل الله عزّ وجلّ ردا على العباس: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ
إلخ «١» والمراد أنها تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به هو وغيره من كبراء المشركين أيضا، لا أنها نزلت عند ما قال ذلك لأجل الرد عليه في أيام بدر، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك.
وقوله: مَساجِدَ اللَّهِ قرئ بالإفراد، والمتبادر منه إرادة المسجد الحرام، لأنّه المفرد العلم الأكمل الأفضل، وإن كان المفرد المضاف يفيد العموم في الأصل.
ومن قرأ بالجمع فإما أن يراد جميع المساجد، فيشمل المسجد الحرام أيضا، الذي هو أشرفها، وهذا آكد، لأنّ طريقه طريق الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك.
وإما أن يراد المسجد الحرام، وجمع لأنه قبلة المساجد، أو لأن كل بقعة منه مسجد.
وقوله: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ حال من الواو في (يعمروا) وهو قيد للنفي قبله مبين لعلته. والعلة الحقيقية هي نفس الكفر لا الشهادة به، ونكتة تقييده بها بيان أنه كفر صريح معترف به، لا تمكن المكابرة فيه. والشهادة بالكفر: قيل إنها بإظهار آثار الشرك من نصب الأوثان حول البيت والعبادة لها. وقيل: بقولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وقيل: بقولهم كفرنا بما جاء به محمد.
والظاهر شمول الشهادة لذلك كله.
والمعنى: ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين، ولا من شأنهم الذي يقتضيه شركهم، أو الذي يشرعه، أو يرضاه الله منهم أو يقرهم عليه، أن يعمروا مسجد الله الأعظم وبيته المحرم بأي نوع من أنواع العمارة المتقدمة في حال كونهم كافرين، شاهدين على أنفسهم بالكفر قولا وعملا، لأنّ هذا جمع بين الضدين، فإنّ عمارة مساجد الله الحسية إنما تكون لعمارتها المعنوية، بعبادته فيها وحده، ولا تصح ولا تقع إلا من المؤمن الموحّد له، وذلك ضد الكفر به.
وهاهنا مسألتان:
الأولى: هل يجوز أن يستخدم المسلم الكافر في بناء المساجد، أو لا يجوز، لأنّه من العمارة الحسية الممنوعة، قيل بالثاني، وفيه نظر، لأنّ الممنوع منها إنما هو الولاية عليها، والاستقلال بالقيام بمصالحها، كأن يكون ناظر المسجد وأوقافه كافرا.
وأما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه، كنحت الحجارة، والبناء والنجارة، فلا يظهر دخوله في المنع، ولا فيما ذكر من نفي الشأن.
أُولئِكَ المشركون حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت أجور أعمالهم الخيرية:
كصدقة، وصلة رحم، وقرى ضيف، وإغاثة ملهوف، وغيرهما مما يفخرون به:
كعمارة مسجد، وسقاية حاج، فلا ثواب لهم عليها في الآخرة لعدم شرطها، وهو الإيمان، وإن كانوا يجازون عليها في الدنيا بإعطاء الولد والمال والصحة والعافية.
وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ لعظم ما ارتكبوه. وهذه الجملة قيل: عطف على جملة حَبِطَتْ على أنها خبر آخر لأولئك وقيل: هي مستأنفة كجملة أُولئِكَ حَبِطَتْ وفائدتهما تقرير النفي السابق.
الأولى من جهة نفي استتباع الثواب، والثانية: من جهة نفي استدفاع العذاب.
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨).
بعد أن بين عدم استحقاق المشركين لعمارة مساجد الله أثبتها للمسلمين الكاملين، وجعلها مقصورة عليهم بالفعل، وهم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه الحق، والإيمان باليوم الآخر الذي فيه الجزاء، وبين إقامة الصلاة المفروضة بأركانها وآدابها، وتدبر تلاوتها وأذكارها، التي تكسب مقيمها مراقبة الله وحبه والخشوع له والإنابة إليه، وإعطاء زكاة الأموال لمستحقيها، وبين خشية الله دون غيره ممن لا ينفع ولا يضر كالأصنام وسائر ما عبد من دون الله خوفا من ضرره، أو رجاء في نفعه.
فالمراد بالخشية الديني منها دون الغريزي، كخشية أسباب الضرر الحقيقية، فإنّ هذا لا ينافي خشية الله.
قيل: ولم يذكر الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم مع الإيمان بالله، لأنه لما ذكر الصلاة وهي لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء تتضمن الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم كان ذلك كافيا.
فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي فأولئك الجامعون لهذه الأوصاف هم الذين يرجون بحق أو يرجى لهم بحسب سنن الله في أعمال البشر وتأثيرها في إصلاحهم أن يكونوا من جماعة المهتدين إلى ما يحب الله ويرضى من عمارة مساجده حسا ومعنى.
ويستنبط من الآيتين أمور:
١- أنّ أعمال البر الصادرة من المشركين لا تجلب لهم ثوابا في الآخرة، ولا تدفع عنهم عذابا.
٢- أن كل ما اتصف بالإيمان، وما عطف عليه من الأوصاف المتقدمة فهو الجدير دون غيره بأن يقبل الله منه عمارة مساجده.
٣- أخذ بعضهم من قوله تعالى: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ أنه ينبغي لمن بنى مسجدا أن يخلص لله في بنائه بحيث لا يكون الباعث له على بنائه رياء ولا سمعة.
٤- يؤخذ من التعبير بعسى في جانب المؤمنين قطع طماعية المشركين في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها، وافتخروا بها، حيث بيّن الله تعالى أن حصول الاهتداء لمن آمنوا بالله، ولم يخشوا غيره دائر بين لعل وعسى. وإذا كان حال المؤمنين هكذا فلا يليق بالمشرك أن يرجو لنفسه الهداية والفوز بالخير فضلا عن قطعه بذلك.
٥- التنويه بفضل عمارة المساجد وقد ورد في عمارة المساجد الحسية والمعنوية أحاديث كثيرة:
ومنها ما رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وغيرهم من
حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، وتلا إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ» الآية «١»
وهو نص في العمارة المعنوية، كما أنّ الحديث الأول نص في الحسية.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
الأكثرون على أن لفظ المشركين خاصّ بعباد الأوثان. وقال قوم: يتناول جميع الكفار، ويدل لهذا القول قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨] أي لا يغفر أن يكفر به، وهذا هو الظاهر.
والعيلة: الفقر والفاقة.
نهى الله المؤمنين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام، أي عن تمكينهم من قربان المسجد الحرام، وعلّل هذا بأنهم نجس، إما لخبث باطنهم، أو لأن معهم الشرك المنزل منزلة النجس الذي يجب اجتنابه، أو لأنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يجتنبون النجاسات.
وقوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا تفريع على نجاستهم، واختلف العلماء في المراد بالمسجد الحرام فقال عطاء: الحرم كله قبلة ومسجد، فليس المراد خصوص المسجد الحرام، وإنما المراد منعهم من دخول المسجد الحرام ومكة والحرام. وقيل: المراد خصوص المسجد الحرام وهو مذهب الشافعية أخذا بظاهر اللفظ، وقيل المراد المسجد الحرام بالنص، وبقية المساجد تقاس عليه، لأن العلّة، وهي النجاسة، موجودة في المشركين، والحرمة موجودة في كل مسجد- وهو مذهب المالكية- فلا يجوز تمكينهم من دخول المسجد الحرام والمساجد كلها.
وقيل: ليس المراد النهي عن دخول المسجد الحرام، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا كما كانوا يعملون في الجاهلية- وهو مذهب الحنفية- ويؤيد ذلك أمور:
١- قوله: بَعْدَ عامِهِمْ هذا فإنّ تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام، أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا، وهو العام التاسع من الهجرة.
٢-
قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين نادى بسورة براءة: ألا لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك.
٣- قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ فإنّ خشية العيلة تكون بسبب انقطاع تلك المواسم، لمنع المشركين من الحج والعمرة، لأن المؤمنين كانوا ينتفعون بالتجارات التي تروج في مواسم الحج.
٤- إجماع المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أعمال الحج، وإن لم تكن في المسجد.
وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي إن خفتم فقرأ بسبب منعهم من الحج وانقطاع ما كانوا يجلبونه إليكم من الأرزاق والمكاسب، فسوف يغنيكم الله.
وهذا الجزاء إخبار عن غيب في المستقبل وقد وقع الأمر مطابقا لهذا الخبر، فقد أسلم الناس من أهل جدة، وصنعاء وحنين وتبالة وجرش وكثر ترددهم على
والتعبير بالمشيئة في قوله: إِنْ شاءَ لتعليم رعاية الأدب مع الله تعالى كما في قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: ٢٧] وللإشارة إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على أنّ المطلوب يحصل حتما، بل لا بد من أن يتضرع المرء إلى الله تعالى في طلب الخيرات، وفي دفع الآفات إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم وحَكِيمٌ يعطي ويمنع عن حكمة وصواب.
وهاهنا أمور:
١- أنه علم مما تقدم أنه لا يجوز تمكين المشرك من دخول المسجد الحرام فقط عند الشافعية، ومن دخول المسجد الحرام والمساجد كلها عند المالكية، ويستثنى من ذلك حالة العذر، كدخول الذمي المسجد للتقاضي أمام الحاكم المسلم.
وأباح الحنفية دخول الذمي المساجد كلها.
٢- نقل صاحب «الكشاف» «١» عن ابن عباس أنّ أعيان المشركين نجسة كالكلاب والخنازير تمسكا بهذه الآية، ولكن اتفق الفقهاء على خلاف ذلك، وأن أبدانهم طاهرة للإجماع على أنهم لو أسلموا كانت أجسامهم طاهرة، مع أنّه لم يوجد ما يطهرها من الماء أو النار أو التراب أو مثل ذلك. ويدل له أيضا أنّه عليه الصلاة والسلام كان يشرب من أواني المشركين.
٣- قيل الفضل في قوله: يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هو حمل الطعام إلى مكة من البلاد التي أسلم أهلها كجدة وصنعاء كما تقدم، فإنّه سد حاجتهم وأغناهم عما في أيدي المشركين، وقيل: المراد به الجزية، وقيل: الفيء قال الله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) أمر الله المسلمين في الآيات السابقة بقتال أهل الشرك، وعدم تمكينهم من المسجد الحرام، وفي هذه الآية أمر الله بقتال أهل الكتاب- التوراة والإنجيل- إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية، وبيّن أن العلة في لزوم قتالهم أمور:
الأول: أنّهم لا يؤمنون بالله ما داموا على حالتهم التي هم عليها، فإنّ اليهود يعتقدون أنّ الإله جسم، مع أن الإله الحق منزه عن الجسمية والشبيه، فهم لا يؤمنون بوجود الإله الحق المنزه عن الجسمية.
الثاني: أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي وردت به الآيات والنصوص، فإنهم يعتقدون بعث الأرواح دون الأجسام، ويرون أنّ أهل الجنة لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتمتعون بالحور العين، ولا يرون وجود أنهار ولا أكواب ولا أشجار مما وردت به النصوص، ويقولون: إنّ نعيم الجنة وعذاب النار معان تتعلّق بالروح فقط، كالسرور والهم، فهم لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي وردت به النصوص.
الثالث: أنّهم لا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله محمد عليه الصلاة والسلام في الكتاب والسنة. وقيل: المراد برسوله الذي يزعمون اتباعه، وهو موسى وعيسى عليهما السلام لليهود والنصارى، بل حرّفوا التوراة والإنجيل، وأتوا بأحكام من عند أنفسهم، فهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا.
الرابع: أنهم لا يدينون دين الحق، أي لا يتخذون دين الحق دينا يعتقدون ويعملون بأحكامه، وهو الإسلام الناسخ لسائر الأديان بصريح قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: ١٩] وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: ٨٥].
والتعبير عن اليهود والنصارى بالاسم الموصول للدلالة على أن الصلة علّة في الحكم، فالعلة في وجوب قتالهم أنه لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر إلخ، وقال: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
ليبيّن أنّ المراد بالذين لا يؤمنون بالله إلخ هم أهل الكتاب، والغرض تمييزهم عن المشركين في الحكم، لأنّ الواجب في المشركين القتال إلى أن يسلموا، وأما الواجب في أهل الكتاب فهو القتال أو الإسلام أو الجزية، وقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ غاية لانتهاء القتال.
والجزية: اسم لما يعطيه المعاهد على هذه، مأخوذة من: جزى الرجل العامل أجره يجزيه، إذا أدّى ما وجب عليه للعامل من أجره، فكذلك إذا أدّى المعاهد الجزية فقد أدّى ما وجب عليه. وقوله: عَنْ يَدٍ يحتمل أن يراد باليد يد المعطي أو يد الآخذ. فإن أريد يد المعطي كان المعنى حتى يعطوا الجزية إعطاء لا تمتنع يدهم عن أنّ تمتد به، فيكونون منقادين طائعين، فإنّ من أبى وامتنع لا يعطي يده، ومن انقاد وأطاع أعطى يده.
ولهذا يقول: أعطى يده إذا انقاد وأطاع، ونزع يده إذا خرج عن الطاعة.
ويصح أن يكون المعنى: حتى يعطوا الجزية عن يد المعطي إلى يد الآخذ، والمراد حتى يعطوها بأيديهم نقدا لا نسيئة ولا مبعوثة على يد أحد.
وقوله: وَهُمْ صاغِرُونَ معناه أن يعطوا الجزية وهم بحالة الصّغار والذل، فلا يقبل منهم أن يتأففوا، أو يظهروا السخط على ولاية المسلمين، أو يرموهم بالظلم والاستبداد، ولا يعقل أن يعطى المعاهدون الجزية على هذه الحالة إلا إذا كان ولاة المسلمين على استعداد تام في أمر القوة المادية، بحسب ما يناسب الزمان والمكان، وفي القوة المعنوية، بحيث تكون التربية العامة لجماعة المسلمين مما تربي فيهم ملكة التيقظ والعزة والشجاعة والعصبية والتراحم فيما بين أفراد المسلمين بعضهم مع بعض، إلى آخر ما ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)
عدّة القوم جماعتهم، وعدّة المرأة أقراؤها، وأيام إحدادها على زوجها. ومن الأول قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ أي جماعتها، والقيم الذي يتولى إصلاح غيره.
والمستقيم الذي لا عوج فيه. والدين الإسلامي قيم يصلح من تمسك بمبادئه وأحكامه، وهو في ذاته أحكام مستقيمة لا عوج فيها، صالحة لكل زمان ومكان.
كان اليهود والنصارى وغيرهم من الطوائف التي ليست عربية يعتمدون في معاملاتهم وأعيادهم على السنة الشمسية. وكانت السنة الشمسية ثلاثمئة وخمسة وستين يوما وربع يوم. وفي كل أربع سنوات يتكوّن من الكسر عندهم يوم كامل، فتكون السنة ثلاثمئة وستة وستين يوما، وفي كل مئة وعشرين سنة تزيد السنة شهرا كاملا، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرا، وتسمى كبيسة.
وكانت الأمة العربية تعتمد في معاملاتها وعبادتها على السنة القمرية، وكانت السنة القمرية ثلاثمئة وأربعة وخمسين يوما وكسرا. ولم يكن للكسر حكم. وقد توارثوا التعامل بذلك عن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
وقد وردت الشريعة الإسلامية بمراعاة السنة القمرية في آيات كثيرة منها هذه الآية التي معنا حيث يقول الله فيها: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ والأشهر الحرم من الشهور القمرية، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم. ومنها قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس: ٥] فجعل
وباعتبار نقصان السنة القمرية عن الشمسية أحد عشر يوما تقريبا تنتقل الشهور العربية من فصل إلى فصل، فيكون الحج واقعا في الشتاء مرة وفي الصيف مرة أخرى. وكان الأمر يشق على العرب أيام الجاهلية بهذا السبب، وكذلك كانوا إذا حضروا للحج حضروا للتجارة أيضا، وربما يكون الوقت غير مناسب لحضور التجارات من أطراف البلاد، فيختل بذلك نظام تجارتهم، وكان كثير من العرب يخالط الطوائف الأخرى فتعلموا منهم الاعتماد على السنة الشمسية، فأقدموا على الكبس بتكميل النقص الذي في السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية، واعتبروا ذلك مبررا لاعتمادهم على السنة الشمسية، فاختاروا للحج وقتا معينا لمصلحتهم، لينتفعوا بتجاراتهم وعباداتهم ومصالحهم.
وكانوا مع هذا يجعلون شهر المحرم مثلا حلالا عام وحراما في عام آخر، بحسب رغباتهم، وكانوا يؤخّرون الشهور، ويقدمونها بحسب أسمائها تبعا لغايتهم.
فإذا كانوا في حرب، ودخل شهر رجب مثلا، قالوا: نسميه رمضان، ونطلق اسم رمضان على رجب. وهذا الأخير هو النسيء الذي اخترعوه. وهو وإن كان سببا لحصول مصالحهم الدنيوية إلا أنه يستلزم تغيير حكم الله تعالى فيما تعبدهم به.
كما أنهم اخترعوا الكبس بطريقة غير التي كانت عند غيرهم. فكانوا لتكميل النقص الذي في السنة القمرية عن الشمسية يزيدون في كل ثلاث سنوات شهرا، لتكون السنة قمرية شمسية. ولكل هذا استوجبوا الذم العظيم، ونزلت «١» هذه الآية، أي إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ في علمه تعالى: اثْنا عَشَرَ شَهْراً لا أكثر ولا أقل، للرد على ما أقدم على الزيادة، فمن حكم على بعض السنوات بأنها صارت ثلاث عشر شهرا فقد جرى على خلاف حكم الله، وأبطل كثيرا من العبادات المؤقتة.
وهذه العدة للشهور ثابتة في علمه تعالى، وفِي كِتابِ اللَّهِ أي في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ما كان وما يكون. أو فيما كتبه الله وأوجب على عباده الأخذ به، وكذلك هي ثابتة في اليوم الذي خلق الله فيه السموات والأرض.
وقوله: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ- جمع حرام- أي أربعة محرّمة حرّم فيها بعض ما كان مباحا في غيرها، أو هي ذات حرمة تمتاز بها عن بقية الشهور، فقد ورد أنّ
وأجمع العلماء على أنّ ثلاثة من الأشهر الحرم متوالية وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب. وقد أشير إلى ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في خطبة طويلة في حجة الوداع: منها أربعة حرم أولهن رجب مضر، بين جمادى وشعبان، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وقوله: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ تحريم الأشهر الحرم هو الدين القيم. أي الحكم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية. فمعنى كونه قيّما أنه قائم لا يبدل ولا يغير، ودائم لا يزول، فلا يجوز نقل تحريم المحرم مثلا إلى صفر. وذلك للرد على ما كان يعمله أهل الجاهلية من تقديم بعض أسماء الشهور، وتأخير البعض.
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أي في الأشهر الحرم أَنْفُسَكُمْ بأن تعملوا النسيء، فتنقلوا الحج من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه، إلى شهر آخر، وتغيّروا حكم الله تعالى.
أو المراد النهي عن جميع المعاصي بسبب ما لهذه الأشهر من مزيد الأثر في تعظيم الثواب والعقاب، كما أشير إلى ذلك بقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: ١٩٧]. فهذه الأشياء لا تجوز في غير هذه الأشهر، إلا إنه أكّد في المنع منها فيها تنبيها على زيادتها في الشرف.
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً نهاهم الله تعالى عن أن يظلموا أنفسهم في الأشهر الحرم. وأمرهم بقتال المشركين من غير تقييد بزمن، فيدلّ النص بظاهره على أن القتال في الأشهر الحرم مباح، ولهذا نقل عن عطاء الخراساني أنه قال: أحلّت القتال في الأشهر الحرم بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يشير إلى ما فيها من قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ومن قوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وأما آيات البقرة الدالة على تحريم القتال في الأشهر الحرم فهي منسوخة بآيات التوبة، لأنّ سورة التوبة نزلت بعد سورة البقرة بسنتين. ويدل له أنه عليه الصلاة والسلام حارب هوازن بحنين وثقيفا بالطائف في شهر شوال وبعض ذي القعدة.
وقوله: كَافَّةً حال من الفاعل أو من المفعول، والمعنى على الأول: قاتلوا المشركين حال كونكم جميعا متعاونين غير متخاذلين، كما يقاتلونكم مجتمعين متعاونين غير متخاذلين.
والمعنى على الثاني: قاتلوا المشركين حال كونهم جميعا لا فرق بين طائفة وطائفة، ما يقاتلونكم جميعا من غير مراعاة فريق منكم دون فريق.
وكلمة كَافَّةً من الكلمات التي توحد وتؤنث بالهاء لا غير، فلا تثنّى ولا تجمع ولا تذكّر كالخاصة والعامة.
وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي مع أوليائه الذين يخافون من غضبه، ويتخذون وقاية من مخالفة أمره. وهو معهم بالنصر والمعونة فيما يباشرونه من القتال وغيره. ووضع المظهر موضع المضمر للثناء عليهم بالتقوى، ولحثّ القاصرين عليها، وللإشعار بأنها المدار في الفوز والفلاح.
قال الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧) النَّسِيءُ مصدر بمعنى التأخير، كالنذير والنكير، بمعنى الإنذار والإنكار، من نسأت الإبل عن الحوض إذا أخرتها، أنسؤها نسأ ونساء ونسيئا. والمراد النسيء في الشهور بمعنى تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليس له تلك الحرمة، بسبب أنه كان يشق عليهم أداء عبادتهم وتجاراتهم على اعتبار السنة القمرية، حيث كان حجهم يقع مرة في الشتاء ومرة في الصيف، فيتألمون من مشقة الصيف، ولا ينتفعون بتجاراتهم ومرابحاتهم التي كانوا يودون استصحابها في موسم الحج، وربما لا يتيسر لهم ذلك.
وكذلك كانوا أصحاب حروب وغارات، وكانوا يكرهون أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، فتركوا اعتبار السنة القمرية، واعتمدوا على السنة الشمسية، ولزيادتها عن السنة القمرية احتاجوا إلى الكبس، فكانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهرا، وكانوا ينقلون الحج من بعض الشهور إلى بعض، ويؤخّرون الحرمة الحاصلة من شهر إلى شهر، ويستبيحون الحروب والغارات في الشهر الذي نقلوا حرمته، واستمروا في ذلك حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، وحرموا أربعة أشهر من شهور العام اكتفاء بمجرد العدد، فكان هذا التحليل
وقوله: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بالبناء للمفعول، أي يوقع الذين كفروا بسبب النسيء في الضلال، أي يوقعهم الله في ضلال زيادة على ضلالهم القديم. وقرئ بالبناء للفاعل، أي يضلهم الله، يحلّون الشهر المؤخر عاما ويحرّمونه عاما آخر.
ثم قيل إنّ أول من عمل النسيء نعيم بن ثعلبة الكناني وكان مطاعا في قومه الذين كانوا يسألونه أن يؤخّر حرمة الشهر إلى شهر آخر ليغيروا فيه على أعدائهم، فيقول قد فعلت، ثم يعملون ما يشاؤون..
وقوله: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي يوافقها في العدد، واللام متعلقة بالفعل الثاني، أو بما دل عليه مجموع الفعلين فيحلوا بهذه المواطأة ما حرمه الله من القتال، زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ أي حسّن الشيطان لهم أعمالهم السيئة، فظنوا ما كان سيئا حسنا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يرشد الضالين الذين يختارون السيئات ويستقبحون الأعمال الصالحة.
قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
أفادت إِنَّمَا حصر الصدقات في هذه الأصناف الثمانية، وأنها تصرف إليهم، ولا تصرف إلى غيرهم.
وقد كان لفظ الصدقة في عرف الشرع في صدر الإسلام يشمل الزكاة الواجبة والصدقة المندوبة. قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: ١٠٣]
وقال عليه الصلاة والسلام: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» «١»
وفي كتاب أبي بكر لأنس بن مالك حين وجهه إلى البحرين:
هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المسلمين، والتي أمر الله تعالى بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم «٢».
واتفق العلماء على أن قوله تعالى: الصَّدَقاتُ يشمل الزكاة الواجبة. واختلفوا في الصدقة المندوبة، فمنهم من قال بدخولها في لفظ الآية الكريمة، ومنهم من قال:
لا تدخل، فمن قال بدخولها يرى أن اللفظ عامّ يتناول كل صدقة، سواء الواجبة والمندوبة، بل إنّ المتبادر من لفظ الصدقة هو المندوبة، فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ١٥٤)، ٢٤- كتاب الزكاة، ٣٨- باب زكاة الغنم حديث رقم (١٤٥٤).
ومن يرى أن المراد بالصدقات هنا هو الزكاة الواجبة يستدل على ذلك بأمور:
الأول: أن (ال) في الصدقات للعهد الذكري، والمعهود هو الصدقات الواجبة التي أشار الله إليها بقوله قبل هذه الآية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التوبة: ٥٨] والصدقات التي كان قوم من المنافقين يعيبون النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها وفي تقسيمها هي الزكاة الواجبة، فقد روي أنّ بعض المنافقين كان يعيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في توزيع الصدقة، ويزعمون أنه يؤثر بها من شاء من أقاربه وأهل مودته، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل فيها، كلّ ذلك كان في الصدقات الواجبة، فلما ورد قوله تعالى عقب ذلك:
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ دلّ على أنّ المراد الصدقات التي سبق الكلام فيها: وهي الصدقات الواجبة.
الثاني: أنّ الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير الأصناف الثمانية باتفاق، مثل بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وتكفين الموتى وتجهيزهم ونحو ذلك، فلو كانت الصدقة المندوبة داخلة في الآية لما جاز صرفها في مثل هذه الوجوه.
الثالث: أن الله تعالى جعل للعاملين عليها سهما فيها، ولم يعهد في الشرع نصب عامل لجباية الصدقات المندوبة، فلو كانت الصدقة المندوبة داخلة في الآية لوجب على الإمام أن ينصب العمال لجبايتها حتى يأخذوا سهمهم منها، ولم يقل بذلك أحد.
الرابع: أثبت الله هذه الصدقات بلام التمليك للأصنام الثمانية، والصدقات المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة.
وفي الآية جمعان: بالواو وجمع بالصيغة، فالشافعي يبقيها على ظاهرها في الجمعين معا، فيجب عند صرف جميع الصدقات الواجبة سواء الفطرة وزكاة الأموال، إلى ثمانية الأصناف، لأن الآية أضافت جميع الصدقات إليهم بلام التمليك، وشرّكت بينهم بواو التشريك، فدلك على أن الصدقات كلها مملوكة لهم، مشتركة بينهم، فإن كان مفرّق الزكاة هو المالك أو وكيله سقط نصيب العامل، ووجب صرفها إلى الأصناف السبعة بالسوية، لا يرجح صنف على صنف إن وجدوا، وإلا فللموجود منهم، ولا يجوز أن يصرف لأقل من ثلاثة من كل صنف، لأن أقل الجمع ثلاثة. وإن كان مفرقها الإمام أو نائبه وجب استيعاب الأصناف كلها، بهذا قال عكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري وداود الظاهري.
وقال الأئمة أبو حنيفة «١» ومالك وأحمد رحمهم الله: للمالك صرفها إلى صنف
قال إبراهيم النخعي: إن كانت قليلة جاز صرفها إلى صنف، وإلا وجب استيعاب الأصناف.
وما نقل عن الأئمة الثلاثة هو المروي عن عمر وابن عباس وحذيفة والحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشعبي والثوري، واختار جمع من أصحاب الشافعي جواز دفع صدقة الفطر لثلاثة فقراء أو مساكين، بل ذهب الروياني «١» من الشافعية إلى جواز دفع زكاة المال أيضا إلى ثلاثة من أهل السّهمان، قال: وهو الاختيار لتعذر العمل بمذهبنا، ولو كان الشافعي حيّا لأفتانا به.
وحمل الأئمة الثلاثة وموافقوهم الآية الكريمة على التخيير في هذه الأصناف، ومعناها: لا يجوز صرفها لغير هذه الأصناف، وهو فيه مخير. فالآية لبيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا لتعيين الدفع لهم.
ويدلّ له قوله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: ٢٧١]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها إلى فقرائكم» «٢»
فإن عموم ذلك يقتضي جواز دفع جميع الصدقات إلى الفقراء حتى لا يعطى غيرهم، بل ظاهر اللفظ يقتضي إيجاب ذلك،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت... »
فدلّ ذلك على جواز الاقتصار على صنف واحد.
وأما دليل جواز الاقتصار على شخص واحد من أحد الأصناف فهو أن الجمع المعرّف بأل حقيقة إما في العهد وإما في الاستغراق. ومجاز في الجنس الصادق بواحد. والحقيقة هنا متعذّرة، لأنّ الاستغراق غير مستقيم، إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير، وهو ظاهر الفساد، وليس هناك معهود ليرتكب العهد. وإذا تعذرت الحقيقة وجب الرجوع إلى المجاز، فيصير المعنى في الآية.
أن جنس الصدقة لجنس الفقير. وجنس الفقير يتحقق بواحد، فيجوز الصرف إلى شخص واحد.
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ١٣٣)، ٢٤- كتاب الزكاة، ١- باب وجوب الزكاة حديث رقم (١٣٩٥) و (١٤٩٦) (بلفظ مختلف).
الصنفان الأول والثاني: الفقراء والمساكين قال الإمام الشافعي في حد الفقير: إنه من ليس له مال ولا كسب يقع موقعا من حاجته، والمسكين هو الذي يقدر على ما يقع موقعا من كفايته، إلا أنه لا يكفيه، فالفقير أسوأ حالا من المسكين.
وقال الإمامان أبو حنيفة «١» ومالك: إنّ المسكين أسوأ حالا من الفقير، والخلاف في ذلك لا يظهر له فائدة في الزكاة، لأنه يجوز عند أبي حنيفة ومالك صرف الزكاة إلى صنف واحد بل إلى شخص واحد من صنف. لكن يظهر للخلاف فائدة في الوصية للفقراء دون المساكين، أو العكس، وفيمن أوصى بألف للفقراء ومئة للمساكين مثلا.
ومحل الخلاف إنما هو عند ذكر اللفظين معا، أو ذكر أحدهما مع نفي الآخر، أما إذا ذكر أحدهما ولم ينف الآخر، كما إذا قال: أوصيت للفقراء بكذا، فلا خلاف في أنه يجوز أن يعطي المساكين، وهذا معنى قول بعضهم: إنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وحجة الشافعي فيما ذهب إليه وجوه:
أولها: أنه تعالى بدأ بذكر الفقراء، وهو جلّ شأنه إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجتهم، وتحصيلا لمصلحتهم، وهذا يدلّ على أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشدّ حاجة، لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم.
ثانيها: أن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره، فعيل بمعنى مفعول، فهو ممنوع من التقلب والكسب، ومعلوم أن لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال.
ثالثها: ما
روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يتعوّذ من الفقر «٢» وقد قال: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» «٣»
فلو كان المسكين أسوأ حالا لتناقض الحديثان لأنه حينئذ يكون قد تعوذ من الفقر ثم سأل حالا أسوأ منه، أما إذا قلنا إن الفقير أسوأ حالا فلا تناقض البتة. وقد توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يملك أشياء كثيرة، فدل ذلك على أن كونه مسكينا لا ينافي كونه مالكا لبعض الأشياء.
رابعها: قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف: ٧٩]
(٢) رواه النسائي في السنن (٧- ٨/ ٦٥٥)، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من الفقر حديث رقم (٥٤٧٩).
(٣) رواه ابن ماجه في السنن (٢/ ٣٨١)، ٣٧- كتاب الزهد، ٧- باب مجالسة الفقراء حديث رقم (٤١٢٦). [.....]
خامسها: نقل الشافعي وابن الأنباري وخلائق من أهل اللغة أن المسكين الذي له ما يأكل، والفقير الذي لا شيء له، وحجة الحنفية وموافقيهم وجوه:
الأول: ما نقل عن الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء ويونس وغيرهم من أهل اللغة أنّ المسكين أسوأ حالا من الفقير.
والثاني: قوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) [البلد: ١٦] أي ألصق جلده بالتراب ليواري به جسده، وألصق بطنه به لفرط الجوع، فإنه يدل على غاية الضرر والشدة، ولم يوصف الفقير بذلك.
والثالث: أن المسكين هو الذي يسكن حيث يحل، لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه، وذلك يدل على نهاية الضرر والبؤس.
وإذا تأملت في أدلة الطرفين علمت أن لا مقنع في دليل منها إلا في أدلة النقل عن أهل اللغة، والنقلان متعارضان، وأيّا ما كان الأمر فقد اتفق الرأيان على أن الفقراء والمساكين صنفان. وروي عن أبي يوسف ومحمد أنهما صنف واحد، واختاره الجبائي، ويكون العطف بينهما لاختلاف المفهوم.
وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى لفلان وللفقراء والمساكين، فمن قال: إنهما صنف واحد جعل لفلان نصف الموصى به، ومن قال: إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك.
واقتضى ظاهر الآية جواز دفع الزكاة لمن شمله اسم الفقير والمسكين، سواء في ذلك آل البيت وغيرهم، وسواء الأقارب والأجانب، والمسلمون والكفار، إلا أنّ الأحاديث الصحيحة قيّدت هذا الإطلاق،
ففي الصحيحين «١» من رواية ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: أعلمهم أنّ عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فاقتضى ذلك أن الصدقة مقصورة على فقراء المسلمين، فلا يجوز دفع شيء من الزكاة إلى كافر سواء في ذلك الفطرة وزكاة المال.
وحكى النووي في مجموعه عن ابن المنذر أن أبا حنيفة رضي الله عنه يجيز دفع الزكاة إلى الكفار.
وكذلك لا يجوز دفعها إلى من تلزم المزكي نفقته من الأقارب والزوجات من
ولا يجوز دفعها إلى هاشمي باتفاق الأئمة، لما
رواه مسلم «١» عن المطلب بن ربيعة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد».
وقال الشافعي: لا يجوز دفعها إلى مطلبي أيضا لما
رواه البخاري في «صحيحه» «٢» عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ بني هاشم وبني المطلب شيء واحد وشبّك بين أصابعه»
ولأنه حكم واحد يتعلق بذوي القربى، فاستوى فيه الهاشمي والمطلبي كاستحقاق الخمس.
هذا وقد اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى للفقير والمسكين، فقال الشافعي: يجوز أن يدفع إلى كل منهما ما تزول به حاجته، ولا يزاد على ذلك، سواء صار بذلك مالكا للنصاب أم لا.
وكره أبو حنيفة «٣» أن يعطى إنسان من الزكاة مئتي درهم، وأي مقدار أعطيه أجزأ، وأبو يوسف يمنع ما زاد على النصاب.
وأما مالك رضي الله عنه فإنه يرد الأمر فيه إلى الاجتهاد.
وقال الثوري: لا يعطى من الزكاة أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما.
يرى الشافعي أن الله تعالى أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجتهم، وتحصيلا لمصلحتهم، فالمقصود من دفع الزكاة سد الخلة، ودفع الحاجة، فيعطى الفقير والمسكين ما يسد خلته، ويدفع حاجته.
ويرى أبو حنيفة ومالك أن الآية ليس فيها تحديد مقدار ما يعطى كل واحد منهم، وقد علمنا أنه لم يرد بها تفريق الصدقة على الفقراء على عدد الرؤوس لامتناع ذلك وتعذره، فثبت أنّ المراد دفعها، إلى بعض أيّ بعض كان. ومعلوم أنّ كل واحد من أرباب الأموال مخاطب بذلك، فاقتضى ذلك جواز دفع كل واحد منهم جميع صدقته إلى فقير واحد، قلّ المدفوع أو كثر، فثبت بظاهر الآية جواز دفع المال الكثير إلى واحد من الفقراء من غير تحديد للمقدار، وإنما كره أبو حنيفة أن يعطى إنسان مائتي
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٤/ ٦٨)، ٥٧- كتاب الخمس، ١٧- باب ومن الدليل على أنّ الخمس حديث رقم (٣١٤٠).
(٣) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١- ٢/ ١٢٣).
الصنف الثالث: العاملون عليها وهم السعاة لجباية الصدقة، ويدخل فيهم الحاشر، والعريف، والحاسب، والكاتب، والقسّام وحافظ المال، ويعطى العامل عند الحنفية والمالكية ما يكفيه ويكفي أعوانه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال باقيا، وإذا استغرقت كفايتهم الزكاة، فالحنفية لا يزيدونهم على النصف.
وعند الشافعية يعطون من سهم العاملين- وهو الثمن- قدر أجرتهم، فإن زادت أجرتهم على سهمهم تمم لهم، قيل: من سائر السهمان، وقيل: من بيت المال.
وهذا الذي ذهب إليه الشافعي هو قول عبد الله بن عمر وابن زيد، وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات، وظاهر الآية معهما.
وفيما يعطاه العاملون شبه بالأجرة وشبه بالصدقة.
فبالاعتبار الأول حل إعطاء العامل الغني، وسقط سهم العامل إذا أدى الزكاة رب المال إلى الإمام أو إلى الفقراء.
وبالاعتبار الثاني: لا تحل للعامل من آل البيت، ولا لمولاهم، ولا لغير المسلم. فعن ابن عباس أنه قال: بعث نوفل بن الحارث ابنيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: انطلقا إلى عمكما، لعله يستعملكما على الصدقة، فجاءا فحدثا النبي صلّى الله عليه وسلّم بحاجتهما،
فقال لهما: «لا يحل لكم أهل البيت من الصدقات شيء، لأنها غسالة الأيدي، إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم» «١».
وروي عن علي أنه قال للعباس: سل النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يستعملك على الصدقة، فسأله فقال: «ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس» «٢».
وأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث أبا رافع- مولاه- عاملا على الصدقات وقال: «أما علمت أن مولى القوم منهم» «٣».
(٢) روي عن ابن عباس كما في كنز العمال للمتقي الهندي حديث رقم (١٦٥٣٠).
(٣) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ٤٦) في الزكاة، باب ما جاء في كراهية الصدقة حديث رقم (٦٥٧)، وأبو داود في السنن (٢/ ٤٤)، كتاب الزكاة، باب الصدقة حديث رقم (١٦٥٠)، والنسائي في السنن (٥- ٦/ ١١٢)، كتاب الزكاة، باب مولى القوم منهم حديث رقم (٢٦١١).
ففي «الصحيحين» «١» من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استعمل ابن اللتبية على الصدقات.
وروى أبو داود والترمذي «٢» عن أبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ولّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال: اتبعني تصب منها. فقلت: حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسألته فقال لي: «إن مولى القوم من أنفسهم».
والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ويدل على الوجوب أيضا أن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه، ومنهم من يبخل، فوجب أن يبعث الإمام من يأخذ الزكاة.
ولا يبعث إلا حرا عدلا فقيها يستطيع أن يجتهد فيما يعرض من مسائل الزكاة وأحكامها.
ويدل قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها على أنّ أخذ الصدقات إلى الإمام وأنه لا يجزئ ربّ المال أن يعطيها المستحقين، لأنه لو جاز لأرباب الأموال أداؤها إلى المستحقين لما احتيج إلى عامل لجبايتها، فيضر بالفقراء والمساكين، فدل ذلك على أن أخذها إلى الإمام، وتأكد هذا بقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً لكن ربما يعارضه قوله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) [المعارج: ٢٤، ٢٥] فإنه إذا كان ذلك الحق حقا للسائل والمحروم وجب أنه يجوز دفعه إليهما ابتداء.
من أجل ذلك ترى للعلماء تفصيلا في أموال الزكاة: فإن كان مال الزكاة باطنا فقد أجمعوا على أن للمالك أن يفرقها بنفسه، كما أنّ له أن يدفعها إلى الإمام، وإن كان مال الزكاة ظاهرا كالماشية والزروع والثمار فجمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار على أنّه يجب دفعها إلى الإمام، فإن فرقها المالك بنفسه لم يحتسب له بما أدى، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، وقول من قولي الشافعي عملا بظاهر قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ولأن الزكاة مال للإمام فيه حق المطالبة، فوجب الدفع إليه كالخراج والجزية، وقال الشافعي في الجديد: يجوز أن يفرقها بنفسه، لأنها زكاة، فجاز أن يفرقها بنفسه كزكاة الباطن.
(٢) سبق تخريجه.
وقد ثبت أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أعطى قوما من الكفار يتألف قلوبهم ليسلموا
. ففي «صحيح مسلم» «١»
أنه أعطى صفوان بن أمية من غنائم حنين
، وصفوان يومئذ كافر.
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قسّم من غنائم حنين للمتألفين من قريش وفي سائر العرب وجد هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، وأنّه قال لهم:
«أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قواما ليسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام» «٢».
واختلف العلماء في إعطاء الكفار من سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، فروي عن الحسن وأبي ثور وأحمد أنهم يعطون، وهو قول عند المالكية.
وذهب الحنفية والشافعية وأكثر العلماء: إلى أن إعطاءهم إنما كان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أول الإسلام في حال قلة عدد المسلمين، وكثرة عدوهم، وقد أعزّ الله الإسلام وأهله، واستغنى بهم عن تألف الكفار، ولذلك فإنّ الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يعطوهم، وقال عمر رضي الله عنه: إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
وأجابوا عن الحديث بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعطاهم من خمس الخمس وكان ملكا له خالصا يفعل فيه ما يشاء، أما الزكاة فلا حق فيها للكفار.
وأما المسلمون من المؤلفة قلوبهم فهم أصناف: صنف لهم شرف في قومهم يطلب بتألفهم إسلام نظائرهم. وصنف أسلموا ونيتهم في الإسلام ضعيفة، فيتألفون لتقوى نيتهم ويثبتوا.
ففي «صحيح مسلم» «٣»
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن لكل واحد منهم مئة من الإبل، وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم أيضا لشرفهما في قومهما.
وصنف ثالث: وهم قوم يليهم جماعة من الكفار إن أعطوا قاتلوهم.
وصنف رابع: وهم قوم يليهم قوم من أهل الزكاة إن أعطوا جبوها منهم. وقد ثبت أن أبا بكر أعطى عدي بن حاتم حين قدم عليه بزكاته وزكاة قومه عام الردة.
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٧٣٣)، ١٢- كتاب الزكاة، ٤٦- باب المؤلفة قلوبهم حديث رقم (١٣٧/ ١٠٦١).
(٣) سبق تخريجه.
والمنقول عن نص الشافعي وأصحابه المتقدمين أن حكم المؤلفة قلوبهم من المسلمين لا يزال معمولا به، وهو قول الزهري وأحمد، وإحدى الروايتين عن مالك.
والآية في ظاهرها يشهد لهم.
واختلف القائلون بسقوط سهم المؤلفة في توجيه رأيهم، مع أن الآية في ظاهرها جعلت للمؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة، فقال صاحب «الهداية» «٢» من الحنفية: إن هذا الصنف من الأصناف الثمانية قد سقط، وانعقد إجماع الصحابة على ذلك في خلافة الصديق رضي الله عنه، وحينئذ يكون هذا الإجماع أو مستنده ناسخا للآية في صنف المؤلفة.
وقال آخرون في وجه سقوطه: إنه من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته، كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار.
الصنف الخامس: ما أشار إليه بقوله: وَفِي الرِّقابِ في قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ محذوف، والتقدير: وفي فك الرقاب. واختلف أهل العلم في تفسير الرِّقابِ
فقال عليّ كرم الله وجهه وسعيد بن جبير والزهري والليث بن سعد والشافعي وأكثر العلماء: يصرف سهم الرقاب إلى المكاتبين.
وقال مالك وأحمد: يشترى بسهمهم عبيد ويعتقون، ويكون ولاؤهم لبيت المال.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ولكن يعطى منها في رقبة، ويعان بها مكاتب.
وقال بعض العلماء: يفدى من هذا السهم الأسارى.
وحجة الشافعي وموافقيه أن قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ كقوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين، فكذا هنا يجب الدفع إلى الرقاب، ولا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتبا، ولو اشترى بالسهم عبيدا لم يكن الدفع إليهم، وإنما هو دفع إلى سادتهم، وانتفاعهم بالعتق ليس تمليكا، لأنّ العتق إسقاط.
(٢) الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١- ٢/ ١٢٠). [.....]
وحجة المالكية أن الرقاب جمع رقبة، وكل موضع ذكرت فيه الرقبة فالمراد عتقها، والعتق والتحرير لا يكون إلا في القن، كما في الكفارات فلا بد من عتق رقبة كاملة ملكا ويدا، وحجة الحنفية أن قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ يقتضي أن يكون للمزكي مدخل في عتق الرقبة، وذلك ينافي كونه تاما فيه.
ومن قال بفك الأسارى من سهم الرقاب يرى أن المراد تخليص المسلم من حال النقص وفداء مسلم وتخليصه من أيدي الكفار أولى من عتق مسلم تملكه يد مسلمة.
ولا نعلم خلافا في أنه لا يجوز إعطاء المكاتب الكافر، ولا عتق قن كافر.
والقائلون بإعطاء المكاتب شرطوا فيه الحاجة، فإن حل عليه نجم ولم يكن معه ما يؤديه أعطي مقدار النجم أو ما يكمله، وإن كان معه ما يفي بالنجم لم يعط شيئا.
قال الشافعي وأصحابه: يجوز صرف الزكاة إلى المكاتب بغير إذن سيده، ويجوز الصرف إلى السيد بإذن المكاتب، ولا يجوز الصرف إلى السيد بغير إذن المكاتب، والأولى صرفها للسيد بإذن المكاتب، لأن الله تعالى أضاف الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدّم ذكرهم باللام، ولما ذكر الرقاب أبدل حرف اللام بحرف في فقال:
وَفِي الرِّقابِ فلا بد لهذا العدول من فائدة وهي أنّ الأصناف الأربعة الأول يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات على أنه ملك لهم، يتصرفون فيه كما شاؤوا. وأما المكاتبون فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم من الرق، فكان الدفع إلى السادات محققا للصرف في الجهة التي من أجلها استحق المكاتبون سهم الزكاة، وكذلك القول في الغارمين يصرف المال إلى قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه، وابن السبيل يعطي ما يعينه في بلوغ مقصده.
الصنف السادس: الغارمون أصل الغرم في اللغة اللزوم، ومنه قوله تعالى: إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً [الفرقان: ٦٥] والغريم يطلق على صاحب الدين، وعلى المدين لملازمة كل منهما صاحبه.
وأما الغارم فهو الذي عليه الدين، لأنه التزمه وتكفل بأدائه. ولم يختلف العلماء أن الغارمين هم المدينون، وأما قول مجاهد: الغارم من ذهب السيل بماله أو أصابه حريق فأذهب ماله فمحمول على أنه أراد من ذهب ماله وعليه دين. وأما من ذهب ماله وليس عليه دين فإنّه لا يسمى غريما، وإنما يسمى فقيرا أو مسكينا.
وظاهر الآية أن المدين يعطى مطلقا سواء أوجد وفاء لدينه أم لا، وسواء استدان لنفسه أم لغيره، وسواء أكان دينه في معصية أم لا.
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأردها في فقرائكم»
فإنّ هذا يدل على أنّ الصدقة لا تعطى إلا للفقراء.
وقال الشافعية: إن استدان لنفسه لم يعط إلا مع الفقر، وإن استدان لإصلاح ذات البين أعطي من سهم الغارمين، ولو كان غنيا، لما
روى أبو داود «٢» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدّق على المسكين، فأهدى المسكين إليه».
وقال قوم: إذا كان الغريم قد استدان في معصية فإنه لا يدخل في عموم الآية، لأن المقصود من صرف المال المذكور في الآية الإعانة، والمعصية لا تستوجب الإعانة، ومثل هذا لا يؤمن إذا أدّي عنه دينه أن يستدين غيره، فيصرفه في الفساد.
الصنف السابع: ما أشار الله إليه بقوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ.
قال أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله: يصرف سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة إلى الغزاة الذين لا حقّ لهم في الديوان، وهم الغزاة إذا نشطوا غزوا.
وقال أحمد رحمه الله في أصح الروايتين عنه: يجوز صرفه إلى مريد الحج.
وروي مثله عن ابن عمر.
وحجة الأئمة الثلاثة المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو الغزو، وأكثر ما جاء في القرآن الكريم كذلك، وأن حديث أبي سعيد السابق في صنف الغارمين يدل على ذلك، فإنه ذكر ممن تحل له الصدقة الغازي، وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إلا الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى.
واستدل لما
روى عن أحمد بحديث أبي داود «٣» عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وإنها سألتني الحج معك.
قالت: أحجّني مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فقلت: ما عندي ما أحجك عليه.
قالت: أحجني على جملك فلان.
فقلت: ذلك حبيسي في سبيل الله.
فقال: «أما إنّك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله».
(٢) رواه أبو داود في السنن (٢/ ٣٨)، كتاب الزكاة، باب من يجوز له أخذ الصدقة حديث رقم (١٦٣٥).
(٣) رواه أبو داود في السنن (٢/ ١٥٨)، كتاب المناسك، باب العمرة حديث رقم (١٩٩٠).
وفسر بعض الحنفية سبيل الله بطلب العلم، وفسره في «البدائع» «١» بجميع القرب فيدخل فيه جميع وجوه الخير مثل تكفين الموتى، وبناء القناطر، والحصون، وعمارة المساجد، لأن قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عام في الكل. وأيّا ما كان الأمر فقد اشترط الحنفية للصرف في سبيل الله الفقر.
وقال الشافعية يعطي الغازي مع الفقر والغنى، للخبر الذي ذكرناه في الغارم، ويعطى ما يستعين به على الغزو من نفقة الطريق وما يشتري به السلاح والفرس، فإن أخذ ولم يغز استرجع منه.
الصنف الثامن: ابن السبيل ابن السبيل الذي يعطى من الصدقة: هو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة. قال العلماء: وإنما يعطى ابن السبيل بشرط حاجته في سفره، ولا يضر غناه في غير سفره، فيعطى ما يبلغ به مقصده. فإن كان سفره في طاعة كحج وغزو وزيارة مندوبة أعطي بلا خلاف.
وإن كان سفره في معصية لم يعط بلا خلاف، لأنّ ذلك إعانة على المعصية.
وإن كان سفره في مباح كرياضة فللشافعية فيه وجهان:
أحدهما: لا يعطى، لأنه غير محتاج إلى هذا السفر.
الثاني: يعطى، لأنّ ما جعل رفقا بالمسافر في طاعة جعل رفقا بالمسافر في مباح كالقصر والفطر.
مسألة: هذه مسألة تشترك فيها الأصناف السابقة كلها: قال الرافعي «٢» نقلا عن أصحاب الشافعي: من سأل الزكاة وعلم الإمام أنه ليس مستحقا لم يجز له صرف الزكاة إليه، وإن علم استحقاقه جاز الصرف إليه بلا خلاف، ولم يخرّجوه على الخلاف في قضاء القاضي بعلمه، مع أن التهمة هاهنا مجالا أيضا للفرق بأن الزكاة مبنية على الرّفق والمساهلة، وليس فيها إضرار بمعين، بخلاف قضاء القاضي.
وإن لم يعرف حاله فالصفات قسمان: خفية وجلية.
فالخفي: الفقر والمسكنة. فلا يطالب مدعيه ببينة لعسرها، فلو عرف له مال وادعى هلاكه لم يقبل إلا ببينة.
(٢) عبد الكريم بن محمد القزويني، شيخ الشافعية في زمانه، كان له مجلس في قزوين، وتوفي منها سنة (٦٢٣ هـ)، ينتهي نسبه إلى رافع بن خديج الصحابي، انظر الأعلام للزركلي (٤/ ٥٥).
أحدهما: يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في المستقبل، وذلك في الغازي وابن السبيل، فيعطيان بقولهما بلا بينة ولا يمين، ثم إن لم يحققا ما ادعيا، ولم يخرجا استردّ منهما ما أخذا. وإلى متى يحتمل تأخير الخروج؟ قال السرخسي: ثلاثة أيام، قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذا على التقريب، وأن يعتبر ترصده للخروج، وكون التأخير لانتظار أو للتأهب بأهب السفر ونحوها.
الضرب الثاني: يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في الحال، وهذا الضرب يشترك فيه بقية الأصناف، فالعامل إذا ادعى العمل طولب بالبينة، وكذلك المكاتب، والغارم، وأما المؤلف قلبه فإن قال: نيتي ضعيفة في الإسلام قبل قوله، لأن كلامه يصدقه، وإن قال: أنا شريف مطاع في قومي طولب بالبينة.
قال الرافعي: واشتهار الحال بين الناس قائم مقام البينة في كل من يطالب بها من الأصناف، لحصول العلم أو الظن بالاستفاضة اه من «مجموع» النووي «١» بتصرف.
وقوله تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ بعد قوله: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ إلخ جار مجرى قوله فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة، فهو زجر عن مخالفة هذا الظاهر، وتحريم لإخراج الزكاة عن هذه الأصناف وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم حَكِيمٌ لا يشرع إلا ما فيه الخير والصلاح للعباد.
قال الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤)
ذكر في تفسير قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة: ٨٠] ما رواه البخاري «٢» وغيره عن ابن عمر حين أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي على عبد الله بن أبي.
ونسوق الحديث بتمامه هنا لأنّ فيه ذكر السبب في نزول هذه الآية:
قال ابن عمر رضي الله عنهما: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلّي عليه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله أتصلّي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلّي
(٢) رواه البخاري الصحيح (٥/ ٢٤٦)، ٦٥- كتاب التفسير، باب اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ حديث رقم (٤٦٧٠).
وفي رواية له «١» عن ابن عباس عن عمر أنه قال: فلما أكثرت عليه صلّى الله عليه وسلّم قال:
«أخّر عني يا عمر، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» الحديث.
والظاهر أنّ عمر فهم النهي الذي أشار إليه بقوله: تصلي عليه وقد نهاك ربك من قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، وليس كما قال بعضهم أنه فهم النهي من قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: ١١٣] إلخ، إذ لو كان عمر يشير إلى هذه الآية لما طابق الجواب السؤال.
وأخرج أبو يعلى وغيره عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يصلّي على عبد الله بن أبي، فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال: وَلا تُصَلِّ... الآية
. فرواية أبي يعلى تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يصل على عبد الله بن أبي.
ولكنّ أكثر الروايات تدل على أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى عليه فكان في ذلك تعارض.
فبعض العلماء يقول: رواية أبي يعلى لا تعارض رواية البخاري، فالمعوّل عليه رواية البخاري، وبعضهم جمع بين الروايتين حسبما أمكن فقال: المراد في الصلاة في رواية عمر وابنه الصلاة اللغوية بمعنى الدعاء، أو أنّ المراد بقوله: (فصلّى عليه) أنه دعا الناس للصلاة عليه، وتوجّه بهم إلى مكان الميت، فلما همّ بالصلاة عليه صلاة الجنازة أخذ جبريل بثوبه إلخ.
والمراد من الصلاة المنهي عنها صلاة الجنازة المعروفة، وفيه دعاء للميت واستغفار واستشفاع.
وماتَ ماض بالنسبة إلى سبب النزول وزمان النهي، ولا ينافي عمومه وشموله لمن سيموت.
وأَبَداً ظرف متعلق بالنهي.
ومعنى وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ النهي عن الوقوف على قبره حين دفنه، أو لزيارته.
ومعنى القبر على هذا مدفن الميت. وجوّز بعضهم أن يراد بالقبر: الدفن ويكون المعنى: لا تتول دفنه.
إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ تعليل للنهي عن الصلاة والقيام على القبر فإنّ الصلاة
وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ معناه أنّهم مع كفرهم متمردون في دينهم خارجون عن الحد فيه.
والظاهر أنّ هذه الآية لا تدل على وجوب الصلاة على موتى المسلمين، بل غاية ما تفيده أنّ الصلاة على الميت مشروعة، والوجوب مستفاد من الأحاديث الصحيحة،
كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا على صاحبكم» «١»
وقد نقل العلماء الإجماع على ذلك إلا ما حكي عن بعض المالكية أنّه جعلها سنة.
وقد دلت الآية على معان:
منها حظر الصلاة على موتى الكفار، وحظر الوقوف على قبورهم حين دفنهم، وكذلك تولي دفنهم، وألحق بعض العلماء بذلك تشييع جنائزهم.
ومنها مشروعية الوقوف على قبر المسلم إلى أن يدفن، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفعله «٢». وقد قام على قبر حتى دفن الميت، وكان ابن الزبير إذا مات له ميت لم يزل قائما على قبره حتى يدفن. وفي «صحيح مسلم» «٣» أنّ عمرو بن العاص رضي الله عنه قال عند موته: إذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور، ويقسّم لحمها حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي.
قال الجصاص: من الناس من جعل قوله تعالى: وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ قيام الصلاة.
قال: وهذا خطأ من التأويل، لأنه تعالى قال: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ فنهى عن القيام على القبر كنهيه عن الصلاة على الميت، فغير جائز أن يكون المعطوف هو المعطوف عليه بعينه اه.
قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)
وَتُزَكِّيهِمْ: تنمي حسناتهم وأموالهم.
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ: ادع لهم، واستغفر لهم.
سَكَنٌ من معاني السكن والسكون، وما تسكن النفس إليه وتطمئن من الأهل والمال والوطن. وكلّ من هذين المعنيين يصحّ أن يكون مرادا.
(٢) رواه أبو داود في السنن (٣/ ١٦٦)، ٢٣- كتاب الجنائز، باب الاستغفار حديث رقم (٣٢٢١).
(٣) رواه مسلم الصحيح كتاب الإيمان حديث رقم (١٢١).
: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم لمّا تاب الله عليهم جاؤوا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا التي كانت سببا في تخلفنا، فتصدق بها عنا، واستغفر لنا.
فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» فنزلت هذه الآية، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أموالهم الثلث.
قال الحسن: وكان ذلك كفارة الذنب الذي حصل منهم.
وقد راع كثير من المفسرين سبب النزول، فجعل الضمير في قوله تعالى:
خُذْ خاصا بهذه الحادثة، وتكون الصدقة المأخوذة منهم صدقة تطوع معتبرة في كمال توبتهم، وجارية في حقهم مجرى الكفارة، وليس المراد بها الزكاة المفروضة، لأنها كانت واجبة من قبل.
وعن الجبائي أن المراد بها الزكاة، وأمر صلّى الله عليه وسلّم بأخذها هنا دفعا لتوهم إلحاقهم ببعض المنافقين، فإنها لم تكن تقبل منهم، كما يشير إليه قوله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ [التوبة: ٥٣].
ومن الناس من لم يجعل سبب النزول حكما على الآية حيث قال: إنّ الضمير في قوله تعالى: مِنْ أَمْوالِهِمْ راجع إلى أرباب الأموال من المؤمنين مطلقا، ويدخل فيهم الذين اعترفوا بذنوبهم، وقد عرف مرجع الضمير بدلالة الحال عليه، كقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) [القدر: ١] وقوله جل شأنه: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: ٤٥] وقوله عزّ اسمه: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢] وعلى هذا الرأي أكثر الفقهاء، إذا استدلوا بهذه الآية. على إيجاب الزكاة. قال الجصاص: وهو الصحيح، إذ لم يثبت أن هؤلاء القوم- يعني المعترفين- أوجب الله عليهم صدقة دون سائر الناس سوى زكاة الأموال، وإذا لم يثبت بذلك خبر فالظاهر أنهم وسائر الناس سواء في الأحكام والعبادات، وأنهم غير مخصوصين بها دون غيرهم من الناس، وإذا كان مقتضى الآية وجوب هذه الصدقة على سائر الناس كانت الصدقة هي الزكاة المفروضة، إذ ليس في أموال الناس حقّ واجب يقال له صدقة سوى الزكاة المفروضة.
وليس في قوله تعالى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها دلالة على أنها صدقة مكفرة للذنوب غير الزكاة المفروضة، لأنّ الزكاة المفروضة أيضا تطهّر وتزكي مؤدّيها. وسائر الناس من المكلفين محتاجون إلى ما يطهّرهم ويزكيهم.
وقوله تعالى: مِنْ أَمْوالِهِمْ عام في أصناف الأموال، فيقتضي ظاهره أن يؤخذ من كل صنف بعضه، وحكى الجصاص عن شيخه أبي الحسن الكرخي أنه كان يقول:
والمقدار المأخوذ مجمل هنا، قد وكل الله بيانه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وأكثر الآيات التي ذكر الله فيها إيجاب الزكاة ذكرت في مواضع من كتابه بلفظ مجمل مفتقر إلى البيان في المأخوذ والمأخوذ منه، ومقادير النّصب، ووقت الاستحقاق، فكان البيان فيها موكولا إلى بيان السنة، وبعض الآيات نصّ الله فيها على الصنف الذي تجب فيه الزكاة، فيما نصّ الله تعالى عليه من أصناف الأموال التي تجب فيها الزكاة الذهب والفضة بقوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة: ٣٤] ومما نص عليه زكاة الزرع والثمار في قوله جل شأنه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ إلى قوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام: ١٤١] وبينت السنة سائر الأموال التي تجب فيها الزكاة:
مثل عروض التجارة والإبل والبقر والغنم السائمة على إختلاف الفقهاء في بعض ذلك.
وظاهر قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أنّه يجب على الإمام أو نائبه إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمتصدق، وبهذا أخذ داود وأهل الظاهر. وأما سائر الأئمة فقد حملوا الأمر هنا على الندب والاستحباب، قالوا: وإن ترك الدعاء جاز، لأنّ
النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاذ: «أعلمهم أنّ عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وتردّ في فقرائهم» «١»
ولم يأمره بالدعاء لهم، ولأنّ الفقهاء جميعا متفقون فيما لو دفع المالك الزكاة إلى الفقراء أنّه لا يلزمهم الدعاء، فيحمل الأمر على الاستحباب قياسا على أخذ الفقراء.
وأما صيغة الدعاء فلم يرد فيها تعيين إلا ما
رواه الستة «٢» غير الترمذي من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى»
ومن هنا قال الحنابلة وداود وأهل الظاهر: لا مانع أن يقول آخذ الزكاة اللهم صل على آل فلان، وقال باقي الأئمة:
لا يجوز أن يقال: اللهم صل على آل فلان، وإن ورد في الحديث، لأنّ الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، كما أنّ
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٧٥٦)، كتاب الزكاة، ٥٤- باب الدعاء، حديث رقم (١٧٦/ ١٠٧٨)، والبخاري في الصحيح (٢/ ١٥٦)، ٢٤- كتاب الزكاة، ٦٤- باب صلاة الإمام حديث رقم (١٤٩٧).
قالوا: وإنما أحدث الصلاة على غير الأنبياء مبتدعو الرافضة في بعض الأئمة، والتشبه بأهل البدع منهيّ عنه.
ولا خلاف أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم، فيقال: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه، لأنّ السلف استعملوه، وأمرنا به في التشهد ولأن الصلاة على التابع تعظيم للمتبوع. قالوا: والسلام في حكم الصلاة، لأنّ الله تعالى قرن بينهما، فلا يفرد به غائب غير الأنبياء.
وأما استحبابه في مخاطبة الأحياء تحية لهم، وفي تحية الأموات، فهو أمر معروف وردت به السنة الصحيحة.
هذا وقد قال الشافعي: وبأي لفظ دعا جاز، وأحبّ أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهورا، وبارك لك فيما أبقيت.
واحتج مانعو الزكاة في زمان أبي بكر رضي الله عنه بهذه الآية، فقالوا: إنه تعالى أمر رسوله بأخذ الصدقات، ثم أمره بأن يصلّي عليهم، وذكر أن صلاته سكن لهم، فكان وجوب الزكاة مشروطا بحصول ذلك السكن، ومعلوم أنّ غير الرسول لا يقوم مقامه في حصول ذلك السكن، فلا يجب دفع الزكاة إلى أحد غير الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وهذه شبهة ضعيفة، فإنّه لو سلم لهم أنّ هذه الآية وردت في وجوب الزكاة المفروضة، فإنّ نائب الرسول- وهو الإمام العادل- قائم مقام الرسول في كل ما يتعلق بأحكام الدين، إلا ما قام الدليل على اختصاص الرسول به، وليس تخصيص الرسول بالخطاب دليلا على اختصاص الحكم به، فإنّ معظم الأحكام الشرعية وردت خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام: وإن سائر الآيات دلت على أنّ الزكاة إنما وجبت دفعا لحاجة الفقير، وإعانة على أبواب من البر في مصلحة الأمة، فنظام الزكاة من النظم الجليلة التي تحقق مصلحة عامة لمجموع الأمة، فهي باقية ما بقيت الأمة.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع الاعتراف بالذنب عَلِيمٌ بما في الضمائر من الندم. أو أنه سميع يجيب دعاءك لهم، عليم بما تقتضيه الحكمة في مصالح الناس.
قال الله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ
فَلَوْلا للتحضيض، وهي داخلة هنا على الماضي، فتفيد التوبيخ والتنديد على ترك الفعل فيما مضى، والأمر به في المستقبل.
والفرقة والطائفة بمعنى، لكنّ سياق الكلام هنا، ومِنْ التبعيضية، يقتضيان أنّ المراد بالفرقة هنا الجماعة الكثيرة، وأن الطائفة جماعة أقل من الفرقة المرادة هنا.
وعن السلف في سبب نزول هذه الآية روايتان:
فروى الكلبي «١» عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى لما شدّد على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا، ففعلوا ذلك، وبقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحده، ونزل قوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا الآية.
وأخرج ابن جرير «٢» وابن المنذر عن مجاهد أنه قال: إنّ ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفا، ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا، فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرّجا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا إلخ.
هاتان روايتان مختلفتان في سبب النزول، فرواية ابن عباس تجعل النفر المنهي عنه هو نفر المؤمنين جميعا للجهاد. نهوا عن ذلك لما يترتب عليه من الإخلال بالتعلم، فكما أنّ الجهاد فرض في الدين، كذلك تلقي العلم عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأخذ الأحكام المتجددة عنه فرض من فروض الدين، فلا ينبغي أن يكون في إقامة أحد الفرضين، إخلال بالآخر ومن الميسور أن نجمع بين الفرضين ونؤدّي كلّا من الواجبين، وطريق ذلك أن تنفر للجهاد طائفة من كل فرقة، وتبقى طائفة أخرى تتفقه في الدين، وتسمع من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا رجع إليهم إخوانهم من الغزو، علموهم ما تلقوه من أحكام الدين. وعلى هذا المعنى: لا يكون قوله تعالى: لِيَتَفَقَّهُوا متعلقا بنفر، لأن النفر للجهاد ليس علة في التفقه.
وإنما هو متعلق بفعل مفهوم من الكلام، إذ المعنى لتنفر من كل فرقة طائفة
(٢) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (١١/ ٤٨).
ورواية مجاهد تجعل النفر المنهي عنه هو خروجهم جميعا لطلب العلم والتفقه في الدين، نهوا عن ذلك لما فيه من الإخلال بتعاطي أسباب الكسب والابتغاء من فضل الله وخيره بالتجارة والزراعة ووسائل الكسب، فكما أنّ طلب العلم ومعرفة الحلال والحرام من فرائض الدين، كذلك ابتغاء فضل الله بهذه الوسائل من فرائض الدين، فلا ينبغي أن تكون إحدى العبادتين سببا في الإخلال بالأخرى، والجمع بينهما ميسور بأن تنفر من كل فرقة طائفة لتتفقه في الدين، وتعلّم قومها إذا رجعت إليهم، وهذا المعنى هو مقتضى ظاهر الآية، واتساقها، فإنّ النفر على هذا المعنى يكون علة للتفقه في الدين، والطائفة النافرة هي التي تتفقه في الدين، وهي التي تنذر قومها إذا رجعت إليهم. لكن يعكر على هذا المعنى أنّ الآية تكون منقطعة عما قبلها، فإنّ ما قبلها وارد في شأن الجهاد والغزو في سبيل الله، ونصرة دينه، إلا أن يقال: إنه سبحانه وتعالى لما بيّن وجوب الهجرة والجهاد، وكل منهما سفر لعبادة، ناسب ذلك أن يذكر السفر الآخر وهو الهجرة لطلب العلم والتفقه في الدين، والآية على كلا الرأيين تدلّ على أن التفقه في الدين من فروض الكفاية.
وما
روي عن أنس بن مالك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»
فعلى تسليم صحته يكون محمولا على ما يتوقف عليه أداء الفرائض، فمن لا يعرف حدود الصلاة ومواقيتها فحتم عليه أن يتعلمها، وكذلك الزكاة والصوم والحج وسائر الفروض.
أما ما سوى ذلك من الأحكام الدينية التي لا تتوقف عليها صحة عبادته فتعلمها فرض على الكفاية، إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين.
وتدلّ الآية أيضا على أنّ خبر الواحد حجة، لأنّ الطائفة مأمورة بالإنذار، والإنذار يقتضي فعل المأمور به، وإلا لم يكن إنذارا، ولأنّه سبحانه أمر القوم بالحذر عند الإنذار، لأن معنى قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ليحذروا.
وليس الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد متوفقا على أنّ الطائفة تصدق على الواحد الذي هو مبدأ الأعداد، بل يكفي في ذلك صدقها على ما لم يبلغ حدّ التواتر.
وقوله تعالى: مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ عام يقتضي أن ينفر من كل جماعة تفردوا بقرية- قلوا أو كثروا- طائفة.
قال حجة الإسلام الغزالي «١» رحمه الله: كان اسم الفقه في العصر الأول اسما لعلم الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، ويدل عليه هذه الآية، فما به الإنذار والتخويف هو الفقه، دون تعريفات الطلاق واللعان والسلم والإجارات.
وسأل فرقد السبخي الحسن عن شيء فأجابه فقال: إن الفقهاء يخالفونك، فقال الحسن: ثكلتك أمك! هل رأيت فقيها بعينك، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكافّ عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم، ولم يقل في جميع ذلك الحافظ لفروع الفتاوى اهـ.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) الغلظة: الشدة في القتال والعنف في القتل والأسر ونحو ذلك.
وروي عن الحسن أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥].
والمحققون على أنه لا نسخ إذ لا تعارض بين هذه الآية والآيات التي زعمها الحسن ناسخة. فقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ورد في الأمر بقتال المشركين جميعا في أي مكان كانوا. والآية التي معنا للإرشاد، ورسم الخطة المثلى في قتل الكفار، إذ من المعلوم أنه لا يمكن قتال جميع الكفار، وغزو جميع البلاد في وقت واحد، فكان أحسن الخطط في قتالهم البدء بقتال الأقرب فالأقرب، حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد، وبذلك يحصل الغرض من قتال المشركين كافّة.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعصمة والنصر.
وإذا كان المراد بالمتقين المخاطبين كان التعبير بالمظهر بدل الضمير للتنصيص على أنّ الإيمان والقتال على الوجه المذكور من باب التقوى، والشهادة بكونهم من زمرة المتقين.
وإذا كان المراد بالمتقين الجنس كان المخاطبون داخلين فيه دخولا أوليا، والكلام تعليل وتوكيد لما قبله، أي قاتلوهم، وأغلظوا عليهم، ولا تخافوهم، لأنّ الله معكم، أو لأنّكم متقون، والله مع المتقين.