تفسير سورة الزلزلة

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الزلزلة من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

لما ختم تلك بجزاء الصالح والطالح في دار البقاء على ما أسلفوه في مواطن الفناء، ذكر في هذه أول مبادىء تلك الدار وأوائل غاياتها، وذكر في القارعة ثواني مبادئها وآخر غاياتها، وأبلغ في التحذير بالإخبار بإظهار ما يكون عليه الجزاء، فقال معبراً بأداة التحقق لأن الأمر حتم لا بد من كونه: ﴿إذا﴾.
ولما كان المخوف الزلزلة ولو لم يعلم فاعلها، وكان البناء للمفعول يدل على سهولة الفعل ويسره جداً، بنى للمفعول قوله: ﴿زلزلت الأرض﴾ أي حركت واضطربت زلزلة البعث بعد النفخة الثانية بحيث يعمها ذلك
202
لا كما كان يتفق قبل ذلك من زلزلة بعضها دون بعض وعلى وجه دون ذلك، وعظم هذا الزلزال وهوّله بإبهامه لتذهب النفس فيه كل مذهب، فقال كاسراً الزاء لأنه مصدر، ولو فتحها لكان اسماً للحركة، قال البيضاوي: وليس إلا في المضاعف. ﴿زلزالها *﴾ أي تحركها واضطرابها الذي يحق لها في مناسبته لعظمة جرم الأرض وعظمة ذلك اليوم، ولو شرح بما يليق به لطال الشرح، وذلك كما تقول: أكرم التقي إكرامة وأهن الفاسق الشقي إهانة، أي على حسب ما يليق به.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: وردت عقب سورة البرية ليبين بها حصول جزاء الفريقين ومآل الصنفين المذكورين في قوله: ﴿إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين﴾ - إلى قوله: ﴿أولئك شر البرية﴾ وقوله: ﴿إن الذين آمنوا﴾ - إلى آخر السورة. ولما كان حاصل ذلك افتراقهم على صنفين ولم يقع تعريف بتباين أحوالهم، أعقب ذلك بمآل الصنفين واستيفاء جزاء الفريقين المجمل ذكرهم فقال تعالى: ﴿يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم﴾ إلى آخر السورة - انتهى.
203
ولما كان الاضطراب العظيم يكشف عن الخفي في المضطرب قال: ﴿وأخرجت﴾ وأظهر ولم يضمر تحقيقاً للعموم فقال: ﴿الأرض﴾ أي كلها ﴿أثقالها﴾ أي مما هو مدفون فيها كالأموات والكنوز التي كان أمرها ثقيلاً على الناس، وهو جمع ثقل بالكسر، وذلك حين يكون البعث والقيام متأثراً ذلك الإخراج عن ذلك الزلزال، كما يتأثر عن زلزال البساط بالنفض إخراج ما في بطنه وطيه وغضونه من وسخ وتراب وغيره، وما كان على ظهرها فهو ثقل عليها لأنها يعطيها الله قوة إخراج ذلك كله كما كان يعطيها قوة أن تخرج النبت الصغير اللطيف الطري الذي هو أنعم من الحرير فيشق الأرض الصلبة التي تكل عنها المعاول والحديد، ويشق النواة مع ما لها من الصلابة التي تستعصي بها على الحديد فينفلق نصفين وينبت منها ما يريده سبحانه وتعالى، ويفلق قشر الجوز واللوز ونوى الخوخ وغيره مما هو في غاية الصلابة كما نشاهده، ويخرج منه الشجر بشق الأرض على ضعفه ولينه وصلابتها وبكونه على ظهرها حتى يصير أغلظ شيء وأشده، وكذا الحب سواء، فالذي قدر على ذلك هو سبحانه وتعالى
204
قادر على تكوين الموتى في بطن الأرض وإعادتهم على ما كانوا عليه كما يكون الجنين في البطن ويشق جميع منافذه على التحذير من السمع والبصر والفم وغير ذلك من غير أن يدخل إلى هناك بيكار ولا منشار، ثم يخرج من البطن، فكذا إخراج الموتى من غير فرق، كل عليه هين - سبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه.
ولما كان الإنسان إذا رأى هذا عجب له ولم يدرك سببه لأنه أمر عظيم فظيع يبهر عقله ويضيق عنه ذرعه، عبر عنه بقوله: ﴿وقال الإنسان﴾ أي هذا النوع الصادق بالقليل والكثير لما له من النسيان لما تأكد عنده من أمر البعث بما له من الأنس بنفسه والنظر في عطفه، على سبيل التعجب والدهش أو الحيرة، ويجوز أن يكون القائل الكافر كما يقول: ﴿من بعثنا من مرقدنا﴾ [يس: ٥٢] فيقول له المؤمن: ﴿هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون﴾ [يس: ٥٢] ﴿ما لها *﴾ أي أيّ شيء للأرض في هذا الأمر الذي لم يعهد مثله.
ولما طال الكلام وأريد التهويل، أبدل من «إذا» قوله معرفاً للإنسان ما سأل عنه: ﴿يومئذ﴾ أي إذ كان ما ذكر من الزلزال
205
وما لزم عنه ونصبه وكذا ما أبدل منه بقوله: ﴿تحدث﴾ أي الأرض بلسان الحال بإخراج ما في بطنها من الموتى والكنوز وغيرها على وجه يعلم الإنسان به لم زلزلت ولم أخرجت، وأن الإنذار بذلك كان حقاً، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: تحدث بلسان المقال. ﴿أخبارها *﴾ أي التي زلزلت وأخرجت ما أخرجت لأجلها، وكل شيء عمل عليها شهادة منها على العاملين فتقول: عمل فلان كذا وكذا - تعدد حتى يود المجرم أنه يساق إلى النار لينقطع عنه تعداد ذلك الذي يلزم منه العار، وتشهد للمؤمن بما عمل حتى يسره ذلك، فيشهد للمؤذن كل ما امتد إليه صوته من رطب ويابس.
ولما كان من المقرر أنه لا يكون شيء إلا بإذنه تعالى، وكان قد بنى الأفعال لما لم يسم فاعله، فكان الجاهل ربما خفي عليه فاعل ذلك قال: ﴿بأن﴾ أي تحدث بسبب أن ﴿ربك﴾ أي المحسن إليك بإحقاق الحق وإزهاق الباطل لإعلاء شأنك ﴿أوحى﴾ وعدل عن حرف النهاية إيذاناً بالإسراع في الإيحاد فقال: ﴿لها *﴾ أي بالإذن في التحديث المذكور بالحال أو المقال.
ولما أخبر تعالى بإخراج الأثقال التي منها الأموات، اشتد التشوف
206
إلى هيئة ذلك الإخراج وما يتأثر عنه، فقال مكرراً ذكر اليوم زيادة في التهويل: ﴿يومئذ﴾ أي إذ كان ما تقدم وهو حين يقوم الناس من القبور ﴿يصدر﴾ أي يرجع رجوعاً هو في غاية السرعة والاهتداء إلى الموضع الذي ينادون منه لا يغلط أحد منهم فيه ولا يضل عنه ﴿الناس﴾ من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد ليفصل بينهم ﴿أشتاتاً *﴾ أي متفرقين بحسب مراتبهم في الذوات والأحوال من مؤمن وكافر، وآمن وخائف، ومطيع وعاص.
ولما ذكر ذلك، أتبعه علته فقال بانياً للمفعول على طريقة كلام القادرين: ﴿ليروا﴾ أي يرى الله المحسن منهم والمسيء بواسطة من يشاء من جنوده أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه وتعالى كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿أعمالهم *﴾ فيعلموا جزاءها أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله، ثم سبب عن ذلك قوله مفصلاً الجملة التي قبله: ﴿فمن يعمل﴾ من محسن أو مسيء مسلم أو كافر ﴿مثقال﴾ أي مقدار وزن ﴿ذرة خيراً﴾ أي من جهة الخير ﴿يره *﴾ أي حاضراً لا يغيب عنه شيء منه لأن المحاسب له الإحاطة علماً وقدرة، فالكافر يوقف على
207
أنه جوزي به في الدنيا أو أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان، فهو صورة بلا معنى ليشتد ندمه ويقوى حزنه وأسفه، والمؤمن يراه ليشتد سروره به.
ولما ذكر الخير، أتبعه ضده فقال: ﴿ومن يعمل﴾ أي كائناً من كان ﴿مثقال ذرة شراً﴾ أي من جهة الشر ﴿يره﴾ فما فوقه، فالمؤمن يراه ويعلم أنه قد غفر له ليشتد فرحه، والكافر يراه فيشتد حزنه وترحه، والذرة النملة الصغيرة أو الهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة، وقد رجع آخرها على أولها بتحديث الأخبار وإظهار الأسرار، وقد ورد في حديث الأعرابي أن هذه السورة جامعة لهذه الآية الأخيرة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنها أحكم آية في القرآن، وكان رسول الله عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسميها الفاذة الجامعة، ومن فقه ذلك لم يحقر ذنباً وإن دق لأنه يجتمع إلى أمثاله فيصير كبيراً كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضي الله عنها: «إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً» وروي كما ذكرته في كتابي «مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور» في حديث «
208
إنها تعدل نصف القرآن» وفي حديث آخر أنها تعدل ربع القرآن، ولا تعارض، فالأول نظر إليها من جهة أن الأحكام تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، وهذه السورة اشتملت على أحكام الآخرة إجمالاً، وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وأن كل أحد يرى كل ما عمل، والثاني نظر إليه باعتبار ما تضمنه الحديث الذي رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر» فاقتضى هذا الحديث أن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان الكامل الذي دل عليه القرآن، وأيضاً فأمر الدين أربعة أجزاء: أمر المعبود، وأمر العبيد، وأمر العبادة، وأمر الجزاء، فهذه السورة تكفلت بأمر الجزاء، وسورة الكافرون ربع لأنها في أمر العبادة على وجه الخصوص والخفاء وإن كانت على وجه التمام والوفاء، وسورة النصر ربع لأنها لأمر العبادة على وجه العموم والجلاء والظهور والعلاء - والله الهادي للصواب وإليه المآب.
209
سورة العاديات
مقصودها اإعلام بأن أكثر الخلق يوم الزلزلة هالك لإيثار الفاني من العز والمال على الباقي عند ذي الجلال، المدلول عليه بالقسم وه والعاديلت والمقسم عليه وما عطف عليه، وقد علم أن اسمها أدل شيء على ذلك لما هدى إليه القسم والمقسم عليه: (بسم الله (الذي له الأمر كله فلا يسأل عما يفعل) الرحمن (الذي عم بنعمة إيجاده وبيانه فنعمته أتم نعمة وأشمل) الرحيم (الذي خص خلص عباده بتوفيقه فأتم نعمته عليهم وأكمل.
210
Icon