تفسير سورة الأنعام

نيل المرام تفسير آيات الأحكام
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب نيل المرام من تفسير آيات الأحكام المعروف بـنيل المرام تفسير آيات الأحكام .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

سورة الأنعام [مائة وخمس وستون آية]
مكيّة إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إلى آخر ثلاث آيات مع اختلاف في العدد «١».
[الآية الأولى]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨).
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار.
والمعنى: لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله فيتسبب عن ذلك سبهم الله، عدوانا وتجاوزا عن الحق، وجهلا منهم.
وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق، والناهي عن الباطل، إذا خشي أن يتسبب عن ذلك، ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق، ووقوع في باطل أشد، كان الترك أولى به، بل كان واجبا عليه.
(١) قال ابن العربي: مكية كلها إلا آيات تسعا نزلت بالمدينة.
قلت: وذلك على اختلاف الروايات، والآيات التسع المدنيات هي على المشهور [٢٠، ٢٣، ٩١، ٩٣، ١١٤، ١٤١، ١٥١- ١٥٣] وروي عن ابن عباس أنها مكية غير ست آيات منها، فإنها مدنيات (١٥١- ١٥٣) و (٩١)... وذكر مقاتل نحو هذا وزاد آيتين (٢٠) وروي عن ابن عباس أيضا. وقتادة. وكذلك (١٤١)، وانظر في ذلك: الأحكام لابن العربي (٢/ ٧٢٦)، والناسخ والمنسوخ (٢/ ٢١٠) ومحاسن التأويل (٦/ ٢٢٣٠). [.....]
قال الشوكاني في «فتح القدير» «١» : وما أنفع هذه الآية، وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله، المتصدين لبيانها للناس، إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه، وتركوا غيره من المعروف، وإذا نهاهم عن منكر فعلوه، وفعلوا غيره من المنكرات، عنادا للحق، وبغضا لاتباع المحقين، وجرأة على الله، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة، وجعل المخالفة لها، والتجرؤ على أهلها ديدنه، وهجيراه كما يشاهد ذلك في أهل البدع إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل، وإذا أرشدوا إلى السنة قابلوها بما لديهم من البدعة! فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين، المتهاونون بالشرائع، وهم أشر من الزنادقة، لأنهم يحتجون بالباطل، وينتمون إلى البدع، ويتظاهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين.
والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام، وتحاماهم أهله، وقد ينفق كيدهم، ويتم باطلهم وكفرهم، نادرا على ضعيف من ضعفاء المسلمين، مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل. انتهى.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة، غير منسوخة، وهي أصل في سد الذرائع، وقطع التطرق إلى الشبه.
وقوله: عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) منصوب على الحال، أو على المصدر، أو على أنه مفعول له.
[الآيتان: الثانية والثالثة]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩).
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ: قيل إنها نزلت في سبب خاص، كما أخرج أبو داود والترمذي وحسنه، والبزار وغيرهم، عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى
(١) انظره في (٢/ ١٥٠).
النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله، فأنزل الله هذه الآية «١».
ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما ذكر الذبح عليه اسم الله حل، إن كان مما أباح الله أكله.
وقال عطاء: في هذه الآية الأمر بذكر الله على الشراب والذبح، وكل مطعوم «٢».
[......] «٣» إلى قوله: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: أي بين لكم بيانا مفصلا يدفع الشك ويزيل الشبهة بقوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الأنعام: ١٤٥] إلى آخر الآية.
ثم استثنى فقال: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ: أي من جميع ما حرمه الله عليكم فإن الضرورة تحلل الحرام. وقد تقدم تحقيقه في البقرة «٤».
[الآية الرابعة]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١).
وَلا تَأْكُلُوا: نهى الله سبحانه عن الأكل:
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، وفيه دليل تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه «٥».
وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب ابن عمر ونافع مولاه، والشعبي وابن
(١) إسناده ضعيف: رواه أبو داود (٢٨١٩)، والطبري (١٣٨٢٥)، والبيهقي في «الكبرى» (٩/ ٢٤٠) عن ابن عباس فذكره.
وأورده السيوطي في «الدر» (٨/ ٣٤٦، ٣٤٧) وزاد ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.
وعلته في الضعف: عطاء بن السائب، لا يحتج بحديثه إلا ما رواه الثقات عنه قبل اختلاطه.
وفيه أيضا: عمران بن عيينة وزياد البكائي، ليسا من الثقات.
(٢) صحيح: رواه ابن جرير في «تفسيره» (١٣٧٩٠) بسند صحيح رجاله ثقات.
(٣) يبدو من السياق وجود سقط وهو شرح نهاية الآية (١١٨) مع أول الآية (١١٩).
(٤) انظر ما سبق من تفسير سورة البقرة آية رقم (١٧٣).
(٥) انظر التعليق السابق عند آية (٤) من سورة المائدة.
292
سيرين، وهو رواية عن مالك وعن أحمد بن حنبل، وبه قال أبو ثور وأبو داود الظاهري، إلى أن ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح حرام من غير فرق بين العامد والناسي لهذه الآية، ولقوله تعالى في آية الصيد: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة: ٤].
ويزيد هذا الاستدلال تأكيدا قوله سبحانه في هذه الآية: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتسمية، في الصيد وغيره.
وذهب الشافعي وأصحابه- وهو رواية عن مالك ورواية عن أحمد- إلى أن التسمية مستحبة لا واجبة، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء بن أبي رباح.
وحمل الشافعي الآية على من ذبح لغير الله وهو تخصيص بالآية بغير مخصص.
وقد روى أبو داود في «المراسيل» «١» أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله عليه أو لم يذكر»، وليس في هذا المرسل ما يصلح لتخصيص الآية نعم حديث عائشة أنها قالت للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن قوما يأتوننا بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سموا أنتم وكلوا» «٢» يفيد أن التسمية عند الأكل تجزىء مع التباس وقوعها عند الذبح.
وذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وأبو حنيفة وأصحابه، وإسحاق بن راهوية أن التسمية إن تركت نسيانا لم تضر، وإن تركت عمدا لم يحل أكل الذبيحة، وهو مروي عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس والحسن البصري وأبي مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة بن أبي عبد الرحمن.
واستدلوا بما أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «المسلم إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله» «٣».
(١) إسناده ضعيف: رواه أبو داود في «المراسيل» (٣٧٨)، والبيهقي في «الكبرى» (٩/ ٢٤٠). وأورده الزيلعي في «نصب الراية» (٤/ ١٨٣)، وقال عن ابن القطان: وفيه مع الإرسال أن الصلت السدوسي لا يعرف له حال، ولا يعرف بغير هذا، ولا روى عنه غير ثور بن يزيد. اه..
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (٩/ ٦٣٤).
(٣) صحيح موقوفا: رواه البيهقي في «الكبرى» (٩/ ٢٣٩) عن ابن عباس مرفوعا.
ورواه عبد الرزاق (٨٥٤٨)، والبيهقي أيضا (٩/ ٢٣٩).
قلت: وعلة المرفوع- معقل بن عبيد الله الجزري- صدوق يخطىء.
293
وهذا الحديث رفعه خطأ وإنّما هو من قول ابن عباس.
وكذا أخرجه من قوله عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
نعم يمكن الاستدلال لهذا المذهب بمثل قوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة: ٢٨٦]، وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» «١».
وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن عدي: «أن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل ذبح ونسي أن يسمي؟ فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اسم الله على كل مسلم»، فهو حديث ضعيف قد ضعفه البيهقي وغيره «٢».
والضمير في قوله: إنه وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يرجع إلى (ما) بتقدير مضاف، أي وإن أكل ما لم يذكر لفسق، ويجوز أن يرجع إلى مصدر تأكلوا، أي فإن الأكل لفسق.
وقد تقدم تحقيق الفسق «٣».
وقد استدل من حمل هذه الآية على ما ذبح لغير الله بقوله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، ووجه الاستدلال أن الترك لا يكون فسقا، بل الفسق الذبح لغير الله.
ويجاب عنه بأن إطلاق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع شرعا «٤».
أما الموقوف فرجاله ثقات.
(١) حديث صحيح: رواه الطبراني في «الصغير» (١٠/ ٢٧٠)، والدارقطني في «سننه» (٤/ ١٧٠، ١٧١)، والحاكم في «المستدرك» (٢/ ١٩٨)، والبيهقي في «الكبرى» (٧/ ٣٥٦)، وابن حبان في «صحيحه» (٧٢١٩)، والطحاوي في «شرح المعاني» (٣/ ٩٥) عن ابن عباس مرفوعا بنحوه.
(٢) حديث ضعيف: رواه ابن عدي في «الكامل في الضعفاء» (٦/ ٣٨٥)، والبيهقي في «الكبرى» (٩/ ٢٤٠) عن أبي هريرة مرفوعا.
قلت: وضعفه ابن عدي وكذا البيهقي.
(٣) وذلك عند تفسير الآية (٣) من سورة المائدة.
(٤) انظر في تفسير هذه الآية: الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢/ ٢١٤، ٢١٦)، والأحكام له (٢/ ٧٤٠)، الزجاج (٢/ ٣١٦)، ابن قتيبة (١٦١)، النكت (١/ ٥٥٨)، زاد المسير (٣/ ١١٥)، اللباب (١٠٤)، القرطبي (٧/ ٧٧). [.....]
294

[الآية الخامسة]

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١).
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قد اختلف أهل العلم: هل هذه محكمة؟ أو منسوخة؟
أو محمولة على الندب؟ فذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أن الآية محكمة، وأنه يجب على المالك يوم الحصاد أن يعطي من حضر من المساكين القبضة والضّغث «١» ونحوهما.
وذهب ابن عباس ومحمد بن الحنفية والحسن والنخعي وطاووس وأبو الشعثاء، وقتادة والضحاك وابن جريج إلى أن هذه الآية منسوخة بالزكاة، واختاره ابن جرير «٢».
ويؤيده أن هذه الآية مكية وآية الزكاة مدنية في السنة الثانية بعد الهجرة، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف.
وقالت طائفة من العلماء: إن الآية محمولة على الندب لا على الوجوب.
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) : ومثلها في الأعراف «٣»، أي لا تسرفوا في التصدق.
وأصل الإسراف في اللغة: الخطأ.
وفي الفقه: التبذير.
وقال سفيان: ما أنفقت في غير طاعة الله تعالى فهو إسراف، وإن كان قليلا.
وقيل: هو خطاب للولاة يقال لهم: لا تأخذوا فوق حقكم، وقيل: المعنى: لا تأخذوا الشيء بغير حقه، ولا تضعوه في غير مستحقه.
(١) الضغث: القبضة من الحشيش مختلطة الرطب باليابس [اللسان! ضغث].
(٢) انظر: تفسير الطبري (٨/ ٥٩).
(٣) عند الآية (٣١).

[الآية السادسة]

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥).
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ: أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحى إليه أي القرآن، وفيه إيذان بأن مناط الحل والحرمة هو الوحي لا مجرد العقل.
مُحَرَّماً: غير هذه المذكورات، فدل ذلك على انحصار المحرمات فيها لولا أنها مكية وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة، وزيد فيها على هذه المحرمات المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة «١».
وصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير «٢».
وتحريم الحمر الأهلية «٣»، والكلاب «٤»، ونحو ذلك.
وبالجملة فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات، كما يدل عليه السياق، ويفيده الاستثناء، فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب والسنة، مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات، وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره، فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء.
وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية، وروي ذلك عن مالك وهو قول ساقط ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه إهمال غيرها مما نزل بعدها من القرآن، وإهمال ما صح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال بحرمة شيء مثلا، بعد نزول هذه الآية بلا سبب يقتضي ذلك، ولا موجب يوجبه، مع أن
(١) تقدّم الكلام عليها في تفسير سورة المائدة آية (٣).
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (٩/ ٦٥٧)، (١٠/ ٢٤٩)، ومسلم (١٣/ ٨١، ٨٣)، عن أبي ثعلبة الخشني نحوه.
(٣) حديث صحيح: رواه البخاري (٧/ ٤٨١)، ومسلم (١٣/ ٩٠، ٩١)، ابن عمر مرفوعا، وذلك النهي كان في يوم خيبر، وروي عن جمع من الصحابة أيضا.
(٤) تدخل ضمن تحريم كل ذي ناب من السباع.
296
التمسك بقول أحد، ولو كان صحابيا، في مقابلة قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف.
وقوله مُحَرَّماً: صفة لموصوف محذوف، أي طعاما محرما.
عَلى أي طاعِمٍ يَطْعَمُهُ: من المطاعم، وفي يَطْعَمُهُ زيادة تأكيد وتقرير لما قبله.
إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً: أي ذلك الشيء، أو ذلك الطعام، أو العين، أو الجثة، أو النفس، قرىء بالتحتية والفوقية وقرىء: ميتة، بالرفع على أن يكون تامة.
أَوْ دَماً مَسْفُوحاً وهو الجاري، وغير المسفوح معفو عنه، كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح، ومنه الكبد والطحال، وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم.
وقد حكى القرطبي الإجماع على هذا «١».
أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ: ظاهر تخصيص اللحم أنه لا يحرم الانتفاع منه بما عدا اللحم، والضمير في: فَإِنَّهُ رِجْسٌ، راجع إلى اللحم أو إلى الخنزير.
والرجس: النجس، وقد تقدم تحقيقه.
أَوْ فِسْقاً عطف على لَحْمَ خِنزِيرٍ.
وأُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: صفة فسق، أي ذبح على الأصنام وغيرها، وسمي فسقا لتوغله في باب الفسق، ويجوز أن يكون فسقا مفعولا له لأهلّ، أي أهلّ به لغير الله فسق على عطف أهلّ على يكون، وهو تكلف لا حاجة إليه.
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ: قد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة فلا نعيده «٢».
فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ: أي كثير المغفرة.
رَحِيمٌ (١٤٥) : أي كثير الرحمة، فلا يؤاخذ المضطر لما دعت إليه ضرورته.
(١) انظر تفسيره (٧/ ١٢٤)، ومراتب الإجماع لابن حزم (ص ١٧٢، ١٧٣).
(٢) وذلك عند تفسير الآية (١٧٣) من سورة البقرة.
وانظر في تفسير هذه الآية: المشكل لمكي بن أبي طالب (١/ ٢٩٧)، والزجاج (٢/ ٣٣٠)، والتبيان (١/ ٢٦٤)، والفراء (١/ ٢٦٠)، وزاد المسير (٣/ ١٣٨).
297
Icon