تفسير سورة التكوير

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها ٢٩

عنهما: من قيام الليل، لما روى في الحديث «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار «١»، وعن الضحاك: من آثار الوضوء. وقيل: من طول ما اغبرت في سبيل الله غَبَرَةٌ غبار يعلوها قَتَرَةٌ سواد كالدخان، ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، كما ترى من وجوه الزنوج إذا اغبرت، وكأن الله عز وجل يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة، كما جمعوا الفجور إلى الكفر.
عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر «٢» ».
سورة التكوير
مكية، وآياتها ٢٩ [نزلت بعد المسد] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤)
في التكوير وجهان: أن يكون من كوّرت العمامة إذا لففتها، أى: يلف ضوءها لفا فيذهب
(١). تقدم في سورة الفتح.
(٢). أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.
706
انبساطه وانتشاره في الآفاق، وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها، لأنها ما دامت باقية كان ضياؤها منبسطا غير ملفوف. أو يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها، لأنّ الثواب إذا أريد رفعه لف وطوى، ونحوه قوله يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وأن يكون من طعنه فجوّره وكوّره: إذا ألقاه، أى: تلقى وتطرح عن فلكها، كما وصفت النجوم بالانكدار. فإن قلت: ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟ قلت: بل على الفاعلية رافعها فعل مضمر يفسره كوّرت، لأنّ «إذا» يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط انْكَدَرَتْ انقضت. قال:
أبصر خربان فضاء فانكدر «١»
ويروى في الشمس والنجوم: أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها، كما قال إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ. سُيِّرَتْ أى على وجه الأرض وأبعدت. أو سيرت في الجوّ تسيير السحاب كقوله وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ. والعشار في جمع عشراء، كالنفاس في جمع نفساء:
وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزها عليهم عُطِّلَتْ تركت مسيبة مهملة. وقيل: عطلها أهلها عن الحلب والصر، لاشتغالهم بأنفسهم. وقرئ: عطلت، بالتخفيف حُشِرَتْ جمعت من كل ناحية. قال قتادة:
يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص. وقيل: إذا قضى بينها ردّت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبنى آدم وإعجاب بصورته، كالطاوس ونحوه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: حشرها موتها.
يقال: إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم حشرتهم السنة. وقرئ: حشرت، بالتشديد سُجِّرَتْ قرئ بالتخفيف والتشديد، من سجر التنور: إذا ملأه بالحطب، أى: ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى تعود مجرا واحدا. وقيل: ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار. وعن الحسن:
يذهب ماؤها فلا تبقى فيها قطرة زُوِّجَتْ قرنت كل نفس بشكلها. وقيل: قرنت الأرواح
(١).
إذا الكرام ابتدروا الباع بدر تقضى البازي إذا البازي كسر
«انى جناحيه من الطود فمر أبصر خربان فضاء فانكدر
العجاج يمدح عمر بن عبيد الله التميمي. والباع بالمهملة: قدر مد اليدين، والمراد به الكرم مجازا. وبدر: أسرع وغلب الكرام، وتقضى: نصب به، وأصله: تقضض، أبدل الثاني حرف علة وكسر الأول، أى: أمال جناحيه وداناهما من الجبل العظيم، ومر: سار على وجه الجبل. وخربان- جمع خرب-: طائر يقال له الحبارى، وهو مضاف لفضاء، فانكدر: أى انقض وسقط عليها فيأكلها. ويروى صدر هذا الرجز: تقضى البازي... الخ. واعتمر: أى زار. والمغزى: مكان الغزو. وضبره ضبرا: جمعه جمعا. يقول: ارتفع قدره حين غزا موضعا بعيدا من الشام، وجمع لذلك جيشا عظيما، وأسرع كاسراع البازي إلى الحبارى: بالغ في وصف البازي تصويرا لحال المشبه، ومبالغة في مدحه.
707
بالأجساد. وقيل بكتبها وأعمالها. وعن الحسن: هو كقوله وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً وقيل:
نفوس المؤمنين بالحور، ونفوس الكافرين بالشياطين. وأد يئد مقلوب من آد يئود: إذا أثقل. قال الله تعالى وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما لأنه إثقال بالتراب: كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها: ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيبيها وزينيها، حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرا في الصحراء، فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها، حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابنا حبسته. فإن قلت:
ما حملهم على وأد البنات؟ قلت: الخوف من لحوق العار بهم من أجلهنّ. أو الخوف من الإملاق، كما قال الله تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ وكانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به، فهو أحق بهنّ. وصعصعة بن ناجية ممن منع الوأد، فبه افتخر الفرزدق في قوله:
لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وضبر
فإن قلت: فما معنى سؤال الموؤدة عن ذنبها الذي قتلت به، وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ قلت: سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ... إلى قوله... سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ وقرئ: سألت، أى:
ومنّا الّذى منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم توأد «١»
خاصمت عن نفسها، وسألت الله أو قاتلها، وإنما قيل قُتِلَتْ بناء على أن الكلام إخبار عنها، ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت. فقيل: قتلت. أو كلامها حين سئلت لقيل: قتلت. وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما: قتلت، على الحكاية. وقرئ: قتلت، بالتشديد. وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بالذنب، وإذا بكت الله الكافر ببراءة الموؤدة من الذنب: فما أقبح به، وهو الذي لا يظلم مثقال ذرّة أن يكرّ
(١). للفرزدق، يفتخر يجده صعصعة: قدم على رسول الله ﷺ فأسلم وقال: يا رسول الله، عملت أعمالا في الجاهلية فهل لي فيها من أجر؟ فقال: وما عملت؟ قال: قد أحييت ثلاثا وستين من الموؤدة أشترى الواحدة منهن بناقتين عشراويتين وجمل، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا من باب البر ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام. ويقال: وأد بنته إذا دفنها وهي حية، وكانت كندة تفعل ذلك خوف العار والفقر. ويروى: فأحيا الوئيد وهي أوقع. والوئيد يقال للمفرد والجمع مذكرا أو مؤنثا. ويروى: وجدي، أى: هو الذي منع الجماعات الدافنات بناتهن حيات وفداهن من الموت، فكأنه أحياهن، فأطلق الوئيد على المشرفات على الموت مجازا، والأحياء ترشيح.
708
عليها بعد هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى عنده فعل المبكت من العذاب الشديد السرمد. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه سئل عن ذلك، فاحتجّ بهذه الآية نُشِرَتْ قرئ بالتخفيف والتشديد، يريد: صحف الأعمال تطوى صحيفة الإنسان عند موته، ثم تنشر إذا حوسب. عن قتادة: صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك، ثم تنشر يوم القيامة، فلينظر رجل ما يملى في صحيفته.
وعن عمر رضى الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وعن النبي ﷺ أنه قال: «يحشر الناس عراة حفاة» فقالت أمّ سلمة: كيف بالنساء؟ فقال: شغل الناس يا أمّ سلمة» قالت: وما شغلهم؟ قال: نشر الصحف فيها مثاقيل الذرّ ومثاقيل الخردل «١» ويجوز أن يراد: نشرت بين أصحابها، أى فرقت بينهم. وعن مرثد بن وداعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أى مكتوب فيها ذلك، وهي صحف غير صحف الأعمال كُشِطَتْ كشفت وأزيلت، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء. وقرأ ابن مسعود: قشطت. واعتقاب الكاف والقاف كثير. يقال: لبكت الثريد ولبقته، والكافور والقافور سُعِّرَتْ أو قدت إيقادا شديدا. وقرئ: سعرت بالتشديد للمبالغة. قيل: سعرها عضب الله تعالى وخطايا بنى آدم أُزْلِفَتْ أدنيت من المتقين، كقوله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ قيل: هذه اثنتا عشرة خصلة. ست منها في الدنيا، وست في الآخرة.
وعَلِمَتْ: هو عامل النصب في إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وفيما عطف عليه. فإن قلت: كل نفس تعلم ما أحضرت، كقوله يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً لا نفس واحدة. فما معنى قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ؟ قلت: هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما بعكس عنه. ومنه قوله عز وجل: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ومعناه: معنى كم وأبلغ منه. وقول القائل:
قد أترك القرن مصفرّا أنامله «٢»
وتقول لبعض قوّاد العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: رب فارس عندي. أولا تعدم عندي فارسا، وعنده المقانب «٣»، وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه، ولكنه أراد
(١). أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن أبى موسى عن عطاء بن يسار عن أم سلمة بهذا. وأصله في الصحيحين عن عائشة، وأخرجه الحاكم من حديث سودة.
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢٠٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣). قوله «وعنده المقانب في الصحاح «المقنب» : ما بين لثلاثين إلى الأربعين من الخيل. (ع)
709
إظهار براءته من التزيد، وأنه ممن يقلل كثير ما عنده، فضلا أن يتزيد، فجاء بلفظ التقليل، ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين. وعن ابن مسعود رضى الله عنه أنّ قارئا قرأها عنده، فلما بلغ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ قال: وانقطاع ظهرياه.
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١٥ الى ١٨]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨)
بِالْخُنَّسِ الرواجع، بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعا إلى أوله. والْجَوارِ السيارة. والْكُنَّسِ «١» الغيب من كنس الوحشي: إذا دخل كناسه. قيل: هي الدراري
(١). تعرض الزمخشري في تفسيره العامل الخ. قال أحمد: هذا الجواب لا يستمر، لأجل ظهور الفعل الثاني في قوله فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ولما أعضل الجواب عن هذا السؤال في سورة التكوير: التزم الشيخ أبو عمرو بن الحاجب إجازة التعطف على عاملين، واتخذ هذه الآية وزره ومعضده في مخالفة سيبويه، ورد على الزمخشري جوابه في سورة والشمس وضحاها، لأنه لم يطرد له هاهنا، وكان على رده يستحسن تيقظ فطنته في استنباطه، ونحن والله الموفق نلتزم مذهب سيبويه في امتناع العطف على عاملين في جعل الواو الثانية عاطفة، ويجرى جواب الزمخشري هاهنا وينفصل عن هذه الآية فتقول: قوله وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ هذه الواو الأولى ابتداء قسم، والواو في قوله وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ عاطفة فيطرد ما قال الزمخشري. فان قيل: فقد خالفتم سيبويه، فانه لا يرى الواو المتعقبة للقسم ابتداء قسم بل عاطفة، وقد جعلتم الواو الأولى وهي متعقبة للقسم ابتداء قسم؟ قلنا: إنما تكلم سيبويه في الواو المتعقبة للقسم بالواو وأما الآية فالقسم الأول فيها بالباء والفعل، فجعلنا الواو بعد ذلك قسما وتبعا، وهو أبلغ، كأنه أقسم قسمين بشيئين مختلفين. فان قبل: أجل. إنما تكلم سيبويه على الواو المتعقبة للقسم بالواو، فما الفرق بين المتعقبة للقسم بالواو والمتعقبة للقسم بالباء؟ وما هما إلا سواء، فان كل واحد منهما آلة له، والتاء تدل على الباء فحكمهما واحد؟ قلنا: ليستا سواء فان القسم منى صدر بالواو ولم يله واو أخرى، فجعلها قسما آخر فيه تكرار منكره، إذ الآلة واحدة، ولا كذلك إذا اختلفت الآلة، فان عاملة التكرار مأمونة إذا، ألا ترى أنه لو صدر القسم بالواو، ثم تلاه قسم بالباء، لتحتم جعلهما قسمين مستقلين، فكذلك لو حولف هذا الترتيب. وأيضا، فإنه إن كان المانع لسيبويه من جعل الواو الثانية قسما مستقلا مجيء الجواب واحدا، واحتياج الواو الأولى إلى محذوف، فالعطف يغنى عن تقدير محذوف، فيتعين، فلا يلزم اطراد الباء لأنها أصل القسم لا سيما مع التصريح بفعل القسم ثم تأكيده بزيادة لا، فان في مجموع ذلك ما يغنى عن إفراده بجواب مذكور، ولا كذلك الواو فإنها ضعيفة المكنة في باب القسم بالنسبة إلى الباء، فلا يلزم من حذف جواب تمكنت الدلالة عليه حذف جواب دونه في الوضوح، وأختم الكلام على هذا السؤال بنكتة بديعة فأقول: إنما خصصت إيراد السؤال بالواو الثانية في قوله وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ دون الثالثة لأنه غير متوجه عليها. ألا تراك لو جعلتها عاطفة لم يلزمك العطف على عاملين، لأنك نجعلها نائبة عن الباء وتجعل إذا فيها منصوبة بالفعل مباشرة إذا لم يتقدم في جملة الفعل ظرف تعطف عليه إذا، فتصير بمثابة قولك: مررت بزيد وعمرو اليوم، فاليوم منصوب بالفعل مباشرة، وفهم من المثال أن مرورك بزيد مطلق غير مقيد بظرف، وإنما المقيد باليوم مرورك بعمرو خاصة لكن يطابق الآية، فان الظرف فيها وإن عمل فيه الفعل مباشرة فهو مقيد القسم بالليل، لا للقسم بالخنس.
الخمسة: بهرام «١»، وزحل، وعطارد، والزهرة، والمشترى: تجرى مع الشمس والقمر، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس، فخنوسها رجوعها: وكنوسها: اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل: هي جميع الكواكب، تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل:
أى تطلع في أماكنها، كالوحش في كنسها. عسعس الليل وسعسع: إذا أدبر. قال العجاج:
حتّى إذا الصّبح لها تنفّسا وانجاب عنها ليلها وعسعسا «٢»
وقيل: عسعس: إذا أقبل ظلامه. فإن قلت: ما معنى تنفس الصبح؟ قلت: إذا أقبل الصبح:
أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفسا له على المجاز. وقيل: تنفس الصبح.
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١٩ الى ٢١]
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١)
إِنَّهُ الضمير للقرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ هو جبريل صلوات الله عليه «٣» ذِي قُوَّةٍ
(١). قوله «بهرام» : ليس بعربي، والمراد به: المريخ. (ع) [.....]
(٢). العجاج. وتنفس الصبح: اتساع ضوئه، أو إقباله بضوء ونسيم. وضمير «لها» الشمس، وقيل:
للمفازة. وانجاب: انقطع وانفصل عنها ظلام الليل. وعسعس: ولى مدبرا وزال ظلامه، فهو توكيد لما قبله.
ويجوز أن الضمير لبقرة وحشية مثلا.
(٣). قال محمود: «المراد بالرسول الكريم: جبريل عليه السلام. وقوله عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ليدل على عظم منزلته ومكانته، وثم إشارة إلى الظرف المذكور يعنى عند ذى العرش الخ» قال أحمد: ما كان جبريل صلوات الله عليه يرضى منه هذا التفسير المنطوى على التقصير في حق البشير النذير عليه أفضل الصلاة والسلام، ولقد اتبع الزمخشري هواه في تمهيد أصول مذهبه الفاسد، فأخطأ على الأصل والفرع جميعا، ونحن فبين ذلك بحول الله وقوته فنقول: أولا اختلف أهل التفسير، فذهب منهم الجم الغفير إلى أن المراد بالرسول الكريم هاهنا إلى آخر النعوت:
محمد صلى الله عليه وسلم. فإن يكن كذلك والله أعلم فذلك فضل الله المعتاد على نبيه، وإن كان المراد جبريل عليه السلام فقد اختلف الناس في المفاضلة بين الملائكة والرسل، والمشهور عن أبى الحسن: تفضيل الرسل. ومذهب المعتزلة: تفضيل الملائكة، إلا أن المختلفين أجمعوا على أنه لا يسوغ تفضيل أحد القبيلين الجليلين بما يتضمن تنقيص معين من الملائكة ومعين من الرسل، لأن التفضيل وإن كان ثابتا إلا أن في التعيين إيذاء للمفضول، وعليه حمل الحذاق قوله ﷺ «لا تفضلوني على يونس بن متى» أى لا تعينوا مفضولا على التخصيص، لأن التفضيل على لتعميم ثابت بإجماع المسلمين، أى تفضيل النبي ﷺ على النبيين أجمعين، وكان جدي رحمه الله يوضح ذلك بمثال فيقول: لو قلت بحضرة جماعة من الفقهاء: فلان أفضل أهل عصره، لكان في الجماعة احتمال لهذا التفضيل وإن لزم اندراجهم في المفضولين، ولو عينت واحدا منهم وقلت: فلان أفضل منك وأتقى لله، لأسرع به الأذى إلى بعضك. وإذا تقرر لك أنه لا يلزم من اعتقاد التفضيل على التعميم جواز إطلاق التفضيل على التخصيص، علمت أن الزمخشري أخطأ على أصله لأنه بتقدير أن تكون الملائكة أفضل كما يعتقد، لا يجوز أن يقال أحد من الملائكة على التخصيص أنه أفضل من أحد الأنبياء على التخصيص، لا سيما في سيد ولد آدم عليه أفضل الصلاة والسلام، ثم يعود الكلام على الآية بعد تسليم أن المراد جبريل، وبعد أن نكله في تعيينه النبي ﷺ وعده مفضولا إلى الله فنقول: لم يذكر فيها نعت إلا والنبي ﷺ مثله، أولها: رسول كريم، فقد قال في حقه ﷺ في آخر سورة الحاقة إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وقد قيل أيضا: إن المراد جبريل، إلا أنه يأباه قوله وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ وقد وافق الزمخشري على ذلك فيما تقدم، فهذا أول النعوت وأعظمها. وأما قوله ذِي قُوَّةٍ فليس محل الخلاف، إذ لا نزاع في أن لجبريل عليه السلام فضل القوة الجسمية ومن يقتلع المدائن بريشة من جناحه، لا مراء في فضل قوته على قوة البشر. وقد قيل هذا في تفسير قوله ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وقوله عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ فقد ثبت طاعة الملائكة أيضا لنبينا صلى الله عليه وسلم، ورد أن جبريل عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يقرئك السلام، وقد أمر ملك الجبال أن يطيعك عند ما آذته قريش فسلم عليه الملك وقال: إن أمرتنى أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فصبر النبي ﷺ واحتسب.
وأعظم من ذلك وأشرف: مقامه المحمود في الشفاعة الكبرى يوم لا يتقدمه أحد، إذ يقول الله تعالى له: ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع. وأما أمين فقد قال وهو الصادق المصدوق: والله إنى لأمين في الأرض أمين في السماء، وحسبك قوله: وما هو على الغيب بظنين. إن قرأته بالظاء فمعناه أنه ﷺ أمين على الغيب غير متهم، وإن قرأته بالضاد رجع إلى الكرم، فكيف يذهب إلى التفضيل بالنعوت المشتركة بين الفاضل والمفضول سواء، وما لي مباحثة في أصل المسألة، ولكن الرد عليه في خطئه على كل قول يتعين، وإلا فالمسئلة في غير هذا الكتاب. فنسأل الله أن يثبتنا على الايمان به وبملائكته وكتبه ورسله، وعلى القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يعمر قلوبنا بحبهم، وأن يجعل توسلنا إليه بهم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
كقوله تعالى شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ لما كانت حال المكانة على حسب حال الممكن، قال:
عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ليدل على عظم منزلته ومكانته ثَمَّ إشارة إلى الظرف المذكور، أعنى:
عند ذى العرش، على أنه عند الله مطاع في ملائكته المقرّبين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه. وقرئ: ثم، تعظيما للأمانة، وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة.
[سورة التكوير (٨١) : آية ٢٢]
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢)
وَما صاحِبُكُمْ يعنى: محمدا ﷺ بِمَجْنُونٍ كما تبهته الكفرة «١»، وناهيك بهذا دليلا على جلالة مكان جبريل عليه السلام وفضله على الملائكة، ومباينة منزلته «٢» أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم: إذا وازنت بين الذكرين حين قرن بينهما، وقايست بين قوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وبين قوله وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ.
(١). قوله «كما تبهته الكفرة» أى تتهمه بما ليس فيه. (ع)
(٢). قوله «ومباينة منزلته... الخ» يعنى ارتفاع منزلته على منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مبنى على مذهب المعتزلة من تفضيل الملك على البشر. ومذهب أهل السنة: تفضيل رؤساء البشر. وإنما ذكر جبريل بتلك الصفات واقتصر على نفى الجنون عن النبي ﷺ لأن جبريل مجهول لهم، بخلاف محمد ﷺ فاقه صاحبهم، ولذا اقتصر على نفى ما بهتوه به. (ع)

[سورة التكوير (٨١) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]

وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥)
وَلَقَدْ رَآهُ ولقد رأى رسول الله ﷺ جبريل بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ بمطلع الشمس الأعلى وَما هُوَ وما محمد على ما يخبر به من الغيب من رؤية جبريل والوحى إليه وغير ذلك بِضَنِينٍ بمتهم من الظنة وهي التهمة. وقرئ: بضنين، من الضنّ وهو البخل أى: لا يبخل بالوحي فيزوى بعضه غير مبلغه، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه، وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبىّ بالضاد. وكان رسول الله ﷺ يقرأ بهما.
وإتقان الفصل بين الضاد والظاء: واجب. ومعرفة مخرجيهما مما لا بد منه للقارئ، فإنّ أكثر العجم لا يفرّقون بين الحرفين، وإن فرقوا ففرقا غير صواب، وبينهما بون بعيد، فإن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين، وأما الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء. ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب فإن قلت: فإن وضع المصلى أحد الحرفين مكان صاحبه. قلت: هو كواضع الذال مكان الجيم، والثاء مكان الشين، لأن التفاوت بين الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما وَما هُوَ وما القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أى بقول بعض المسترقة للسمع، وبوحيهم إلى أوليائهم من الكينة.
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ استضلال لهم كما يقال لتارك الجادّة اعتسافا أو ذهابا في بنيات الطريق «١» :
أين تذهب، مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ بدل من العالمين وإنما أبدلوا منهم لأنّ الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعظين جميعا وَما تَشاؤُنَ الاستقامة يا من
(١). قوله «في بنيات الطريق» في الصحاح «بقيات الطريق» : هي الطرق الصحار تتشعب من الجادة. (ع)
Icon