قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسُهَيل بن عمرو، وعكرِمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد، وهم الذين هَمُّوا بإخراج الرسول.
قال المفسرون: لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره بالله وقطيعته الرحم، وأغلظ عَلِيّ له القولَ. فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليّ: ألكم محاسن؟ قال: نعم، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونَحْجُبُ الكعبة، ونسقي الحاج، ونفك العَانِي. فأ، زل الله عز وجل رداً على العباس: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾ الآية.
أخبرنا أبو إِسحاق الثعالبي رحمه الله، قال: أخبرنا عبد الله بن حامد الوَزَّان، قال: أخبرنا أحمد بن حمد [بن جعفر] بن عبد الله المُنادِي، قال: أخبرنا أبو داود سليمان بن الأشعث، قال: حدَّثنا أبو توبة الرَّبيع بن نافع الحلبي، قال: حدَّثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام، قال: حدَّثنا النعمان بن بشير، قال:
كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحَاجَّ، وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أَعْمُرَ المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل اللهِ أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يم الجمعة - ولكّني إذا صليت دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه. ففعل، فأنزل الله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ﴾.
رواه مسلم عن الحسن بن علي الحلواني، عن أبي توبة.
وقال ابن عباس في رواية الوالبي: قال العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نَعْمُرُ المسجدَ الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني. فأنزل الله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ﴾ الآية.
وقال الحسن والشّعبي والقُرَظِي: نزلت الآية في علي، والعباس، وطلحة ابن شَيْبَة: وذلك أنهم افتخروا فقال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه [ولو أشاء بتُّ فيه] وإِليَّ ثيابُ بَيْته. وقال العباس: أنا صاحب السِّقَاية والقائم عليها. وقال علي: ما أدري ما تقولان، لقد صليت ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن سيرين ومُرّة الهمداني: قال علي للعباس: ألا تهاجر؟ ألا تلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألست في [شيء] أفضل من الهجرة؟ الست أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية [ونزل قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ﴾ الآية].
قال الكلبي: لما أُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، جعل الرجل يقول لأبيه وأخيه وامرأته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده فيقولون: ننشدك الله أن تدعنا إلى غير شيء فتضيعنا فنضيع، فيرقّ فيجلس معهم ويدع الهجرة. فنزل قول الله تعالى يعاتبهم: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ...﴾ الآية.
ونزل في الذين تخلفوا بمكة ولم يهاجروا قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ يعني القتال وفتح مكة.
نزلت في العلماء والقراء من أهل الكتاب، كانوا يأخذون الرّشا من سِفْلتهم، وهي: المآكل التي كانوا يصيبونها من عوامهم.
قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ...﴾ الآية. [٣٤] أخبرنا أبو إسحاق المقري، قال: أخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، قال: حدَّثنا محمد بن نصير، قال: حدَّثنا عمرو بن زُرَارَة، قال: حدَّثنا هشيم، قال: حدَّثنا حصين، عن زيد بن وَهْب، قال:
مررت بالرَّبَذَةِ فإذا أنا بأبي ذَرّ، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: ﴿وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم؛ وكان بيني وبينه كلام في ذلك، وكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إليَّ عثمان: أن أقدم المدينة. فقدمتها فكثر الناس عليَّ حتى كأنهم لو يروني قبل ذلك، فذكرتُ ذلك لعثمان، فقال: إن شئت تَنَحَّيْتَ وكنتَ قريباً؛ فذلك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبِشِيَّاً لسمعت وأطعت..
رواه البخاري عن قُتَيْبةَ، عن جَرير، عن حُصَين.
ورواه أيضاً عن علي، عن هُشَيم.
والمفسرون أيضاً مختلفون: فعند بعضه: أنها في أهل الكتاب خاصة.
وقال السدي: هي في أهل القبلة.
وقال الضحاك: هي عامة في أهل الكتاب والمسلمين.
قال عطاء بن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ﴾ قال: يريد من المؤمنين.
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم النجار، قال: حدَّثنا سليمان بن أيوب الطَّبَرَانِي، قال: حدَّثنا محمد بن داود بن صدقة، قال: حدَّثنا عبد الله بن مُعافى، قال: حدَّثنا شَرِيك، عن محمد بن عبد الله المُرادِي، عن عمرو بن مُرَّة، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن ثَوْبان، قال:
لما نزلت: ﴿وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تباً للذهب والفضة، قالوا: يا رسول الله فأي المال نكنز؟ قال: قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة صالحةً.
نزلت في الحث على غزوة "تَبُوك" وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف وغزوة حُنَين، أمر بالجهاد لغزو الروم، وذلك في زَمان عسرة من الناس وجَدْبٍ من البلاد، وشدة من الحر، حين أخرفت النخل وطابت الثمار. فعظم على الناس غزو الروم، وأحبوا الظلال، والمقام في المساكن والمال، وشق عليهم الخروج إلى القتال. فلما علم الله تَثَاقُل الناس أنزل هذه الآية.
نزلت في الذين اعتذروا بالضَّيْعَة والشغل وانتشار الأمر، فأبى الله تعالى أن يعذرهم دون أن ينفروا، على ما كان منهم.
أخبرنا محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، قال: أخبرنا أبو عمرو بن مطر، قال: حدَّثنا إبراهيم بن علي، قال: حدَّثنا يحيى بن يحيى، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن جدعان [وهو علي بن زيد] عن أنس، قال:
قرأ أبو طلحة ﴿ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ فقال: ما أسمع الله عَذَر أحداً فخرج مجاهداً إلى الشام حتى مات.
وقال السُّدّي: جاء المِقْدَادُ بن الأَسْوَد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عظيماً سميناً، فشكا إليه وسأله أن يأذن له، فنزلت فيه: ﴿ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً﴾.
فلما نزلت هذه الآية اشتد شأنها على الناس؛ فنسخها الله تعالى وأنزل: ﴿لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ﴾ الآية.
ثم أنزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾ وذلك أن رسول اله صلى الله عليه وسلم لما خرج ضرب عسكره على ثَنيَّةِ الوَدَاع، وضرب عبد الله بن أُبَيّ عَسْكَرَه على ذي جُدَّة أسفلَ من ثَنِيَّةِ الوَدَاع، ولم يكن بأقل العسكرين؛ فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب. فأنزل الله تعالى يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾ الآية.
نزلت في جَدّ بن قَيْس المنافق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَا تجهز لغزوة تبوك قال له: يا أبا وَهْب، هل لك في جِلاَدِ بني الأصْفَر تتخذ منهم سراري ووُصَفَاء؟ فقال: يا رسول الله لقد عرف قومي أني رجل مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بنات [بني] الأصفر أن لا أصبر عنهن، فلا تفتني بهن، وائذن لي في القعود عنك فأعينك بمالي؛ فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: قد أذنت لك. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني سلمة -وكان الجد منهم -: من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: الجَدُّ بن قيس، غير أنه بخيل جبان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأي داء أدْوَى من البخل، بل سيدكم الفتى الأبيض، الجَعْدُ: بِشْرُ بن البَرَاءِ بن معرور". فقال فيه حسان بن ثابت:
وقال رسول الله والحق لا حـق * بمن قال منا: مَن تعدون سيدا
فقلنا له: جدُّ بن قيس على الذي * نبخله فيـنــا وإن كـان أنـكـدا
فقال: وأيّ الداء أدْوَى مِنَ الذي * رميتم به جَدَّاً وعَالَى بها يـدَا
وسوَّد بشر بـن البـرَاءِ بجــودِه * وحُقَّ لبشر ذي الندا أن يُسَوَّدَا
إذا ما أتـاه الوفـد أنهــب مالــه * وقال: خـذوه إنــه عائــد غــدا
وما بعد هذه الآية كلها للمنافقين إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ﴾ الآية [٦٠].
أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثَّعْلبي، قال: حدَّثنا عبد الله بن حامد، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، قال: حدَّثنا محمد بن يحيى، قال حدَّثنا عبد الرزاق، قال: حدَّثنا مَعْمَر، عن الزُّهْرِي، عن أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخُدْرِي، قال:
بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقسم قسماً، إذ جاءه ابن ذي الخُوَيْصِرَة التَّمِيمِي، وهو حرْقُوص بن زُهَير أصل الخوارج، فقال: اعدل فينا يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فنزلت: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ....﴾ الآية. رواه البخاري عن عبد الله بن محمد، عن هشام بن معمر.
وقال الكلبي: نزلت في المؤلفة قلوبهم، وهم المنافقون، قال رجل [منهم] يقال له: أبو الجَوَّاظ؛ للنبي عليه السلام: لم تقسم بالسوية، فأنزل الله تعالى ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ﴾.
نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون الرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون [فيه] مالا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقعَ بنا، فقال الجلاس بن سويد: نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن سامعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره: نزلت في رجل من المنافقين يقال له: نَبْتَل بن الحارث، وكان رجلاً أدلم أحمر العينين، أسفع الخدين، مشوه الخلقة. وهو الذي قال [فيه] النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد أن ينظر الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث. وكان ينم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين، فقيل له:
لا تفعل، فقال: إنما محمد أذن مَنْ حدَّثه شيئاً صدَّقه، نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال السُّدّي: اجتمع ناس من المنافقين - فيهم جُلاَس بن سُوَيد بن الصامت، ووديعة بن ثابت - فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فَحَقَرُوه فتكلموا وقالوا: [والله] لئن كان ما يقوله محمد حقاً لنحن شر من الحمير. [فغضب الغلام فقال: والله إن ما يقول محمد حق وإِنكم لشر من الحمير] ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فدعاهم فسألهم فحلفوا أن عامراً كذاب، وحلف عامر أنهم كذبة، وقال: اللهم لا تفرِّق بيننا حتى تيِّن صِدْقَ الصادق من كذب الكاذب. فنزلت فيهم ﴿وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ ونزل قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾.
قال السُّدِّي: قال بعض المنافقين: والله لوددت أني قُدِّمت فَجُلِدْتُ مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فأنزل الله هذه الآية.
وقال مجاهد: كانوا يقولون القول بينهم، ثم يقولون: عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا.
قال قتادة: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وبين يديه ناس من المنافقين، إذ قالوا: أيرجوا هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات له ذلك، فأطلع الله نبيه على ذلك فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: احبسوا عليَّ الرَّكْبَ، فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا، فقالوا: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال زَيْد بن أَسْلَم، ومحمد بن كعب: قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألْسُناً، ولا أجبن عند اللقاء - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه - فقال له عوْفُ بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخْبِرَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب عوف ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق.
أخبرنا أبو نصر محمد [بن محمد] بن عبد الله الجَوْزَقِي، أخبرنا بشر بن أحمد بن بشر، حدَّثنا أبو جعفر محمد بن موسى الحلواني، حدَّثنا محمد بن ميمون الخياط، حدَّثنا إسماعيل بن داود المهْرَجَاني، حدَّثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر قال:
رأيت عبد الله بن أبيّ يسير قدَّام النبي صلى الله عليه وسلم والحجارة تَنْكُبُه وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ﴿أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ﴾.
قال الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم إلى بعضه سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وطعنوا في الدين، فنقَل ما قالوا حذيفَةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال [لهم] رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم، فحلفوا ما قالوا شيئاً من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية إكذاباً لهم.
وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا، رجل من جُهَيْنَة ورجل من غفار، فظهر الغِفَارِيّ على الجُهَيْنيّ، فنادى عبد الله بن أبيّ: يا بني الأوْس، انصروا أخاكم فوالله ما مَثْلُنَا ومثَلُ محمد إلا كما قال القائل: سمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعَزُّ منها الأذل، فسمع بها رجل من المسلمين، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره فأرسل إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ....﴾ [٧٤].
قال الضحاك: هموا أن يدفعوا [النبي صلى الله عليه وسلم] ليلة العَقَبة، وكانوا قوماً قد أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم معه. فجعلوا يلتسمون غِرّته، حتى أخذ في عَقَبَةٍ، فتقدَّم بعضهم، وتأخر بعضهم، وذلك كان ليلاً، قالوا: إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي، وكان قائده في تلك الليلة عمَّار بن ياسر، وسائقه حُذَيفة، فسمع حُذَيفة وقع أخفاف الإبل، فالتفت فإذا هو بقوم متلثمين، فقال: إليكم [إليكم] يا أعداء الله، فأمسكوا ومضى النبي عليه السلام حتى نزل منزله الذي أراد، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن الفضل، قال: حدَّثنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر، قال: حدَّثنا أبو عمران موسى بن سهل الجوْنيّ، قال: حدَّثنا هشام بن عمار قال: حدَّثنا محمد بن شعيب، قال: حدَّثنا معاذ بن رفاعة السّلامي، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد، أنه أخبره عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة الباهلي:
أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك يا ثعلبة، قليلٌ تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، ثم قال مرة أخرى: أما تَرْضى أن تكون مثلَ نبي الله، فوالذي نفسي بيده، لو شئت أن تسيل معي الجبال فضة وذهباً لسالت. فقال: والذي بعثك بالحق [نبياً] لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأوتِيَنَّ كلَّ ذي حق حقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالاً. فاتخذ غنماً فنمت كما ينموا الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة يترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود، حتى ترك الجمعة - فسأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل ثعلبة؟ فقال: اتخذ غنماً وضاقت عليه المدينة، وأخبره بخبره، فقال: يا ويح ثعلبة - ثلاثاً - وأنزل الله عز وجل: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ وأنزل فرائض الصدقة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصَّدقَة - رجلاً من جُهَيْنَةَ ورجلاً من بني سليم - وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة، وقال لهما: مُرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما. فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله عليه السلام فقال ثعلبة: ما هذه إلا جزية!ّ ما هذه إلا أخت الجزية! ما أدري ما هذا! انطلقا حتى تَفْرُغَا ثم تعودا إليَّ. فانطلقا وأخبرا السلمي، فنظر إلى خِيَارِ أسْنَان إبله فعزلها للصدقة، ثم استقبلهم بها، فلما رأوها قالوا: ما يجب هذا عليك، وما نريد أن نأخذ هذا منك. قال: بلى خذوه، فإن نفسي بذلك طَيِّبَة، وإنما هي إبلي،. فأخذوها منه، فلما فرغا من صدقتهما رجعا حتى مَرَّا بثعلبة، فقال: أروني كتابكما [حتى] أنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية! انطلقا حتى أرى رأْيي. فانطلقا حتى أتيا النبي عليه السلام، فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة، قبل أن يكلمهما، ودعا للسُّلَمِيّ، بالبركة. وأخبروه بالذي صنع ثعلبة، والذي صنع السلمي، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك فخرج حتى أتى ثعلبة فقال: ويحك يا ثعلبة، قد أنزل الله تعالى فيك كذا وكذا. فخرج ثعلبة حتى أتى النبي عليه السلام فسأله أن يقبل منه صدقته، فقال: إن الله قد منعني أن أقبل [منك] صدقتك، فجعل يَحْثُوا الترابَ على رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك! قد أمرتك فلم تطعني. فلما أبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله. وقُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقبل منه شيئاً، ثم أتى أبا بكر حين استخْلِفَ فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقبلها. فقُبِضَ أبو بكر وأبى أن يقبلها. فلما ولي عمر بن الخطاب أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، اقبل صدقتي. فقال: ل يقبلها رسول الله عليه السلام، ولا أبو بكر وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها. وقُبِضَ عمر ثم ولي عثمان فأتاه فسأله أن يقبل صدقته، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبلها ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها [منك]؟ فلم يقبلها عثمان، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان.
أخبرنا سعيد بن محمد بن أحمد بن جعفر، أخبرنا أبو علي الفقيه، أخبرنا أبو علي محمد بن سليمان المالكي، قال: حدَّثنا أبو موسى محمد بن المثنى، حدَّثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العِجْلِي، حدَّثنا شُعْبَة، عن سليمان عن أبي وائل، عن أبي مسعود، قال:
لما نزلت آية الصدقة [كنا نُحَامِل، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مرائي، و] جاء رجل فتصدق بصاع فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا، فنزلت ﴿ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾ رواه البخاري عن أبي قَدَامة: عُبَيد الله بن سعيد: عن أبي النعمان.
وقال قتادة، وغيره: حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وقال: يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها فاجعلها في سبيل الله، وأمسكت نصفها لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت - فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى إنه خلَّف امرأتين يوم مات فبلغ ثُمْنُ ماله لهما مائةً وستين ألف درهم - وتصدَّق يومئذِ عاصم بن عَدِي بن العَجْلان بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال: يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما لأهلي وأتيتك بالآخر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يَنْثُرَهُ في الصدقات، فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، وإن كان الله ورسوله غنيين عن صاع أبي عقيل، ولكنه أحب أن يذكر نفسه. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
حدَّثنا إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الواعظ إملاء، أخبرنا عبد الله بن محمد بن نصر، أخبرنا يوسف بن عاصم الرَّازي، حدَّثنا العباس بن الوليد النَّرْسِي، حدَّثنا يحيى بن سعيد القطان، حدَّثنا عُبَيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال:
لما توفي عبد الله بن أُبيّ، جاء ابنه إلى رسول الله صلوات الله عليه، وقال: أعطني قميصك حتى أكفنه فيه، وصلّ عليه، واستغفر له. فأعطاه قميصه، ثم قال: آذني حتى أصلي عليه، فآذنه. فلما أراد أن يصلي عليه جَذَبَهُ عمرُ بن الخطاب، وقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقالك أنا بين خِيرَتَيْن، أسْتَغْفِرْ لهم أو لاَ أسْتَغْفِر. فصلى عليه، ثم نزلت عليه هذه الآية: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ﴾ فترك الصلاة عليهم.
رواه البخاري عن مسدد.
ورواه مسلم عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد، كلاهما عن يحيى بن سعيد.
أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم النَّصْرَابَاذِي، أخبرنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدَّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدَّثني أبي [قال: حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدَّثني أبي] عن محمد بن إسحاق، حدَّثنا الزُّهْري، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتْبَة بن مسعود، عن ابن عباس، قال:
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: لما توفي عبد الله بن أبيّ دُعِيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فقام إليه يريد الصلاة، فلما وقف عليه تحولت حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله، أعلى عدوِّ الله عبد الله بن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا؟ - أعدّد أيامه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، حتى إذ أكثرت عليه، قال: أخِّرْ عَني يا عمر، إني خُيِّرت فاخترت، قد قيل لي: ﴿ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ﴾ لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له، لزدت. قال: ثم صلى صلى الله عليه وسلم، ومشى معه، فقام على قبره حتى فرغ منه. قال: فعجبت لي وجراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللهُ ورسولُه أعلم، قال: فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزل: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ...﴾ الآية [قال]: فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره، حتى قبضه الله تعالى.
قال المفسرون: وكُلِّم رسول الله صلى الله عليه سلم فيما فُعِل بعبد الله بن أبي، فقال: وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله، والله إني كنت أرجو أن يُسْلِمَ به ألف من قومه.
نزلت في البكائين، وكانوا سبعة: كعقِل بن يَسار، وصَخْر بن خنيس وعبد الله بن كَعْب الأنصاري، وعُلْبة بن زيد الأنصاري، وسالم بن عُمَيْر، وثَعلَبَة بن غَنَمة، وعبد الله بن مُغَفَّل. أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله، إن الله عزوجل قد ندبنا إلى الخروج معك، فاحملنا على الخرق المرْقُوعَة والنِّعال المَخْصُوفَة، نغزوا معك. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولَّوْا وهم يبكون.
وقال مجاهد: نزلت في بني مُقَرِّن: مَعْقِل وسُوَيْد والنُّعْمَان.
نزلت في أعاريبَ من أسد وغطفان، وأعاريبَ من أعراب حاضري المدينة.
قال الكلبي: نزلت في جهينة، ومزينة، وأشْجَع، وأسْلَم، وغِفَار، ﴿وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ﴾ يعني عبد الله بن أبي، وجَدَّ بن قيس، ومُعَتِّب بن قشير والجُلاَس بن سُوَيد، وأبا عامر الراهب.
قال ابن عباس في رواية ابن الوالبي: نزلت في قوم كانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة "تبوك"، ثم ندموا على ذلك وقالوا: نكون في الكِنِّ والظِّلال مع النساء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد! والله لنوثقن أنفسنا بالسَّوارِي فلا نطلقها حتى يكون الرسول هو [الذي] يطلقنا ويعذرنا. وأوْثَقُوا أنفسهم بسواري المسجد. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بهم فرآهم فقال: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء تخلّفوا عنك، فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله هو يعذرهم، وقد تخلفوا عني ورغبوا بأنفسهم عن الغزو مع المسلمين، فأنزل الله تعالى هذه الآية. فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلوات الله عليه فأطلقهم، وعذرهم، فلما أطلقهم قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خَلَّفَتْنَا عنك، فتصدَّق بها عنَّا وطهّرنا واستغفر لنا، فقال: ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فأنزل الله عز وجل: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ الآية. [١٠٣].
وقال ابن عباس: كانوا عشرة رَهْطٍ.
نزلت في كَعْب بن مالك، ومُرَارَة بن الربيع، أحد بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية من بني واقف، تخلّفوا عن غزوة تبوك، وهم الذين ذكروا في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ﴾ الآية.
قال المفسرون: إن بني عَمْرو بن عَوْف، اتخذوا مسجد قُبَاء، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فأتاهم فصلى فيه، فحسدهم إخوتهم بنو غُنْم بن عوف، وقالوا: نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه كما صلى في مسجد إخواننا، وليصل فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام. وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية وتنصّر ولبس المُسُوح، وأنكر دين الحنيفية لمَّا قَدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعاداه، وسماه النبي عليه السلام: أبا عامر الفاسق، وخرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين: أن [أعدوا و] استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنو لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر، فآتي بجند الروم، فأُخرج محمداً وأصحابه، فبنوا [له] مسجداً إلى جنب مسجد قُباء، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً: خِذَام بن خالد، ومن داره أخرج مسجد الشقاق وثَعْلَبة بن حاطِب ومُعَتِّب بن قُشَير، وأبو حَبِيبَة بن الأزعر وعبَّاد بن حُنَيف وجارية بن عامر وابناه مجمع وزيد، ونَبْتَل بن حارث [وبحْزَج] وبِجَاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت. فلما فرغوا منه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا [قد] بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه. فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القرآن، وأخبره الله عز وجل خبر مسجد الضرار وما هموا به. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم، ومَعْن بن عَدِيّ، وعامر بن السَّكَن، ووَحْشِيَّاً قاتل حمزة، وقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهلُه، فاهدموه وأحرقوه. فخرجوا، وانطلق مالك وأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً، ثم دخلوا المسجد وفيه أهله، فحرقوه وهدموه، وتفرق عنه أهله. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيها الجيف والنتن والقمامة.
ومات أبو عامر بالشك وحيداً غريباً.
أخبرنا محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، حدَّثنا [أبو] العباس بن إسماعيل بن عبد الله بن مِيكَال، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى الأهْوَازِيّ، أخبرنا إسماعيل بن زكريا، حدَّثنا داود بن الزِّبْرِقان، عن صخر بن جُوَيْرِية عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، عن أبيها، قال:
إن المنافقين عرضوا المسجد يبنونه ليُضَاهِئُوا به مسجد قُباء، وهو قريب منه، لأبي عامر الراهب، يرْصُدُونَهُ إذا قَدِمَ ليكون إمامهم فيه. فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنا [قد] بنينا مسجداً فصل فيه حتى نتخذه مصلى. فأخذ ثوبه ليقوم معهم، فنزلت هذه الآية: ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً﴾.
قال محمد بن كعب القُرَظِيّ: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة العَقَبة بمكة، وهم سبعون نفساً -قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا؟ قال: الجنة، قالوا: رَبحَ البيعُ، لا نُقِيلُ ولا نَسْتَقِيلُ. فنزلت هذه الآية.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشِّيرَازِيّ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن خميرويه الهَرَوِيّ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الخُزَاعي، حدَّثنا أبو اليمان. قال: أخبرني شُعَيب، عن الزُّهْرِي، عن سعيد بن المُسَيّب، عن أبيه، قال:
لما حضر أبا طالبٍ الوفاةُ، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمَيَّة، فقال: أي عم، قل معي: لا إله إلا الله [كلمةً] أُحَاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وابن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفِرَنَّ لك مَالَمْ أُنْهَ عنك فنزلت: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ﴾.
رواه البخاري عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر.
ورواه مسلم عن حَرْمَلة، عن ابن وهب، عن يونس، كلاهما عن الزهري.
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو النَّيْسابُورِي، أخبرنا الحسن بن علي بن مُؤَمِّل، أخبرنا عمرو بن عبد الله البصري، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا جعفر بن عون أخبرنا موسى بن عبيدة، قال: أخبرنا محمد بن كعب القرظي، قال:
بلغني أنه لَمّا اشتكى أبو طالب شكواه التي قبض فيها، قالت له قريش: يا أبا طالب، أرسل إلى ابن أخيك فيُرسلُ إليك من هذه الجنة التي ذكرها ما يكون لك شفاءً! فخرج الرسولُ حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر جالساً معه، فقال: يا محمد، إن عمك يقول [لك]: إني كبير ضعيف سقيم، فأرسل إليَّ من جَنَّتِكَ هذه التي تذكر، من طعامها وشرابها شيئاً يكون لي فيه شفاء. فقال أبو بكر: إن الله تعالى حرّمها على الكافرين، فرجع إليهم الرسول فقال: بلّغت محمد الذي أرسلتموني به، فلم يُحْرِ إليَّ شيئاً، وقال أبو بكر: إن الله حرَّمها على الكافرين، فحملوا أنفسهم عليه، حتى أرسل رسولاً من عنده فوجده الرسول في مجلسه فقال له مثل ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله حرَّم على الكافرين طعامَها وشرابَها. ثم قام في أثر الرسول حتى دخل معه بيت أبي طالب فوجده مملوءاً رجالاً، فقال: خلّوا بيني وبين عمي، فقالوا: ما نحن بفاعلين، ما أنت أحق به منا، إن كانت لك قرابة فلنا قرابة مثل قرابتك. فجلس إليه فقال: يا عم، جُزِيتَ عَنّي خيراً [كفلتني صغيراً وحُطّتني كبيراً جزيت عني خيراً] يا عم، أعنيِّ على نفسك بكلمة واحدة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة. قال: وما هي يا ابن أخي؟ قال: قل: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. فقال: إِنك لي ناصح، والله لولا أن تُعَيِّرَني قريش عنه. فيقال: جَزِعَ عمُّك من الموت، لأقررت بها عينك. قال: فصاح القوم: يا أبا طالب، أنت رأس الحنيفية ملة الأشياخ. فقال: لا تحدِّث نساء قريش أن عمَّك جزع عند الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أزال أستغفر لك ربي حتى يردني، وأستغفر له بعد ما مات، فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا؟ قد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يستغفر لعمه، فاسْتَغْفِروا للمشركين حتى نزل: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ﴾.
أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن أحمد الحرَّاني، حدَّثنا محمد بن عبد الله بن نُعَيم، حدَّثنا محمد بن يعقوب الأموي، حدَّثنا بحر بن نصر، حدَّثنا ابن وهب، أخبرنا ابن جُرَيج، عن أيوب بن هانىء، عن مسروق بن الأجْدَع، عن عبد الله بن مسعود، قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المقابر وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلاً، ثم ارتفع [نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم] باكياً فبكينا لبكائه، ثم إنه أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، ما الذي أبكاك فقد أبكانا وأفزعنا؟ فجاء فجلس إلينا فقال: أفزعكم بكائي؟ فقلنا: نعم [يا رسول الله]. فقال: إن القبر الذي رأيتموني أناجي فيه قبر آمنة بنت وَهْب، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي فيه فاستأذنته في الاستغفار لها فلم يأْذن لي فيه، ونزل قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرِّقة، فذلك الذي أبكاني.
قال بن عباس في رواية الكلبي:
لما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين لتخلفهم عن الجهاد، قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سَرِيَّة أبداً. فلما أمرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالسَّرَايا إلى العدو، نفر المسلمون كافَّة، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.