تفسير سورة الضحى

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الضحى من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

(٩٣) سورة الضحى
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الفجر..
عدد آياتها: إحدى عشرة آية..
عدد كلماتها: أربعون كلمة..
عدد حروفها: مائة واثنان وسبعون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
أقسم سبحانه فى سورة «الليل»، بالليل إذا يغشى، وبالنهار إذا تجلى..
وبدأ بالقسم بالليل، ثم أعقبه بالقسم بالنهار..
وهنا يقسم الله سبحانه بالنهار أولا «والضحى» ثم بالليل ثانيا.. «ولليل إذا سجى» وبهذا يتوازن الليل والنهار، فيقدّم أحدهما فى موضع ويقدم الآخر فى موضع، ولكل من التقديم والتأخير فى الموضعين مناسبته.. وقد أشرنا من قبل إلى المناسبة فى تقديم الليل على النهار فى سورة الليل، وسترى هنا المناسبة فى تقديم النهار على الليل..

بسم الله الرحمن الرّحيم

الآيات: (١- ١١) [سورة الضحى (٩٣) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)
1598
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» الضحى، أول النهار وشبابه، حيث تعلو الشمس على أفقها الشرقي، فتبسط ضوءها على الوجود..
«وَاللَّيْلِ إِذا سَجى».. سجا الليل، يسجو، سجوّا، وسجوّا، أي سكن، وهدأ، حيث تسكن فيه حركة الحياة، كما يسكن موج البحر، وينطوى صخبه وهديره، وهذا يعنى الدخول فى الليل إلى حدّ استوائه، كالدخول فى النهار إلى وقت الضحى، حيث يسفر وجه النهار على تمامه وكماله..
قيل إن هذه السورة نزلت بعد فترة انقطع فيها الوحى عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لقد اتخذ المشركون من ذلك مادة للسخرية من النبي، وأن ربّه- الذي يقول إنه يوحى إليه بما يحدثهم به- قد قلاه، أي هجره، كرها له وبغضا!! وفى القسم بالضحى، إشارة إلى مطلع شمس النبوة، وأن مطلعها لا يمكن أن يقف عند حد الضحى الذي بلغته فى مسيرتها، بل لا بد أن تبلغ مداها، وأن تتم دورتها.. فالشمس فى مسيرتها، لا يمسكها شىء إذا طلعت.
وفى القسم بالليل بعد الضحى، وإلى سجوّ هذا الليل وسكونه- إشارة أخرى إلى أن فترة انقطاع الوحى، ليست إلا فترة هدوء، واستجمام يجمع فيها النبي نفسه، ويلمّ فيها خواطره، بعد هذا النور الغامر الذي بهره، وهز أعماق نفسه.. وإن بعد هذا الليل الهادئ الوادع نهارا، مشرقا وضيئا.. فهكذا يجرى نظام السكون، على ما أقامه الصانع الحكيم.
1599
يقول الأستاذ الإمام محمد عبده: «وليس فى نسق السورة ما يشير إلى أن المشركين أو غير هم بغرض من الخطاب.. ومن أين كان للمشركين أن يعلموا فترة الوحى، فيقولوا أو يطعنوا، ولكن ذلك كان شوق النبي- ﷺ إلى مثل ما رأى وما فهم عن الله، وما ذاق من حلاوة الاتصال بوحيه.. وكل شوق يصحبه قلق، وكل قلق يشوبه خوف»..
وهذا ما نقول به، ونرضى عنه.. وقد ورد أن النبي ﷺ سأل جبريل، لم لا يداوم الاتصال به ويكثر من الوحى إليه، فنزل قوله تعالى:
«وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ..» (٦٤: مريم) وقوله تعالى: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» هو المقسم عليه، وهو أن الله سبحانه لم يودع النبي، وداعا لا لقاء بعده، بل إن الله معه، فى كل لحظة من لحظات حياته، ومع كل نفس من أنفاس صدره.
وأن انقطاع الوحى فى تلك الفترة لم يكن عن قلى وهجر من الله سبحانه وتعالى له، فهو الحبيب إلى ربه، المجتبى إليه من خلقه..
وفى توكيد الخبر بالقسم، مزيد من فضل الله ورحمته، للنبى الكريم، ورفع لمنزلة النبىّ عند ربّه، حتى لينزل منزلة الحبيب من حبيبه.
وقوله تعالى:
. «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى» الآخرة، خاتمة أمر النبي مع النبوة، والأولى، مبدأ أمره معها..
أي أن آخرة أمر النبي مع رسالته، خير من أولها.. فإذا بدأت رسالته بهذا العناء المتصل، الذي واجهه من عناد قومه، ومن تأتيهم عليه، وتكذيبهم له، وملا حقته هو والمؤمنون معه بالأذى، والضر، وبالحرب والقتال- فإن خاتمة هذه الرسالة ستكون نصرا مؤزّرا له، وفتحا عظيما الدعوة، وخزيا وإذ لا لا للضالين المعاندين..
1600
قوله تعالى:
«وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» أي ولسوف يلقاك ربك بالعطايا والمنن، حتى تقر عينك، وينشرح صدرك، وذلك بما ينزل عليك من آيات ربك، وبما يحقق لدعوتك من نصر وتمكين.
وقوله تعالى:
«أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى» هذا من بعض ما أعطى الله النبي، فيما مضى، ولسوف يعطيه أكثر وأكثر فيما يستقبل من الحياة..
فإذا نظر النبي إلى نفسه، من مولده إلى يومه هذا الذي لقيته فيه تلك الآيات- وجد أنه ولد يتيما، فكفله الله، وأنزله من جده عبد المطلب، وعمه أبى طالب، منزلة أعز الأبناء وأحبهم إلى آبائهم.. ثم إذا نظر مرة ثانية إلى شبابه، وجد أنه كان قلق النفس، منزعج الضمير، مما كان يرى من الحياة الضالة التي يعيش فيها قومه، ولم يكن يدرى كيف يجد لنفسه سكنا، ولقلبه اطمئنانا وسط هذا الجوّ الخانق، فهداه الله إلى الخلوة إلى نفسه فى غار حراء، والابتعاد عن قومه، والانقطاع إلى ربه متحنّثا متعبدا، متأملا متفكرا.. وقد ظل هذا شأنه إلى أن جاءه وحي السماء، فسكب السكينة فى قلبه، والطمأنينة فى نفسه.. إنه صلوات الله وسلامه عليه، كان يرى أن ما عليه قومه ليس مما يدين به عاقل، أو تستقيم به حياة العقلاء، ولم يكن يدرى- صلوات الله وسلامه عليه- كيف م ١٠١ التفسير القرآنى ج ٣٠
1601
يغير من مسيرتهم الضالة، ولا كيف يقيم هو نفسه هو على شريعة يبشّر بها فى الناس، كما يقول سبحانه: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ..» (٥٢: الشورى) ثم إذا أعاد النبي النظر إلى نفسه مرة ثالثة، وجد أنه كان فقيرا عائلا، أي كثير العيال، فأغناه الله، وسدّ حاجة عياله، من مال زوجه، وأم أبنائه، السيدة خديجة رضى الله عنها.. وفى هذا ما يشير إلى فضل السيدة خديجة، وإلى أنها نعمة من نعم الله على النبي.. هذا كله يراه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من نفسه، ماضيا، وحاضرا..
قوله تعالى:
«فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ»..
هو تعقيب على هذا الإحسان الذي أفاضه الله وما سيفيضه على نبيه، وأن من حق هذا الإحسان أن يقابل بالحمد والشكران لله رب العالمين.. وقد صرف الله سبحانه وتعالى هذا الحمد، وذلك الشكران إلى الضعفاء، والمحتاجين من عباده، فيكون حمده وشكره، بالإحسان إليهم، والرعاية لهم.. فلا نهر لليتيم، ولا كسر لخاطره، ولا ترك لمرارة اليتم تنعقد فى فمه.. وإن أولى الناس برعاية اليتيم، وجبر خاطره، من عرف اليتم، ثم كفله الله.. وإنه لا نهر أي لا زجر للسائل، وهو من يقف موقف من يسأل، عما هو محتاج إليه، من طعام يسد به جوعه، أو علم يغذى به عقله، أو هدى يعرف به طريق الخلاص لروحه..
فإن السائل ضعيف أمام المسئول، ومن حقه على القوى أن يتلطف معه،
1602
ويرفق به.. إنه أشبه بالضالّ الذي لا يعرف الطريق، والمسئول هو موضع أمله، ومعقد رجائه، فى أن يخرجه من هذا الضلال، وأن يقيمه على الطريق المستقيم..
وأولى الناس بهذا من عرف الحيرة، ونشد وجه الهداية، فأصابها وقدرها قدرها..
وقوله تعالى:
«وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ».
نعمة الله هنا، هو القرآن الكريم، وهو من أجلّ وأعظم ما أنعم الله به على النبي، وهو نعمة عامة شاملة، وإنه لمطلوب من النبي أن ينفق منها على الناس، وأن يسعهم جميعا فيها..
فهى نعمة سابغة، لا تنفد على الإنفاق. فليحدّث النبي الناس بها، وليكثر من هذا التحديث بها، والإنفاق منها: «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» (٩: الأعلى).. «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» (٤٥: ق).. «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ» (٢١: الغاشية).. فهذا التحديث بالقرآن، هو التذكير به، وفى التذكير به هدى ورحمة للناس، حيث يجدون فى آياته شفاء الصدور، وجلاء البصائر، وروح النفوس.
1603
Icon